آراء

آراء

لم نكتب، تحت هذا العنوان، بطراً ولا ترفاً، ولا ضيقاً بالمواضيع، إنَّما لكشف زيفٍ استمر لقرون، وما زال يتداوله المُغرضون وسليمو النَّوايا، على حدٍّ سواء، فالاستحواذ عادة يُهيأ له بتزوير الأسماء، أسماء النَّاس والمدن والبلدان، هذا ما تعرضت وتتعرض له «بغداد»، بتلفيق معنى اسمها في العهد البويهيّ (348-448 هـ)، حتَّى صار التلفيق حقيقةً، وكم مِن ملفقات أزحن الصّحيحات، لكن قيل لا يبقى إلا الصحيح. فمَن هو «الخصيّ» الذي أهدي لكسرى كي يهديه الأخير بغداد، لتصبح «البغ داد»، عطية الصّنم؟

كانت بغداد قبل بنائها «مزرعةً للبغداديين، يُقال لها المباركة» (الطَّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، وعن بابليتها، يقول ابن رسته (تـ: بعد 300 هـ)، وهو بلداني فارسيّ، لكنه مات قبل السلطنة البويهيَّة: «بغداد وبغدادذ، اسم موضع، كانت في تلك البقعة، مِن قَبلُ زعموا أنه كان موضوعاً للأوثان والأصنام في الدهر القديم، وهي أرض بابل» (الأعلاق النفيسة).

كذلك ذكر علي ظريف الأعظميّ (1882-1958): «أثبتت الكُتب التّاريخيَّة الصّحيحة، المستندة إلى الآثار المكتشفة حديثاً في بغداد وأطرافها، أنَّ هذه المدينة، مِن المدن الكلدانيَّة القديمة العهد، وكانت عامرة قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وقد أيدت ذلك الكتابة المنقوشة، على كثير مِن الآجر القديم، اسمها (بل دودو)، وعلى بعضه بغدادو، أو بغدانو، ومعنى (بل دودو) مدينة الإله في لغة السّريانيين الكلدان، والظاهر أنَّ هذه الكلمة صُحفت على توالي الأعوام والقرون إلى بغداد؛ وقد أخطأ مَن زعم أنَّ لفظة بغداد فارسيَّة» (مختصر تاريخ بغداد).

يؤيد ذلك العالمان كوركيس عواد (تـ: 1992) وبشير فرنسيس (تـ: 1994): «أظهرت الدّراسات الأثريَّة، أنَّ مثل هذا الاسم قد ورد في الكتابات المسماريَّة القديمة؛ التي ترجع إلى العصرين البابليّ والآشوريّ بصورة بغدادو، وبغدادى، وبكدادو» (مجلة سومر، أصول أسماء المدن العِراقيَّة).

ما يخص اسم بغداد الملفق، عند القدماء، كتب الخطيب البغداديّ (تـ: 463 هـ): «إنما سميت بغداد بالفُرس، لأنه أهدي لكسرى خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه بالمشرق يقال له: البغ. فقال بغ داد. يقول: أعطاني الصَّنم (تاريخ مدينة السَّلام). كذلك جاء عند ياقوت الحموي (تـ: 626 هـ)». وقال حمزة بن الحسن.. ويُكمل الرواية نفسها (معجم البلدان).

لكن مِن أين دخل هذا «التفريس» على اسم بغداد، وقد أصبحت عاصمة الدُّنيا؟ ولم يقل به اليعقوبيّ (تـ: 292 هـ) في«البلدان»، ولا الطّبريّ (تـ: 310 هـ) في تاريخه، ولا غيرهما قبل القرن الرابع الهجري، حيث الحُكم البويهيّ. قال به اثنان مِن الكُتاب الفُرس، حمزة بن الحسن الأصفهاني (تـ: 360 هـ)، وابن الفقيه الهمذاني (تـ: 365 هـ) في كتابه «البلدان».

قال أبو الرّيحان البيرونيّ (تـ: 440هـ) في عصبية الأصفهانيّ؛ وهو يتحدث عن أسماء الشهور:« كلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ حزب بما لديهم فرحون... ولمثل هذا تَعرَّض حمزة بن الحسن الأصفهانيّ، في رسالته عن النَّيروز، حيث تعصب للفرس، في عملهم في سنة الشَّمس...» (الآثار الباقيَّة). مَن يقرأ كتب البيرونيّ، سيجده ضد التعصب الشّعوبي، أو الديني، فكان عينة مبكرة مِن التَّسامح، فليس غريبة عليه هذه الملاحظة.

كما ذكر الحموي الأصفهاني قائلاً: «وكان مع ذلك رفيعاً ناقص العقل، غير ثبت، ولم يُعرف في عصره أعرف منه بالفارسيَّة» (معجم الأدباء)، وهو الذي نقل عنه الحموي، وأشار إليه بالحمزة بن الحسن.

أمَّا عن ترهات هذه الرّواية، فليس مِن عاقل يعقلها، بأنَّ الصين أو الهند تهدي لكسرى خصياً، ليعطيه بغداد بقراها وبساتينها هديةً، وأنَّ اسمه «البغ» و«داد» أعطى، فيكون المعنى «الصّنم أعطانيّ»، غير أن ملفقي اليوم أخذوا يتشبثون بهذه النسبة، ليس جهلاً وإنما قصداً، كي يظهروا العراق بستاناً لغير العراقيين، ومع اختلافهم بكلِّ شيء، لكنهم متفقون في مزيفات حمزة الأصفهاني وابن الفقيه الهمذانيّ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل يمكن إبطال مقولة "لا يصلح العطّار ما أفسده الدّهر"؟

(الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ)

سؤال وجب اليوم أن يطرح وبشدة وهو لماذا يرفض الحكام الحوار مع المعارضة، وكأن الأنظمة الحاكمة والمستبدة ما تزال تطبق على معارضيها ذهنية: " أسكت يا ولد"، كما ترى المثقفين والمفكرين بأنهم ما زالوا صغارًا على اللعب السياسي، أليست المبادرات الفكرية تأتي عن طريق الحوار؟ المشكلة كما يري البعض تتعلق بالخطاب، هناك ما يسمي بخطاب السّيف القائم علي التهديد والترهيب والوعيد وهناك خطاب لم يتحرر من الديماغوجية والكذب السياسي وقمع الحريات الفردية وحرية التعبير، عاشت الأمة تجربة قاسية جدا بسبب تدهور المناخ الفكري سمّاها برهان غليون بـ: "اغتيال العقل" بسبب ضيق الأفق واليأس والقنوط من كل تغيير، فاين المشكلة إذن؟ هل هي في المثقف الذي يجب عليه أن ينفض عنه وعن أمته الغبار؟ أم في رجل السياسة الذي يجب ان يتحرر من الذيلية ومن القابلية للاستعمار؟

لم تعد قراءة التاريخ قراءة فاحصة، وهي قراءة تتصل بالهوية، فجميع الدول وبالخصوص العربية منها محاصرة اليوم بعدة عقد، أخطرها عقدة التعايش مع الآخر والتحاور معه لإحداث السلام، حتى أحزابها ومثقفيها لم يتناولوا بالتشريح الأسباب التي أدت إلى تأخرهم عن الركب الحضاري في الوقت الذي سيطرت فيه بلدان أوروبية على منافذ البحر الأبيض المتوسط، إن التعنت الفكري وراء الأحداث الذي عاشتها بعض الدول التي حولت الخلاف "من الرأس إلى اليد" عندما تفرق أبناء البلد الواحد وانقسم كل طرف إلى مهاجم ومدافع في أن واحد مثلما حدث في الجزائر و تونس ومصر و ليبيا والعراق وسوريا التي ما تزال تعيش الصراعات بعد أن أكاحت بالنظام الدكتاتوري الذي أحدثه بشار الأسد، نشب الاقتتال ودبّت الفرقة، وتقطعت اللحمة، بحيث لم يعد أي خيط يربط بينهم، إن التعددية الفكرية لم تخلق حالة حوارية عقلانية كما يقول بعض المفكرين، الذين يرون أن الاختلاف سُنّةٌ، وجعلوا من الحوار علاجًا للتخلص من الأزمات، بل أصبحوا يؤمنون بأن التغيير أمر في حكم المستحيل، من أجل أن يظل الحال على ما هو عليه، يقول المؤرخ الجزائر محمد الميلي رحمه الله: "من الخطأ أن نتصور بأن ظواهر التطرف والإرهاب التي يعرفها هذا البلد أو ذاك، ناتجة فقط عن التحولات الداخلية للبلد المعني، بل إنها شديدة الصلة أيضا بالشمولية العالمية التي تؤدي إلى القضاء على الهويات، ومن ثم الانفصال عن التاريخ أو فك الارتباط به".

لقد وضع المؤرخ الجزائري محمد الميلي المثقف العربي على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون، في حين لم بتغير شيء، يفهم من كلامه أنه يُحَمِّلُ "المثقف العربي " مسؤولية ما يحدث بعد أن وضعه على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون (أصحاب الفتاوي)، والدليل على ذلك نجد الأحزاب القوية اليوم ومع بداية السنة الجديدة (2025) تغرق سفينتها وقواعدها النضالية في حركات احتجاجية كما يحدث الأن في الجزائر وانتفاضة المعارضة داخل الحزب الحاكم في البلاد "جبهة التحرير الوطني" ومطالبة أمينه العام بالرحيل، وكذلك ما يحدث في تونس وفي البلاد الأخرى كسوريا، وتعنت السلطة تجاه الإسلاميين ومحاصرتهم والتضييق عليهم واعتقالهم، فقد ظلت بعض الدول تعاني من حالة احتراب داخلي ناشبة بين السلطات الحاكمة التي لا تريد التخلي عن كراسيها وسلطانها، لذلك فهي تسلك العنف سبيلا إليه، فتشعرهم بالضياع والعبثية وانسداد الأفق، ولعل ما يحدث الآن من تمرد شباني ومواقف الرفض وتصاعد حركات التطرف والتعصب الديني والسياسي سببه انهيار النظم، التي كانت سببا في تراجع مؤشر الثقة في كل المؤسسات وتراجع الضمائر بدورها كلما وقفت متفرجة على ما يحدث من أزمات، والتي تضع العالم كله أمام أخطار شاملة.

الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ

ما يمكن استنتاجه هو أن الإرهاب ما زال يحصد أرواح البشر، وقضايا تتعلق بالتعذيب، ولكن لنتساءل من وراء تحريك رياح العنف ومعظم الإسلاميين اليوم هم داخل السجون والمعتقلات؟، سواء في تونس أو في الجزائر، فمسلسل الاعتقالات في الجزائر متواصل وهناك معتقلين داخل السجون لمدة تزيد عن 32 سنة مسّت شريحة واسعة من النشطاء السياسيين وأصحاب الرأي، بعضهم اليوم مضربون عن الطعام وحتي الإعلاميين مستهم عمليات القمع من قبل السلطة، وفي تونس قادة أحزاب لا زالوا يقبعون وراء القضبان الحديدية (راشد الغنوشي وأنصاره) وحركات احتجاجية هنا وهناك تزامنا مع الذكرى الـ: 14 للثورة التونسية وأخرون في البلاد الأخرى، وعن ماذا نتحدث؟ هل نتكلم عن الإرهاب المسلح؟ أم الإرهاب الفكري؟ وهل نتكلم عن السلم أم نتحدث السلم المسلح؟ ومن هم المجرمون الحقيقيون الذين يخططون لقتل الأبرياء وتدمير العقول المفكرة؟، فالأنظمة التي وضعت المفكر والمثقف جانبا وفي آخر الصفوف، تخشى اليوم حتى من اتصالها بالأخر وكيفية التواصل معه، أي ممارسة "الحوار" مع الآخر والاعتراف به كمحاور، بل تقف معه " ندًّا للنَدّ " رغم ما يكون بينهما من اختلاف ومغايرة، هذان العنصران (الاختلاف والمغايرة) كما يقول محمد الميلي هما اللذان يبرزان أهمية حوار طرف مع آخر، فكونه مغايرا للآخر، هو الذي يجعله يسهم في تشكيل الآخر ويحرره من كل اشكال الهيمنة ومن ثمّ يخرج بحل جديد وممكن.

المثقف وحتى السياسي اليوم يبحث عن طريقة تخلصه من مُرَكَّبِ النقص ليعيد صياغة التاريخ ورواسبه، ويعيد النظر في المكونات الأساسية للهوية، من ثمّ يعيد النظر في ذاته، ويحاول كيف يحررها ويستعيدها من جديد بعد أن يتخلص من التبعية والذيلية وكذلك دراسة الواقع من كل الزوايا (الجيوسياسية، الثقافية، الإجتماعية والإقتصادية)، حتى يتمكن من تغيير قانون الغاب الذي فرضته السلطة والأنظمة الاستبدادية التي أفقرت شعوب العالم وتركت التصحر يجتاح ربوعها الخضراء فاقتلعت أشجارها وعاثت فيها فسادا، ومنها النظام السوري وما أحدثه بشار الأسد من فساد وقمع، والشعب اليوم يعمل على ترقيع ما تم تخريبه، وإزالة بقايا الردم والانهيار الذي لحق بالبلاد، ورسم خريطة جديدة لنهوض سوريا واستعادة مجدها الذي عرفته في العقود الماضية، وإعادته إلى ما كان عليه، في محاولة منها إبطال مقولة: " لا يصلح العطار ما أفسده الدهر" ويمكن القول أن الانحطاط السياسي الذي بلغته الأنظمة العربية، وما ينتظرها اليوم من ضرورة تصحيح ما يمكن تصحيحه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه يجعل المهمة صعبة وشاقة وهي بحاجة إلى نَفَسٍ طويل، ونقف هنا مع برهان غليون بأن الأزمة أعمق من ذلك، وهي ليست مرتبطة بزعيم ما أو نظام معين، فانحباس كل تقدم اجتماعي وسياس هو أكبر دليل علي أن الأزمة تتجاوز السطح إلى العمق.

إذن، لاشك أن الحِوَارُ ضروري لمعرفة الآخر وفهمه، طالما يوجد اختلاف بين الطرفين، فكرا وإيديولوجية ومذهبا وعقيدة، كما أن الحوار ضروري بغية الاستفادة مما لديه من أفكار وتجارب تساعد في تحقيق التعايش، وتغيير الواقع وتحويله للاتجاه الذي يرضي الجميع ويحقق المصلحة العامة، مشكلتنا نحن المسلمون أننا لا نقبل بالحوار، لأننا ننظر للآخر بنصف عين، ونعتقد أنه أقل منّا مرتبة، فوقفنا جامدين أمام التحولات التي يشهدها العالم، إن التعصب الفكري والعقائدي وحده يولد الخلافات بين البشر ويقود إلى انقسامات فيما بينهم، ليس بين مجتمع مسلم وآخر غير مسلم، بل حتى بين المسلمين أنفسهم، إن حاجة الفكر اليوم كما يقول برهان غليون إلي أن يعيد فحص مفاهيمه كخطوة أولي علي طريق إعادة ـاسيس نفسه كفكر فاعل وإيجابي، اي انه لا يستثني حقبة من حقب تاريخه فلا يمحوها كما يفعل "الانقلابين"، هكذا يمكن لهذا الفكر أن يتجاوز زمن الفتن والحروب.

***

ورقة علجية عيش - الجزائر

كتبت قبل اسابيع مقالا بعنوان: نحو حركة تحرر وطني وقومي ثورية، حاولت ان اقرا الواقع الوطني والقومي في الوطن العربي ومحيطه الاسلامي، وذكرت فيه ان "الصراع الدموي القائم الان في فلسطين المحتلة بين مقاومة الشعب الفلسطيني وقوات قاعدة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري يوضح ابعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لاشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن ياتي بعدها، داخلها بالتسلسل او بالتقارب الجغراسياسي، ويعكس ابعاد الهيمنة والمشاريع الراسمالية والدول الامبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الاستراتيجي. وللاسف انعكست تطورات هذا الامر سلبا او تفشت ضعفا او غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والاسلامي، في اغلب التيارات والاتجاهات والاحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه الى السطح بشكل كارثي لا يخدم الاهداف والمناهج التي اقتنع بها وانتج الايمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي ادت إلى الوصول الى هذه المرحلة الحرجة".

وختمت المقال بمقولة معروفة، "هنا الوردة فلترقص هنا" بما لها من دلالات مهمة لمضمونه، والتي وردت في استخدام معبر عن روح التحدي والتحرك من اجل الانتصار والتغيير، والبرهان عليه. وكانت قد نسبت الى عدد من المفكرين، واستخدمها عدد اخر من المثقفين والادباء، ومنهم من وضعها عنوانا لانتاجه الثقافي، او شعارات الحراك الشعبي الغاضب، وبعد استخدامها من قبل كارل ماركس في كتابه، "الثامن عشر من بروميير"، نسبت اليه وهدفه منها، كما نقلت عن استخدام جورج فيلهلم فريدريش هيجل لها، وقصتها الاغريقية واختبار رجل ادعى قفزه من صخرة عالية في رودس، الجزيرة اليونانية التي يقال إن معناها، الوردة، واستخدم العبارة المعروفة بتحريرها المعروف، هنا رودس، الوردة، فلتقفز هنا، الى ما عرفت به، وشاعت "هنا الوردة فلترقص هنا" كما كتبها هيجل في مقدمة كتابه "فلسفة الحق". والمقصود منها، كما اوردها من استخدمها لتحريك الواقع والثورة عليه، والانطلاق منه لتجسيد حركة التحرر والتغيير وبناء الحاضر والمستقبل بوعي وادراك ومسؤولية تأريخية.

نعود الى ما بدأناه، بالأسئلة، لماذا هذا الواقع العربي والاسلامي المخيب للامال؟، وما هذه الحالة التي وصلنا اليها؟، وتكشفت الان بهذه الصورة المحزنة؟، وهل نستطيع ان نغيرها ونستعيد امكانات التغيير والتقدم للامة ونستثمر في توجيه تحولاتها؟. وكنا نعيش ملحمة تاريخية، من خلال عنوانها "طوفان الاقصى" والاسناد الشجاع له من محور واسع رفع شعارات التحرر الوطني والقومي من منطلقات اسلامية تحررية ودعم مباشر من الجمهورية الاسلامية في ايران، فماذا حصل ولماذا؟، اليس من المتوقع ان يكون رد العدو الصهيو امبريالي بهذه الممارسة الاجرامية الوحشية، وما الجديد فيها؟. صحيح .. فتحت ابواب الجحيم، وظهرت الامبريالية والرأسمالية العالمية بوجهها الحقيقي في الانتقام واستخدام القوة العسكرية الفتاكة بافراط مفتوح، فقد دمرت قطاع غزة وحوّلته الى انقاض، كمعيار للاحتلال والتهجير والابادة الجماعية، وامتدت الى مناطق اخرى من جمهورية لبنان وبعدها عمليات واسعة داخل حدود الجمهورية العربية السورية، وهددت وارعدت وقد تواصل نهجها العدواني النازفاشي (النازي- الفاشي) الى خارجها بدعم واضح وصمت جارح.

خلال تلك الفترة، من بعد السابع من اكتوبر 2023، تعرض الوطن العربي والامة العربية والاسلامية، الى حالة من الذهول والانكار والتفرج على العدوان والمجازر النازفاشية. وكشفت الايام تخاذلا عربيا رسميا وتواطؤا مذلا، حتى في بيانات اجتماعات قمم شكلية. سميت بقمم عربية او اسلامية، لا فرق بينها، ونطقت بفضيحة التخاذل والمشاركة والخنوع بالتخادم للمخططات والمشاريع الصهيو امبريالية. واستعملت حتى وسائل الاعلام المختلفة في التضليل والتشويه والخداع وخيانة شرف المهنة. فما مسؤولية الظروف الموضوعية والذاتية فيها، وكيف نفعّلها بعد كل ما جرى وحدث ومازال بعضه مستمرا، بل ان بعضه صار اخطر مما كان عليه؟. 

اذا كانت الظروف الموضوعية، وصفاتها، وانعكاساتها المؤسفة، تعكس طبيعة الاحتلال الشامل للوطن العربي، باشكال مختلفة ومتلونة، وتعبر عنها الحالة الظاهرة للعيان، التخادم والتخاذل والتواطؤ والارتهان المصيري بين القيادات الرسمية والعدوان الصهيو امبريالي، الذي يمارس خططه في تسمين قاعدته الإستراتيجية العسكرية وتوسيع مراكزه وتصعيد ارهابه ومجازره، وتحويل نفوذه الى واقع متوافق عليه، يعمق من ازمة التبعية وتشابك صراعات التخلف والنهب والاحتكار والتباينات البينية، معريا احتلال الارض وخيراتها المادية، جهارا نهارا، ومقررا عبر نفوذه وهيمنته سياسات الحكم والتعامل مع الاحتلال بروح الامر الواقع، قبول الاحتلال للوطن والثروات والانسان، ثقافة وممارسة، شراء وتقبلا، واجراءات وامتيازات تكرس التفاوت بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وتأسس قواعد استسلام للاستبداد والطغيان والفساد وكي الوعي وغسل الادمغة. واستمرت في تهيئة واعداد ما تسعى اليه وتطلبه، قبل الطوفان وبعده، من مساع لتصفية القضية الفلسطينية وحقوق ألشعب الفلسطيني وخنق الشعوب التي دعمتها او ناضلت معها ومن اجلها.

بعد هذه الاشارات السريعة عن الظروف الموضوعية، ما هي الظروف الذاتية وما هو دورها ومهماتها العملية في تلك الظروف المحيطة بها؟ والتي ينظر اليها مباشرة، كقوى ومنظمات واحزاب وتيارات فاعلة ومؤثرة في المجتمعات والاوطان. ولعل السؤال او الأسئلة الراهنة كيف تقوم هذه المؤسسات الجماهيرية بدورها في التصدي لحالة الانهيار وواقع الخذلان والرهانات الاستعمارية التي تكبد الشعب العربي في الوطن العربي، كموقع متقدم امامها، وتدفع الى التخادم بين القوى الرجعية والطغاة العرب والمسلمين مع القوى الإمبريالية المتنفذة في المشهد السياسي والعملي اليوم؟!. ولهذا الامر استخدمت المقولة المعروفة، التي سبق ذكرها، بدلالاتها ومعانيها ومفهومها الثوري والحركي والمحفز لاخذ زمام المبادرة والتحرك الفعال للتغلب على التحديات الكبيرة والصعوبات الكثيرة والمواجهات المطلوبة، فهذا هو الفعل المباشر لمثل هذه الوقائع اليومية.

ما تنقله الفضائيات مباشرة عما يحصل في قطاع غزة وجنوب لبنان وشرقه والان في الاراضي السورية، من ممارسات نازفاشية، وابادة جماعية وتطهير عرقي وتدمير مبرمج للمدن وجعلها غير صالحة للسكن، والمؤسسات والمنشآت العسكرية وغيرها من الممارسات تتطلب من كل انسان ذي ضمير ان لا يصمت متفرجا، ومن القوى والتيارات الفاعلة ان توحد جهودها وتطور وعيها وان تجتهد في مواقفها العملية بكل اشكال الكفاح من اجل تحقيق مهمات التحرر الوطني والتغيير الثوري. وهو الامر الذي يضع هذه القوى والتيارات حية في واجهة المشهد والتاريخ ويعيدها الى تاريخها الوطني في البناء والنضال الحقيقي ضد الامبريالية والرجعية والاحتلال والاستبداد والفساد والخيانات الغادرة.

لا حلاً امام الشعوب العربية والاسلامية اليوم بعد كل ما يحصل في منطقتنا من دمار وخراب ودماء وقتل وفظاعات تشكل وصمة عار تفضح دعاة القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الانسان من حكومات الغرب عموما، لا حلا الا في الصمود ورد الاعتبار بالمقاومة والمجابهة لها، فان الصمت عار وان التفرج على الدماء يوصل الى المثل المعروف ايضا، "اكلت يوم اكل الثور الابيض"، وان الوقائع القائمة اكبر دليل وبرهان. ولعل معرفتها تدفع الى برمجة مهمات الكفاح الوطني، والبدء بها، حتى ولو بالتدرج وباعمال حركية جماهيرية تساعد على فتح السبل الى التحرر الوطني والقومي. فما حصل في تونس والاردن، مثلا وفي هذه الظروف المربكة، من محاصرة المتظاهرين لمباني السفارة الامريكية في تونس العاصمة وعَمان، والمطالبة باغلاقها وطرد السفراء واجهزة التجسس ووسائلها الإجرامية، يرسم خطوات اولية، لخطوات متتالية ومتوازية، لطرد اوكار الشر الامبريالية من وطننا الكبير، ولابد ان يصبح هذا النضال التحرري مستمرا ومتواصلا في كل البلدان العربية والإسلامية، في البداية كمرحلة أولى ضد السياسات الصهيو امبريالية، ومن ثم يتابع انطلاقها في العالم، حيث احرار العالم يشاركون في التظاهر والاحتجاجات الغاضبة، ورفع الشعارات والرموز التي تعتبرها حكوماتهم ممنوعة في قوانينها وسياساتها، بينما يتحدى هؤلاء الاحرار ذلك ويخرجون باستمرار في مظاهرات شعبية كبيرة ومعبرة عن صحوة عالمية، تدين الحروب والعدوان والاحتلال والإبادة البشرية. ولابد معها العمل على تصعيد الكفاح التحرري والبناء الوطني والقومي والانساني، سوية والى الامام، في التخلص بكل اشكال الكفاح من الطغيان والاستبداد والاستغلال والفساد والظلم والاضطهاد والقمع والعبودية المركبة.

دون ذلك فإن التاريخ لا يرحم وابوابه لا تفتح دائما الا لمن يثبت نفسه ويسجل صفحاته المعهودة في التحرر والتغيير والتقدم. فاما ان تكون معرفا في التاريخ ويسجل لك صفحتك، او خارجه، وتلك كارثة ترميك في النسيان وخيبة الامال. ولعل ما شهد به التاريخ العربي من بطولات وصفحات مجد وشهامة وتضحية واقدام هي الابرز والاشرف والاكرم.

***

كاظم الموسوي

 

يُعد المجتمع أحد العوامل الأساسية في نجاح عملية إعادة تأهيل المفرج عنهم، حيث يتطلب الأمر تضافر جهود الجميع لدعم هذه الفئة وضمان اندماجها الفعّال في المجتمع بعد قضاء فترة العقوبة. فالمجتمع الذي يمتلك وعيًا كافيًا ويدرك أهمية إعادة تأهيل هؤلاء الأفراد يكون أكثر استعدادًا لتقديم الدعم والمساندة، مما يساهم في خلق بيئة أكثر تقبلًا وأقل تمييزًا.

أحد الجوانب المهمة في هذا السياق هو تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية تقبل المفرج عنهم. في العديد من الحالات، يواجه هؤلاء الأشخاص تحديات كبيرة تتعلق بالوصمة الاجتماعية التي تلاحقهم بعد الخروج من السجن، مما قد يعرقل جهودهم في إعادة بناء حياتهم. لذلك، يُعد نشر الوعي حول قضايا المفرج عنهم ضروريًا لتحفيز المجتمع على تجاوز الصور النمطية والمساهمة في تقبلهم بشكل إيجابي وداعم.

يمكن للوعي المجتمعي أن ينعكس في ممارسات ملموسة، مثل تأييد حقوق المفرج عنهم في الحصول على فرص عمل ودعمهم في تأمين مسكن مناسب. كما ينبغي على المجتمع أن يدرك أن هؤلاء الأفراد بحاجة إلى فرص حقيقية لإعادة بناء حياتهم بعيدًا عن السلوكيات الإجرامية، مما يعزز فرصهم في التصحيح والاندماج الاجتماعي.

تشجيع المجتمع على المشاركة في جهود إعادة الإدماج يُعد من الركائز الأساسية لضمان نجاح عملية التأهيل. في الواقع، لا يقتصر دور المجتمع على تقبل المفرج عنهم، بل يمتد إلى المشاركة الفعّالة في مساعدتهم على تجاوز التحديات التي قد يواجهونها. ويمكن للمجتمع أن يقدم الدعم من خلال البرامج الاجتماعية والنفسية التي تهدف إلى تحسين مهارات المفرج عنهم الحياتية والاجتماعية، مما يسهم في تعزيز فرصهم للاندماج الإيجابي المستدام.

تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورًا كبيرًا في هذا السياق. من خلال برامج دعم موجهة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، يمكن للمنظمات غير الحكومية أن توفر الموارد اللازمة للمفرج عنهم، مثل التدريب المهني، المساعدة في البحث عن عمل، ودعم التعليم. تسهم هذه المبادرات في مساعدة المفرج عنهم على اكتساب مهارات جديدة تعزز إدماجهم الاقتصادي والاجتماعي. 

يُعد الدعم النفسي والاجتماعي أحد المجالات الهامة التي يحتاج فيها المفرج عنهم إلى مساندة المجتمع. فالمفرج عنهم غالبًا ما يكونون أكثر عرضة للمعاناة من القلق والاكتئاب نتيجة فترة السجن الطويلة والعزلة الاجتماعية التي مروا بها. ويمكن للمجتمع تقديم دعم معنوي من خلال حملات توعية وأحداث تفاعلية تهدف إلى تخفيف العبء النفسي عنهم، مما يعزز شعورهم بالانتماء للمجتمع ويقلل من إحساسهم بالاستبعاد.

يمكن أن تشمل المشاركة المجتمعية أيضًا مبادرات تطوعية، حيث يساهم الأفراد المتطوعون في تقديم إرشادات مهنية أو اجتماعية للمفرج عنهم. فكلما كان المجتمع أكثر استعدادًا للمشاركة في جهود إعادة الإدماج، زادت فرص المفرج عنهم في التكيف والاندماج بشكل أفضل.

لا ينبغي أن تتحمل المؤسسات الحكومية وحدها مسؤولية هذه الجهود، بل يجب أن تعمل بالتعاون مع المبادرات المجتمعية. فعلى سبيل المثال، يمكن للحكومات توفير برامج تدريبية بالتنسيق مع المنظمات المجتمعية لدعم المفرج عنهم ومساعدتهم على اكتساب مهارات عملية تسهل اندماجهم في سوق العمل وتأمين وظائف مستقرة.

يُعتبر التعاون بين القطاعات المختلفة من أهم عوامل نجاح هذه المبادرات. يجب على الحكومة، المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية والتدريبية أن تتكاتف لتوفير بيئة شاملة للمفرج عنهم. يضمن هذا التعاون توفير الدعم على المدى الطويل ويشجع المفرج عنهم على الاستمرار في الجهود المبذولة لإعادة التأهيل.

توسيع نطاق الفرص لهؤلاء الأفراد يتطلب أيضًا دعمًا من الشركات الخاصة. يمكن للقطاع الخاص المساهمة من خلال توظيف المفرج عنهم، مما يوفر لهم مصدر دخل ثابت ويسهم في تقليل احتمالية عودتهم إلى الجريمة. كما أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني قد توفر حلاً مستدامًا للعديد من المفرج عنهم.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن دور المجتمع في دعم الرعاية اللاحقة لا يقتصر على تقبل المفرج عنهم فحسب، بل يمتد إلى المشاركة الفعّالة في توفير الفرص لهم لبناء حياة جديدة. من خلال تعزيز الوعي والمشاركة المجتمعية، يمكن للمجتمع أن يسهم بشكل كبير في تقليل معدلات العودة إلى الجريمة وخلق بيئة أكثر استقرارًا للمفرج عنهم، مما يعزز تكاملهم الاجتماعي والنفسي بشكل مستدام.

من الضروري إذن أن يعمل المجتمع على توفير بيئة داعمة تشمل التأهيل المهني والتعليمي، بالإضافة إلى الدعم النفسي المستمر للمفرج عنهم. ولا شك أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني تساهم في توفير حلول مستدامة تضمن استقرار المفرج عنهم ونجاحهم في إعادة بناء حياتهم بعيدًا عن السلوكيات الإجرامية.

***

د. هاني جرجس

منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا شكلت الأرض وما تحتويه من موارد نقطة ارتكاز أساسية للصراعات بين الأمم والشعوب، فمنذ أكثر من خمسة آلاف عام سيطرت الحروب والنزاعات على تاريخ البشرية بينما ظلت فترات السلام والتعاون التجاري والثقافي هي الاستثناء.

تمثل الأرض المورد الأهم الذي يسعى الإنسان للسيطرة عليه سواء كان ذلك على مستوى الإمبراطوريات الكبرى مثل الرومانية، أو على نطاق الدول والمقاطعات كما هو الحال في كشمير، ومنذ فجر الحضارة كانت الموارد الأرضية هي العامل الرئيس لهذه الصراعات؛ فالأرض ليست مجرد مساحة و إنما حاوية للثروات الطبيعية بما في ذلك الغذاء ومصادر البناء والمياه العذبة ومصادر الطاقة، وتحت ستار الحجج السياسية والفكرية غالبًا ما يُستخدم التلاعب بالاضطرابات والفتن كأداة للهيمنة على الأراضي والموارد، وعلى المستوى العالمي أدى تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية جغرافيا إلى تعقيد هذه الصراعات بشكل كبير.

إن تأثير الموارد الجغرافية لم يعد مقتصرا على حدود الدول وانما أصبحت ذات تأثير عالمي مما يعكس ديناميكيات جديدة في التوازن الدولي، وبحسب التحليل المعمق الذي ورد في مقالة موسوعة المعرفة وطبقا لويكيبيديا والموسومة (مجيد ملوك السامرائي) فأن الرؤية العالمية توضح؛ تجاوز تأثير الموارد الجغرافية الموقعية للحدود الوطنية للدولة لتتخذ أبعاد عالمية تتسم بتعقيدها وعمقها، إذ ان التفاعل بين المتغيرات الجيوسياسية والجيو إقتصادية المعاصرة تعكس ديناميكيات جديدة وغير مسبوقة في التوازن الدولي، إضافة إلى ان التقدم التكنولوجي في نظم النقل والاتصال ساهم في تغير الأهمية المكانية لمواقع جغرافية كانت يومًا ما محورية في التجارة الدولية، فطرق التجارة القديمة التي كانت تعتمد على الموانئ والمضائق البحرية أصبحت تواجه منافسة من ممرات نقل جديدة تعتمد على التكنولوجيا والبنية التحتية المتطورة، كما ان الأساليب التنموية الحديثة وتوسع الاذرع الدولية للتجارة الحرة بانفتاحها الكبير والمقرون بالتقدم التكنولوجي الرقمي لنظم النقل والاتصال تؤدي الى تغير الأهمية المكانية لمواقع جغرافية في كل القارات كانت متحكمة في حركة النقل واتجاهات التجارة الدولية الى مواقع أخرى جديدة، وهذه التحولات ستسهم بشكل متصاعد في إعادة تشكيل العلاقات بين الدول مما يفضى إلى تصاعد النزاعات حول الموارد الأرضية، وتشمل هذه الموارد على وجه الخصوص؛ مصادر الطاقة مثل النفط والغاز، والمياه العذبة التي تزداد أهميتها مع تزايد النمو السكاني وتغير المناخ، ومع اقتراب منتصف القرن الحالي من المتوقع أن تتفاقم هذه الصراعات لتصبح أكثر دراماتيكية مما سيغير شكل العالم بشكل جذري.

الصراعات على الموارد الأرضية ليست مجرد قضية تاريخية بل هي تحدٍّ معاصر يتطلب رؤية متجددة، ويمثل التوازن العالمي والدولي حالة من الاستقرار التي تتحقق من خلال؛ توزيع متوازن للموارد والنفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري بين الدول في ظل العولمة المتزايدة حيث يبرز التوازن شرطا أساسيا لضمان الأمن والسلم الدوليين وتحقيق التنمية المستدامة، ولتحقيق توازن مستدام في العلاقات الدولية يتعين على الدول تبني سياسات تنموية تعتمد على؛ التجارة الحرة التشاركية والانفتاح على أسواق جديدة وتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول، ولا بد من الاستثمار في نظم النقل والاتصالات لتقليل أهمية المواقع الجغرافية التقليدية وفتح آفاق جديدة للتعاون، ان التوازن العالمي والدولي ليس هدفًا يمكن تحقيقه بقرارات فردية أو على المدى القصير؛ أنما هو عملية متكاملة تتطلب التزامًا مشتركًا من كافة الدول ومن خلال تعزيز العدالة والتعاون والتنمية المستدامة لتحقيق عالم أكثر استقرارًا وعدالة للأجيال القادمة.

هكذا تتضح الحاجة الماسة الى تبني استراتيجيات تنموية متقدمة تتسم بالانفتاح التشاركي على أفاق التجارة الحرة كركيزة أساسية للتحولات التنموية الجذرية والمتوازنة وبالتالي إعادة تشكيل العلاقات بين الدول بعيدا عن النزاعات والصراعات.

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي

كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

 

يقول تيري إيجلتون في مقدمة كتابه "الارهاب المقدس" لم يتوقف البشر عن قتل بعضهم بعضا منذ فجر التاريخ، بسبب التنافس على البقاء والحيازة، ومازالوا كذلك، وكان لظهور القوى الآلهية الخارقة في العقائد البشرية، وثنائيات الخير المطلق والشرالمطلق،  وبالتالي ثنائية المقدس والمدنس، بمثابة غرس نوعي، او جينالوجي في شرعنة القتل والتعايش معه، والانتحار او التضحية بالحياة، فداء لحياة مطلقة اخرى، لا تستقيم إلا بالآضاحي، وان الترويع او الترهيب من عقاب الآلهة هو اول زراعة واعية لبذور ثقافة التخويف او الترويع الغيبي المتدحرج بميكانزميات التاريخ لشكل مقدس من الارهاب على الارض، جنة للبعض وجحيم للبعض الآخر .

وفي كتاب "الفلسفة في زمن الارهاب : حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا " من تأليف الباحثة الامريكية ايطالية الاصل، جيوفانا بورادوري، يصل المتحاوران الى استنتاجات عميقة منها، ان مفهوم الارهاب ملتبس وبحاجة التي تفكيك وتدقيق للتميز بين ارهاب الدول الذي سطع نجمه منذ ايام اليعاقبة وروبسبيير والارهاب الاهلي او المحلي وتتويجه بالارهاب الدولي، وان الارهاب المعاصر هو صراع العولمة مع ذاتها، وبالتالي فهو ليس صرعا بين الحضارات او الاديان، وان العنف المستشري هو تعبير عن الانسداد الذي يفجر الصراخ الدموي كبديل وحيد ضد سياسة الاذان الصماء، ويرى الفيلسوفان ان اوروبا مدعوة لانقاذ ذاتها، بالعمل على تطوير القانون الدولي، ودمقرطته والحرص على احترامه، ورفض الانغلاق القومي، ونبذ نزعة معاداة الاجانب والعمل معا لتحقيق الديمقراطية والتحرر للجميع، كي لا يموت التنوير الذي تدعيه، فالارهاب لا اخلاقي والعولمة لا اخلاقية، واحدهما يستوجب الآخر!

بالأمس إرهاب شيوعي واليوم إرهاب إسلامي وغدا!

مع انتهاء الحرب الباردة انتهت حملات شيطنة الشيوعية وحركات التحرر المستعينة بها وحل مكانها الاسلام ليحمل ما لا يحتمل!

 ولأن مفهوم الارهاب المتداول منذ احداث 11 سبتمبر 2001 وحتى الان اكثر إلتباسا وإنتقائية ومطاطية وحمال اوجه، ولا نبالغ اذا قلنا مغالط، لا يسع اي ذي بصيرة، إلا إعادة الخوض في محاولات التأصيل، والتعقب، المنطلق من كون الارهاب ظاهرة اجتماعية سياسية فكرية عنيفة، عنف التوحش الراسمالي بصيغته، النيو ليبرالية، شديدة الارتباط بمستوى وحدة تركز وتمركز السلطة وادواتها والثروة وإستثماراتها كونيا، وانعكاساتها الكارثية على المجتمعات المستهلكة بحكم الامر الواقع، ومن كونه أحد أوجه العنف الفردي والجماعي الملازم تاريخيا للصراع على مصادر العيش والبقاء والتسيد المتعاظم، في عالم كلما ازداد تراكما وتقاربا وتفوقا، كلما ازداد انحدارا !

لقد أُفشلت محاولات الامم المتحدة وعن عمد للتوافق على تعريف جامع مانع لماهية الارهاب وفرزه عن غيره من مظاهر العنف الاخرى، جنائية كانت أم سياسية، داخل حدود الدول وخارجها، وطبيعة الحرب عليه، وشكل علاقتها بالحروب التقليدية ومديات شرعيتها، قانونيا واخلاقيا، ففي عام 1972 ناقشت الجمعية العامة للامم المتحدة لاول مرة موضوعة الارهاب الدولي وتباينت الاراء لدرجة التصادم، ففي الوقت الذي ركزت فيه اغلب الدول على ان ارهاب الدولة يجب ان يكون في مضمار اي تعريف جاد ورصين للارهاب خاصة اثناء الصراعات المباشرة وغير المباشرة او الحروب بالوكالة بين الدول، واعتبار ذلك جرما مشهودا يخالف القانون الدولي، حيث ركزت النقاشات وقتها على الارهاب الامريكي لشعوب الهند الصينية وتحديدا الحرب الامريكية المدمرة على فيتنام، والدور التخريبي للسي اي اية، في كوبا وامريكا اللاتينية وافريقيا الذي يبرمج الانقلابات العسكرية والنزاعات المحلية ويغذيها، كان التركيز الامريكي على عنف الجماعات الصغيرة والافراد من غير المرتبطين رسميا بالدول، وكانت نتيجة حوار الطرشان هذا، عدم التوافق . وفي فترة حكم الرئيس الاربعين للولايات المتحدة الامريكية رولاند ريغان 1981 – 1989 جرى التداول الامريكي لمصطلح الدول الراعية للارهاب، وباتجاه واحد يؤشر "لامبراطورية الشر" الاتحاد السوفيتي، ومن يتمحور معها في مخاض الحرب الباردة، فبعد تفجيرات قوات المارينز في بيروت 1983، اعلن ريغان عن وجود دول ارهابية وراء الهجوم، كإيران وسوريا وليبيا وهي متناغمة مع ارهاب كوبا ونيكاراغوا، واطلق على هذه الدول كونفدرالية الدول الارهابية، وبعد محاولة اغتيال دموية للرئيس الكوري الجنوبي، برعاية كورية شمالية، والتي حصلت اثناء زيارة الرئيس الكوري الجنوبي لبورما، ادانت جميع دول الامم المتحدة العملية، وصوتت اغلبيتها على قرار يطالب بتركيز المجتمع الدولي، على الدور الذي تلعبه الدول، في التمويل والتخطيط لعمليات "الارهاب الدولي"، كان تصويت المندوب الامريكي والكوري الشمالي ضد القرار، والسبب واضح فكوريا الشمالية لا تريد إدانة نفسها، اما امريكا فانها لا تريد سابقة تفتح الابواب امام إدانات متوقعة من الجمعية العامة، لارهابها المتواتر بالاصالة او الوكالة !

اما مهزلة قوائم التصنيف الامريكي للمنظمات والجماعات الارهابية حول العالم فهي انتقائية وازدواجية في معاييرها، لأن أي مجموعة عنيفة مرتبطة بأجندة تتعارض والمصالح الامريكية تصنف كجماعة ارهابية، وبحسب مجلة التاريخ الامريكي الصادرة عام 2011 لاحظت الباحثة بيفرلي غيج كيف حاولت وزارات الخارجية والدفاع والخزانة تجنب تطبيق نفس التصنيف على عملاء امريكا الذين يخوضون حروبها بالوكالة، فعندما كان المجاهدون العرب بقيادة اسامة بن لادن  يقاتلون السوفيت في افغانستان وبكل شراسة وعنف، كانوا ابطالا وثوارا، ولا تنطبق عليهم صفة الارهاب برغم ارهابهم لكل مظاهر المجتمع المدني الذي كان قائما، لكنهم وبقدرة قادر اصبحوا ارهابيون خطرون يجب ابادتهم لمجرد استنفاذ تخادمهم، وتصويب بنادقهم ضد الامريكان حتى قبل 11 سبتمبر 2001، اما بخصوص حركة طالبان، فأنها بحسب قائمة وزارة الخارجية الامريكية للجماعات الارهابية الاجنبية، ليست جماعة ارهابية، لكنها مصنفة ارهابية بحسب لائحة وزارة الخزانة ويبدو ان التفسير الوحيد لهذا التناقض البرغماتي الصارخ هو الادراك الامريكي المبكر بعدم القدرة على هزيمة طالبان، وبالتالي حاجة الدبلوماسية الامريكية لنافذة تواصل معها، قد تقلل الخسائر، قبل وبعد الانسحاب !

***

جمال محمد تقي

حينما نتحدث عن آبارٍ باطنية أيّاً كانت، فإن هذه الآبار لها عمر معيّن ومن ثُمّ تخفت وتتلاشى، وقد يتم اكتشاف آبارٍ جديدة، ولكنها بالتالي سوف تتلاشى مثل غيرها. وخاصّة أن معظم آبار النفط في العالم العربي مكتشفة ويعمل بها منذ عام 1936 من القرن الماضي، وتتلاشى في نهاية هذا القرن كما هو متوقّع، لذلك معظم دول العالم أصبحت تبحث عن الطاقة البديلة التي لا بُدّ منها، والتي هي على الأغلب نتاج الطبيعة من خلال الخيار الأمثل لاستخدامها من مصادرها المتوفرة، والتي تحقق المكاسب الكافية، وبالتالي تتلاشى أو تتناقص الأضرار الناتجة من استخدام الطاقة ذاتها، مثل الاستخدام المستمر للوقود الأحفوري الملوّث كالفحم والنفط والغاز الطبيعي والتي تتسبب في الاحتباس الحراري ورفع مستوى الوفيات للمصابين بأمراض تلوّث الهواء كلّ عام.

في ألمانيا وأمريكا وكندا وأينما اتجهت تجد الألواح الشمسية الضخمة بمساحاتٍ واسعة، وتوربينات الرياح التي يمكن أن تغذي مباشرة الشبكة. كما يشمل سيناريو توليد الطاقة المتجددة نسبة مقدارها 100% من خلال توربينات الرياح البرية والبحرية، و الكهروضوئية الشمسية على أسطح المنازل، وفي محطات توليد الطاقة، والطاقة الشمسية المركّزة.

كما أن الطاقة النووية هي أهم أنواع الطاقة البديلة، والتي تُعتبر الأمل الكبير لإنتاج وتوليد التيار الكهربائي، حيث أصبحت إقامة مفاعلات نووية سلّمية لإنتاج الطاقة من الأشياء البديهية التي تسعى معظم الدول لأجلها.

ووفق المصادر الاحصائية، فإن معظم دول العالم بحلول عام 2030 ستكون قد استخدمت أو استهلكت 80% من الطاقة عن طريق الطاقة البديلة، وأمّا بحلول عام 2050 فإن النسبة ستصل إلى 100%، وذلك لتفادي الآثار الخطيرة لتغيّر المناخ.

وألمانيا حالياً اعتمادها على الطاقة البديلة يصل إلى حوالي 40% من الاستهلاك العام، وهذا رقم متطوّر نسبيّاً.

والطاقة البديلة نأخذ بعين الاعتبار أنها لا تلوّث البيئة، وتحافظ على الصحة العامّة للكائنات الحيّة، إن كان إنسان أو حيوان أو نبات، نضف إلى ذلك أنها اقتصادية واستمرار توفّرها مضمونٌ ومأمون، ومن ناحية أخرى فإنها تستخدم تقنيات ليست معقّدة.

فلو أخذنا البلاد العربية بشكلٍ عام فإنها تتمتّع بأشعةٍ الشمس بشكلٍ دائمٍ، وأحياناً على مدار العام، وهذا لا يتوفّر في البلاد الأخرى، وبشكلٍ عام فهناك مناطق جغرافية عديدة في العالم العربي تنقصها الطاقة، في الوقت الذي يتمتّع فيه الوطن العربي بكمٍ لا متناهٍ ووافر من خيرات الطبيعة، ومصادر الطاقة المتجددة والبديلة، الاستثمار الجاد نحو الطاقة البديلة لم يأخذ دوره وافياً لأسبابٍ عديدةٍ منها غياب الدور الإيجابي للحكومات العربية، وعدم جدّية صُنّاع القرار بالأخذ بهكذا منحى، وبنفس الوقت هناك بعض الدول التي ما زالت منشغلة في أزماتها وحروبها، لكن القطاع الخاص بدأ ينشط بشكلٍ مقبول في مصر وأيضاً القطاع الخاص في سورية نشط مؤخراً وبدأ بشكلٍ متسارع يعمل في مجال الطاقة الشمسية البديلة.

هنا نستطيع أن نقول أن مفهوم الحضارة تكمن في قدرة الإنسان على الاستفادة من المحيط الذي يُقيم فيه وتسخير الإمكانيات لصالحه ولصالح البيئة ولصالح الإنسان.

فبعد حوالي ثمانون عاماً من استخدام النفط في المنطقة العربية لاحظ الجميع الآثار السلبية، حيث تلاشت العديد من الصناعات على حساب قطاع النفط، وهذا ممّا جعل هذه المجتمعات مجتمعات مستهلكة، إضافةً إلى الأزمة المعروفة بالاحتباس الحراري، وتغيّر في أنماط الطقس والمناخ بشكلٍ متصاعد حول العالم كله وليس منطقتنا وحسب، وظهور الكوارث الطبيعية من أعاصير وفيضانات، إضافةً إلى الجفاف ونقص المياه، وهذا ما شاهدناه هذا العام في العديد بل الكثير من دول العالم ومنطقتنا.

الوطن العربي ينقسم إلى دولٍ منتجة للنفط، وأخرى مستوردة للنفط، وكلا القسمين يشهد نموّاً متصاعداً للسكان المترافق مع إستهلاك متصاعد أيضاً للطاقة التقليدية الغير نظيفة، وهذا كلّه شكّل تلوّثاً بيئياً للماء والهواء والتربة أيضاً.

فالسعودية تأتي في المرتبة 20 من بين أكبر 30 دولة مطلقة لغاز ثاني أُكسيد الكربون تليها مصر ودولة الإمارات.

البلاد العربية تتمتّع بشدةِ الإشعاع الشمسي، وأصبح من السهل جداً توليد الكهرباء من خلال الألواح الشمسية وبشكلٍ مباشر، وأصبح تخزين هذه الطاقة مُتاحاً بفضلِ التقنيات الحديثة، ومن خلالها يتم صنع شبكةٍ هجينة من طاقة شمسية ورياح، ويتم ربطها بالشبكات الوطنية، ألمانيا نجحت في سدّ ما يُقارب نصف حاجتها من الطاقة بفضلِ هذا النظام الهجين، الذي يجمع الطاقة الشمسية والرياح.

البعض يتساءل، لماذا هناك عرقلة للانطلاق نحو الطاقة البديلة في بلادنا العربية ؟،

أعتقد أن المشكلة تكمن في أن الاستثمار في الطاقة الشمسية يحتاج إلى رأسمال كبير للإنطلاق نحو هذا المشروع، كما أن تخزين الطاقة الشمسية مُكلفٌ أيضاً، فتكلفةِ كيلو وات بهذه الطريقة يُكلّف حوالي نصف دولار، بينما تكلفة الكيلو واط بالطريقة التقليدية يُكلّف حوالي ربع دولار، ويستطيعون أن يُغطّوا هذا الفرق البسيط من المال المنهوب من المال العام عن طريق الفساد المتفشي، وأيضاً ولأن الكهرباء شبه رخيصة في عالمنا العربي لذلك غاب الإبداع في الولوج إلى منظومة الطاقة الشمسية، ويكتفي الوطن العربي والذي يُعتبر أكثر البلدان استهلاكاً للطاقة التقليدية الملوّثة للبيئة في توليد الكهرباء.

لذلك لا بدّ من رؤيةٍ وطنية واضحة تخدم الانسان والانسانية جمعاء والبيئة، والبدء في وضعِ خططٍ استراتيجية لتحقيق الاستفادة من الطاقة المتجددة، والطاقة الشمسية المستدامة.

علماً أن الولوج في هذا المجال يوفّر عدة ملايين من فرص العمل، ويحدّ بالتالي من نسبة البطالة المنتشرة في البلاد.

وأيّاً كانت الأمور فإن العمل بالطاقة الشمسية البديلة لا بدّ منه، ولا بديل عنه، وعلى الوطن العربي أن لا تفوته فرصة خلق تكنولوجيات عربية لاستغلال الطاقة الشمسية وهي لا تزال في بدايات تطورها مثل صناعة الخلايا الفوتوضوئية والمجمّعات الشمسية، وخاصة أن الوطن العربي يتمتع بوفرة مساحات الأراضي الصحراوية والتي تنعم بسطوعِ الشمس على مدارِ العام، و بالامكان استغلالها عن طريق إنشاء مزارع لإنتاج الطاقة الكهربائية، مع إمكانية تصديرها للدول الأخرى مستقبلاً أيضاً.

يجب أن يستغلّ الوطن العربي أرضهِ وشمسهِ ورياحهِ ويستثمر فيهم لِما فيهِ خدمةِ الإنسان والنبات والحيوان والبيئةِ بشكلٍ عام.

***

بقلم الكاتب الإعلامي: د. أنور ساطع أصفري

تعرضت غالبية مدن الشرق الأوسط خاصة في الدول العربية المتعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية منذ اكتشاف النفط وفي دول أخرى بُعيد انقلابات العسكر على النظم السياسية الى تضخم مريع في التركيب السكاني، وتغيير ديموغرافي حاد في ظل أنظمة اجتماعية قروية وسياسية شمولية، حولت المدن الى قرى مسرطنة بعد ان فعل الفقر والجهل والتصحر والعقلية السياسية المغلقة فعلته في اضمحلال القرى وهجرة أو تهجير سكانها الى مراكز المدن أو أطرافها طلبا للماء والكلأ تارة والغزو والاستيطان تارة أخرى!

ولعل ابرز الأمثلة على هذا التضخم في مراكز المدن واطرافها ما حصل في الدول العربية وخاصة في العراق وسوريا والأردن وليبيا ومصر وغيرها، حيث فقدت كثير من المدن الكبرى هويتها بسبب هذا التضخم العبثي الذي يعود في أصله الى الفقر وانعدام فرص العمل والفشل في تطوير القرى والأرياف الذي دفع ملايين من سكانها الى ترك قراهم والهجرة الى اطراف المدن في احزمة وعشوائيات بائسة، شوهت مداخل المدن ومخارجها، ناهيك عن الفقر والبؤس والعادات والسلوكيات الغريبة التي رافقت هذه المجاميع وشكلت عبئا ثقيلا على المدن، وتسببت في ابطاه او منع تطورها في كثير من الخدمات المتعلقة بالحاجيات الضرورية كالماء والكهرباء والمواصلات والصحة والتعليم، وبنظرة سريعة وفاحصة لتلك المدن يدرك المرء هذا التضخم العبثي الذي تتحمل وزره الحكومات التي ركزت جل اهتماماتها على المدن وتركت الريف وقراه يأن من البؤس والفقر والتخلف.

واذا كان هناك ثمة مبرر للتضخم الأول الذي تحدثنا عنه فان ما حصل في العراق وسوريا والدول متعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية كان ممنهجا ضمن برامج حكومية وبميزانيات كبيرة وخلفية أيديولوجية عنصرية او دينية مذهبية طائفية نفذته على مراحل الحكومات ذات التوجه الشمولي احادي القومية او الدين والمذهب، حيث عملت منذ أواسط القرن الماضي على احتواء وإذابة المكونات الأصغر قوميا أو دينيا ومذهبيا، وذلك بتهجير السكان الأصليين واستقدام سكان آخرين من قومية النظام او مذهبه لإحداث تغيير في التركيب السكاني والجغرافي لتلك المناطق كما حصل في مدن الحدود الجنوبية والغربية والشرقية لإقليم كوردستان العراق منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وكذا الحال في سوريا وفي حزامها المسمى بالحزام العربي الذي نفذه النظام السوري باستقدام سكان عرب واسكانهم في قرى ومجمعات على حساب تهجير السكان الكورد الأصليين وبعثرتهم في المدن والقرى البعيدة عن جغرافيتهم الأصلية وهذا ما حصل بالضبط في العراق أيضا.

لقد تركت عمليات التغيير الديموغرافي آثارا مؤلمة واشكاليات يعاني منها العراق وسوريا حيث لم ينجح النظام البديل بحل تلك الإشكاليات المتراكمة منذ عقدين من الزمان رغم تضمينها في مواد دستورية واضحة دون التباس او تأويل، مما عقد الأمور ومنع تلك المناطق ومنذ عقدين من أي تقدم وازدهار، بل أصبحت مرتعا للتنظيمات الإرهابية بسبب تواجد الميليشيات والفصائل المسلحة المستقدمة من خارج المنطقة والتي تمارس هي الأخرى إرهابا منظما بحق سكان تلك المناطق وتضطرهم الى ترك بيوتهم ومزارعهم لاستكمال عملية تغيير ديموغرافي على خلفية طائفية اكثر بشاعة من تلك التي استخدمتها الأنظمة السابقة على خلفية التطهير العرقي.

انه تحدي كبير امام تلك الحكومات سواء في العراق او في سوريا التي بدأت تعيش نظام جديدا يتأمل فيه المواطن من كل المكونات انصافه وانهاء عمليات التغيير الديموغرافي بكل اشكالها ومعالجة آثارها وتداعياتها قبل أن تنفجر تلك الأورام والالغام وتقود البلاد الى حروب أهلية عرقية او طائفية تأتي على ما تبقى من تلك البلاد التي دمرتها الحروب وشوهت نظامها الاجتماعي والسيكولوجي.

***

كفاح محمود

أطل إمام مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد قائلاً: "إلى كلّ الآباء، وإلى كلّ الأُمهات، وإلى كلّ الأبناء، وإلى كلّ البنات... المسلم يتميز بشخصيته، عيد الميلاد، وعيد رأس السَّنة لأهلهما، لا يجوز لنَّا أنْ نُشارك غيرنا مناسباتهم"(الجمعة27/12/2024)، مع أنَّ الإمام، في خطبة سابقة، خاطب المُفَرطِيّن بالعراق: "أريد أنْ أبني بلدي"! وهذا الخِطاب لا يبني بلداً، يشترك فيه أهل أديان ومذاهب.

حذر، قبل ذلك، مفتي الدِّيار العراقيَّة، مِن أمام محراب جامع أمّ الطّبول، ببغداد: "لا يجوز الاحتفال برأس السَّنة، ولا التّهنئة لها، ولا المشاركة فيها"(28/12/2018)؛ معللاً  فتوته، إذا صح لنا اعتبارها فتوى،  لأنَّ التهنئة تعني تأييد ما ورد في القرآن: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التوبة أو براءة: 30)، وخاطب المهنئ: "إذا متَ تموت مشركاً". تأتي وصايا إمام مسجد أبي حنيفة، ومفتي الدّيار مِن "الشّروط العُمريَّة"(ابن تيمية، مسألة في الكنائس، الخمينيّ، تحرير الوسيلة). أقول: كيف يجري التَّفكير، والكنائس ملأى بالمسلمين، عند الشَّدائد، مِن اجتياح المغول لبغداد إلى يومنا هذا!

إذا كان الخطيبان ملتزميَن بشرط مِن الشُّروط، فعليهما التزامها كافة، ولو طبقت لانهارت الأوطان وتفتت، ومنها: إلزامهم يتجنبون وسط الطّريق توسعة للمسلمين؛ وأنْ يحلقوا مقادم رؤوسهم، ويلزمون الزَّي المقرر عليهم، مثلما طبق في فترات متفاوتة مِن التَّاريخ.

لقد سبق جماعة الإخوان المسلمين بالعراق الخطيبين، بتحريم مشاركة المسيحيين، أو تهنئتهم، ببغداد خلال العهد الملكيّ، بغداد المعروفة باختلاطها الدِّينيّ التاريخيّ، كان ذلك عندما سُمح لهذه الجماعة العمل بحرية، ظناً أنها جماعة تقوى، لا سياسة وحزب، حتَّى أنتبه ذلك العهد، وأوقف نشاطها حينها(الصّواف، سجل ذكرياتي).

لا أُحَشد كلّ ما يعترض فتوى الخطيبين مِن التّاريخ، بل أكتفي بشواهد منها ما فسره، قبل ألف عام، العالم المسلم أبو الرّيحان البيرونيّ(تـ: 440هج)، الذي لو أُخذ بما تفضل به لؤلفت مِن آرائه دفاتر التسامح والتّعايش بين البشر، وبرز الإسلام خارج التعصب، فللنُصوص أسباب نزولها وقولها، قال البيرونيّ مفسراً الأقانيم المسيحيَّة:

«اسم الأبوة والبنوة، فإن الإسلام لا يسمح بهما إذ الولد والابن في العربية متقاربا المعنى؛ وما وراء الولد مِن الوالدين، والولادة منفية عن معاني الأبوية، وما عدا لغة العرب يتسع لذلك جداً، حتَّى تكون المخاطبة فيها بالأب قريبة من المخاطبة بالسَّيد؛ وقد علم ما عليه النَّصارى من ذلك، حتَّى إن مَنْ لا يقول بالأب والابن فهو خارج عن جملة مِلتهم؛ والابن يرجع إلى عيسى بمعنى الاختصاص والأثرة؛ وليس يقصر عليه، بل يعدوه إلى غيره، فهو الذي يأمر تلاميذه في الدُّعاء بأن يقولوا: يا أبانا الذي في السَّماء. ويخبرهم في نعي نفسه إليهم، بأنه ذاهب إلى أبيه وأبيهم؛ ويفسر ذلك بقوله فـي أكثــر كلامــه عــن نفسه، إنه ابــن البشر»(تحقيق ما للهند)، فعل البيرونيّ مثل ذلك مع الصَّابئة، عندما أُشير إليهم بعبدة الكواكب، فنزههم مِن ذلك.

قبيل ما أتى به البيرونيّ، يرى المؤرخ والمفسر الموسوعيّ أبو جعفر محمد بن جرير الطَّبريّ(تـ: 310هـ) في تفسيره للآية: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التَّوبة أو براءة: 30): "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أباً والداً غير مولود، وابناً مولوداً غير والدٍ، وزوجاً متتبَّعة بينهما"(مجمع البيان في تأويل آي القرآن).

كذلك كتب الفضل بن الحسن الطَّبرسيّ(تـ: 548هـ) في تفسيره، بما لا يختلف عن سلفه الطّبريّ: «لم يقولوا بثلاثة آلهة، ولكنهم يقولون إله واحد ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس (...) وقد شبهوا قولهم جوهر واحد ثلاثة أقانيم، بقولنا سراج: واحد ثم نقول: ثلاثة أشياء، دهن وقطن ونار وشمس واحدة، وإنما هي أشياء متغايرة. فإن قالوا: إنَّ الله شيء واحد، وإله واحد حقيقة؛ فقولهم ثلاثة متناقضة؛ وإن قالوا: إنه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرنا في الإنسان والسِّراج وغيرهما؛ فقد تركوا القول بالتوحيد، والتحقوا بالمشبهة، وإلا فلا و اسطة بين الأمرين»(مجمع البيان في تفسير القرآن).

إذا كانت الآية "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"، تستوجب مقاطعتهم الاجتماعيَّة، مثلما تفضل المفتون بذلك، فما تجمعهم بالمسلمين اليوم المواطنة، وهناك حشدٌ مِن الآيات، التي توصي بالعلاقة معهم، بغض النّظر عن الاختلاف في الدِّين، منها الزَّواج، ومنها الاشتراك في الطَّعام، فإذا تؤخذ الآية المذكورة منفردة، فلا تعني المواطنة غير تكارهٍ دائمٍ، فماذا يقول الكارهون، النَّاهون لتهنئة أهل الأديان بأعيادهم، ومناسباتهم، في الآيات: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(العنكبوت، الآية 46)؛ و«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَمن قبلكم»(المائدة، الآية 5). «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »(المائدة، الآية 47). وخص المسيحيين بالقول: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(المائدة، الآية 82)، وغيرها.

عدا ما تقدم، أود تذكير الخطيبين، واحدهما أجزم أنه على مذهب العظيم أبي حنيفة؛ فيكفيه أنه صاحب "الرَّأي"، أما الآخر  فيُحسب سلفيَّاً؛ أسند رأيه لابن قيم الجوزيَّة(تـ: 751هـ)، فهو القائل: "فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ أَنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، فَيَقُولَ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا الْعِيدِ، وَنَحْوَهُ، فَهَذَا إِنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الْكُفْرِ ، فَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ"(ابن قيم، أحكام أهل الذِّمة). قد يُصار السّلفي إلى تقليد ابن قيم؛ لكنْ ماذا يفعل مَن يمثل أبي حنيفة، فقيه "أهل العِراق"، عندما اختلف عن بقية أئمة المذاهب الإسلاميَّة، بدخول غير المسلمين المساجد، حتَّى دخواهم الكعبة(ابن قيم، نفسه)، وابن قيم أورد ذلك ناقداً لأبي حنيفة، لأنه قاس على صلاة نصارى نجران داخل المسجد النّبوي(ابن هشام، السِّيرة النّبويّة).

إذا أُخذ تحذير مفتي الدِّيار العِراقيَّة، وإمام مسجد أبي حنيفة، حيث يرقد الإمام منذ السنة خمسين ومئة مِن الهجرة، وتُضاف لتحذيراتهما تصريحات خطيب الجمعة بالنَّجف صدر الدِّين القبانجيّ، يكون مسؤولو الدولة العراقيَّة، مِن العهد الملكيّ، إلى يومنا هذا، كفاراً لأنهم قدموا التهاني للمسيحيين، في كنائسهم، بداية من الملك فيصل الأول(تـ: 1933) إلى رئيس الوزراء محمّد شياع السًّودانيّ، الذي حضر قداس الميلاد ببغداد، مروراً بعبد الكريم قاسم(قُـتل: 1963).

إنَّ بناء الأوطان، وحمايتها مِن الكراهيَّة، وبالتالي مِن موجات العنف، وعبث الجماعات المسلحة الشّريرة بالأرواح، يحتاج إلى خطاب ديني معتدل، إنسانيّ في نغمته، فالدّين وجد لصالح وخدمة النَّاس، لا العكس، ورجال الدين اليوم، بخطابهم المتشدد، المفعم ببث الكراهيَّة، والعزلة للشركاء في الوطن الواحد، يجعلون العكس، أي: النَّاس في خدمة الدِّين، وبما أنّ الدّين يُقدم بهذا الخطاب العنفيّ، فقد تحول النّاس إلى خدم لرجال الدّين، وعلى حد ما نُقل عن الخليفة الرّابع الإمام عليَّ بن أي طالب(اغتيل: 40هـ: "هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْن، لا يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ"(نهج البلاغة، خطبة رقم: 123)، ويبقى لرجال الدين كيف ينطقونه، بلسان المودة واللين أو بلسان الكراهيّة واالتَّزمت.

فما حصل مِن تفجيرات كارثيَّة طالت المسيحيين العراقيين ببغداد والموصل؛ في آيام الآحاد خصوصاً، وأيام الأسبوع كافة عموماً، كانت البداية بخطاب أشبه عنفاً بخطاب مَن ذكرنا، لا أظن يحمل أصحاب هذا الخطاب شيئاً مِن المروءة، عندما يضخون العنف في النفوس، ولا عنف أشد مِن الصدود عن جارك، وابن موطنك في فرحه وترحه.

هذا، وكنا نعتقد أنّ الألف عام الفاصلة بين البيروني ومهدي أحمد الصُّميدعيّ؛ تؤخذ بنظر الاعتبار للتقدم لا للتأخر. أعود مذكراً بما قاله الفقيه سفيان الثّوري(تـ: 161هج)، ولعلَّ إمام جامع أم طبول، يحفظ للثوريّ تقديراً وتبجيلاً، قال: "«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»(ابن عبد البرِّ، بيان العِلم وفضله). أود سؤال المفتين بالصد عن المسيحيين، في أعيادهم، ماذا يفسرون ويقولون وهم يرون الكنائس ملأى باللاجئين المسلمين، خلال اجتياح المغول لبغداد، وحشود الطالبين اللجوء ببلدان الغرب؟ هل هؤلاء كفروا لأنهم دخلوا  بيوتاً يُقال فيها: "قالت النَّصارى عيس ابن الله"، ولم يضعوا للتفسير والتأويل مكاناً، ولاختلاف الطَّوائف في ما اعتقدوا بالأقانيم الثَّلاثة؟

***

د. رشيد الخيُّون

 

"احضنوهم، لنساهم جميعًا في بناء أوطاننا ونُشيد صرح علاقات متكافئة وسوية...". كان ذلك ما أرسله لي صديقي بعتب مملّح ، بعد أن استمع إلى حوار تلفزيوني لي جئت فيه على ذكر الأمم الأربعة دون أن أدرج معهم الأمازيغ، كما قرأ ملخّص محاضرة كنت قد ألقيتها بعنوان "نحو ويستفاليا مشرقية" دعوت فيها إلى علاقات متكافئة بين أمم المشرق، لتلمّسي حاجة دول الإقليم وأممه الماسة إليها، نظرًا لما أصابها من اضطرابات وصراعات ونزاعات وحروب، سالت فيها دماء كثيرة وأزهقت فيها أرواح الملايين من البشر، وهُدرت أموال طائلة جرّاء عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول الآخر واحترام سيادته وحقّه في تقرير المصير.

ولم أكن أقصد بالطبع استعارة نصيّة لمعاهدة ويستفاليا أو اقتباس حرفي لما عُرف بصلح ويستفاليا أو تقليد ساذج لظروف مختلفة وأوضاع متباينة، وإنما الاسترشاد بالقواعد والمبادئ العامة التي حكمت الاتفاق لوقف النزاعات المسلحة والحروب الدموية التي شهدتها أوروبا لأسباب دينية وطائفية وإثنية، مع التأكيد على خصوصية دول الإقليم على مستوى كلّ بلد وعلى مستوى الإقليم، ناهيك عن اختلاف الوضع الدولي.

ولكن تجربة ويستفاليا "الناجحة" تدعونا مثل أية تجربة عالمية للتأمّل والتفكير وإعمال العقل لابتداع نموذجنا الخاص، آخذين بنظر الاعتبار المشتركات الكثيرة التي تجمع شعوب الإقليم وأممه، التي تنتمي في الغالب إلى دين واحد، وإن تعدّدت لغاتها وقومياتها وعاداتها وتقاليدها، لكن ثمة مصالح مشتركة وتاريخ مشترك وعلاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتجارية على جميع المستويات، بل وحتى مصائر مشتركة يكمّل بعضها بعضًا، تقتضي التوقّف عندها في الحديث عن ويستفاليا مشرقية.

وكنت أقصد بوستفاليا مشرقية التفاهم بين أمم وشعوب ودول الإقليم، ولاسيّما في المشرق، وأعني بذلك الترك والفرس والكرد والعرب، وهو ما سبق أن أدرنا حوارات متعدّدة بشأنه في تونس ولبنان والأردن والعراق، بما فيها في أربيل، على أساس التكامل الإقليمي، الذي يمكن أن يكون محور استقطاب جاذب للاستثمار والتنمية والتفاهم والسلام بعد أن كان بؤرة للتعصّب والتطرّف والعنف والنزاعات والحروب.

وكان سمو الأمير الحسن بن طلال قد تبنى فكرة حوار أعمدة الأمة الاربعة، ودعا إلى حوار معمّق حضره عدد من الشخصيات الثقافية والفكرية في الأمم المذكورة، وذلك في العام 2018 بعد حوار ناجح عربي – كردي سبقه بنحو 5 أشهر، وقد تأسست لجنة متابعة بالتعاون مع منتدى الفكر العربي.

أعادني سؤال صديقي الذي طرحه عليّ في أربيل خلال زيارته الأخيرة (17 كانون الأول / ديسمبر 2024) إلى نقاش دار على هامش جلسة في مكناس بينه وبيني، فقد سبق أن ناقشني بصيغة استفهام، وماذا عن الأمازيغ؟

ولأنه يعرف موقفي المبدئي في تأييد حقوق جميع المظلومين ورفضي أي تمييز بين البشر على أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو جنسي أو لأي سبب آخر، ناهيك عن دعوتي إلى المواطنة المتساوية، التي تقوم على الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، لذلك كان السؤال عن الأمازيغ هو بمثابة تذكير وتفكير وتأمل وتحفيز، لإعادة طرح موضوع الحق في التنوّع والحق في التعددية والدعوة إلى إدارة متفهمة  وواعية لإعادة النظر فيما اعتادت عليه الدولة العربية، ناهيك عن دول الإقليم في موقفها من الحقوق، لاسيّما حقوق الأمازيغ، خصوصًا في بلدانهم التي يعيشون فيها، فضلًا عن رأي عام عربي سلبي أحيانًا في الموقف من التنوّع الثقافي الذي يُطلق عليه مجازًا ﺑ "الأقليات".

ويختلف الأمازيغ عن العرب في اللغة والتاريخ والثقافة، وتلك أساسات الهويّة الخاصة، ذات المواصفات الخصوصية، سواءً كانت "كبرى" أم "صغرى"، والمقصود عدديًا، علمًا بأن الأمر لا يتعلّق بالأغلبية والأقلية، التي تستبطن التسيّد والهيمنة من جهة، ومن الجهة الثانية الخضوع والتبعية تحت مبررات مختلفة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الأمازيغ ليسوا أقلية.

ودون الدخول في جدل تاريخي وقانوني حول هل الأمازيغ قوميّة أو أمة يمكن أن تندرج في حوار الامم الأربعة أو أعمدتها؟ إلّا أنهم يشكّلون مجموعة ثقافية متميّزة ولها خصوصيتها التي تتمثّل في هويّتها الخاصة خارج النطاق العددي، سواءً كانت أغلبية أم أقلية بالمصطلح السائد، ووفقًا لإعلان حقوق الأقليات لعام 1992 الصادر عن الأمم المتحدة والمتضمّن 9 مواد.

واستلهامًا من ويستفاليا والتجربة التاريخية الكونية عمومًا، فإن أية مجموعة ثقافية دينية أم قومية أم سلالية أم لغوية لها كامل الحق في التمتّع بحريّتها ومنع أي اضطّهاد أو تمييز يقع عليها، الأمر الذي يقتضي إبرام عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء أو تمييز.

وإذا كانت دول المشرق تكاد تخلو من الأمازيغ، فإن الأمازيغ في دول المغرب العربي، ولاسيّما المغرب والجزائر، يكادون يمثلون "أغلبية" دون أن تكون لهم "حقوقها"، ودون أن يعني ذلك الرغبة في تغيير هويّة الدولة، والمقصود هويّة مواطنيها العرب، ولكن لا بدّ من الإقرار بحقوقهم كاملة وغير منقوصة، وإلغاء التمييز بحقّهم، القانوني وغير القانوني، المعلن والمضمر.

ويحقّ لصديقي المغربي الحقوقي البارز والروائي والكاتب عبد السلام بو طيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة أن يطلب مني عدم نسيان الأمازيغ، وبطريقته الصداقية يكتب لي "أنا أعرفهم جيدًا وأعرف ردود أفعالهم العنيفة عندما يشعرون بالتمييز" وبأسلوبه الشائق والمهذب، فإنه يستدرك بالقول من باب الصداقة والمحبة والرغبة في التواصل الإنساني، لاسيّما مع دعاة الحق ورواده.

إذا كان يصحّ الأمر في المشرق الدعوة إلى "ويستفاليا مشرقية"، فيصحّ عند الحديث عن المشرق والمغرب، الحديث عن ويستفاليا لأعمدة الأمة، والأمازيغ هم من أعمدتها التاريخية أيضًا.

إن أسباب دعوتنا وانسجامنا مع دعوة سمو الأمير الحسن بن طلال تصدر عن قناعة بأهمية القيم والمبادئ المشتركة التي جاءت بها ويستفاليا بعد حروب دامت 30 عامًا وقبلها 100 عام، الأمر الذي تبلور في مصالحة شاملة، وهو ما يحتاجه العرب والكرد والفرس والترك والأمازيغ وأعمدة أخرى على صعيد كل بلد وعلى الصعيد الإقليمي.

وبالطبع فإن ثمة أسباب موجبة للدعوة إلى ويستفاليا تكمن في استمرار التنكّر للحقوق العادلة والمشروعة، وأهمها الحق في تقرير المصير، واستمرار الصراعات اللاعقلانية الداخلية والخارجية، وغياب مبادئ المساواة واستمرار استغلال الثغرات في إدارة التنوع من جانب القوى الغربية والقوى الطامعة ببلادنا، حيث يتم العزف على أوتار الهويّات الخاصة، الفرعية، ناهيك عن التعامل مع دول الإقليم كجزئيات وليس إقليمًا متكاملًا، على الرغم من المشتركات التي تجمع بين أممه وشعوبه ودوله.

هكذا تصبح الدعوة إلى وستفاليا فرض عين وليس فرض كفاية، وهي ضرورة واختيار في الآن لحماية الأوطان وتحقيق التنمية والتكامل والسلام على صعيد كلّ بلد وعلى الصعيد الإقليمي.

ولا شكّ أن الحوار ليس ترفًا وإنما لمعالجة المشاكل ومواجهة التحديّات، كما يُعتبر مسؤولية على هذا الصعيد، خصوصًا بالنسبة للنخب الثقافية والفكرية والسياسية، بهدف تنقية الذاكرة المشتركة مما علق بها من كراهيات ومرارات تكدّست على مرّ السنين، والانطلاق من مفهوم التقارب والتشارك دون نسيان الماضي، مع الأخذ بنظر الاعتبار مبادئ التسامح. وحتى لو استغرق الحوار زمنًا طويلًا، فحوار سنة أفضل من قتال ساعة كما يُقال، وقد استمرّ الحوار اللوثري – الكاثوليكي 50 عامًا حتى تم تسويته في العام 2016 بعد أن دام الصراع نحو 500 عام.

ولعلّ هذه المقالة هي من وحي حواري مع صديقي مثلما هي بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة، التي سبق لي أن احتفلت بها أكثر من مرّة مع أصدقائي الأمازيغ، الذين أشعر بسعادة غامرة بالتواصل معهم.

وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد أصدر قرارًا في أيار / مايو 2023 يقضي باعتبار رأس السنة الأمازيغية الذي يوافق 13 كانون الثاني / يناير من كل عام يوم "عطلة وطنية" على غرار رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية. وحسب التاريخ الأمازيغي نحن نحتفل بالعام الأمازيغي الجديد 2975، ولعل ذلك جزءًا من توسيع دائرة الحقوق للأمازيغ، والتي تكرّس بعضها دستوريًا، لاسيما في اللغة، حيث اعتبرت الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.

وكانت المغرب قد اعترفت بالحقوق الثقافية للأمازيغ عبر خطوات متدرجة، حيث أقرّ قانون كتابة الأمازيغية بحروفها الخاصة المعروفة "تيفيناغ".

ومن تجارب الشعوب والأمم فإن مشكلة المجموعات الثقافية وإشكالياتها متعددة في البلدان المتعددة الثقافات، حيث يتطلّب الأمر معالجات استثنائية لأوضاع إستثنائية على أساس مبادئ المواطنة والمساواة، فالكل شركاء في الوطن، وينبغي أن يكونوا شركاء في اتخاذ القرار.

نعم لا ينبغي نسيان الأمازيغ في المستقبل، فدول الإقليم التي تكالبت عليها القوى المستعمرة والطامعة، أورثتنا "الجهل المقدّس" و"الجهل المدنّس" تحت عناوين الأيديولوجيا وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وإذا ما أردنا تجاوز ذلك واللحاق بالعالم المتقدّم، فلا بدّ من إحداث تغيير في الوعي والتربية على قيم جديدة أساسها احترام الإنسان وكرامته وحقوقه، وذلك سبيلًا للتنمية المستدامة بجميع أركانها.

يبقى الأمازيغ مع العرب في مركب واحد وبوصلة واحدة ومستقبل واحد، الأمر الذي يتطلّب تعزيز التفاهم وتوسيع دائرة الحقوق وتعميق المشترك الإنساني.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عربي من العراق

قبل ان نخوض في ماهية العنوان نود أن ننوه بأن الرؤية  المطروحة مبنية في الاساس على مترتبات سياسة حكومة اقليم كوردستان، بكل تمفصلاتها، لا سيما فيما يتعلق بمنطقها في التعامل مع الشعب، فالصورة التي تبرز وبشكل جلي هي ان الحكومة ممثلة برئيسها، ومستشاريها ووزرائها، هم اشبه ببطانة الخلافة التي كانت تحكم المنطقة لقرون، من حيث اعتمادها على منطق الجباية (الخراج – الجزية) وفق كل الامور المنضوية تحت تلك المصطلحات، بالاخص التفكير بملئ خزانة الدولة، وملئ بطون ارباب السلطة، وترك الشعب تحت وطأة الضرائب والديون والعمل الشاق من اجل لقمة العيش، ذلك التفكير أو المنطق الذي يظهر بشكل واضح وجلي في واقعنا الحالي، وذلك وفق ممارسات الحكومة الحالية للاقليم.

     المنطق هو آلة قانونية تبحث عن احوال التعريف والدليل، وتعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وهو بذلك علم قوانين الفكر، وعلم القوانين الصورية أو الضرورية للفكر، وهو علم الاستدلال، وفن توجيه الفكر الى الصراط المستقيم في اكتساب العلم بالاشياء، وهو علم يبحث فيه عن القوانين العامة للتفكير، وغايته البحث في الاحوال والشروط التي بتوافرها يستطيع المرء الانتقال من قضايا مسلم بصحتها الى قضايا اخرى جديدة، فهو خاص ببيان الطرق الصحيحة التي بها يخصل التفكير من غير نظر الى المواد الواقع عليها التفكير (احمد عبده خيرالدين، علم المنطق، المطبعة الرحمانية، مصر:1930، ص18)، وهو بذلك يبحث عن المفردات المجهولة التي لا تعرف ماهيتها، فيضع لها تعريفاً محدداً يزيل الغموض الذي يكتنفه، ولا يمكن التفكير بالمنطق بعيداً عن تلك العلوم المذكورة، وحين نقارن تلك التعاريف والقوانين والعلوم بواقعنا نجدنا نعيش في دوامة إذ تغيب خاصية العصمة الذهنية التي يجب مراعاتها للابتعاد عن الخطأ، فكل الخطوات التي تخطوها الحكومة غير ممنهجة وبدون خطط مستقبلية، وهي في الاجمال خطط آنية – إن كان يصح ان نقول بانها خطط -  تستقوي بها الحكومة على الشعب وتجبرهم على الانصياع لمنطقها اللامنطقي، فضلاً عن كونها لا تملك قوانين مبنية على اسس فكرية ناضجة (بدون دستور)، وهي لا تملك رؤية واضحة يمكن الاستدلال من خلالها الى الاتي او المستقبل، فضلاً عن كونها لا تملك نهج مستقيم يعتمد على قوانين ثابتة صادرة بوعي من الحكومة التي يفترض أنها راعية لحقوق الانسان – الشعب – بعيداً عن المصالح الشخصية – الشركات التابعة للافراد -، ناهيك عن كونها لا تنتهج الطرق الصحيحة في تقييم الاحوال العامة للشعب، بل تبني نظريتها الاستحصالية على حاجاتها مبتعدة عن المنطق الصحيح للادارة الصحيحة للمؤسسات الحكومة بالاخص،  فضلاً عن القطاع الخاص والذي لا يخرج من كونه شركات تابعة للافراد التابعين والمقربين للسلطة نفسها.

بذلك يمكن القول بأن الحكومة الحالية والتي تُعرف بحكومة تصريف الاعمال قانونياً هي ليست فقط ناقصة الصلاحية وفق المنطق العام، بل هي حكومة ناقصة الفلسفة ايضاً، بحيث لا تمتلك فلسفة خاصة بها، ولا تمتلك عقلية التعامل مع الازمات، ولا تمتلك عقلية ايجاد الحلول، واية حكومة لا تمتلك فلسفة خاصة هي حكومة هدر الطاقات البشرية والطبيعية  يقول: محمد بوجنال  في مقال له بعنوان (الحكومة بدون فلسفة هدر للطاقات البشرية والطبيعية) الحكومة، أية حكومة، ترتكز أساسا على تصور فلسفي وإلا استحال تسميتها حكومة؛ فالحكومة، أية حكومة، بنية مجتمعية مصغرة تنطلق فلسفيا من مقدمات ومبادئ قصد التأسيس لبرمجة وتحديد أهدافها وغاياتها .والقاعدة في المنطق والابستيمولوجيا تقول أن النتائج بمقدماتها وأوالياتها؛ لذا، فالعلاقة متينة بين المقدمات والنتائج والأهداف والغايات. ومن هنا القول، على المستوى الفلسفي، أن الحكومة جهاز متماسك تحكمه مبادئ تتمثل في ضرورة استحضارها دلالة الوجود في عامته وخصوصيته المتمثلة في الاستجابة المعقولة لحاجيات الكائنات البشرية دون تمييز بهدف بناء الشخصية البشرية المبدعة وبالتالي تحقيق الغاية المتمثلة في الكرامة والحرية، واذا نظرنا جدلياً الى حكومتنا الحالية لن نجد اي شيء مما ذكر سابقاً متوافر فيها، بالعكس تماماً فهي حكومة جباية فقط، إذ وضعت الناس – الشعب – في صندوق مغلق بحيث لا يمكنهم العمل في اي مجال من مجالات الحياة دون فرض ضرائب مجحفة عليهم، نحن هنا لا نرفض وجود قانون الضرائب، لكننا نرفض اسلوب الجباية القسرية التي تفرضها على الناس وهي اصلاً لا توفر الحياة الطبيعية لهم، او بعبارة ادق لا توفر ادنى مستويات المعيشة لديهم، ففضلاً عن عدم استقرار دفع رواتب الموظفين، هي فقط اعلامياً تهتم بالقطاعات الاخرى كالزراعة والصناعة، ومعتمدة كلياً على قطاع النفط الذي تحول لعنة ووباء ووبال على الشعب، حيث لا احد يعرف اين ومتى وكيف وبماذا ولماذا يتم استخراج النفط في الاقليم، ناهيك عن المعضلات الاخرى التي يواجهها الشعب جراء سياسة قسرية غير منطقية فيما يتعلق بالخدمات، ففي منطق الحكومة بناء الطرق وبناء الوحدات السكنية والتي لا يستطيع المواطن العادي شراء شقة فيها لكونه لا يملك رصيد شهري ثابت، هو المنطق الاوحد الصحيح، منطق التطور والانبهار والعمران، كما ان الناس كالعبيد ملزمون بدفع الاقساط المترتبة عليهم، ودفع فاتورة المياه والكهرباء – الحكومية – الاهلية -، وملزمون بدفع فاتورة البيئة والتي لا يتسبب بتشوهها سوى مصافيها – الحكومة - غير الدستورية وغير المبنية على اسس علمية وقانونية، كما هو اي المواطن ملزم بدفع فاتورة الشوارع والكثير من مسالك الدفع  الاخرى، الدفع فحسب لا الاخذ او الاستلام، حتى وصل الامر بحكومة الجباية ان بدأت بتعميم القطاع الخاص ودمجه بالقطاع الحكومي إذ سلمت اغلب المرافق التي يفترض بانها حكومية موجودة لتسهيل حياة المواطن الى شركات اهلية (مثلاً: كاميرات المراقبة المرورية – مراكز التحليلات المرضية داخل المستشفيات الحكومية..الخ) ولو تم البحث عن ممولي تلك الشركات لوجدنا بأن ارباب السلطة وزبانيتهم – بطانتهم – هم الذين يملكون تلك الشركات، فكأن الاموال يتم تداولها ضمن دائرتهم فقط، تدوير الاموال بشكل لا يمكن ان تخرج عن مصالحهم، وفي مثل ذلك يقول كاتب مغربي إدريس عدار في مقال له بعنوان – الحكومة الجابية -: الحكومة ليست تسلطا على الناس، تسرق نارهم كي تحرقهم بها. الحكومة هي الشيء غير الثابت، وهي تجري في المسافة بين الدولة والشعب. لكن أصحابها طُلاّب مصالح لا يهمهم الباقي. إن نجونا من الأزمة يستغلونها في الانتخابات. وإن غرقنا، لا قدر الله، يعودون للاهتمام بشؤونهم الضيقة بعد أن يضيقوا علينا العيش. تحاول خلق الفراغ وتوسيعه حتى تستطيع مد رجليها دون محاسبة..، حقيقة ان مقولته تنطبق على واقعنا بشكل واضح وجلي، فنحن تحولنا الى وقود لنيران مصالح الحكومة وزبانيتها، وكل شيء بات بنظر الحكومة ومنطقها اللامنطقي جباية الاموال من الشعب وعدم دفع مستحقات الشعب، عدم توفير ادنى مستويات المعيشة لهم، فكأن الشعب تحول الى بقرة حلوب بالنسبة لها وهم مدركون تماماً بان الوقت كفيل بأن تجف منابع الحلب، وان تجف منابع النفط، وان تجف منابع الصمت، فتخرج الصرخة التي لن ترحم، وما يدور حولهم في العراق، سوريا، لبنان، اليمن، حتى تركيا، وايران، خير دليل على ان الصرخة آتية ومحال اسكاتها للابد، التسلط وتكميم الافواه اصبح محالاً، والحكم بدون فلسفة وبدون منطق اصبح عبء على الشعوب، واعتماد الجباية وملئ خزان الاحزاب دون ان يستفيد المواطن اصبح خيانة، وعدم الاعتبار من التاريخ تحول الى وباء وعقم سياسي.

***

د. جوتيار تمر صديق - اقليم كوردستان

2/1/2025

"يا أيها الإنسان، لا تبحث بعد الآن عن مكمن الشر، هذا المكمن هو أنت. ليس هناك شر آخر غير الذي تفعله أو الذي تعاني منه وكلاهما منك، لذا فإن حل مشكلة الشر جديد تمامًا من حيث أنه يتكون من "تحديد المسؤولية حيث لم يتم العثور عليها من قبل". ـ سيباستيان لابروس ـ

في أبلغ عبارة قرأتها قبل نهاية السنة الميلادية الحالية (2024)، الأكثر مأساوية على وجود البشرية، مقولة للكاتب الإسرائيلي إيريس ليعال، أبداها ضمن مقال له تحت عنوان "متى كان قتل أكثر من 10 آلاف طفل "ضرراً جانبياً؟" منشور في صحيفة هارتس الإسرائيلية بتاريخ 29 دجنبر 2024، يثير فيها شحنات محبته لسينما الرعب التي تتحدث عما بعد نهاية العالم، لا سيما أفلام "زومبي".

يقول ليعال إنه "يصعب علي تحديد ما هو نوع الراحة الخاصة التي أجدها في صور المدن الكبيرة والفارغة من الناس والمتروكة، والثقافة المدمرة وأسراب الزومبي المتعطشة للدماء التي تسير بين الأنقاض". مستطردا: "لكني أحب ذلك بشكل مرضي. النمط هو نفس النمط: جرثومة أو فيروس تم إنتاجه في المختبر الذي ينتقل من القرود إلى بني البشر، ويحولهم جميعهم إلى زومبي مجنون، ودافعه الذي لا يمكن السيطرة عليه هو نقل العدوى للآخرين والقضاء على البشرية".

هناك فعل بشري أكثر وحشية، من أفلام الزومبي المتخيلة. على الأقل، تسترفد أفلام الزومبي، التي تقع أحداثها في التراب البريطاني، جزءا من صناعة السرد القاسي على الذهنيات المتفرجة. مجرد استيهامات افتراضية لمواجهة عوالم الفيروسات المخترقة، يستطيع العقل الإنساني التدرب على مكاشفتها بالعقل الباطن، لتتحول إلى نظرية استيلاد للمعنى، في الحدود التي لا تتقاطع فيها أسئلة المنطق والواقع، أو تتجاوزهما معا إلى اللامعقول.

لكن، "الزومبي" الأكثر فتكا لكل نواميس الوجود والكينونة، ومنطق أو قانون العالم، هو ما عاشته قطعة أرضية مستعمرة بالقوة والنار، يقاوم سكانها آليات جهنمية، تتغطى بالتحضر والتمدن والحقوق الإنسية. يجتمع كل (قراصنة الكارايبي) الرجال الأموات الذين لا يحكون الحكايات، في إحالة إلى فيلم المغامرات الأمريكي الذي أنتجته الصاعقة الهوليودية عام 2017، والذي يحكي عن عودة القبطان جاك سبارو (جوني ديب) في مغامرة جديدة، حيث يقوم سلازار (خافيير بارديم) بإطلاق سراح مجموعة من أكثر أشباح القراصنة الموتى خطرًا من مثلث الشيطان، ويقوم الأشباح بالهجوم على القراصنة المتواجدين في البحر، بمن فيهم جاك سبارو نفسه، والأمل الوحيد الباقي أمام سبارو لإيقاف هذا الخطر هو أن يحوز على رمح بوسيدون الذي سيسمح له بالسيطرة على كافّة البحور.

لقد أطلق القراصنة (موتى الضمير والأخلاق)، أشباح الموت للسيطرة على سلطة العالم، واستدعاء كل طاقاته خنوعا وذلا ومهانة، فلا يكون للرمح الوحيد المعزول عن محيط الخانعين المهزومين وسماسرة الكراسي، أي بد من التصدي للعماء والغدر، مهما كان الثمن؟.

هناك نظرية صادمة كان يرددها المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق" حيث يرصد من خلالها عملية بناء عالم مركزه "الغرب"، وفق سردية خطابية، تتسع لكيفية تجسير هذا الخطاب التغريبي للشرق عبره.

العملية التي يعتبرها ادوارد، متصادية مع  تبريرية الانتهاك الأخلاقي، والذهاب إلى أن الشرق الأوسط مجرد "حيوانات بشرية"، وهو ما تتفاعل معه العسكرتارية الصهوينية التي ترى في الإنسان الشرقي مجرد شيء أو هو لا يمثل "الآخر" الذي ينبغي قبوله. وآلامه وأحزانه ومشاكله ليست جديرة بالاهتمام، ولا تحتاج أن تؤخذ على محمل الجِد.

إن الوحشية الدموية المقيتة، شر قاهر، تتقمصه الأدوات البشرية الصماء المسعورة، كالشرور الميتافيزيقية المتعلقة بالنقص الذي تنطوي عليه ماهية الموجودات، تنبني على الأفعال الكامنة في ذاتها، المنفصلة عن ميثاق العالم، سرعان ما تتفكك وتختفي أو تتوارى بفعل التآكل الزمني والتشاكل الكوني المتأصل في الصيرورة والأهلية.

بيد أن أقصى ما تتخيله الحواس المدركة لماهية شر الوحشية الدموية، أن يتفاقم هذا الشر الميتافيزيقي، المداهن بالنقص والفناء ومحدودية الإنسان؛ والذي يتلذذ بالضرر الجسدي الناجم عن القبح والإمعان في العدم ؛ كما الشر الأخلاقي الذي يشير إلى الخطأ والخطيئة، وهو شر مرتكب بفعل الجنون والتيه النفسي والتشتت الهوياتي

أليس من وازع التفلسف، أن نعتبر الشر شيء من النبش في الخطيئة، أو هو الخطيئة بعينها. حيث تفهم الخطيئة كنتيجة للمحدودية الإنسانية، وليس كفعل إيجابي، ليس بالمعنى الأخلاقي شريبالطبع. وهو ما التفت إلى كنهه الفيلسوف الأماني غوتفريد لايبنتس الذي أفصح بالقول: " لم يقتصر الأمر على أن الخطيئة الأصلية سيطرت على النفس بعد فقدان براءة الإنسان، بل حتى قبل ذلك كان هناك تقييد أصلي أو عيب طبيعي في جميع المخلوقات، وهو ما يجعلها مذنبة أو قادرة على الفشل .. جذر الشر في العدم، أي في حرمان المخلوقات أو تقييدها.."

والمناط هنا، أن حقيقة الشر مهما تغيرت، فإنها لا تخرج عن فعلية البشر، وأن تمة حدودا لإدراكها وفهمها، من حيث كونها متجزأة من التفكير البشري ذاته، وأن التوجس من الاعتراف بصنعها وإشاعتها، أن فاعلها يمنحنا وجها من طبيعتها وآثارها على العالم، دون أن ينظر بعين الحياد أو الصدقية؟.

***

د. مصطفى غَلمان

في هذا اليوم "الأربعاء" نبدأ سنة ميلاديّة جديدة، بدخول عام 2025م، وكنا نرجو في غالب العالم العربيّ أن تمتدّ فيه دائرة الإحياء بشكل أوسع، وينعم أقطاره بالأمن والسّلام وتحقيق ذات الإنسان، وأن تبنى دوله على المواطنة حسب الذّات الواحدة، وأن تكون العلاقة بين دوله علاقة حازمة في إحياء جميع أقطاره، وتجفيف منابع الحروب والدّمار والتّطرّف والكراهيّة والتّدخلات الخارجيّة والاستعمارات المبطنة، كما كنّا نرجو من تحقّق الوحدة العربيّة البنائيّة حول الذّات الإنسانيّة، مع حريّة الخصوصيّات، وتوسيع دائرة حريّة الانتماءات، لتكون في دائرة بناء الذّات لا إماتتها.

هذه الأمنيات ونحن نودّع عام 2024م لا أقول إنّها أصابتنا باليأس المطلق ونحن نرى واقعنا العربيّ في هذه اللّحظة، ولكن بلا شكّ أصابتنا بخيبة الأمل، فخطّ الفقر لا زال يتمدّد بشكل مخيف جدّا، والتّأثر بالأفكار الماضويّة والمتطرّفة لا زالت تجد آذانا تستجيب لها، وتستغل وسائل التّواصل الاجتماعيّ كمنبر إغرائيّ رئيس لها أيضا، كما أنّ الخطابات العموميّة وغير العقلانيّة، والصّراعات الطّائفيّة تحاول من جديد أن تصعد إلى السّطح مرة أخرى، أمام واقع سياسيّ غير مستقر في أقطار عربيّة مهمّة، حيث لا يكاد يوجد فيها دولة وطنيّة قطريّة واحدة منتظمة، تحمي فضاءاتها أو على الأقل تحجّمه بشكل أكبر أمام الواقع الإحيائيّ والوحدويّ التّنمويّ.

ما حدث في غزّة هذا العام واقع مؤلم لارتفاع قيمة هذا الإنسان، حيث ينعدم التّأثير العربيّ الموحد، سياسيّا وثقافيّا واجتماعيّا دينيّا في المحافظة على كرامته، بعيدا عن الحدث ذاته، فالحدث أيّا كان إيجابا أو سلبا، ومن يتسبّب ظاهريا في حدوثه، يمينيّا أم يساريّا أم ما بينهما؛ لا يرفع هذا بحال كرامة ذاتيّة الإنسان، وحقّها في تحقّق الكرامة الإنسانيّة، ولا يجوز الاعتداء عليها، كما لا يجوز الوقوف مع المعتدي، وتبرير فعله، على الأقل أن يكون المدار هو ذاتيّة الإنسان، وليس الأعراض الجانبيّة.

من المؤسف حقّا، أن نتحدّث في عام 2024م عن الطّائفيّة، ونحن أمام دماء تسال، وأبرياء يشردون، لا يملكون أدنى ما يتحصّل عليه الإنسان من كرامة ماديّة، ونحن نتصارع على خصوصيّات وانتماءات هويّاتيّة، أو قضايا أحداث ماضويّة، وصراعات لاهوتيّة عفا عليها الزّمن، والعقل الإنسانيّ اليوم يكشف ما في الكون من سنن ونظم لأجل الإنسان، وهناك من يسخر هذا لأجل دمار البشريّة، ونشر الحروب والصّراع فيها، وتمديد دائرة خراب الأوطان، وأكل خيراتها، وانتشار الفقر والبطالة والصّراعات الأهليّة فيها.

ما رأيناه في عام 2024م من عدم استقرار في العديد من أقطار العالم العربيّ، بين دول يعمّها الصّراعات الأهليّة، ودول تعيش تحت إملاءات تدخلات القوى الخارجيّة، ودول تعيش تدنيّا اقتصاديّا مع إمكاناتها الماديّة، والقليل جدّا من بقي في دائرة الاستقرار، ومع هذا يراد أن تتمدّد الدّائرة، فتلتهم ما بقيّ، ويبقى العالم العربيّ منذ بدايات الإفاقة، والتّحرّر من الاستعمار، في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين فقيرا ممزقا، ولا زالت الوحدة العربيّة بمعناها الإحيائيّ الكلّي، وليس بالمعنى الاستعماريّ، والتّدخل في الشّؤون الدّاخليّة للأقطار، لا زالت – للأسف – في واقعنا العربيّ يرثى لها، وما حدث من أحداث في 2024م يدلّ أننا نتراجع إلى الخلف، ولا نتجه إلّى الأمام، هذا في الجملة بعيدا عن التّعميم، والإضاءات الإيجابيّة في بعض الأماكن.

كما للأسف تراجع قلم المثقف المستقل أمام شهوة الإعجابات في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، حيث يغيب قلم المثقف المستقلّ عن سلطة السّلطة السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، ليقع في سلطة وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتكون هذه الوسائل تمظهرا جديدا للسّلطات الثّلاثة: السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، في ممارسة الإقصاء المبطن، والقتل البطيء، والتّنمر الممنهج أمام الأقلام الثّقافيّة المستقلّة، والّتي تعنى بالإنسان، وتعنى بإحيائه وإنمائه، فنجد أقلاما خفتت أمام هذه الفوضى والجيوش الالكترونية الممنهجة، ثمّ أنني لا أقصد بالأقلام هنا هي الّتي غايتها النّقد لأجل الظّهور وتسجيل الحضور؛ إنني أقصد بالأقلام هي الّتي غايتها ذات الإنسان العربيّ، أيّا كان موقعه الجغرافيّ، وأيّا كانت انتماءاته وخصوصيّاته.

لا أدري هل سيكون واقعنا العربيّ في عام 2025م يتجه نحو الأفضل في توسع دائرة الأمن والاستقرار فيه، وتحقّق دائرة الإحياء والنّماء بشكل أفقيّ أكبر، أم ستتوسع – لا قدّر الله – دائرة الاضطرابات، وتتمدّد دائرة الفقر والتّدنيّ المعرفيّ والمعيشيّ، فاللّحظة الّتي نستقبل فيها هذا العام مربكة جدّا إلى درجة الخوف من المستقبل، ولكن كثيرا ما يظهر النّور من كتمة الظّلام، ويولد الخير من بطن الشّر، وهذا ما أرجوه لواقعنا العربيّ، إذا ما وجدت الإرادة، شريطة أن يتحرّر من انتماءاته الضّيقة، إلى الذّات الإنسانيّة الواحدة، ومن الخلاصات الماضويّة إلى الواقع الإنسانيّ المعاصر، ومن الانقسامات لولاءات خارجيّة، إلى وحدة الذّات العربيّة الواحدة، فالقوميّة كما أسلفت هنا ليست في بُعدها الاندماجيّ، وليست في جانبها الاستعلائيّ على الآخر من داخلنا نحن، فنخرب بيوتنا بأيدينا، ولكن القوميّة الّتي أقصدها في بُعدها الإحيائيّ والنّهضويّ، فلتبق الأقطار كما هي، والنّاس أحرار في شؤون دولهم الوطنيّة، ولكن علينا أن نقف مع أيّ دولة عربيّة إحيائيّا وبنائيّا، وأن نعنى بأيّ ذات عربيّة من المحيط الأطلسيّ إلى بحر العرب، كعنايتنا تماما بأيّ ذات إنسانيّة في العالم الإنسانيّ الواسع أيضا.

***

 

وضع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر النقاط فوق الحروف ليزيل الغموض عن سر وحقيقة زعمه بوجود أزمة قائمة في المجتمعات الأوروبية تجاه الإسلام، كما اقترح لها الحلول ووضع جملة من التصورات المستقبلية لإنقاذ بريطانيا وأوروبا من المد الإسلامي.

***

نشرت صحيفة " ذا صن" البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 1/8/2024 مقالا تناولت فيه تصريحات كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني، السياسي والمحامي وزعيم حزب العمال منذ أبريل 2020 حول ما اعتبره " الصراع بين الإسلام والغرب" إذ أوضح أن حقيقة الأزمة تكمن في الإسلام ذاته برغم أنه أكد أنه "دين حضارة " واعترافه أنه يزداد تألقا داخل المجتمعات الأوروبية، مقترحا أن الحل هو مقاومة الإسلام!! وذلك عن طريق دفع المسلمين المقيمين ببريطانيا نحو مغادرتها ومغادرة الدول الأوروبية ومنع الهجرة إليها مجددا، وفي المقابل فتحها لرعايا الشعوب غير الإسلامية وتسهيل اجراءات هجرتهم وتبسيط شروطها نحوها، ولم يغفل رئيس الوزراء البريطاني عن تجديد دعم بلاده والدول الأوروبية لإسرائيل، متوقعا نشوب حرب كبرى في الشرق الأوسط .

لم يوضح كير ستارمر طبيعة الأزمة المزعومة التي ادعى وجودها بين الإسلام والغرب، ولم يتطرق إلى مدى تداعياتها الهدّامة على القيم الأوروبية، ولا إلى حجم انعكاساتها المدمرة لاستقرار المجتمعات الأوروبية، إذ لم تتضمن تصريحاته أي اتهامات صريحة للدين الإسلامي يكون من شأنها أن تمثل خطورة جسيمة على بريطانيا وغيرها، بل بالعكس لقد اعترف أن الإسلام ينتشر داخل المجتمعات الأوروبية وأنه "يزداد تألقا " فأين يكون الخطر هنا؟ المعروف أن البريطانيين والألمان أكثر الشعوب ألأوروبية إعمالا للعقل حتى في أبسط شؤون حياتهم وهم كثيري التأمل والملاحظة قبل الحكم على الأشياء، والأكيد أنهم سيستدعون هذه المهارات عندما يتعلق الأمر بالعقيدة، وتشير الاحصاءات إلى تزايد عدد الأوروبيين الذين يعتنقون الدين الإسلامي سنويا خاصة من بريطانيا وألمانيا، ولم يجبرهم أحد على تغيير عقيدتهم بقدر ما تجاوبوا عن اقتناع مع النشاط الدعوي الإسلامي ومع إفرازات الأوضاع الإنسانية حولهم خاصة تأثرهم العميق مع صبر وإيمان ضحايا اعتداءات الكيان المحتل على قطاع غزة وغيرها .

إن ما ذكره رئيس الوزراء البريطاني يدخل في إطار الذكرى السياسية لوعد بلفور عام 1948ذلك إنه بدا يعني حقا استرجاع ما مضى من مواقف وأحداث بمرها وليس بحلوها في شكل شريط يمر أمام المخيلة.. في مثل هذه الحالة سيرى المرء في تمام الاستغراق بأحداثها التي تأخذه من واقعه لحين من الوقت قد يطول كما قد يقصر حسب حجم الحدث الذكرى وعلى حسب وجود رغبة ذاتية في إطالة أمد الاستغراق فيه، أي الاستسلام الطوعي لعملية اجترار ماض أنه يستحق منه متعة إعادة معايشته من جديد أو إعادة تأمل تفاصيله لأخذ الدرس والعبرة، هذا الاجترار العقلي يجده يفرض نفسه عليه فرضا دون استئذان، دون مقدمات، وبغير مبررات، أي أنه يستحضره العقل الباطن لا إراديا من باب المقاربة بين المبررات والأحداث أو انطلاقا من المشابهة بين الظروف والوقائع مع أحداث حالية تحمل نفس الملابسات وتسير نحو نفس النهايات مع اختلاف أبطالها، وبالطبع اختلاف الزمان وربما أيضا المكان تصديقا للمقولة الشهيرة أن التاريخ يعيد نفسه .

مثل هذا الحال الذي يمر به رئيس الوزراء البريطاني يكاد يقع على المستوى الشخصي داخل دائرة الأسرار الخاصة به، فتراه يسبح فيها وحيدا، وبقدر سلبية وعمق وحساسية ما تحمله الذكرى بقدر ما تصعب عملية التخلص منها سريعا، فجاذبية أي ذكرى سياسية تعتمد على حجم ما تكتسبه من أهمية ومن الكم المعلوماتي المتوقع معرفته منها، وتبقى الذاكرة الجماعية البريطانية و الأوروبية تحتفظ بأبشع صور الجنود ضحايا مغامرات الحروب الصليبية والاحتلال البريطاني للعديد من الدول العربية والإسلامية. لقد غزت بريطانيا دولا وممالك، وقهرت الشعوب ونهبت ثرواتهم، وها هي يسؤها اليوم انجرار مجتمعها طوعا لعقيدة من استعمرتهم من قبل، فتريد أن تسترجع مجدا ضاع منذ أن أصبحت بريطانيا تابعة لإرادة الولايات المتحدة وسواء كانت الذكرى السياسية شخصية أو جماعية فإن مجالها الزمني سيكون أكبر من تلخيصه في عبارتين لأن الأمر يتعلق بشأن سياسي بلغ من درجة تعقيده أن تحوّل إلى قضية طرفاها خصمان يقفان على خط النقيض أو ان يكون ثمة عدة أطراف تستشعر أهمية تواجدها في القضية لمصلحة لها فيها، وهنا جاز لنا التوقع بأن الحل لن يكون في الأمد القريب، بل قد يستغرق سنوات، وحديث بعض المسؤولين والمتابعين والمصادر التي توصف بالمطلعة عن المراحل التي قطعتها القضية وعن طبيعة المناورات المحيطة بها هو من قبيل التعليقات الإعلامية أو القراءات السياسية الممكنة بشأنها ولن تر مصداقية تصريحاتهم نفس درجة من حضروا فصولها وشاركوا فعلا في صنع حلها فهؤلاء لديهم ما يقولون، والرأي العام يمكن أن يطالبهم بحقه في المعرفة حول رأيهم لتفسير وتوضيح ما حدث، وهذا ما نراه فعلا من خلال البرامج التي تمنح مجال الحوار مع الشخصيات التي كانت في فترة ماضية مسؤولة، لذلك يتم إبرازهم كشاهدين على العصر وكما يلاحظ حجم ما يخصص من حلقات لسماع ذكريات شخص مسؤول حول شان سياسي ما، أو المساحة الواسعة التي تفردها الصحف اليومية لنشرها على مدى عدة أعداد متخذة من أدق التصريحات وأخطرها عناوين لها تضمن بها رفع مستوى المقروئية .

لم يتمكن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر من كبح حنقه في صدره فاستعاد ذكريات بعض مظاهر التلوث التاريخي لماضي بريطانيا مع الدول العربية والإسلامية ولم يكن بعد قد تخلص من قيود وواجبات التحفظ المهني، ولم يتلطف ليرفع الغبن السياسي عن من ظلمتهم بريطانيا وجار عليهم التاريخ، فكان كمن يستنطق حديث السياسة مع التاريخ حول قضية تجددت تداعياتها أو جرت إثارتها يٌراد منها عمدا الإيهام بمحاولة كشف جوانب ظلت في طي النسيان في الزوايا المظلمة.

***

صبحة بغورة

ربَّما تكون تجربة «النَّزاريَّة، أو ما أصطلح عليها بالحشاشين، مِن بين تجارب الفرق الدينية النَّادرة في تحولها، مِن العنف إلى المدنية والفنون والثَّقافة، تمثلها اليوم «اللأغاخانيَّة»، صاحبة مراكز البحوث، والمكتبات، والاهتمام بالعِمارة، التي أفردت جائزة عالميَّة لها. بالمقابل ما يُعرف عن«جبهة النّصرة»، أو«هيئة تحرير الشَّام»، كانت مؤطرة في «القاعدة»، تُعد مِن «السلفيات الجهاديَّة»، ومارست ذلك في الميادين الملتهبة كافة، إلا أنَّ ظهورها وهي تستلم السلطة بسوريا (يوم 8 ديسمبر2024)، كان مفاجأة، ومفاجأة أيضاً ما سمعناه مِن زعيمها، المتخلي عن لقبه الجهادي «الجولانيّ»، بأنَّ العلاقة مع «القاعدة» أصبحت ماضياً، والأخذ بالمدنيّة.

أقول: إذا اختبر ذلك وتحقق فيُعد تغييراً جذرياً، لنا اقترانه بما حصل للنزاريَّة، عندما كفت عن العنف ضد العباسيين والفاطميين، حتى طال عنفها ملوك وأمراء أوروبا. راجعت النّزاريَّة نفسها وتراجعت، بعد أكثر مِن مئة عام: في هذه السَّنة (608 هجرية) أظهر الإسماعيليَّة، ومقدمهم الجلال الصبّاح، الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها، وأَمر بإقامة الصَّلوات، وشرائع الإسلام ببلادهم مِن خُراسان والشَّام، وأرسل مقدمهم رُسلاً إلى الخليفة (العباسي)، وغيره مِن ملوك الإسلام، تخبرهم بذلك، وأَرسل والدته إلى الحجِّ، فأُكرمت ببغداد إكراماً عظيماً، وكذلك بطريق مكة» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ)، وهم الآن جماعة الأغاخان، يساهمون بدعم الثقافة والفنون عالمياً.

كنا أخذنا برأي المؤرخ حسن الأمين (ت: 2002)، عن تسمية الحشاشين نسبة إلى الحشائش الطبيّة (الأمين، الإسماعيليون والمغول)، تبرئة لهم مِن استعمال المخدر، لكنَّ بعد الاطلاع على مصادر مهمة، نجد رأي الأمين غير دقيقٍ، فهناك جماعة عُرفت بـ «الحشيشيَّة»، أيّ كانوا يأخذون الحشيش المخدر، «وهم قومٌ في تلك الدِّيار، يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينيّاً» (ابن دَعثم، السّيرة الشَّريفة المنصوريَّة).

قصد ابن دعثم الصَّنعانيّ (ت: 615هج) - شيعيّ زيديّ المذهب - القبض على أربعة أسرى مِن الحشيشيَّة النَّزاريّين. فليس الرَّحالة الإيطاليّ ماركو بولو(ت: 1324م) مَن أطلق تسمية «الحشاشين»، إنما كانت أقدم منه بكثير. بدأ تنظيم النّزارية، بعد الانشقاق عن الإسماعيليَّة الفاطميَّة بمصر، القرن الخامس الهجريّ، لسبب سياسي، وهو اختيار المستعلي بن المستنصر الفاطمي بدلاً عن أخيه نزار بن المستنصر، المستحق لولاية العهد، الذي اعتقل فخرج مؤيدوه بقيادة حسن الصَّباح (ت: 518هج)، وكان أسلوبهم الاغتيال، فمِن أبرز المقتولين بخناجرهم الوزير السلجوقي نظام الملك (485 هج)، والخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله (524 هج)، ومحاولة اغتيال السُّلطان صلاح الدين الأيوبي (569 هج) بحلب.

مثلما كان النّزاريَّة يمارسون العنف تحت تأثير المخدر، كذلك نُقل عن الجماعات الإرهابية الانتحاريين اليوم تعاطي المخدر في عملياتها، فالإقدام على قتل النفس والغير، مِن أجل دخول الجنة، يتطلب تغييب العقل. كانت تجربة «النّزاريّة» مريرة، للذين قتلوا بخناجرهم، وللمقتولين منهم، ففي وقائع كثيرة قدموا أنفسهم كانتحاريين، فكانوا يعرضون أنفسهم للقتل عند تنفيذ الاغتيال، «يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينياً».

صحيح، أنَّ المغول قدموا إلى العالم الإسلامي، حتى اجتاحوا بغداد(656 هج)، بسبب قلاع الحشاشين، وأبرزها«قعلة ألموت» بقزوين، لكن قبل هذا بثلاثة عقود، مالوا بالعراق إلى نبذ العنف مثلما تقدم. إنَّ الأسباب الموجبة لمراجعة النَّزاريَّة لأنفسهم أنَّهم طوال مئة عام ظل ملكهم محصوراً في القلاع، ولم يتمكنوا الانتصار على أحدٍ، وتأسيس دولة، ناهيك عن أنَّ الخلافة الفاطميَّة الإسماعيلية بمصر قد سقطت(566 هج).

أمَّا عن النّصرة أو«هيئة تحرير الشَّام»، فإنّها تسلمت الأمر بسوريا، بمفاجأة لم تحسب حسابها، وهي على فكرها وأسلوبها السابق لم تتمكن مِن الاستمرار، عليها التمييز بين السلطة والبناء، والمعارضة والهدم، وهجر الماضي تماماً، فسوريا ليست أفغانستان، كي يؤخذ بنموذج «طالبان»، وإذا أرادت العمران، وتسجيل بادرة مختلفة عن تاريخها، تأخذ بنموذج النّزاريَّة، عندما تحولت إلى الثقافة والعمران.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

ـ هل الغرب الحديث توهمية ترقى لمستوى الجريمه ضد الانسانيه؟

لم يمر على البشرية في تاريخها طور من التوهمية العظمى، وما يتعدى الاكذوبة الى الجريمه المفهومية كما عليه الحال بما خص الغرب الحديث، اي اوربا الالية منذ ان انتقلت الى الصناعه وحظيت بمكسب غير محسوب ولا متخيل من تسارع الديناميات المجتمعية، ومن المنجز الشامل المتولد بفعل عوامل من خارج البنيه المجتمعية الغربية الازدواجية الطبقية، وقد غدت كما متعارف عليه برجوازية راسمالية. الانقلاب في الديناميات تسبب في احرازها حزمة من المنجزات في الميادين كافة، شملت الاساسيات المعرفية العلمية غير الممكن تقدير حجمها، او مكانتها الفعليه بالقياس الى اللحظة والى منطويات ماهو حاصل في الموضع الاوربي، وردة الفعل عليه وفقا لنمطيته كمجتمعية ارضوية هي الاعلى والارفع ديناميات اصلا ضمن صنفها، بحيث يمكن اجراء مقارنه بين نوع استقبال صنفها للانقلاب الالي بعد اليدوي، مقارنه بغيرها فيما لو افترضنا حصول الانقلابيه المشار اليها بين تضاعيفه، كأن نتخيل مجتمعية لادولة احادية تتحول الى الالة، او مجتمعات دولة احادية.

والحديث عن او اقتراح المقارنه الافتراضية المذكوره وارده بفعل كون المجتمعات كذلك، اي انها وجدت من ثلاثة انماط: اما مجتمعات دولة احادية، او مجتمعات لادوله احادية، او مجتمعات ازدواج ارضوي لاارضوي، ينبغي لاكتمال الصورة الافتراضية تذكره كاحتمالية، وقد تعدتها الاقدار، او الاشتراطات التاريخيه التفاعلية المادية ليقع ماقد وقع في موضع بعينه احادي دولة ارضوي، محكوم لنوع من الازدواجية الذاتيه الطبقية، لم تبدي هي بذاتها قدرة مناسبة تؤهلها للكشف عن الحقيقة الاليه، بالاخص في اللحظة الانقلابيه ساعة وقوعها، ماكان من شانه ان جعل الالة ومارافقها من متغيرات وشكل انقلابيه مجتمعية شامله تصورية وعمليه، مرهونا بها كشكل واحتمالية وحيده، من المفترض انتظار مساراتها والى اين متجهه، وماذا يتولد عنها كما هي، قبل ان نقرر اذا كانت الاله تتطلب نوعا اخر من التفاعل والاستهدافات ونوع التحولية، وان ماجرى حتى الان مجرد بداية.

هذا ومن المعلوم ان مثل هذا الميل او الاستعداد للتعامل مع الانقلابيه الاليه، لم تعرفه البشرية ككل، لافي حينه ولا بعد ذلك حتى الساعه، فعومل الحاصل على انه قدر نهائي، برغم ماقد واكبه وماكان ملازما له من مظاهر احتدامية شامله وتصارعيه قاسية تدميرية، تصل حد الجريمه ومايمكن تسميته "الجريمه الوحشية" بما ان الوسائل التي صارت متاحه للاستعمال الاجرامي، لم تعد مثلها ايام غلبة اليدوية، حين كان مما يتعدى الخيال حدث مثل القاء قنبلة هيروشيا بلا دواع حربيه فعلية، او افناء اكثر من ستين مليون انسان في ارضهم واقتلاعهم وازالتهم من الوجود كما حصل في امريكا، هذا عدا عن حربين عالميتين تسببت بمايقارب ال 70 مليون قتيل عدا الدمار الرهيب والماسي العصية على الوصف، ذلك في حين ان اوربا تتمتع بما يعرف ب"الدولة الامة" نموذجا، وبالديمقراطية الليبراليه التي لاتمنع الدولة الديمقراطية من استعمار غيرها والعالم برمته، والدوس على سيادته، واخضاعه بالقوة، ونهب خيراته واشاعة حال من الاحتراب التحرري على مستوى المعمورة، دون ان يمنع ذلك الدولة المدنيه المثال، دولة "المواطنه" من ان تكون هي النموذج والمطمح، في حين لم يخطر على بال المنتقلين الى الاله كسر الكيانيه والدولة اليدويتان، لصالح نموذج متعد للكيانيه، من لادولة كونيه صارت واجبه.

لم يجد الغرب المتقدم والديمقراطي من بين مهامه ان ينهي مبدا الحروب التي هي من متبقيات الكيانيه "الوطنيه" المحلوية مع كل ادعاءاته التقدمية، او ان يضعها ضمن جدول اعماله كمهمه للانجازهي ومابعد (الدولة / الامه)، والانكى انه قد طور وسائل التدمير والقتل لدرجه احتمالية الافناء، فلم يضع امتلاك السلاح النووي وحيازته ضمن قائمه الجريمه ضد الانسانيه، حتى اننا صرنا نسمع مؤخرا بمناسبة الحرب الروسية الاوكراينه بعض التهديدات التي قد تاخذ الكوكب الارضي الى النهايه، هذا اذا لم تحتسب المليارات الموظفه في الاليات الحربية والذخائر والجيوش بالملايين، والبوارج والطائرات على مدى الكوكب ضمن سباق لايتوقف، دليلا على البدائية التغلبيه.

ومع هذا ورغمه لم يسقط من الاعتبار موقع الغرب "الليبرالي" باعتباره "الانموذج"، بالمقابل لم يصل الكائن البشري لحد الصحو والانتباه الى موقعه من اجمالي العالم المسيطر نموذجا وتفكرا، ومع ان ماعرف خلال القرن الماضي من قطبيه احد اطرافها اتخذ من معاداة وفضح مثالب وجرائم وعلل الغرب "الامبريالي" منهجا ومهمه، مع انه لم يكن ليخرج هو نفسه من الدائرة ذاتها المكرسة للانقلاب الالي الغربي عموما باعتباره كما حاصل، العتبه الافضل، مايضع خلافه مع الطرف الراسمالي جزئيا وصراعيا محدودا بحدود التنافس على حق التمثيل، لا الذهاب الى الاحتمالية او الامكانيه مابعد تلك المتحققة راهنا.

ثمه سبب موضوعي يمكن قبوله من منطلق مالايمكن ادراكه قبل الاوان، مع حدود مامتاح من الادراكيه العقلية، وضرورة الاخذ بالاعتبار كون بقية بلدان المعمورة تاخرت فلم تعرف الانتقالية الاليه ابتداء، وانها كانت وقتها ماتزال يدوية صرفه ادراكا، هذا وثمة لهذه الجهه مايمكن اعتباره من قبيل الممر الواحد، فالانقلابيه الالية لن تظهر مرة اخرى في مكان اخر غير الذي ظهرت فيه اول مره، مايعزز فكرة الاتباع والنزوع للحاق بالموضع الطليعي، هذا ومن غير الوارد ان نتصور احتمالية آلية اخرى من غير صنف او نوع الاولى المصنعية، وهو ماظل يشمل واقع الاله في طورها المصنعي، فلم يفكر احد وقتها باحتمال ان تنبثق الالة عن " التكنولوجيا". وحتى هذا النقص ليس هو كل مايمكن تخيله ولم يتخيل، كأن نعتقد بان الالة المتحورة تطابق اشتراطات مجتمعية اخرى، غير التي عرفناها كحالة مصنعية اوربيه منطلق اقرب لليدوية مع ماقد ترتب عليها على الصعد كافه.

بالامكان القول ان الالة حين توجد لاتعرف على مستوى الادراكية العقلية مايناسب منطواها، والحقيقة التي هي موجودة لكي تكرسها واقعا، وهذا ماكان حال اوربا وهي تتحول من اليدوية، ماجعل الالة توجد من دون منظور آلي مطابق ومواكب هو طورتاريخي مايزال في بدايته، ان لم يكن ماقد جرى اعتماده والتوصل اليه معاكسا ومخالفا للواقع تصورا وفعلا، وكاننا مررنا بطور من الالية يواكبه منظور ومفاهيم واجمالي ممارسة يدوية. ان نظرية مثل التي توصل لها ماركس هي من دون ادنى شك نتاج الالية المصنعية البرجوازية مع ماقد ولدته من حدة الاستقطاب الطبقي الاصطراعي، وبلوغه مستويات غاية في الاحتدام، ممالم يكن واردا في حينه تصور كونه مجرد مرحله منقضية هي والشروط التي تقف وراءها، وهو ماينطبق على اجمالي الرؤى والتصورات المعدودة ضمن سلة الافكار والتصورات المنبثقه في حينه.

لم تعد اشتراطات الانتقال الالي المصنعية الاولية حاضرة اليوم، بينما جرى الانتقال الى " التكنولوجيا الانتاجية" ومعها تصدر"دولة الفكرة" الامريكية المولودة خارج رحم التاريخ ومعها التازم الكيانوي، والنمطية بلا تاريخ تفاعلي مجتمعي، مع العولمة، وتصدرها عالم الانتاجية الراسمالية ومعسكرها الالي، ماصار يوجب بالاحرى نمطا ونوعا آخر مختلفا من التصورات والرؤى والنموذجية المجتمعية وتنظيمها، والاهم البحث عن المجتمعية المتطابقه مع اشتراطات الانتقالية في طورها الثاني قبل الثالث، حيث "التكنولوجيا العليا" العقلية مابعد الجسدية الارضوية، ومقتضيات اكتمال اسباب الانتقالية الاليه بصيغتها الاكمل.

يتبع ملحق/ العراق يعود مركزا للتحوليه الكونيه.

***

  عبد الامير الركابي

"لا مدنية طبقية.. ولا قطبية تجترح خطيئة المنبوذين"

قد تتنحى القراءة الكلاسيكية لأحداث نشوء القطبية الثنائية في العالم، ما بعد الحرب العالمية الثانية، بتراجع نفوذ القوى الأوربية الكولونيالية الممثلة في بريطانيا وفرنسا، إلى تصاعد نفوذ قوتين جديدتين متعارضتين من حيث النظام السياسي والاقتصادي، رغم تحالفهما المؤقت خلال الحرب العالمية الثانية ضد النازية والأنظمة الديكتاتورية وهما الاتحاد السوفييتي الشيوعي والداعم للمد الشيوعي في العالم، والولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية والتي تسعى إلى محاولة إيقاف المد الشيوعي، وتجلى هذا التوجه نحو الثنائية في التقسيم الرباعي لألمانيا بعد تحريرها من النازية إلى مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي الذي سيطر على القسم الشرقي، بينما اقتسمت الدول الرأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا) القسم الغربي فيما بينها، كما قسمت مدينة برلين بنفس الطريقة.

ولا حاجة إلى التذكير بتداعيات هذه القطبية، وارتداداتها بفعل المد الشيوعي السوفياتي في أوربا الشرقية، ورد الفعل الأمريكي من خلال مشروع مارشال، ثم نشوء ما يسمى بالحرب الباردة الأولى واشتعال أزماتها ما بين (1947 – 1953م)، فدخول العلاقات الدولية مرحلة التعايش السلمي من بداية الستينيات وإلى غاية 1979، وحتى بروز حرب باردة ثانية امتدت ما بين (1975- 1989م)، حيث ضلت "القطبية الثنائية" أو "النظام الدولي الجديد"، مكرسا لجانب سوسيواقتصادي وتكنولوجيـ سيبراني واسع، يحاكي طيف طريقة تشكيل مجلس الأمن ومنظومته القائمة على القوة والسيطرة للدول العظمى، واستعارة ملقط "الفيتو" لتحطيم كوة الضوء العالقة بين العوالم السابحة في ذرى الكرة الأرضية.

لا تحجب هذه السيرورة المتقاطعة، حقيقة المتغيرات الجديدة التي طفت إلى السطح بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وصعود قوى صناعية وعسكرية جديدة، تشابكت أنظمتها الدولياتية مع مفرش الألجمة التي عبأتها دول الأقطاب التقليدية، لتكون محملا لإحدى أثقالها في القارات الممتدة عبر الأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية والاتباعية الثقافية. فصارت القطبية الموازية امتدادا قائم الذات في المتعدد، وانبثق عن انفراط عقد التباين بين الأقطاب، اصطدام ثقافات وطفرات في اجتراح "الهويات" القائمة على القومية أو الوحدة الوطنية للشعوب والأمم، كما الملل والنحل.

وكما لا يستسيغ عقل المتلقي، أن يستدرج المذاهب السياسية ومثيلاتها في علم الاجتماع السياسي والأنثروبولوجي، مفاهيم التصادي مع "القطبية" أو "المحاور"، وانصرافاتها في المدلول الاقتصادي والسياسي والعسكري، إلى ما يؤول "وحدة المصالح" والارتهانات الجيواستراتيجية، في قيم العمل السياسي والديبلوماسي، فإن من مساوئ التفكير المحرف لفلسفة الحق والأخلاق، أن ينبري منظرو الحروب الجديدة، ومشرعو منجل القهر والاستعباد، لضرب المفهوم القاعدي للقطبية نفسها، مستردين بذلك، بعضا من المجد الضائع لأحد الأقطاب النافقة.

من سوء علامات الانحراف الأخلاقي والمعرفي للفلاسفة الغربيين، بروز تيار ألكسندر دوغين، المفكر الروسي، الذي تنبأ بسقوط "التيار القطبي الواحد" بعد طوفان الأقصى، وعودة دائرة الصراع تحت سماء القطبيات المتعددة.

دوغين مارس خلال سقوط بشار الأسد، حليف الدب الروسي، قفزا متجاورا مع الانتقائية السياسية واللعب على الحبال. فبينما يزعم أن التعددية القطبية آخذة في تجميع القوة، حيث نزعة الهيمنة للغرب آخذة في التراجع، يتحول عن قصدية متعالية، إلى ما يشبه المناوئ اللدود للأعمال العدائية الناتجة عن حرب ميدانية مدمرة.

ولا عجب، فالنعرة السوفياتية في أوصال نظريات دوغين بدت وكأنها تستفيق من سباتها، لتجابه مدرج الصعود المخيف للقطبيات، وانفلات أو انهيار الخطوط الحمراء من قائمة المواجهة. وهو ما ينجلي واضحا في الصراع المحموم الذي يعتور ملف الغزو الروسي لأوكرانيا، ودخول الناتو كطرف حاسم في النزاع؟.

دوغين يعري عن حقيقة فشل روسيا الذريع في الحفاظ على توازناته الاستراتيجية بسوريا، ويبكي مآل الجهود التي قادتها بلاده طيلة حقبة ونيف. يقول في حوار مع إذاعة "سبوتنيك":" من المحزن أن جهودنا تحولت إلى لا شيء في بضع أيام. يجي علينا أن نحتسب الألم كمجزئ من واقعنا لنظل قادرين على التعاطف".

بل إن وحش الإضمار ينبري صياحا في وهدة الفلسفة المطمورة، ليكشف عن الحلم الحقيقي لسلطة المثقف الوظيفي. وهو إذ لا يخبأ لحيته الشيوعية، بعيدا عن حيارى الوازع الأخلاقي والقيمي المجرد، فإنه يستبصر مآلات الوجود الحتمي للقوة، كمصير وكمقود لتحديات ما بعد النظام العالمي الواحد.

ومن ثمة لا يجد دوغين مناصا من تحديد هذه الرؤية القومية الحاسمة، والتي جسدها في محاضرة أخيرة له حول النظام العالمي الجديد والتحولات الكبرى في العلاقات الدولية، في ألقاها خلال مؤتمر “اللا يقين الدولي 2025”، في التاسع من دجنبر الحالي، بمعهد موسكو للعلاقات الدولية، حيث يذهب فيها إلى أن التحديات التي تواجه الانتقال من أحادية القطب إلى تعددية الأقطاب، لا تقتصر فقط على الدول الكبرى مثل روسيا والصين والهند، بل تشمل أيضًا حضارات أخرى مثل الإسلامية والأفريقية واللاتينية التي لم تندمج بشكل كامل بعد في هذا النظام.

 ويقول دوغين، إن التحديات العميقة التي يطرحها وجود “الحدود” أو الجبهات بين هذه الحضارات، حيث تتداخل الثقافات والدول في مناطق غير واضحة المعالم، ستزيد من تعقيد عملية التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، محتملا وجود مستويات متعددة من عدم اليقين التي تشوش فهم الوضع العالمي الراهن، ومتسائلا: "هل نحن بالفعل في عالم متعدد الأقطاب، أم أننا ما زلنا في مرحلة الأحادية القطبية؟"

ما يثير الاهتمام، أن تعتم مفاهيمية "القطب" واستتباعاته في فكر دوغين، فهو يعتبر الأمر مرتابا ومتدحرجا إلى ما يشبه الضبابية. لكن بإزاء ذلك، يطرح شرطية السيادة والهوية السياسية أو ما يصطلح عليه بـ "الدولة-الحضارة"، كمنفذ لتشريح المفهوم القطبي، وأبعاده السيوسيولوجية والتداولية.

يبقى أن الكسندر دوغين عقلا فلسفيا بقطعيات سياسية، ينزاح إلى فورة تدليلية معاصرة، تخالف جوهر الاستعارة الأفلاطونية النموذجية، والتي وردت تفاصيلها في محاورة الجمهورية لأفلاطون، حيث ترتقي تعبيرات ثاوية في التضاد بين السياسة والفلسفة من خلال ثنائية "الكهف المظلم"، حيث توجد الإرادات مكبّلة بالآراء والمعتقدات، كناية عن السياسة، و"النور" الذي تنكشف في ضيائه الحقائق المطلقة متحرِّرة من قيد الآراء والظنون والمعتقدات، والذي رَمزَ به للفلسفة المتعالية عن السياسة.

 نتيجة لذلك، طفقت المدينة الأفلاطونية (الدولة) لتهاجم الفلاسفة وتضايقهم لأنهم يستخفون بآرائها واعتقاداتها، حيث ترمز إلى الإيمان الخالص بالتمدن والتسامح والأخلاق البينية.

أليس الغاية من السياسة هي حفظ نظام الآراء والعقائد والمؤسسات، من أجل الإيمان باستمرار المدينة أو الدولة، ضمن صراع مسموح به في إطار الحدود والقوانين والضوابط المقبولة من لدن الجميع، بينما غاية الفلسفة، في أصيل وجودها وتواجدها، هي خلخلة هذا النظام بالتشكيك في أصوله توطئة لتقديم بديل أو بدائل أفضل منه.

***

د مصطفى غَلمان

بين السياسة والإعلام سجال قائم وجدال جاري ولعبة شد ومد لا تنتهي أحابيلها أبدا.. في السياسة من الكلام ما هو لمسة بسيطة يمكنها إزاحة الغبار عن ما يؤرق النفس ويجرح الوجدان، وفي الإعلام ليس هناك ما هو أنجع من الإرادة من أجل الاستمرار وما هو أجدى من قوة الإيمان للتخلص من متاعب المهنة وآهات المتابعات، كلاهما يدّعي امتلاك الحقيقة، كلاهما في سباق محموم لامتلاك ناصية تسويق الأفكار لتشكيل الرأي العام وتحريكه وصولا إلى توجيه السلوك نحو التأثير في اتجاهات دوائر النفود ومراكز صنع القرار، ومع كل ذلك لا غنى لأي منهما عن الآخر.

***

السياسة مادة دسمة لوسائل الإعلام، فهي منجم الأخبار، والأوساط السياسية النشطة هي مصادر معلومات تغري بالتقرب منها والتودد إليها، ففيها يجد رجال الإعلام ضالتهم للانطلاق في توسع النشر وعرض الأفكار وتبادل الآراء، ونشر التعليقات والاجتهادات الصائبة أحيانا، والمضللة أحيانا أخرى في استعراض وتحليل المعلومات، إنه مناخ الحق لازدهار العمل الإعلامي، ولكن قد يحدث أن تنفلت الأمور وتنحرف نحو عملية تراشق لفظي متبادل بالنقد والانتقاد الجارح بين مؤيدين ومعارضين وصولا إلى كيل الاتهامات، فالسياسة منطق يخضع دائما لسلطان المصلحة، وتناقض المصالح يخلق أزمة ثقة، وهذه تؤثر سلبا في العلاقات.. والحقيقة أن المشهد كله سيتحمل عبأه مؤسسات العمل الإعلامي كمنابر للسياسيين وأبواق لخصومهم المعارضين.

وبقدر طواعية وسائل الإعلام للدوائر السياسية الفاعلة والمؤثرة بقدر ما تنال الرضا السياسي الذي معه وبه تُفتح الأبواب الموصدة وتّحل مغاليق الأمور، فالسياسيون يدركون جيدا أن حاجة أي وسيلة إعلامية في الدنيا تتمثل أساسا في الخبر الحصري "سكووب" أي يكون على سبيل الانفراد والسبق المتميز، كذلك في حاجتها الماسة للدعم المالي المنتظم الذي يحقق لها المزيد من التوسع والانتشار كسيل من الاعلانات مثلا  لا ينقطع، وهذان هما من أوراق الضغط المهمة والمؤثرة جدا في نشاط الصحف والقنوات التلفزيونية سواء الحكومية أو الخاصة لارتباطهما بضمان استمرار وجودهما، وعلى ذلك يُفهم أن الغاية المستهدفة بالنسبة للإعلام هي تحقيق السبق في كشف المستور عن ما خفي في دهاليز السلطة وأركان نظامها وزواياه المظلمة، وهذا ما يُسمى بالإنجاز، وسيكون الأمر نفسه هو مصدر سعادة خصوم السلطة ومعارضيها، ولا يهم هنا كثيرا إن كانت تلك النهايات من صلب إرادة الإعلام أو ان وساطة سياسية ساقته إليها عن عمد، فهناك من يدفعهم شغف التميز إلى اتباع كل السبل ولو كانت بعيدة عن التحفظ .

الإعلام حقل ألغام مضاد للبشر والشجر والحجر، لا صديق يمكن دوما أن يأتمنه، ولا حليف صادق يتبعه، كما لا عدو دائم يترصده، الإعلام خبر يعتبر تأكيده إثباتا أو نفيا مسؤولية، ويُعد تبليغه وإيصاله أمانة، وقراءته ثقة، وعلى قدر خطورته تُقدّر السلطة مدى ما يمكنها أن تروضه وفق ما تعلمه إلى حين . فالإعلام يبقى سبيلها لجموع المواطنين وعموم الشعب لنشر توجهاتها والترويج لمشاريعها السياسية وللمساهمة في إنجاح الحشد الجماهيري للانتصار للقضايا الوطنية، إن الإعلام بالنسبة للسلطة أو لقوى سياسية معينة هو وسيلة إثبات موقف فقط، فهو لا يملك في الحقيقة قدرة التأثير في مجريات الأحداث، ونجد كذلك الاعتراض وهو موقف سياسي يمثل عقبة أمام تمرير مبادرة أو لائحة أو مشروع سياسي، ويكون حائلا في بداية طريق التفكير لوضعه موضع التنفيذ، وقد يُخفي وراءه حرصا على عدم تضرر مصلحة معينة بسببه أو إن شئنا أن نضعه في مكانة أعلى سموا فإنه يجوز الاعتراض على قرار يكرس هيمنة استعمارية أو مسعى يهدد السلم والأمن مثلا، ويلاحظ أن الاعتراض يكون في مرحلة الدراسة والنقاش، وعندما نتحدث عن المرحلة العملية فسنواجه موقفا يتميز بأنه أكثر تفصيلا ووضوحا ويتمثل في الرفض وهو يتجاوز في مضمونه ومعناه المداولات داخل قاعات الجلسات حيث سيتعلق بعدم التجاوب النهائي مع أي التزامات ستترتب لتنفيذ قرار سياسي ما، كما لا يمكن انتظار أن يستشعر أصحاب هذا الموقف أي واجب من أجل المشاركة في النهوض بمسؤوليات محددة مرتبطة بما سبق الإعلان عن الاعتراض عليه سواء كانت ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو عسكري، ومثل ذلك الاعلان عن رفض السماح بشن اعتداءات مسلحة لقوات أجنبية انطلاقا من الأراضي الوطنية ضد دولة أخرى، أو السماح بفتح المجال الجوي لمرور اسراب طائرات صديقة للإغارة على دولة أخرى مجاورة، أو الموافقة على تقديم معونات لوجستية لقوات صديقة، وقد يتطور رد الفعل السياسي إلى حد التنديد الذي ينصرف إلى إعلان موقف عدائي صريح من   طرف أو أطراف اتخذت موقفا سياسيا معينا تصل انعكاساته إلى حد التهديد بمخاطر جمة على حالة السلم والأمن أو المساس بالاستقرار في منطقة معينة، ومثل هذا الموقف يلامس حدود الاستنكار أيضا ومعه يمكن توقع ردود فعل ذات طابع مناهض، مثل عدم التردد في الموافقة على قرارات بفرض عقوبات دولية قد تأخذ أشكالا عقابية أو ردعية وبعضها كما يحدثنا التاريخ السياسي المعاصر كانت ذات طابع انتقامي.

 يحدث في إطار المناورات السياسية أن تطلق السلطة أو أحد الأطراف السياسية ما يطلق عليه " بالونات اختبار" وتتمثل في تسريب أخبار غير مكتملة وبطريقة غير رسمية عبر وسائل إعلام غير حكومية تتعلق بمشروع أو مبادرة سياسية تتضمن شعرة من حقيقة تبرر تسريبها وسط معلومات مضللة، والهدف منها معرفة رد الفعل السياسي أو الحزبي والنقابي.. والشعبي تجاه ما تضمنته الأخبار، ثم قياس الرأي العام منها والحقيقة أنها حيلة تستبق بها السلطات معرفة رد الفعل تجاه الحدث الحقيقي لو أنه تم إعلانه بأبعاده وجوانبه الكاملة بإطلاق ما يمكن أن يثير الاهتمام حوله، وفي مثل هذه الحالة يبرز رد الفعل قبل حدوث الفعل الأساسي، والحقيقة أن مثل هذه الأمور ليست بخافية عن الطبقة السياسية الخبيرة بشؤون الحكم والتي سرعان ما ستدرك بحكم التجربة العملية الطويلة أبعاد الحيلة، لذلك فإنها بعد عملية تقييم سريعة ستعمد إلى إحدى الطريقتين : إما أن تعلن ترحيبها بما تناهى إلى علمها وتدفع نحو الترويج الإعلامي له وفي هذا تشجيع للسلطة للمضي قدما ودون إبطاء للشروع فيما أرادته، أو أن تناهضه بشكل عنيف يحمل ما يحمل من تجاوزات سيبررها غياب الطابع الرسمي للخبر مما يدخله في تصورها في إطار الإشاعة الصحفية المغرضة التي ترفع عن أصحاب المواقف المناهضة ومعارضي السلطة الحرج أمام السلطات، وتأخذ المناهضة طابعا يوحي على الاعتقاد بتعمد إظهار شيء من الصرامة في الرفض التي تقطع الطريق أمام مروجي هذه الأخبار لعدم العودة إليها مستقبلا .

كثير ما يحدث أن يكون للفاصل الزمني بين حدوث الفعل ورد الفعل تأثيره على العلاقة بين طرفيها، بمعنى أن قصر المدة الزمنية بينهما أو طولها يمكن قراءته سياسيا على أمرين : فالفورية في رد الفعل يمكن افتراض أنها من قبيل الدراية المسبقة بطبيعة الفعل حيث يكون قد تمت  دراسته الجادة والشاملة وتقييم أبعاده بعمق وبالتالي كان الجواب جاهزا سواء بالتأييد الذي لا يستبعد  معه وجود اتصالات مسبقة من باب تنسيق المواقف، أو بالرفض الذي قد يخفي مصلحة ستتضرر أو نفع سيعود على الآخر، كما أن بعض ردود الفعل قد تتمهل في الإعلان عن طبيعتها وذلك عندما تفضل بعض الأطراف السياسية التريث في إبداء موقفها  بصراحة لحرج تستشعره تجاه أحد الأطراف، أو لحساسية الموضوع ذاته، وغالبا ما يُفقد التريث الأكثر من اللازم في اتخاذ المواقف السياسية الصريحة والشجاعة الكثير من المكانة السياسية للطرف المتريث ويضعف من وزنه الدولي حيث سينظر إليه على أن تردده يستهلك قدرته ليكون طرفا فاعلا وأساسيا في العلاقات السياسية الدولية وبالتالي يفقد شيئا فشيئا من اعتباره .

غالبا ما تأخذ الأفعال السياسية على المستوى الدولي شكل بيانات، ولوائح، وتوجيهات أو نداءات موجهة بين طرفي علاقة أو أكثر، وهي إما أن تكون معلنة كتابيا في صيغة أوامر أو قرارات من أعلى هرم السلطة في بلد ما، أو من أعلى مجلس في المنظمات العالمية، ويتم الرد عليها بالإيجاب أو بالسلب، بالموافقة أو الرفض أو بالمعارضة والتحفظ .. عن طريق الأشكال نفسها وبالصيغ المذكورة، وقد تكون وسيلة التبليغ مباشرة بالطرق الدبلوماسية المعروفة، أي عن طريق القنوات الرسمية والسفارات المعتمدة، أو في صورة خطابات بين المسؤولين النظراء في كل دولة، أو في صورة مذكرات وتعميمات، أي تلك الكتابات الموجهة لجميع الأطراف، فيما يمكن أن تكون أيضا غير مباشرة عن طريق التصريحات الصحفية لوسائل الإعلام  المختلفة التي ترمي في الغالب إلى توضيح أولي للمواقف، أو أن تكون معلنة شفهيا عن طريق توجيه خطاب جماهيري للإعلان عن قرار مهم  نابع من إرادة الشعب يتم حشد جمع غفير من المواطنين المتحمسين خصيصا لذلك .

إن الفعل مهما كانت طبيعته إذا لم يترك أثرا فلم يحرك ساكنا أ ولم يسكن متحركا سيكون عديم الجدوى ولا طائل منه لأنه لم يحدث تأثيره في مجريات الأحداث سواء بالتعديل أو بالتغيير الكلي أو الجزئي ففقد دوره كمؤثر، أي أنه لم يحدث رد الفعل الذي يكسب العلاقات الحركية المطلوبة والحيوية المنشودة والتواصل المأمول، وفي المقابل لن يكون بإمكاننا ترقب رد فعل ما تجاه لا شيء، فلا دافع يجعلنا ننتظر نتيجة ما دون أن تتوفر أسباب وقوع الفعل، على أن ثمة ما تكتسبه بعض الأفعال من أهمية بالغة ومع ذلك يحجم البعض عن إبداء أي رد تجاهها، وهذا في الحقيقة تغييب عمدي أو قصري لدور كان يمكن أن يمنح الصامتين عن التعبير مكانة لائقة فليس دائما في الصمت حكمة  أو بلاغة، ولذلك فالفعل ورد الفعل مهما كان مجالهما سياسيا أو اقتصاديا، اجتماعيا او ثقافيا هما الحدثان المعبران عن حقيقة وقوع الاتصال وعن طبيعة حدوث التواصل بين الأفراد والأمم .

*** 

صبحة بغورة

 

  وجد الشرق الاوسط كمبتدأ واول  تبلور مجتمعي خضع لاحقا للمروية "الحضارية"، مرهونا  لطبيعته النهرية الثنائية: الاحادية النيلية، والثنائية الرافدينيه، الامر الذي لم يكن على الاطلاق من باب الصدفه، فالعلاقة الزراعية/ الانتاجية بالانهر، وبنوع من الانهار والمناخ، تحضر هنا كعامل مسرع للتبلورية المجتمعية الابتدائية على مدى التشكل المجتمعي اليدوي عبر الاف السنين من  التفاعلية البشرية البيئية، الاهم فيها ليس مجرد وضع الاسس والمرتكزات التي عليها تقوم الحياة وتنظيمها، من دون منطويات فعالية كونية متعدية للمرحلية، بل  بالاساس ماتنطوي عليه كينونة كظاهرة تبلور ذاهبة في اخر المطاف الى مايتعدى الارضوية الجسدية، الى العقلية، وهو مالاتتوفر اسبابه ومرتكزات تحققه في غير هذا الجزء من المعمورة،  بغض النظر عن الادوار التفاعلية الضرورية التي تضطلع بها مجتمعات اخرى غير نهرية .

  ونحن نقف هنا بالذات  امام مسالة جوهر تتعلق بالادراكية البشرية للظاهرة المجتمعية بصيغتها البيئية البشرية اللاحقة على طور  الصيد واللقاط، فما حدث عند التبلورات الاولى الافتتاحية النهرية المشار اليها ليس مجرد (تجمع + انتاج الغذاء) كما تكرس القصورية العقلية الصادرة عن مجتمعات ادنى كينونة، ومنها الاوربية الحديثة الالية  مابعد اليدوية، فالمجتمعات المتبلورة ابتداء، هي بالأحرى (تجمع + انتاج الغذاء) ضمن اشتراطات التحولية الى ما بعدها، واذ تكون الفعالية النهرية مقررة لشكل المجتمعية وكيانيتها النيلية الكيانوية الوطنية المحمية طبيعيا من الغزو البراني من الجهات الاربعه، والمتوافقه انتاجيا مع العمود الفقري الانتاجي  النهري، النيل الموافق للدورة الزراعية، والذي يفيض موافقا للايقاعية الانتاجية، فانها تنتج نمطية هي مجتمعية دولة احادية، المجتمع فيها يتجلى في الدولة والفرعون الاله، والكيانيه "الوطنية" المحصورة دينامياتها في ذاتها، مقابل ارض مابين النهرين المولودة انتاجيا ضمن اشتراطات مجافية كليا على الصعيدين، فلا حمائية طبيعية صحراوية او غيرها، بل على العكس  بمواجهة مصب مفتوح  لايتوقف للسلالات البشرية باتجاه ارض الخصب من الشرق والشمال والغرب، من الصحارى والجبال الجرداء، مع مجافاة كلية للنهرين المدمرين العاتيين الذين يفيضان عكس الدورة الزراعيه، مايجعل من العملية الانتاجية اصطراعية على حافة الفناء، الطور الاول منها يفضي الى قيام مجتمعية فوق ارضوية،  نوع مواجهتها البيئية  تحول دون تعرفها على اشكال التمايزيه الارضية المادية والسلطوية، نازعه الى التحقق السماوي كعنصر مساعد على مواجهة الظروف المجافية، تكتمل خواصها وكينونتها بما يجعل من الحرية النمطية مساوية للوجود ابتداء، ليبدا الشكل الثاني من الاصطراعية الافنائية، مع نزول الارضويات الهابطة من الجهات الثلاث وتوجهها لبسط سلطتها وهيمنتها على المجتمعية اللاارضوية، مايؤجج من حينه اصطراعية لاتوقف لها، يتعذر معها تحقق مطمح الارضوية من اعلى، بسبب الطبيعة الراسخه اللاارضوية، ورفضها القاطع لماهو بالاحرى فناء لها تريد  الارضوية الادنى منها كينونه فرضه بلا نجاح، ماينتهي  لغلبة القانون المقرر للبقاء بوسائل، وعن طريق اجراءت تعزز الثنائية والازدواج، باقامة "دول مدن امبراطورية" على الحواف العليا  لموضع اللاارضوية، منفصله عمليا عن المجتمع اسفلها، ومحصنه أعلى تحصين ممكن،  الى ان يتولد  الانكفاء الى الخلف "امبراطوريا" تعويضا عما  هو غير متاح بالعلاقة بالاسفل  وقوة حكم الديناميات، الاصطراعية الثنائية المسرعه للاليات المجتمعية لاقصى حد بين الكيانيتين، في كيانيه موحده ليست واحده، السفلى اللاارضوية غير المعلنه، وتلك الاعلى الارضوية بماهي عليه من مواصفات حيازية سلطوية كيانيوية ضمن نمطية مافوق كيانيه / كونيه.

 وليس هذا الحال او الواقع البدئي الاستثنائي، على رغم  العجز دون ادراكه والاحاطة به، بالظاهرة العرضية او العادية، بقدر ماهي تشكلية اساس من صلب الكينونه المجتمعية وماتنطوي عليه،  وما هي موجوده لكي تصله وتبلغ  مشارفه لاارضويا، فالمجتمعات منذ ان تتبلور تكون مقدر لها ان تنتقل الى مايتعدى الارضوية ويغادرها، علما بان مثل هذا المآل المستقبلي يظل مطويا وغير ملاحظ، فضلا عن الادراك، بسبب قصورية العقل البشري ازاء الظاهرة المجتمعية، بحكم انه مايزال تحت وطاة وحدود وثبته الاولى مابعد الحيوانيه، عندما حضر العقل الذي كان منطويا خلال ملايين السنين،  تحت طائلة الغلبه الجسدية الحيوانيه الكاسحه، ابان الوقوف على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، وهي لحظة فاصلة ضمن الانتقال العقلي،  ليست مكتمله ولا هي بالنهائية كما يجري تصويرها  لنفس السبب الاول، اي اجمالي القصورية العقلية، في وقت يظل العقل في حال من التفاعل ضمن المجتمعية لحين تحقق وثبته الثانيه، والقفزة التي بموجبها يتمكن من اكتشاف الحقيقة المجتمعية الازدواجية، وبالاساس اللاارضوية وماتشير وتدل عليه من انتقالية، من الارضوية  الجسدية الحاجاتيه الى العقلية، اي الى زوال المجتمعية بصيغتها الارضية الحالية، وبدء العقلية الانتقالية  الى خارج الكوكب الارضي، بما يجعل الظاهرة المجتمعية المعاشة تعريفا، ظاهرة عقلية مؤجلة.

  خلال هذا الطور من تاريخ المجتمعية ومساراته وتعرجاته، لاتكون اللاارضوية غائبة، ومع ان الاشتراطات البدئية تكون بصالح الارضوية وغلبتها وهيمنتها النموذجية لعدم توفر اسباب تحقق اللاارضويه، الا ان هذه وعلى رغم صغر المساحة التي تتبلور ضمنها، لاتعدم الوسائل الضرورية للانتشار الكوني، والحضور الاختراقي داخل المجتمعية الارضوية، وهو مايتحقق بالتعبيرية اللاارضوية الحدسية النبوية الابراهيمه، المنطلقة من ارض سومر لتعم غالبية الكرة الارضية بصفتها اختراق للارضوية، يستمر وجودا مجتمعيا داخل المجتمعية الارضية، بصيغته الاولى الموافقه لاشتراطات التغلب الارضوي، الموافق لمامتاح من حدود الادراكية العقلية، الباقية غالبه وقتها، وهو ماتتكفل به الاصطراعية  الافنائية الازدواجية اللاكيانيه الرافدينيه في دورتها الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، في الزمن حيث تعذر التحقق المرهون من جهه الى الوسيلة الانتاجية العقلية مافوق اليدوية، مضافا لها  الوثبه العقلية الكبرى الثانيه، وهو ماينتظر الانقلاب الالي غير القابل للتحقق في ارض الاصطراع الازدواجي المجتمعي لاسباب بنيوية، من ابرزها كون الاصطراع هنا بين الطرفين ينتهي عادة، ومع بلوغه الذروة الى الانهيار الشامل،  وغلبه "الانقطاعية" (مابعد سقوط بابل الى بدء التبلور الثاني العباسي، ومابعد سقوط بغداد الى القرن السادس عشر مع بد الانبعاثية الثالثة الحالية) الامر الذي لن يحصل مع الاصطراعية الطبقية في المجتمعية الارضوية الاعلى دينامية، لانه اصطراع جزئي لاجزاء داخل المجتمعية الواحده، عكس الاول الحاصل بين نوعين مجتمعيين، مايستوجب في الحال الطبقية،  وفي الذروة الاصطراعية، ظهور عنصر وعامل ثالث  من خارج العملية الاصطراعية، وطرفيها، تنقلب معه الاليات المجتمعية والنوع المجتمعي نفسه، بعدما تتوقف التفاعلية (البيئة/ الكائن البشري) القائمه من الاساس وبداية تبلور المجتمعات اليدوية، لتحل محلها التفاعلية الثلاثية ( البيئة/ الكائن البشري / الالة ) ونغدو امام مجتمعية اخرى، تبدا من ساعتها بالظهور على انقاض المجتمعية الارضوية اليدوية المعروفه حتى الساعه.

  هذا الوضع من التراوح التاريخي للمجتمعية الازدواجية الاصطراعية، حكمها بقانون هو الاخر غير مكشوف عنه النقاب، هو قانون الدورات والانقطاعات، تعززه الاحتداميه الاصطراعية ومايواكبها من ارتفاع وتيرة الاليات المجتمعية، تلك التي تقف وراء  نوع ومدى عمق وشمول المنجز الوجودي المسمى "حضاري" الابتدائي في هذه النقطة من الكوكب الارضي، وهنا تكمن واحدة من الخاصيات الهامه غير المتعارف عليها بما خص علاقة المنجز المجتمعي البدئي عمقا وشمولا، باشتراطات الوجود البيئية، وهو ماقد لعبت فيه بنية الازدواج الاحتدامية الاصطراعية دورا محفزا ومؤججا، موقظا لحاسة الادراكيه والاكتشاف الشامل الذي حقق هنا، وفي الارض المحدودة المساحة، كل اوليات الممارسة الحياتية والافق التصوري باعلى ماممكن من الصيغ المتاحة ضمن اشتراطات اليدوية والغلبة الارضوية، بما فيها اعلاها ديناميه ضمن صنفها، تلك الطبقية منها.

  ـ يتبع ـ

***

عبدالاميرالركابي

 

تُنشئ السّياسة المذاهب عند اقترانها بالدِّين، لكنْ بتعاقب الزَّمن، تنسحب وتبقى العقيدة الدّينيَّة خالصة، وبين حين وآخر يُستغل المذهب مِن قبل السَّاسة المنتمين إليه، هذا ما حصل مع النُّصيريَّة بسوريّة، فقد نشأت في ذروة الخلاف على الإمامة، وتمددت إلى الشّام، ثم بدت أنّها الحاكمة، مِن مركزها «القرداحة» حيث اللاذقيَّة، لكنَّ الحقيقةَ أنَّ الطَّوائف لا تحكم، إنما تُستغل للحُكم.

انشقت النّصيريّة عن الإماميّة، لحظة وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكريّ (260 هـ) بسامراء، يومها افترقت الإماميَّة ثلاثاً: 1- الاثنا عشريَّة، القائلون بوجود وريث له اسمه محمَّد، فنادوا به مهدياً، وغاب ولم يره أحد، وكان عمره خمسة أعوام، وصاروا إلى السُّفراء الأربعة، الذين تولوا الاتصال بينه وبين الأتباع حتى غيبته الكبرى (329 هـ) إلى يومنا هذا، 2- جماعة التفوا حول أخيه جعفر وانتهوا بوفاته، وأشير إليه بالكذاب مِن قِبل القائلين بولدٍ للعسكري، 3- جماعة انتظموا وراء المدعي بنيابته محمّد بن نُصير النّميري (ت: 270 هـ)، وهؤلاء النّصيرية، وأشير إليهم بالنّميريَّة (الأشعري، مقالات الإسلاميين)، وحينها خرج آخرون مدعين النيابة، فعدوا كذابين (الطُّوسيّ، كتاب الغيبة).

تمددت النُّصيرية إلى الشّام، ولها وجود بحمص (الحموي، معجم البلدان)، وبسببِ الحروبِ والاضطهادات تحصنوا بالجبال، حيث الساحل السّوريّ، والقرداحة، مسقط رأس الحاكمين، من مراكزهم، فأنشأ لهم الفرنسيون دولة «جبال العلويين» (1920 - 1936)، غير أنها سنوات والتحموا بوطنهم السُّوري، ويدعون بفرض اسم النُّصيرية عليهم، وإلا اسمهم القديم العلويَّة (الطويل، تاريخ العلويين). يصعب أخذ التسمية الأخيرة بنظر الاعتبار، لأنّ العلويَّة نسبة عامة، وهم عرفوا بها مِن قِبل الفرنسيين.

أُخذت الطَّوائف بجرائر السُّلطات، عندما أشار الغرب إلى النِّظام العراقي السَّابق بالسُّنَّي، فالمتلقي يفهم الحكم كان سُنياً، مع أنَّ الغرب كان يتعامل مع معارضين سُنيين أيضاً. كذلك لا ننسى أنَّ أول رجل دين قُتل هو الشَّيخ عبدالعزيز البدري (1969) السُّنيّ، أي مِن مذهب الرَّئيس نفسه.

مَن يصل إلى السُّلطة يحاول الاِعتماد على الأقربين مِن أبناء طائفته، لكنْ ليس صحيحاً أنّ يُشار إلى حزب البعث العراقيّ أنَّه سُني، وحزب البعث السُّوريّ أنَّه نُصيريّ. هذا ليس كلاماً جاداً، ولا أدري كيف يمر على أهل الأكاديميات.

إنَّ خطورة هذا التَّأويل، يهتك المجتمع المتنوع، ويقود إلى ضغائن ضد طائفة كاملة، منها مَن صار ضحية للنِّظام، والشَّاهد أنَّ صلاح جديد النُّصيريّ مات مسجوناً (1993) بعد ثلاثة وعشرين سنةً مِن قِبل حاكم نُصيريّ.

أرى وجوب التَّحذير مِن هذه الثَّقافة، التي جعلت المواطن العِراقيّ السُّنَّي متهماً، بجريرة النِّظام السَّابق، بل وأخذت تُحسب عليه ممارسات القاعدة وأخواتها، وكأن ليس هناك مقاتل جماعية بالأنبار، وتكريت، وديالى، والموصل، وسامراء بعد أبريل (نيسان) 2003، وتصفيات لغير المرغوب فيهم، مِن قبل تلك الجماعات.

أرى الاحتراس مِن المزج العشوائي، بين الطَّوائف والأنظمة، التي تُقاد مِن قِبل المنتسبين إليها، الشَّيء نفسه جرى بالعراق، بعد (2003)، أُخذ يُشار إلى الشِّيعة بأنَّها الحاكمة، بينما الأمر ليس كذلك، فالمئات من الشِّيعة قتلتهم جماعات شيعيَّة، فلا تؤخذ النّصيرية بجريرة الحُكم، كون الحاكم نُصيريّاً.

بدأت النُّصيريَّة مِن سامراء وانتهت بقرداحة، غلبت عليها التقاليد الصُّوفية، مع محاولات العودة إلى الاثني عشرية في عباداتها ومعاملاتها (الخَيْر، عقيدتنا وواقعنا)، لكنّ هذه العودة تصطدم بألف عام مِن رسوخ عقائد وتقاليد، حاولت مرجعيات شيعية تجاوزها ولم تستطع، فالمرجعيات المذكورة تعتبر مؤسس النّصيريَّة كذاباً. لذا، عاد الطَّلبة النُّصيريون الذين وصلوا النّجف للدراسة في حوزتها، خلال الأربعينيات، دون طائل (شمس الدِّين، العلويون في سوريا/ 1956).

هذا ولا أظن مَن سبق أو عَقب أبي العلاء المعريّ (ت: 449 هـ)، في تلخيص استغلال السَّياسة للطوائف، في قوله: «إنَّما هذه المَذاهبُ أسبابٌ/ لجذبٍ الدُّنيا إلى الرّؤساء» (لزوم ما لا يلزم).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

إن استمرار حالة الاستقرار والأمن والأمان هي نتيجة مباشرة لسعي جاد وعمل دؤوب وجهد متواصل ونشاط حي يحسب في ميزان محاسن السلطة ويرفع رصيد مصداقيتها ومستوى الثقة فيها، فالأمن والسلام لا يتحققان عفويا بل برعاية رحيمة وعدالة حاسمة وبحق يستند إلى قوة رادعة.

***

عندما يحدث أن تتشنج الجبهة الداخلية على وقع أزمات اجتماعية حادة وعميقة قد تم استشعار تجاهلها أو تسويفها والتماطل في التعامل معها لحلها، أو عندما يعمد النظام إلى الاستغلال السياسي لقوات للأمن لمواجهة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية السلمية، ويلجأ إلى توظيف العدالة لتجريم الاضرابات عن العمل ولقمع الاعتصامات والمسيرات ثم الحكم بعدم شرعيتها خدمة لأغراض السلطة، حينها يتحمل النظام وحده المسؤولية الكاملة عن ما تصل الأوضاع في البلاد من حالات الانسداد السياسي والجمود الحكومي الذي كثير ما يؤدي إطالة أمده مع استمرار التشنج الاجتماعي إلى التصعيد المتدرج للأحداث إلى حد وقوع المواجهات العنيفة والأليمة بين المواطنين الغاضبين وعناصر قوات الأمن، وعندما يدفع النظام الحركات الاحتجاجية الاجتماعية أو السياسية السلمية للإيقاع بها في فخ العنف فإنه في الحقيقة قد ساق الأمور ووجهها بنفسه من أجل إيجاد المبرر الكافي له للتعامل معها عن طريق الحل الأمني، وبالتالي حسمها بالقوة بدل التكفل بمسؤولية احتواء الأزمات الداخلية سلميا بفتح النقاش الحر الصريح حول مسبباتها .

إن حيوية أي شعب تُستمد من واقعه وتقاس بمدى ما يبديه حكامه من حرص ورعاية لإقامة نظام حكم سليم ومتطور ولترقية النظام التربوي والتعليمي وتطوير نظم التدريب والتكوين المستمر، وتقاس قوة الأمم بقدرتها على الابتكار العلمي والتطور التكنولوجي، هذا إلى جانب الجهود المتواصلة من أجل إشاعة التوعية السياسية بالحقوق والواجبات التي هي الحل السحري لكل المشاكل، فحل معضلة الحكم والفساد مثلا هو بعث روح العدالة في كل المجالات، وتشجيع ممارسة المعارضة الجدية الناضجة وطنيا مع الالتزام بفتح ممارسة الإعلام الحر والمسؤول والشجاع داخل الوطن لضمان أن تبقى معارك السياسيين الحقيقية والجدية في داخل الوطن ولا تجري خارجه، وهذه المسؤولية تتعلق مباشرة بمدى التزام قيادة البلاد بالتعايش مع الخصوم السياسيين، ومدى مستوى النضج السياسي لتقبّل مبدأ الشراكة مع المعارضة واستعدادها لإقامة الحوار والتشاور السياسي مع الخصوم حول مختلف القضايا الوطنية وشؤون الحكم . ربما لا يكون الأمر بهذه السهولة في ظل التطور المتسارع لتكنولوجيات وسائل الاتصالات، ولكن إذا جاز القول أن لا شيء أصبح من الممكن إخفاؤه عن شعوب العالم من أخبار في أدق تفاصيل النشاط الإنساني فإنه يجوز أيضا الاعتقاد أنه بإمكاننا على الأقل التحكم في مستوى وحجم استغلاله، فالمعلومة تأخذ طابعا شاملا عبر الإنترنت فيما تبقى المعرفة والعلم محلية لأنها مرتبطة بسرعة النقل وتنمية الفرد، ومنه يمكن حصار ما لا ينبغي معرفته بل والتحكم في منافذ تسريب ما يعد من أسرار الدولة وما يمكن أن يشكل خطرا أو تهديدا خارجيا لأمن البلاد وسلامتها واستقرارها، وهذه مسؤولية ترتبط بقدرة البلاد على حماية أسرارها إعلاميا

هناك قضايا يؤدي التغافل عنها إلى تفاقم تأثيراتها السلبية حتى يصعب التعامل معها حتى يتطلب مجهودا مضنيا ويستغرق وقتا أطول ويتحول الأمر إلى مهمة " إنقاذ وطني " تتعلق بمحاولة إعادة لتقوية اللحمة الوطنية وتحصين الأمة من التفتت وضمان أمنها وسلامتها من خطر ظواهر التشرذم والنزاعات الطائفية، ومن هذه الجهود عملية توحيد النسيج الاجتماعي لغويا وثقافيا وتعليميا وعقائديا ودينيا، وهي حتما ستصطدم كلها أو بعضها بالخصوصية المحلية التي تتميز بها منطقة معينة عن المناطق الأخرى داخل الوطن الواحد، هي خصوصية ذات أبعاد تاريخية أصيلة ضاربة في التاريخ وشكّلت رصيدا هائلا في الموروث الثقافي الذي ساهم عبر الأزمنة في رسم الشخصية وتحديد الهوية وبلورة جملة العقائد السائدة من خلال تراكم معرفي محلي لا سبيل لنكرانه ولا مناص من الاعتراف به، فاحترامه والحفاظ عليه لا يعد نقيصة بانتصار شأن ذات خصوصية محلية على حساب الاعتبار الوطني، فلا مجال للحديث بمنطق الربح والخسارة في مسألة تتعلق بالتنوع الحضاري حتى داخل الوطن الواحد كمصدر إثراء للفكر والثقافة إلا في ذهن من يريد تصويره بعيدا عن كونه اختلافا من باب التنوع ليضعه في إطار الخلاف من زاوية عنصرية، والتقليل من شأن مثل هذه الدعوات، هو تغافل ساذج عما يمكن أن تخبئه مع مرور الوقت من آثار مدمرة على تماسك الوحدة الوطنية، فلا شيء يمكن أن يقف أو يصمد في وجه من يبصرون في أنفسهم تميّزا عرقيا أو اختلافا مذهبيا ودينيا لإثبات وجودهم المهدد بالضياع والزوال، وأن أي دعوة مهما كان مبررها يمكن أن تواجه غضبة من يستشعرون جحودا اجتماعيا أو تجاهلا تنمويا أو ظلما سياسيا لحقهم في العيش الكريم، إنها حقوق ترتبط بالمواطنة ولا يمكن لأي سلطة أن تتعامل معها بمنطق الإقصاء أو التهميش دون أن تكون هناك ردود فعل حادة وعنيفة . إن الالتزام الأدبي والأخلاقي للدولة يُلقي عليها مسؤولية احترام كل مكونات النسيج الوطني لأنها تدخل في أصل التركيبة السكانية التي تنطوي تحت سلطة هذه الدولة والتي منها تستمد السلطة مبرر وجودها من تمتعها بشرعية منحها لها كل الشعب وليس فئة منه .

أمام الحديث عن طبيعة المسؤوليات التي يجب أن تضطلع بها السلطات، وأمام الحجم الكبير للصلاحيات الممنوحة لها خصيصا من أجل تأمين ممارسة مهامها وتيسير تأدية وظائفها والقيام بواجباتها، والنهوض بمسؤولياتها، لا تفيد أي خطابات رسمية ذات حمولة عاطفية خلال تناول القضايا واستعراض ظروف حدوث الأزمات أو أسباب تفاقم انعكاس تأثيرات إحدى القضايا الوطنية على حياة المواطنين، فمثل هذا لا يتجاوز حدود تلمّس المبررات للتنصل من مسؤولية التقصير في العمل الوقائي المتبصر للعواقب، ومحاولة الخروج من دائرة المحاسبة بشكل " مشرف" وإذا كان مجال المحاسبة يقع تحت قبة البرلمان وامام النواب ممثلي الشعب، تحت قبة هيئة من المفروض أنها تتكفل دستوريا بمهمتي المراقبة والتشريع فإنه يصبح مفهوما أن عملية المحاسبة ستربط بطبيعة العلاقة القائمة بين البرلمان وبين السلطة العليا في البلاد هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين البرلمان والهيئة التنفيذية ممثلة في الحكومة، فالحكومة تطبق برنامج عمل تنموي تم رسم ملامحه الرئيسية مسبقا، وجرى تحيد أهدافه وتعيين وسائل تحقيقها وحشد موارد التمويل سلفا على مستوى القيادة السياسية، وتقوم الحكومة بناء على ذلك بوضع السياسات العامة وتحويلها إلى برامج عمل تترجم الأهداف المرسومة في الميدان، والواقع يؤكد أن العمل الحكومي هو المحك الحقيقي للوقوف على مصداقية القيادة السياسية وقدرتها على الوفاء بوعودها من أجل تحقيق التنمية، وفي ظل ظروف محلية مضطربة وأخرى عالمية معقدة ومتقلبة صار من العسير الاطمئنان لإمكانية التطبيق الحرفي والتام لخطط التنمية، ووفق هذا الاعتبار يصبح من الضروري ومن باب الأخذ بدواعي الحيطة والحذر إعداد الخطط البديلة الممكنة لمواجهة الحالات الطارئة لتجنب التعثر والتأخر والفشل، وإذا كانت القيادة السياسية هي من عيّنت أعضاء الحكومة فالمسؤولية عن الإخفاق تقع أولا على من أسّس ورسم وأعدّ وخطّط.. واختار الرجال، كما تقع مسؤولية الفشل على من كان من المفروض أن يُنفّذ ويتابع ويراقب، ويحاسب قبل أن يحاسبه غيره .

ليس من المسؤولية تراشق الفاعلين بتهم التقصير وتجميل آخرين أسباب الفشل وعواقبه، لأن ذلك من مظاهر الفساد وسلو ك المفسدين وكبار رؤوس افتعال الأزمات لالتهام أقصى المكاسب والغنائم.

ليس من المسؤولية التعلل بالظروف المفاجئة لتبرير الإخفاقات المتتالية تحت كل الظروف.

ليس من المسؤولية افتعال الاضطرابات الاجتماعية لصرف النظر عن مشاريع سياسية يُخشى أن تجد مقاومة ومعارضة إذا ما جرى الإعلان عنها، أو رفضها لو تم مجرد الجهر بالنوايا بشأنها، فذلك إلهاء متعمد يتجاوز بكثير حدود مفهوم المناورة إلى الاتهام الصريح بالمؤامرة .

ليس من المسؤولية المالغة في تقديم الوعود البراقة لنيل تأييد الشرائح الواسعة من البسطاء، والإسهاب في عرض العهود المغرية لكسب الدعم والمساندة، في حين قد يدرك العامة من المواطنين قبل الخاصة والمفكرين منهم أنه لو تم حشد كل القدرات الوطنية وتعبئة جميع الإمكانيات المادية والمالية وتجنيد كافة الطاقات البشرية فلن يتحقق منها إلا نسبة قليلة متواضعة، هذا ما نراه شاهدا ونسمعه مباشرة ونلمسه حيا خاصة في خطب المترشحين خلال حملاتهم الانتخابية من أجل كسب أصوات الناخبين فقط .

ليس من المسؤولية تنميق ظاهر الأمور وتضخيم الانجازات البسيطة ثم عرض نتائج غير حقيقية لكسب رضا القيادة العليا في البلاد بأوهام وتضليل عمدي، كاذب بأن كل شيء يسير على ما يرام .

ليس من المسؤولية تعمُد إحداث " هوشة سياسية" حول موضوع وهمي أو قضية وطنية مزيفة تحمل طابع مصيري مضلل يمكن أن تضعف الجبهة الداخلية بالشكوك، وأن تصيب البلاد بهشاشة أمنية عميقة وخطيرة تصل إلى حد تعرية ظهر المؤسسات الدستورية والعسكرية .

ليس من المسؤولية ذلك الاحتيال الكبير في الدول حديثة العهد بالنظام الديمقراطي في الحكم بتسويق اعتقاد مضلل أن التداول على السلطة هو تنافس مشروع فيما هو في الأصل تنافس على اقتسام المال العام بأدوات السلطة القانونية.

المسؤولية تنبع من احساس عميق بخطورة الأمانة ومن ضمير حي لا يرتاح إلا بإقرار الحق، وهي تستند إلى اعتبار أخلاقي يقدس متعة التشريف بالثقة، وبنبل حلاوة النزاهة والمصداقية وبفخر المكانة الرفيعة السامية، إنها صفات رجال الدولة الجديرين بتولي المسؤوليات والمهام الكبرى.

في عالم السياسة سنكون أمام مطلب "أخلقة العمل السياسي "بحزمة من القيم السامية والمبادئ الأخلاقية التي تجعل منه عملا ممتعا، مدعما بالصدق في القول والشفافية في الفعل والوفاء بالوعود، والالتزام بالعهود إنه عمل ينبذ الكراهية والأحقاد، وينشر المحبة وينشد الوئام والتسامح. إن العمل السياسي يحتاج إلى توفير قدر كبير من الحكمة والرشادة وصواب لحكم بعد تقدير الأمور، والتبصر الواعي عند تحمل المسؤولية، والعمل السياسي مثل كل الأعمال الأخرى لابد له من توفر الضمانات والحقوق لتطويره، ومن الواجبات لأخلقته، ومن هذه الواجبات مراعاة حرمة المسؤولية.

***

صبحة بغورة 

ملاحظة: هذه المقالة نشرت في 5/يناير 2012 عندما كانت الثورة السورية في أوج نشاطها وعنفوانها، وقد تعرضت أثناءها لهجوم كبير من رجال النظام السياسي وشبيحته وأعوانه، كما تعرضت للتهديد والوعيد. وقد نشرت هذه المقالة في موقع إيلاف وفي عدد كبير من المواقع الفكرية في ذلك العام. وأنا أعيد نشرها بناء على طلب عدد كبير من الأخوة المهتمين بالشأن السوري نظراً لأهميتها وخصوصيتها. وأحيطكم علما بأنني لم أغير أي كلمة فيها مذ كتبت في عام 2012. باستثناء فقرة واحدة وهي نداء إلى قادة الحركة الثورية في سوريا الآن، وأعتقد أن قيمة هذا المقال تكمن في تاريخيته الثورية.

اقتباس

يصف الكواكبي المستبد بقوله: «المستبدّ: يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته». ” إنه ” عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً. ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل”.

مقدمة:

أبدأ مقالتي هذه بتحية إكبار وإجلال إلى شهداء الثورة الذين سقطوا دفاعاً عن الحرية والكرامة. وأحيي كل الأحرار من الجرحى والمفقودين والثكالى والأيتام والمهجرين واللاجئين السوريين والجنود الشهداء وكل هؤلاء الذين يتدافعون في ساحات النضال من أجل الحرية والكرامة.

لا يستطيع أحد أن ينكر اليوم بأن الخطاب الطائفي يتصدر الحوار السياسي في سورية وهو نوع من الخطاب الآثم الذي يقض مضاجع السوريين جميعاً ويهدد وحدتهم ودولتهم وعيشهم المشترك. وقد أصبح هذا الخطاب مع الأسف الشديد قدراً يفرض نفسه على رجال السياسة والفكر بامتياز. ولا يستطيع اليوم أحد أن ينفلت من مغبة استخدام هذا الخطاب الذي لطالما تمنى السوريون الأحرار أن يلغى من أبجدية حياتهم مرة واحدة دفعة واحدة إلى الأبد.

ومن المحزن اليوم أن يعود هذا الخطاب بقوة بعد أن قرر المجتمع السوري دفن هذا الخطاب وتدمير كل مبررات وجوده في مرحلة ما قبل الحركة التصحيحية القاتلة التي قادها حافظ الأسد حيث بدأت سموم الطائفية تفتك بالدماء الطاهرة للشعب السوري، وبدأت رياحها العاصفة تهب في اليوم لتهدد حياة السوريين واستقرارهم وأمنهم وتنذر بالقضاء على وحدتهم الوطنية وتفكيك دولتهم العتية.

لقد كان في ماضي الأيام مخجلا بالنسبة للسوريين استخدام مفهوم الطائفية واستخدام التسميات الطائفية في العلن، وكان حال السوريين شعور آثم بالخجل والإثم عندما يستخدمون هذه المصطلحات، حتى أنهم كانوا يعتبرون ذلك معصية لما في الطائفية والتعصب الطائفي من إثم عظيم. وكان يقدر للسوريين أن ينسوا الطائفية ودفنها بعد إبادة كل تجلياتها ومظاهرها وذلك بعد نصف قرن من نظام سياسي زعم بأنه بعثي الهوية علماني السجية، ولكن ومع الأسف الشديد كان هذا النظام يؤسس في الخفاء والعلن لملك أو لجمهورية ورائية تقوم على التجزئة والفصم وتأجيج المشاعر الانقسامية توظيفا لها في استمرارية النظام السياسي وديمومته.

والسوريون اليوم في مختلف طوائفهم يعيشون حالة من الحزن والخوف والقلق على رائحة النزعة الطائفية القذرة التي تهدد وجودهم وحياتهم. وهم يدركون بأن الانفجار الطائفي – لا سمح الله وقدر -سيعرض وجودهم السياسي ووحدتهم الوطنية للخطر. وما يؤسف له أن النظام السياسي القائم قد أوقد نار النزعات الطائفية ثم أججها فبدأت نذر الحرب الأهلية تلوح في الأفق القريب، وهو ما زال يتمترس خلف حصون الطائفية والمذهبية ومتاريسها التي لن يستطيع أن يحتمي بها إلى الأبد. ويلتقي النظام السياسي مع نزعات شوفينية مذهبية بالغة التطرف تريد ما أراده النظام من تقسيم وطائفية فاتحدت إرادة النظام بإرادة الفئات الضالة في تدمير مقومات الوطن الواحد وهدم أركانه العتية. وخير تعبير عن هذا التلاقي بين النقيضين قول الشاعر:

وقد يجمع الله النقيضين بعدما    يظنان كل الظن ألا تلاقيا.

لقد عمل النظام السياسي القائم على تعزيز النوازع الطائفية منذ أربعين عاماً وهو منذ بداية الحركة التصحيحية يعول على خطاب أيديولوجي قذر وممارسات سياسية رعناء تولد الانقسامات الطائفية والنزعات المريرة وتعززها في المجتمع على مبدأ فرق تسد وقسم تهيمن وجزئ تسود واضرب على أنغام الطائفية والعشائرية والقبلية والإقليمية للمحافظة على سطوة النظام وهيمنة الاستبداد، وقد ترافق ذلك كله بعملية بث ثقافة طائفية وتجهيل ثقافي وطني أصبت الثقافة الحقيقة معه خطراً يهدد وحدة البلاد والعباد وينذر بإسقاط الدولة والكيان السياسي لسوريا التاريخ والحضارة والإنسان.

وفي عمق الخطاب الطائفي نجد اليوم تركيزاً على دور الطائفة العلوية الغامض في دورة الثورة وفي حركة المسار السياسي للحياة السياسية في سوريا، حيث تنبثق تساؤلات مروعة حول دور الطائفة العلوية في الحياة السياسية اليوم وموقفها من الثورة. والأسئلة التي تدور حول الطائفة العلوية كثيرة اليوم ومنها: لماذا لم تلتحق الطائفة العلوية بالثورة؟ وما هو موقف الطائفة كطائفة مما يجري من أحداث جسام في المنطقة؟ وهل ستبقى الطائفة العلوية في مربع السكون مما يجري من أحداث جسام؟ هل ستشارك في الانتفاضة الثورية؟ من يمثل هذه الطائفة؟ هل يقف أبناء الطائفة في حقيقة الأمر في موقع مساندة النظام؟ هل يساند أبناء الطائفة النظام طوعاً أم كرهاً؟ ما موقع الطائفة من الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد؟ هل تستأثر الطائفة العلوية بامتيازات سياسية ليست لأبناء الطوائف الأخرى؟ ما هي مكتسبات الطائفة العلوية من مسيرة الاستبداد السياسي لنظام الأسد خلال أربعين عاماً من الحكم الفردي المطلق؟ وهل تتحمل الطائفة وزر النظام وجرائم التسلط والاستبداد في سوريا؟ وهناك أسئلة كثيرة وكثيرة جداً يصعب تناولها في مقال واحد أو بحث منفرد.

وما يؤسف له أن الخطاب السياسي الذي يتناول هذه الأسئلة غالباً ما يقدم إجابات شعبوية ذاتانية مفرطة في تشاؤمها مبالغة في اتهامها للطائفة حيث يأخذ هذا الخطاب مكانه من حيث لا يدري أصحابه ومنتجوه في مركزية إنتاج الخطاب الطائفي نفسه والترويج له بما يعزز النزعات الطائفية عبر التخويف والتهويل وتقديم التصورات الخاطئة. وقد استفاد النظام السياسي نفسه من خطاب التهويل الطائفي الذي ينتجه مفكرون وسياسيون ثوريون ولكنهم لا يمتلكون القدرة على تحليل البعد الطائفي للنظام السياسي وللثورة السورية المباركة. ومن هنا يأتي اهتمامنا لتقديم صورة نريدها أن تكون تاريخية وموضوعية وبعيدة عن كل التحيزات المبطنة والمعلنة الخفية والظاهرة عبر منهج سوسيولوجي بالغ الأهمية والضرورة في هذه المرحلة التاريخية.

وإذا كانت مقالتنا هذه تلامس أكثر هذه الأسئلة تواتراً وانتشاراً وأكثر التعميمات حضوراً في الساحة الفكرية ـ فإنها تركز هذه على تقديم إجابات واضحة عن أسئلة تتعلق مباشرة بالعلاقة بين الطائفة والثورة، وأهمها: لماذا لم يلتحق العلويون كطائفة بركب الثورة؟ ما الذي أخرهم؟ ولماذا يتوجسون خيفة من الثورة؟ هل يناصرون النظام السياسي القائم بأكثريتهم؟ إلى أي حدد يتحمل العلويون بوصفهم طائفة أخطاء وجرائم النظام السياسي القائم.

تنطلق منهجية هذه المقالة من توظيف المدخل الاقتصادي الاجتماعي والتاريخي لأوضاع الطائفة العلوية ومسيرتهم السياسية وواقعهم الاجتماعي وموقفهم من الثورة بوصفهم شريحة اجتماعية من شرائح ومكونات المجتمع السوري. ومن المؤسف في حقيقة الأمر استخدام مفهوم الطائفة كأداة للتحليل حيث كنت أفضل استخدام المدخل الطبقي الاجتماعي في التوصيف ولكن استخدام المفهوم الطائفي أصبح شائعاًً ومستخدماً وموظفاً إعلامياً وسياسياً وفكرياً وهو مفهوم يفرض نفسه شئنا أم أبينا في الساحة الثقافية والفكرية في سوريا والعالم العربي.

وقد كنت أربأ بنفسي دائماً عن الحديث في قضايا الطائفية وإشكالياتها في بلدي، وقد كرست عدداً من أبحاثي على مدى السنوات الماضية في بحث قضايا التعصب والطائفية والعنصرية وحقوق الإنسان في دول الخليج العربي وغيرها من البلدان العربية، ولما كنت بعيداً أو ُمبعداً عن وطني آثرت ألا أتناول هذه القضية لما تفرضه من حساسية طائفية وسوء في الفهم. وما دفعني إلى الكتابة عن هذه القضية اليوم ليأتي لدواعي واعتبارات علمية سوسيولوجية ناجمة عن سوء فهم وتقدير لموقع الطائفة العلوية من الثورة.

وإذا كنت اليوم أكتب هذه المقالة فإن كتابتي هذه ليست تعبيراً عن موقف سياسي أو أيديولوجي فأنا لست من المعارضة ولست من أهل النظام ولست من الثوار مع أنني لطالما تمنيت أن أكون واحداً منهم، وإنما انتسب إلى عالم خاص يتمثل بالفكر السيوسولوجي الاجتماعي حيث أتحرى الحقائق وأبحث عنها بروح موضوعية لا تحيز فيها وانتساب ولا انتماء. وقد شكلت وجهات النظر غير الموضوعية إلى دور الطائفة العلوية من الثورة في سوريا محرضاً علمياً يدفعني إلى إضاءة هذا الموضوع بروح العلماء والمفكرين وليس باندفاعات السياسيين. فالتمسوا لي عذراً، إذ أنني شاهدت عشرات الندوات وعدد كبير من المقالات وعدد لا يقل من اللقاءات التلفزيونية التي تضع الطائفة العلوية في قفص الاتهام الثوري دون مبررات موضوعية لمثل هذه الاتهامات الجائرة والأحكام العابرة. وأردت أن أقدم تصوراً موضوعياً جديداً يقوم على أسس سوسيولوجية لتوضيح خريطة الطائفة العلوية في جغرافية الثورة السورية.

لقد أصبحت إشكالية العلاقة بين الطائفة العلوية والثورة موضوعاً للتداول والحوار الإعلامي المتواتر في قاعات الحوار وفي الندوات التلفزيونية والمناقشات السياسية والكتابات الصحفية. وأغلب هذه الندوات والحورات والمناقشات تتضمن إشارات مضمرة أو علنية أحياناً إلى تأخر الطائفة في الثورة وإلى تحميلها مسؤوليات وزر الجرائم التي ترتكبها السلطة ضد الثورة والثوار.

ومما لا شك فيه أن هذا التوجه في النظر إلى دور الطائفة العلوية يقوم على ثلاثة عوامل أساسية:

1- رأس النظام وعائلته وكثير من المقربين منه يتحدرون من الطائفة العلوية.

2- عدد كبير من المناصب العسكرية والأمنية في الجيش يتسنمها ضباط كبار من الطائفة العلوية.

3- نسبة كبيرة من أبناء الطائفة مجندون في الوحدات العسكرية المصنفة موالية جداً للنظام السياسي.

وهذه العوامل الثلاثة السلبية تضع الطائفة العلوية عفويا في قفص الاتهام، وذلك لأن الوعي العام البسيط قد يأخذ بهذه المعايير على أنها كافية لاتهام الطائفة نفسها بكل أطيافها ومكوناتها. وليس في ذلك لوم للوعي العام الذي يتصور – وبصورة غير موضوعية – أن الطائفة تمتلك النظام وأن النظام يمارس دوره في خدمة الطائفة، لأننا لا نستطيع أن نطالب الوعي العام بأكثر الإمكانية المعرفية التي ينطوي عليها. وهنا يكمن جانب من الإشكالية في طبيعة النظرة إلى الطائفة العلوية.

ولكن جوهر الإشكالية يكمن في وعي النخبة الفكرية والسياسية لدور الطائفة العلوية وماهيتها السياسية. ومن المأساوي في هذا الخصوص ألا يختلف وعي المثقفين كثيراً عن الوعي العام من حيث عدم القدرة على فهم دينامية العلاقة بين الطائفة والنظام وبين الطائفة والدولة، وهذا من شأنه أن يكون الأمر أكثر كارثية عندما ينحدر وعي النخبة والصفوة إلى مستوى الوعي العام وهذا ما نلاحظه اليوم في الخطاب الثقافي الطائفي بصورة واضحة. حيث لا يجري الفصل الموضوعي بين النظام والطائفة والدولة. فالطائفة مكون من مكونات الدولة بالضرورة ولكنها ليست من مكونات النظام السياسي القائم، وهذا ما يجب أن ندركه جميعاً حيث يتوجب علينا كمثقفين ومفكرين أي أنه يجب علينا أن ندرك دينامية العلاقة بين الطائفة وبين الدولة من جهة كما بين النظام السياسي وبين الطائفة من جهة أخرى.

وبالعودة إلى العوامل الثلاثة التي تؤسس لاتهام الطائفة بالنظام يتوجب علينا في أن ندرس كل عامل من هذه العوامل برؤية موضوعية لنرى بوضوح أن الطائفة كتكوين اجتماعي لا تتحمل مسؤولية هذه الوضعية السياسية المتأزمة في سوريا وليست معنية فيها بأكثر من الطوائف والفئات الاجتماعية الأخرى في ذات الوطن الواحد. وهنا يجب علينا أن نتحرى وضع الطائفة من منظور تاريخي اجتماعي وليس من منظور طائفي محض. فعندما يجري الحديث عن ضعف وتيرة الثورة في حلب يتم تحليل التلكؤ الثوري بصورة موضوعية أي لأمور اقتصادية اجتماعية وكذلك هو الحال فيما يتعلق بتأخر محافظات أخرى كالرقة مثلاً وطوائف أخرى لم تلتحق بركب الثورة حتى اللحظة. وهذا كله لا يعني أن هذه الفئات والطوائف والمحافظات تقف ضد الثورة بل يمكن الحديث عن ظروف موضوعية وملابسات كثيرة اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية تحول دون الالتحاق بصفوف الثورة. فلما لا نفكر أيضاً بالظروف الموضوعية التي تؤخر الطائفة العلوية عن اللحاق بركب الثورة. ومن هذا المنطلق المنهجي التاريخي سننطلق بتقديم تصور موضوعي لأوضاع الطائفة العلوية اقتصادياً وسياسياً وايديولوجياً وتفنيد أهم العوامل التي تشكل مقومات النظر إلى دور الطائفة العلوية في الثورة السورية المباركة:

1- رأس النظام وعائلته وكثير من المقربين منه يتحدرون من الطائفة العلوية:

الطائفة العلوية ليست هي التي أوصلت حافظ الأسد إلى السلطة ويعرف الجميع في سوريا أن السوريين جميعاً رحبوا بوصوله في البداية وهناك قوى سياسية حزبية وعسكرية وشعبية وعربية هي التي دعمت النظام السياسي الذي أسسه حافظ الأسد عبر ما يسمى بالحركة التصحيحية (وسأكرر ما أقوله كان الرأي العام في الطائفة العلوية رافضاً بقوة تولي الرئيس الراحل رئاسة الجمهورية والجميع كانوا يخافون من الردة العكسية لهذا المنصب حيث ستنسب أخطاء الحاكم إلى الطائفة ولكن لا حول للطائفة في هذا الأمر ولا قوة ومن المعروف أن الفريق الأكبر من الطائفة كان مناصراً ومؤيدا لصلاح جديد ضحية الحركة التصحيحية وأن النظام الجديد قام بعملية تصفية سياسية لأنصار جديد والبعثيين اليساريين وكان جلهم من الطائفة العلوية في ذلك الحين).

2- عدد كبير من المناصب العسكرية والأمنية في الجيش يتسنمها ضباط كبار من الطائفة العلوية:

وجود عدد كبير من الضباط في المراكز القيادية فرضتها مصالح النظام وليس مصالح الطائفة بدليل أن هؤلاء القيادين كانوا دائماً وما زالوا الطغاة الحقيقيين الذين مارسوا كل أشكال الإذلال والقهر والعنف ضد الطائفة العلوية: كل ضابط من أصحاب النفوذ كان رمزاً للاستبداد في قريته أو منطقته وقد أخذ دور الإقطاعي الكبير في المكان الذي يوجد فيه، وأمثال هؤلاء كانوا نقمة على أبناء طائفتهم وقد مارسوا كل أشكال الإذلال والاستعباد والتحكم برقاب العباد. هؤلاء الضباط هم أزلام النظام وأعوانهم انتقاهم كما انتقى مثلهم من الفئات والطوائف الأخرى للسيطرة والهيمنة.

3- وجود نسبة كبيرة من أبناء الطائفة في الجيش:

وجود نسب كبيرة من أبناء الطائفة في الجيش قصة قديمة ترتبط بأوضاع هذه الطائفة. فأبناء الطائفة العلوية من الفلاحين الفقراء جداً ليس لهم شأن بالصناعة والتجارة أراضيهم فقيرة وقليلة ونظراً لهذه الوضعية شكل الجيش منذ عهد العثمانيين ثم في عهد الفرنسيين ثم في العهد الوطني مصدر رزق لهم. فالعلويون لشدة فقرهم ينتسبون إلى الجيش ويعيشون من خلال الخدمة فيه ومع الزمن تحول الجيش بحكم العادة والفقر إلى مصدر حيوي من مصادر الرزق والتعيش والتطوع في الجيش أمر مرفوض في أكثر الأحيان من قبل سكان المدن وأهل الحرف والتجارة فالجيش هو عمل من لا عمل له. وهذا استمر في عهد الأسد مع بعض التشجيع فأبنا الطائفة العلوية عندما يتطوعون في الجيش يتطوعون ليس من أجل حماية النظام وليس ارتباطاً بالنظام بل يتطوعون من أجل ضمان عيشهم. ولكن النظام السياسي استغل هذه الظاهرة فجيشهم في وحدات عسكرية شديدة الولاء والولاء هنا عن عمليات غسل دماغ مستمرة تؤله الرئيس وأسرته.

وباختصار ليست الطائفة العلوية مسؤولة عن تكوين النظام وهي لم تأخذ بيد حافظ الأسد إلى الحكم. وهي ليست مسؤولة عن تجييش الطائفة وعسكرتها لمصالح النظام وتعيين ضباطها في مراكز هدفها خدمة النظام لا خدمة البلاد والعباد. وباختصار لا تتحمل الطائفة العلوية وزر النظام على مبدأ ولا تزر وازرة وزر أخرى.

الطائفة العلوية بين الوعي العام والوعي الموضوعي:

من المؤسف أن أغلب المفكرين الذين يتحدثون عن دور الطائفة العلوية في الثورة يتحركون في دائرة ما يسمى العقل العام أو الوعي الشعبي الدارج، وقلما يرتقي هذا الوعي إلى مستوى الوعي العلمي الموضوعي الذي ينطلق من فهم عميق لأوضاع الطائفة ودورها دون تحيزات ذاتية وتعميمات شعبوبة. ومرة أخرى نقول أن أغلب الآراء والأفكار التي تطرح في الندوات تتناول قضية العلاقة بين الطائفة والثورة وفق ما يسمى بالعقل الشعبي أو العقل العام وليس بالعقل الأكاديمي والفكري الذي يستطيع الفصل بين الطائفة والنظام السياسي ويتحرى العلاقة السوسيولوجية القائمة بينهما. وهذه الرؤية البسيطة والساذجة للطائفة فيما يتعلق بدورها لعبت دوراً كبيراً في تقصير أبناء الطائفة وتأجيل التحاقهم بالثورة. فأبناء الطائفة يتخوفون من الوعي الطائفي الشعبي أو العام الذي يحكم على طائفة لأن رأس النظام يتحدر منها. وأحياناً أميل إلى القول إن الشارع في كثير من الأحيان أكثر تفهما بطبيعة الطائفة العلوية من المفكرين المخضرمين في هذا المجال.

فالرؤية الذاتية المشبعة بالبعد الطائفي الكامن المستتر والخفي كثيراً ما تتجلى في مستويات عديدة نراها عبر شاشات التلفزيون وفي كثير من الندوات التي دارت حول الطائفة العلوية ومرة أخرى هذه النظرة محكومة بالرؤى الذاتية وهي بعيدة جداً عن الرؤية الموضوعية التي يجب أن يعرف بها المثقفون والمفكرون. ونظراً لغياب الرؤية الموضوعية لموقع هذه الطائفة وأوضاعها الاجتماعية والسياسية أريد أن أقدم رؤية موضوعية تأخذ بعين الاعتبار أوضاع هذه الطائفة ومكوناتها وموقعها المفترض من الثورة السورية.

النظام السياسي في سوريا عابر للطوائف:

أريد في البداية القول بأن النظام السياسي القائم ليس طائفياً وأعني بذلك أنه لا يقوم على طائفة واحدة ويضع نفسه في خدمة مصالحها، فهو نظام عبر الطوائف يقوم على ركائز التكوينات الطائفية والقبلية والعشائرية والإقليمية، ويوظفها جميعاً في مسار صولته وجولته واستبداده، وقد تكون الطائفة العلوية كبش الفداء مع أنها من أكثر الطوائف انخطافاً من قبل النظام لأمور كثيرة، منها: أن رأس النظام يتحدر منها. وإذا كانت الحسابات الطائفية وفق هذا المعيار فإن النظام السياسي القائم ضد الطائفة العلوية في مختلف الوجوه والتجليات. لقد لاحظت والجميع يعرف ذلك بأن نظام الأسد منذ القرن الماضي وضع نفسه في خدمة النخب الرأسمالية والبررجوازية في سوريا، ويلاحظ أصحاب الخبرة أن أكثر من 99% من القرارات والتشريعات اتخذت لمصالح التجار والفئات الغنية في المجتمع من صناعيين ومهنيين. وكل هذه التحولات لم تكن في مصلحة الطائفة العلوية لأنها طائفة فقيرة تعتمد على الزراعة البسيطة وأين هي من حكاية المال والسلطة والسطوة والنفوذ.

النظام السياسي إذا أردنا وصفه من زاوية طائفية نظام سني بالدرجة الأولى، مسيحي بالدرجة الثانية، وهو ليس درزيا أو علويا أو كرديا لأن الفئات البرجوازية وأصحاب المهن العليا والصناعية يتمركزون في الطائفة السنية والمسيحية على وجه التحديد. وحال الطائفة الدرزية لا يختلف كثيراً عن حال الطائفة العلوية من حيث التركيب الاجتماعي والبينة الاقتصادية ومن حيث الدور الاغترابي الذي مارسته السلطة ضد هذه الطائفة. ولو كانت الأمور في نصابها كان يجب على الثورة أن تنطلق من جبل الدروز ومن الساحل تحديداً لأن النظام القائم يشكل عدواً حقيقياً لهاتين الطائفتين وبالطبع لكل الفقراء والمسحوقين من الطوائف الأخرى. فالنظام القائم نظام يقوم على النفوذ والمصالح والسيطرة والهيمنة وليس على معيار ومقياس هذه الطائفة أو تلك وهو في دائرة فعاليته يستخدم كل الإمكانيات الطائفية والعشائرية والحزبية والعقائدية في تعزيز سلطته وهيمنته ونفوذه. فالسياسة لا دين لها ولا طائفة بل هي ممارسة للنفوذ والقوة والسلطة بأي معيار وأي وسيلة.

وعندما يوصف النظام بأنه نظام طائفي فهذه مغالطة في جوهر الأمر فالنظام نظام سياسي عائلي حزبي نخبوي يقوم على المصالح السياسية وليس على المصالح الطائفية، ولم تكن الطائفة في يوم من الأيام في جغرافيا الاهتمام السياسي للنظام إلا بوصفها أداة للتسلط والاستمرار.

اللوم الموجه إلى الطائفة العلوية:

نسمع كثيراً نوعاً من اللوم يتجلى في مختلف الخطب للطائفة العلوية لأنها لم تثر بعد ولم تلتحق بركب الثورة. وغالباً ما نسمع كلاماً مبطناً يتضمن نوعاً من التحذير والتهديد مثل كلمات (قبل فوات الآوان … الطائفة تتحمل وزر ما يجري ويجب على أبناء الطائفة أن يسرعوا في الالتحاق بالثورة لأنه.. الخ ). هناك كثير من الناس يتوسم خيراً ويعتقد أن الطائفة قد تلتحق بالثورة وإن ضباطاً علويين قد يحدثون انقلاباً أو انشقاقاً في الجيش (وبالطبع هذا أشبه بالمستحيل ألا إذا قامت فئة من الأسرة نفسها بهذا الأمر لأسباب كثيرة أمنية لسنا بصدد الحديث عنها). وفي كل الأحول يجري الحديث عن الطائفة العلوية كأنها شخص أو حزب أو منظمة أو مؤسسة يديرها شخص ويحكمها مجلس الإدارة وهذا خطأ كبير.

فالطائفة العلوية ليست كياناً سياسياً أو حزباً أو جماعة واحدة، بل طيف من أطياف السكان الذين يعيشون في المناطق الجبلية الساحلية ويعملون غالباً في الزراعة وهم بالمعنى السوسيولوجي الأعم طبقة من الفلاحين الذي يعملون في الزراعة. وما آل الأسد غير عائلة من الفلاحين حالفها الحظ في أن تكون في مركز السلطة والنفوذ في سوريا. ويمكن أن أعلن عن حقيقة في منتهى الأهمية بأن الطائفة العلوية هي الطائفة الوحيدة التي لا تمتلك تشريعاً مذهبياً خاصاً بها فكل المعاملات الخاصة بالزواج والملكية والتشريعات والإرث تخضع للمذهب السني في سوريا (بالمعنى المذهبي والقانوني الطائفة العلوية ليس لها كياناً مذهبياً منفرداً بل هي طائفة إسلامية تخضع لقوانين وأعراف المذاهب السنية في سوريا). وعندما أقول بأن الطائفة العلوية ليست كياناً سياسياً أو حزباً أو حتى طائفة بالمعنى القانوني فليس فيها سلطة دينية نافذة أو جامعة بل لا يوجد مؤسسة دينية البتة في الطائفة العلوية ولا توجد زعامات طائفية أو عشائرية فيها، وهي وفقاً لهذا التصور غير قادرة على اتخاذ قرارات سياسية ملزمة لأبناء الطائفة الذين يشكلون شيعاً وأطيافاً وفئات وطبقات مختلفة جداً ومتباينة جداً. فمن يقول إنه يجب على الطائفة العلوية أن تفعل كذا وأن تفعل كذا يعتقد أن الطائفة كيان واحد لها لسان واحد وقيادة واحدة وقوة مذهبية واحدة وكل هذا ليس صحيحاً أبداً. ولذا لا تلام الطائفة على موقف محدد وموحد بوصفها طائفة متميزة بقرارها ووحدتها.

عندما وصل الأسد الأب إلى السلطة كان الرأي العام بين أبناء الطائفة في حينها رافضاً ومعارضاً تولي حافظ الأسد لمنصب رئيس الجمهورية، وكان الرأي العام في الطائفة معارضاً ورافضاً وصول أي من أبناء الطائفة إلى السلطة لأن ذلك يحملها ما لا تستطيع أن تحتمل. وهذا ما تعانيه الطائفة العلوية اليوم حيث تحمل أخطاء النظام التي يرأسه بشار الأسد حتى اليوم.

كانت الطائفة العلوية قبل الأسد طائفة سياسية بمعنى أنها احتضنت تيارات سياسية ساخنة متعددة ولاسيما التيارات السياسية اليسارية مثل الأحزاب الشيوعية ورابطة العمل الشيوعي والناصريين والقوميين وجماعات سياسية يسارية داخل الحزب مثل جماعة صلاح جديد وغيرهم من التيارات السياسية.

عندما وصل نظام الأسد إلى السلطة عمل على قمع كل هذه التيارات السياسية وتدمير مكوناتها الاجتماعية، وقام بمحاصرة هذه التيارات السياسية التي كانت تشكل خطراًً على نظامه على مدى أربعين عاماً فأطفأ شوكة هذه التيارات السياسية وأخمد نارها وقتل الروح السياسية في الطائفة وقام بتصفية الفكر السياسي المعارض واليساري بصورة كلية وشاملة فقتل الروح السياسية للطائفة وأمات فيها كل عنفوان سياسي.

وقد عمل النظام خلال هذه الفترة على نشر أيديولوجيا جديدة في المنطقة تؤكد بان دور النظام الجديد يتمثل في حماية الأقليات ويغمز بشكل خفي على القناة الطائفية للعلويين ثم الدروز والمسيحيين. واستطاع فعليا أن يؤثر في قطاعات عديدة ولاسيما في مستوى الجيش حيث نشر أعوانه ومريديه وزبانيته.

ومن ثم عمل النظام السياسي على عسكرة الطائفة بامتياز وهذه العسكرة تأخذ جانبين أساسين: يتمثل الجانب الأول السيطرة على الطائفة بتحويل أغلب شبابها إلى جنود في الجيش حيث يتوجب عليهم الخضوع للنظام ورموزه وحمايته بالدرجة الأولى، ويتمثل الجانب الثاني في تكوين وحدات عسكرية خاصة مدجنة ومروضة تحمي النظام وتسهر على رعايته. نعم لقد حول النظام أبناء الطائفة إلى طائفة من الجند والحراس وطبقة الجند والحراس هي أكثر الطبقات امتهانا وضعة في المجتمع. ومما لا شك فيه أن النظام أعطى لنخبة من الضباط أبناء هذه الطائفة امتيازات في الجيش لضمان ولائهم، وهنا يمكن الحديث عن تمكين نخبة من الضباط العلويين في الجيش حيث أخذوا مكان الهيمنة في المراكز الأمنية والقيادات ولكن هذا لا يعني إعطاء امتيازات للطائفة. ويبقى لأصحاب التفكير أن يدركوا بأن العسكري هو جندي لحراسة النظام وأداة من أدوات القتال عند الضرورة فما هو الامتياز الذي يمكن أن تتمتع به طائفة من عسكرة أبنائها. فأصحاب المناصب والرتب من الطائفة العلوية كانوا وبالا على أبناء طائفتهم ويمكن تدبيج كتب كثيرة عن حقدهم على أبناء الطائفة حيث مارسوا كل أعمال الاستلاب والقهر والإذلال ضد أبناء طائفتهم.

لقد عمل النظام على تجهيل أبناء الطائفة وتدمير ثقافتهم السياسية، يعرف كثير من أبناء الطائفة أن مستوى التعليم في الطائفة انخفض بتأثير الدعوات المستمرة للشباب بالتطوع في الجيش حيث كانت الإغراءات تقدم للشباب برواتب جيدة وامتيازات (سرايا الدفاع سرايا الصراع) لا تقاوم، حتى جاء يوم وقد فرغت المدارس الثانوية من طلابها. هذه هي بعض الخدمات التي قدمها النظام للطائفة: تحويل الشباب إلى عسكر يتراكمون في منطقة ال 86 وعش الورور وغيرها من الحارات المهملة والضائعة في دمشق. وهؤلاء الآن جميعهم يشكلون طبقة مسحوقة فقيرة معدمة لا حول لها ولا قوة وهم كما يسميهم ماركس حثالة البروليتاريا ونسميها حثالة عسكر النظام الذين فقدوا كرامتهم وحريتهم وتعرضوا لكل أشكال الامتهان والاستغلال والقهر في مؤسساتهم العسكرية. إن إحدى الكوارث الكبرى للطائفة أن النظام عسكرها أي فرغها من أهل الفكر والثقافة والمعرفة. لقد كانت هذه العسكرة أحد المصائب الكبرى لأبناء الطائفة العلوية الفقيرة.

عمل النظام على قهر القيادات الروحية والزعامات التقليدية والزعامات الفكرية الحديثة في المنطقة فلم يبق فيها من يوقد ناراً أو يبني جداراً، وقد أفسد هذه القيادات ووضع بديلاً عنها حفنة من الجلادين والمتسلطين الذي أذاقوا أبناء الطائفة كافة أشكال الذل والمهانة على مدى أربعين عاماً من التسلط والاستبداد. بل رسخ النظام نوعاً من الإقطاع الجديد حيث جعل في كل قرية إقطاعياً جديداً مطلق الصلاحيات يفعل ما يشاء في قريته وهؤلاء الإقطاعيون الجدد غالباً ما كانوا وما زالوا ضباطاً كباراً من أصحاب النفوذ قاموا باحتكار الحلال والمال في القرية فنهبوا أراضيها وذلوا أهلها وامتهنوا أبناءها. فعلى مشارف كل قرية تجد فيلا ضخمة جداً لا يقتنيها إلا أمير أو سفير يكون صاحبها وساكنها هو إقطاعي القرية وعاهرها وسلطانها والحاكم المطلق فيها برخصة من النظام السياسي إذ يمتلك كل الأراضي بالقوة والعنف والسطوة والقهر.

تأثير هذه الوضعية على الموقف من الثورة:

في ظل الثورة لا يوجد اليوم صاحب رأي أو فكر أو زعيم أو قائد عشائري في الطائفة يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة ويعلن عن رأي مضاد للسلطة. ويتعزز ذلك بوجود الشبيحة من أبناء الطائفة في كل بيت وزاوية نتيجة مبدأ العسكرة والتجنيد المستمر على مدى أربعين عاماً.

لقد عمل النظام على خفض مستوى الوعي السياسي إلى حدوده الدنيا، واستطاع أن يروج شعارات ومقولات سياسية حزبية تارة وطائفية تارة أخرى جعلت من الصعوبة بمكان إيجاد أي صيغة من صيغ الاعتراض والرفض والتمرد والثورة بين أبناء الطائفة، فالأمن هنا بنيوي في كل قرية وفي كل زاوية وفي كل مكان والويل الويل لمن يظهر ولو شعورا معادياً للنظام حيث يكون مجرد الشعور المضاد كافيا للإجهاز والبطش. وفي غمرة الأحداث الثورية عرف النظام ببطشه الشديد بأبناء الطائفة فالعقاب داخل الطائفة يكون أشد بألف مرة على الفرد بالمقارنة مع ما يحدث مع أبناء الطوائف الأخرى.

ما أريد قوله أن النظام البائد لم يترك في الطائفة روحاً أو قوة أو اقتدار لتثور، وإذا كان قمع الثورة قد بدأ في حمص وحماه وإدلب ودرعا فإن هذا القمع الشديد كان قد بدأ منذ أربعين عاما بين أبناء الطائفة والجميع يعرف بأن سجناء الطائفة قضوا حياتهم حتى الموت في سجون النظام وأبرزهم صلاح جديد الذي قضى في سجنه شيخا كبيراً ومن الغرابة أن كل من سار في جنازته وضع في السجن أيضاً.

وليس من الضرورة التذكير بأن عددا كبيراً من المثقفين، لا بل من خيرة المثقفين العلويين وقفوا ضد النظام وعلى رأسهم أدونيس الذي دعا الرئيس إلى التنحي رفضاً للقهر وليس بالضرورة أن يعلن المثقفون العلويون عن هويتهم الطائفية عندما يكتبون. فهناك عدد كبير منهم يكتبون ويساجلون ويناهضون ويرفضون وهم يتحملون أكثر من غيرهم من العناء والضغط والإكراه.

وأريد فقط أن أقول بأن النظام ليس طائفياً بمعنى أنه ليس نظاماً علوي الهوية وإن كان رأس النظام يحسب على الطائفة بالضرورة، فإذا كان النظام يعول على طبقة من الجند العلويين في الجيش فإن الحلفاء الحقيقيين للنظام رجال الدين من السنة (حسون البوطي ورجال وزارة الأوقاف) وحلفاؤه المثقفون من السنة وما أكثرهم ومن المسيحيين وما أغزرهم ومن الدروز وغيرهم وحلفاء المال والصناعة من رجال السنة والمسيحيين بالدرجة الأولى. فأهل الثراء من العلويين هم آل النظام والمقربين منه وهذا يعني أنه لا وجود لأصحاب المال والصناعة من الطائفة العلوية، ولا وجود لرجال الدين وهم قلة في المشهد السياسي والثقافي. فالنظام وفق هذا المنظور هو سني بامتياز يوظف قسم كبير من الطائفة العلوية في حراستهم جميعاً.

إذا كانت الطائفة العلوية لا تثور لأن النظام قد خدرها وخطفها واستنزفها وفرغها من الطاقة والقدرة والقوة. والسؤال هنا لماذا لا يجري التركيز على حلب والرقة ودمشق وجبل العرب والمسيحيين وعدد كبير من المدن التي لم تثر حتى الآن. لماذا لا يجري التركيز على أهل السنة الوزراء والسفراء والمدراء والقادة والمحافظين ليستقيلوا الذين هم في أغلبيتهم سنة ودروز ومسيحيين …الخ.

ما أريد قوله إذا كان هناك من مانع يمنع شريحة اجتماعية من الثورة مباشرة فهناك موانع كثيرة تمنع الطائفة العلوية من الالتحاق بركب الثورة: الفقر، العسكرة، أيديولوجيا التخويف الطائفي، الهيمنة المباشرة على أبناء الطائفة. أعطيكم مثال شرائح كبيرة من أبناء الطائفة يعيشون من وظائفهم في الجيش والدولة وهم إن انقطعت رواتبهم شهر واحد تعرضوا للجوع والفاقة. وقد يقول قائل لماذا أليس هذا الأمر موجود في الطوائف الأخرى نقول بأن أهل المدن يعملون في الصناعة والتجارة ودخولهم لا يعتمد على الدولة ويضاف إلى ذلك الزخم الاجتماعي الذي يشكل فيه التضامن بين الفئات الثائرة أمناً اقتصادياً وجودياً , وقد يقول قائل هناك من يقدم الروح والرد تقديم الروح أسهل من مشاهدة الأطفال يتضورون جوعاً.

إنني لأجزم بأن الطائفة العلوية عانت من ظلم النظام وقهره أكثر بكثير مما عانته الطوائف الأخرى. فالشبيحة حركة من القتلة والمهربين الذين كانوا يعتدون على كرامة الناس وحياتهم ولدت وتطورت في الساحل السوري أي في منطقة تمركز العلويين منذ أكثر من ثلاثين عاماً ونيّف. وظلم الشبيحة وقهر الوصوليين وأصحاب النفوذ نال من كل عائلة ساحلية قبل الثورة. ونفوس الناس في الساحل متخمة بالألم والشعور بالعار والمهانة والتمييز أكثر بألف مرة مما نشاهده اليوم. هناك عدد كبير من الناس انتهكت أعراضهم وسلبت ممتلكاتهم ونهبت بيوتهم وطردوا من أراضيهم قبل أن تبدأ هذه الثورة المباركة. ولو كانت إمكانية الثورة قائمة لكان أهل الساحل السوري أجدر بالثورة وأكثر إلحاحاً في طلبها.

إنني أقدر بأن الأكثرية الساحقة من العلويين يرفضون الظلم والقهر والاستبداد وأحلامهم دائما كانت في نظام ديمقراطي علماني يحررهم من الطائفية والمعاناة والتمييز. فالطائفية لدى أبناء الطائفة بغيضة ومكروهة وهم تجرعوا مذاقها ومرارتها في مراحل تاريخية قديمة ولذا فهم من أكثر الناس رفضاً للطائفية وإيماناً بالحرية ومن هنا كانت أكثر التيارات اليسارية انتشاراً وحضوراً في الساحل السوري في السبعينات والثمانينات.

كل ما أريد أن أقوله بأن الطائفة العلوية في أعماقها مع الثورة وأن الأمهات في هذه الطائفة تبكي كل قطرة دم تسيل هنا وهناك. ولو كان الأمر يعود لأبناء الطائفة الأحرار لنافحوا عن أخوتهم الثوار بصدورهم وقلوبهم. فالثورة قد تكون مضمرة في الوجدان والقلب والروح. حتى هؤلاء الذين يسقطون اليوم في حمص وحماه من العسكر كانوا يتمنون السقوط في الجولان وعلى الحدود إنهم مأمورون مقتولون بأيدي النظام أو بأيدي الثوار.

لقد علمتني الخبرة والعيش في الساحل أن أبناء الساحل ليسوا طائفيين بل يكرهون الطائفية ويأنفونها ويرفضونها في السر والعلن والغياب والحضور. الوجدان العام لدى أبناء الطائفة هو إرادة العيش المشترك مع أبناء الوطن. والطائفة لا تتحمل وزر النظام لأن رأس النظام وثلة منه تنتسب إلى الطائفة والطائفة منهم براء. صدقوني بأن الطائفة ستلعن الظالمين لعن أبدية لا تحول ولا تزول. واسمحوا لي أن أعلن بأن الحس الطائفي لدى العلويين هو أضعف بالمقارنة مع غيرهم وذلك لغياب المؤسسة الدينية وغياب تأثير رجال الدين وبالأحرى غياب رجال الدين تقريبا والمعروف أن رجال الدين هم أكثر الناس بثاً للفكر الطائفي والتعصبي.

نعم توجد هناك شريحة من الطائفة ترتبط مصالحها بالنظام ارتباطاً حيوياً، وحالهم لا يختلف عن أحوال النخب المقربة من النظام من الطوائف الأخرى، فهناك أصحاب الامتيازات من أبناء الطائفة، وهناك المغرر بهم هؤلاء الذين تمّ استلابهم واغترابهم، وهناك الجنود الذين انتسبوا إلى الجيش وامتهنوه من أجل العيش وهم مكرهون على حمل السلاح في ظل النظام ولا يستطيعون عصي أوامره، هؤلاء جميعاً وحالهم حال الطوائف الأخرى لكل أسبابه الموضوعية في خدمة النظام.

أما سواد الناس من العلويين أكانوا أم سنة أم كرد أم مسيحيون أم دروز أم شيعة فإنهم ضد الظلم والظالمين ضد القهر والقاهرين. ولذا فإنني أطلب من أخوتي المثقفين والمفكرين والباحثين أن ينظروا نظرة موضوعية إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والمهنية للطائفة قبل لومها، وأسألكم دائما أن تأخذوا يعين الاعتبار الرؤية الموضوعية إلى التكوين الاجتماعي والسياسي للطائفة العلوية وغيرها من الطوائف، لأن الرؤية الذاتية الشعبية قد تكون وبالاً على وبال فكونوا عونا لأبناء الطائفة الأحرار كونوا معع أشرافها وأحرارها لا تكونوا عليها فيكفيها ما ذاقت وما تذوق من النظام. وحال الطائفة العلوية اليوم أنها بين المطرقة والسندان إذ هي بين مطرقة النظام وسندان التقصير وهي من هذا وذاك براء.

وأصدقكم القول بأن الأكثرية الساحقة من أبناء الطائفة يريدون نظاما عادلاً ديمقراطيا حراً، وهم في جوهر الأمر لا يتحملون وزر النظام لأن فريقاً منهم ارتبط وجودياً بالنظام كما هو حال غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى. فالطائفة العلوية ليست النظام السياسي بل هي امتداد بشري وإنساني وأخلاقي يجب ألا يختزل في نظرة ضيقة محدودة تضعه في قفص الاتهام وكفانا أن نحمل الطائفة ما لا تحتمل فهي باقية والنظام ذاهب والحياة مستمرة بإذن الله.

فأبناء الطائفة العلوية، كحال إخوتهم في مختلف الطوائف السورية، كانوا في الماضي وسيكونون الآن وفي المستقبل قوة منيعة ضد الأحقاد الطائفية والمذهبية، لأن أبناء هذه الطائفة تمرغوا في تراب هذه الأرض وتأصلوا في أعماقه، وتفانوا في حب هذا الوطن بكل ما ينطوي عليه من تاريخ وبشر وقيم، وهم يعرفون ويدركون بأن الثوار أنوار مضيئة في درب هذا الوطن، وهم يعلمون أيضاً علم اليقين بأن كل قطرة دم سقطت على أرض هذا الوطن ستكون شجرة سنديان كبرى تطهر هذا الوطن من رجس الاستبداد والقهر والتسلط والطغيان. بوركت دماء الشهداء الذين سقطوا من أجل الحرية والكرامة والوطن وتحية إلى الأحرار والثوار في كل مكان من وطننا الغالي سوريا.

إضافة جديدة على المقالة:

وباختصار العلويون الشرفاء اليوم يوجهون الشكر والتقدير لقادة الثورة الذين حرروا المجتمع من هذا السرطان الخطير المتمثل في نظام الطاغية بشار وابيه ، ويستنكرون الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد ضد الشعب والأمة وضد الطائفة العلوية ويعلنون في الوقت ولاءهم المطلق للقيادة الثورية الجديدة ويحيون جهودها، وهم على أتم الاستعداد للتعاون المطلق مع السلطات الثورية الجديدة.

العلوين اليوم يطالبون بمحاسبة جميع والقتلة والمجرمين والسفاحين من كل الطوائف وعلى الأخص المجرمون من الطائفة العلوية تحديداً وهم يرون بأن هذه المحاسبة ضرورية ,أساسية ولا بد منها ، وهم بالتالي يضعون كل جهودهم وطاقاتهم في مسار تعزيز الدولة الجديدة وعلى رأسها القائد أحمد الشرع. وهم في الوقت نفسه يطالبون بالمحافظة على أمنهم وحياتهم وسلمهم المدني ويطالبون الدولة الجديدة بتمثيلهم سياسيا واجتماعياً. وهم في ظل هذه المطالب المدنية بعين الاعتبار.

***

أ. د. علي أسعد وطفة

بروفسور سوري في جامعة الكويت- كلية التربية.

ـ اللاارضوية او الفنائية البشرية.. لماذا؟

يترافق الاضطرار الاحتدامي الابراهيموي الامريكي الصهيوني مع الاقتراب من حواف الاستمرارية الكيانوية المجتمعية التي ظلت مستمرة وقائمه الى الوقت الحالي، وفي حين تتسارع وتائر الدلالات على انتهاء صلاحية نمط ونوع المعاش، فان ممكنات المشروع الامريكي الصهيوني للشرق الاوسط يصبح بلا مرتكزات، ويعاش باعتباره لحظة انهيارية على مستوى العالم، واذ تصبح الحياة سلسلة من الحروب بلا توقف مع احتمالية اللجوء للسلاح النووي، فان ممكنات القرار البشري الفاعل تتضاءل بسرعه، بينما الادراكية العمومية تتهاوى مسرعة، والفارق بين الديناميات المجتمعية وممكنات ادراكها والتصرف واتخاذ القرارات بناء لاحكامها وماتتطلبه، تتعاظم بحيث لايعود النمط الارضوي المتعارف عليه بشريا مجتمعيا كتنظيم ووعي، ممكنا.

ومن هنا تطل اليوم ومن هنا فصاعدا احتماليات الفنائية البشرية، حيث لامجال للتدارك من دون الانقلابيه الفعلية المنتظرة وعيا على مستوى الادراكية العقلية، بتجاوز ماقد رافق العقل من قصورية تاريخيه شملت كل تاريخ اليدوية المجتمعية، واستمرت بعدها باقية باشكال مختلفة الى اليوم، ابتداء من المنظور التوهمي الغربي الاوربي الحداثوي المواكب للانقلاب الالي المصنعي وماترتب عليه، وهنا لابد من التوقف لاجل الاجابة على السؤال: لماذا الان ومالذي يجعل الفنائية قريبه وطاغية اخيرا لهذا الحد، بحيث تتحول الى معاش يومي؟

تبدا المجتمعات بالتبلور ابتداء من حيث الغلبه النوعية والمفهومية، ارضوية، العقل فيها في حالة قصور عن ادراك الحقيقة المجتمعية ومن ثم الياتها ووجهتها، وماهي ذاهبة اليه، الامر الذي يظل سائدا على مدى الطور الانتاجوي اليدوي، ومع ان المجتمعات بالاحرى محكومة وقتها بالياتها الازدواجية الاصطراعية اللاارضوية/ الارضوية المتعدية للطاقة البشرية وللممكنات الارضوية المحكومة للجسدية، غير انها تظل وقتها، قابلة للاستمرار والسير التاريخي برغم التفارقية بين العقل وحدود ادراكيته، وبين الديناميات الاصطراعية المضمرة غير الموعاة، مثلما هو الحال على سبيل التشبيه ولاجل المقاربة بالنسبة لما جرى اكتشافه " حديثا"من مفارقة، بين الوعي المتاح، والحقيقة الاصطراعية الطبقية، فالكائن البشري في المجتمعات الازدواجية الطبقية الاوربية، ظل ينظر لذاته ولتاريخيه خارج عملية الصراع الطبقي عجزا، بما يضعه خارج الادراكية الوجودية، وفي احسن الاحوال "كمفسر للتاريخ لا كمغير له" بحسب ماركس، الامر المعمم فعليا على المجتمعات عموما، بضمنها الطبقية منها عند النظر من زاوية الاصطراعية المجتمعية الاعم الاشمل، فالمجتمعات بالاحرى هي حالة اصطراع مجتمعي نمطي نوعي لاارضوي / ارضوي منذ البدء التبلوري الاول، الامر الذي يعجز العقل "الانسايواني" كليا في حينه عن مقاربته، فضلا عن ادراكه طبيعة ومنطوى.

وهنا نقع على العلاقة بين العقل ومساره النشوئي الترقوي، وبين المجتمعية ـ التي هو متصيّر سائر الى الاعلى، وصولا للوثبة الثانيه المكملة لوثبته الاولى تلك الحاصلة مع الوقوف على قدمين واستعمال اليدين ـ في كنفها وبناء لتفاعليتها باعتباره موضوع الترقي الجوهر، وليس الجسد كما توهم دارون، مادام "الانسايوان" الحالة الانتقالية بين الحيوان و"الانسان" قائمه، تسندها اليدوية الانتاجوية، لحين الانقلابيه الالية، عندما تتعاظم التفارقية الادراكية الدينامية المجتمعية بقوة حضور الالة وتسريعها للاليات المجتمعية ذهابا الى الطور التكنولوجي الانتاجي الراهن، ومن ثم مقاربة العتبة الاعلى من التحورية الالية، الى "التكنولوجيا العقلية"، حين تبدا العلاقة بين وسيلة الانتاج، وبين الجسدية بالتوقف ذهابا الى التفارقية العظمى، ساعة لايعود الفعل المجتمعي مهيئا للاحاطة عقلا حتى بالحدود الدنيا، بحسب المنطلقات والاسس المعهودة تاريخيا، بما يجعل المجتمعية خارج الطاقة العقلية القصورية، في وقت تكون فيه الاسباب التحولية المنتظرة، مافوق الارضية قد غدت هي الحاضر موضوعيا .

وفي حين تصر الارضوية على معالجة المعاش والواقع بذات وسائلها ومامتاح لها وماتعودته، فان الحال يتحول الى مايشبه الجنون العاقل اعتيادا، بما انه مايزال ممكنا وحيدا لاادراك لماسواه، ولا غرابة هنا اذا نظرنا للمشهد من الزاوية الانتقالية التحولية، من طور في الوجود هو "المجتمعية" المعروفة اختصارا ب (التجمع + انتاج الغذاء) كطور استمرار تشكلي عقلي لاحق على التشكل الاول، ذلك الذي تكفلت به الطبيعه بلا حضور للكائن الحي، عبر مليارات السنين تحورات حيوانيه، مع الغلبة شبه المطلقة للجسدية الحيوانيه على المكون العقلي المضمر المدفون، وصولا الى الانتصاب علىى قائمتين وتغير الهيئة الجسدية حين حضر العقل محققا وثبته الابتدائية الاولى، ماظل يعتبر على انه هو "العقل" قصورا انسايوانيا، كما ظل يطلق على الكائن البشري الانسايوان تسمية "الانسان" اعتباطا اطلاقيا قبل بلوغ الطور الثاني العقلي، ووثبته الاكتمالية المحالة لفعل البيئة والكائن البشري تفاعليا، انما ليس بقوة العلاقة بالبيئة والطبيعه، بل من خلال التفاعلية المجتمعية، ويومها ينتهي ليس تاريخ المجتمعات الجسدية، بل كل تاريخ الجسدية والثنائية التي تجعل منها حاملا ضرورة للعقل وترقيه، وهو مانحن على اعتابه من هنا فصاعدا.

ان هدف ومنطوى المجتمعية الذهاب بالعقل بصيغته الاولى بعد حضوره، الى المحطة التشكلية العقلية النهائية، حين تتأمن اسباب الاستقلالية العقلية، بينما تكون المجتمعية قد انجزت مهمتها الكبرى المصممة لانجازها من لدن الغائية التحولية الكونيه العظمى الناظمة للوجود الكوني والياته، والمجتمعية تمر بمرحله اولى طويلة يدوية تتمتع ابانها برغم القصورية العقلية، بقدر من التناغمية الضرورية لاستمرارها التفاعلي، الى ان تنبثق الاله وتحوراتها وصولا الى اعلى اشكالها التكنولوجية، ساعة تفقد المجتمعات بصيغتها الجسدية الارضوية التناغمية الضرورية بين وسيلة الانتاج ومادتها المتحولة نوعا الى الصنف العقلي من الكينونه البشرية، ووقتها لن يعود امام المجتمعات الا الانهيار المطرد، وصولا للاختفاء في الوقت الذي يكون فيه العقل قد صار في وضع يؤهلة للتحرر من الجسدية لدرجة الاستقلال عنها، والتهيؤ لمغادرة الكوكب الارضي السكن المؤقت، ذهابا الى الاكوان العليا محطته والغرض من وجوده.

هنا وعند هذا المفصل، تتعاظم وطاة القصورية العقلية الموروثة، كما تبدا من هنا فصاعدا معالم الانقلاب النوعي الزمني الذي لامفر منه ولابديل، فاما مغادرة القصورية العقلية، والقفزة العقلية الكبرى وصولا لتحرر العقل، واما الاحتمالية الكارثية الفنائية.

***

عبد الأمير الركابي

تحليل سيكولوجي

تنويه: هذه المقالة، او الدراسة، لا علاقة لها بالسياسة، انما هي سيكولوجية خالصة تدخل ضمن تخصص في علم النفس بعنوان (علم نفس الشخصية Psychology of Personality).. تهدف الى تقديم حالة واقعية في تحولات الشخصية تعدّ استثنائية او جديدة على صعيد العالم المعاصر، هي شخصية ابو محمد الجولاني الذي خلع جلباب داعش وارتدى لباسا مدنيا بأسم احمد الشرع!

الجولاني،. بمنظور الرأي العام

من عادتي انني استطلع الرأي حين اكتب عن ظاهرة تشغل الرأي العام، لأن من شروط الدراسة العلمية.. معرفة مواقف الناس من تلك الظاهرة.. وهذا ما فعلناه في هذه الدراسة.

كان اول استطلاع اجريناه عن (ابو محمد الجولاني)،. بعد يومين من سقوط نظام بشار الأسد، فكانت النتائج ان انقسمت الغالبية المطلقة الى فريقين:

الأول، يرى (انه داعشي وسيبقى داعشي)،

والثاني، يرى انه صناعة امريكية،

الفريق الأول.. نماذج

كنا كتبنا مقالا وثلاثة منشورات عن (ابو محمد الجولاني) ،. بدأناها بالآتي:

(بخلاف ما يراه محللون سياسيون من ان (ابو محمد الجولاني.. داعشي وسيبقى داعشي)، فأن تحليلنا السيكولوجي لشخصيته يطرح رأيا مخالفا لأرائهم).

تجاوز عدد التعليقات.. الخمسمئة، اليك نماذج منها:

دكتور كلامك، يناقضه تصنيف الكونكرس الأمريكي له باعتباره ضمن منظمة.. مدرجة على لائحة الا. ر. ه. ا. ب الدولي.

دكتورنا المبجل، لا يغرك تخفيف لحيته، أو تغيير قميصه، أو خفض نبرته. !!فنحن للآن لم نعرف كم قتل من العراقيين واوغل وأولغ في دماءهم، يوم كان مساعدا للزرقاوي ثم للبغدادي!!!

الجولاني.. له تاريخ مخزي بالقتل والذبح والتدمير في العراق وبعدها في سوريا. انه من اعتى مجرمي القاعدة سابقا، والنصرة. انه كالأفعى، فهل يمكن للأفعى لو أطعمتها عسلا أن تمتنع عن اللدغ ونفث سمها!.

الأخ الفاضل. بالتأكيد يسرّ كل من له علاقة بعلم السيكولوجيا وعلم الإجتماع والعلوم الأخرى القريبة منهما أن يستمع لوجهة نظر بشأن هذه الشخصية التي ولدت في رحم القاعدة، ولكن ذلك لا يعفي أن (الحكم) سيكون مستعجلاً للغاية، بالإنتظار مع الإحترام.

وواضح سيكولوجيا، ونحن نتحدث سيكولوجيا وليس سياسة، أن موقف الغالبية المطلقة من (الجولاني) يتفق مع وجهة نظر عدد من علماء النفس بأن الشخصية تبقى ثابتة بمرور الزمن.. فيما سيكون لنا رأي آخر.

في المنشور الثاني،. كان النص كالآتي:

(لمن شكك بقولنا ان ابو محمد الجولاني (احمد الشرع) هو الذي يتصدر المشهد السياسي في سوريا.. ها هو اليوم يلتقي به رئيس وزراء الحكومة الانتقالية ليتلقى منه توجيهاته!

اليكم نماذج من التعليقات:

الجولاني مجرم ومحكوم بالإعدام بالعراق لقتله مئات العراقيين، وهو من القاعده وإسلامي مجرم الاحزاب الاسلاميه كلها مجرمه بدون استثناء لأخير ولا شرف يترجى من الاحزاب الدينيه

رأيك خاطئ هذا ما ثبتته كل التجارب المماثلة لحد الان، ارجوا عدم الانزعاج من هذا الرأي

لا يوجد حاكم او سياسي مستقل كلهم منتمون الى اجندات خارجية. وارى ان الجولاني لايختلف عنهم..، سيتصارعون مرات ومرات، ولا نعلم متى ياتي نصر الله.

هؤلاء القتلة والإرهابين لا يمكن ترويضهم وهم تحت الطلب ومتى ينتهي مفعولهم سوف يتم رميهم بحاوية الازبال.

الفريق الثاني: الجولاني. صناعة أمريكية.

اليكم نماذج من وصفهم له:

هذا صناعه امريكيه من أجل توازن القوي في الشرق الأوسط.

امريكا تكافى عملائها، فأمس كافئت الطالبان في افغانستان واليوم الجولاني في سوريا وغدا لمن تكافى وفي، اي، مكان ستكون الهديه.. هكذاهم.

ولكن في نفس الوقت دكتورنا الغالي، ابو محمد الجولاني هو اداة لامريكا والصهيوانيه.

ارى انه لا يحق للعراقيين ان ينتقدوا او ينالوا منه لانه بهذا التاريخ، لان من كنا نعتقدهم مقدسين ملائكة اثبتوا لنا قتله وفاسدين ولصوص.

آخر استطلاع

ولمعرفة ما اذا كان قد حصل تغيير في الرأي العام بعد ان تصدر (احمد الشرع) المشهدين السياسي والعسكري. توجهنا في (17 /12 /24) باستطلاع هذا نصه:

(ابو محمد الجولاني- احمد الشرع:

داعشي وسيبقى داعشي

صناعة امريكية

وطني وسيعمل على بناء دولة مؤسسات مدنية في سوريا

اختر اجابة واحدة لطفا)

وكانت النتيجة ان الغالبية المطلقة ما تزال على موقفها بأن أحمد الشرع داعشي وسيبقى داعشيا، وأنه صناعة امريكية.

وسيكولوجيا، نخلص من موقف الفريقين أن شخصية (ابو محمد الجولاني – احمد الشرع) لن تتغير، حتى بعد ان تصدّر المشهدين السياسي والعسكري في سوريا، وان الأغلبية المطلقة مع الموقف السيكولوجي الذي يرى بان (سلوك الفرد يستقر ويتسق عبر الزمن وعبر المواقف).. بمعنى ان الشخصية لا تتغير بتقدم الزمن وعبر المواقف.

ونختمها بتعليق الكاتب المعروف زهير عبود: (عمل الجولاني في القاعدة ثم انشق عنها وقتل اعدادا من عناصرها، ثم عاد وانشق عن التنظيم المنشق ليقاتل التنظيم الجديد وتأسيس تنظيم جند الشام الذي ارتكب جرائم ارهابية بشعة، وخضع لارتباط اجنبي واضح تم تسويقه لاسقاط نظام دكتاتوري، وتم اعتبار الشخص ارهابيا دوليا، وخصصت لرأسه ١٠ ملايين دولار للقبض عليه، والولايات المتحدة غضت النظر عن توصيفها وجائزتها.. وبانتظار التحليل الذي اثق بشجاعته ومصداقيته كما عهدتك).

مفهوم الشخصية في علم النفس

يتفق علماء النفس المعنيون بدراسة الشخصية (Personality) على صعوبة تحديد مفهوم الشخصية، وحاول كبار علماء النفس تزويدنا بوجهة نظرهم في تعريف الشخصية وبمنظورهم الخاص بالطبيعة البشرية وسلوك الانسان. ولهذا يصح القول بان هنالك تعاريف للشخصية بقدر عدد المنظرين في علم نفس الشخصية اليك نماذج منها:

جليفورد: الشخصية هي عبارة عن جملة الطرز والسمات التي يتميز بها الفرد عن غيره.

إيزنك: الشخصية هي الجانب الذاتي الذي يتميز به الفرد في توافقه مع بيئته، فتظهر في أخلاق الفرد ومزاجه وقواه البدنية والعقلية.

واتسون: هي النشاطات الخارجية التي يقوم بها الفرد، والتي من الممكن ملاحظتها بشكل مباشر أثناء تفاعله، ويجب أن تكون هذه الملاحظة طويلة المدة وكافية للتعرف إلى شخصية الفرد وفهمها بشكل كامل.

سكنر: هي جملة الأنماط والاستجابات السلوكية القابلة للملاحظة بشكل تطوّري، مع ظهور إمكانية التنبؤ بها وبمدى شدّتها، بالإضافة إلى قابلية ضبطها والتحكم بها باستخدام العديد من المبادئ كالتعزيز.

بيرت: هي التنظيم المتكامل الذي يحتوي على جملة من الميول والاهتمامات والاستعدادات والمهارات الجسمية البدنية والعقلية، وتكون ثابتة نسبياً بحيث يتحدّد بمقتضاها الأسلوب الذاتي للفرد في تفاعله وتكيُّفه مع بيئته المادية والاجتماعية

رالف لنتون: يُطلَق مفهوم الشخصية على الصفات المتكاملة للفرد العقلية والاجتماعية والسيكولوجية؛ أي أنها مجموعة من القدرات الذهنية للفرد والمعتقدات والعادات والاستجابات الانفعالية له.

ليس هذا فقط بل هنالك سبعة منظورات في الشخصية.. من المنظور البيولوجي الى منظور التحليل النفسي، وانتهاءا بمنظور علم النفس التطوري.

فضلا عن ذلك.. لدينا في علم النفس فرع خاص بعنوان علم نفس الشخصية (Psychology of Personality) يستقطب اشخاصا من العلماء المتميزين والمبدعين من ذوي التفكير الاصيل، توصل عدد منهم الى ان الشخصية هي بناء فرضي معقّد يستعمل لتفسير مسالتين اساسيتين:

الاولى: استقرار سلوك الفرد واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف، (ولسنا معه بالمطلق)،

والثانية: تمايز او اختلاف سلوك الافراد الذين يتعرضون لنفس الموقف.

وجهة نظرنا في الشخصية

لأن الموضوع حساس جدا، ولأنه يمثل اشكالية جدلية، فأن الأمر يضطرني الى ان اوضّح لمن لا يعرفني، بأنني مؤلف لستة كتب في الشخصية، اثنان منها يدّرسان في جامعات عراقية وعربية، وواحد بعنوان (الشخصية العراقية في نصف قرن) يعدّ افضل ما كتب عن الشخصية العراقية، و(الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية) الذي استنسخ، دون علمي، وعرض في شارع المتنبي.. و(الحاكم والمحكوم في العالم العربي من منظور علم النفس والأجتماع السياسي).. فضلا عن أنني درّست مادة الشخصية لأكثر من ثلاثة عقود.. وقدمنا تنظيرا جديدا ومصطلحات سيكولوجية مبتكرة.. من بينها (الحول العقلي) وأخرى في كتابنا (نحو علم نفس عربي) الصادر في القاهرة.. اوضحنا فيه أننا لا نتفق مع علماء النفس الذين يرون ان سلوك الفرد يبقى مستقرا ومتسقا عبر الزمن.

تحولات شخصية ابو محمد الجولاني

المفارقة في التحولات السيكولوجية لهذه الشخصية التي تتصدر المشهد السوري الآن، انه تحول من اقصى اليمين الديني المتطرف الى شخصية مدنية. وأنه كان قد شارك في شبابه في احتجاجات ضد حكم البعث وسجن مرات، وشق طريقه (الجهادي) ليكون قائدا عسكريا مع تنظيم القاعدة في العراق لمقاومة الغزو الأميركي للبلاد، ثم انتقل إلى سوريا، وأسس "جبهة النصرة" فرعا للقاعدة.. تتبع (الدولة الأسلامية في العراق) بقيادة ابو بكر البغدادي ليقرر في 2013 مبايعته زعيم القاعدة.. ايمن الظواهري. الى تأسيسه (جبهة النصرة) التي كانت تقاتل ضمن فصائل أخرى، ليستقر الى ما صار يعرف بـ"هيئة تحرير الشام ". الى تصدره المشهدين السياسي والعسكري في سوريا، الى تشكيله الحكومة السورية الأنتقالية، الى استقباله الوفود العالمية من فرنسا والمانيا ودول أوربية!.

ومن تصنيفه كأرهابي عالمي، والأعلان عن صرف مكافأة عشرة ملايين دولار امريكي مقابل الأدلاء بأي معلومات عنه.. الى ان تلتقيه شبكة CNN وتجري معه حوارا مطولا، لتجد فيما يطرحه تغيّرا فكريا وعقائديا مقارنة بما قاله في حوار سابق مع قناة الجزيرة عام 2013 الذي اعلن فيه صراحة عزمه على تعزيز تنظيم القاعدة في سوريا.. الى طمأنة السوريين بعد احتلاله مدينة حماة بأن "الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة له أو لم يفهموه بشكل صحيح"، الى مقولته الأخيرة بأن قوى المعارضة اذا نجحت في الإطاحة بنظام الأسد، فان سوريا ستتحول إلى "دولة حكم ومؤسسات ".. بمعنى ان سوريا ستكون حرة، ديمقراطية، وتعددية.

وسيكولوجيا، رأيت فيه من متابعتي لحوارات معه عبر الفضائيات انه يمتلك صفات في الشخصية الكارزمية. فهو يتمتع بحضور مؤثر، ولديه القدرة على التأثير في الآخرين واعجابهم به، وانه يمتلك خبرة سياسية ويتحدث ويسترسل بطلاقة المتمكن وبلغة جسد متناغمة مع لغة كلامه.

تساؤلات

سواء كنت محللا سياسيا او اعلاميا او عالم نفس اجتماعي او انسانا عاديا.. فأننا جميعا نتساءل:

هل ان ما يمتلكه الجولاني من معتقدات اسلامية وتنظيرات تلقاها من كبار في القاعدة (ابو بكر البغدادي، أيمن الظواهري و.. ،) واجتهاده العقائدي.. ستتحكم به حين يتولى سلطة قيادية في الحكم، أم انه سيمارس ويطبّق فعلا ما يقوله من طروحات ديمقراطية؟

هل هو براغماتي، نفعي، مصلحي (يتمسكن ليتمكن).. يتعامل مع الواقع كما هو اكثر من تعامله مع ما ينبغي ان يكون، وانه مخادع يجيد فن الخداع؟

هل ان دراسته للقرآن التي دفعته الى تحقيق العدالة وتخفيف الظلم عن الناس، حولّها الى اسلوب مدني بعد ان فشل تحقيقها على صعيد الحركات الاسلامية؟

وهل سيلتزم عمليا بتصريحين تنقلان سوريا الى مصاف الدول الديمقراطية، هما:

-  (نعمل على بناء دولة قانون تضمن الكرامة والعدالة ومؤسسات تلبي طموحات الشعب)،

-  و.. (مصالحة مجتمعية شاملة مبنية على العدالة والمساواة)؟

الجواب المنطقي: لا أحد يمتلك اجابة مؤكدة وقاطعة، وأن الزمن كفيل بكشف الحقيقة.

قراءة سيكولوجية

تقدم قراءتنا السيكولوجية لشخصية (احمد الشرع) مؤشرات تنبؤية لما سيكون عليه، منطلقين من رؤيتنا بأن الشخصية تتغير عبر الزمن، وأن اهم عاملين في هذا التغيير هما: نوعية وشدة الأحداث التي خبرتها، ونوع القضية التي تهدف الى تحقيقها.

ونرى ان القضية الأساسية التي شغلت احمد الشرع وصارت هدفه الأسمى في الحياة هي (قضية وطن).. بهدف تحقيق العدالة الأجتماعية وتخفيف الظلم عن الناس التي غرستها في شخصيته دراسته للقرآن وفهمه لجوهر الدين الأسلامي، ومعرفته بتاريخ الأنبياء الذين ثاروا من اجل تحرير الناس من ظلم الطغاة والسلطات المستبدة.

ومن مرونة تحولاته انه التقط العبرة من فشل الحركات الاسلامية وسقوطها في مصر وتونس، وقناعته أن طريق بناء دولة اسلامية أثبت فشله. ولتحقيق طموحه فانه صار على يقين بأن عليه ان يكون براغماتيا.. يتعامل مع الواقع كما هو. وفهم ان القيادة تعني (سلطة) وان السلطة تعني حاجة الناس الى قوة تتصف بالشرعية وليس بالقسر والأجبار.. يخضع لها الجميع بما يضمن حقوقهم ويقرّ لهم بالواجبات، ويجنّبهم الصراعات القائمة على الطائفية والمحاصصة والتصفية والأقصاء والأستفراد بالسلطة والثروة، بعد ان ادرك ان الشعب السوري.. متعدد الأديان والطوائف والقوميات والثقافات وعليه ان يكون على مسافة واحدة من الجميع ليضمن فوزه في انتخابات مقبلة يعمل على ان تكون ديمقراطية، بعد ان يكون قد اقنع الشعب السوري بأن ابو محمد الجولاني (الشاب الأربعيني) قد خلع جلباب داعش وتحول الى احمد الشرع.. وتلك هي الأضافة الجديده في سيكولوجيا الشخصية على الصعيد العالمي!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بعد إزاحة «البعث» في 9 أبريل 2003 مِن سدة السُّلطة ببغداد؛ ظل جناحه السُّوريّ قائماً بدِمشق حتَّى 8 ديسمبر 2024، يحكمها على قلق، حتى انتهى بعد 61 عاماً. كان الأسد يعرف النتيجة، فقد شاهد مصائر الآخرين المريعة، فإذا كابر رأس النّظام العراقيّ، ولم يسمع لمَن نصحه بالانسحاب، فلربّما جنب بلاده الهوائل، حسبها الأسد- لكنه ترك البلاد بلا ترتيب- حساب المتنبيّ (اغتيل: 354هـ) مادحاً سيف الدَّولة (تـ: 356هـ): «الرَّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشُّجْعانِ..هُوَ أَوَّل وَهِيَ المَحَلُّ الثَّاني». قالها المتنبيّ لما انسحب الحمدانيّ مِن بلاد الرّوم، فالمواجهة ليست لمصلحته (اليازجيّ، العرف الطّيب في شرح ديوان أبي الطّيب).

تسلم البعث السلطة بانقلابين عسكريين (1963)، ببغداد (8/2)، وبعد شهر بدمشق، وكان بالإمكان تطبيق شعارهما بالوحدة العربيّة، فكانت القاهرة بحاجة لإعادة الوحدة مع دمشق، لتستر هزيمتها؛ الوحدة التي فكت عراها (1961)، لكنه مؤتمر، وخياطة عَلم (1963) لا أكثر، ثم أجهضت ثانية؛ «واتصلت زوراً وقد أقسمت/ بالعروة الوثقى على الانفصامِ» (الجواهريّ، أمين لا تغضب 1963)، لأنهّ شعار «أماني لا مباني». عاد «البعث» إلى السلطة ببغداد في 17 يوليو 1968، وأعلنت بعده دمشق «الحركة التّصحيحية» في 16 نوفمبر 1970، فبدأ الخصام، ولم ينته.

لا أدري، إذا صح الرّبط بالنزاعات الحادة بين الشّام والعراق، بما حصل بين الغساسنة والمناذرة(قبل الإسلام)، فالغساسنة العرب نصبهم القياصرة ملوكاً على الشَّام؛ والمناذرة العرب نصبهم الأكاسرة ملوكاً على العِراق، وكلاهما كان على المسيحية، فإذا كانت المسيحية ديانة تبشيرية، فالمجوسيّة ليست تبشيرية، لذا؛ سمح الأكاسرة بالمذهب النَّسطوري بالمدائن، المخالف لمذهب الرُّوم (البير أبونا، تاريخ الكنيسة الشَّرقيّة).

احتل المناذرة، أو آل لخم، الشَّام مع الأكاسرة، وبالمقابل احتل الغساسنة العراق عند انكسار المناذرة، والمعروفون بملوك الحيرة، وكانوا على العراق قاطبة، فقيل: «فدوخت العِراق فكلُّ قصرٍ.. يُجلجل خندقٌ منه وحامٌ» (نولدكه/ أمراء غسان). يومها كان الفرس ببلاد الشّام «أنزلوا الرّعب في قلوب أهلها، وأحدثوا فيها مِن الخراب» (نفسه)، حتى استردها الرُّوم. كان البَلدان ساحة لنزاع الإمبراطوريات العظمى آنذاك(رومان وساسانيون).

انتهت تلك المقابلة مع الفتوح الإسلاميَّة، لكنها عقودٌ ويتقابل الشام الأموي مع العراق العلويّ، والأشد كانت معركة صفين(37هـ)، حيث القائم اليوم غرب العِراق على الفرات(ابن مُزاحم، وقعة صفين)؛ بعدها ظل العراق مكان الثَّورات ضد الشَّام، وأخطرها كان خروج ابن الأشعث(قُتل: 85هـ)، وآخر وقعة له مع الأمويين بـ«ذات الجماجم»، حيث بابل(الطّبريّ، تاريخ الأمم والملوك).

لا يتسع المقال ولا المقام للتبسط، بما حصل بين دمشق وبغداد، حتّى نصل إلى حكمهما مِن «البعث»، فالنّظريّة واحدة، لكن الأمر بينهما كان أخطر مما بين الغساسنة والمناذرة، فمؤسس الحزب نفسه كان أميناً ببغداد، ومنبوذاً بدمشق، وكيفما تكن دمشق، تكن بغداد ضدها، وبالعكس.

انتهى حكم الحزب بدمشق وقبلها ببغداد، وما عاد الدّفاع عن الأضرحة، وشعار «زينب لا تُسبى مرتين» موجوداً، مع أنّ البناء بضواحي دمشق مقام وليس ضريحاً، فزينب وأسرتها غادرت دمشق إلى يثرب ولم تخرج منها. أتلاحظ كيف يتحفنا التّاريخ بالعجائب، علوي(المذهب) يحكم عاصمة الأمويين، ويُصلي في مسجدها، يواجه سُنياً يحكم بغداد، والأخير تُشجر له شجرة نسب أصلها علويّ، وما هي إلا لحظات مِن الدّهر، وبقدرة قادر، تصبح دمشق تحت حاكم سُنيّ، وبغداد يحكمها شيعيٌ، مع ثقتنا، أنَّ الطوائف غير مسؤولة عن مسالك الحاكمين. لذا؛ يكون الثأر من الطَّوائف كبائر الخطايا.

أقول: سينتهي التّقابل بين دمشق وبغداد، المتعاقب مِن زمن الغساسنة والمناذرة؛ حتّى فرعي حزب «البعث»، وتزدهر العاصمتان؛ لكنْ لا يحصل هذا، إذا ظلت مصلحة الخارج والعقائد لدى المتنفذين في العاصمتين، مقدمة على مصلحة الوطن والشّعب؛ وهذا هو الفرق بين ممالك مستقرة جعلت الدَّاخل أولاً، وجمهوريات مضطربة سحقت الدَّاخل سحقاً، وبغداد ودِمشق نموذجان صارخان.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

أبشروا بالخير: الجولاني لن يفرض الجزية!

مَن تابع التطورات في سوريا خلال الأيام الماضية، لا بد وأن يشعر بشيء من الارتياح والاطمئنان للكيفية التي تعامل بها مسلحو "هيئة تحرير الشام" مع مواطنيهم المسيحيين وعموم أبناء الأقليات الدينية من تفهم وعدم اعتداء وتسهيلات وتطمينات. فالمطران مارثيموثاوس متي الخوري، مطران حمص وحلب وطرطوس، وبعد اجتماعه وعدد من الفعاليات الأهلية مع ممثلين عن "إدارة العمليات العسكرية" نقل تلك التطمينات /الرابط1، التي جاءت بخلاف ما حدث من قتال فصائلي في الشمال والشرق السوري بين جماعة مسلحة تحمل اسم "الجيش الوطني السوري" المدعومة من قبل تركيا، وقوات مليشيا سوريا الديموقراطية "قسد" ذات الغالبية الكردية والمدعومة من قبل واشنطن، ومن قمع لتظاهرات شعبية مناهضة لقسد من قبل هذه الأخيرة. ولكنَّ مَن استمع لما قاله مطران آخر هو حنا جلوف، النائب الرسولي لطائفة المسيحيين السوريين اللاتين، بعد اجتماعه مع المسؤول السياسي عن الطوائف في هيئة تحرير الشام بشير العلي/ الرابط 2 ، لا بد وأن يشعر بالقلق مما أوحى به كلام المسؤول المليشياوي بخصوص أهداف هذه الجماعات ومشاريعها المستقبلية.

من الواضح أن تجربة الجماعات الإسلامية السورية المسلحة المنتصرة، تحاول محاكاة تجربة حركة طالبان الأفغانية الثانية المستمرة باعتمادها نسخة مخففة من الاستراتيجية الجهادية القاسية المألوفة. ولكن تجربة الجهاديين السوريين قد تكون مخففة أكثر من زميلتها الأفغانية عبر تبشيرها بالدعوة لإقامة ما دعاه العلي "دولة مدنية شرعية وليست علمانية"، دولة قائمة على "مفهوم الحرية المدروسة -الغير مزعجة للآخرين"، وعلى سيادة "مفهوم الشرع الديني مع احترام حقوق الطوائف". ولكن هذا التخفيف الأيديولوجي مهما بلغ لا يعني شيئاً ذا بال لقطاعات شعبية واسعة في مجتمع تعددي سوري عريق ومختلف كثيراً عن الآخر الأفغاني أو غيره. وواضح أيضاً أن هذا كله كلام سياسي تعبوي يطلقه مسؤولو المليشيات للاستهلاك الإعلامي وطمأنة الشارع ولا علاقة له بلغة الدساتير والفقه الدستوري المصادَق عليه من قبل الشعب في عملية ديموقراطية شفافة وبعد مناقشات صبورة لمسودات تقترح من قبل متخصصين في الدستوريات في جمعية تأسيسية دستورية منتخبة لكتابة الدستور!

يمكن القول إنَّ هذه الصيغة للدولة السورية القادمة كما ورت في كلام المسؤول المليشياوي، والتي تمثل منطقياً القائلين بها من المستقوين بالمال والسلاح الأجنبي اليوم، هي أقرب إلى طموحات وتهويمات الرئيس التركي أردوغان وحزبه ذي الخلفية الإسلامية، والذي يحكم إحدى أكثر الدول تطرفاً في علمانيتها من كونها برنامجاً قابلاً للتطبيق للإسلاميين السوريين المدعومين من قبله ومن قبل حاكم قطر.

وعلى هذا يمكن القول، إنَّ مشروع دولة كهذه في بلد تعددي وذي تراث عريق في التعايش المتنوع والتسامحي كسوريا هو - للأسف - نذير شؤم وكوارث واقتتال مرير وطويل مستقبلاً نأمل أن لا يحدث أبدا، فقد عانى السوريون الكثير من الويلات والحرمان من الحقوق السياسية ومصادرة الحريات الفردية والعامة منذ نصف قرن تقريبا. ولنا أن نأمل في أن يجنب عقلاء وعاقلات سوريا بلادهم وشعبهم أهولاً وتجارب طائفية مريرة إضافية سبق وأن مرَّ بها جيرانهم في العراق ولبنان وغيرهما وينأوا ببلدهم وشعبهم عن أنظمة الحكم المكوناتية الطائفية والعرقية الفاشلة!

أمويون زائفون

أياً يكن رأينا في بني أمية ودولتهم البائدة، من الناحية الدينية والتراثية، ولكن اشتراطات البحث العلمي التأريخي تجعلني أعتقد أن من الحيف والإجحاف التأريخي أن يقارن البعض أو ينسب أو يماثل بين بني أمية الذين دوَّخوا العالم في عصرهم وأقاموا إمبراطورية مترامية الأطراف بحد سيوفهم، أو كما تقول الأغنية الفيروزية: "أمَـويُّـونَ، فإنْ ضِقْـتِ بهم .... ألحقـوا الدنيا بِبُسـتانِ هِشَـام"، والمعارضة السورية المسلحة، وبشكل خاص تلك المليشيات التي صارت لها اليد الطولى في المشهد ودخلت دمشق دخول الفاتحين بقيادة الجولاني، وراحت تتفرج على عاصمتها تقصف على مدار الساعة ومقدرات الجيش السوري تدمر وجبل الشيخ وهو يقتحم من قبل قوات العدو الصهيوني. هذه المليشيات ستبقى ملطخة بهذا العار، عار السكوت على هذا العدوان إلى الأبد، ولن تمحوه من ذاكرة الأجيال السورية والعربية، فشتان بين مَن يصنعون التأريخ ويفتحون البلدان بسيوفهم كبني أمية وبني العباس وبين مليشياويين صغار يتنازلون طوعاً ومن دون قتال عن أرضهم ويصانعون المحتل بالقول إنهم لن ينخرطوا في صراع ضده مقابل أن يصلوا الى كراسي الحكم! وللإنصاف فالمعارضة المسلحة لا تتحمل وحدها مسؤولية ما حدث بل تشاركها فيه سلطات النظام البعثي السابق لأنها مهدت طول عقود حكمها الاستبدادي لما حدث ويحدث هذه الأيام ولأن الاعتداءات الصهيونية بدأت واستمرت خلال عهدها.

فلسطين قدر سوريا

نعم، السوريون - والحديث هنا عن الشعب - لا يحتاجون إلى من يعلمهم الوفاء لوطنهم أو لفلسطين بشهادة هيرودوتس؛ ففلسطين هي سوريا وسوريا هي فلسطين منذ أكثر من 2500 عام، ولكن الخشية تأتي من التكفيريين المتعصبين الموالين لتركيا الناتوية: في كتابي "موجز تأريخ فلسطين منذ فجر التأريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي"، كنت قد ذكرت بخصوص تأثيل اسم (فلسطين) الآتي مختصرا: "ظهر اسم فلسطين موثقاً في مؤلفات المؤرخ والرحالة الإغريقي هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد، إذْ أشار إلى منطقتي شمال بلاد الشام باسم "سوريا" وإلى جنوبها بـ "فلسطين" (Παλαιστινη پَلَيْسْتِينِيه) و"فلسطين السورية". "..." غير أن اسم فلسطين كان شائعاً حتى قبل هيرودوتس بعدة قرون. ففي سنة 750 قبل الميلاد ورد اسم "بلست" باللهجة الكنعانية العبرية، ثم ورد اسم بلادهم "فلستيا Philistia" بعد ذلك، كذلك ورد اسم "بالستين" أو "سوريا الفلسطينية" (Palestine Syria) الذي كان يطلق على الجزء الساحلي والداخلي من فلسطين الحالية حتى الصحراء العربية في وثائق أخرى".

من هنا يتأكد تداخل تاريخ وجغرافيا وانثروبولوجيا البلدين؛ سوريا، التي اكتسبت اسمها هذا منذ العهد السلوقي محرفاً عن اسم دولة رافدانية هي "آسوريا/ آشوريا"، وفلسطين التي غلب عليها هذا الاسم وكفت أسماؤها القديمة من قبيل "بلاد كنعان" و"بلاد حوري -  خوري" عن الوجود. أما المؤرخ والجغرافي الإغريقي سترابو (64 ق.م - 24م) فقد أطلق على فلسطين اسم "سوريا المجوفة" أو الداخلية. هذا التداخل لن يسمح بسهولة لأي سوري بالكلام عن "الغرباء الفلسطينيين" على طريقة الانعزاليين الفاشيين اللبنانيين، وهو يؤكد لنا بالملموس تأثر وانفعال البلدين والشعبين ببعضهما بشكل لا تماثله أي حالة تفاعلية مشابهة بين بلدين عربيين آخرين حتى في العصر الحديث. ففي العصر الحديث قاد سوريون ثورات وانتفاضات في فلسطين لعل من أشهرهم وأهمهم الشيخ عز الدين القسام المولود في اللاذقية - بلدة جَبَلة سنة 1883.

وعلى المقلب الآخر نجد فلسطينيين كثراً جاؤوا من فلسطين إلى سوريا ليقوموا بأدوار مهمة في تأريخها السياسي والعسكري منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد طارق الخضراء المولود في مدينة صفد، وقد نزح إبان نكبة فلسطين عام 1948، طفلا مع أسرته من صفد سيراً على الأقدام وفي 1960، تطوع في الجيش العربي السوري (جيش الإقليم الشمالي في دولة الوحدة بين سورية ومصر) وبلغ رتبة لواء ومثله العشرات في ميادين مختلفة.

فلسطين هي إذن قدر سوريا، وسوريا هي قدر فلسطين بشهادة هيرودوتس اليوناني الملقب بأبي التأريخ، ولا يحتاج السوريون إلى من يعلمهم الوفاء لفلسطين أو لحضارتهم وجذورهم الكنعانية فالآرامية فالعربية المشتركة، ولكن الخشية كلَّ الخشية تأتي من دور المتعصبين التكفيريين الجدد المتحالفين مع قطر وتركيا؛ فتركيا لا تخفي أطماعها في حلب السورية، وتعتبرها مدينة تركية "بدليل أن سوقها المسقوف يشبه سوق إسطنبول المسقوف" كما قال دولت بهشي زعيم حزب الحركة القومية (MHP) الطوراني اليميني العنصري! وقد كافأت المعارضة السورية المسلحة تركيا بأن رفعت العلم التركي على قلعة حلب في هجومها الأخير. وهناك أيضا أطماع تركيا في الموصل العراقية التي مازالت الحكومات التركية المتعاقبة ترصد لها ليرة تركية ذهبية في موازنتها السنوية في إشارة رمزية لتبعيتها لتركيا. ومعلوم أن تركيا تحتفظ بعلاقات مهمة وقديمة مع الكيان الصهيوني عدو العرب والمسلمين قاطبة انطلاقها من كونها - تركيا - دولة أصيلة وعضو فاعل في حلف الناتو المنظمة العسكرية لدول الغرب.

صمت المليشيات على العدوان الصهيوني

ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً في انطلاقة جديدة وجريئة وراسخة لهذه العلاقة البديهية بين البلدين والشعبين السوري والفلسطيني على أساس من وحدة المصير ومن التراث الحضاري العريض الواحد والمصلحة المستقبلية المشتركة في مواجهة التحديات القديمة والجديدة، بما يجعلنا نأمل بنشوء تحالف شعبي ورسمي لاحقا بين سوريا وفلسطين يمتد إلى لبنان والعراق المتحررين من حكم الطائفية السياسية والأردن المتحرر من معاهدة وادي عربة الاستسلامية المذلة مستقبلا. أما الآن، فيبقى سكوت سادة دمشق الجدد على تدمير مقدرات الجيش السوري والتي هي -كما يعلم الجميع - ليست ملكا لآل الأسد واحتلال جبل الشيخ من قبل العدو الصهيوني مقلقاً ومعيباً ولطخة قاتمة في صفحتهم ينبغي أن تمحى بأسرع ما يمكن وأنْ لا يتم ترسيخها بالمزيد من الصمت وما هو أخطر من الصمت.

إن لامبالاة السلطات المليشياوية الجديدة بدمشق نحو تدمير الجيش السوري وصمتها إزاء اقتحام قوات الاحتلال الصهيونية لقمة جبل الشيخ المشرف على دمشق ولا تفصله عنها إلا أقل من 50 كم، تثير المزيد من الأسئلة والقلق المشروع! كما أنَّ توجه فصائل منها بعد أن أسقطت نظام آل الأسد إلى مقاتلة قوات مليشيات "قسد" يعني أن المهمات الأمنية التركية الموكلة لهذه "المعارضة" أهم عندها من الدفاع عن وطنها ومقدرات دولتها، وأن تجريد "قسد" من سلاحها كما طلبت أنقرة أهم من احتلال الكيان الصهيوني لجبل الشيخ! إنه لشيء مذهل أن لا يصدر أي تصريح من قيادات المليشيات المعارضة جميعا حول حدث بهذا الحجم طوال أربعة أيام تلت سيطرة قوات الجولاني على العاصمة وتشكيل سلطاتها جديدة، وهو يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها. أما الانشغال بالاحتفالات واستقبال المهنئين وتلميع القادة الجدد فليست حجة مقنعة في هذا المجال.

وأخيراً، ونحن في اليوم الرابع بعد سقوط دمشق بيد المعارضة المسلحة وتصعيد العدو الصهيوني لعدوانه التدميري الشامل مستمر، وبعد أن نجح العدو بتدمير أكثر من 90 بالمئة من مقدرات الجيش السوري بما في ذلك القواعد والسفن الحربية في الشمال، قالت الأنباء إن سفير سوريا لدى الأمم المتحدة، قصي الضحاك، وجه رسالة إلى رئيس الأمم المتحدة غوتيريش ومجلس الأمن بناء على تعليمات من الحكومة الجديدة بدمشق "طالب فيها مجلس الأمن الدولي بالتحرك لإجبار إسرائيل على الوقف الفوري لهجماتها على الأراضي السورية والانسحاب من المناطق التي توغلت فيها، في انتهاك لاتفاق فض الاشتباك المبرم عام 1974"، ولكن العدوان تصاعد وطال  في يومه الخامس مواقع الصواريخ البالستية الاستراتيجية وأنفاق في الجبال السورية وفي منطقة القلمون وحول دمشق وداخلها، فيما يتواصل صمت الجهات النافذة السياسية والعسكرية في دمشق ذاتها حتى الآن على هذا العدوان المستمر.

الأسوأ من ذلك الصمت هو توالي التصريحات المشينة من بعض قادة سلطة الأمر الواقع؛ فالجولاني صرح قائلا: "نحن لسنا في صدد خوض صراع مع إسرائيل"، وأجاب قيادي آخر على سؤال لقناة بي بي سي البريطانية نصه "هل تعتبرون إسرائيل عدوا"؟ فقال "ليس لدينا عدو في المجتمع الدولي كله سوى إيران"!

نصائح مسمومة "المكونات"

لعل من أشد النصائح التي تقدم لسادة دمشق الجدد سوءا تلك التي قدمتها الحكومة العراقية وعلى لسان رئيسها ووزير خارجيتها والتي مفادها "ضرورة قيام حكم يمثل كل مكونات الشعب السوري". إن هذه النصيحة المسمومة كلف العراق غاليا وكثيرا فعلى أساس المكونات الطائفية والعرقية إنما كتب الدستور في ظلال الاحتلال الأميركي وتم الاستفتاء عليه في ليلة ظلما وأسس نظام الحكم النيابي المحاصصاتي الفاسد والذي ما يزال العراق والعراقيون يدفعون ثمنه علقما حيث لا جيش ولا صناعة ولا زراعة ولا صحة ولا تعليم ولا حتى سيادة جوية عراقية للطيران المدني والعسكري. لإن دولة المكونات التي تنصح بها حكومة بغداد السوريين اليوم أقامت دولة مريضة وغير قادرة على إطعام شعبها لولا النفط المنهوب نصفه، أو الدفاع عن نفسها إلا بالدعم الخارجي إنها دولة غير قابلة للحياة إلا بالتوافق بين زعامات فاسدة تزعم أنها تمثل مكونات طائفية وعرقية.

إن أفضل نصيحة يمكن تقديمها لهؤلاء الناصحين في العراق وغيره هي؛ اتركوا الشعب السوري يختط طريقه المستقل والديموقراطي لبناء دولة حقيقية مندمجة المكونات، دولة تُعلي من شأن الهوية الوطنية الجامعة على حساب الهويات الفرعية المتخلفة كالطائفية والعشائرية والعرقية والجهوية!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

.........................

* رابطان للتسجيلين الصوتيين للمطران متي الخوري في أول تعليق وللنائب الرسولي حنا جلوف في التعليق الثاني.

1- رابط تسجيل صوتي فيديو لحديث المطران متي الخوري مطران حمص وحلب وطرطوس

https://www.youtube.com/watch?v=ZINIWzYSaXM&list=TLPQMTMxMjIwMjTDpZ0mfV5Z_Q&index=2

2- رابط تسجيل صوتي فيديو لحديث النائب الرسولي لطائفة اللاتين بدمشق للمطران جلوف:

https://www.youtube.com/watch?v=PpvORtTp9NI

 

توطئة وتساؤلات

غالبًا ما يتردّد السؤال المحيّر، لماذا وكيف تمارس سلطة رسمية أو سلطات تابعة لها أو بمعرفتها مهمات أبعد ما تكون عن مهمات الدولة؟ فيختفي أثر مواطن أعزل عن الأنظار في حين بإمكانها القاء القبض عليه إذا كان متهمًا بارتكاب جريمة ما وتقديمه إلى المحاكمة الأصولية، حتى وإن كان بريئًا، وهو لا يملك سوى الامتثال للإجراءات الرسمية القانونية لسلطة مدججة بالسلاح والمال والإعلام والمخبرين.

ثم لماذا تُستبدل وظيفة الدولة، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس، بمهمات عصابة خارجة عن القانون، مثلما تفعل الأخيرة عندما تقوم بخطف مواطن أو احتجاز سيّدة أو أخذ رهائن، بمن فيهم أطفال، سواء لطلب فدية أو لأي سبب ومبرّر آخر.

ويمكن السؤال أيضًا لماذا تلجأ سلطة ما لإخفاء أو اختطاف شخص ما أو مجموعة أشخاص بصورة غير شرعية وتظل الشبهات تحوم حولها وحول العناصر المتواطئة أو المتعاونة معها؟ ولعل الأمر الخطير أن بعض السلطات تمارس الخطف والاختفاء القسري ضد مواطنيها، في حين تحرّم دساتيرها وقوانينها الوضعية، فضلًا عن الشرائع الدينية، مثل هذه الأعمال، وتعاقب على ارتكابها، فهل يراد لقضية المختفي قسريًا أن تبقى في دائرة الظل، وأن لا تسلط عليها الأضواء؟

آراء وحيثيات

ربما كان ضيق صدر السلطات وتبرّمها من الرأي الآخر هو الذي يعطي بعض الإجابات المقنعة على أعمال تقوم بها الدولة، هي في تناقض مع أبسط مقوماتها كدولة وقد تكف من أن تصبح دولة باستمرارها، لكن ذلك جوابًا غير كاف، إلّا إنْ نَظرنا للأمر من زاوية عدم الثقة بالنفس والخوف من الضحية وانتهاك حرمة المجتمع وترويعه باسم الأيديولوجيا أو ادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة وغيرها من المبرّرات بما يؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية بين البشر والتخلّص من الخصم أو حجب حقّه في التعبير، وهو ما تلتجئ إليه الأنظمة الاستبدادية والشمولية.

هكذا صورت جهة دولية مستقلة حادث الاختطاف أو الاختفاء القسري بالقول: يصل بعض الرجال ثم يقتحمون مسكن أسرة من الأسر غنيّة أو فقيرة، منزلًا كان أم سقيفةً أم كوخًا في مدينة أو في قرية، في النهار أو في الليل، ويرتدون هؤلاء الرجال عادةً ملابس عادية أو زيًّا رسميًا في بعض الأحيان، ولكنهم يحملون السلاح دائمًا، ثم أنهم يقومون دون إبداء أي أسباب أو إبراز أي أمر بالقبض، ودون الإفصاح عن هويّتهم غالبًا أو عن السلطة التي يأتمرون بأوامرها بجر فرد أو أكثر من أفراد الأسرة إلى سيارة مستخدمين العنف عند اللزوم.

ثم تبدأ فصول المأساة والعذاب بعد الاختفاء القسري Forced disappearance ليس للمختفي لوحده، بل لأسرته وللمجتمع، فالضحايا يظلّون يجهلون أي شيء عمّا يجري خارج مكان اختفائهم، وأسرهم تجهل هي الأخرى إن كانوا على قيد الحياة، فيكبر قلقهم مع مرور الأيام وينعكس ذلك على حياة الأسرة، خصوصًا الزوجة والأولاد، وتبعات ذلك قانونيًا واجتماعيًا ونفسيًا ومعاشيًا، إن كان هو معيلها الوحيد.

والمجتمع الذي يفجع عادةً بفقدان شخص ما، خصوصًا إذا كان صاحب رأي لا يريد أن ينسى، وإلّا فإن الأمر سيصبح واقعًا مع مرور الايام، وقد يتكرّر دون رادع أو مقاومة أو احتجاج لتحديد المسؤولية، ووقف مثل هذه الانتهاكات اللّاإنسانية والتي تُعتبر ظاهرة خطيرة تهدّد السلم والأمن والاستقرار المجتمعي وتثير الرعب والفزع في النفوس.

الخاطفون وحدهم هم الذين يراهنون على النسيان، سواء كانوا أفرادًا أم جماعات أم سلطة دولة وبعض أجهزتها كي تذبل القضية تدريجيًا، بل يصبح الأمر مجرد ذكرى، ولذلك تراهم يعمدون إلى التعتيم، بل يثيرون غبارًا من الشك لإبعاد الموضوع وإبقائه في دائرة الظل، ليتآكل تدريجيًا بالاهمال وازدحام الأحداث ودورة الزمن.

الاختفاء القسري: في المصطلح ودلالاته

ظل موضوع الاختفاء القسري حسب المصطلح القانوني الذي تستخدمه الأمم المتحدة، أو الاختطاف حسب المصطلح السياسي والإعلامي المتداول، يؤرّق الضمير الإنساني والوجدان الشعبي، ويشغل أصحاب الفكر والحقوقيين والساسة والعاملين في الحقل الديني والمهتمين بالقضايا العامة، وبخاصة الصحافة ووسائل الإعلام، وهم من النخب السياسية والثقافية في الحكم وخارجه.

إن المقصود بالاختفاء القسري هو احتجاز شخص معروف الهويّة أو أشخاص من جانب جهة غامضة أو مجهولة، سواء كانت سلطة رسمية أم مجموعة منظمة أم أفراد عاديين بزعم أنهم يعملون باسم الحكومة، وبدعم منها أو بإذنها وبموافقتها، فتقوم هذه الجهة بإخفاء مكان ذلك الشخص أو ترفض الكشف عن مصيره أو الاعتراف باحتجازها له.

الاختفاء أو الخطف، سواء كان كليًا أم جزئيًا لفترة محدودة، يعني إلقاء القبض أو الاعتقال دون وجود سبب قانوني مشروع ينص عليه قانون الدولة. فالفرق بين القبض والاعتقال من جهة، وبين عمليات الاختفاء القسري من جهة أخرى، هو بسيط لكنه مهم، فبعض الدول التي تحكمها القوانين الاستثنائية أو قوانين الطوارئ أو تطلق فيها يد السلطة التنفيذية وأجهزة أمنها لتمتلك صلاحيات فوق القانون يعتقل المواطنون دون تهمة أحيانًا ولا يُعرف مكان اعتقالهم، وقد تطول المدّة أو يلقى المواطن حتفه تحت التعذيب ولا حساب على الجريمة طالما لم يسجّل ذلك في سجلات المعتقلين، فهم غير موجودين فعليًا فيتم دفنهم "هكذا بكل بساطة".

وإذا أقيمت الدعوى للمطالبة بإجلاء مصائرهم فستكون مجردة ولا يوجد "مرتكب" على الرغم من أن الجميع يدركون من هو الجاني والمذنب الذي يوجّهون إليه أصابع الاتهام باستمرار.

الاختفاء القسري والشرعة الدولية لحقوق الإنسان

إن ظاهرة الاختفاء القسري تنتهك على نحو صارخ منظومة متكاملة من حقوق الإنسان، تلك التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين حول الحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية منع التعذيب وغيرها.

وبارتكاب جريمة الاختفاء القسري تكون الدولة قد خرقت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، سواء الحقوق الجماعية أم الحقوق الفردية، وخصوصًا الحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي، والحق في ظروف احتجاز إنسانية، أي عدم الخضوع للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطّة بالكرامة، والحق في الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية، والحق في محاكمة عادلة، والحق في حياة أسرية طبيعية، وكل تلك الحقوق ينتهكها الاختفاء القسري.

لقد أولت الأمم المتحدة اهتمامًا مبكرًا بظاهرة الاختفاء القسري، منذ العام 1979، وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر ،1992 أصدرت "إعلان بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي"، واعتبرت الاختفاء القسري جريمة ضدّ الكرامة الإنسانية. علمًا بأن جريمة الاختفاء القسري لا تسقط بالتقادم ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون للعفو الخاص.

منصور الكيخيا ودائرة الضوء

الجدير بالذكر أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان كانت قد وضعت برنامجًا من 10 نقاط بشأن المختفين قسريًا، وذلك إثر اختفاء عضو مجلس أمنائها منصور الكيخيا من فندق السفير بالدقي في القاهرة في 10 كانون الأول / ديسمبر 1993، حيث كنّا نحضر سويًا اجتماعًا للجمعية العمومية الثالثة. وقد اعتُبر منصور الكيخيا رمزًا للمختفين قسريًا، وهو ما جئت عليه في كتابي "الإنسان هو الأصل: مدخل إلى القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان" (القاهرة- 2002)، وكنت قد عالجت موضوع الاختفاء القسري في كتاب مستقل بعنوان "الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجًا"، والذي صدر باللغتين العربية والإنكليزية عن دار الشؤون الليبية في العام 1998، كما شكّلنا لجنة لإجلاء مصير منصور الكيخيا برئاسة الشاعر الكبير بلند الحيدري وعضوية شخصيات عربية وازنة، وأصدرنا فيلمًا عنه بعنوان "اسمي بشر" من إخراج عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن محمد مخلوف.

وكنت قد كتبت بعد أيام من اختفاء منصور الكيخيا مقالةً بعنوان "رسالة من منصور الكيخيا إلى المثقفين العرب" في جريدة القدس العربي (ديسمبر / كانون الأول 1993)، أشرت فيها إلى أهمية التضامن لإجلاء مصير المختفين قسريًا، وإلّا فإن الدور سيأتي على الجميع الواحد تلو الآخر.

وحين أجلي مصير منصور الكيخيا بعد الإطاحة بنظام الزعيم القذّافي تمّ الكشف عمّا تعرّض له بعد اختفائه قسريًا ونقله إلى طرابلس وقضائه 4 سنوات في قبو وبعدها فارق الحياة، حيث كانت السلطات تنكر وجوده، وكانت المفارقة المفجعة أنه بعد أن توفاه الله وُضع في ثلّاجة (براد) لنحو 14 عام، إلى أن تمّ العثور عليه بعد دفنه إثر قيام الثورة وهروب الحراس الذين كانوا يحرسون الفيلا التي كان فيها جثمانه، والذي تشوّه ولم يتعرّف عليه أحد، إلى أن جاء وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور ليبحث عن رفاة السيّد موسى الصدر، الذي اختفى قسريًا في ليبيا كذلك العام 1978، وعن طريق الحمض النووي قورنت عينات الجثة الغامضة مع عينات ابنه رشيد وشقيقه محمود، وهكذا تبيّن أن الجثة تعود إلى منصور الكيخيا، وقد أقامت له السلطة الجديدة حفلًا تكريميًا على صعيد الدولة، دعيت إليه في العام 2012 وألقيت فيه كلمةً في طرابلس وأخرى في بنغازي بعد دفنه في تشييع رسمي، وتلك قضية أخرى كنت قد رويتها بمقالة في جريدة السفير بتاريخ 1 كانون الأول / ديسمبر 2012 بعنوان "منصور الكيخيا والرهان على سلطة الضوء".

ولعلّ مناسبة هذه المقالة هي الذكرى 31 لاختفاء منصور الكيخيا قسريًا، والتي تصادف الذكرى 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر / كانون الأول 1948).

***

د. عبد الحسين شعبان

اصيح دونالد ترامب، الآن، الرئيس 47 للولايات المتحدة، بعد فرز الاصوات الانتخابية وتمكن حزبه من الفوز بمجلسي الكونغرس. وسيستلم منصبه كما هو متبع في العشرين من الشهر الاول للعام القادم، كانون الثاني/ يناير 2025، وخلال هذه الفترة الانتقالية، الضبابية، بين رئيسين وحكمين، ديمقراطي وجمهوري، يمارس كل منهما، المنتهي ولايته يقوم بدوره المتبقي له والقادم للبيت الأبيض يقوم بالاعداد لعهده الجديد المنتخب له.

انشغل العالم بمجريات الانتخابات ونتائجها ومن ثم بفوز ترامب وبوعوده قبل الانتخابات وتصريحاته بعدها، ومقارنتها مع فوزه في الانتخابات الاسبق وحكمه لاربع سنوات، ومن ثم اسماء مرشحيه للمناصب الرئيسية في حكومته القادمة للحكم اربع سنوات جديدة. ومن هم وما هو معروف عنهم، وهل يغيرون فيما هو جار ويأثرون في بناء عهد جديد يختلف عن سابقيه ويعد بما يطمح له كل ناخب مشارك او اي امريكي حريص على حياة افضل. ولاسيما في القضايا الاساسية منها التي تهمنا، كعرب ومسلمين، في منطقتنا خارج الولايات المتحدة، وتساعد الامريكيين داخل بلدهم على تنفيذ ما يخصهم منها ويدفعهم على مسار التطور العام والامن والامان والتقدم الإنساني، والأهم ما يعنينا في الوطن العربي وجواره، في قضايا الحروب والعدوان على الشعوب والدول، وقرارات الحصار والعقوبات الاقتصادية على الجمهورية العربية السورية وجمهورية اليمن  والجمهورية الإسلامية في ايران، وشخصيات سياسية معروفة بمواقفها الوطنية والقومية التقدمية، المبدئية في كرامتها وكفاحها من اجلها، وكذلك التدخلات المباشرة في البلدان الثرية بمصادر الطاقة وغيرها من الموارد الطبيعية، فضلا عن التهديدات بالتدخل وصناعة النزاعات والازمات الداخلية في اغلب الاقطار في المنطقة العربية وجيرانها. وابرزها، علنا وسرا، المخططات والمشاريع الامبريالية المرسومة للمنطقة عموما، والقواعد الاستراتيجية الامريكية فيها وطبعا المصالح والعلاقات الإستراتيجية.

اغلب الاسماء التي رشحها ترامب للمناصب الحساسة والرئيسية لا تبشر كثيرا بما يؤمل، بل اعطت انطباعات سلبية مسبقة عنها، من خلال تصريحاتها واقوالها وبعضها من خلال تاريخها، بانها نماذج يمينية متطرفة، اطلقت وسائل الاعلام عليها مصطلح صقور اليمين، وتتناقض مع الوعود والأفكار التي قدمها ترامب او انتظرها الامريكيون والشعوب الاخرى. كالمرشح لوزير الخارجية، السيناتور ماركو روبيو، ابن لمهاجرين كوبيين، يُنظر إليه باعتباره من صقور السياسة الخارجية، وخاصة تجاه إيران والصين، وتصريحه عن فلسطين وحماس، ومثله المرشح لوزارة الحرب، بيت هيغسيث، مقدم برنامج تلفزيوني في قناة امريكية معروفة التوجهات والمصادر، وخدم عسكريا في حربي العراق وأفغانستان، وحصل على نجمتين برونزيتين. ودفاعه عن الصهيونية الدينية وتطرفه فيها ونقوش الوشم المعبرة عنها. او المرشح كمستشار للامن القومي مايك والتز، عضو الكونغرس عن ولاية فلوريدا، وأول عضو في القوات الخاصة، يُنتخب لمجلس النواب، والمرشحة لتمثيل الولايات المتحدة الاميركية في الأمم المتحدة، إليز ستيفانيك، رابع أعلى عضو جمهوري في مجلس النواب، وكانت حليفة قوية لترامب. ورحب مؤيدو الرئيس المنتخب اليهود باختيار هذه النائبة عن شمال ولاية نيويورك. ويُنظر على نطاق واسع إلى استجواب ستيفانيك الصارم حول معاداة السامية في الحرم الجامعي، الذي أدى إلى إقالة رؤساء جامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا. كما أعلن ترامب تعيين المستثمر العقاري ورائد الأعمال ستيف ويتكوف مبعوثا خاصا للولايات المتحدة إلى "الشرق الأوسط". ويترأس ويتكوف شركة للاستثمار والعقارات أسسها عام 1997، تحمل اسمه، كما عمل في اللجنة التنفيذية للمجلس العقاري في نيويورك. وكذلك المرشح لمنصب سفير لدى الكيان الصهيوني مايك هاكابي، الذي أفصح، في مقابلة مع القناة السابعة  التابعة لمستوطنين يهود، عن معارضته لحل الدولتين ولاستخدام مصطلحي  الضفة الغربية والاحتلال، في إنكار صريح للشرعية الدولية بشأن القضية الفلسطينية. ومن هذا العدد، جون راتكليف، مرشح ترامب لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية. عضو سابق في الكونغرس من تكساس وكان مديرا للاستخبارات الوطنية في عهد ترامب السابق، ويُنظر له مثل غيره من الصقور فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين، واتهامه الدولة الشيوعية بالتورط في "تغطية واسعة النطاق" لأصول كوفيد-19. وامثالهم من المرشحين الاخرين.

واذا عدنا الى مقدمات سياسات ترامب في عهده السابق (2016- 2020) وما تركته من تداعيات، ومقارنتها بالوعود الانتخابية الجديدة، والافكار التي طرحها او التي كررها، في خطاباته الى العرب والمسلمين، في الولايات المتحدة الاميركية وخصوصا ما يتعلق بوقف الحروب إذا عاد إلى البيت الأبيض، الى تصريحات مرشحيه وخلفياتهم المتعارضة، تكون هذه المقدمات حاملة لتداعيات معاكسة وتطرح اجندات ليست مستمرة او مكملة وحسب بل نحو اجندات مناقضة وخطيرة، قد تسمى بالصفقات او التسويات التي تتوازى عمليا باقسى من الحروب والعدوان. لا سيما توجهات المرشحين للسلطة ومواقفهم من القضايا العربية والاسلامية.

تساءلت وسائل اعلام ومنها افتتاحية مجلة الايكونوميست البريطانية بعنوانها "هل سيوقف دونالد ترامب "الحروب" في الشرق الأوسط؟". ورأت المجلة أن الجميع يتفق على أن ولاية ترامب الثانية ستحدث "تحولاً كبيراً" في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، دون الاتفاق على شكل هذه السياسة. وهو ما قد يثير تساؤلات اخرى لا تتوافق معها. فقد تعهد ترامب بتهدئة الوضع في المنطقة وايقاف الحروب، ومعلوم ان الادارة الامريكية هي التي تدير هذه الحروب الوحشية، وترتكب جرائم الإبادة والتهجير والتدمير، في غزة، وكل فلسطين المحتلة عموما، وفي لبنان، وسورية واليمن، وقد قدمت، كما افادت الايكونوميست، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، للكيان الإسرائيلي مساعدات عسكرية بقيمة 18 مليار دولار، وأضافت إلى أنه لا يمكن الجزم كيف سيدير ترامب حكومته هذه المرة، إذ إنه قد وعد "بإحلال السلام في لبنان"، لكن دون توضيح كيفية تحقيق ذلك. كما تطرح المطبوعة تساؤلات حول سيناريوات تعامل ترامب مع الملف اللبناني، والفلسطيني. ورأت الايكونوميست إن ترامب سيحاول، على الأرجح، العودة إلى سياسته التي أدت إلى انسحاب إدارته من الاتفاق النووي مع إيران، وتطبيق عقوبات أكبر على الجمهورية الإسلامية، وجريمة اغتيال القائد العسكري قاسم سليماني. وذكّرت بتبنى ترامب سياسات مؤيدة بشدة للكيان الإسرائيلي وحكومته اليمينية النازفاشية، داعما تسمين القاعدة الاستراتيجية والتحالف الصهيو غربي فيها، إذ أعلن، كما هو معروف، القدس الشريف عاصمة لها ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، ودعم ضم هضبة الجولان المحتل الى الكيان. وفي نهاية سنة 2019 طرح ما يُعرف بـ"صفقة القرن " لإنهاء القضية الفلسطينية، ورغم رفضها من الفلسطينيين ودول عربية، لكنه تمكن من تحقيق جريمة توسيع الاعتراف العربي بالكيان الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية وحقوق ألشعب الفلسطيني، ضاغطا على حكومات عربية من الخليج وافريقيا، من شرق الوطن العربي ووسطه ومغربه، تحت مسمى (إتفاقيات أبراهام)،  وهو ما كتب عنه الكاتب الأميركي المخضرم توماس فريدمان، في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز. ووصفه بأنه الرئيس الأميركي "الفذ" الذي صاغ خطة حقيقية مفصلة للتعايش السلمي بين الشعبين الفلسطيني و"الإسرائيلي"، حسب زعمه، فإذا تمكن ترامب، في ولايته الجديدة، من إعادة إحياء تلك المبادرة/ الخطة في عام 2025، فإن فريدمان يعتقد أن التاريخ سيذكره بأنه الرئيس الذي حافظ على "إسرائيل" كدولة ديمقراطية يهودية وساعد على ولادة دولة فلسطينية آمنة إلى جانبها. ولكن الكاتب يخشى في مقاله من ان يسير ترامب في مخطط سفيره المرشح للكيان ونتنياهو في  تصعيد الحرب والعدوان وتوسيعه في المنطقة.

بمثل هذه الصور الضبابية تبدو العلاقات الامريكية الخليجية خصوصا، وسياسات ترامب السابقة تلوح ايضا في نهب الثروات والابتزاز والتهديدات وممارسة فكرته التي كررها في حملته عن "بناء السلام بالقوة"، والذي قد يكون السيناريو الممتد الى العلاقات مع العراق وسورية واليمن ومصر والجزائر وقد تكون سياسة العصا والجزرة هي الاغلب في عهد ترامب الجديد، وربما زيادة التدخل في الشؤون الداخلية والضغوط الاقتصادية، مع التهديدات الامنية والعسكرية والدبلوماسية وتسمين القواعد العسكرية في المنطقة عامة.

ان الوطن العربي وجواره امام مرحلة إختبارات شديدة التعقيد، تتطلب وعيا حادا بها وادراكا كافيا لدرء مخاطرها، والمبادرة في مواجهتها وليس انتظار  السيناريوات المعدة لها، والتي لن تكون بالتاكيد في خدمة مصالحها.

***

د. كاظم الموسوي

..................

* نشر المقال في مجلة الهدف، العدد 1539 تشرين الثاني/ نوفمبر بالتسلسل العام والخامس والستين في النسخة الرقمية.

أي حزبٍ سياسي يعني أن هناك علاقات اجتماعية سياسية تحوّلت إلى تنظيم، أي إلى حزبٍ سياسي، وهذه الحركة هي بمثابة شكلٍ من أشكال الانتماء الحر للوطن، والنشاطات الحزبية قد تكون هي السبب الرئيس لوصول هذا الحزب إلى السلطة، والذي يُمثّلُ شريحة أو كُتل إجتماعية ويُدافعُ عنها وعن بقية مكونات المجتمع.

والأحزاب الأخرى بشكلٍ عام قد تكون أداة لتحقيق نمو التكامل القومي بحسب ولائها الوطني. فالأحزاب السياسية تُعدّ أحد أبرز منافذ العمل السياسي، وبنفس الوقت إن إصلاح الأحزاب السياسية يُعتبر مهماً جداً بهدفِ تحسين دور المجتمع المدني في تحمّل الواقع العام وهمومه.

كما يجب على الأحزاب السياسية أن تراعي بشكلٍ منفتح ثقافة الإختلاف، واحتضان مختلف الاتجاهات الفكرية دون تمييز.

فتعدد الأحزاب السياسية هو شكلٌ من أشكال الترتيبات الدستورية لتوزيع السلطات السياسية في البلاد وإيجاد مخارج فيما يخص إطلاق الحرية والعدل والمساواة، والنمو الثقافي والإجتماعي.

ومن ناحية أخرى فإن تعدد الأحزاب يعني وجود تيارات سياسية متعددة لديها برامج وأفكار مختلفة، ومنطلقات فكرية تختلف عن سواها، وتحتكم إلى الجمهور وإلى الرأي العام، بعيداً عن سياسة الإقصاء أو القهر أو القمع.

إذاً من خلال التعدد السياسي نعترف بوجود تعدد ثقافي وإجتماعي هو ضد الهيمنة الثقافية الواحدة، أو الهيمنة الإجتماعية الواحدة، ويؤكّد أيضاً وجود طوائف وجماعات ثقافية وطنية وليست طائفية أو عرقية.

أي أن هناك مجتمع تعددي، بمعنى أنه يضم أكثر من رأيٍ سياسي، وأكثرَ من طائفةٍ ثقافية واحدة، وهذا المجتمع يعمل على تنظيم الحياة العامة على أُسسٍ مشتركة مع احترام مختلف الاتجاهات الفكرية كشرطٍ أساسي لممارسةِ الديمقراطية، حيث يشترك الجميع في صناعة المصير المشترك الواحد.

فقد تكون هناك أحزاب يسارية أو ليبرالية أو ديمقراطية أو قومية أو محافظة، ولكن من المعروف أن البلاد الكبرى تتضمن عدة أحزابٍ لا تتجاوز أصابع اليد، بهدفِ تسهيل مهمتها وبرامجها الوطنية في البلاد.

ولكن أن يُصبح عدد الأحزاب في البلاد أي في الوطن الواحد يُقدّرُ بالمئات فهذه كارثة بحد ذاتها، وتعني بشكلٍ مباشر إقصاء الآخر حتّى ولو كان من نفس التوجّه السياسي.

فعلى سبيل المثال في العراق الآن أكثر من 300 تنظيم سياسي، وأصبح العراق يحتل مركز الصدارة العالمية في عدد الأحزاب، ويفوق عدد أحزابه عن مثيلاتها في الصين والهند. فكثرة الأحزاب من شأنها أن تعرقل أي مسيرة وطنية أو إصلاحية، طبعاً نحن نأخذ بعين الإعتبار أن هناك أجهزة ضاغطة على معظم هذه التنظيمات إن كانت أجهزة داخلية أو إقليمية أو دولية، بمعنى أوصياء عليها.

الفساد العام حينها يتفشى، وسرقة المال العام يصيب الجميع بحصتهم.

وبكل تأكيد أن كمّ هذه الأحزاب، الكمّ المرعب، سيدخل العراق في نفقٍ مظلم، قد يكون من الصعب الخروج منه بسهولة.

التعددية هنا وفي هذه الحالة لعبت وتلعب وستلعب دوراً سلبياً ضد الوطن وضد المواطن، ولو أخذنا هذه الأحزاب الموجودة في الوطن الواحد رأيناها مكررة ومتشابهة ولا تختلف إلاّ بكلمةٍ إضافية أو منقوصة، وهذه الحالة بكل تأكيد ستلعب دوراً فاعلاً في إجهاض الشارع العراقي، وكل هذه الأمور تخضع لأجنداتٍ خارجية مشبوهةٍ وشريرة.

تخمة التعددية السياسية في العراق هي خطيرة جداً، كما قد يتضاعف عدد الأحزاب العراقية أيضاً بسبب الإنشقاقات التي قد تحصل في الأحزاب ذاتها.

وفي مصر هناك حوالي 100 حزبٍ سياسي يُمثّلون تيّاراتٍ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وتحمل هذه الأحزاب إيديولوجيات مختلفة إن كانت وطنية أو قومية أو دينية، أو ليبرالية، أو شيوعية وديمقراطية وسواها، وهناك أحزاب قديمة، وأحزاب جديدة، وأربع أحزاب مجمّدة. كما أن الأحزاب المصرية الكثيرة تفتقد إلى حالة التنسيق والتوحد، وسياسة الإقصاء معمولٌ بها، علماً أن الأحزاب المصرية بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التوحّد فيما بينها لتكون بمثابةِ أحزابٍ قوية وفاعلة في الميدان المصري، ولتكون كتل جماهيرية مؤثّرة لها كلمتها في الشارع السياسي المصري.

علماً أن حزب السلطة هو المسيطر.

في منتصف القرن الماضي في سورية كانت الأحزاب معروفة بإسم حزب الشعب، والحزب الوطني، وحزب البعث، والحزب الشيوعي وحزب الإخوان، ومن ثم الكتلة الوطنية. وقبل أحداث الربيع العبري في المنطقة كانت الأحزاب في سورية معروفة بحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية الستة بغضِ النظر عن فعاليتها، وحزب القومي السوري الإجتماعي.

أمّا الآن ففي سورية هناك أكثر من خمسين تنظيم سياسي.

ويحق لنا كمتابعين للواقع السياسي أن نتساءل ونصرخ بالصوت العالي لماذا ؟!.

ففي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا على سبيل المثال وليس الحصر هناك حزبان أو ثلاثة أحزاب رئيسية تتنافس فيما بينها من خلال الإنتخابات، ولكل حزبٍ توجهات معروفة و واضحة.

وله نصيبٌ من الشارع الجماهيري العام. أمّا أن تكون هناك عشرات أو مئآت من التنظيمات السياسية فهذا يعني وبشكلٍ مباشر تشويه مقولة التعدد السياسي وإبطالها والإساءة إليها وإلى أهدافها، وتعقيد وتمييع مطالب الشعب المحقة أيضاً.

فلكي ننجح في موضوع التعددية وتحقيق أهدافها، يجب أن تكون هناك أحزاب سياسية محددة وواضحة في تطلعاتها وفي برامجها السياسية كي تنشط مع الأحزاب السياسية الأخرى بهدف الخروج من بوتقة السلطة الواحدة أو السلطة المطلقة، والإنطلاق نحو عالم الحداثة السياسية، وخلق مجالٍ فكري واجتماعي يمارس فيه الناس العمل السياسي بواسطة الحوار والنقد البناء والأخذ والعطاء فكرياً، والتعايش في إطار من السلم الإجتماعي القائم على القواسم المشتركة.

فالتعددية هنا تعني بشكلٍ مباشر الإعتراف بالآخر و بوجود الآخر ضمن الهوية الوطنية الواحدة، ولا بد من هامش إيجابي للتعبير عن ذلك بحريةٍ في إطارٍ مناسب.

والتعددية هي بشكلٍ أو بآخر عنصراً رئيسياً لصناعة الديمقراطية في البلاد، فالقرار السياسي في دولةٍ ما ليس من صنع شخصٍ أو جماعة بعينها، بل هو من صناعة مجموعاتٍ قيادية متخصصة بعيداً عن نخبةٍ أو فئةٍ واحدة.

ولكي تُمارس التعددية نشاطاتها لا بد من وجود نظامٍ قانوني يسمح للفئات الإجتماعية الحق في التنظيم والتعبير عن رأيها وفي سعيها السلمي بهدفِ الوصول إلى السلطة السياسية تحت مظلةٍ قانونية صارمة تحمي هذا التوجّه.

فمن خلال التداول السلمي للسلطة يتعاقب الحكّام على سدة الحكم عبر الانتخابات، ويُمارسون اختصاصاتهم الدستورية لفتراتٍ محددة بتفويضٍ من الناخبين لهم، حيث لا يمكن أن نتحدث عن دولةٍ ديمقراطية دون أن يكون هناك إعترافٌ بحق جميع التيارات السياسية كي تتبادل مواقع الحكم والمسؤولية والمعارضة داخل الدولة، ومن خلال الانتخابات وصناديق الإقتراع.

حينها ستكون هناك حرية لكل أطياف المجتمع أن تُشكّل نفسها وتُعبّر عن رأيها وتدافع عن مصالحها وتُؤثّر على القرار السياسي.

وبالنتيجة تخرج قرارات متوازنة تلبي طموحات المجتمع والدولة.

ومن ناحية أخرى أيضاً فإنه ومن خلال الممارسة الديمقراطية سيتم إلغاء احتكار السلطة السياسية لحزبٍ دون سواه، حيث أن السلطة حينها ستدار من الأحزاب والحركات السياسية التي تحصل على الأغلبية من الأصوات، أي أصوات الناخبين أثناء العملية الانتخابية النزيهة. التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة هنا تقوم على مبدأ المنافسة الحرة والنزيهة ما بين القوى السياسية المتعددة، حيث تتم المنافسة في إطار القانون والأحكام الدستورية دون الخروج عنها.

وكل هذه الأمور تخلق شيئاً من الرضا والشرعية والمسؤولية التي يمنحها الشعب للسلطة في مزاولة أعمالها وفق القانون.

ومن جهةٍ أخرى أستطيع أن أقول أن بعض الأحزاب التي تشارك في التعددية بهدف الديمقراطية هي نفسها قد تُوجد دكتاتوريات جديدة وتُفسد مسار السلطة، لذا يجب أن تكون هناك رقابة جادة في هذا المجال.

كما أن الأحزاب الإيجابية التي تتنافس في عملية الديمقراطية عليها أن لا تسمح بالوصول إلى دكتاتوريات جديدة كنهجٍ في الحكم وفي السلطة.

فما دام التنوع السياسي هو هدف رقي وتقدم الوطن وسيثري الساحة الميدانية بالنهج الديمقراطي، حيث يلتقي الجميع على هدفٍ نقيٍ واضح هو مصلحة كل الوطن وكل مواطن في المقام الأول، وما دام هناك معارضة نزيهة وتقيّم الأداء ومن خلال الحسّ الوطني، وتُشارك بالحلول بشكلٍ بنّاء، من خلال رصد الخلل وإيجاد العلاج بهدف حراسة مصالح الوطن، ما دام الأمر كذلك فعلينا أن نحافظ على هذا النهج وتحقيق كل ما يصبو إليه الشعب وتحقيق آماله وطموحاته ومطالبه المحقة في ظل قيم العدلِ والسلامِ والحرية.

لأنه حينما يتم فقدان الثقة يبدأ الصدام والتصادم والتفكير بتحقيق مكاسب ضيّقة، ووضع المتاريس، وعرقلةِ الإصلاح ونسف البرامج، فكل هذه الأمور لا تؤدي إلاّ إلى تمزيق النسيج المتآلف وخلق خلافاتٍ تعطّل البرامج السامية لتحقيق التعددية والديمقراطية والأمن والسلام في الوطن والإقليم.

فهناك معارضات كأحزاب تنسف كل برنامج إصلاحي، ويعملون لتحقيق عدم التوازن والتوافق في الحكومة حتّى وإن كانوا مشاركين بها فقط لتمرير مصالحهم ومكاسبهم وتشويه المسار العام.

ويبقى هناك سؤال مهم، هل نستطيع أن نفهم ما هي البرامج السياسية للأحزاب التي توالدت خلال السنوات القليلة الماضية على الساحة العربية وماذا تحمل في جعبتها كشيٍ جديد لرفد تقدم وحرية وحضارة الوطن والإنسان ؟.

أقول قد تكون هناك أحزاب عديدة تحمل نفس الشعارات تقريباً، فجميلٌ لو انضوت هذه الأحزاب التي تتقارب في الرؤى بحزبٍ واحد بهدف توفير الجهد أولاً، وثانياً فبتكتلها تخلق قوة جديدة في الميدان وفاعلة، وهذا يحتاج إلى وضع المصالح الذاتية جانباً وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية.

ففي الإطار التوافقي تذوب كل الخلافات، ويتفق الجميع في سبيل خلق سُبل مبتكرة تصبّ في مصلحة الجميع يكون شعارها الأساسي الحرية والكرامة والسيادة.

نعم بالإمكان الإستفادة من كل الآراء في مجال التنوع السياسي إذا كان عددها معقولاً لخدمة الحسّ الوطني، والمشاركة في ازدهاره، ما دام الكل يعمل لنفس الهدف، ويعمل لكل الوطن ولكل مواطن، ويضع نصب عينيه قيم الآدمية القومية، والمفهوم الإنساني الشامل، وقيم العدل والسلام والحرية، ومصلحة كل الوطن وكل مواطن في المقام الأول بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال المكاسب والمصالح الفردية أو الشخصيّة.

***

بقلم: د. أنور ساطع أصفري

كان شاغل الشَّاشات والإعلام، عندما سقط نِظام الرّئيس صدام حسين (قُتل: 2006) - الحاكم جناح حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ العِراقيّ(1968-2003)- أخبار القبور الجماعيَّة، في كلِّ لحظة يُكتشف أخدود، وأخذت تُجمع رفاة المقبورين في أكياس؛ مَن شهد الواقعة لم ينس الشّاب الذي أخفته أُمه في حفرة؛ على شكل غرفة صغيرة تحت الأرض لعشرين عاماً، ومشاهد مريعة، كانت تُبث مِن الفضائيات تباعاً؛ هذا ما صاحب إعلاميّا الحدث العراقيَّ.

أمَّا في الحدث السُّوريّ- الحاكم الجناح الذي اعتدنا نسميه باليساريّ- فكان الشَّاغل سجن "صيدنايا"، المنطقة التي سميت باسم القديسة الزَّاهدة "صيدنايا"(القرن الخامس ميلادي)، وفيها ضريحها، وهي منطقة بضواحي دمشق، رأيتُ على واجهته (2007) حين زرته، لوحة تحكي قصة اكتشاف الضَّريح، فكلاب الصيد تقف قريباً منه ولا تصل إليه، وهذه القصة نفسها تحكي اكتشاف قبر الإمام عليّ بن أبي طالب بالنّجف، عندما كان هارون الرّشيد(تـ: 193هج) يتصيد في تلك الفلاة، فكلابه كانت تقف عند التلة التي تضم القبر؛ وصيدنايا عاشت وماتت قبل الإسلام، مثلما هو مؤرخ لها.

ما فعله النّظام العراقيّ أنه فتح السّجون للمعارضين، أو المشكوك بولائهم، ولتُهم أو جرائم غير سياسية، قُبيل سقوطه. لذا؛ لم يكن السِّجن حاضراً في المشهد، وقد قُدر عدد الذي حررهم النِظام بمئة وعشرين ألف سجين. أمَّا النّظام السُّوريّ فحلَّ نفسه، ولم يكن لديه وقت للتفكير بما سيتركه مِن وثائق حيّة ضده؛ فاكتُشفت قصص فظيعة مِن داخل السّجن، والبحث جرى عمّن تحت الأرض، ممَن لا يعرف ليله مِن نهاره، ومَن خرج مفجوعاً، مِن هول ما مرّ عليه، وصار "صيدنايا" شغل الإعلام الشّاغل، وما ضم مِن رعبٍ.

بينما كان لدى رأس النّظام السوريّ سنوات كافية(2011- 2024)، وقد ألتقط أنفاسه، أنّ يحرر السّجناء، ويعلن إلغاء السّجن؛فقادة جناح البعث العراقيّ قاموا بإلغاء سجن "نقرة السَّلمان" الرَّهيب(1968)، وفتحوا مكانه "قصر النَهاية"، الأكثر رعباً، وهو قصر الرَحاب سابقاً، قصر العائلة المالكة العراقيّة، (استخدم في عهدهم الأول 1963 فأُعيد مكاناً للعذاب ضد السياسيين في عهدهم الثَّاني 1968)، ثم أغلقوه بعد مؤامرة مدير الأمن العام ناظم كزار(1973)، وقد علقوا به كلّ ما جرى مِن رعب على العراقيين، في تلك الفترة، وكانت واحدة من مغريات إعلان الجبهة الوطنيَّة مع الحزب الشيوعي العراقي، مباشرة بعد الحدث(1973 - 1979). أقول لو فعلها جناح البعث السّوري، ولو مِن باب كسر الخواطر، والغى السجن المذكور، لكنه كابر، حتَّى لم يبق لديه وقتٌ كي يخفي ما يدينه.

مَن يقرأ التّاريخ سيجد لسجن "صيدنايا" تراثاً ضارباً في القِدم؛ والسّجن تحت الأرض لم يكن حالة شرقيّة؛ فقد مورست شرقاً وغرباً، وهنا لستُ باحثاً إلا في ما يتعلق بتاريخها العباسيّ؛ ولا نظن أنْ مَن مارسها قد قرأ تلك التَّجارب وقام بتطبيقها، إنما تكررت مِن باب توارد خواطر، تفرضها طبيعة الطُّغيان، والحبس تحت الأرض أقصى قسوةً يُعذب بها الإنسان، فحجب النّور يؤدي إلى العمى، وفقدان الشعور بالزَّمن، وهذا ما توصل إليه الأقدمون، فأبدعوا سجناً عُرف بـ"المطِبق"، أي يعيش فيه الإنسان منفصلاً عن كلّ شيء، إلا مِن أنفاسه، يُطبق عليه الموت ولم يمت، وهذا ليس ليوم أو يومين، إنما مَن يدخله لا يخرج إلا إلى قبره، ولأنّه أقسى وأفجع مِن الموت، فلا يُرحم بالموت؛ وهذا عين ما قاله وقصده أبو الطَّيب المتنبيّ(اغتيل: 354هـ): "كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا"(اليازجي، العرف الطّيب في شرح ديوان أبي الطّيب).

كانت البداية، قبل بناء المطّبِق أنّ حبس أبو جعفر المنصور معارضيه تحت الأرض؛ كالسرّداب الذي حَبس فيه الثّائرين عليه، عبد الله بن الحسن المثنى وأخوته، وبينهم حفيد عثمان بن عفان، وكان أخاهم مِن طرف الامّ، فاطمة بنت الحُسين بن عليّ بن أبي طالب.

بعد تأسيس بغداد(145هـ) عاصمةً شيد المنصور سجناً عنوانه "المطبِق"؛ "لأنْه أطبق مَن فيه"(اليعقوبيّ، كتاب البلدان). كذلك عُرف بـ"حبس التَّخليد"(ابن الطقطقيّ، الفخريّ في الآداب السُّلطانيَّة)، فمَن يدخله لا يخرج، إنه "قصر النّهاية" تماماً. بهذا المعنى قال طهمان بن عمرو الكلابيّ(تـ: نحو 80 هـ)، وكان مِن لُصوص العرب الشّعراء، أتينا على ذكره في كتابنا "لُصوص الأموال ومنتحلو النصوص". قال طهمان في المطبق: "أقول لبوابيَّ والسُّجن مُطبقٌ/ وطال عليَّ اللَّيل ما تريانِ". قال القاموسيّ أو المعجميّ المرتضى الزَّبيديّ(تـ: 1205هـ) في معنى المُطبِقِ: "سجن تحت الأرض"(تاج العروس).

بعد وفاة المنصور(158هـ)، قام ولده المهديّ(حكم: 158-169هـ)، عندما تولى الأمر، بإطلاق السُّجناء، إلا مَن سُجن بدمٍ أو قتل، وبينهم سجناء "المطبِقِ"، فكان ممَن أُطلق يعقوب بن داود، وكان محبوساً مع أحد العلويين، وهو الثائر الحسن بن إبراهيم حفيد الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وتدور الأيام ويصبح يعقوب وزيراً لدى المهدي ابن المنصور، بينما ظل الحسن مسجوناً في المطبق، فقام الوزير بتهريبه، مِن السِّجن، لكن ألقي القبض عليه، ولما سأل المهدي وزيره عن السَّجين قال قد مات، وكان موجوداً عند المهدي، فأعيد الوزير إلى المطبق، وظل سجيناً فيه حتى أطلق سراحه الرَّشيد(حكم" 170-193هـ)، فقال: "حبستُ في المطبق، أُتخذ لي فيه بئر، فدُليت فيها، فكنتُ كذلك أطول مدة، لا أعرف عدد الأيام، وأصبتُ ببصري(فقد بصره)، وطال شعري، حتّى استرسل كهيئة شعور البهائم"(الطّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك). كذلك كان أحد أبرز سُجناء "المطبق" نجل آخر خلفاء بني أُمية، عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، رمي في المطبق، وهو المتوفى فيه السّنة (170هـ).

رمي في سجن المطبِق(تحت الأرض) الطّبيب بختشيوع(تـ: 256هـ)، طبيب الخليفة جعفر المتوكل(قُتل: 247ه،) مع إثقاله بالحديد، كما سُجن فيه المغني والموسيقار، ذاع الصيت في زمانه، إبراهيم الموصليّ(تـ: 213هـ)، فأرخ الشّاعر أبو العتاهيَّة(تـ: 211هـ) هذا الحدث قائلاً: "سَلْم يا سَلْم دونك سرُ/ حُبسَ الموصليّ فالعيشُ مرُّ/ مَن استطاب اللذات منذ غاب في المطـ/ بِقِ رأس اللذات في النَّاسِ حرُّ"(الشَّالجيّ، موسوعة العذاب، عن ابن خِلكان، وفيات الأعيان). كذلك دخل المطبِق الشّاعر أبو نواس(تـ: نحو 198هـ)، لاتّهامه بقول يخالف الدِّين، فقال الرّشيد(حكم: 170-193هـ): "عليَّ بابن الفاعلة، وطرحه في المطبق". أُطلق سراح سجناء "المطبق" بعد وفاة ولي العهد الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل، السّنة (278هـ)، وكان حينها مع أخيه الخليفة المعتمد بالله(تـ: 279هـ)، يمثل الحاكم الفعلي.

عن سجون تحت الأرض، كان إلى جانب سجن المطبق ما يُعرف بالطَّامورة، وجمعها طوامير، حُبس فيها كثيرون، مِن أمثال الفيلسوف المقتول أحمد الطَّيب السّرخسيّ(قتله المعتضد 286هـ)، وكان صديقاً ونديماً للمعتضد بالله(تـ: 289هـ)، كذلك كان الحبس ينفذ بالمتَّهمين، أو المعارضين في "الجب"، وهو البئر العميقة، وكذلك مورس الحبس في السَّراديب، وكلها تحت الأرض، لكنَّ أفظعها كان "المطبِق"، والذي قال أحد نزلائه: "دخلتُ السّجن شاباً بصيراً، وتركته شيخاً ضريراً"(الشّالجيّ، موسوعة العذاب).

كذلك ظهر سجن المطبق بقرطبة لدى الأمويين بالأندلس؛ ومكانه داخل قصر قرطبة، سُجن فيه وزراء(القرطبيّ، المقتبس مِن أنباء أهل الأندلس)؛ وقد أُشير إلى وجود ما عُرف "ببيت البراغيث" داخل السجن المذكور(ابن عذاري، البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب)، هذا وقد وردت أخبار مطبِق الأمويين بالأندلس، سنة (210هـ و221هـ)، من تاريخ قرطبة.

لم يكن المنصور المتفنن الأول بأنواع السّجون والعذاب فيها؛ فقد ذكرت الروايات أنَّ للحجاج بن يوسف الثَّقفيّ(حكم العراق: 75-95هـ) سجنين، أحدهما واسع مفتوح على السّماء، في الحرّ والبرد، وكان محاطاً بأسوار، عليها حُراس يشرفون على السّجناء، فمن يرونه يظلل وجهه بيديه يرمونه بالحجارة، مِن على الأسوار. كان السّجناء يسقون "الزَّعاف"(سُم قاتل)، "ويطعمون الشَّعر المخلوط بالرَّماد"، حبس فيه الرّجال والنّساء معاً، أي في مكان واحد (الشّالجي، عن مروج الذهب، والعيون والحدائق، ومحاضرات الأدباء).

أمّا السّجن الحجَّاجي الآخر، فيُعرف بـ"الدّيماس"، وكان ضيقاً جداً، لا يجلس على أرضه السّجين إلا القرفصاء، لضيق المكان، وكلّ جماعة يربطون بسلسلة واحدة، ويأكلون في المكان وفيه يتغوطون(موسوعة العذاب، عن ابن أبي الدُّنيا، الفرج والشّدة). كما كان للحجَّاج مسؤول عن العذاب، يُعرف بـ"صاحب العذاب"، واسمه معد (التّنوخي، الفرج بعد الشّدة).

اشتهر قبل المنصور والحجَّاج سجن "عارم"، بناه عبد الله بن الزَّبير(قُتل: 73هـ) بمكة لمعارضيه، ففيه قال كُثير عزَّة(تـ: 103هـ): "تحدث مَن لاقيت أنّك عائذٌ/ بل العائد المحبوس في سِجن عارمِ"، سمي باسم أول سجين فيه "عارم"(الطبريّ، تاريخ الأُمم والملوك).

تعددت السُّجون، فمن غير المطبِق، الذي اختص في زمن أبي جعفر المنصور بالسياسيين، ومِن غير الطّوامير، التي استحدثها المعتضد العباسيّ(تـ: 289هـ)، وهدمها خليفته المكتفي بالله(حكم: 289- 295هـ)، كان يجري الحبس في البيوت، وما يُعرف اليوم بـ"الإقامة الجبريَّة"، لكنْ ليست البيوت العادية، إنما البيوت المظلمة، والحبس في السّرداب، وفي "زورق مطبق"، والحبس في الاصطبل، وفي الأقفاص، وكان أفظعها إهانةً الحبس في "الكنيف"(المراحيض)، والحبس في دار المجانين، والأخيرة ممارسة قديمة حديثة، ومِن السُّجون ما كانت تُعرف بـ "الغامضة"، وقد عُرف منها في عهد القاهر العباسيّ(تـ: 328هـ) ببغداد(انظر: موسوعة لعذاب).

يقول معروف الرُّصافيّ(تـ: 1945) في وصف السُّجون، مِن المُطبِق إلى قصر النهاية وصيدنايا: "مقابر بالأحياء غصَّت لحودها/ بخمسٍ أو بمئتين أو بأزيدِ/ تواصلت الأحزان في جنباتها/ بحيثُ متى يُبلى الأسى يتجددُ".

***

د. رشيد الخيُّون

كتب: شيان توغال

ترجمة: علي حمدان

***

الواقع أن الدوائر المؤيدة للحكومة التركية تشعر بالنشوة ــ ليس فقط لأن تحالفاً بقيادة إسلاميين أطاح بالدكتاتور الذي يكرهونه، بل وأيضاً لأنهم يعتقدون أن رئيسهم هو الذي دبر العملية برمتها. في الأيام الأولى من الربيع العربي، كانت حسابات حزب العدالة والتنمية تتلخص في أن الانتفاضات سوف تنتج حكومات قليلة تتبنى "النموذج التركي"، الذي يجمع بين الدين المحافظ والديمقراطية الرسمية والحكم النيوليبرالي. وبدا أن الإسلاميين في سوريا يناسبون هذا النموذج. ولكن بعد أن جعلت حملة الأسد العنيفة ضد الاحتجاجات المدنية مثل هذا التحول مستحيلاً، بدأت تركيا في تسليح مجموعة من الميليشيات المتمردة، وانضمت إلى القوى الغربية وروسيا وإيران في سباق لعسكرة الصراع وجعله طائفيا. وأدى هذا إلى تقسيم البلاد بحكم الأمر الواقع إلى مناطق شيعية وسنية وكردية منفصلة. وعبر ما لا يقل عن أربعة ملايين سوري إلى تركيا، الأمر الذي أدى إلى تأجيج المشاعر المعادية للمهاجرين هناك. وبدا الجمود وكأن لا نهاية له، إلى أن استولت القوات التي يقودها الإسلاميون أخيراً على دمشق الأسبوع الماضي.

ومنذ ذلك الحين، أشادت الصحف الإسلامية بأردوغان باعتباره قائد "الثورة السورية"، و"فاتح سوريا"، و"أعظم ثوري في القرن الحادي والعشرين". وفي حين بدأ البعض في اليمين التركي يشككون في سياسة الحكومة تجاه سوريا، محملين إياها المسؤولية عن أزمة اللاجئين، يبدو الآن أن أنصار أردوغان قد تبرأوا من تهمتهم. فمع الإطاحة بالأسد، يتوقعون إعادة ترسيخ السلطة محلياً حول حزب العدالة والتنمية الحاكم وزيادة هائلة في النفوذ التركي في مختلف أنحاء المنطقة ــ مع إعلان العديد منهم نهاية السيطرة الغربية فعلياً.

وعلى النقيض من ذلك، تنظر المعارضة إلى سقوط الأسد باعتباره نتيجة للعبة أميركية كان أردوغان والجهاديون فيها مجرد بيادق. وفي حين يتوقع الأردوغانيين قيام سوريا ديمقراطية وإسلامية تحت النفوذ التركي، يخشى الكماليون وغيرهم من الوسطيين تقسيمها بحكم القانون وظهور دولة كردية ــ وهو ما قد يلقي اللوم فيه على أردوغان. وعلى مدى الأسبوع الماضي، سعى الجانبان إلى تضخيم الأدلة التي تدعم موقفهما ودفن ما يتناقض معه. ولكن الصورة الحقيقية أكثر تعقيداً. ولا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن من يتخذ القرارات في سوريا، وربما تستغرق المعلومات الأكثر أهمية سنوات قبل أن تظهر. وبالتالي، ينبغي لنا أن نقرأ ما يلي باعتباره سيناريو اولي  لدور تركيا في الأحداث، مع تعديله مع ظهور تفاصيل جديدة. ولكن هناك أمر واحد مؤكد بالفعل في هذه المرحلة المبكرة: على الرغم من أن ميزان القوى قد تحول لصالح أردوغان في الوقت الراهن، فإننا نستطيع أن نقول بكل راحة أن الأوهام الأردوغانية حول إعادة هيكلة الإمبراطورية التركية للمنطقة لا أساس لها من الصحة.

تسيطر تركيا على العديد من الفصائل المسلحة في شمال سوريا، والتي يتم تنظيمها تحت التحالف المعروف باسم الجيش الوطني السوري (الجيش السوري الحر سابقًا). وتأمل تركيا أن يقضي الجيش الوطني السوري على قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة ويخضع الأكراد السوريين لحكومة إسلامية في دمشق. كما يريد أردوغان رؤية مسؤولين تابعين للجيش الوطني السوري في حكومة ما بعد الأسد. ومع ذلك، فإن تأثير تركيا على هيئة تحرير الشام - المنظمة التي قادت التقدم نحو دمشق - محدود. خلال الأيام الأولى من ديسمبر، كانت تركيا تجري محادثات مع روسيا وإيران بهدف واضح لإنهاء الأعمال العدائية بدلاً من عزل الأسد. في وقت سابق، في منتصف نوفمبر، كان أردوغان يدعو علنًا إلى إدراج الأسد في نظام انتقالي. وبالتالي، بعيدًا عن التخطيط للحملة، يبدو الأمر كما لو أن أردوغان أُجبر ببساطة على إعطاء الضوء الأخضر بعد أن اتخذت هيئة تحرير الشام زمام المبادرة. شارك الجيش الوطني السوري في الهجوم لكنه لم يقوده. وهناك أيضًا تقارير عن وجود احتكاكات بين هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، وحتى اعتقال بعض كوادر الجيش الوطني السوري بتهمة إساءة معاملة المدنيين الأكراد.

كل هذا يطرح السؤال حول ما تمثله هيئة تحرير الشام حقا. مع جذورها في تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، ومكانها على القائمة الرسمية لواشنطن للجماعات الإرهابية، يبدو أنها ليست محبوبة الغرب. ومع ذلك، فقد أصدرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أصواتا متفائلة نسبيا بشأن استيلائها على دمشق، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تفكك "محور المقاومة"، وإضعاف الدور الإقليمي لإيران. في تركيا، الرأي حول المجموعة منقسم. تصر المعارضة على أن هيئة تحرير الشام هي من صنع الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين يصر أتباع أردوغان على أن تركيا سلحتهم ودربتهم على مدى السنوات العديدة الماضية. شائعة أخرى هي أن هيئة تحرير الشام دربتها المخابرات البريطانية. يزعم بعض الخبراء أن الهجوم على دمشق لم يكن لينجح لولا مشاركة وكالات الاستخبارات الغربية؛ يزعم آخرون أن هذه الوكالات خدعتها هيئة تحرير الشام أو تفوقت عليها. في الوقت نفسه، يصف صالح مسلم، وهو زعيم كردي بارز من حزب الاتحاد الديمقراطي، هيئة تحرير الشام بأنها ببساطة "جزء من سوريا"، والتي يرغب الأكراد في التعايش معها.

في هذه المرحلة، لا توجد طريقة لمعرفة أي من هذه الروايات أكثر صحة. ولكن لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الإسلاميين اكتسبوا تعاطفًا بين شعوب المنطقة، حيث ينظر إليهم البعض باعتبارهم المعارضة الفعالة الوحيدة للوضع الراهن. والعديد من اليساريين على استعداد للاعتراف بهذا عندما يتعلق الأمر بحماس؛ والواقع أن هناك ميلًا معينًا للمبالغة في أوراق اعتماد حماس المناهضة للإمبريالية (على الرغم من أن أصولها بعيدة كل البعد عن ذلك) مع التقليل من جاذبية معظم التنظيمات الإسلامية الأخرى. وأيا كان الرعاة الحقيقيون لهيئة تحرير الشام، فإن المجموعة هي بوضوح تعبير عن اتجاه طويل الأمد: دمج المنظمات الجهادية وترويضها جزئيًا، وتسللها أو الاستيلاء عليها من المؤسسات، وترويجها. هذه الديناميكيات الثلاث تقوض بعضها البعض في بعض الأحيان، ولكن أحدث تطور في الدراما السورية شهد اندماجها في شكل هيئة تحرير الشام.

وبعبارة أخرى، وبصرف النظر عن السلسلة الدقيقة للأحداث، فلا شك أن الإسلاموية ــ وبشكل أكثر تحديداً، فروعها الجهادية ــ اكتسبت أرضية إقليمية. وتصر المعارضة التركية، بما في ذلك اليسار، على أن هذه إسلاموية صديقة لأميركا. ومع ذلك، فإن تقلبات أردوغان نفسها على مر السنين تظهر أن هناك مخاطر على الغرب عندما يلعب بالنار بهذه الطريقة. كان حزب العدالة والتنمية في البداية نموذجاً للإسلام الأميركي: فقد بدا وكأنه يجمع بين الحريات الفردية والقيم الأسرية والمحافظة الدينية مع التركيز على الأسواق الحرة وإعادة تنظيم المواقف لصالح الغرب في الشرق الأوسط. ولكن مع مرور السنين، علق الحريات الفردية بشكل متزايد في حين سخر الأسواق والأسرة والدين في خدمة نموذج التنمية الحزبي للدولة مع طموحات إقليمية كبرى، وأحيانا على حساب النفوذ الأميركي.

لقد شنت إسرائيل مئات الغارات الجوية في مختلف أنحاء سوريا منذ خلع الأسد، ويقول نتنياهو إنه ينوي تحويل مرتفعات الجولان إلى أرض إسرائيلية دائمة. وسواء نجح أم لم ينجح، فإن إسرائيل على استعداد لفرض نفوذ أكبر على المنطقة، نظرا لتدميرها للقدرات العسكرية لمنافستها الشمالية ــ وهو ما يضع نهاية لافتراضات أردوغان بأن انتصار هيئة تحرير الشام يمثل ضربة للقوة الغربية أو "نهاية التوسع الإسرائيلي". ولكن من الخطأ أن نتوقع صعود الهيمنة الأميركية الإسرائيلية الكاملة، إذا كنا نعني بذلك مزيجا فعالا من القوة والموافقة، وليس الهيمنة القائمة على العنف الوحشي. ومن المشكوك فيه أن تنشأ أي قوة مهيمنة حقيقية من هذا التحول الفوضوي للأحداث. ومن غير المرجح أيضا أن نرى دولة حرة ديمقراطية أو تقسيما نهائيا. والسيناريو الأكثر ترجيحا للسنوات المقبلة هو صراع مطول ولكن ربما يكون محصورا نسبيا، مع زيادة القوة العسكرية الإسلامية والأردوغانية، والزعامة الدبلوماسية، وتوسع الأعمال. وسوف تظل هذه النتيجة بمثابة فوز لتركيا، ولكنها ستكون أقل بكثير من الخيالات الأردوغانية الحالية.

إن الخطر الرئيسي الذي يهدد الإمبريالية التركية يتمثل في إضفاء الطابع الرسمي المتزايد على السلطة الكردية. وسوف يتعين على أي سلام مستقر أن ينطوي على الحكم الذاتي أو الاستقلال للأكراد السوريين، الذين تعترف بهم الدول الغربية رسميا الآن. وبالنسبة للأكراد أنفسهم، فإن عواقب هذا الإضفاء الرسمي سوف تكون غامضة. فلن يعودوا أبطال اليسار العالمي، ولكنهم سوف يتحررون أيضا من عزلتهم ويصبحون جزءا "طبيعيا" من النظام الدولي المتدهور. وفي الوقت نفسه، سوف يُترَك الأكراد الأتراك لمصيرهم، في حين يشجعهم أيضا عملية التطبيع في الجنوب. فقد تواصل حزب العدالة والتنمية (جنبا إلى جنب مع شريكه الفاشي الجديد، حزب الحركة القومية) مع زعيم حرب العصابات المسجون عبد الله أوجلان قبل وقت قصير من إطلاق هيئة تحرير الشام لحملتها في حلب، وهو ما يراه العديد من المعلقين دليلا على أن تركيا كانت على علم بالفعل بالعملية المناهضة للأسد. ولكن الحكومة أعقبت هذا الانفتاح بحملة صارمة على الحزب الكردي القانوني ورؤساء البلديات المنتخبين، وهو ما يشير إلى أن أي اتفاق مع أوجلان سيكون وفقاً لشروط الحكومة ــ وسوف ينطوي على خسائر فادحة للحركة ككل.

في الوقت الحالي، أصبحت دول الخليج على الهامش. فقد فشلت محاولتها الأخيرة لإعادة تأهيل الأسد، وقبول سوريا في جامعة الدول العربية. ولكنها سوف تدخل في نهاية المطاف لعبة القوة هذه أيضاً، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تعقيد محاولات أي طرف منفرد، سواء تركيا أو الولايات المتحدة، لفرض قيادته الواضحة. وقد تنضم الصين، التي ظلت صامتة حتى الآن، إلى المعركة، على الأقل كقوة ناعمة. ومع تنافس المزيد من الدول على النفوذ، في محاولة لإعادة تشكيل المنطقة على صورتها، سوف تشهد تركيا تبخر طموحاتها القصوى.

وهناك أيضا بعد اقتصادي للتنافس بين الإمبرياليات المتصارعة. فقد دمرت الحروب بالوكالة بين عدة دول سوريا، والتي لم تسفر عن مقتل نصف مليون شخص ونزوح أكثر من عشرة ملايين فحسب، بل دمرت أيضا البنية التحتية والمالية للبلاد. والآن، أثارت إمكانية الاستثمار ــ لإعادة البناء من بين الأنقاض ــ شهية رواد الأعمال في مختلف أنحاء العالم. ففي عام 2018، عندما خسرت تركيا 56 جنديا في عملية عسكرية، صرح أحد كبار مستشاري أردوغان قائلا: "نحن نعطي الشهداء، لكن المقاولين الأتراك سيحصلون على حصة أكبر من الكعكة". ويبدو أن الأسواق تتفق مع هذا الرأي، حيث ارتفعت أسهم الشركات المرتبطة بالبناء بشكل حاد خلال الأيام القليلة الماضية.

ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا النوع من الاستثمار في البنية الأساسية يمكن أن ينطلق حقا، نظرا للمسار غير المؤكد للصراعات العسكرية، وخاصة في شمال وجنوب البلاد. لقد تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تدمير العديد من أعدائها الإقليميين، لكنهم لم يتمكنوا من بناء ترتيبات وظيفية طويلة الأمد خاصة بهم. هل سيكون سقوط الأسد مختلفا؟ هذا ما زال يتعين علينا أن نراه. ولكن يمكننا أن نكون على يقين من أن الإمبريالية التركية الإسلامية أقل احتمالا للنجاح حيث فشلت الإمبريالية الليبرالية الأميركية.

***

ديسمبر 13 نيولفت ريفيو

 

يبقى الحاصل ومايحدث خارج الادراكية بظل زحمه التصورات الايديلوجية المتهالكة ومجمل التصورات القصورية الارضوية على تعدد مصادرها بحسب الغلبه والترسخ التاريخي، مايجعل الاحداث والتغيرات تحصل من دون تعيين مطابق، الامر البديهي في مكان من العالم وعية تراكمية انحدارية انحطاطية، الاولى التي اعقبت سقوط بغداد عام 1258،والثانيه التي تبدا مع توهم النهضوية مع القرن التاسع عشر تناغما استعاريا مع المتغيرات الاوربية الالية الحديثة، ومعها اشكال النظم والافكار مدعية الحداثة في غير مكانها ومناخها، مع كل التفاصيل المترتبه على هذا المسار القابل للايجاز في محطتين، اولى انحطاطية ذاتيه تبدأمع القرن الثالث عشر، وثانيه انحطاطية توهمية باسم النهضة الزائفة المستعارة كردة فعل طبيعية، انتجها وكان متوقعا ان يتمخض عنها واقع منهار، وجد بمواجهة انقلابيه تاريخيه نوعية من الانتاجية والمجتمعية اليدوية الى الالية، قابلها بالتساؤل السطحي:"لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟" مع الجهل المطبق بخلفيات ماهو حاصل من انقلابية طورية على مستوى الظاهرة المجتمعية وطبيعتها.

وقد يخطر على البال التساؤل عن الداعي الى التذكير اليوم وبمناسبة الحدث الراهن بمنطلقات واسس كالمشار اليها اعلاه، بدل التركيز على الحدث الحاصل وتفاصيله، ومامتوقع بناء عليه من مترتبات وحصيلة، اي اتباع خيار النظر المتعارف عليه اتباعيا وايديلوجيا خارج الحقيقة المضمرة غير المكشوف عنها النقاب، مايجعل من المنظورات الغربية فضلا عن تلك التي بنيت باتباعها مجرد توهمة قصورية عقلية مادون مستوى الحدث الالي الحاصل، مطبقا على واتقع لم يعرف الانتقال الالي، مايزال يدويا من حيث محركاته الاساسية ليس بيده سوى استلهام الاخر وتصوراته الغالبة لغلبته الالية، واذ تزدحم الصحافة والاذاعات والتلفزيونات اليوم وهي تحلل وتفسر الحدث السوري، او تنقل رؤية القائمين به والذين تهيأت لهم اسباب الغلبه، فان المزيد من التيه وعدم التفاعل مع المعاش يتكرس مثلما هو الحال منذ اكذوبة " محمد علي" المصري و محمد عبدة والافغاني، و "محمد بن عبدالوهاب" ومالحق من اشكال تماهيات ايديلوجيه مقاربة للمعتبر مشروعا غربيا حداثيا، ليتكرس حال عالم بلا رؤية مستنده لاالى الحقيقة الانقلابيه الحاصلة ولا الى الذاتيه التاريخيه، ومن ثم والاهم بلا اتصال من اي نوع بجوهر المتغير الكوني الحال على المعمورة منذ اكثر من ثلاثة قرون والى اليوم، والاهم تبين التفاعلية المفترضة بين الاليات الذاتيه البنيوية التاريخيه للمكان، والمتغير الالي مع وطاته الابتدائية وتوهمية المنظور الغربي المواكب .

الانتقال من الانتاج اليدوي الى الالي هو زمن انتقال الكائن البشري اعقالا وادراكية للمنطوى المجتمعي الغائب، مافوق قدرة العقل البشري في حينه على ادراكه، بكشف النقاب عن الازدواج المجتمعي الارضوي، اللاارضوي ، واستمرار الاعتقاد الراسخ بوحدانيه المجتمعية الارضية وهو مايلازم الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي البشري، كما يلازم الكائن البشري بصيغته ك "انسايوان"/ الجسد، قبل الانتقال الى "الانسان"/ العقل، وهو مالم يتحقق او تجري مقاربته عند ابتداء الانقلاب الالي الذي يحصل اصلا في الموضع الارضوي الاحادوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه حيث الازدواج الطبقي، مايكرس نموذجا من الارضوية المتقدمه استنادا الى فعل الاليه وتسريعها الاستثنائي للديناميات المجتمعية، مايمنح النموذجية الايهامية رافعه رايه الحداثية الهيمنيه على مستوى الكوكب موقع الغلبة والتسيد النموذجي التفكري.

لايبدا الانقلاب الالي بصيغته الملائمه لمنطوياته وموقعه ضمن السيرورة المجتمعية التاريخيه الا مع اكتشاف المجتمعية اللاارضوية والازدواج الارضوي اللاارضوي، يتعبيريتها الصارخة التباين ( النبوية الابراهيمة/ الفلسفية الاغريقية)، مايضع الانقلاب الالي بالاحرى بعهدة موضع التعبيرية الحدسية النبوية الشرق متوسطي، بعد تحمل والتفاعل مع الانحطاطية الذاتيه، والخضوع للبرانيه الشرقية اليدوية من هولاكو الى العثمانيين، قبل الغلبة البرانيه التوهمية النوعية نمطيا، الغربية التوهمية الالية، والسعي للتماثل الانحطاطي معها، قبل بلوغ مشارف الثورة الكونيه الكبرى الالية اللاارضوية، حين تاتي اخيرا مترافقه مع انهيار النمطية الغربية، والتازم النهائي للنموذجية الامريكيه الوريثة المفقسة خارج رحم التاريخ.

هنا حيث تصير اسرائيل ركيزه وجودية مستفيده من الموقع الذي جرى زرعها فيه اوربيا كتامين لمصالح الغرب التوهمي، فاذا بالانجيليه الصهيونيه اساس ومرتكز وجود يكرر المنطلقات التاسيسية الامريكيه، منذ كان المهاجرون الاوربيون يرفعون وهم على سواحل القارة الامريكية شعار "سنبني مدينه على تله" الابراهيمي التوراتي، ويظلون يعيشون اجبارا تحت قوة حضور الرسالية الكونيه الزائفة، والميل الديني الاعلى حضورا ونسبة بين كافة المجتمعات البشرية، برغم الحاجة الى التزويرية للابقاء على مظاهر العلمانيه الغربيه الجاري السطو عليها بلا اساس مجتمعي تاريخي، للضرورة الوجودية البراغماتيه، وصولا الى "الابراهيمة الصهيو/ ترامبيه" مع الانهيار الكلي في القيم حتى الابتدائية للدول والمشاريع المجتمعية، مع خضوع امريكا لشخص مثل "ترامب" هو دالة انحطاط صارخ لاتقبل التاويل، في حين تكون دول الابار قد غدت مهياة لكي تباشر من هنا فصاعدا دورها المستجد وقد صارت فاعلة مستندة لضرورة عالميه، هي فيها ليس مجرد رقم بلا قيمه او مقحم بلا سبب.

تسير منطقة الشرق المتوسطي من هنا فصاعدا الى الهيمنه الصيهونيه المتامركة، باعتبارها منفذا ومحاولة للخروج من تأزم اقصى لمجتمعيات منتهية الصلاحية كما مقدر لها بالاصل ومنذ وجدت كمجتمعات ارضوية حاجاتيه جسدوية، بينما يصير ملحا الانتقال الى اللاارضوية الثانيه مابعد الابراهيمية، وقد توفرت كل الاسباب الضرورية لمثل هذا الانقلاب الكوني، من الصيغة التعبيرية النبوية الحدسية الاولى الابراهيمه، الى التعبيرية العليّة السببية لنغدو مع الغلبة الامريكيه الصهيونيه الابارية المفبركة، امام اصطراعية كبرى فاصلة بين ابراهيميه المستعارة من الماضي يوم كانت تلائم شروط الغلبة اليدوية الارضوية، واخرى راهنه مستجدة ولدت مع انتهاء صلاحية الارضوية وغلبتها التاريخيه، الامر الذي يستحق حتما ومن هنا فصاعدا ماقد لايحصى من الوقفات والنداءات والتنويهات التي لاتوقف لها.

ـ يتبع ـ ملحق/ اللاارضوية او الفنائية البشريه.. لماذا؟

***

عبد الأمير الركابي

......................

(1) وقع اول انقلاب في المنطقة العربية عام 1936 في العراق، هوانقلاب بكر صدقي، اول انقلاب في العالم الثالث، وباكورة الظاهرة التي عمت العالم الثالث، وتحولت لظاهرة فيه على مدى عقود لاحقه.

(2) حول الاساس الابراهيمي المستوحى في التاسيس الكياني الامريكي يراجع/ مدينه على جبل: عن الدين والسياسة في امريكا/ طارق متري / دار النهار/ و ميشيل بوغنون ـ مورغان/ امريكا التوتوليتاريه: الولايات المتحدة والعالم الى اين؟/ تقديم بيار سالينجر/ تعريب خليل احمد خليل/ دار الساقي ـ بيروت.

(3) لاجل مقاربة مسارات الانحطاطية الغربيه المتاخرة التي تجعل من امثال ماكرون وترامب رؤساء لفرنسا والولايات المتحدة الامريكيه/ يراجع/ نظام التفاهه/ د الان دونو/ ترجمه د مشاعل عبدالعزيز الهاجري/ دار سؤال.

 

كيف تسقط الأنظمة تحت ضربات الفساد وبفعل النفاق وبتأثير مشاعر الغبن؟

الظلم صنوف وأنواع ومستويات ودرجات، وسواء كان ظلما اجتماعيا أم إنسانيا فهو في كل الأحوال سلوكا ممقوتا يشوب الصلات بين الأفراد ويسئ للعلاقات بين الأمم، ولكن ما يعجل بنهاية أي نظام حكم سوى الظلم السياسي، فمنه يؤخذ الدرس تحت عنوان، كيف يُنهى النظام.

***                       

ككل شيء في الحياة الدنيا هناك البداية وهناك بالتأكيد النهاية، وهما يمثلان طرفا مشوار سياسي لنظام يمر بمحطات اختبار القوة أمام المقاومة، قوة إحكام السيطرة امام مقاومة رفض الهيمنة، قوة شد إلى حب البقاء الديكتاتوري التسلطي، وقوة الجذب إلى التغيير الديمقراطي، قوة تريد جميع فئات الشعب لها تابعة، وقوة تريد السلطة لشؤونها متابعة، وتختلف المرئيات بتباين المنطلقات الأساسية واختلاف القناعات والتي عليها تتناقض المواقف ثم يحدث الانسداد في مراكز الاتصال وقنوات التواصل، فيغيب الحوار مع أجهزة الدولة وحتى داخل دواليب نظام الحكم.. إنه الانغلاق السياسي الذي يِؤشر على حدوث أزمة. هذا التوالي للأحداث هو مسلسل منطقي متماسك الحلقات بكل موضوعية يمكن أن يصيب معظم الأنظمة التي تريدأن تضع نفسها في اختبار القوة أمام مقاومة قوى شعبها لها، والشواهد التاريخية القديمة والحديثة تؤكد حقيقتها، وللأسف حملت هذه الشواهد الشيء الكثير الذي ستحتفظ به الذاكرة الجماعية للشعوب سنين طويلة، والحكم الرشيد وحده هو من لا يرغب أبدا في رؤية شعبه يعيشها مرة أخرى.

وعودة على بدء .. كيف يُنهى النظام؟

منطق الأشياء أن الصراع على السلطة يقضي بضرورة أحكام القبضة بكل قوة على كل نشاط حيوي في البلاد، مما يعني التنافس المحموم على التحكم في معظم مدخلات الاقتصاد ومخارجه.ثم الامتداد الأفقي والتمدد الرأسي لتوسيع مجلات النفود، وهذا النفود ليس شيئا هلاميا لا معالم له، بل محدد الملامح جدا، إنه نفود وسطوة المال أولا الذي يمهد لولوج دوائر الحكم ومراكز صنع القرار، ونفود المال لا تقاومه النفوس الضعيفة بل وتتبعه النفوس الخبيثة التي تحرص في كل وقت على إبداء ولائها المزيف لمن يدفع، إن مثل هذه النفوس تسهّل المهمة كثيرا لى الطامعين في الحكم، لأن الأمر لا يحتاج إلى إقناع وإجراء مفاوضات طويلة التي قد تنجح وقد تفشل. المال سيف بتّار في يد صاحبه لحسم ما استعصى من مسائل، وهو مفتاح سحري لمغاليق الأمور، إنه وسيلة فضلى لمن يضيق من تعقيدا وقيود القانون ولمن يترفع عن الخضوع والامتثال له، أي أنه أداة لمن يريد تجاوز النظام العام وخرق حالة السكينة والاطمئنان المستندة إلى الأمن والسلم الاجتماعيين، ويسعى للاعتداء السافر على الحقوق الثابتة الفردية والجماعية، إنه الظلم الذي حرّمته كل الشرائع السماوية وجرمته القوانين الوضعية لأنه " الرشوة" اللعينة المعبرة عن قمة الفساد الأخلاقي الذي يمثل بحق بداية السقوط.

إن الرشوة لا يُتصور دفعها إلا للغرباء من أجل اكتساب أفضلية دون حق أو الحصول على مكاسب على حساب آخرين، لكن في مقابلها تبرز وسيلة أخرى لا تقل سوءا كونها لا تبالي بالكفاءة والعلم والمقدرة أمام سطوة أولوية ذوي القربى العائلية والقبائلية والانتماءات الجهوية إلى مساقط الرأس ومنطق العشائرية، أنها  " المحسوبية " المقيتة التي لا سبيل لنكرانها أو نفي وقوعها، إنها في كل مفردات حياتنا بشكل أو بآخر، وليس المقصود هنا التعميم المطلق، فكثير ما تتقاطع هذه الاعتبارات مع وجود كفاءات حقيقية لا مناص من الاعتراف بها، ولا مفر من الاستعانة بخدماتها، ولا غرو من اللجوء إلى ما تتمتع به من خبرات عملية وكفاءة علمية، ولكن إذا انتفت هذه القدرات الخاصة والمؤهلات  الشخصية وانعدمت الإمكانيات الذاتية وجرى التعيين في مناصب المسؤولية لغير من يستحقها بل على أساس درجة القرابة أو الانتماء فإنه بحق النفاق السياسي الذي يعد في حقيقته سوسة النظام التي تنتشر في دواليبه وتنخر في كيانه وصولا إلى تقويض أركانه لتحيله إلى كيان هش آيل للسقوط في كل وقت لسبب واحد وهو أن فئات الشعب قد أصبحت معزولة وجدانيا عن القيادة السياسية للبلاد، بمعنى أننا لن نجد لها توثبا للانتصار لقضايا ومشاريع السلطة، كما لن نجد صدى مبادراتها بين طوائف الشعب أو مظاهر تعبئة لقوى المجتمع أو سبيلا لتجنيد قواه الحية، وحتى لو اجتهدت أبواقه الإعلامية في تصوير الوضع بخلاف حقيقته فهذا لا يعني أبدا انتفاء أن النتيجة الطبيعية لسوء الوضع قد تكونت بسبب فقدان الثقة وانعدام المصداقية.

لن يكون انتشار المحسوبية محصورا أثره في ذاته، بل منطقيا ستمتد تداعياتها في صور قاسية تعبر عن الغبن الاجتماعي ومن مظاهرها" التهميش والإقصاء" وليس من قبيل التهميش استبعاد ضعاف المستوى العلمي وعديمي التكوين المهني اللائق من تولي مناصب المسؤولية، والحقيقة أن في ذلك شفقة عليهم من عدم تحملهم عبء ثقيل يجهلون  طرق التعامل معه، كما في ذلك رحمة للمجتمع من مساوئهم وأخطائهم التي طالما شاهدنا نتيجتها على مدار التاريخ السياسي منذ القدم وانعكاساتها السلبية على حياة الشعوب، ولكن التهميش أن يحرم أحدهم رغم تمتعه بالمؤهلات المطلوبة والمعترف بها للتعيين أو للترقي والارتقاء في السلم الوظيفي لصالح آخر أجاد لعبة النفاق السياسي، ففي هذا إهدار سافر للكفاءات وتمكين فاضح للرداءة التي يستحيل معها انتظار أو توقّع أي خير للبلاد والعباد، وهنا نكون قد وصلنا إلى آفة الزوال.

لقد اكتمل ثالوث لظلم السياسي من الفساد الأخلاقي إلى النفاق السياسي ثم الغبن الاجتماعي، وهو نفسه المؤدي إلى تفكك الوحدة الوطنية، فكيف يمكننا تصور وجود تآلف اجتماعي أو توافق سياسي أو حتى تضامن إنساني في مجتمع تمزّقت أوصاله وتباعدت مصالح فئاته بعدما تضاربت الأهداف التي على كثرتها وتنوعها إلا أن القاسم المشترك بينها، أنها لا تتعلق بالمصلحة الوطنية الحقة. إن مثل هذا الثالوث أعمق أثرا وأشد وطأة وأوسع تأثيرا على سيرورة الحياة العادية للمجتمع لأنها تفعل مفعولها السلبي بسرعة وربما تتجاوز في وتيرتها مسارات المعارضة الحزبية الرافضة واحتجاجات القوى النقابية الغاضبة التي غالبا ما تكتفي بالوقوف عند عتبة المطالبة بالحقوق وتحسين الوضع المعيشي.

إن النظام الحاكم قد خلق في ذاته من هذا الوضع عوامل فنائه، لقد وضع نفسه أمام مخاطر تهدد بقائه ودوامه، فنهايته تكون قد أصبحت رهن حدوث ثورة شعبية عارمة على شاكلة " الشعب يريد.." أو رهن انقلب داخلي منظم له أساس وله رأس.. أو بتعرضه لهجمة عسكرية خارجية ضارية لن يكون من العسير تبريرها وضمان الحشد لها بأسرع مما يتصور أكثر المتفائلين، ومهما كان الحال فإن النظام الذي اعتمد على شخصيات اتسمت بمحورية الذات لإنجاز عمل يوهمون به الرأي العام أنه عمل يستند لإرادة جماعية وأحاط نفسه بدوائر المنافقين نسي أن معارضة الشيء قد تكون في سرعة تأييده قبل أوانه، وأنه هو من رسم لنفسه آخر محطاته بعدما ضعفت لديه حدة البصر نحو الآفاق فعجز عن النظر للأمور نظرة شاملة غير مفككة، وفقد مهارة التبصر والأخذ باعتبارات الحيطة والحذر فلم يستغل التوهج الفكري نخبيه المثقفة، ولم يحافظ على الطابع النفسي المطمئن كشرط أساسي للخيال المبدع، الخيال الذي ينتج صورا تدعم الفكر الذي ينتج المفاهيم، فكانت الأزمة أكبر من خطط الحل التي عادة ما تجيء في الربع ساعة الأخيرة، وهو ما يعني بطء الحركة وتقص آليات الحل وغياب سياسة إنقاذ، أي أن النظام لم يدرس التاريخ جيدا وبذلك حدد لنفسه نهاية مطافه بالسقوط الحر في الدرس المر

***

صبحة بغورة

 

الولايات المتحدة الأمريكية دولة لم يبزغ نجمها إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهي لم تقم إلا على سلاسل من الحروب: حرب شعواء على الهنود الحمر أبادوا فيها عشرات الملايين من السكان الأصليين، وحرب على إفريقيا لاستجلاب الرقيق الأسود لبناء الولايات المتحدة الأمريكية على كواهل ملايين الأفارقة الذين مات أكثرهم إما في عمليات نقلهم في أقفاص كالبهائم في سفن شحن، وإما أثناء عملهم كعبيد في مزارع ومصانع الأمريكي الأبيض. ثم ظهرت أمريكا كقطب من أقطاب القوي العسكرية في العالم بعد إسقاط قنبلتي هيروشيما ونجازاكي. أي أنها دولة أقامت دعائمها على الدماء. ثم هي الآن تدعي أنها راعية الديمقراطية والحرية وكأن العالم كله قد نسي كيف أنها دولة أقيمت في الأساس على أشلاء الأبرياء ودمائهم!

 الغريب أن الولايات المتحدة الأمريكية عندما أرادت أن تصنع لنفسها امتداداً تاريخياً تشبثت بالحضارة الإغريقية وادعت أنها ابنتها الشرعية المنحدرة عنها.

ولو سلمنا جدلاً بهذا الامتداد الكاذب. فهل قامت الحضارة الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً على هذه الثقافة القديمة، أم أن الحضارة الإسلامية ومؤلفات علماء المسلمين أمثال البيروني وابن سينا وجابر بن حيان وغيرهم، الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية بعد أفول نجم حضارة الأندلس ومن بعدها حضارة المشرق؟!

  الحقيقة يعرفونها ونعرفها جميعاً وإن استطاع الغرب إقناعنا أنهم الأذكى والأفضل، وأننا لا نستطيع اللحاق بركب التقدم السريع لسبب فينا نحن! فما السبب الحقيقي لتخلفنا وتقدمهم؟ وما هي الخدعة الغربية الخبيثة التي انطلت علينا فتخلفنا بسببها؟

كاموفلاج هوليودي

 بمجرد خروج الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة من الحرب العالمية الثانية، حلت محل بريطانيا كدولة عظمي. وأدركت من خبرتها العسكرية ضد "جوبلز" وآلته الإعلامية الرهيبة أن الإعلام له الدور الأكبر في غسل أدمغة الشعوب في الحرب والسلم. ولهذا حرص الأمريكيون على تطوير آلة الإعلام تطويراً عظيماً مهما كلفهم الأمر أموالاً طائلة.

 ومن خلال وكالات الإعلام العالمية وأفلام هوليود واسعة الانتشار اقتنعنا أن العلم هو أمريكا وأنها الحرية الخالصة والتكنولوجيا التي لا تُباري والثروة التي لا ينقطع مددها. وأنها قِبلة كل حر وكل عالِم أو باحث عن الثراء. وبالفعل فتحت أمريكا ذراعيها للوافدين إليها، واستقطبت العقول الألمعية في مختلف المجالات من كافة بقاع الأرض، هكذا بُنيت الولايات المتحدة الأمريكية بعرق ودماء آلاف المهاجرين إليها والذين تجنسوا بالجنسية الأمريكية وساهموا في تحقيق الحلم الأمريكي. ثم جاء أصحاب البشرة البيضاء من الأمريكيين ليدَّعوا أنهم وحدهم الأمريكيون الحقيقيون وأن المجد الأمريكي بُني على كواهلهم وحدهم، وأنهم وحدهم أصحاب الحق في الإرث الأمريكي أرضاً وتاريخاً.

 والباحث المتعمق في الواقع الأمريكي سيكتشف أن عباقرة أمريكا وبَنَّاؤوها أغلبهم ليسوا من أصول أوروبية أو أمريكية ولا هم من أصحاب البشرة البيضاء. فالفِرَق الرياضية المتفوقة وأبطال الرياضات المختلفة ومشاهير الممثلين من أبطال هوليود نصفهم على الأقل من الزنوج السود. وكثير من علمائهم وافدون من آسيا وإفريقيا وأستراليا.

 وفى تاريخ العلم الذي يقرأه الشباب في الغرب لن تجد ذكراً لحضارة الإسلام التي قام عليها الغرب في العصر الوسيط. وإنما فقط حضارة الإغريق و اليونان، وكأن علماء الإسلام الذين استولت أوروبا على نفائس مؤلفاتهم الأصلية لم يكن لهم وجود!

ببغاوات المشرق

 العجيب أن كثيراً من أبناء المشرق العربي ممن درسوا في أوروبا أو أمريكا مضوا يرددون سردية الغرب في ادعاءاته الكاذبة أننا لسنا أصل تقدمهم الذي وصلوا إليه. يحدث هذا في الوقت الذي يتحدث فيه علماء وباحثون ومستشرقون غربيون عن دور علماء الإسلام في خدمة تطور الإنسانية والغرب في أوائل عصر النهضة.

 لقد تعمد الغرب خلال فترات طويلة، من خلال إعلامه وأفلامه، ومن خلال تلامذته الذين تعلموا في جامعاته، أن يشيع سرديته المغلوطة التي تصل في منتهاها إلى القدح في ذكائنا أمام ذكائه، وأن أهل الغرب عباقرة، وأهل الشرق أغبياء. رغم أن حضارتهم أقيمت على أكتاف غيرهم!

 كتَب الأمريكي (س. فريدريك ستار) عن ابن سينا والبيروني، وسبقه في الإشارة للدور العظيم الذي قام به علماء المسلمين عبر التاريخ في تقدم الإنسانية عدة علماء ومستشرقون غربيون أمثال: جوستاف لوبون وسيجريد هونكه وغيرهم.

 القادة العسكريون يقولون: " إن التاريخ يكتبه المنتصرون"، فهل معني هذا أن جزءاً كبيراً من تاريخ العالم المسرود هو تاريخ زائف كُتب فوق جثث المنهزمين؟! وإذا كان هذا حقيقياً، فالعالم في حاجة إلى إعادة كتابة التاريخ من جديد. والأهم من هذا أن تَنخرس ألسنة الببغاوات الذين ما زالوا يرددون سرديات الغرب القائلة بأن الغرب أفضل منا، وأننا غير قادرين على تحقيق أي تقدم في أي مجال لعيب فينا كأعراق وأجناس أقل شأنا وأقل ذكاءً. وهي سردية وجدت لنفسها أنصاراً من مدعي العلم والثقافة. ولعل من أهم علمائنا الذين واجهوا تلك السردية وفندوها وتحدثوا عنها: الدكتور أحمد مستجير عالم الوراثة المعروف وعميد كلية الزراعة الأسبق رحمه الله.

السردية الملعونة

 على مدار عشرات السنين ظلت الآلة الإعلامية الغربية تحاول إفقادنا الثقة في أنفسنا نحن أهل المشرق أمام نهضة الغرب. حتى جاء الوقت الذي ظهر فيه زيف اداعاءاتهم بشكل عملي غير قابل للنكران أو الاعتراض. فها هو الشرق ينهض نهضة سريعة في شتي مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، وها هو التنين الصيني ينهض ليثبت أن الغرب كالشرق، وأن العلم ليس حكراً على أحد.

 تلك هي الخدعة الدائمة في سرديات الغرب: أن شعوب المشرق المتخلفة غير قادرة على التطور في أي مجال، والسبب أنهم متخلفون عرقياً. وأن هناك أجناس بشرية أفضل من أجناس. تلك النعرة العِرقية الأثيمة التي تبناها الألمان سابقاً فقاموا بغزو بلدان عدة تحت شعار "تفوق الجنس الآري الألماني النقي"!

 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات أعيد إنتاج تلك الفكرة وتوليدها في عدة صور جديدة: كالإنسان السوبرمان، وتفوق الجنس الأبيض. وكلها أفكار عنصرية بغيضة تستهدف التقليل من شأن شعوب وأفراد بعينهم. لقد تحدث الدكتور أحمد مستجير أن أربعة كتب ظهرت خلال السنوات الخمسة الأولي من القرن الواحد والعشرين تتحدث عن فكرة واحدة محورية: هي أن شعوباً أذكي من شعوب، وأن هناك تفوق في جينات بعض الشعوب عن شعوب أخري متخلفة بالوراثة!! والنتيجة التى تصل إليها مثل تلك السردية الماكرة ليست أننا في حاجة لتحسين السلالات البشرية من خلال تقدم علوم الوراثة والهندسة البيوتكنولوجية، بل استنتج أولئك العلماء المزيفون أننا في حاجة للقضاء على السلالات البشرية المتخلفة لصالح السلالات الأكثر تفوقاً. إنها نظرة عنصرية صهيونية سادية تتدثر بدثار العلم!

 وقد وصل تطور هذه النظرة البغيضة الخبيثة إلى الفكرة المتداولة عالمياً همساً بين الأفواه والآذان؛ فكرة "المليار الذهبي"؛ حيث يموت ملايين البشر من خلال الحروب والأوبئة والكوارث، وأن على قادة العالَم أن يحرصوا أن الباقين على ظهر الأرض بعد سلاسل الدمار والموت هم خلاصة الأذكياء والأقوياء فقط، وأن تقدم البشرية يعتمد على تلك الفكرة العنصرية الملتوية!

 تلك هي الخدعة الأمريكية الكبرى التي انطلت علينا على مدي عشرات السنين: أنهم الأقوى والأفضل، وأننا غير قادرين أن نصبح مثلهم وأفضل، وأن بيننا وبينهم عشرات السنوات الضوئية علماً وتطوراً. وألا سبيل لدينا لاستعادة أمجادنا القديمة كمشرق عربي مهما حاولنا. وما هي إلا خدعة علينا أن نصرفها عن ثقافتنا؛ حتى نتمكن من التخلص من عقدة الخواجة التي تأصلت فينا رغماً عنا، وآن الأوان لصرفها لاستدعاء ثقتنا في أنفسنا وفي قدرتنا على صناعة مجد وإقامة حضارة.

***

د. عبد السلام فاروق

يغادر بشار الاسد فيقفل تاريخ مشوه بمتبقياته المتهالكة وثقل بقائة خارج الزمن، تاريخ وحقبة عرفت اسماء من مثل: عبدالناصر والقذافي، وصدام حسين وحافظ الاسد، وعبدالكريم قاسم وبومدين،  مرت كتعبيرية سلطوية دالة عن قمة ماهو ممكن واقعا من تماه "تحرري" نهضوي  عربي، مع الحداثة  الغربيه الاوربية، وماولدته من متغيرات تجلت هنا ايديلوجيا بلا سند ذاتي مشخص، احزابا ومنظمات  ايديلوجية توهميه، توزعت بين قومية، ويسارية، وليبراليه، لم تكن قادرة، ولاتمكنت بذاتها من الحضور عمليا كمشاريع حكم، دلالة على ارجحية نموذج الانقلابيه العسكرية، بالذات في البلدان "التاريخيه"(1)، وفي مقدمها النهرية البدئية كما ميزت استثنائيا  الشرق الاوسط كتبلور حضاري اسبق على مستوى المعمورة.

ومن الخمسينات من القرن الماضي الى اخر متبقى متهالك، انهار اليوم غير ماسوف عليه، لم يكن قد وجد بذاته، بل كاستنساخ عما قبله، كانت الظاهرة المومى اليها قد دلت على "عجز" تاريخي عضوي عميق، تجسد كمحاولة تكريس متماهية بلا اساس، مع مثال غالب وكاسح نموذجا وتفكرا، من دون اساس مادي يعيد انتاجه وفقا لركائز هذا الجزء من المعمورة، بغض النظر عن التوهمات السائرة ك"نهضوبة زائفة" تعود الى القرن التاسع عشر، ماقد وضعها تحت طائلة حالة مرضية، هي بالاحرى خروج من الذاتيه  المطموسة غير المزاح عنها النقاب،  مع الاصرار الاسقاطي على  انكارها عجزا وقصورا، تكريسا لوهم الانتماء الى آخر هي غير مهيأة، ولا تملك الاسباب لاعادة استيلاده في ارضها.

على المنقلب الاخر، وفي مناسبة لم تلحظ الى اليوم واقعا واحتمالات على تميزها وخطورتها، وجدت في ذات العالم العربي، وبقوة فعل العنصر غير الانتاجي الفاعل ريعيا، ومعه، مايعرف بدول الابار، تلك التي تنشأ هنا بلا تاريخ ولامقومات موصولة بذاتية المكان ومسار تاريخه، سوى حال ايحائية تحيل الى ماض لاوجود له ولالآلياته اليوم، استنادا الى حدث هو ليس من منتوج المكان المقصود، بقدر ماهو حالة متاخرة من نوع تعبيرية ميزت هذه المنطقة، على اهمية وختامية الحاصل المشار اليه وانقلابيته الشامله المتاخرة ضمنها، مع انه يلحق بمنجز اساس يعاد اليوم التذكير به وكانه مايزال حيا مع الترامبيه ومايخالجها من ميل لاستعمال "الابراهيمه"، خاصية التعبيرية الذاتية الشرق متوسطية ببعدها الكوني، في غير اوانها، وفي محاولة تخفيف وطاة المازق الغربي المتعاظم  باطراد، ماياخذنا الى حيث وصلنا ونحن على مشارفه، مع التداخل العضوي الاقتصاي النفطي الراسمالي، الى نوع اخر من التعبيرية يحفزها انقلاب الغرب نفسه، من مجتمعات الانقلاب الالي الصناعي الراسمالي/ الليبرالي الديمقراطي، الى نمطية  الامبراطورية الامريكة، وريث الغرب التاريخي،  مع انها انية، تنتمي  لكيانيه "الفكرة" التي بلا تاريخ، وهو طور من تاريخ الغرب يسعى هووامريكا معا الى طمسه وعدم الاشارة اليه، عجزا من ناحية، ولكي  لاتوضع اوربا بتاريخها الحداثي والقه الايهامي المميز على الرف، كمرحلة منقضية انتهى اوانها من ناحية،  كما لكي لاتنكشف امريكا الكيانيه "المفقسه خارج رحم التاريخ"، باعتبارها على ماهي، بدون هوية،  برغم سيادتها الادعائية الصارخة  على العالم باسم ماليست منه تكوينا.

هنا يقام باحتفالية سقيمة في الامارات العربية "برج زايد"، ايحاء مقابلا ل "برج بابل" جد الابراج ومعه الاهرامات على مستوى الكوكب الارضي، على أمل اختلاق تاريخ آخر، وذاتية مواكبه لزمن انتفاء الذاتيه، مع السعي  المتحايل تهربا من  اللقاء مع شرط الكينونة تاريخيا وبنيويا، وهكذا ومع كل الغرابة التي يتيحها التاريخ ضمن اشتراطات كلها مطوية ومتداخلة بلا تفسير منذ الالة قبل اكثر من ثلاثة قرون، مانحا الشرق الاوسط مرة اخرى مقومات الضرورة الكونية المواكبة له ولموقعه، ونوع ذاتيه النبوية الحدسية مقابل الفلسفية الاغريقية على المنقلب المتوسطي الاخر، بما يجيز التساؤل "لماذا النفط" كمادة متركزة هنا اليوم وكانها مقابل التصنيع الغربي، بما يمكن ان يتيح القول بان الحاصل لهذه الجهه هو "التصنيع الصحراوي" مقابل التصنيعية الطبقية الاوربية، يواكبهما انقلاب على المنقلبين، حين يغيب احدهما الاول الابتدائي الذي دشن الالة قبل سواه كنموذج وتفكريه غالبة، يكون التصنيع الريعي الصحراوي وقتها مؤهلا للتفاعل مع الوريث الالي التكنولوجي الانتاجي،  معولم الانتاج مانحا اياه الوسيلة المفهومية الكيانيه الكونية الضروره.

وتعود محاولات امريكا ابان التحسسات المتوالية بشان افولها الوشيك، لاعتماد الشرق متوسطية كيانيه وحضورا، فضلا عن المنجز، الى مناسبة اسبق حين صار متداولا وقتها ومع عملية افناء الكيانيه العراقية بين 1991 / 2003 موضوعة "الشرق الاوسط الكبير"، بمعنى " بغداد العباسيين" الممتد نفوذها من حدود الصين الى المحيط الهادي، بحثا عن حاجز يؤمن سلامه اوربا بوجه القطب الصيني الروسي الصاعد واحتمالاته، الامر الذي حفز وقتها بيريز الاسرائيلي ليقترح في كتاب له مشروع "الشرق الاوسط الصغير"، حيث وحدة التكنولوجيا اسرائليا، مع "الصناعة الصحراوية" النفط، وهو مايبدو ان الاشتراطات والتفاعلية اللاحقة قد زكته كمنطلق، راح يتكامل باضافة البعد الكيانوي المتعدي للكيانيه، بعدما صارت امريكا بحاجه ماسة كما كانت ابان تشكلها لان  تتلبسه(2).

وقد يكون حضور ايران ونوع نظامها وضروراته احد الاسباب التي شجعت على استثناء العراق وسفارة امريكا التي كانت ستكلف قرابة الست مليارات  دولار هناك، مع مايفترض من نوع سفاره هي بالاحرى مركز" الرئاسة الامريكيه الثانيه"، لو انها حدث وتحققت، وعلى هذا استقر العمل امريكيا  بالدرجة الاولى، وبالطبع اسرائليا، تحضيرا تصوريا انجيليا صهونيا يتلبس ثوب الابراهيميه ويعيد انتاجها بالفبركة، الامر الذي عادت "الصدف" واحكام التاريخ غير المحسوبه لتدعمه بانبثاق نمط رئاسية اقرب للخرافية، لايمكن اخضاعها لاية مقاييس الا بتلك المتردية التي تعم العالم الغربي وصولا الى "نظام التفاهة"، والى احتمالات الانهيارالغربية بعد الروسية المتشبهه بالاشتراكية.(3)

***

عبد الأمير الركابي

.................................

* تؤجل الحلقة الاخيرة من مقال  (" اللاارضوية" بديل الماركسية الافله") الى  مابعد المقال الحالي لراهنية الحدث المعالج هنا.

* الهوامش في الحلقة القادمه.

حكم حزب «البعث» دِمشق لواحد وستين عاماً (1963-2024)، والشّطر الأكبر منها حكمه جناحه الأخير (1970- 2024). يُبشر مشهد اليوم الأول(8 ديسمبر 2024) خيراً، ويبدو أُخذت الفائدة مِن التّجربة العراقيَّة، ذلك مشهد اليوم الأول ببغداد(9 أبريل 2003) الذي هيأ له الغزوّ، تاركاً المؤسسات بلا حماية، ثم أعلن عن حلّ المؤسسة الأمنيّة، والاجتثاث اِنتقاماً، فحدث ما حدث، ولعلَّ السُّوريين يضعون الدرس نُصب أعينهم، فالحفاظ على الدّولة ومؤسساتها، يحمي المجتمع مِن الاِنتقام السّقام، فكانت بادرة طيبة أنّ يبقى رئيس الوزراء يُدير البلاد، وهو الاستفادة ليس مِن التجربة العراقيَّة حسب، بل واللِّيبية واليمنية أيضاً.

فعل المغول ما لم يفعله الأميركان ببغداد(656هـ)، عندما انتصروا وانتهت الثلاثة أيام مِن الاستباحة، وهذه مِن طبائع الغزاة، ثبتوا الحكومة العباسية السّابقة نفسها، بوزيرها وقاضي قضاتها، بعد إزالة العباسيين عنها، أمّا الغزو الأميركي فكان تحطيماً لكلّ شيء. لذا، مازالت بغداد تئن مِن وطأة ما حدث، فكتبتُ حينها «ليت الغزو الأميركي كان مغوليَّاً»(الشرق الأوسط).

احتفظت دمشق بقوامها التاريخيّ، فأين ما وليت وجهك تجد فيها الأثر قائماً، حافظت حتَّى اليوم على تاريخها، قبل الإسلام وبعده، وليس اختيار آل سفيان لإدارتها جاء مِن فراغ، ذلك لصلاتهم بها في زمن «الجاهليَّة»، عبر التجارة، فبعد ضمها إلى الدّولة الإسلاميَّة صار يزيد بن أبي سفيان والياً عليها، وبعد وفاته، في طاعون «عمواس»(18هـ)، حلّ محله أخوه غير الشّقيق معاوية(ت: 60هـ)، ولأنها كانت تحت حكم الروم والقريبة مِن إمبراطوريتهم، لم يظهر نداً للروم، في الأبهة والسلوك، والروايات تحدثت عن لقاء بين أبي سفيان وهرقل بالشَّام قبل الإسلام (ابن عساكر، تاريخ دِمشق).

بعد أنّ كتب الخطيب البغداديّ(ت: 463هـ) «تاريخ بغداد» أو «تاريخ مدينة السَّلام»- وربَّما كان أول تاريخ للمدن عبر تراجم أهلها- تأثر به عليّ بن الحسن المعروف بابن عساكر(ت: 571هـ)، فصنف«تاريخ مدينة دمشق»، وكان ضخماً، صدر في ثمانين مجلداً، «ذكر فضلها، وتسمية من حلها من الأماثل، أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها»، وبعد أن يأتي بما ذكره النَّسابون عن اشتقاق اسم دمشق، مِن معنى السّرعة «ناقة دمشق أي سريعة»، وجاء شعراً «وصاحبي ذات هباب دمشق/ كأنها بعد الكلال زورق»، يرى ابن عساكر: «فقلت دمشق اسم هذه المدينة ليست عربية، فيما ذكر ابن دريد، بل هي معربة، ولا يقال إلا بغيرها»(تاريخ مدينة دِمشق).

ظلت دمشق عاصمةً للدولة الأموية، لتسعين عاماً وعام(41- 132هـ)، ثم حاول المتوكل العباسي(قُتل: 47هـ) إعادتها عاصمة بدل بغداد، فقيل كان في نفسه هوى أموي، فقال الشَّاعر يزيد بن محمَّد المهلبيّ(ت: 259هـ): «أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ/ إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى انْطِلَاقِ/ فَإِنْ يَدَعِ الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهِ/ فَقَدْ تَبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).

بعد زمن صارت دِمشق والشّام مع مصر، وتعاقب عليها سلاطين وأمراء، أشهرهم آل زنكي، ثم بسط الأيوبيون سلطانهم عليها، والأبرز السّلطان العظيم صلاح الدّين الأيوبيّ(ت: 589هـ)، الذي مازال قبره فيها، وحاصرها المغول، ثم تيمورلنك، لكن مع كلّ ما مرّ عليها، يقول زكريا القزوينيّ(ت: 681هـ) وقد زارها بعد الحوادث كافة: «قصبة بلاد الشّام، وجنة الأرض، لِما فيها مِن النّظارة، وحِسن العمارة، ونزاهة الرّقعة، وسعة البقعة، وكثرة المياه والأشجار، ورخص الفواكه والثّمار... وأهل دمشق أحسن النّاس خلقاً وخُلقاً وزيَّاً»(القزوينيّ، آثار البلاد وأخبار العِباد).

بعد الحدث الأكبر، والمرور بحروب لسنوات طويلة، وكثرة اللاجئين خارج البلاد، وما تفرضه تلك الظروف مِن عواطف متضاربة، لعلَّ أهل الشّام يدركون الخراب، الذي حلّ بجوارهم، ويتجهون إلى العمران، ودمل الجراح، فلا يلجأون إلى تقسيم بلادهم، وتطبيق الاجتثاثات، فإن أطلقت لا يتوقف دولابها عن الدَّوران.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يحدثنا التاريخ القديم والحديث أن ما من أمة أصابها مظاهر الظلم السياسي أو عرفت الحياة السياسية فيها الغياب التام لكل حديث عن الحريات العامة وحقوق الإنسان ودولة القانون إلا وانتهى أمر نظامها الحاكم إلى الزوال بإحدى الطريقتين: انقلاب داخلي ينعدم معه وجود سلطة سياسية شرعية حاكمة لفترة غير قصيرة تدخل خلالها البلاد في حالة فراغ دستوري محدثة فوضى داخلية تفضى إلى تردي الوضع الاقتصادي المؤدي غالبا إلى التدهور الأمني. أو أن تتعرض البلاد لهجمة مسلحة تنتهك سيادتها وتقوض أركانها وتصادر استقلالية قرارهافتفقدهاوسائلها الذاتية لحماية أمنها الداخلي وتلغي دورها في التكفل بشؤون دفاعها الوطني.

ضعف الوعي وشهوات سلطة

غالبا تفقد السلطة اعتبارها داخليا بسقوط شرعيتها، وتفقد بناء عليه حضورها الإقليمي والدولي وتتراجع مرتبتها في سلم الدول الفاعلة فيضعف تأثيرها في صياغة التوجهات السياسية وصنع القرارات الدولية حتى وإن كان الأمر يتعلق بقضية معروضة للنقاش في المحافل الدولية وترتبط مباشرة بشأنها، أي أن واقع ومستقبل مصير البلاد يصبح خارج إرادتها وبيد أطراف أخري خارجية في المجموعة الدولية.

يمكنني أن أجزم أن كل هذه المخاطر والتبعات لم تكن غائبة عن أعين مراكز رسم السياسات ودوائر صنع القرار أو عن فكر وتقدير القيادة الحاكمة وكافة المسؤولين السياسيين في تلك البلاد التي سبق أن تعرضت للانهيار عبر مراحل التاريخ القديم والحديث. إن التاريخ يعطينا من الأمثلة ما يكفي لأخذ العبرة والاستفادة من الدرس، ويتيح لنا المجال واسعا في إعمال الفكر والتأمل لأحذ الموعظة، ولا تعوز أفقر شعوب الأرض بأبسط أدوات البحث من أجل الوقوف على حقيقة ما كان أو لتحري صدق ما جرى .هنا  ثمة أسئلة حائرة:

ـلماذا لم يتدارك المسؤولون أمرهم بناء على خلفية ما يعلمون فيجنبوا أنفسهم الذل والمهانة؟ ـ لماذا حرموا شعوبهم وأمتهم نعمة الأمن والسلام؟ ـ ولماذا جحدوا بنعمة الاستقرار على أنفسهم وبلدهم فاندفعوا بجنون نحو الزوال السياسي وسقط آخرون في هوة الفناء؟

تكرار الأحداث في بقاع شتّى ومتباعدة في قارات العالم يحيل إلى ظاهرة تعطي دلالة على أن ثمة أفكار تتعلق بالدوام في كرسي الحكم هي المسيطرة على الرؤوس في أعلى هرم السلطة تكون قد أصابت البصر بالعمى والبصيرة بالزيغ والفكر بالضلال، فحدث العجز والتيه عن استيعاب حقائق التاريخ وفهم دروسه فلم يتحقق منه الردع.

إن المراحل المتوالية لانهيار النظام السياسي مرتبة منطقيا ومرسومة مسبقا وبكل وضوح، لذلك فهي معلومة في اوساط العامة البسطاء، والمفارقة أن أهم معالم كل مرحلة هي ذات بعد اجتماعي لذلك ترتبط مباشرة بمصالح أفراد الشعب، وليس صحيحا أن تكون القلاقل السياسية وحدها أو نشاط قوى المعارضة من أحزاب ونقابات ومنظمات وراء كل تغيير سياسي سواء كان تغييرا كليا أو تعديلا جزئيا، كما أنه ليس صحيحا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة هي السبب المباشر لانهيار أركان دولة ما مهما كانت مظاهر فقرها وتدني مستواها المعيشي، ولعل ما يمكن ذكره في هذا المقام أن بداية سقوط النظام مرتبطة تماما بانتشار الفساد السياسي كظاهرة " الرشوة " التي بها يُقضى  كل أمر وبها يُحرم كل ذي حق من حقه، ومن دونها لا تُقضى أي مصلحة لتصبح المفتاح السحري لمغاليق الأمور ووسيلة إذلال النفوس وإخضاعها، فعندما تستشري الرشوة وتصبح المحرك الأساسي لنشاط الأفراد في الحياة العادية اليومية للمجتمع يصبح السبيل ممهدا وسهلا لتفكيك أواصر المجتمع بعد تفشي عدم الثقة وغياب العدل، فلا شيء يصبح مضمونا أمام إغراء المال، كما يصبح المجال مفتوحا أمام شراء نفوس لن يرحمها ضعفها أمام سطوة المال من الخنوع والقبول بأي فعل يُطلب منها القيام به ولو كان فعل الخيانة الوطنية، فالمرتشي لن يهتم كثيرا بمصدر المال سواء كان من داخل وطنه أو أجنبيا من خارجه، وهنا تتشكل الأرضية لتوغل نفوذ المال الأجنبي في العبث بالشؤون الوطنية .

تتربى في أركان كل سلطة وداخل دواليب أي نظام حكم سوسة النظام، التي لا تنشط ولا تنتشر إلاّ في غفلة، وهي ظاهرة موجودة في كل دولة، ولكن في  الدول التي تتحلى بمستوى عال من الثقافة السياسي والوعي الوطني الأصيل تراها خاملة ولكنها تنشط عندما تفتح لها في حصون دفاع الدولة الثغرات، وللأسف فإن اليد التي تُفتح لها هذه الثغرات ليست يدا أجنبية ولكن أيدي أبناء الدولة نفسها . تكمن سوسة النظام في ظاهرة المحسوبية المقيتة القائمة على تبادل المصالح بين قوى تؤسس لعملها بانتشار نفودها على أساس القرابة العائلية أو الانتماء القبلي ووفق اعتبارات الانتماء الإقليمي، أو على أساس عرقي عنصري، أو ديني مذهبي، أو إيديولوجي سياسي باعتقاد أنها روابط وثيقة ودائمة وباعثة على الثقة في خالص الطاعة ومطلق الولاء، وعليها تتشكل مراكز القوى داخل الدولة، وسيكون حضورها على حسب حجم انتشارها وتوسع نفودها وقوة تأثيرها، ويمكن تصوّر طبيعة  دورها في رسم مستوى علاقاتها مع السلطة وتحديد طبيعتها إذ لا شيء يضمن لها بقاءها إلى جانب النظام إذا تضاربت المصالح او تناقضت المواقف .إن أخطر ما تفرزه هذه الظاهرة يتمثل في بروز التكتلات والعصب داخل الوطن الواحد فيفقد بذلك الشعب خصوصيته ووحدة نسيجه المشترك وتهتز مشاعر الانتماء الوطني، بل وكثيرا ما تفكّكت اللحمة الشعبية ومعها سقطت مشاعر الاعتزاز بماضي الأمة وتاريخها ككل، ويكون من نتيجة هذا الوضع أن تفقد الجبهة الداخلية تماسكها وتغيب عن مفردات حياتها الاجتماعية عبارات التضامن الوطني والتكافل الاجتماعي ومعاني الفداء والتضحية، ويصبح شأن البلاد هشا لا يحقق لها توازنها أمام رياح المناورات الخارجية .

إن آفة زوال النظام تتمثل في خوفه من خيرة أبنائه الشباب من ذوي الكفاءات والتحصيل العلمي العالي وإبعادهم عن مناصب المسؤولية وإعاقة تقدمهم على مسارهم المهني نحو الترقية لتبوؤ المراكز القيادية، لأن معنى هذا انسحاب من يعتبرون أنفسهم أوصياء على الأمة تحت غطاء سميك من الاعتبارات التاريخية التي تبرر لهم إيجاد مقتضيات وطنية لا تحصى يتذرعون بها للبقاء في الحكم، وفي ذلك تتداخل أصول الأفضلية ومعني الأولوية في العمل السياسي فتتعدد أصوات من يدّعون لأنفسهم حق الولاية والحكم لتظهر بوضوح انتشار حالات الإقصاء والتهميش التي لا تُبقي ولا تذر من مشاعر الوطنية المتحمسة في نفوس الشباب .

إن مرور أي بلد بالمراحل السابقة من رشوة ومحسوبية وإقصاء يضعها مباشرة في مهب الريح عاصفة لأن الوضع الداخلي أصبح رخوا، ضعيفا ومهيأ لذلك تماما وسيكون من أبرز مظاهر هشاشته ما يلي :

ـ سياسة الآذان الصامتة / التماطل الذي يعكسه عدم فتح أبواب الحوار بين الحكومة والقوى الوطنية السياسية والاجتماعية، وغياب أي استعداد مبدئي للتفاوض الذي يؤكد تجاهل التهديدات النقابية وعدم أخذ المهلة الزمنية للبدء في بحث ومناقشة قضاياهم ومعالجتها بجدية، مع تعمد الإبقاء على القوانين الأساسية والنظم التعويضية  المؤقتة المرفوضة،، وعدم إشراك النقابات العمالية والمنظمات المهنية في صياغة القوانين، أو فتح المجال أمام المساهمة في إيجاد الحلول للمشاكل والقضايا، بل تفضيل التوجه مباشرة إلى العدالة  لاستصدار أحكام  قضائية ببطلان الاضرابات بالرغم من دستوريتها، هذا يؤدي إلى الاتجاه نحو التفكير في أنماط الاحتجاج الأخرى الممكنة كتصعيد الإضراب عن العمل انتقالا من القطاعي فقط، الوطني المحدود، ثم وطني مفتوح الأجل، وطني شامل لتضامن عدد من نقابات قطاعات أخرى، وتنظيم الاعتصامات  والوقفات الاحتجاجية، ثم المسيرات المنددة بالسياسات تحت شعارات ستعكس في أدني مستوى لها درجة الانفصال الحاصل والتباعد الوجداني  بين السلطة والشعب .

ـ مشكلة الاستيراد المفرط للسلع والخدمات، وهي نتيجة منطقية لاحقة تعني وجود قصور حاد في الجهاز الانتاجي وعجز القوانين الحامية عن إنقاذ المنتج المحلي من شرسة المنافسة الأجنبية غير العادلة. يرفع استمرار هذه المشكلة من مظاهر الاحتكار وتشعبه وبالتالي تعقّده إلى درجة عدم تحمس المجتمع لتحقيق ذاته.

ـ كثير ما لم تكن وسائل الإعلام الوطنية رحيمة بأمنتها، بل كانت أشد قسوة من الأعداء، فتفاقم من تردي الأوضاع الاقتصادية وفي تدهور الوضع المعيشي للمواطنين من خلال تغذية التعليقات بلغة التحريض  والشحن السياسي والمواقف المتشنجة برصاص الحبر المعبأ في الكلمات، ونجد ذلك أيضا عندما يصوغ الإعلام أفكاره لشريحة واسعة من الرأي العام الداخلي والخارجي في قوالب صماء لا تعمل العقل في معاني ما يُكتب من أخبار، ومنه يفتح المجال لانتشار الإشاعات والأنباء المغرضة. أنه الاستغلال الإعلامي لقضايا اجتماعية واقتصادية متأزمة لتحقيق أهداف سياسية ضيقة غالبا ما تكون بعيدة عن المصلحة الوطنية.

ـ عندما لا تنصف الأعمال الفنية التاريخ الوطني للأمة بسبب تراجع ونقص الكتابات الموضوعية المتخصصة، وعندما يكون فكر الأفراد مرتبطا بجدوى الفعل الإيديولوجي أكثر من الاهتمام بقضايا المجتمع، حينها سيسود طابع السخرية السياسية المتبادلة، فابتسامات المسؤولين وخطبهم الرسمية المستهزئة والساخرة تقابلها قصائد سياسية منتقدة وأشعار شعبية  ساخرة وخطب مثيرة مباشرة وغير مباشرة، إلى جانب الأعمال الدرامية  والقصص والروايات السياسية  والبرامج التلفزيونية الساخرة وكلها تغذي الاعتقاد بعدم صدق السلطة فيما تقول وفي نزاهة ما تفعل، وما سقوط المصداقية إلاّ طلاق عاطفي وانفصال وجداني بين الشعب والسلطة .

أن التشخيص الأولي لحالة نظام تشمله المظاهر المذكورة  أعلاه يحيلنا مباشرة إلى فرضية عدم وجود حوار سياسي، لأن هذا الحوار  يفترض أصلا وجود إرادة سياسية حقيقية مسبقا مستندة إلى قناعة راسخة بأن الحوار الشامل والجدي والصريح مع كل القوى السياسية والاجتماعية الذي يبدأ تحت مظلة قضائية وبضمانات أمنية، أو حتى بإشراف وحضور دولي هو المخرج السلمي لكل الأزمات، وهو الخيار الأمثل والوحيد لتجنب التصعيد العنيف في المواقف، إنه الحوار السياسي الذي يرتكز على آليات وجود أطراف النزاع فيه دون إقصاء، وقبولهم به بالتزامهم وقف العنف الاجتماعي والاضطراب الاحتجاجي، وتحديد عدد أطرافه كأن يكون حوارا ثنائيا أو متعدد الأطراف مباشرا أو وبوجود وسيط يعمل على تقريب وجهات النظر للوصول إلى حل سياسي توافقي ذي بعد وطني يُرضي الجميع مع اجراء الترتيبات الازمة لعقد اللقاء ومنها تقليص شروط الأطراف وتخفيض سقف المطالب التعجيزية، وإظهار حسن النية وتأكيد الجدية بإجراءات  إيجابية، والأهم ضرورة الاستناد إلى قوة المنطق وليس منطق القوة، هذا بينما نرى الحاصل أن السلطة لا ترى في "خصومها " الندية  بمفهوم الموقع الذي يتيح لهم الحديث معها لكونهم فاقدي صلاحية اتخاذ القرار وتنفيذه، ويصعب الحديث عن محاولة جمع شمل الخصوم من معارضة حزبية وقوى اجتماعية ومنظمات وطنية أو تنظيمات مهنية أو نقابات عمالية حول أرضية واحدة مشتركة بينهم دون مزايدات ومناورات تؤخر سعيهم ولا تقدم دفعا لهم، فالسمة التي تتميز بها هذه الأطراف هي أنه في خضم لهفتها لتحقيق فوز ينسب لها على السلطة تراها على عجلة في رسم الأهداف الطموحة قبل التفكير في الأشخاص المؤهلين كرجال دولة لذلك، ومنه يمكننا تفسير الإخفاقات والتعثرات التي عرفتها وما تزال تعرفها العديد من الدول التي نشدت يوما التغيير فانقلبت الأمور عكس التيار بعد مسلسل إحباطات مريرة، وأصبح العنف هو المنطق السيد والوسيلة الفضلى والأداة لمن لا ثقافة سياسية كافية له. هنا تقف البلاد على أبواب جهنم وأول ما يصيبها من حرها الانفلات الأمني الخطير وعدم الاستقرار السياسي وتدهور حالة السلم الاجتماعي، وصولا إلى سقوط الشرعية على كل المستويات الرئاسية والحكومية والبرلمانية، هذه البيئة الداخلية تضع البلاد أمام مخاطر الدخول في مرحلة استثنائية أو انتقالية وهذا دون تحديد أفق المستقبل أو تتبين معالمه بل ويصعب فيها رؤية طرف حريص على تحديد أمدها رغم ما تعانيه البلاد بعدما أصبحت تعيش فوق رمال متحركة لا تجنبها احتمال التعرض إلى مؤامرات التدخل الخارجي الذي غالبا لا يعجز عن اختلاق المبررات  لتدخله فيتخذ مثلا  ذريعة حماية الشرعية ودحر الإنقلابيين، أو مكافحة جماعات مسلحة متمردة أو حركات انفصالية أو لحماية أقليات دينية أو عرقية في حالة خطر.. كغطاء لتبرير تدخلها العسكري، فيزداد الأمر تعقيدا لأن الأطراف الدخيلة الأجنبية لن تتعجل أمرها لإعادة الحياة الدستورية في البلاد بل وستعيق الحلول السياسية التي لا تتفق مع مرئياتها للوضع، وسيكون بالنسبة لها الوضع الانتقالي هو الأنسب لأنه يحقق معادلة وجود سلطة انتقالية ليست حاكمة تقبلها جماعات مسلحة رافضة ومتربصة بها، وأحزاب سياسية صورية أو غائبة لا تستبعد إمكانية استمالتها وعمالتها، لذا لن يتجاوز الأمر في أحسن أحواله إمكانية تنظيم انتخابات صورية يتم التحضير لها بما يضمن التحكم في نتائجها في غرف مظلمة .. انتخابات تجري تحت إشراف قوات عسكرية أجنبية ترهن حال ومستقبل البلاد وتربط مصيرها بخيوط تحركها يد  المتآمرين من خلف ستار داخل الوطن.

هذا المشهد المأسوي هو النتيجة الطبيعية لكل من حصر تعامله في قالب واحد مع الحياة، فتراه إن لم يناسبه أعلن دون دراية منه انتهاء مبرر وجوده على هذه الأرض، ومرد ذلك في الحقيقة هو أن دخول الحياة السياسية أصلا لم يكن بفهم ذاتي أكيد للواقع وبدراية كافية لطبيعة معطيات الحياة، فكل مبادرة تحتاج إلى أرضية معينة وإلى أهداف مشتركة بين الأطراف وإلى تقديم بعض التنازلات من كل طرف من أجل تسهيل تحقيق معادلة المبادرة، وبغير ذلك لا يمكن إجراء أي حوار، وكثير من القضايا في عصرنا سقطت فيها كل الآمال في رؤية حديث عن حل سياسي شامل وحقيقي يقوم على حوار مع الأطراف التي تنبذ العنف وتحمل مطالب سياسية واقتصادية .. حوار يعمل على تفكيك صفوف المتشددين سياسيا وتحييد المتطرفين عقائديا، حوار يحرص على خلق طبقة سياسية ناضجة وقادرة على التأثير الإيجابي الفعّال في مجريات العمل الوطني، لذلك كان منتظرا أن يصبح الحل الممكن هو الحل العسكري الذي يفتح المجال أمام مخاطر التدويل واستغلال منطق الحسابات السياسية في العلاقات الدولية، وبالتالي استعمار البلاد بالوكالة.

***

صبحة بغورة

 

من بين كل بلدان الكرة الارضية التي وصلتها الماركسية اللينينه، كان لها في الموضع اللاارضوي الرافديني ان تغدو بديلا مستبدلا من قبل غيرها، الاعلى منها نمطا وفعاليه، ولم يكن الامر مصادفة، فلقد فرضته في حينه اشتراطات الاصطراعية الكونية القائمه هنا مع الاله ومحطتها المصنعية الاولى، اضافة لسعي الغرب مستغلا ماقد تحقق من زخمها لتكريس الغلبة والهيمنه عالميا، استنادا لنموذجيته الكيانيه الارضوية ونمطها السياسي، ونوع رؤاها التوهمية المواكبه لفعل الالة التغييري الابتدائي غير المكتمل.

 ومع اجمالي الترتيبات الاستثنائية التي اضطر الغرب ممثلا بالاحتلال البريطاني لان يعتمدها لاجل الحفاظ على قدر من استمرار نفوذه في العراق بعد ثورة 1920، وفي مقدمها الفبركة الكيانيه "الوطنيه"، واقامه "دولة" من خارج النصاب المجتمعي وبما يخالف طبيعة المكان التاريخيه النمطية البنيوية وبناء عليه، التشكلية التاريخيه المستمرة من القرن السادس عشر، ماقد رهن عملية تامين الهيمنه بالافنائية كشرط، ما تجسد واقعا بحاولة محو الذاتيه النمطية الكونية التاريخيه، ابتداء من اختلاق المروية الاستعمارية عن "العراق" وتاريخ تشكله كما وضع اسسها الضابط الملحق بالحملة العسكرية "فيليب ويرلند"، والتي تلغي الانبعاثية الدوراتيه الحديثة من بداياتها قبل اكثر من ثلاثة قرون حتى حينه، تلك الذاهبة الى "عراق اخر" كوني لاكيانوي، كان عليه اليوم بالذات ان يتحمل وطاة اعنف عملية ابادة ظلت متبقياتها فاعلة الى الساعة، بينما النطقية الذاتيه غائبة، والحضور التشكلي حاضر عمليا وواقعا فعالا، بلا تعبيرية مطابقة؟

 هكذا كانت تتأسس هنا عناصر اصطراعية غير مدركة الابعاد والموضوعات والنتائج متعدية للطاقة المتاحة في حينه على الاستيعاب العقلي، على راسها غياب تبين الغرضية المجتمعية وحكم التاريخ عليها كنهاية ومآل، الامر الذي لم يكن كشف النقاب عنه واردا، مادامت الظاهرة المجتمعية خارج الادراكية البشرية على مدى الطور اليدوي، وصولا الى الراهن الابتدائي الالي الذي نبه الى القصورية المشار اليها، انما من دون ان يتجاوز حدوده الارضوية وهو يحاول اجلاء ملامحها، بما يعرف ب"علم الاجتماع"، وفي مقدمتها الحتمية اللاارضوية الناظمة للظاهرة المجتمعية، المحكومة بالمرور بالطور الارضوي على مدى التاريخ اليدوي، قبل ان تتهيأ شروط الانتقالية الكبرى مع انبجاس الالة التي تظل ارضوية من حيث الرؤية والمفاهيم، تكرارا لوطاة ومتبقيات الطور اليدوي الثقلية، الامر البديهي، بانتظار ان تاخذ الالة ماهي مهياة له من التفاعلية والتحور الضروري، بالصراع الناشب بناء لوجودها بصيغتها الاولى المصنعيه.

من الطبيعي ان ينجم عن اثر وفعل الانتقال الالي منظوران، هذا اذا اعتمدنا انقسام المجتمعات. الى ارضوية ولا ارضوية، وبما ان الاله انبثقت في الموضع الطبقي من النمطية المجتمعية الارضوية، الاعلى ديناميات ضمن صنفها، فان احتمالية تغلب الرؤية الارضوية المستجدة بنية، بمقابل غياب النطقية اللاارضوية المستمر على طول الطور اليدوي، وما متوقع من استمراره الحالي، ابان الغلبة المتحققة للنمطية الازدواجية الطبقية الارضوية بناء على فعالية الاله وماينجم عنها من اثر تسريعي للاليات المجتمعية، سيكون بالاحرى من قبيل العنصر او العامل الاضافي الضروري لاجل تحريك مسببات النطقية اللاارضوية، تحت طائلة الافنائية المسلطة موضوعيا عليها من قبل التسلطية الارضوية الالية.

 هنا نصبح امام مروية او سردية اخرى غير تلك الاحادية التي تصف الاله وحضورها مرهونة بها وحدها، وبمحطة واحده منها، خارج القانون الناظم للتاريخ البشري المجتمعي، ومآلاته التي وجد مهيئا لان يصلها، وان ظلت غير مكشوف عنها النقاب، وهو الشرط اللازم حتى نقف امام ماينبغي الوقوف عنده من نظر ازدواجي، بغض النظر عن عدم نطقية احد طرفيه، وان يكن هو الاساس والمنطوى، فعدم النطقية وتعذرها لاينفي او يلغي الفعالية والحضور من دونها، فاللاارضوية قائمه وتظل مستمرة خارج شروط التحقق، اي انها نموذج مستقبلي تحققا، حاضر وفاعل وجودا ماديا تنقصه اسباب التحقق التي تطابق طبيعته ونوعه، ذلك ان اللاارضوية تحققها مرهون بنطقيتها من جهه، وبتوفر الاسباب المادية الضرورية كوسيلة لازمه لتحقق نموذجها حياتيا، والى حينه فان مستويات من التعبيرية المناسبة للظروف وللحالة والزمن الحاصل مادون النطقية العليا، تواكب تاريخ النمطية المشار لها، ومنها ماهو كوني وراسخ كتعبيرية مجتمعية في قلب الارضوية، كما الابراهيمه التعبيرية اللاارضوية الاولى الدالة على الازدواج حدسيا ونبويا، او وفي الطور الثاني، حزمة التعبيرية القرمطية الاسماعيلية الخوارجية، الاخوان صفائية الاعتزالية الحلاجية، التشيعية الامامية، وصولا للختام الانتظاري الدال على اليأس من امكانية توفر اسباب التحقق في الدورة مدار البحث، ماقد استدعى الاحالة الى قادم بصيغة "المهدي المنتظر".

 هذا يعني ان اللاارضوية نمط ونوع مجتمعية حاضرة ابتداء، وان المجتمعية تبدا بها في ارض سومر عند منطلق تبلور الظاهرة المجتمعية، وتظل حاضر عبر الدورات والانبعاثات بعد الانقطاعات التي تلازم تاريخ هذا الموضع الازدواجي تناوبا مميزة تاريخيه والياته(3)، وهو ماقد عاد وحدث اليوم مع القرن السادس عشر في ارض سومر نفسها بلا نطقية، وبلا امكانية تحقق، تكرارا، انما ضمن اشتراطات مختلفة، تتلازم مع الانتقال النوعي من اليدوية الى الاليه التي هي بالاحرى الطور اللاارضوي، المنطوي على الاسباب والضرورات اللازمه للتحقق بعد طول تعذر لازم الزمن اليدوي المنقضي، وان ظلت الارضوية الاليه الاوربية مصرة على ديمومته واستمرارية مفاعيله الغاربه عجزا وقصورا يستغرق بضعة قرون من التوهمية الكبرى الدالة على عمق القصورية الارضوية بذروتها القصوى، مع وبرغم تبدل اشتراطات وجودها كليا، ومالا منتظرا.

 فاذا وصل الغرب الحديث الى ارض الرافدين مستعمرا وهو بصيغته النموذجية الاليه الابتدائية، فان الامر ينقلب مقارنه بالعلاقة باي موضع احادي ارضوي على مستوى المعمورة، وهو الامر الاساس في الاليات المجتمعية وماقد طرا عليها مع الالة من متغيرات غير منظورة حلت على المجتمعية الاجمالية الشامله، بما يتجاوزالمنظور الاحادي الارضوي الاوربي الجاهز، وتوابعه عالميا وقصوريا موروثا، وفي حين يتصرف الغرب المحتل ببداهة توهمية معتقدا انه النموذجية المطلقة، فان مايحاول الاقدام عليه او تحقيقة كما يعتقد في هذا الموضع من المعمورة، يتجاوزه واقعا وفعلا عمليا، فارضا عليه اشتراطات اصطراعية مغفلة الاسباب والبواعث مع قوة فعلها المعاكسة المضادة لمشروع الالغاء النمطي النوعي، الذي يتحول الى مشروع اصطراع بين نوعين مجتمعيين، احدهما غائب نطقا، وخارج عن تصورات القوة البرانيه الاجنبية الطارئة، وعن اعتقاداتها المعدودة من قبيل البداهة، في الوقت الذي يقابلها مضاد نوعي، يذهب لحد قلب وتحوير مشروعها ونموذجيتها الكيانيه والايديلوجيه، وصولا لمصادرة اهم تعبيراتها واعادة صياغته استبدالا وتوطينا مضادا للمصدر، وهو ماحدث مع نظرية ماركس ولنين على وجه التحديد.

***

عبد الأمير الركابي

............................

* يتبع ملحق/ شيوعية العراق اللاارضوية محل شيوعية ماركس وروسيا

 

في يوم العاشر من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام يجري الاحتفال بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 ودعت منذاك إلى الاحتفال به؛ باعتبار الإعلان وثيقة تاريخية أعلنت حقوقا غير قابلة للتصرف، حيث يحق لكل شخص أن يتمتع بها كإنسان ـ بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر. وهي الوثيقة الأكثر ترجمة في العالم، ومتاحة بأكثر من 500 لغة. كما كتبت الويكيبيديا.

يضع الإعلان، الذي صاغه ممثلون من خلفيات قانونية وثقافية متنوعة من جميع مناطق العالم، (بمن فيهم خبير عربي من لبنان.. الدكتور شارل حبيب مالك (1906-1987)، القيم العالمية معيارا للهدف المشترك لجميع الشعوب وجميع الأمم. وهو ينص على المساواة في الكرامة والقيمة لكل شخص. وبفضل الإعلان، والتزامات الدول بمبادئه، تم إحياء الكرامة للملايين ووضع الأساس لعالم أكثر عدلا. وتستفيد منه في وضع أو صياغة إعلانات مشابهة أو مستمدة منه على أسس اخرى، عقائدية أو إقليمية وغيرها. وبالرغم من أن ما يصبو إليه الإعلان لم يتحقق بعد تماما، وهذه غصة كبيرة لدى أغلبية بشرية، تتحمل عواقبها أو أسبابها حكومات الدول الكبرى أو التي تسمي نفسها كذلك، ولكن في الحقيقة يمكن القول إنه صمد أمام الاختبارات على مدى الزمن، وهذا يدل على الطابع العالمي الدائم والقيم الدائمة المتمثلة في المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية. هذه القيم الإنسانية العامة التي تتطلب الاحترام من جميع الدول وأن تتمتع بها جميع الشعوب على المعمورة.

والإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمنح القوة للجميع، حيث إن المبادئ المكرسة في الإعلان لا تزال تحافظ على أهميتها اليوم كما كانت عليه، حين اتفق عليها واختصرت في الإعلان، في عام 1948. ووضعت في 30 مادة، تلخص رأي الجمعية العامة بشأن حقوق الإنسان المكفولة لجميع الناس. ومنذ أن تبنته الأمم المتحدة، عام 1948 في قصر شايو في باريس، نال الإعلان موقعا مهما في القانون الدولي، مع وثيقتي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من سنة 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من سنة 1966. وتشكل الوثائق الثلاث معا ما يسمى "لائحة الحقوق الدولية". وفي 1976، بعد أن تم التصديق على الوثيقتين من قبل عدد كافٍ من الدول، أخذت لائحة الحقوق الدولية قوة القانون الدولي. وسعت المنظمات المتفرعة من الأمم المتحدة إلى الاعتماد على اللائحة هذه، والترويج لها كتجسيد للتطلعات الإنسانية المشتركة المتأصلة في مختلف الثقافات، والمعبَّر عنها بوضوح في الفقرة الأولى من ديباجة الإعلان، إذ تنص تلك الفقرة على أن "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكِّل أساسَ الحرِّية والعدل والسلام في العالم".

كما أشارت اليونسكو في رسالة احتفالها بهذا اليوم قبل أعوام إلى أنه رغم تزايد المصاعب والتحديات فما زالت مختلف أشكال الكراهية والتمييز والعنف مستشرية. ولا يجد مئات الملايين من الناس، رجالا ونساءً على حدٍّ سواء، قوت يومهم، إذ يُحرمون من سُبل العيش والفرص الضرورية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وتنطوي عمليات الترحيل القسري للسكان على انتهاكات جسيمة متواصلة للحقوق لا نظير لها فيما مضى من تاريخ البشرية. وتشتمل خطة التنمية المستدامة لعام 2030 على وعد بألَّا يخلِّف الركب أحدا وراءه، ويجب الاستناد إلى حقوق الإنسان في جميع التدابير الرامية إلى مواصلة السعي إلى الوفاء بهذا الوعد.

ويجب أن يبدأ السعي إلى ذلك، على صعيد التربية والتعليم، في أبكر وقت ممكن، إذ يجب تعليم الأطفال حقوقهم منذ نعومة أظفارهم. وتضطلع اليونسكو حاليا بريادة وقيادة المساعي الرامية إلى تعليم حقوق الإنسان لضمان معرفة جميع البنات والبنين لحقوقهم وحقوق الآخرين. وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه عمل اليونسكو في مجال تعليم المواطَنة العالمية من أجل تعزيز احترام التنوع الثقافي استنادا إلى مبدأ التضامن والحقوق المشتركة.

في وطننا العربي تقف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني شاهدة صارخة على التعسف والاضطهاد والإنكار والارتكابات التي تتعامل مع لائحة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وينبغي الإلحاح على الإقرار بالحقوق المشروعة واحترام القانون واللائحة الدوليين. ولعل هذا اليوم الذي يأتي بعد يوم 29 من تشرين الثاني/ نوفمبر، من كل عام أيضا، يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، أن يكون يوما آخر للمطالبة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وانهاء اخر استعمار استيطاني في التاريخ العالمي المعاصر.

وتأتي هذه المطالبة، وغيرها من المطالب التي تحرم منها أعداد هائلة من الشعب العربي خصوصا بأسباب معلومة، تأكيدا على المعايير والمبادئ، وكي تتردد في وطننا أيضا، كما هي أصداء المادة الأولى من الإعلان في جميع أرجاء العالم منذ عام 1948. والتي تنص على ما يلي: "يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق". وتعم المعايير التي تم إنجازها بالتضحيات والكفاح التحرري، معايير الحرية والمساواة والتضامن والاستقلال والتنمية والتسامح والاحترام والمسؤولية المشتركة.

في كتابه (تاريخ إعلان حقوق الإنسان) أكد أستاذ علم الاجتماع الفرنس البير باييه والذي ترجمه الدكتور محمد مندور وطبع في القاهرة عام 1950 على المبادئ الأربعة الأساسية في الوثيقة، وهي: 1ـ يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق. 2ـ يمكن للناس أن يفعلوا كل ما لا يضر بالغير، وبناء على ذلك يمكنهم أن يفكروا ويتكلموا ويكتبوا ويطبعوا في حرية. 3ـ للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها. 4ـ يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب عينيها دائما حقوق الأفراد من جهة والمصلحة العامة من جهة أخرى.(ص8).

كما كتبت إليانور روزفلت، رئيسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (وزوجة الرئيس الأميركي) وهي تستعرض النسخة الإنجليزية. من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عام (1949): “أين عساها تبدأ حقوق الإنسان العالمية في نهاية المطاف؟ لنقل في الأماكن الصغيرة، القريبة من المنزل ـ بل لعلَّها في أماكن قريبة جدا وصغيرة جدا إلى حدِّ أنه لا يمكن رؤيتها في أي خريطة من خرائط العالم. […] ما لم تحظَ هذه الحقوق بمعنى في تلك الأماكن، فإن معناها سيكون أقل شأنا في أي مكان آخر. وما لم تتضافر جهود المواطنين لصونها حتى تكون لصيقة بالوطن، فإنه من غير المجدي أن نتطلع إلى تعميمها في العالم أجمع.”

إن تاريخ الإعلان ومعاييره تلزم الجميع على أن تتحقق دون تمييز أو إغفال أو مداورة، وتكون غير قابلة لمناورة، لتكون فعلا للبشرية جمعاء.

***

د. كاظم الموسوي

لم يكن العلم في يوم من الأيام حكرًا على جماعة من دون أخرى، ولكن في الوقت نفسه، ينبغي للمتعلم أنْ يتدَرّج فيما يطمح الوصول إليه من مراتب علمية، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يعترض بالقول: إنَّ العلم ليس حكرا على جماعة من دون أخرى، فهذا القول لا ينفي أو يتعارض مع مبدأ التدرُّج في العلم، وهذا الكلام يمثِّل مبدأً عامًّا لكل من يريد أنْ يسلك اختصاصًا في هذا المجال المعرفي أو ذلك، ولعلَّ واحدةً من أعراف التدرّج العلمي، أنَّه لا يحق للمُبتدئ – ناهيك عن سواه – أنْ يطرحَ آراء وأفكار تنقد أسس ذلك العلم، ومثل هذا الطرح ينبغي أنْ يكون مستهجنًا، وغير مقبولٍ بين أوساط الناس، إن لم يكن مثيرًا للسخرية، باعتبار أنَّ صاحبه لم يصل إلى مستوىً علميٍّ رفيع في هذا الشأن يؤهِّله لنقد أسس هذا العلم، فكيف له أنْ يتصدّى لإبطال متبنّيات هذا العلم أو نسف نظرياته بعضًا أو كُلاًّ..؟! ولعل كلامي أعلاه يثير استغراب المتخصّصين في العلوم، ممّن بذل جهدًا حتى وصل إلى ما وصلَ إليه من مرتبة في تخصصه أتاحت له أنْ يناقش بعض التفصيلات في هذه النظرية أو ذلك التطبيق في مجاله حصرًا، بفضل توسّع شبكة المعارف الإنسانية، بما جعل العلم الواحد يتفرّع إلى عدّة اختصاصات، وبهذا التوسّع لم يكن لأيِّ من هبَّ ودبَّ أنْ يخوض في معمعان تخصّصٍ ليس لديه أدنى معرفة بحيثيّاته، ومثل هذا قد يحصل في أزمان متفاوتة، ولكن لا يؤثِّر شيئًا في مسيرة العلم، بل يضمحلّ أثره بانتهاء فورة الدعاية لهذا التوجّه؛ لكونه صدر من غير متخصِّص. وهذا ما تفطّن له العرب، حين كان المُتخصِّص منهم في مجالٍ من المجالات العلمية، يؤكِّد أهمية ما يطرحه من رأي أو فكرة يعجز الآخرون عن إصدارها، فقد نقل محمد بن سلّام الجُمَحي (ت: 231 هـ) في كتابه: "طبقات فحول الشعراء" (وَقَالَ قَائِلٌ لخَلَف إِذا سَمِعتُ أَنا بالشعر أستحسنُه فَمَا أبالي مَا قلتَ أَنْت فِيهِ وَأَصْحَابك، قَالَ: إِذا أخذتَ درهمًا فاستحسنتَهُ فَقَالَ لَك الصرَّافُ إِنَّه ردئٌ فَهَل ينفعُكَ استحسانُكَ إِيَّاه..؟) ولا يختلفُ أحدٌ على مصداق ما ذكره خلف الأحمر، في أهمية العودة إلى أهل التخصّص، فهم أولى من غيرهم في بيان الصحيح من الخطأ فيما يتًصل بمجالهم العلمي دون سواه، كذلك يحقُّ للباحثين منهم أنْ يُناقشوا ما طرحه السابقون منهم من أفكار وآراء أو نظريات، فيُبينوا عن قصورها، أو يعدِّلوا في بعض تفصيلاتها، أو يدفعوها بأدلة ويقدِّموا الأفضل منها بحسب ما أتيح لهم من وسائل علمية كان لها الفضل في تبيان قصور تلك الآراء أو النظريات، أما أنْ يأتي شخصٌ بلا أيّ مقدِّمات أحرزها في هذا المجال، ويتناول بالنقد – حتى وإنْ سلّمنا بصحة وجهة نظره في بعض ما يطرحه – فهذا لا يعني أنّه بلغ ما لم يبلغه المتخصّصون في ذلك العلم، فآراؤه ليست إلا وجهة نظر قد تتاح لكثير من الناس، من دون الاهتداء إلى الطريق السليم في استنتاج ذلك الرأي، وميزة رجل العلم، أنّه يقيم الدليل على ما يدّعيه من فكرة، أو يطرحه من رؤية، فضلاً عن كون الدليل الذي يطرحه، ينبغي أنْ تتحقّقَ فيه معايير المنهج العلمي، فيكون ناهضًا، وإلا ما أكثر الادّعاءات التي تحفل بها الكتب التي تتحدّث لنا عن تاريخ كل علم من العلوم والنظريات الحافّة به، فصارت خردةً في درج إرشيف ذلك التاريخ ليس أكثر..

من هذه المقدِّمة، أريد بيان ما لمقدم برنامج (بس يواش) وهو "حيدر جواد" الذي يُعرِّف نفسه بأنه "مهتمٌّ بالشأن الفكري والثقافي العراقي والعربي، باحثٌ في العلاقة الجدلية بين الهوية الثقافية والعولمة"، من رأيٍ طرحه قبل مدة فيما يخص تفنيده علم الاجتماع وعلم النفس وما زالت عجلة حادلته "اللاعلميّة" تسحق العلوم الإنسانية، بكل برود، ولا أعرف إلى أين سيصل..؟ والسؤال الذي أريد طرحه على الرجل: ما التخصُّصُ العلميُّ الذي تخرّجَ منه، وأكمل فيه شوطًا معتدًّا من البحث فيه، حتى أتاحَ له أنْ يصلَ إلى هذه التوصّلات التي تعدُّ في نظر أنصاره ومؤيّديه فتوحات لم يُسبق الآخرون إليها، باعتبار ما أوضحناه آنفًا، من أنَّ لكل علم من العلوم، جملة من القواعد والمتبنّيات/ النظرية والتطبيقات، التي يعرفها ويقيّمها المختصّون بها، فلهم الحق في مناقشة بعضها، أو تفنيد الآخر منها، وهذا ما درج عليه كل علم، فمثلاً نجد العلماء من الفقهاء في كل مذهب، يتناولون آراء من سبقوهم بالنقد أو التوجيه أو الموازنة أو التفنيد لبعض أدلة القائلين بها.. الخ من إجراءات علمية يعرفها المختصون دون غيرهم، وهكذا علماء اللغة العربية، وعلماء القانون وعلماء الاجتماع وعلماء الفلسفة وعلماء النفس وعلماء التاريخ وعلماء الاقتصاد.. الخ، فضلاً عن العلوم التكنولوجية والطبية والهندسية، فليس ثمة رأي أو نظرية أو دليل ثابت على مرّ الأزمان، بل تخضع جميعها للمعيار النسبي بحسب المستوى الفكري الذي هو الآخر يتغير من زمن لآخر، ويتميّز العالم في كل مجال، بحسب فطنته وتوقّده الذهني، حين يُحقِّق الأدلة والآراء التي سبقته ويناقش بعضها ويؤيّد الآخر، ولا يُكون ناقلاً لها فحسب، وبهذا نجد العلماء في كل مجال يتمايزون في مثل هذه التفاصيل، فضلاً عن مستوى الإتيان بالجديد من النظريات أو المعالجات التي تعبّر عن قناعاتهم بما يستوعب الظاهرة التي يتناولونها، وغير ذلك من طفرات نوعية تحصل في ميادين هذه العلوم، بما تُلغي أو تُقلِّل من قيمة الطُرق السابقة في المعالجة العملية في ضوء تلك المعارف. والسؤال الآخر لهذا "المهتمّ" بحسب تعريفه على صفحته، أما كان له من الأولى – في سبيل ترصين وجهة نظره – أنْ يُحقِّق في آراء من نقل عنهم، بما يوافق مزاجه، ويُقابلها بآراء رعيل أكثر عددًا من الذين استدلًّ بآرائهم، من علماء وباحثين في علم الاجتماع، يرون جدوى هذا العلم، ويؤصِّلون لمتبنّياته النظرية، ويتناولون مباحثه في مختلف الاتجاهات، باعتبار "أنَّ علماء الاجتماع المعاصرين لم ينتظموا في صعيدٍ موحّدٍ من الفكر بل تتوزّعهم اتجاهات متباينة مثل سائر ضروب المعرفة الأرضية التي يطبعها مثل هذا التفاوت" (الإسلام وعلم الاجتماع، محمود البستاني: 7) بما تقوم به من دراسات تثبت جدارتك العلمية في هذا المضمار حتى يكون لكلامك جدوى علمية وإقناع لمن يرى في هذه العلوم أهمية، فضلا عن المتخصصين الذين أفنوا أعمارهم في درسها وتدريسها، فهل يصحُّ دحض علمٍ تجد فيه من الثراء والتنوُّع في داخل أروقته – شأنه شأن العلوم الإنسانية – تتوزّعه الاتجاهات والمذاهب، برأيٍ فطير ينمُّ عن أحاديةٍ نظر، وقلّة بضاعة في تصدّيه لمشاكل كل اتجاه من اتجاهات هذا العلم وما يفرزه من نظريات وقضايا تعكس توجّه ذلك المنحى دون سواه..؟ وإلا كان ما تنقله لا ينطلي إلا على المتعصّبين الذين لا يرون جدوى في كل هذه العلوم الإنسانية باعتبارها هُراءً لا فائدة من ورائها، وهؤلاء قد لا يحتاجون هذا التعب من جنابكم، فبمجرّد أنْ تقول لهم إن هذه العلوم لم ترد عندنا في النص الديني، فهذا يكفيهم؛ لما يؤمن به أتباع هذا التوجّه من فكرٍ مغلقٍ – ومغلوط في الوقت نفسه - على الجماعة التي ينتمون إليها.

ثم أيُّها المهتمُّ العزيز، من قال لك إنّ آراء نوال سعداوي أو الوردي أو الطاهر لبيب، أو المرنيسي، تمثِّل مقدّسات أو ثوابت في علم الاجتماع..؟ فكل باحثٍ في كل علم من العلوم، لا يمكن أنْ تجده بريئًا من توجّهاتٍ قبليّة تدفعه لاختيار الظاهرة أو الموضوع أو الاتجاه الذي يميل إليه، ولا يختار سواه، وهذا أمرٌ لا يخفى على كل باحثٍ بصير، وتبعًا لهذه القضية، قد تجده فيما يتوصّل إليه متحاملاً أو بعيدًا عن الموضوعية باستقصائه الظواهر التي تتّفق ومزاجه، أو التي تعكس مرجعياته الثقافية، ومنهم جنابكم الكريم، في دحضك أسس علم الاجتماع وقواعده، لم تستقص آراء كل علماء الاجتماع، بل وقفتَ على ما ينسجم وتوجّهك، وإلا فمن حقِّ المستمع أو المتلقي، أنْ يطالبك بآراء جميع العلماء والمشتغلين في هذا العلم، وتقارن بين مدّعيات هؤلاء وأولئك، هذا إذا افترضنا أنّ جنابكم قد تحرّى بنفسه تلكم الآراء التي عرضها عبر برنامجكم "بس يواش" وإلا فبحسب ما اطلعتُ عليه بنفسي، أنّ ما عرضتموه ليس إلا نقلا من كتاب "اعترافات علماء الاجتماع – عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع" للدكتور أحمد خضر، الذي صدر عام 2000 من المنتدى الإسلامي في لندن، وليس لك فضلٌ في هذه الفتوحات التي يُصوِّرها المعجبون ببرنامجك سوى النقل من هذا الكتاب لا أكثر ولا أقل..!! ولعل واحدةً من منطلقات هذا الكتاب التي اشتغلتَ عليها في طعنك جملةً وتفصيلا بعالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، يمكن لأي قارئ أنْ يتساءل – إذا كان ذا مسكةٍ من ضميرٍ وإنصاف – عن دليلكم فيما ذهبتم إليه من اتّهام للورديّ وتواطئه مع السلطة، عبر المقدِّمة التي اعتمدتَ عليها من كتاب أحمد خضر التي قال فيها: "إن علم الاجتماع علمٌ استعماري بطبيعته، وذو صلة بأعمال المخابرات، هدفه الأول ضرب الدين والعقيدة بصفة عامة، والإسلام وشريعته بصفة خاصة" وقُمتَ استنادًا على هذا الزعم، بتخوين الوردي وجعله أداةً من أدوات السلطة، وحين قال لك الإعلامي "زيد طارق" في برنامج "حديث حاد" على قناة الأولى، أنّه كان مغضوبا عليه في زمان البعث، قلتَ له إن الوردي كان مرحّبا به في زمن الحكومات السابقة.. في حين أنَّ من يطالع كتاب (علي الوردي في ملفّه الأمني) الذي صدر عام 2016 عن دار سطور في بغداد للكاتب سعدون هليّل، يُثبت بالأدلة والوثائق خلاف ما ذكرتَ مطلقًا، من أنَّ التقارير الامنية لاحقته في جميع الانظمة والحكومات العراقية المتعاقبة ابتدا من الملكي فالجمهوري الاول (1958-1968) والجمهوري الثاني (1968-2003( أي أنّ تلك التقارير الامنية قد بدأت عام 1950 وهو العام الذي حصل فيه الدكتوراه من الولايات المتحدة وتعين فيه استاذا في كلية الاداب، واستمرت طيلة العقود الاربعة اللاحقة، وأن الدكتور الوردي كان يشكل هاجسا امنيا ملحا عند الانظمة الحاكمة. والتقارير الامنية كانت تلاحقه وبأدقِّ التفاصيل الاجتماعية والاكاديمية والسياسية. كل ذلك ينفي صدق مدّعاك، بما يكشف عن موقف مسبقٍ لديك مع الوردي، علما أنّ الوردي ليس مقدّسًا في آرائه أو فيما توصل إليه، فكثيرٌ من الدراسات التي صدرت من مختصّين في علم الاجتماع، قد شخّصت ما وقع فيه من هنات، فضلاً عن سواهم من علماء، مثل كتاب العلامة الراحل السيد مرتضى العسكري في كتابه (مع الدكتور الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين) الذي صدر عام 1955  ولكن في الوقت نفسه لم تنف جهوده، وما قدّمه من نتاج أثرى به الساحة الثقافية بصورة عامة فضلا عن المتخصّصين في هذا العلم، وكان لك – في حال انتقاده – أنْ تستعرض ما استوقف أولئك العلماء والباحثين في منجز الرجل، بما يحفظ جهودهم وجهود الرجل في آنٍ، فضلا عن حفظ ماء وجهكم بما لا يُظهركم بهذا الغضب العارم الذي أفقدكم التوازن في النيل من هذا العلم وأعلامه بطريقة أبعد ما تكون عن المهنيّة والموضوعية.

***

د. وسام حسين العبيدي

في المثقف اليوم