آراء
رشيد الخيّون: الخمينيّ.. لولا "البعث" لتوارى بين عمائم النّجف
بعد منحه درجة الاجتهاد مِن آية الله العظمى، أحد أبرز المراجع في زمانه، محمَّد كاظم شريعتمداريّ (تـ: 1985) وآخرين، وأصبح آية الله، اكتفت حكومة الشّاه بنفي روح الله الخمينيّ إلى تركيا، إثر نشاطه السّياسيّ (1963)، فوجد نفسه في تركيا في عُزلة تامة، فوفق القانون التّركيّ السّاري آنذاك، لا يُسمح بالتّجول في الزّي الدّينيّ، وله صورة نشرتها فاطمة طباطبائي زوجة نجله أحمد، وابنة أخت موسى الصّدر، في كتابها "ذكرياتي"، يرتدي الملابس (الأوروبيّة) غير الدّينية، هو ونجله البكر مصطفى الخمينيّ (تـ: 1977)، الذي التحق به بموافقة الحكومة الإيرانيّة آنذاك.
لهذا سعى الخميني بالتّوسط لدى طهران، كي توافق على العيش في النّجف؛ ووافقت مِن طرفها بغداد على ذلك (1965) في عهد الرَّئيس عبد السّلام محمَّد عارف (قُتل: 1966)، على أنَّ شاه إيران اعتقد أنه سيتوارى بين العمائم في النّجف، فهي بحسب بيت أحمد الصّافيّ النّجفيّ (تـ: 1977): "صادرات بلدتي عمائم/ وواردات بلدتي جنائز"، كان مِن هذه العمائم مراجع دين كبار، وشعراء وأدباء مِن أصحاب العمائم، ستتوارى بينها عمامة الخمينيّ، غير المعروف يومذاك، لولا مجيء "البعث" إلى السُّلطة (1968)، والحاجة لعمامة تُستخدم ضد حكومة شاه إيران، فكانت عِمامة روح الله الخمينيّ، واستمر الاستخدام لسنوات (1969-1975)، حتّى توقيع معاهدة (آذار 1975) المشينة بحقِّ العِراق، التي تنتظر مجيء حكومة وطنيّة خالصة تتخلى عنها.
كان الخمينيّ يُقدم درسه ليذاع مِن إذاعة بغداد، فحينها بدأ أحد أصحابه، وهو السّيد محمود دعائي، بعرض هذه الأفكار عبر إذاعة بغداد الرّسمية، البرنامج الموجه إلى الشّعب الإيرانيّ بالفارسيّة "النّهضة الرّوحيّة"، بل ذكر لي مسؤول بارز، في الإذاعة والتلفزيون العراقيّ، أنّ الخمينيّ، في أحيان كثيرة، كان يحضر شخصياً، في تلك الفترة، إلى الإذاعة، ويذيع حديثه في ولاية الفقيه ويتحدث إلى الشعب الإيرانيّ، التي صُنع منها كُتيب "الحكومة الإسلاميّة"، المتضمن الفكرة المطروحة قبله في الفكر الشّيعيّ الإماميّ، ومبناها أن العلماء هم ورثة الأنبياء (الحكومة الإسلاميّة)، وظهرت واضحة في مثل كتاب "عوائد الأيام" للملا أحمد النّراقيّ (تـ: 1829)، بل وقبل النَّراقيّ ظهرت بداياتها جلية في العهد الصَّفويّ.
إلا أنَّ هناك مَن أشاع حينها، مِن داخل النَّجف، أن هذه الأفكار تعبر عن النظرية الشّيوعية، وتُقدم بتشجيع مِن الاتحاد السّوفياتي"(طباطبائي، ذكرياتي. العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة). فبحسب زوجة نجل الخميني أنَّ "الأوساط العلمية والمرجعية كانت مليئة بالإعلام المغرض، والدِّعايات المعادية لسماحته، فكيف يمكن أنْ يزداد عدد مقلدي الإمام، في مثل هذه الظّروف والأجواء؟"(الطَّباطبائي، المصدر نفسه).
كان هناك عدم ارتياح، بين أوساط المرجعية أو الحوزة النَّجفيَّة، لشخصية الخميني كسِّياسي وتوجهه إلى العنف، الذي ظهر جلياً ومارسه بعد تسلم السّلطة (1979)، فمما يُذكر أنْ حصل لقاء انفرادي بين المرجع أبي القاسم الخوئي (تـ: 1992) والخميني، بعد وصول الأخير إلى النّجف (بتاريخ 23/10/1965)، في بيت الخوئي، وقد خرجا مِن اللقاء متغاضبين، لِما دار مِن كلام بينهما، ولما سئل الخوئي عن الموضوع، قال: "هذا السَّيد إذا كان باستطاعته أنْ يحرق العالم لفعل" (العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة). هذا، ولم يكن الخوئي مرغوباً في أجواء الثّورة الإيرانيَّة، فقد سمعنا أنه كانت التّظاهرة تُسير (حمارين)، على رأس كلّ منهما صورة شريعتمداري والخوئيّ. فلو مورس هذا الفعل في ظرف آخر، في أيام الشّاه مثلاً، لانقلبت الدّنيا ولم تقعد، بل والخميني نفسه لقلب الدّنيا دفاعاً عنهما، لكن ما مورس كان بزعامته.
بعد وفاة محسن الحكيم (1970)، وكان الخميني يُقيم في النّجف، في عقر دار المرجعية الدِّينية، لا بد أنه تطلع لخلافته، بعدما أكمل رسالته في الفقه "تحرير الوسيلة"، لكنَّ الأنظار اتجهت إلى الخوئي، وقدر الخميني أنَّ مقلديه وأتباعه سيثيرون هذا الموضوع، لذا كتب إلى نجله أحمد المقيم في قمّ يحذر من ذلك: "من المحتمل في هذه الأوقات، أن تُثار قضايا متعلقة بالمرجعية، أو لا قدر الله، ظهور جدال بين الشّباب، فعليك وعلى كلِّ أصدقائي أن تكونوا بمنأى عن هذه القضايا، ولا تتدخلوا ولا بكلمة واحدة"(طباطبائي، ذكرياتي).
لكن عند وفاة الحكيم رفع الشّاه رسالة التعزية به إلى آية الله أحمد الخوانساري (تـ: 1985)، والمرجع شريعتمداري؛ الذي توفي وهو مركون في الإقامة الجبريّة، مِن قبل نظام الخميني نفسه، إشارة إلى الاعتراف بمرجعيتهما، بينما أتباع الخميني كانوا يرون صاحبهم هو المرجع. هذا عين ما فعله الشّاه عند وفاة المرجع حسين البرجوردي (تـ: 1961)، رفع برقية التَّعزية به إلى محسن الحكيم، اعترافاً به خلفاً (رفسنجانيّ، حياتي).
أكدت زوجة نجل الخميني، ما جاء به صديق نجل الخميني الأكبر، والقريب من الخميني نفسه، رجل الدِّين موسى الموسوي (كتابه: الثّورة البائسة)، عن علاقة الخميني بالسُّلطة العراقية، فهي تتحدث أنه كان وراء تجميد تسفير الإيرانيين مِن العِراق، أي تم ذلك بشفاعته لدى حكومة بغداد، بعدما ساءت العلاقة بين إيران والعراق في زمن الشَّاه وحزب "البعث"، وأنَّ نجله مصطفى كان يلتقي الرّئيس العراقي أحمد حسن البكر، مبعوثاً مِن والده (طباطبائي، ذكرياتي).
ذكر حفيد المرجع أبي الحسن الأصفهانيّ موسى الموسوي تسهيلات كثيرة كانت سُلطة "البعث" تُقدمها للخميني؛ كتب ذلك مُذكراً بها، بعدما أخذ الخميني، بعد الثّورة وعزل البكر، يلح بقيام نظام إسلامي في بغداد وإسقاط حكومتها؛ مِن دون اعتبار لِما كان بينه وبين الدَّولة العراقية مِن تعاون، لولاه لذابت عمامته بين عمائم النّجف واندثر ذكره، وقد عبرت برقية الرّئاسة العراقية آنذاك عن التهاني بانتصار الثّورة، وبوصول الخميني إلى سدة الحكم، وكان ردّ الخميني على تهنئة أحمد حسن البكر (تـ: 1982) يشجع على التعاون بين البلدين، وهو خلاف ما قَدمته وسائل الإعلام، الضّالعة في الاستفزاز لإشعال الحرب بين البلدين، فشاع أنَّ الرَّد كان جافياً، ختمه الخميني بعبارة "سلام على مَن اتبع الهدى"، العبارة التي عادة يُخاطب بها الكُفار.
هذا من نص جواب الخميني: "فخامة السَّيد أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية العراقية، تسلمت رسالتكم الوديَّة، حول استقرار الجمهورية الإسلامية، وأشكركم عليها"، وختمها: "وفق الله الجميع للسلم والسّعادة، والسَّلام عليكم" (انظر نص البرقية في موسوعة صحيفة الإمام الإيرانيّة التي ضمت كل ما نطق به الخميني، وسُجل، قبل الثورة وبعدها، وتعد أفضل مصدر عن نشاطه السياسي والفكريّ).
لكنها أسابيع، بعد خروج أحمد حسن البكر مِن السُّلطة، تبدل الموقف، فبعدها اعتُبر النِّظام العراقي "كافراً"! فالخميني صاحب ثأر، لا ينسى تقييد حريته خلال الثَّورة، مع أنّ خروجه من العراق جاء بإلحاح من الشَّاه، وليس مطروداً، فغادر إلى فرنسا محمياً، وإلا كان اغتياله أو حجزه داخل العِراق هدفاً سهلاً.
دعمت حكومة "البعث" الخميني، عندما كان قابعاً في النَّجف، بالآتي: استقبال أتباعه، وتخصيص إذاعة بالفارسية تبث منها أفكاره وبياناته، عبر برنامج "النَّهضة الرُّوحية" يقدمه مثلما تقدم محمود دعائي، و"برنامج ثورة(أو صوت) رجال الدِّين الإيرانيين"، والذي كان يقدمه دعائي أيضاً، لمدة خمس وأربعين دقيقة يومياً في القسم الفارسي من إذاعة بغداد، وكان دعائي يُذيع ما يكتبه الخميني في موضوع ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلاميَّة (الموسويّ وطباطبائي). أُعفي عن أحد مؤيديه في ولاية الفقيه حسن الشِّيرازي المحكوم بالإعدام، بتوسط منه عند صدام حسين النَّائب آنذاك، وغادر إلى لبنان واستمر بالعمل فاغتيل هناك (1980).
تدريب عسكري بإشراف يزدي زاده (طباطبائي، المصدر نفسه، كان التدريب على السلاح جارياً، صور لأحمد خميني وهو بسلاحه مع مسؤول المعسكر مصطفى شمران). مع منح جوازات وتسهيلات سفر لخاصته. في هذه النّقاط وغيرها يمكن اعتبار وضع الخميني داخل العراق شبيهاً بوضع "مجاهدي خلق" مع الحكومة العراقيَّة، في ما بعد.
يُذكر أنَّ الحكومة العِراقيَّة توقفت عن دعم الخميني، بعد اتفاقية آذار (مارس) 1975، رفضت تجديد إقامته، إلا أنَّ حفيد أبي الحسن الأصفهاني موسى الموسوي تدخل لتمديد الإقامة، وهذه شهادة، مِن فاطمة طباطبائي زوجة نجل الخميني، على أن ما كتبه الموسوي عن صلاته بالخميني لم يكن ادعاءً وتلفيقاً.
فقبل ذلك، كان يعطي دروسه داخل النَّجف في ولاية الفقيه بلا اعتراض، على مجموعة صغيرة، بينهم نجله مصطفى، لذي كان يُسجل اعتراضات على أفكار والده في الدرس نفسه (طباطبائي، ذكرياتي)، وعندما توفي ولده مصطفى طلب السماح بدفنه حيث المرقد العلوي، وكان له ذلك بأمر من الرَّئيس البكر. بعدها قامت السُّلطة بحمايته (الموسويّ، الثّورة البائسة)، لأنَّ علاقته ببقية المراجع كانت سيئة، بسبب وضعه السِّياسي، وقربه مِن الحكومة العراقية، في الوقت الذي أعلنت الأخيرة تآمر نجل المرجع الحكيم محمد مهدي (اغتيل 1988)، وجاسوسيته ومطاردة الإسلاميين، وإعدام جماعة من قيادات حزب "الدّعوة" (1974)، بينما كان هو يتمتع بدعم وامتيازات.
أخيراً يُضاف إلى منافع الخميني مِن النِّظام العراقي السابق إتقان الدَّرس كيف يكون البطش بالخصوم بعد السُّلطة، هذا، ولبصير المعرة: "كحمائم ظَلَمتْ فنادى أجدل(الصَّقر)/ إن كنتِ ظالمةً فإني أظلَمُ/يتشبه الطَّاغي بطاغٍ مثله/ِ وأخو السَّعادةِ بينهم مَن يَسلمُ"(لزوم ما لا يلزم). أقول: وهل في التَّاريخ ثورة سلمت مِن التَّشبه بالَّذي ثارت عليه؟!
لكم تخيل، أنَّ حزب "البعث" لم يأت إلى السُّلطة، واستمر العهد العارفيّ، ومعه استمر غياب الخميني عن المشهد، واقتصر وضعه داخل النَّجف، على الخروج إلى الصلاة وزيارة الضريح العلوي ويعود إلى داره، المؤجرة له مِن أحد المحسنين، فهل أصبح إماماً، ومرشد ثورة وجمهوريّة؟! أم أن "البعث" لم يستخدمه مقابل ما منحه من تسهيلات وامتيازات، أم أن الإعلام الفرنسي لم يستقبله بهذا الاحتفاء، ويصنع له سيرة ذاتية كقائد ثورة (انظر، هوشنك نهاوندي، خميني في فرنسا)، هل يكون نائباً للإمام، وولي فقيه مطلقاً، أي حاكماً مطلقاً؟ لا نظن ذلك لكنها الدّنيا غالب ومغلوب، وأسباب ومسببات، وفرص تأتي لمن لم يحسب حسابها.
***
د. رشيد الخيّون