آراء
شازاد كريم: الغيرة والحسد بين المُبدعِين.. دراسة مقارنة

إنّ الغيرةَ والحسد بين المُبدعين حالة مرضية نفسية قديمة قدم البشرية، وهذه ليست مسألة غريبة بل نزعة غريزية وردُّ فعلٍ طبيعي بحق المشاهير وإن كانت هذه صفة مذمومة، وغالبًا ما تكون بين طرفين في مجال واحد، وليس في مجالين مختلفين، فمن الطبيعي أن تكون الغيرة بين الشعراء، أو بين التشكيليين أو بين الموسيقيين، ونادرًا ما تكون بين شاعر و تشكيلي، أو بين أديب وموسيقي مثلًا.
وفي تاريخ الآداب العالمية نجد نماذج كثيرة في هذا الباب، حيث يدخل الأدباء والفنانون الكبار في الصراعات بأساليب مختلفة ومتنوعة، فالكاتب الروسي بوشكين (1799- 1837) كتب مسرحيته الشعرية "موزارت وساليري" التي نشرها عام 1832 وتم عرضها على خشبة المسرح في نفس العام. وهو "أطَّلع على قصة وفاة الموسيقار النمساوي موزارت بعد أن دس صديقه الموسيقار الإيطالي ساليري السم له، لأنه كان يحسده لنجاحاته الباهرة في عالم الموسيقى، ولأنه ما كان باستطاعته أن يجاريه، وقد نشرت هذه الإشاعات الصحف العالمية، ومنها الروسية في أواسط عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان بوشكين يميل إلى الاعتقاد بمثل هذه الأفكار المستندة إلى صفة الحسد عند بعض البشر، وكيف أن هذه الصفة يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب الجريمة، وقد أشارت تلك الأخبار في حينها إلى أن ساليري قد اعترف بجريمته تلك وهو على فراش الموت". فالكاتب بوشكين من خلال مسرحيته بيّن لنا أثر الحسد وكيف يقود إلى الحقد ثم إلى الجريمة، ويمثل الصراع بين الشخصيتين" موزارت وساليري" صراع الخير والشر.
وفي تاريخ الأدب العربي نجد نماذج كثيرة من الغيرة بين المشاهير، منهم: "جرير (ت: 114هــ) والفرزدق (ت: 110هــ)"، و"المعري (ت: 449هــ) والشريف الرضي (ت: 406هـــ)"، و"المتنبي (ت: 354هــ) وأبو فراس الحمداني (ت: 357 ه)"، وفي تاريخ الأدب الحديث نجد "أحمد شوقي وحافظ ابراهيم"، و"الزهاوي والرصافي"، و"محمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي"، والكاتبة اللبنانية "مي زيادة" التي كانت تُجيد تسع لغات، أصبحتْ محورًا لغيرةِ مجموعةٍ من الكُتَّاب في زمنها مثل: خليل مطران وطه حسين وحافظ ابراهيم عباس محمود العقاد وأحمد شوقي وإبراهيم المازني والريحاني. وقد كتب الروائي "واسيني الأعرج" روايته عن السيرة الذاتية للكاتبة، وتاريخها وعلاقتها بجميع هؤلاء المشاهير نقلها من مستوى الواقع التاريخي إلى مستوى الخطاب السردي، بأسلوب فني رائع.
وفي رواية "زرياب" لمقبول العلوي نلاحظ تكرار ثيمة الغيرة والحسد مرارًا، بل تتغلب على فضاء الرواية وأحداثها، فهي تجعل المعلم والموسيقار إسحاق الموصلي يقف ضد تلميذه "علي بن نافع"*(ت: 243هــ) الملقب بـ"زرياب" وتعني "الطائر الأسود ذو الصوت الجميل"، خوفًا من أن يحتل مكانة مرموقة، وشهرة واسعة أكثر منه عند الخليفة "هارون رشيد"، وسيكون سببًا لتهميشه، فقد كانت لـ"زرياب" مواهب كثيرة، فكان عبقريًا في الموسيقى، ومطربًا ومُلَحِنًا ناجِحًا، وشاعِرًا مُجيدًا، وعالِمًا مُلِمًا بالعلوم الفلكية، والآداب والتاريخ والجغرافية والتراجم والإتكيت والأزياء وفنون الطبخ وتنظيم الموائد، وهو الذي عَرَفَ كيف يزرع في القلوب حب الحياة وعشقها، وكان إنسانا متفائلا وزاهدًا في كل شيء، وبهذا الدافع يطرد إسحاق الموصلي "زرياب" من قصر الخليفة، بتبليغ صريح بأن لا مكان له في القصر بعد اليوم، وذلك في مقطع من الرواية "أمامك خياران، إما أن تغادر أرض العراق إلى أي مكان تشاء، وإما أن تختار البقاء هنا ولكنك سوف تتحمّل تبعات قرارك هذا، ولك عليَّ إيمان مغلظة وموثقة لأنزعنَّ قلبك من صدرك وأرمي جثتك في أحد النهرين وأجعلك أثرًا بعد عين. وأنت والله أعلم بصدق قولي ومقدرتي عليه والإيفاء بكل حرف فيه".(زرياب، مقبول العلوي: 72). فالغيرة القاتلة لإسحاق الموصلي باتجاه هذا الشاب النجيب "زرياب" الناشيء الموهوب لم تبق مختبئة في الداخل، بل ظهرت علنًا، وصارت سببًا لمؤامرتهِ وحقدهِ وكراهيتهِ لتلميذه، وهي رسالة واضحة ومهمة تؤكد مدى جديته، وتوضح مقدار احتقان صدره، أو "حنقه" و" انكشف الغطاء عن مرجلٍ ينفث كل نتانة في النفس البشرية. الحسد والغيظ والضغينة والشعور بفقدان توازن العقل والأفكار وتوتر الأعصاب والغضب الذي لا يحدّه حد...حينها تأكدت أن سيدي إسحاق الموصلي قد أصاب داء الحسد". (زرياب: 67)، مازال ينظر إلى نفسه كتلميذ مخلص لسيد المعلم، ولم يكن يعلم أن الكره والحقد والحسد تنمو في داخله، ولم يتوقع أنه يكتم كل هذه الكلمات وهذه الأحلام والأوهام في صدره.
وعندما نال زرياب إعجاب الخليفة هارون رشيد بطربه وتمايله طربًا من عزفه ومن بيت الشعر الذي غنَّاه له بطريقته الخاصة، وكأنَّه يُغنِّي لنفسهِ في خلوته بحرارة وصدق، وعبقريته في الغناء والموسيقى، فَرحَ الخليفةُ وقال لإسحاق الموصلي "ما هذا السحر يا إسحاق؟ والله لولا أني أعلم صدقك لي على كتمانك إياي لما عند فتاك هذا وتصديقي لك من أنك لم تسمعه من قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتمد بشأنه حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظرًا..."(زرياب:66). تغير موقف إسحاق الموصلي بعد هذه الحفلة، وأصبحت علاقته مع تلميذه في مهب الريح، وصارت محاربته له تتَّخذ في كل يوم لاحق جانبًا واطيًا وحقيرًا جعله يستغرب من أنه قد انحطت به الحال إلى هذه الدرجة المخيفة، إن المنافسة في الإبداع نفسها تجلب الغيرة والحسد والعداوة، وزرياب لم يكن يعرف حقيقة مرض الغيرة والحسد من القبل، أما الآن بعدما وقع فيه مع أقرب شخص وأعز الناس، سيحاول أن يقتنع بنفسه في هذا الأمر"أليس الحسد هو ما حدا بأبناء الأنبياء إلى قتل بعضهم بعضًا؟ أليس الحسد من جعل إخوة يوسف يرمونه في غيابة الجبّ؟" (زرياب:69).
وقد تكرر مضمون هذا المقطع في رواية "طيف الحلَّاج" لمقبول العلوي، ولكن بصيغة أخرى، على لسان شخصية عبدالجبار عندما سمع قصة نوري إبراهيم، وأدرك أن الخلل في النفوس المريضة، وتأكد له أن القتال بين أبناء الأنبياء، كان من باب الحسد والغيرة، حيث يقال" إذن، هو الحسدُ، قاتل اللهُ الحسدَ، هذا الداءُ جعل حتَّى أبناء الأنبياء يقتلون بعضهم بعضًا..." (طيف الحلاج، مقبول العلوي: 222). فالمضامين في النصين متقاربة تمامًا، وهذا يدل على أن الكاتب يكرر فيهما المفهوم، لقناعته التامة بالموضوع وتأثره به، ولم ينطق على الهوى، بل اعتمد على المصادر الموروثة، وكَتَبَ بما وصله من تجاربه في الحياة، وأخذ من الفلسفة والمنطق.
وقد أشار السارد في رواية "زرياب" إلى مواطن الحقد والحسد والغيرة في نفس إسحاق الموصلي وكان أولها إحراق جزءٍ من بيته، وكان حريقًا ساذجًا ومفتعلًا، وأُخمد بمساعدة بعض الجيران، قبل أن تلتهم البيت كله. وثانيها تبليغ الموصلي للحراس المكلفين بحراسة بيت الحكمة بعدم السماح لزرياب بالدخول لقراءة الكتب والاستماع إلى مساجلات العلماء الأجلّاء الذين يكثرون في هذا المكان، و"كانت هناك معاملة بعض رجال القصر لي بخشونة وقسوة، فقد كانوا يمنعونني من الدخول إلى الخليفة، أو إلى مجلس ولي العهد المنتظر الأمين ولد الرشيد المرشّح بقوة للخلافة بدلًا من أخيهِ المأمون الذي طوته بلاد فارس تحت جناحها ولن تلبث أن تشكّله كيفما تشاء، كما كان يشاع همسًا في بغداد كلها"(زرياب: 74). وقد رفض الكثير من تجّار بغداد التعامل مع متطلباته الضرورية. لذلك كان يستعين بالعبيد لشراء حاجات الأساسية، ولم يسمح زوجته أن تخرج كثيرًا كي لا يتحرش بها أحد. وكانت تلك السنوات التي قضاها في القصر تحت كنف الأمير غالبيتها سنوات سوداء قاحلة مترعة بالدسائس والمكر والغدر والخيانة، لأن الأمين كان رجل دنيا وليس رجل دولة، وكان يجيد تكوين الأعداء ولا يعرف كيف يكسب الأصدقاء.
وبعدما ترك علي بن نافع بغداد، وذهب إلى الأندلس واستقر في بلاط الأمير خلال أربعة وثلاثين عامًا أخذًا وعطاءً معها لم يتركه الحسَّاد أيضًا "تمام بن علقمة" و"عبد الملك بن حبيب السلمى" وغيرهما، فبعضهم يجهر بالعداوة وبعضهم الآخر يخفيها في الصدر. وكان أكبر حاسد له في بلاط الأمير شاعر مجيد يدعى بـ"يحيى الغزال" كان سفيرًا لأمير البلاد، لقب بالغزال لجمال شكله وهيئته، ولكن لم يكن مانعًا لكي يكون لسانه قذرًا في هجاء زرياب، وحاول كثيرًا طردهِ من بلاطِ الأمير، ولكن زرياب القديم قد تغير إلى شخص آخر، يدافع ويحكي ويشتكي ولا يسكت عن حقه، وقد يكون وقحًا أحيانًا، وتعرف على هذا المرض الخبيث، وقد "أعرف أن دوافعه وأسبابه هي الأسباب والدوافع نفسها التي أدت إلى أن يطردني إسحاق الموصلي في بغداد...ولقد هجاني بقصيدة مقذعة وزاد هياجه وحسده عندما منحني الأمير عبد الرحمن بن الحكم دار نصر الخصي". (زرياب: 210). وهذا دليل على وجود هذا نمط من الشخصيات المريضة في كل مكان وزمان، والروائي اشتغل استثمارها مع هذه الثيمة المهمة في وعي التشكيل للسرد في السيرة الروائية.
وهذه الثيمة المؤامراتية التي تشمل ثيمات "الحسد والحقد والغدر والخيانة والقتل" بدافع الغيرة، نجدها عند الروائي جان دوست بصورة ملحوظة أيضًا، اهتم بها في معظم رواياته، ففي رواية "ميرنامه" نجد تشابها إلى حدٍ كبير مع ما وجدنا في رواية "زرياب" من ثيمة الغيرة والحسد، نرى بأن تلك الثيمات تتغلب على فضاء الرواية وأحداثها وشخصياتها، والروائي يستغلها مادة تخيلية تاريخية فيها، فالشاعر" بُهاري" هو إحدى شخصيات الرواية، وهو من الساردين الذين يشاركون في السرد لعلاقته مع الخاني، حيث كان يكتب أشعارًا للأمراء والسلاطين والباشاوات ويمدحهم باللغة التركية، من أجل الحصول على منصب ومكانة مرموقة في القصر؛...
(كنت أظن أنني سأصبح شاعرًا مثل شكري البدليسي صاحب "سليمنامه" وأحظي بمكانة رفيعة في قصور الصدور العظام وشيوخ الإسلام وحتى في مجالس السلطان المعظم في الآستانة لكن الدهر قلب لي ظهر المجن). (ميرنامه، جان دوست، 32-33). وكان الشيخ أحمد الخاني لا يتفق معه لهذا النوع من الشعر، بل كان معارضًا له دائمًا بنصائحه لتجنب الشعر مديح، ويسأله إلى متى ستبقى تكتب بلغة التركية؟ ويحثه ليثق بلغته الأم، ليكن وفيًا معها، (فوالله لم يصل صوتك إلى الآستانة، وحتى لو وصل فلن يسمع له أحد).(ميرنامه: 33). ففي البداية كان "بُهاري" رافضًا لآراء الخاني، وعندما وصل أخيرًا إلى حد اليأس لوصولهِ إلى الآستانة اقتنع واعترف بما قال له الشيخ، عندما رأى جمهوره الكثير وقرَّاء له، واللذين يتابعونه من الناس العامة والفقهاء والمريدين والطلاب والآخرين، وقد أوصله الغيرة إلى حد الحقد والكراهية، ثم إلى المشاركة في المؤامرة على قتله ومحويه ليبقى شاعرًا وحيدًا في بايزيد.
وأسباب غيرة "بُهاري" القاتلة من "الخاني" واضحة، فلم يتمكن الوصل إلى مكانته الشعرية، ولم ينل محبة الناس ولا مكانة عالية لديهم مثله، بل كان منبوذًا ومكروهًا، يتقرب من السلطة لأجل المصلحة، وكان الناسُ في بايزيد وضواحيها ينظرون اليه نظرة دنيئة، وينظرون إلى الخاني باحترام وتقدير، ويعتزون به ثقة وأمانة، لأنه صاحب مكانة علمية ودينية واجتماعية وأدبية مرموقة، لهذا كان محسودًا من قبل الأمير عبدالفتاح وبعض من أعوانه ومن ضمنهم بُهاري الشاعر.
وهناك أسرار يتم كشفها على لسان "بُهاري" كأحد الساردين، في علاقته بالخاني، كسرقة مخطوطة "شێتەی سەرحەدان: مجنون سرحدان" من الخاني، لإعادة كتابتها وحوَّرها باسمه بعد تغيير العنوان إلى "دێوانەی بایەزید: مجنون بايزيد" ثم استنسخها نسخًا عديدة وبيعت في حانوت صلاح الدين الوراق، إذ كان الناس يتخاطفون ولم تبق منه نسخة واحدة، ولكن الشيء الذي تآكله من الداخل من الهمّ هو أن الخاني لم يذكرها أبدًا، ولم يحسب حسابًا له، مع استمرار اللقاءات بينهما اعترف أيضًا بسرقة قارورة حبر الممتاز من الخاني، لغرض كتابة النص بصورة جيدة كما كتبه صاحبه، ولكن ذلك الحبر السحري الذي كان يفوح عطر العنبر منه، قد تغير عنده إلى شيء آخر، وتحولت رائحته إلى رائحة كريهة، غير مرغوبة، ومن خلال ذلك كله تعرفنا على حقائق شخصية بُهاري وأسراره من لسانه، فقد كان شخصية ضعيفة سيئة دنيئة. وعندما أشرفت ملحمة الخاني "مم وزين" على النهاية، دعاه بهاري إليه ليقرأ له مقاطع منها، وكان بُهاري فاغرًا فمه من الدهشة بينما الخاني يحدق في عينيه، فقد كان يقرأ الحسد الملمع في عينيه أيضًا، وكلما قرأ مقاطع من الملحمة، كان يبلع ريقًا ويلتزم الصمت، ولم يستطع إخفاء جمرات الحسد المتقدة في رماد العين...
(تلك الليلة كانت نيران الحسد تنهشني من الداخل....كنت أذوب مثل ثلج أشرقتْ عليها الشمس أو قطعة سمن على صفيح مسجور، ورأيت نفسي مثل ذرة صغيرة في ضوء قامته وقوة كلماته). (ميرنامه: 33).
ازداد حسد لهُ ولم يكن بإمكانه الوصول إلى غبار قوافيه العذبة، وكان أحيانًا يتمنى أنْ يذهب إليه ليخنقهُ ليلًا دون أنْ يشعر به أحد، وكان أمامه كطائر مهيض الجناح مكسور القوائم! وإذا نمعن في مضمون الرواية سنلحظ أن السارد تلاعب خلال التخيُّل التاريخيّ فدمج الواقع بالخيال لإبراز جانب من الجوانب حياة الخاني فيه الغيرة والحسد والخيانة بوجود خصومه الذين تآمروا على قتله، منهم بُهاري الذي تصارع معه وتناقض معه في الأفكار والآراء، فمثل الإنسان الخائن والمنافق والعميل، وبسبب هذه النماذج من الشخصيات لا تتقدم الأمم، ومن ضمنهم الكُرد، ولا تحقق استقلاليتها، وتفشل ثوراتها الشعبية ونضالاتها السياسية، وتتفرق دائمًا.
والشيخ أحمد الخاني ناقد سياسي واجتماعي وعالم ديني ومفكر وشاعر، قدم ما في جعبته من الأفكار والآراء من خلال مؤلفاته لشعبهِ وأهلهِ وقُرَّاءِهِ. وقد استفاد الروائي جان دوست من التاريخ، باستحضار هذه الشخصية التاريخية المحورية واستغل هذه الثيمات المهمة للتعبير عن الواقع الحال ورؤيته الشخصية في معالجة الإشكالات التي أصبحت خللًا في التاريخ. وعلى هذا بني التخيّل التاريخيّ برؤية نقدية في الاوضاع السياسية والاجتماعية، ومحاولة في تصحيح الإخطاء التاريخية، وربطها بالحاضر والظروف الراهنة للقضية التي دامت منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا.
ومن خلال دراستنا للروايتين "زرياب" و"ميرنامه" نلاحظ بأنهما انشغلتا بثيمتي الغيرة والحسد، واستقت كل منهما مادتها الروائية من كتب التاريخ والموروث والسيرة الشخصية للشخصية المحورية "زرياب" و"أحمد الخاني"، كليهما من الروايات السيرية الغيرية والواقعية التاريخية، فالشخصية الرئيسة المحورية في كل رواية منها تعاني من مرض الغيرة والحسد من الخصوم لكونهما أبدعا في مجاليهما، فالأول يمتلك المواهب العديدة ومنها إبداعه وابتكاره لفن الموسيقى بإضافة الوتر الخامس على الآلة العود، وبتفوقه ينال إعجاب الخليفة ويثير الدهشة والغيرة والحسد لأستاذه (اسحاق الموصلي)، بحيث يحاربه ظلمًا، وبهذا يتم طرده لا من القصر فحسب بل من العراق كله، وبعد ذلك يستقر في الأندلس حتى موته. وأما الثاني فكان شاعرًا نجيبًا وإنسانًا مخلصًا وعالمًا مفكرًا ومثقفًا، لكن "بُهاري" يحسده حقدًا وكراهًة لأنهُ أشعر منه، ولم يتمكن من أن يصل إلى مكانته في الشعر، ولا إلى مكانته الاجتماعية فكان معارضًا للأمير والسلطان، ولم يتنازل عن رأيه ومواقفه، وقد دفع ثمن المبدأ، وأصبح ضحية لمواقفه، وشارك بهاري الحاقد في مؤامرة قتله مسمومًا.
ونرى بأن كلًا من مقبول العلوي في "زرياب" وجان دوست في "ميرنامه" أجرى تعديلًا في المراجع التاريخية، بما يناسب طبيعة التّخيُّل التّاريخيّ، فوسّعا المنطقة المتخيّلة فيهما لتفصح عن أفكارهما ومشاعرهما وحركتهما داخل فضاء الرواية.
وتبدو دراماتيكية الروايتين مأساوية تثير الأحزان والدموع والآلام، وتنتهيان بالنتيجة التراجيدية الغدر والخيانة، ففي رواية "زرياب" تموت الشخصية التاريخية المحورية/ البطل في الغربة بعدما طرَّد من موطنهِ لفترة طويلة بسبب الغيرة والحسد، وفي الثاني يقتل البطل مسمومًا حسدًا وكرهًا وحقدًا من الغيرة فالخيال فيهما يلعب دورًا أساسيًا، والخيالية التأملية التي تنتمي إليها الروايتان تعكس الكثير من التراث والتاريخ والآراء والرؤى الخاصة بالكاتبين، ونظرتهما إلى المجتمع المحيط بهما، ومن ممارساتهما وتنبؤاتهما وثقافتهما ليمزج بين الحزن والأسى والحقد والحسد والغيرة، وانفعالاتهما ثم تأثيراتهما على الآخرين في المستقبل.
***
د. شازاد كريم عثمان - كردستان العراق
............................
المصادر والمراجع:
1- زرياب، مقبول العلوي، دار الساقي، ط1، بيروت، 2014. وقد ترجمت إلى اللغة الكردية من قبل المترجم صباح اسماعيل.
2- ميرنامه، جان دوست، مطبعة افيستا، ط2، اسطنبول، 2012. وقد ترجمت الى اللغة العربية من قبل المترجم صباح اسماعيل.
3- ضياء نافع، "مسرحية بوشكين الشعرية (موتسارت وساليري)"، صحيفة المثقف،
https://www.almothaqaf.com/readings.
4- زرياب، مقبول العلوي، ت: صباح اسماعيل، المقدمة بقلم المترجم: ئیرەیی، بکوژی ئاوازەکانی بەهەشت. (سلێمانی: ناوەندی رەهەند،2020)، 7-9.
* وهو أبو الحسن علي بن نافعٍ (ت 243 هـ) عالم من العلماء الكُرد، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (كان الفتى الكُردي زرياب ألمع تلاميذ مدرسته) في كتابها: شمس العرب تسطع على الغرب، ت: فاروق بيضون وكمال دسوقي. (بيروت: دار الجبل، ط8، 1993)، 488.