آراء

مصطفى غَلمان: 2024 عام "زومبي" الرعب وموت أخلاق الحرب

"يا أيها الإنسان، لا تبحث بعد الآن عن مكمن الشر، هذا المكمن هو أنت. ليس هناك شر آخر غير الذي تفعله أو الذي تعاني منه وكلاهما منك، لذا فإن حل مشكلة الشر جديد تمامًا من حيث أنه يتكون من "تحديد المسؤولية حيث لم يتم العثور عليها من قبل". ـ سيباستيان لابروس ـ

في أبلغ عبارة قرأتها قبل نهاية السنة الميلادية الحالية (2024)، الأكثر مأساوية على وجود البشرية، مقولة للكاتب الإسرائيلي إيريس ليعال، أبداها ضمن مقال له تحت عنوان "متى كان قتل أكثر من 10 آلاف طفل "ضرراً جانبياً؟" منشور في صحيفة هارتس الإسرائيلية بتاريخ 29 دجنبر 2024، يثير فيها شحنات محبته لسينما الرعب التي تتحدث عما بعد نهاية العالم، لا سيما أفلام "زومبي".

يقول ليعال إنه "يصعب علي تحديد ما هو نوع الراحة الخاصة التي أجدها في صور المدن الكبيرة والفارغة من الناس والمتروكة، والثقافة المدمرة وأسراب الزومبي المتعطشة للدماء التي تسير بين الأنقاض". مستطردا: "لكني أحب ذلك بشكل مرضي. النمط هو نفس النمط: جرثومة أو فيروس تم إنتاجه في المختبر الذي ينتقل من القرود إلى بني البشر، ويحولهم جميعهم إلى زومبي مجنون، ودافعه الذي لا يمكن السيطرة عليه هو نقل العدوى للآخرين والقضاء على البشرية".

هناك فعل بشري أكثر وحشية، من أفلام الزومبي المتخيلة. على الأقل، تسترفد أفلام الزومبي، التي تقع أحداثها في التراب البريطاني، جزءا من صناعة السرد القاسي على الذهنيات المتفرجة. مجرد استيهامات افتراضية لمواجهة عوالم الفيروسات المخترقة، يستطيع العقل الإنساني التدرب على مكاشفتها بالعقل الباطن، لتتحول إلى نظرية استيلاد للمعنى، في الحدود التي لا تتقاطع فيها أسئلة المنطق والواقع، أو تتجاوزهما معا إلى اللامعقول.

لكن، "الزومبي" الأكثر فتكا لكل نواميس الوجود والكينونة، ومنطق أو قانون العالم، هو ما عاشته قطعة أرضية مستعمرة بالقوة والنار، يقاوم سكانها آليات جهنمية، تتغطى بالتحضر والتمدن والحقوق الإنسية. يجتمع كل (قراصنة الكارايبي) الرجال الأموات الذين لا يحكون الحكايات، في إحالة إلى فيلم المغامرات الأمريكي الذي أنتجته الصاعقة الهوليودية عام 2017، والذي يحكي عن عودة القبطان جاك سبارو (جوني ديب) في مغامرة جديدة، حيث يقوم سلازار (خافيير بارديم) بإطلاق سراح مجموعة من أكثر أشباح القراصنة الموتى خطرًا من مثلث الشيطان، ويقوم الأشباح بالهجوم على القراصنة المتواجدين في البحر، بمن فيهم جاك سبارو نفسه، والأمل الوحيد الباقي أمام سبارو لإيقاف هذا الخطر هو أن يحوز على رمح بوسيدون الذي سيسمح له بالسيطرة على كافّة البحور.

لقد أطلق القراصنة (موتى الضمير والأخلاق)، أشباح الموت للسيطرة على سلطة العالم، واستدعاء كل طاقاته خنوعا وذلا ومهانة، فلا يكون للرمح الوحيد المعزول عن محيط الخانعين المهزومين وسماسرة الكراسي، أي بد من التصدي للعماء والغدر، مهما كان الثمن؟.

هناك نظرية صادمة كان يرددها المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق" حيث يرصد من خلالها عملية بناء عالم مركزه "الغرب"، وفق سردية خطابية، تتسع لكيفية تجسير هذا الخطاب التغريبي للشرق عبره.

العملية التي يعتبرها ادوارد، متصادية مع  تبريرية الانتهاك الأخلاقي، والذهاب إلى أن الشرق الأوسط مجرد "حيوانات بشرية"، وهو ما تتفاعل معه العسكرتارية الصهوينية التي ترى في الإنسان الشرقي مجرد شيء أو هو لا يمثل "الآخر" الذي ينبغي قبوله. وآلامه وأحزانه ومشاكله ليست جديرة بالاهتمام، ولا تحتاج أن تؤخذ على محمل الجِد.

إن الوحشية الدموية المقيتة، شر قاهر، تتقمصه الأدوات البشرية الصماء المسعورة، كالشرور الميتافيزيقية المتعلقة بالنقص الذي تنطوي عليه ماهية الموجودات، تنبني على الأفعال الكامنة في ذاتها، المنفصلة عن ميثاق العالم، سرعان ما تتفكك وتختفي أو تتوارى بفعل التآكل الزمني والتشاكل الكوني المتأصل في الصيرورة والأهلية.

بيد أن أقصى ما تتخيله الحواس المدركة لماهية شر الوحشية الدموية، أن يتفاقم هذا الشر الميتافيزيقي، المداهن بالنقص والفناء ومحدودية الإنسان؛ والذي يتلذذ بالضرر الجسدي الناجم عن القبح والإمعان في العدم ؛ كما الشر الأخلاقي الذي يشير إلى الخطأ والخطيئة، وهو شر مرتكب بفعل الجنون والتيه النفسي والتشتت الهوياتي

أليس من وازع التفلسف، أن نعتبر الشر شيء من النبش في الخطيئة، أو هو الخطيئة بعينها. حيث تفهم الخطيئة كنتيجة للمحدودية الإنسانية، وليس كفعل إيجابي، ليس بالمعنى الأخلاقي شريبالطبع. وهو ما التفت إلى كنهه الفيلسوف الأماني غوتفريد لايبنتس الذي أفصح بالقول: " لم يقتصر الأمر على أن الخطيئة الأصلية سيطرت على النفس بعد فقدان براءة الإنسان، بل حتى قبل ذلك كان هناك تقييد أصلي أو عيب طبيعي في جميع المخلوقات، وهو ما يجعلها مذنبة أو قادرة على الفشل .. جذر الشر في العدم، أي في حرمان المخلوقات أو تقييدها.."

والمناط هنا، أن حقيقة الشر مهما تغيرت، فإنها لا تخرج عن فعلية البشر، وأن تمة حدودا لإدراكها وفهمها، من حيث كونها متجزأة من التفكير البشري ذاته، وأن التوجس من الاعتراف بصنعها وإشاعتها، أن فاعلها يمنحنا وجها من طبيعتها وآثارها على العالم، دون أن ينظر بعين الحياد أو الصدقية؟.

***

د. مصطفى غَلمان

في المثقف اليوم