آراء
أنور ساطع أصفري: سلبيات وإيجابيات التعددية السياسية
أي حزبٍ سياسي يعني أن هناك علاقات اجتماعية سياسية تحوّلت إلى تنظيم، أي إلى حزبٍ سياسي، وهذه الحركة هي بمثابة شكلٍ من أشكال الانتماء الحر للوطن، والنشاطات الحزبية قد تكون هي السبب الرئيس لوصول هذا الحزب إلى السلطة، والذي يُمثّلُ شريحة أو كُتل إجتماعية ويُدافعُ عنها وعن بقية مكونات المجتمع.
والأحزاب الأخرى بشكلٍ عام قد تكون أداة لتحقيق نمو التكامل القومي بحسب ولائها الوطني. فالأحزاب السياسية تُعدّ أحد أبرز منافذ العمل السياسي، وبنفس الوقت إن إصلاح الأحزاب السياسية يُعتبر مهماً جداً بهدفِ تحسين دور المجتمع المدني في تحمّل الواقع العام وهمومه.
كما يجب على الأحزاب السياسية أن تراعي بشكلٍ منفتح ثقافة الإختلاف، واحتضان مختلف الاتجاهات الفكرية دون تمييز.
فتعدد الأحزاب السياسية هو شكلٌ من أشكال الترتيبات الدستورية لتوزيع السلطات السياسية في البلاد وإيجاد مخارج فيما يخص إطلاق الحرية والعدل والمساواة، والنمو الثقافي والإجتماعي.
ومن ناحية أخرى فإن تعدد الأحزاب يعني وجود تيارات سياسية متعددة لديها برامج وأفكار مختلفة، ومنطلقات فكرية تختلف عن سواها، وتحتكم إلى الجمهور وإلى الرأي العام، بعيداً عن سياسة الإقصاء أو القهر أو القمع.
إذاً من خلال التعدد السياسي نعترف بوجود تعدد ثقافي وإجتماعي هو ضد الهيمنة الثقافية الواحدة، أو الهيمنة الإجتماعية الواحدة، ويؤكّد أيضاً وجود طوائف وجماعات ثقافية وطنية وليست طائفية أو عرقية.
أي أن هناك مجتمع تعددي، بمعنى أنه يضم أكثر من رأيٍ سياسي، وأكثرَ من طائفةٍ ثقافية واحدة، وهذا المجتمع يعمل على تنظيم الحياة العامة على أُسسٍ مشتركة مع احترام مختلف الاتجاهات الفكرية كشرطٍ أساسي لممارسةِ الديمقراطية، حيث يشترك الجميع في صناعة المصير المشترك الواحد.
فقد تكون هناك أحزاب يسارية أو ليبرالية أو ديمقراطية أو قومية أو محافظة، ولكن من المعروف أن البلاد الكبرى تتضمن عدة أحزابٍ لا تتجاوز أصابع اليد، بهدفِ تسهيل مهمتها وبرامجها الوطنية في البلاد.
ولكن أن يُصبح عدد الأحزاب في البلاد أي في الوطن الواحد يُقدّرُ بالمئات فهذه كارثة بحد ذاتها، وتعني بشكلٍ مباشر إقصاء الآخر حتّى ولو كان من نفس التوجّه السياسي.
فعلى سبيل المثال في العراق الآن أكثر من 300 تنظيم سياسي، وأصبح العراق يحتل مركز الصدارة العالمية في عدد الأحزاب، ويفوق عدد أحزابه عن مثيلاتها في الصين والهند. فكثرة الأحزاب من شأنها أن تعرقل أي مسيرة وطنية أو إصلاحية، طبعاً نحن نأخذ بعين الإعتبار أن هناك أجهزة ضاغطة على معظم هذه التنظيمات إن كانت أجهزة داخلية أو إقليمية أو دولية، بمعنى أوصياء عليها.
الفساد العام حينها يتفشى، وسرقة المال العام يصيب الجميع بحصتهم.
وبكل تأكيد أن كمّ هذه الأحزاب، الكمّ المرعب، سيدخل العراق في نفقٍ مظلم، قد يكون من الصعب الخروج منه بسهولة.
التعددية هنا وفي هذه الحالة لعبت وتلعب وستلعب دوراً سلبياً ضد الوطن وضد المواطن، ولو أخذنا هذه الأحزاب الموجودة في الوطن الواحد رأيناها مكررة ومتشابهة ولا تختلف إلاّ بكلمةٍ إضافية أو منقوصة، وهذه الحالة بكل تأكيد ستلعب دوراً فاعلاً في إجهاض الشارع العراقي، وكل هذه الأمور تخضع لأجنداتٍ خارجية مشبوهةٍ وشريرة.
تخمة التعددية السياسية في العراق هي خطيرة جداً، كما قد يتضاعف عدد الأحزاب العراقية أيضاً بسبب الإنشقاقات التي قد تحصل في الأحزاب ذاتها.
وفي مصر هناك حوالي 100 حزبٍ سياسي يُمثّلون تيّاراتٍ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وتحمل هذه الأحزاب إيديولوجيات مختلفة إن كانت وطنية أو قومية أو دينية، أو ليبرالية، أو شيوعية وديمقراطية وسواها، وهناك أحزاب قديمة، وأحزاب جديدة، وأربع أحزاب مجمّدة. كما أن الأحزاب المصرية الكثيرة تفتقد إلى حالة التنسيق والتوحد، وسياسة الإقصاء معمولٌ بها، علماً أن الأحزاب المصرية بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التوحّد فيما بينها لتكون بمثابةِ أحزابٍ قوية وفاعلة في الميدان المصري، ولتكون كتل جماهيرية مؤثّرة لها كلمتها في الشارع السياسي المصري.
علماً أن حزب السلطة هو المسيطر.
في منتصف القرن الماضي في سورية كانت الأحزاب معروفة بإسم حزب الشعب، والحزب الوطني، وحزب البعث، والحزب الشيوعي وحزب الإخوان، ومن ثم الكتلة الوطنية. وقبل أحداث الربيع العبري في المنطقة كانت الأحزاب في سورية معروفة بحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية الستة بغضِ النظر عن فعاليتها، وحزب القومي السوري الإجتماعي.
أمّا الآن ففي سورية هناك أكثر من خمسين تنظيم سياسي.
ويحق لنا كمتابعين للواقع السياسي أن نتساءل ونصرخ بالصوت العالي لماذا ؟!.
ففي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا على سبيل المثال وليس الحصر هناك حزبان أو ثلاثة أحزاب رئيسية تتنافس فيما بينها من خلال الإنتخابات، ولكل حزبٍ توجهات معروفة و واضحة.
وله نصيبٌ من الشارع الجماهيري العام. أمّا أن تكون هناك عشرات أو مئآت من التنظيمات السياسية فهذا يعني وبشكلٍ مباشر تشويه مقولة التعدد السياسي وإبطالها والإساءة إليها وإلى أهدافها، وتعقيد وتمييع مطالب الشعب المحقة أيضاً.
فلكي ننجح في موضوع التعددية وتحقيق أهدافها، يجب أن تكون هناك أحزاب سياسية محددة وواضحة في تطلعاتها وفي برامجها السياسية كي تنشط مع الأحزاب السياسية الأخرى بهدف الخروج من بوتقة السلطة الواحدة أو السلطة المطلقة، والإنطلاق نحو عالم الحداثة السياسية، وخلق مجالٍ فكري واجتماعي يمارس فيه الناس العمل السياسي بواسطة الحوار والنقد البناء والأخذ والعطاء فكرياً، والتعايش في إطار من السلم الإجتماعي القائم على القواسم المشتركة.
فالتعددية هنا تعني بشكلٍ مباشر الإعتراف بالآخر و بوجود الآخر ضمن الهوية الوطنية الواحدة، ولا بد من هامش إيجابي للتعبير عن ذلك بحريةٍ في إطارٍ مناسب.
والتعددية هي بشكلٍ أو بآخر عنصراً رئيسياً لصناعة الديمقراطية في البلاد، فالقرار السياسي في دولةٍ ما ليس من صنع شخصٍ أو جماعة بعينها، بل هو من صناعة مجموعاتٍ قيادية متخصصة بعيداً عن نخبةٍ أو فئةٍ واحدة.
ولكي تُمارس التعددية نشاطاتها لا بد من وجود نظامٍ قانوني يسمح للفئات الإجتماعية الحق في التنظيم والتعبير عن رأيها وفي سعيها السلمي بهدفِ الوصول إلى السلطة السياسية تحت مظلةٍ قانونية صارمة تحمي هذا التوجّه.
فمن خلال التداول السلمي للسلطة يتعاقب الحكّام على سدة الحكم عبر الانتخابات، ويُمارسون اختصاصاتهم الدستورية لفتراتٍ محددة بتفويضٍ من الناخبين لهم، حيث لا يمكن أن نتحدث عن دولةٍ ديمقراطية دون أن يكون هناك إعترافٌ بحق جميع التيارات السياسية كي تتبادل مواقع الحكم والمسؤولية والمعارضة داخل الدولة، ومن خلال الانتخابات وصناديق الإقتراع.
حينها ستكون هناك حرية لكل أطياف المجتمع أن تُشكّل نفسها وتُعبّر عن رأيها وتدافع عن مصالحها وتُؤثّر على القرار السياسي.
وبالنتيجة تخرج قرارات متوازنة تلبي طموحات المجتمع والدولة.
ومن ناحية أخرى أيضاً فإنه ومن خلال الممارسة الديمقراطية سيتم إلغاء احتكار السلطة السياسية لحزبٍ دون سواه، حيث أن السلطة حينها ستدار من الأحزاب والحركات السياسية التي تحصل على الأغلبية من الأصوات، أي أصوات الناخبين أثناء العملية الانتخابية النزيهة. التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة هنا تقوم على مبدأ المنافسة الحرة والنزيهة ما بين القوى السياسية المتعددة، حيث تتم المنافسة في إطار القانون والأحكام الدستورية دون الخروج عنها.
وكل هذه الأمور تخلق شيئاً من الرضا والشرعية والمسؤولية التي يمنحها الشعب للسلطة في مزاولة أعمالها وفق القانون.
ومن جهةٍ أخرى أستطيع أن أقول أن بعض الأحزاب التي تشارك في التعددية بهدف الديمقراطية هي نفسها قد تُوجد دكتاتوريات جديدة وتُفسد مسار السلطة، لذا يجب أن تكون هناك رقابة جادة في هذا المجال.
كما أن الأحزاب الإيجابية التي تتنافس في عملية الديمقراطية عليها أن لا تسمح بالوصول إلى دكتاتوريات جديدة كنهجٍ في الحكم وفي السلطة.
فما دام التنوع السياسي هو هدف رقي وتقدم الوطن وسيثري الساحة الميدانية بالنهج الديمقراطي، حيث يلتقي الجميع على هدفٍ نقيٍ واضح هو مصلحة كل الوطن وكل مواطن في المقام الأول، وما دام هناك معارضة نزيهة وتقيّم الأداء ومن خلال الحسّ الوطني، وتُشارك بالحلول بشكلٍ بنّاء، من خلال رصد الخلل وإيجاد العلاج بهدف حراسة مصالح الوطن، ما دام الأمر كذلك فعلينا أن نحافظ على هذا النهج وتحقيق كل ما يصبو إليه الشعب وتحقيق آماله وطموحاته ومطالبه المحقة في ظل قيم العدلِ والسلامِ والحرية.
لأنه حينما يتم فقدان الثقة يبدأ الصدام والتصادم والتفكير بتحقيق مكاسب ضيّقة، ووضع المتاريس، وعرقلةِ الإصلاح ونسف البرامج، فكل هذه الأمور لا تؤدي إلاّ إلى تمزيق النسيج المتآلف وخلق خلافاتٍ تعطّل البرامج السامية لتحقيق التعددية والديمقراطية والأمن والسلام في الوطن والإقليم.
فهناك معارضات كأحزاب تنسف كل برنامج إصلاحي، ويعملون لتحقيق عدم التوازن والتوافق في الحكومة حتّى وإن كانوا مشاركين بها فقط لتمرير مصالحهم ومكاسبهم وتشويه المسار العام.
ويبقى هناك سؤال مهم، هل نستطيع أن نفهم ما هي البرامج السياسية للأحزاب التي توالدت خلال السنوات القليلة الماضية على الساحة العربية وماذا تحمل في جعبتها كشيٍ جديد لرفد تقدم وحرية وحضارة الوطن والإنسان ؟.
أقول قد تكون هناك أحزاب عديدة تحمل نفس الشعارات تقريباً، فجميلٌ لو انضوت هذه الأحزاب التي تتقارب في الرؤى بحزبٍ واحد بهدف توفير الجهد أولاً، وثانياً فبتكتلها تخلق قوة جديدة في الميدان وفاعلة، وهذا يحتاج إلى وضع المصالح الذاتية جانباً وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية.
ففي الإطار التوافقي تذوب كل الخلافات، ويتفق الجميع في سبيل خلق سُبل مبتكرة تصبّ في مصلحة الجميع يكون شعارها الأساسي الحرية والكرامة والسيادة.
نعم بالإمكان الإستفادة من كل الآراء في مجال التنوع السياسي إذا كان عددها معقولاً لخدمة الحسّ الوطني، والمشاركة في ازدهاره، ما دام الكل يعمل لنفس الهدف، ويعمل لكل الوطن ولكل مواطن، ويضع نصب عينيه قيم الآدمية القومية، والمفهوم الإنساني الشامل، وقيم العدل والسلام والحرية، ومصلحة كل الوطن وكل مواطن في المقام الأول بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال المكاسب والمصالح الفردية أو الشخصيّة.
***
بقلم: د. أنور ساطع أصفري