آراء
علي أسعد وطفة: الطائفة العلوية في قفص الاتهام.. قراءة سوسيولوجية
ملاحظة: هذه المقالة نشرت في 5/يناير 2012 عندما كانت الثورة السورية في أوج نشاطها وعنفوانها، وقد تعرضت أثناءها لهجوم كبير من رجال النظام السياسي وشبيحته وأعوانه، كما تعرضت للتهديد والوعيد. وقد نشرت هذه المقالة في موقع إيلاف وفي عدد كبير من المواقع الفكرية في ذلك العام. وأنا أعيد نشرها بناء على طلب عدد كبير من الأخوة المهتمين بالشأن السوري نظراً لأهميتها وخصوصيتها. وأحيطكم علما بأنني لم أغير أي كلمة فيها مذ كتبت في عام 2012. باستثناء فقرة واحدة وهي نداء إلى قادة الحركة الثورية في سوريا الآن، وأعتقد أن قيمة هذا المقال تكمن في تاريخيته الثورية.
اقتباس
يصف الكواكبي المستبد بقوله: «المستبدّ: يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته». ” إنه ” عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً. ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل”.
مقدمة:
أبدأ مقالتي هذه بتحية إكبار وإجلال إلى شهداء الثورة الذين سقطوا دفاعاً عن الحرية والكرامة. وأحيي كل الأحرار من الجرحى والمفقودين والثكالى والأيتام والمهجرين واللاجئين السوريين والجنود الشهداء وكل هؤلاء الذين يتدافعون في ساحات النضال من أجل الحرية والكرامة.
لا يستطيع أحد أن ينكر اليوم بأن الخطاب الطائفي يتصدر الحوار السياسي في سورية وهو نوع من الخطاب الآثم الذي يقض مضاجع السوريين جميعاً ويهدد وحدتهم ودولتهم وعيشهم المشترك. وقد أصبح هذا الخطاب مع الأسف الشديد قدراً يفرض نفسه على رجال السياسة والفكر بامتياز. ولا يستطيع اليوم أحد أن ينفلت من مغبة استخدام هذا الخطاب الذي لطالما تمنى السوريون الأحرار أن يلغى من أبجدية حياتهم مرة واحدة دفعة واحدة إلى الأبد.
ومن المحزن اليوم أن يعود هذا الخطاب بقوة بعد أن قرر المجتمع السوري دفن هذا الخطاب وتدمير كل مبررات وجوده في مرحلة ما قبل الحركة التصحيحية القاتلة التي قادها حافظ الأسد حيث بدأت سموم الطائفية تفتك بالدماء الطاهرة للشعب السوري، وبدأت رياحها العاصفة تهب في اليوم لتهدد حياة السوريين واستقرارهم وأمنهم وتنذر بالقضاء على وحدتهم الوطنية وتفكيك دولتهم العتية.
لقد كان في ماضي الأيام مخجلا بالنسبة للسوريين استخدام مفهوم الطائفية واستخدام التسميات الطائفية في العلن، وكان حال السوريين شعور آثم بالخجل والإثم عندما يستخدمون هذه المصطلحات، حتى أنهم كانوا يعتبرون ذلك معصية لما في الطائفية والتعصب الطائفي من إثم عظيم. وكان يقدر للسوريين أن ينسوا الطائفية ودفنها بعد إبادة كل تجلياتها ومظاهرها وذلك بعد نصف قرن من نظام سياسي زعم بأنه بعثي الهوية علماني السجية، ولكن ومع الأسف الشديد كان هذا النظام يؤسس في الخفاء والعلن لملك أو لجمهورية ورائية تقوم على التجزئة والفصم وتأجيج المشاعر الانقسامية توظيفا لها في استمرارية النظام السياسي وديمومته.
والسوريون اليوم في مختلف طوائفهم يعيشون حالة من الحزن والخوف والقلق على رائحة النزعة الطائفية القذرة التي تهدد وجودهم وحياتهم. وهم يدركون بأن الانفجار الطائفي – لا سمح الله وقدر -سيعرض وجودهم السياسي ووحدتهم الوطنية للخطر. وما يؤسف له أن النظام السياسي القائم قد أوقد نار النزعات الطائفية ثم أججها فبدأت نذر الحرب الأهلية تلوح في الأفق القريب، وهو ما زال يتمترس خلف حصون الطائفية والمذهبية ومتاريسها التي لن يستطيع أن يحتمي بها إلى الأبد. ويلتقي النظام السياسي مع نزعات شوفينية مذهبية بالغة التطرف تريد ما أراده النظام من تقسيم وطائفية فاتحدت إرادة النظام بإرادة الفئات الضالة في تدمير مقومات الوطن الواحد وهدم أركانه العتية. وخير تعبير عن هذا التلاقي بين النقيضين قول الشاعر:
وقد يجمع الله النقيضين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا.
لقد عمل النظام السياسي القائم على تعزيز النوازع الطائفية منذ أربعين عاماً وهو منذ بداية الحركة التصحيحية يعول على خطاب أيديولوجي قذر وممارسات سياسية رعناء تولد الانقسامات الطائفية والنزعات المريرة وتعززها في المجتمع على مبدأ فرق تسد وقسم تهيمن وجزئ تسود واضرب على أنغام الطائفية والعشائرية والقبلية والإقليمية للمحافظة على سطوة النظام وهيمنة الاستبداد، وقد ترافق ذلك كله بعملية بث ثقافة طائفية وتجهيل ثقافي وطني أصبت الثقافة الحقيقة معه خطراً يهدد وحدة البلاد والعباد وينذر بإسقاط الدولة والكيان السياسي لسوريا التاريخ والحضارة والإنسان.
وفي عمق الخطاب الطائفي نجد اليوم تركيزاً على دور الطائفة العلوية الغامض في دورة الثورة وفي حركة المسار السياسي للحياة السياسية في سوريا، حيث تنبثق تساؤلات مروعة حول دور الطائفة العلوية في الحياة السياسية اليوم وموقفها من الثورة. والأسئلة التي تدور حول الطائفة العلوية كثيرة اليوم ومنها: لماذا لم تلتحق الطائفة العلوية بالثورة؟ وما هو موقف الطائفة كطائفة مما يجري من أحداث جسام في المنطقة؟ وهل ستبقى الطائفة العلوية في مربع السكون مما يجري من أحداث جسام؟ هل ستشارك في الانتفاضة الثورية؟ من يمثل هذه الطائفة؟ هل يقف أبناء الطائفة في حقيقة الأمر في موقع مساندة النظام؟ هل يساند أبناء الطائفة النظام طوعاً أم كرهاً؟ ما موقع الطائفة من الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد؟ هل تستأثر الطائفة العلوية بامتيازات سياسية ليست لأبناء الطوائف الأخرى؟ ما هي مكتسبات الطائفة العلوية من مسيرة الاستبداد السياسي لنظام الأسد خلال أربعين عاماً من الحكم الفردي المطلق؟ وهل تتحمل الطائفة وزر النظام وجرائم التسلط والاستبداد في سوريا؟ وهناك أسئلة كثيرة وكثيرة جداً يصعب تناولها في مقال واحد أو بحث منفرد.
وما يؤسف له أن الخطاب السياسي الذي يتناول هذه الأسئلة غالباً ما يقدم إجابات شعبوية ذاتانية مفرطة في تشاؤمها مبالغة في اتهامها للطائفة حيث يأخذ هذا الخطاب مكانه من حيث لا يدري أصحابه ومنتجوه في مركزية إنتاج الخطاب الطائفي نفسه والترويج له بما يعزز النزعات الطائفية عبر التخويف والتهويل وتقديم التصورات الخاطئة. وقد استفاد النظام السياسي نفسه من خطاب التهويل الطائفي الذي ينتجه مفكرون وسياسيون ثوريون ولكنهم لا يمتلكون القدرة على تحليل البعد الطائفي للنظام السياسي وللثورة السورية المباركة. ومن هنا يأتي اهتمامنا لتقديم صورة نريدها أن تكون تاريخية وموضوعية وبعيدة عن كل التحيزات المبطنة والمعلنة الخفية والظاهرة عبر منهج سوسيولوجي بالغ الأهمية والضرورة في هذه المرحلة التاريخية.
وإذا كانت مقالتنا هذه تلامس أكثر هذه الأسئلة تواتراً وانتشاراً وأكثر التعميمات حضوراً في الساحة الفكرية ـ فإنها تركز هذه على تقديم إجابات واضحة عن أسئلة تتعلق مباشرة بالعلاقة بين الطائفة والثورة، وأهمها: لماذا لم يلتحق العلويون كطائفة بركب الثورة؟ ما الذي أخرهم؟ ولماذا يتوجسون خيفة من الثورة؟ هل يناصرون النظام السياسي القائم بأكثريتهم؟ إلى أي حدد يتحمل العلويون بوصفهم طائفة أخطاء وجرائم النظام السياسي القائم.
تنطلق منهجية هذه المقالة من توظيف المدخل الاقتصادي الاجتماعي والتاريخي لأوضاع الطائفة العلوية ومسيرتهم السياسية وواقعهم الاجتماعي وموقفهم من الثورة بوصفهم شريحة اجتماعية من شرائح ومكونات المجتمع السوري. ومن المؤسف في حقيقة الأمر استخدام مفهوم الطائفة كأداة للتحليل حيث كنت أفضل استخدام المدخل الطبقي الاجتماعي في التوصيف ولكن استخدام المفهوم الطائفي أصبح شائعاًً ومستخدماً وموظفاً إعلامياً وسياسياً وفكرياً وهو مفهوم يفرض نفسه شئنا أم أبينا في الساحة الثقافية والفكرية في سوريا والعالم العربي.
وقد كنت أربأ بنفسي دائماً عن الحديث في قضايا الطائفية وإشكالياتها في بلدي، وقد كرست عدداً من أبحاثي على مدى السنوات الماضية في بحث قضايا التعصب والطائفية والعنصرية وحقوق الإنسان في دول الخليج العربي وغيرها من البلدان العربية، ولما كنت بعيداً أو ُمبعداً عن وطني آثرت ألا أتناول هذه القضية لما تفرضه من حساسية طائفية وسوء في الفهم. وما دفعني إلى الكتابة عن هذه القضية اليوم ليأتي لدواعي واعتبارات علمية سوسيولوجية ناجمة عن سوء فهم وتقدير لموقع الطائفة العلوية من الثورة.
وإذا كنت اليوم أكتب هذه المقالة فإن كتابتي هذه ليست تعبيراً عن موقف سياسي أو أيديولوجي فأنا لست من المعارضة ولست من أهل النظام ولست من الثوار مع أنني لطالما تمنيت أن أكون واحداً منهم، وإنما انتسب إلى عالم خاص يتمثل بالفكر السيوسولوجي الاجتماعي حيث أتحرى الحقائق وأبحث عنها بروح موضوعية لا تحيز فيها وانتساب ولا انتماء. وقد شكلت وجهات النظر غير الموضوعية إلى دور الطائفة العلوية من الثورة في سوريا محرضاً علمياً يدفعني إلى إضاءة هذا الموضوع بروح العلماء والمفكرين وليس باندفاعات السياسيين. فالتمسوا لي عذراً، إذ أنني شاهدت عشرات الندوات وعدد كبير من المقالات وعدد لا يقل من اللقاءات التلفزيونية التي تضع الطائفة العلوية في قفص الاتهام الثوري دون مبررات موضوعية لمثل هذه الاتهامات الجائرة والأحكام العابرة. وأردت أن أقدم تصوراً موضوعياً جديداً يقوم على أسس سوسيولوجية لتوضيح خريطة الطائفة العلوية في جغرافية الثورة السورية.
لقد أصبحت إشكالية العلاقة بين الطائفة العلوية والثورة موضوعاً للتداول والحوار الإعلامي المتواتر في قاعات الحوار وفي الندوات التلفزيونية والمناقشات السياسية والكتابات الصحفية. وأغلب هذه الندوات والحورات والمناقشات تتضمن إشارات مضمرة أو علنية أحياناً إلى تأخر الطائفة في الثورة وإلى تحميلها مسؤوليات وزر الجرائم التي ترتكبها السلطة ضد الثورة والثوار.
ومما لا شك فيه أن هذا التوجه في النظر إلى دور الطائفة العلوية يقوم على ثلاثة عوامل أساسية:
1- رأس النظام وعائلته وكثير من المقربين منه يتحدرون من الطائفة العلوية.
2- عدد كبير من المناصب العسكرية والأمنية في الجيش يتسنمها ضباط كبار من الطائفة العلوية.
3- نسبة كبيرة من أبناء الطائفة مجندون في الوحدات العسكرية المصنفة موالية جداً للنظام السياسي.
وهذه العوامل الثلاثة السلبية تضع الطائفة العلوية عفويا في قفص الاتهام، وذلك لأن الوعي العام البسيط قد يأخذ بهذه المعايير على أنها كافية لاتهام الطائفة نفسها بكل أطيافها ومكوناتها. وليس في ذلك لوم للوعي العام الذي يتصور – وبصورة غير موضوعية – أن الطائفة تمتلك النظام وأن النظام يمارس دوره في خدمة الطائفة، لأننا لا نستطيع أن نطالب الوعي العام بأكثر الإمكانية المعرفية التي ينطوي عليها. وهنا يكمن جانب من الإشكالية في طبيعة النظرة إلى الطائفة العلوية.
ولكن جوهر الإشكالية يكمن في وعي النخبة الفكرية والسياسية لدور الطائفة العلوية وماهيتها السياسية. ومن المأساوي في هذا الخصوص ألا يختلف وعي المثقفين كثيراً عن الوعي العام من حيث عدم القدرة على فهم دينامية العلاقة بين الطائفة والنظام وبين الطائفة والدولة، وهذا من شأنه أن يكون الأمر أكثر كارثية عندما ينحدر وعي النخبة والصفوة إلى مستوى الوعي العام وهذا ما نلاحظه اليوم في الخطاب الثقافي الطائفي بصورة واضحة. حيث لا يجري الفصل الموضوعي بين النظام والطائفة والدولة. فالطائفة مكون من مكونات الدولة بالضرورة ولكنها ليست من مكونات النظام السياسي القائم، وهذا ما يجب أن ندركه جميعاً حيث يتوجب علينا كمثقفين ومفكرين أي أنه يجب علينا أن ندرك دينامية العلاقة بين الطائفة وبين الدولة من جهة كما بين النظام السياسي وبين الطائفة من جهة أخرى.
وبالعودة إلى العوامل الثلاثة التي تؤسس لاتهام الطائفة بالنظام يتوجب علينا في أن ندرس كل عامل من هذه العوامل برؤية موضوعية لنرى بوضوح أن الطائفة كتكوين اجتماعي لا تتحمل مسؤولية هذه الوضعية السياسية المتأزمة في سوريا وليست معنية فيها بأكثر من الطوائف والفئات الاجتماعية الأخرى في ذات الوطن الواحد. وهنا يجب علينا أن نتحرى وضع الطائفة من منظور تاريخي اجتماعي وليس من منظور طائفي محض. فعندما يجري الحديث عن ضعف وتيرة الثورة في حلب يتم تحليل التلكؤ الثوري بصورة موضوعية أي لأمور اقتصادية اجتماعية وكذلك هو الحال فيما يتعلق بتأخر محافظات أخرى كالرقة مثلاً وطوائف أخرى لم تلتحق بركب الثورة حتى اللحظة. وهذا كله لا يعني أن هذه الفئات والطوائف والمحافظات تقف ضد الثورة بل يمكن الحديث عن ظروف موضوعية وملابسات كثيرة اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية تحول دون الالتحاق بصفوف الثورة. فلما لا نفكر أيضاً بالظروف الموضوعية التي تؤخر الطائفة العلوية عن اللحاق بركب الثورة. ومن هذا المنطلق المنهجي التاريخي سننطلق بتقديم تصور موضوعي لأوضاع الطائفة العلوية اقتصادياً وسياسياً وايديولوجياً وتفنيد أهم العوامل التي تشكل مقومات النظر إلى دور الطائفة العلوية في الثورة السورية المباركة:
1- رأس النظام وعائلته وكثير من المقربين منه يتحدرون من الطائفة العلوية:
الطائفة العلوية ليست هي التي أوصلت حافظ الأسد إلى السلطة ويعرف الجميع في سوريا أن السوريين جميعاً رحبوا بوصوله في البداية وهناك قوى سياسية حزبية وعسكرية وشعبية وعربية هي التي دعمت النظام السياسي الذي أسسه حافظ الأسد عبر ما يسمى بالحركة التصحيحية (وسأكرر ما أقوله كان الرأي العام في الطائفة العلوية رافضاً بقوة تولي الرئيس الراحل رئاسة الجمهورية والجميع كانوا يخافون من الردة العكسية لهذا المنصب حيث ستنسب أخطاء الحاكم إلى الطائفة ولكن لا حول للطائفة في هذا الأمر ولا قوة ومن المعروف أن الفريق الأكبر من الطائفة كان مناصراً ومؤيدا لصلاح جديد ضحية الحركة التصحيحية وأن النظام الجديد قام بعملية تصفية سياسية لأنصار جديد والبعثيين اليساريين وكان جلهم من الطائفة العلوية في ذلك الحين).
2- عدد كبير من المناصب العسكرية والأمنية في الجيش يتسنمها ضباط كبار من الطائفة العلوية:
وجود عدد كبير من الضباط في المراكز القيادية فرضتها مصالح النظام وليس مصالح الطائفة بدليل أن هؤلاء القيادين كانوا دائماً وما زالوا الطغاة الحقيقيين الذين مارسوا كل أشكال الإذلال والقهر والعنف ضد الطائفة العلوية: كل ضابط من أصحاب النفوذ كان رمزاً للاستبداد في قريته أو منطقته وقد أخذ دور الإقطاعي الكبير في المكان الذي يوجد فيه، وأمثال هؤلاء كانوا نقمة على أبناء طائفتهم وقد مارسوا كل أشكال الإذلال والاستعباد والتحكم برقاب العباد. هؤلاء الضباط هم أزلام النظام وأعوانهم انتقاهم كما انتقى مثلهم من الفئات والطوائف الأخرى للسيطرة والهيمنة.
3- وجود نسبة كبيرة من أبناء الطائفة في الجيش:
وجود نسب كبيرة من أبناء الطائفة في الجيش قصة قديمة ترتبط بأوضاع هذه الطائفة. فأبناء الطائفة العلوية من الفلاحين الفقراء جداً ليس لهم شأن بالصناعة والتجارة أراضيهم فقيرة وقليلة ونظراً لهذه الوضعية شكل الجيش منذ عهد العثمانيين ثم في عهد الفرنسيين ثم في العهد الوطني مصدر رزق لهم. فالعلويون لشدة فقرهم ينتسبون إلى الجيش ويعيشون من خلال الخدمة فيه ومع الزمن تحول الجيش بحكم العادة والفقر إلى مصدر حيوي من مصادر الرزق والتعيش والتطوع في الجيش أمر مرفوض في أكثر الأحيان من قبل سكان المدن وأهل الحرف والتجارة فالجيش هو عمل من لا عمل له. وهذا استمر في عهد الأسد مع بعض التشجيع فأبنا الطائفة العلوية عندما يتطوعون في الجيش يتطوعون ليس من أجل حماية النظام وليس ارتباطاً بالنظام بل يتطوعون من أجل ضمان عيشهم. ولكن النظام السياسي استغل هذه الظاهرة فجيشهم في وحدات عسكرية شديدة الولاء والولاء هنا عن عمليات غسل دماغ مستمرة تؤله الرئيس وأسرته.
وباختصار ليست الطائفة العلوية مسؤولة عن تكوين النظام وهي لم تأخذ بيد حافظ الأسد إلى الحكم. وهي ليست مسؤولة عن تجييش الطائفة وعسكرتها لمصالح النظام وتعيين ضباطها في مراكز هدفها خدمة النظام لا خدمة البلاد والعباد. وباختصار لا تتحمل الطائفة العلوية وزر النظام على مبدأ ولا تزر وازرة وزر أخرى.
الطائفة العلوية بين الوعي العام والوعي الموضوعي:
من المؤسف أن أغلب المفكرين الذين يتحدثون عن دور الطائفة العلوية في الثورة يتحركون في دائرة ما يسمى العقل العام أو الوعي الشعبي الدارج، وقلما يرتقي هذا الوعي إلى مستوى الوعي العلمي الموضوعي الذي ينطلق من فهم عميق لأوضاع الطائفة ودورها دون تحيزات ذاتية وتعميمات شعبوبة. ومرة أخرى نقول أن أغلب الآراء والأفكار التي تطرح في الندوات تتناول قضية العلاقة بين الطائفة والثورة وفق ما يسمى بالعقل الشعبي أو العقل العام وليس بالعقل الأكاديمي والفكري الذي يستطيع الفصل بين الطائفة والنظام السياسي ويتحرى العلاقة السوسيولوجية القائمة بينهما. وهذه الرؤية البسيطة والساذجة للطائفة فيما يتعلق بدورها لعبت دوراً كبيراً في تقصير أبناء الطائفة وتأجيل التحاقهم بالثورة. فأبناء الطائفة يتخوفون من الوعي الطائفي الشعبي أو العام الذي يحكم على طائفة لأن رأس النظام يتحدر منها. وأحياناً أميل إلى القول إن الشارع في كثير من الأحيان أكثر تفهما بطبيعة الطائفة العلوية من المفكرين المخضرمين في هذا المجال.
فالرؤية الذاتية المشبعة بالبعد الطائفي الكامن المستتر والخفي كثيراً ما تتجلى في مستويات عديدة نراها عبر شاشات التلفزيون وفي كثير من الندوات التي دارت حول الطائفة العلوية ومرة أخرى هذه النظرة محكومة بالرؤى الذاتية وهي بعيدة جداً عن الرؤية الموضوعية التي يجب أن يعرف بها المثقفون والمفكرون. ونظراً لغياب الرؤية الموضوعية لموقع هذه الطائفة وأوضاعها الاجتماعية والسياسية أريد أن أقدم رؤية موضوعية تأخذ بعين الاعتبار أوضاع هذه الطائفة ومكوناتها وموقعها المفترض من الثورة السورية.
النظام السياسي في سوريا عابر للطوائف:
أريد في البداية القول بأن النظام السياسي القائم ليس طائفياً وأعني بذلك أنه لا يقوم على طائفة واحدة ويضع نفسه في خدمة مصالحها، فهو نظام عبر الطوائف يقوم على ركائز التكوينات الطائفية والقبلية والعشائرية والإقليمية، ويوظفها جميعاً في مسار صولته وجولته واستبداده، وقد تكون الطائفة العلوية كبش الفداء مع أنها من أكثر الطوائف انخطافاً من قبل النظام لأمور كثيرة، منها: أن رأس النظام يتحدر منها. وإذا كانت الحسابات الطائفية وفق هذا المعيار فإن النظام السياسي القائم ضد الطائفة العلوية في مختلف الوجوه والتجليات. لقد لاحظت والجميع يعرف ذلك بأن نظام الأسد منذ القرن الماضي وضع نفسه في خدمة النخب الرأسمالية والبررجوازية في سوريا، ويلاحظ أصحاب الخبرة أن أكثر من 99% من القرارات والتشريعات اتخذت لمصالح التجار والفئات الغنية في المجتمع من صناعيين ومهنيين. وكل هذه التحولات لم تكن في مصلحة الطائفة العلوية لأنها طائفة فقيرة تعتمد على الزراعة البسيطة وأين هي من حكاية المال والسلطة والسطوة والنفوذ.
النظام السياسي إذا أردنا وصفه من زاوية طائفية نظام سني بالدرجة الأولى، مسيحي بالدرجة الثانية، وهو ليس درزيا أو علويا أو كرديا لأن الفئات البرجوازية وأصحاب المهن العليا والصناعية يتمركزون في الطائفة السنية والمسيحية على وجه التحديد. وحال الطائفة الدرزية لا يختلف كثيراً عن حال الطائفة العلوية من حيث التركيب الاجتماعي والبينة الاقتصادية ومن حيث الدور الاغترابي الذي مارسته السلطة ضد هذه الطائفة. ولو كانت الأمور في نصابها كان يجب على الثورة أن تنطلق من جبل الدروز ومن الساحل تحديداً لأن النظام القائم يشكل عدواً حقيقياً لهاتين الطائفتين وبالطبع لكل الفقراء والمسحوقين من الطوائف الأخرى. فالنظام القائم نظام يقوم على النفوذ والمصالح والسيطرة والهيمنة وليس على معيار ومقياس هذه الطائفة أو تلك وهو في دائرة فعاليته يستخدم كل الإمكانيات الطائفية والعشائرية والحزبية والعقائدية في تعزيز سلطته وهيمنته ونفوذه. فالسياسة لا دين لها ولا طائفة بل هي ممارسة للنفوذ والقوة والسلطة بأي معيار وأي وسيلة.
وعندما يوصف النظام بأنه نظام طائفي فهذه مغالطة في جوهر الأمر فالنظام نظام سياسي عائلي حزبي نخبوي يقوم على المصالح السياسية وليس على المصالح الطائفية، ولم تكن الطائفة في يوم من الأيام في جغرافيا الاهتمام السياسي للنظام إلا بوصفها أداة للتسلط والاستمرار.
اللوم الموجه إلى الطائفة العلوية:
نسمع كثيراً نوعاً من اللوم يتجلى في مختلف الخطب للطائفة العلوية لأنها لم تثر بعد ولم تلتحق بركب الثورة. وغالباً ما نسمع كلاماً مبطناً يتضمن نوعاً من التحذير والتهديد مثل كلمات (قبل فوات الآوان … الطائفة تتحمل وزر ما يجري ويجب على أبناء الطائفة أن يسرعوا في الالتحاق بالثورة لأنه.. الخ ). هناك كثير من الناس يتوسم خيراً ويعتقد أن الطائفة قد تلتحق بالثورة وإن ضباطاً علويين قد يحدثون انقلاباً أو انشقاقاً في الجيش (وبالطبع هذا أشبه بالمستحيل ألا إذا قامت فئة من الأسرة نفسها بهذا الأمر لأسباب كثيرة أمنية لسنا بصدد الحديث عنها). وفي كل الأحول يجري الحديث عن الطائفة العلوية كأنها شخص أو حزب أو منظمة أو مؤسسة يديرها شخص ويحكمها مجلس الإدارة وهذا خطأ كبير.
فالطائفة العلوية ليست كياناً سياسياً أو حزباً أو جماعة واحدة، بل طيف من أطياف السكان الذين يعيشون في المناطق الجبلية الساحلية ويعملون غالباً في الزراعة وهم بالمعنى السوسيولوجي الأعم طبقة من الفلاحين الذي يعملون في الزراعة. وما آل الأسد غير عائلة من الفلاحين حالفها الحظ في أن تكون في مركز السلطة والنفوذ في سوريا. ويمكن أن أعلن عن حقيقة في منتهى الأهمية بأن الطائفة العلوية هي الطائفة الوحيدة التي لا تمتلك تشريعاً مذهبياً خاصاً بها فكل المعاملات الخاصة بالزواج والملكية والتشريعات والإرث تخضع للمذهب السني في سوريا (بالمعنى المذهبي والقانوني الطائفة العلوية ليس لها كياناً مذهبياً منفرداً بل هي طائفة إسلامية تخضع لقوانين وأعراف المذاهب السنية في سوريا). وعندما أقول بأن الطائفة العلوية ليست كياناً سياسياً أو حزباً أو حتى طائفة بالمعنى القانوني فليس فيها سلطة دينية نافذة أو جامعة بل لا يوجد مؤسسة دينية البتة في الطائفة العلوية ولا توجد زعامات طائفية أو عشائرية فيها، وهي وفقاً لهذا التصور غير قادرة على اتخاذ قرارات سياسية ملزمة لأبناء الطائفة الذين يشكلون شيعاً وأطيافاً وفئات وطبقات مختلفة جداً ومتباينة جداً. فمن يقول إنه يجب على الطائفة العلوية أن تفعل كذا وأن تفعل كذا يعتقد أن الطائفة كيان واحد لها لسان واحد وقيادة واحدة وقوة مذهبية واحدة وكل هذا ليس صحيحاً أبداً. ولذا لا تلام الطائفة على موقف محدد وموحد بوصفها طائفة متميزة بقرارها ووحدتها.
عندما وصل الأسد الأب إلى السلطة كان الرأي العام بين أبناء الطائفة في حينها رافضاً ومعارضاً تولي حافظ الأسد لمنصب رئيس الجمهورية، وكان الرأي العام في الطائفة معارضاً ورافضاً وصول أي من أبناء الطائفة إلى السلطة لأن ذلك يحملها ما لا تستطيع أن تحتمل. وهذا ما تعانيه الطائفة العلوية اليوم حيث تحمل أخطاء النظام التي يرأسه بشار الأسد حتى اليوم.
كانت الطائفة العلوية قبل الأسد طائفة سياسية بمعنى أنها احتضنت تيارات سياسية ساخنة متعددة ولاسيما التيارات السياسية اليسارية مثل الأحزاب الشيوعية ورابطة العمل الشيوعي والناصريين والقوميين وجماعات سياسية يسارية داخل الحزب مثل جماعة صلاح جديد وغيرهم من التيارات السياسية.
عندما وصل نظام الأسد إلى السلطة عمل على قمع كل هذه التيارات السياسية وتدمير مكوناتها الاجتماعية، وقام بمحاصرة هذه التيارات السياسية التي كانت تشكل خطراًً على نظامه على مدى أربعين عاماً فأطفأ شوكة هذه التيارات السياسية وأخمد نارها وقتل الروح السياسية في الطائفة وقام بتصفية الفكر السياسي المعارض واليساري بصورة كلية وشاملة فقتل الروح السياسية للطائفة وأمات فيها كل عنفوان سياسي.
وقد عمل النظام خلال هذه الفترة على نشر أيديولوجيا جديدة في المنطقة تؤكد بان دور النظام الجديد يتمثل في حماية الأقليات ويغمز بشكل خفي على القناة الطائفية للعلويين ثم الدروز والمسيحيين. واستطاع فعليا أن يؤثر في قطاعات عديدة ولاسيما في مستوى الجيش حيث نشر أعوانه ومريديه وزبانيته.
ومن ثم عمل النظام السياسي على عسكرة الطائفة بامتياز وهذه العسكرة تأخذ جانبين أساسين: يتمثل الجانب الأول السيطرة على الطائفة بتحويل أغلب شبابها إلى جنود في الجيش حيث يتوجب عليهم الخضوع للنظام ورموزه وحمايته بالدرجة الأولى، ويتمثل الجانب الثاني في تكوين وحدات عسكرية خاصة مدجنة ومروضة تحمي النظام وتسهر على رعايته. نعم لقد حول النظام أبناء الطائفة إلى طائفة من الجند والحراس وطبقة الجند والحراس هي أكثر الطبقات امتهانا وضعة في المجتمع. ومما لا شك فيه أن النظام أعطى لنخبة من الضباط أبناء هذه الطائفة امتيازات في الجيش لضمان ولائهم، وهنا يمكن الحديث عن تمكين نخبة من الضباط العلويين في الجيش حيث أخذوا مكان الهيمنة في المراكز الأمنية والقيادات ولكن هذا لا يعني إعطاء امتيازات للطائفة. ويبقى لأصحاب التفكير أن يدركوا بأن العسكري هو جندي لحراسة النظام وأداة من أدوات القتال عند الضرورة فما هو الامتياز الذي يمكن أن تتمتع به طائفة من عسكرة أبنائها. فأصحاب المناصب والرتب من الطائفة العلوية كانوا وبالا على أبناء طائفتهم ويمكن تدبيج كتب كثيرة عن حقدهم على أبناء الطائفة حيث مارسوا كل أعمال الاستلاب والقهر والإذلال ضد أبناء طائفتهم.
لقد عمل النظام على تجهيل أبناء الطائفة وتدمير ثقافتهم السياسية، يعرف كثير من أبناء الطائفة أن مستوى التعليم في الطائفة انخفض بتأثير الدعوات المستمرة للشباب بالتطوع في الجيش حيث كانت الإغراءات تقدم للشباب برواتب جيدة وامتيازات (سرايا الدفاع سرايا الصراع) لا تقاوم، حتى جاء يوم وقد فرغت المدارس الثانوية من طلابها. هذه هي بعض الخدمات التي قدمها النظام للطائفة: تحويل الشباب إلى عسكر يتراكمون في منطقة ال 86 وعش الورور وغيرها من الحارات المهملة والضائعة في دمشق. وهؤلاء الآن جميعهم يشكلون طبقة مسحوقة فقيرة معدمة لا حول لها ولا قوة وهم كما يسميهم ماركس حثالة البروليتاريا ونسميها حثالة عسكر النظام الذين فقدوا كرامتهم وحريتهم وتعرضوا لكل أشكال الامتهان والاستغلال والقهر في مؤسساتهم العسكرية. إن إحدى الكوارث الكبرى للطائفة أن النظام عسكرها أي فرغها من أهل الفكر والثقافة والمعرفة. لقد كانت هذه العسكرة أحد المصائب الكبرى لأبناء الطائفة العلوية الفقيرة.
عمل النظام على قهر القيادات الروحية والزعامات التقليدية والزعامات الفكرية الحديثة في المنطقة فلم يبق فيها من يوقد ناراً أو يبني جداراً، وقد أفسد هذه القيادات ووضع بديلاً عنها حفنة من الجلادين والمتسلطين الذي أذاقوا أبناء الطائفة كافة أشكال الذل والمهانة على مدى أربعين عاماً من التسلط والاستبداد. بل رسخ النظام نوعاً من الإقطاع الجديد حيث جعل في كل قرية إقطاعياً جديداً مطلق الصلاحيات يفعل ما يشاء في قريته وهؤلاء الإقطاعيون الجدد غالباً ما كانوا وما زالوا ضباطاً كباراً من أصحاب النفوذ قاموا باحتكار الحلال والمال في القرية فنهبوا أراضيها وذلوا أهلها وامتهنوا أبناءها. فعلى مشارف كل قرية تجد فيلا ضخمة جداً لا يقتنيها إلا أمير أو سفير يكون صاحبها وساكنها هو إقطاعي القرية وعاهرها وسلطانها والحاكم المطلق فيها برخصة من النظام السياسي إذ يمتلك كل الأراضي بالقوة والعنف والسطوة والقهر.
تأثير هذه الوضعية على الموقف من الثورة:
في ظل الثورة لا يوجد اليوم صاحب رأي أو فكر أو زعيم أو قائد عشائري في الطائفة يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة ويعلن عن رأي مضاد للسلطة. ويتعزز ذلك بوجود الشبيحة من أبناء الطائفة في كل بيت وزاوية نتيجة مبدأ العسكرة والتجنيد المستمر على مدى أربعين عاماً.
لقد عمل النظام على خفض مستوى الوعي السياسي إلى حدوده الدنيا، واستطاع أن يروج شعارات ومقولات سياسية حزبية تارة وطائفية تارة أخرى جعلت من الصعوبة بمكان إيجاد أي صيغة من صيغ الاعتراض والرفض والتمرد والثورة بين أبناء الطائفة، فالأمن هنا بنيوي في كل قرية وفي كل زاوية وفي كل مكان والويل الويل لمن يظهر ولو شعورا معادياً للنظام حيث يكون مجرد الشعور المضاد كافيا للإجهاز والبطش. وفي غمرة الأحداث الثورية عرف النظام ببطشه الشديد بأبناء الطائفة فالعقاب داخل الطائفة يكون أشد بألف مرة على الفرد بالمقارنة مع ما يحدث مع أبناء الطوائف الأخرى.
ما أريد قوله أن النظام البائد لم يترك في الطائفة روحاً أو قوة أو اقتدار لتثور، وإذا كان قمع الثورة قد بدأ في حمص وحماه وإدلب ودرعا فإن هذا القمع الشديد كان قد بدأ منذ أربعين عاما بين أبناء الطائفة والجميع يعرف بأن سجناء الطائفة قضوا حياتهم حتى الموت في سجون النظام وأبرزهم صلاح جديد الذي قضى في سجنه شيخا كبيراً ومن الغرابة أن كل من سار في جنازته وضع في السجن أيضاً.
وليس من الضرورة التذكير بأن عددا كبيراً من المثقفين، لا بل من خيرة المثقفين العلويين وقفوا ضد النظام وعلى رأسهم أدونيس الذي دعا الرئيس إلى التنحي رفضاً للقهر وليس بالضرورة أن يعلن المثقفون العلويون عن هويتهم الطائفية عندما يكتبون. فهناك عدد كبير منهم يكتبون ويساجلون ويناهضون ويرفضون وهم يتحملون أكثر من غيرهم من العناء والضغط والإكراه.
وأريد فقط أن أقول بأن النظام ليس طائفياً بمعنى أنه ليس نظاماً علوي الهوية وإن كان رأس النظام يحسب على الطائفة بالضرورة، فإذا كان النظام يعول على طبقة من الجند العلويين في الجيش فإن الحلفاء الحقيقيين للنظام رجال الدين من السنة (حسون البوطي ورجال وزارة الأوقاف) وحلفاؤه المثقفون من السنة وما أكثرهم ومن المسيحيين وما أغزرهم ومن الدروز وغيرهم وحلفاء المال والصناعة من رجال السنة والمسيحيين بالدرجة الأولى. فأهل الثراء من العلويين هم آل النظام والمقربين منه وهذا يعني أنه لا وجود لأصحاب المال والصناعة من الطائفة العلوية، ولا وجود لرجال الدين وهم قلة في المشهد السياسي والثقافي. فالنظام وفق هذا المنظور هو سني بامتياز يوظف قسم كبير من الطائفة العلوية في حراستهم جميعاً.
إذا كانت الطائفة العلوية لا تثور لأن النظام قد خدرها وخطفها واستنزفها وفرغها من الطاقة والقدرة والقوة. والسؤال هنا لماذا لا يجري التركيز على حلب والرقة ودمشق وجبل العرب والمسيحيين وعدد كبير من المدن التي لم تثر حتى الآن. لماذا لا يجري التركيز على أهل السنة الوزراء والسفراء والمدراء والقادة والمحافظين ليستقيلوا الذين هم في أغلبيتهم سنة ودروز ومسيحيين …الخ.
ما أريد قوله إذا كان هناك من مانع يمنع شريحة اجتماعية من الثورة مباشرة فهناك موانع كثيرة تمنع الطائفة العلوية من الالتحاق بركب الثورة: الفقر، العسكرة، أيديولوجيا التخويف الطائفي، الهيمنة المباشرة على أبناء الطائفة. أعطيكم مثال شرائح كبيرة من أبناء الطائفة يعيشون من وظائفهم في الجيش والدولة وهم إن انقطعت رواتبهم شهر واحد تعرضوا للجوع والفاقة. وقد يقول قائل لماذا أليس هذا الأمر موجود في الطوائف الأخرى نقول بأن أهل المدن يعملون في الصناعة والتجارة ودخولهم لا يعتمد على الدولة ويضاف إلى ذلك الزخم الاجتماعي الذي يشكل فيه التضامن بين الفئات الثائرة أمناً اقتصادياً وجودياً , وقد يقول قائل هناك من يقدم الروح والرد تقديم الروح أسهل من مشاهدة الأطفال يتضورون جوعاً.
إنني لأجزم بأن الطائفة العلوية عانت من ظلم النظام وقهره أكثر بكثير مما عانته الطوائف الأخرى. فالشبيحة حركة من القتلة والمهربين الذين كانوا يعتدون على كرامة الناس وحياتهم ولدت وتطورت في الساحل السوري أي في منطقة تمركز العلويين منذ أكثر من ثلاثين عاماً ونيّف. وظلم الشبيحة وقهر الوصوليين وأصحاب النفوذ نال من كل عائلة ساحلية قبل الثورة. ونفوس الناس في الساحل متخمة بالألم والشعور بالعار والمهانة والتمييز أكثر بألف مرة مما نشاهده اليوم. هناك عدد كبير من الناس انتهكت أعراضهم وسلبت ممتلكاتهم ونهبت بيوتهم وطردوا من أراضيهم قبل أن تبدأ هذه الثورة المباركة. ولو كانت إمكانية الثورة قائمة لكان أهل الساحل السوري أجدر بالثورة وأكثر إلحاحاً في طلبها.
إنني أقدر بأن الأكثرية الساحقة من العلويين يرفضون الظلم والقهر والاستبداد وأحلامهم دائما كانت في نظام ديمقراطي علماني يحررهم من الطائفية والمعاناة والتمييز. فالطائفية لدى أبناء الطائفة بغيضة ومكروهة وهم تجرعوا مذاقها ومرارتها في مراحل تاريخية قديمة ولذا فهم من أكثر الناس رفضاً للطائفية وإيماناً بالحرية ومن هنا كانت أكثر التيارات اليسارية انتشاراً وحضوراً في الساحل السوري في السبعينات والثمانينات.
كل ما أريد أن أقوله بأن الطائفة العلوية في أعماقها مع الثورة وأن الأمهات في هذه الطائفة تبكي كل قطرة دم تسيل هنا وهناك. ولو كان الأمر يعود لأبناء الطائفة الأحرار لنافحوا عن أخوتهم الثوار بصدورهم وقلوبهم. فالثورة قد تكون مضمرة في الوجدان والقلب والروح. حتى هؤلاء الذين يسقطون اليوم في حمص وحماه من العسكر كانوا يتمنون السقوط في الجولان وعلى الحدود إنهم مأمورون مقتولون بأيدي النظام أو بأيدي الثوار.
لقد علمتني الخبرة والعيش في الساحل أن أبناء الساحل ليسوا طائفيين بل يكرهون الطائفية ويأنفونها ويرفضونها في السر والعلن والغياب والحضور. الوجدان العام لدى أبناء الطائفة هو إرادة العيش المشترك مع أبناء الوطن. والطائفة لا تتحمل وزر النظام لأن رأس النظام وثلة منه تنتسب إلى الطائفة والطائفة منهم براء. صدقوني بأن الطائفة ستلعن الظالمين لعن أبدية لا تحول ولا تزول. واسمحوا لي أن أعلن بأن الحس الطائفي لدى العلويين هو أضعف بالمقارنة مع غيرهم وذلك لغياب المؤسسة الدينية وغياب تأثير رجال الدين وبالأحرى غياب رجال الدين تقريبا والمعروف أن رجال الدين هم أكثر الناس بثاً للفكر الطائفي والتعصبي.
نعم توجد هناك شريحة من الطائفة ترتبط مصالحها بالنظام ارتباطاً حيوياً، وحالهم لا يختلف عن أحوال النخب المقربة من النظام من الطوائف الأخرى، فهناك أصحاب الامتيازات من أبناء الطائفة، وهناك المغرر بهم هؤلاء الذين تمّ استلابهم واغترابهم، وهناك الجنود الذين انتسبوا إلى الجيش وامتهنوه من أجل العيش وهم مكرهون على حمل السلاح في ظل النظام ولا يستطيعون عصي أوامره، هؤلاء جميعاً وحالهم حال الطوائف الأخرى لكل أسبابه الموضوعية في خدمة النظام.
أما سواد الناس من العلويين أكانوا أم سنة أم كرد أم مسيحيون أم دروز أم شيعة فإنهم ضد الظلم والظالمين ضد القهر والقاهرين. ولذا فإنني أطلب من أخوتي المثقفين والمفكرين والباحثين أن ينظروا نظرة موضوعية إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والمهنية للطائفة قبل لومها، وأسألكم دائما أن تأخذوا يعين الاعتبار الرؤية الموضوعية إلى التكوين الاجتماعي والسياسي للطائفة العلوية وغيرها من الطوائف، لأن الرؤية الذاتية الشعبية قد تكون وبالاً على وبال فكونوا عونا لأبناء الطائفة الأحرار كونوا معع أشرافها وأحرارها لا تكونوا عليها فيكفيها ما ذاقت وما تذوق من النظام. وحال الطائفة العلوية اليوم أنها بين المطرقة والسندان إذ هي بين مطرقة النظام وسندان التقصير وهي من هذا وذاك براء.
وأصدقكم القول بأن الأكثرية الساحقة من أبناء الطائفة يريدون نظاما عادلاً ديمقراطيا حراً، وهم في جوهر الأمر لا يتحملون وزر النظام لأن فريقاً منهم ارتبط وجودياً بالنظام كما هو حال غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى. فالطائفة العلوية ليست النظام السياسي بل هي امتداد بشري وإنساني وأخلاقي يجب ألا يختزل في نظرة ضيقة محدودة تضعه في قفص الاتهام وكفانا أن نحمل الطائفة ما لا تحتمل فهي باقية والنظام ذاهب والحياة مستمرة بإذن الله.
فأبناء الطائفة العلوية، كحال إخوتهم في مختلف الطوائف السورية، كانوا في الماضي وسيكونون الآن وفي المستقبل قوة منيعة ضد الأحقاد الطائفية والمذهبية، لأن أبناء هذه الطائفة تمرغوا في تراب هذه الأرض وتأصلوا في أعماقه، وتفانوا في حب هذا الوطن بكل ما ينطوي عليه من تاريخ وبشر وقيم، وهم يعرفون ويدركون بأن الثوار أنوار مضيئة في درب هذا الوطن، وهم يعلمون أيضاً علم اليقين بأن كل قطرة دم سقطت على أرض هذا الوطن ستكون شجرة سنديان كبرى تطهر هذا الوطن من رجس الاستبداد والقهر والتسلط والطغيان. بوركت دماء الشهداء الذين سقطوا من أجل الحرية والكرامة والوطن وتحية إلى الأحرار والثوار في كل مكان من وطننا الغالي سوريا.
إضافة جديدة على المقالة:
وباختصار العلويون الشرفاء اليوم يوجهون الشكر والتقدير لقادة الثورة الذين حرروا المجتمع من هذا السرطان الخطير المتمثل في نظام الطاغية بشار وابيه ، ويستنكرون الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد ضد الشعب والأمة وضد الطائفة العلوية ويعلنون في الوقت ولاءهم المطلق للقيادة الثورية الجديدة ويحيون جهودها، وهم على أتم الاستعداد للتعاون المطلق مع السلطات الثورية الجديدة.
العلوين اليوم يطالبون بمحاسبة جميع والقتلة والمجرمين والسفاحين من كل الطوائف وعلى الأخص المجرمون من الطائفة العلوية تحديداً وهم يرون بأن هذه المحاسبة ضرورية ,أساسية ولا بد منها ، وهم بالتالي يضعون كل جهودهم وطاقاتهم في مسار تعزيز الدولة الجديدة وعلى رأسها القائد أحمد الشرع. وهم في الوقت نفسه يطالبون بالمحافظة على أمنهم وحياتهم وسلمهم المدني ويطالبون الدولة الجديدة بتمثيلهم سياسيا واجتماعياً. وهم في ظل هذه المطالب المدنية بعين الاعتبار.
***
أ. د. علي أسعد وطفة
بروفسور سوري في جامعة الكويت- كلية التربية.