اخترنا لكم

إذا كان ابن مسرة قد تحّدث عن «علم المحن»، فإن «الآجري» في كتابه «أخلاق أهل القرآن» فضّل الحديث عن «علم النّعم»، وهما في الحقيقة علم واحد ذو وجهين منسجمين. وإذا كان الحديث عن علم المحن مقروناً بمفهوم «الابتلاء»، فإن الحديث عن "علم النّعم" مقرونا بمفهوم "النّعمة" باعتباره حالة الإنسان المترفّه، الذي يعيش دعة وسعة، وينعم بالفرح والسرور والأمن والسّلام. وإذا كان ابن مسرة قد أحجم عن الكتابة في علمه، فإن «علم النّعم» كان محظوظاً، حيث كتب فيه ابن أبي الدنيا [281 للهجرة] كتاباً سماه «الشّكر»، ثم جاء بعده الخرائطي [327 للهجرة] فكتب «فضيلة الشكر لله على نعمته، وما يجب من الشكر للمنعم عليه».

إن «علم النعم» هو في أعمق معانيه، علم إنساني له موضوعه ومفاهيمه ومنهجه، وإن كان لم يتميّز عند المسلمين علماً مستقلاً، لتردّدهم فيه، كما تردّد ابن مسرة في علم المحن أيضاً.

نعم، لقد نشأ «علم النعم» في أوساط المحدّثين، والسّبب في ذلك أن الآثار في الشّكر كثيرة، سواء في القرآن الكريم أو في السّنة النبوية، وعندما تحدّث الآجري عن «علم النعم» فلعلّه كان يقصد أن يجمع ما قيل في ذلك في إطار نظري معين، أو لعلّه قصد التّنبيه على ضرورة فعل ذلك، أو لعلّه كان يعني بالعلم، التّصور والتصديق كما كان شائعاً في تصوّر العلم في عصره، القرن الرابع. لكن الذي يبدو مرجّحاً أن الآجري، كان قاصداً أن يجعل من هذا العلم جسراً للتواصل ومبعدة للخلاف المُفرّق، فقد كان هذا الرجل يكره التعصب المذهبي، ما جعل مجايليه مختلفين على أي مذهب كان هذا الفقيه الكبير.

لكن عندما نتأمّل السّياق الذي حضر فيه الحديث عن «علم النعم»، أو «علم شكر المنعم» في كتاب «الآجري»، نجده علماً ناشئاً في سياق الحديث عما يمكن تسميته بالأمراض الخُلُقية التي يحملها بعض حملةُ القرآن الكريم، وينبههم «الآجري» إلى أن سبب ما يتخبطون فيه من علّات ترجع إلى عدم العناية بهذا العلم، لكن دون أن يفصل القول في ذلك. إذ غاية العلم عنده غاية أخلاقية.

رتّب كتاب «محمد بن جعفر الخرائطي» ما يُرَغِّب في الشّكر وَيُزَهِّد في الكفر، واهتم المفسرون بهذا العلم من خلال وقوفهم عند مفهوم «الحمد» الذي ورد في خمس وعشرين آية من القرآن الكريم، وأفاضوا في التّمييز بين الحمد والشكر، وكذلك صنع اللّغويون وأصحاب المعاجم في اهتمامهم بهذا المفهوم، لكن الذي سيرفع هذا المفهوم إلى درجة كبرى من التجريد هم المعتزلة، إذ معهم أصبح مفهوم «شكر المنعم» مفهوماً ذا دلالة خاصة، وسيتم تداوله داخل الحقل الكلامي بِلُوَيْنات دلالية تختلف بين المعتزلة والأشاعرة. وسيظهر مفهوم الشّكر في سياق فلسفي إسلامي مع الكندي في كتابه في الفلسفة الأولى، وابن رشد في المقالة الصغرى من تفسير ما بعد الطبيعة، اللّذين وجدا مناسبة فلسفية أرسطية طريفة ليقدما تصوراً لمفهوم الشكر يؤسس لثقافة الاعتراف.

قدّم المسلمون في ثنايا علومهم المختلفة مادّة علمية غزيرة في موضوع الشّكر والحمد، وهي مادّة قمينة بأن تؤسس عند المسلم ثقافة الاعتراف، وتنهض بهِمّة المفكرين إلى بناء «علم النعم» موضوعاً ومفاهيم ومنهجاً. وتظهر قيمة هذا العلم في أنّ شكر النعم امتحان وجودي، ومن فشل فيه أخفقت رسالته في الوجود.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 ديسمبر 2023

رحل الأسبوع الماضي عن عالمنا الفيلسوف الإيطالي البارز «توني نغري» الذي يعتبر أهم الوجوه الفكرية المجددة للماركسية في حقبة ساد فيها الانطباع بنهاية الأيديولوجيات وانهيار اليسار الثوري.

لم يكن «نغري» مثقفاً ماركسياً تقليدياً على غرار قادة الأحزاب الشيوعية الأوروبية وزعماء الحركات النقابية العمالية، ولم يكن يؤمن بديكتاتورية الشغّيلة والقضاء على الاستغلال الرأسمالي وسلطة البورجوازية الليبرالية. ومع أنه عاصر بقوة أحداث مايو 1968 في ايطاليا، بل انخرط في التنظيمات اليسارية الراديكالية العنيفة في بلاده بما قاده الى السجن سنوات عدة، ثم الى المنفى الباريسي، إلا أنه أدرك منذ السبعينيات أن الطوباوية الماركسية قد تجاوزها الفكر الفلسفي ولم تعد قادرة على صناعة التاريخ. بدلاً من نصوص إنجلز ولينين وماوتسي تونغ التي تلقفها المثقفون اليساريون في العالم، سعى «نغري» مبكراً إلى قراءة أعمال الفيلسوف الهولندي «سبينوزا»، التي اعتبر أنها تؤسس لمقاربة حداثية للسياسة تقوم على قوة المحايثة وديناميكية الجمهور، بدلاً من مقولات الليبرالية السياسية الحديثة التي انتهت إلى التأثير القوي على الفكرة الماركسية التي تحولت لاحقاً إلى عقيدة للدولة المركزية الشاملة.

لقد كان في قراءته لسبينوزا قريباً من أستاذه الفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز»، لكنه على النقيض منه ظل متشبثاً بالعمل السياسي الملتزم. وعلى عكس الكتاب الماركسيين الذين حاربوا بقوة حركية العولمة ووجدوا فيها التعبير الأقصى عن الرأسمالية «المتوحشة» (أطروحة سمير أمين )، تحمس لها «نغري» واعتبر أنها قلب كامل لمنظومة الحداثة الليبرالية وتفويض حاسم لنموذج الدولة القومية، الذي قامت عليها تاريخياً.

ما تكرسه ديناميكية العولمة التي أطلق عليها مقولة «الإمبراطورية» (التي تعود في أصلها إلى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد)، هو تشتت وتبعثر مركز السلطة، وغياب بؤرة محددة لها، بما يفتح آفاقاً جديدة للأطروحة الشيوعية الكونية، بدلاً من الدولة القومية السيادية التي هي الآلية الملائمة للرأسمالية الصناعية التقليدية. ما تغير مع العولمة حسب «نغري» هو انبثاق الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي، وتشكل نمط العمل غير المادي، وقيام السلطة الحيوية (مقولة ترجع لميشال فوكو التي تتخذ من الرغبات وأنماط تسيير السكان مادة للفعل السياسي).

ومن هنا ضرورة تغيير أدوات العمل السياسي، بالتخلي عن النسق الحزبي ووهم التغيير عن طريق المنافسة الانتخابية كما ساد لدى التنظيمات الاشتراكية الأوربية. المطروح حسب نغري هو الرجوع إلى منطق «الجمهور» بالمفهوم السبينوزي أي حركية الذوات الفردية المستقلة القادرة على بناء واقع مشترك يحدث التغيير النوعي المنشود على الأرض.

لقد أثرت هذه الأفكار بقوة في التيار الواسع الذي سمي بحركة العولمة البديلة التي انطلقت من بورتو الغرو واجتاحت كبريات المدن الغربية على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، قبل أن تنتقل إلى الميادين العمومية في وول ستريت ومدريد وباريس.. واتخذت أحيانا صيغاً تنظيمية سياسية على غرار «فرنسا المتمردة» في فرنسا و«بودموس» في إسبانيا و«سيريزا» في اليونان.

لقد بدا من الواضح أن هذه التنظيمات التي حقق بعضها مكاسب انتخابية ملموسة لا فرق بينها مع النزعات الشعبوية الجديدة الصاعدة، وإن كانت تختلف عن صيغها اليمينية باعتماد نمط من الشعبوية اليسارية دافعت عنها الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف القريبة فكرياً من توني نغري. ومع أن نغري تحمس بقوة لما سمي بالربيع العربي ووجد فيه بشائر عصر ثوري جديد سينتقل إلى العالم كله، إلا أنه اعترف بخطأ تقديره وقلت كثيراً إطلالاته الإعلامية في السنوات الأخيرة.

لم يؤثر نغري كثيراً في الفكر العربي رغم الترجمة المبكرة لكتابه الرئيس «الإمبراطورية» (التي لم تكن موفقة إلى حد بعيد)، وظلت الماركسية الكلاسيكية هي المهيمنة على قطاع واسع من اليسار العربي. عندما ناقشت قبل سنوات المفكر المصري الراحل سمير أمين حول أطروحات نغري قال لي إن قراءاته لنصوص ماركس زائفة ولا يمكن قبولها، كما أن تحليلاته للواقع العالمي هشة وعديمة الفائدة.

إن نقطة الخلاف الأساسية بين نغري وسمير أمين تتعلق بنموذج المثقف اليساري الثوري الذي ظل الماركسي المصري متشبثا به ولو ضمن مقاربة جديدة للنزعة الجنوبية عالم ثالثية، في حين اعتبر نغري أن عصر العولمة هو حقبة الفرديات الفاعلة التي تمارس نشاطها من خلال الشبكات المفتوحة في سعي حثيث للتحكم في الديناميكية الأفقية الكونية التي لا سقف لها ولا حدود.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 ديسمبر 2023 23:32

* بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل

* إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة» وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة

من دون شك، نحن نعيش في عالم مفتوح ومكشوف على كل الميادين والجهات، وذلك بفضل تطور تكنولوجيا وسائل الاتصالات والإعلام عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأقمار الاصطناعية، والذكاء الاصطناعي، بحيث يأخذ الضخ الإعلامي مداه الأقصى ويصل إلى المجتمعات كافة، متخطياً كل الحدود الجغرافية والسياسية. ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي التالية: كيف يمكننا أمام هذا العصف الإعلامي التمييز بين الحقيقة والكذب؟ وماذا يدفع الناس إلى الكذب وتشويه الحقائق؟ وهل يمكن تبرير حجب الحقيقة أو تزييفها لدواعي الخير؟ وبشكل أوضح، هل يمكننا أن نعيش من دون أن نلجأ إلى الكذب في سبيل غايات شريفة؟ من حيث المبدأ، إن الحقيقة يجب أن تقال وتُعلن وليس فقط أن تُعلَم؛ ولكن الحياة الغنية بالتجارب عبر التاريخ علّمتنا أن الشر قد يكون أحياناً خادماً للخير، كما أن الألم قد يكون وسيلة للشفاء.

حول هذا الموضوع الراهن أبداً خصصت المجلة الفرنسية «Question de philo (سؤال في الفلسفة)» عددها الصادر في خريف العام الحالي 2023 تحت عنوان «مقاومة الكذب- هل نستطيع العيش مع الحقيقة؟».

إذن، ما الذي يدعونا إلى الكذب؟ وما الذي يمنعنا من العيش مع الحقيقة في حياتنا اليومية؟ ومن دواعي الكذب الخشية من الأحكام الظالمة وعدم التفهم والتجاهل والإبعاد. لذلك، إن الفرد يصنع لنفسه صورة معينة يحتمي وراءها، ولكن هذه الصورة قد تُلزمه وتدفعه أحياناً كثيرة إلى الكذب. وثانياً، الخشية من أن يُظهر الفرد نقاط ضعفه، وذلك لأننا بشر وطبيعتنا تدفعنا إلى الخضوع لإغراء الآخرين لكي يقبلوا بنا حتى لو اضطررنا أحياناً إلى الكذب كي تكون لنا قيمة أمام الآخرين. ثالثاً، قد نكذب لكي نعيش معاً بشكل أفضل بحسب المحلل النفسي Pascal NEVEU في كتابه «الكذب للعيش معاً بشكل أفضل»، ورابعاً، إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة»، وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة وذلك لأنها من الممكن أن تؤذي المعنيين بها. بالنسبة إلى أفلاطون، إن الحقيقة هي غالباً ما تكون جارحة بالنسبة إلى سامعها كما بالنسبة إلى قائلها. ولذلك، فإن كل مجتمع يستند إلى كمية من الأسرار والأكاذيب. ولكن، كون الحقيقة جارحة ومضرة هل يستدعي أن يكون سبباً كافياً كي لا تُقال أبداً؟

رابعاً، التوهم بخلق حياة خاصة، حيث إن بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل. وهناك أشخاص يستطيعون التعايش مع الكذبة طيلة حياتهم. وبحسب المحلل النفسي Pascal Neveu فإن الكاذب يعيش، عبر، ومن خلال نظرة الآخر إليه، ويحاول أن يكون منظوراً من الآخَر بوصفه شخصاً مختلفاً ويريد أن يكون معروفاً من قبل الجمهور.

ومقابل هذه الأكاذيب المذكورة أعلاه، هناك أكاذيب يمكنها أن تحمينا تجاه الحقائق الجارحة وتسهم في تجميلها أحياناً، وبالتالي يمكننا تسميتها «الأكاذيب الحميدة»، التي تهدف إلى فعل الخير. من جهة الأخلاق والدين، إن الكذب يقضي بأن يموّه الإنسان فكره بقصد الخداع. وهذا القصد يميز الكذب عن الاستعمالات الأخرى الخاطئة للكلام والمقبولة بهدف التسلية والتنويع. وبهذا المعنى، فإن الكذب يعدّ بمثابة عيب أو خطيئة من قبل التقليد الفلسفي والأخلاقي والديني حتى لو كانت بعض أشكال الأكاذيب مشروعة من قبل بعض الفلاسفة، ومنهم بنجامين كونستان في مناظرته مع كانط حول «حق الكذب». على هذا الأساس، فإن الأخلاق والدين يميزان تقليدياً ثلاثة أنواع من الأكاذيب: 1- الأكذوبة المرحة التي تطلق من أجل الدعابة أو من أجل السخرية. 2- الأكذوبة المفيدة أو الخدومة بعيداً عن الأذى. 3- الأكذوبة المؤذية وهدفها إيذاء الآخر ويمكن تسميتها «الخبيثة»، وهي الأخطر في نظر الأخلاق والدين في الشرق والغرب. في هذه الحالة، إن غالبية أكاذيبنا قد تكون بمثابة أفعال ارتكاسية وغريزية نلجأ إليها لنحمي أنفسنا. ولكن هل هذا يبرر هذه الأكاذيب؟

أمّا علم النفس الاجتماعي فيحسب خمسة دوافع للكذب كشكل من أشكال إخفاء المتكلم لفكره وهي: الحفاظ على صورته وإظهارها، والإقناع للحصول على ميزة إضافية، وتجنب النزاعات (بطريقة دبلوماسية)، وعدم إزعاج محاوره من خلال التعاطف، وتغطية أو تبرير غيابه. وهنا يبرز نموذجان من الانفعالات: السلبي: الخشية من أن ينكشف الشخص بوصفه كاذباً والشعور بالذنب. أما الإيجابي الذي يغلب غالباً لدى الكاذب المعتاد: فهو الشعور بلذة الكذب. ومع هذا النوع، الكاذب يصبح سيد انفعالاته.

أما من جهة علم الاجتماع فيمكننا أن نميز نوعين من المواقف تجاه الكذب: 1- الأكاذيب الأنانية التي تسمح للشخص بتقديم صورة حسنة عن الذات أو بحماية صورته في نظر محاوره، وذلك من خلال المبالغة في مزاياه وإخفاء عيوبه، والحصول على ميزة إضافية أو فرصة عمل، أو بيع شيء لا يحتاجه. وكذلك يتجنب عقاباً أو نزاعاً أو قطيعة. 2- الأكاذيب الغيرية: هنا نكذب كي نجنّب الألم أو الإزعاج أو من أجل سعادة الآخرين. على سبيل المثال، نتحاشى الحديث عن ما يقال عنهم أو عن طريقة لباسهم. ولكن بعض علماء النفس يسمون ذلك «الأكاذيب الدفاعية»؛ لأن الهدف منها حماية علاقتنا بالآخرين. أضف إلى ذلك، هناك دوافع مختلفة تدعونا إلى اللجوء إلى الكذب وتسمح، بنظرنا، بحمايتنا تجاه الآخر، يمكننا تصنيفها بحسب خطورتها: أكاذيب مزيفة لدى الطفل وعفوية ومن دون أية قصدية مؤذية؛ وهذه يمكن ربطها بإبداع الطفل الطبيعي. وأكاذيب - رغبات تبحث عن نكران الواقع، وهذا ما يدعو إلى الكبت وغير مقبول (يمكن أن نكذب على أنفسنا)، وأكاذيب غيرية هدفها حماية الآخرين (الابن، الصديق، الحبيب...)، وأكاذيب نفعية أو خدماتية تهدف إلى اكتساب خير ما أو خدمة ما أو الحفاظ على حب أحد ما أو تجنيب عقوبة معينة. وأخيراً الأكاذيب العدوانية التي يغذيها الحقد والحسد وهدفها الإيذاء.

وفي ختام هذا الموضوع، لا بد من الاستشهاد بأحد المهتمين الاختصاصيين بالتحليل النفسي Pascal Neveu مؤلف كتاب «mentir pour mieux vivre ensemble (نكذب كي نعيش معاً بشكل أفضل)»، حيث يعدّ أن الكذب يشكل جزءاً من حياتنا فيقول: «الكذب هو كوني ويشكل جزءاً من حياتنا. وإن الطفل يتعلمه باكراً، وحتى الحيوانات تعرف استخدامه. فمع أطفالنا ورب عملنا وفي بيتنا الزوجي نحن نكذب جميعاً لأسباب مختلفة: كي لا نقول الحقيقة أو كي نخفيها من خلال ممارسة الكذب بإغفال أو بعفوية، أو للحصول على صداقة معينة وعدم فقدانها... نحن في الوقت نفسه فاعلون وضحايا ومتواطئون مع أكاذيبنا. لماذا نحن نكذب؟ أين ومع مَن تعلمنا الكذب؟ ما الغاية من أكاذيبنا؟ هل هي عوامل سلام أو مولدة نزاعات؟ هل نحن قادرون على كشفها وبأية وسائل؟ وهل نضع لأنفسنا حدوداً؟ ومن دون الحكم على الكذب أو شيطنته وأيضاً من دون تقييمه يجب التأمل حول ماهية الصدق، وما هي الحقيقة؟ ومَن هو الذي يمتلك الحقيقة؟ وما علاقة الكذب مع الأنا؟ ومتى نتوقف عن التمييز بين الواقع والكذب؟ إن إقامة سلسلة للكشف انطلاقاً من ثلاث فئات كبرى من الأكاذيب قد تفيدنا بوصفها إنذاراً من أجل فهم ما إذا تركنا عالم الكذب كي نحمي أنفسنا أو من أجل الغرق في رفض وجودنا».

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنيةن يوم: نُشر: 20 ديسمبر 2023 م ـ 06 جمادي الآخر 1445 هـ

في كتابه الصادر مؤخراً بالفرنسية تحت عنوان «التاريخ العالمي للفلسفة»، يتناول الفيلسوف الشاب فنسان سيتوت الإشكالية المنهجية المألوفة في تاريخ الفلسفة، حيث يتم عادة التأرجح بين مقاربة داخلية نصية تحصر الفلسفة في الموروث اليوناني وتأويلاته وامتداداته اللاحقة، ومقاربة خارجية تربط الفلسفة بالسياقات الحضارية والاجتماعية وترى أنها رصيد مشترك بين الثقافات الإنسانية الكبرى.

من الواضح أن سيتوت يتبنى الرؤية الثانية، لكن من منظور جديد ومتميز. فلئن كان ينفي المركزية اليونانية الغربية في الفلسفة (أطروحة هيغل- هايدغر)، إلا أنه ينطلق في الآن نفسه من العلاقة المعقدة بين ثلاثة أنماط من التشكلات الثقافية الكبرى عرفتها كل الحضارات الأساسية وهي الدين والفلسفة والعلم. في هذا السياق، يقف المؤلف عند ثماني حضارات كبرى هي: اليونان والرومان والإسلام وأوروبا وروسيا والهند والصين واليابان، معتمداً معيارين أساسيين لانتقاء العوالم الحضارية التي عرفت الثلاثية المذكورة، وهما: الاستمرارية التاريخية والنوعية الكيفية.

فإذا كانت الحضارة اليونانية عرفت بالممارسة الفلسفية التي تكرس المنحى المفهومي وتربط الحقيقة بالبرهان العقلي والبناء المنطقي، إلا أن هذا التوجه لم يكن خاصاً بالثقافة اليونانية، بل هو نمط من النزوع النظري الذي عرفته الحضارات الأخرى. كل الحضارات طرحت أسئلة ثلاثة جوهرية هي: من ماذا يتشكل العالم؟ وما هو الخير والشر؟ وما هو المسلك الذي يجب على الإنسان اتباعه في طريق العيش؟

إن هذه الأسئلة الثلاث تحيل إلى مقاربات مختلفة هي الأنطولوجيا (مبحث الوجود) والأكسيولوجيا (مبحث الأخلاق) والباراكسيولوجيا (مبحث الممارسة).

وفي كل حضارة تبرز أنواع ثلاثة من الطرق المنهجية للرد على هذه الأسئلة: إما بالرجوع إلى التقاليد والمعتقدات والرواية المقدسة (الدين)، أو باعتماد مسلك الاستدلال البرهاني (الفلسفة)، أو باختيار طريقة التحقق التجريبي والصياغة الصورية (العلم).

ويبدو أن سيتوت يتبنى المنهج الوضعي التاريخي المعروف لدى أوغست كونت بقانون الحالات الثلاث، ولو من زاوية جديدة، معتبِراً أن كل حضارة تمر بثلاث مراحل متتابعة في المسار الفكري.

- المرحلة ما قبل الكلاسيكية: التي تهيمن فيها المعتقدات الدينية.

- المرحلة الكلاسيكية حيث تنفصل الفلسفة عن الخطاب الديني.

- المرحلة ما بعد الكلاسيكية التي يهيمن فيها العلم الصوري التجريبي على الحقل الثقافي.

وإذا كان يحسب لسيتوت خروجَه من المقاربة المركزية اليونانية الغربية في تصور الفلسفة وتاريخها، فإنه ظل سجين الرؤية الوضعية التاريخانية التي تفصل جذرياً بين الدين والفلسفة والعلم حتى ولو كانت جذور هذه التشكيلات الثقافية مشتركة. إن هذه الرؤية تنبع من المركزية الثقافية التي ينتقدها لكونها تعتبر الحالة الوضعية خط اكتمال المسار الحضاري، وترى في الفلسفة خط القطيعة مع الدين، في حين أن الأمر هنا يتعلق فقط بالحضارة الغربية وليس بثقافات كونية أخرى يقترن فيها المقدس بالمفهوم والأنساق الرياضية الطبيعية.

ولنكتفِ هنا بالإشارة إلى أعمال مروان راشد التي بينت أن مسار الفلسفة في التاريخ الإسلامي تقاطع مع المباحث الكلامية والممارسات العلمية التجريبية. لم تكن هذه العناصر الثلاثة متنافرة أو متعارضة، بل إن الحركة الفلسفية الحقيقية تمت من داخل الحوار الكثيف المتواصل مع الفكر الديني، بما ولد الإشكالات الخاصة بالفلسفة الإسلامية الوسيطة، سواء من داخل علم الكلام (علم الكلام الفلسفي الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته)، أو من داخل الفلسفة (الفلسفة الإلهية لدى ابن سينا وفلسفة الإشراق اللاحقة). كما أن نظريات اللغة والكلام في التقليد الإسلامي كانت وثيقة الصلة بالفكر الرياضي والعلمي (مثل ارتباط نظرية الجوهر الفرد في الطبيعيات أو الأحوال البهشمية بالجبر ونظريات الحركة والضوء).

بل إن مناهج كتابة تاريخ الفلسفة الغربية نفسها تخلت عن هذا الفصل الصارم بين الدين والفلسفة والعلم، باعتبار أن الأنساق الفلسفية الكبرى قديماً وحديثاً كانت في أغلبها صياغات برهانية لمضامين عقدية أو لاهوتية، كما أن حركة العلم تسبق عادة المقاربات الفلسفية، إلى حد أن دومنيك ديزانتي يقول إن كل فلسفة تستبطن علوم عصرها، وكل تحول كبير في النظر الفلسفي تم من داخل الثورات العلمية الكبرى.

وبقي السؤال التقليدي مطروحاً: هل تشكل تفكير فلسفي حقيقي خارج المسار اليوناني- العربي - الأوروبي عبر نصوص الحكمة والتأمل والتفكير الأخلاقي التي لا تخلو منها ثقافة إنسانية كبرى، أم أن الفلسفة كما كان يقول هايدغر تتحدث بلغة الوجود وتعتمد المفهوم والبرهان أداةً مميزة؟

سؤال نعود إليه لاحقاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 ديسمبر 2023

 

في القرن التاسع عشر عندما كان العثمانيون والعرب يريدون التقدم ويلتمسون سبيله كان الحديث عن أوروبا باعتبارها النموذج المبتغى من الحداثيين والإصلاحيين. وإنما كانت مشكلة المشاكل في هذا الوعي ذاته أنّ أوروبا كانت قارة الإغارة والاستعمار. وما أمكن الوصول إلى بعض التجاوز للمشكل إلاّ عندما ظهرت الحركات الاستقلالية التي تريد إخراج الأوروبيين من الديار بالقيم المستعارة من أوروبا نفسها! أمّا مصطلح أو مفهوم الغرب السياسي والحضاري فبدأ شيوعه في القرن العشرين عندما تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ أوروبا مرتين في الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945). وقد استند هذا الدعم إلى الهويتين النسبية والحضارية. فالأميركيون والكنديون والأوستراليون من أصولٍ أوروبية محفوظة ومراعاة وإن خاضوا صراعات ونزاعات للاستقلال السيادي والسياسي عن تلك الأصول. وعلى كثرة النقاشات في علاقة الأصل بالفرع الذي صار أهمَّ وأقوى بكثير؛ فإنّ استتباب المصطلح (=الغرب) بعد الحرب الثانية إلى جانب اعتبار الأصول، علته الضرورات الاستراتيجية حيث ما عادت أوروبا قادرة بمجموعها على الوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، كما لم تستطع من قبل الصمود في وجه ألمانيا النازية. رمسفيلد الوزير البارز في إدارة بوش الابن، ثم دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق سمّيا أوروبا القارة العجوز وهما يقصدان عدم القدرة على الدفاع عن النفس والحاجة إلى أميركا (الحلف الأطلسي) في ذلك، وفي الوقت نفسه يتجرأ بعض الأوروبيين على الخروج على إرادة الولايات المتحدة في مسألة مثل الحرب على العراق، ومثل بعض المواقف المتمايزة كما في النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني أو قضية الشرق الأوسط!.

قبل أربعة أشهر صدر للبروفسور ماك سويني كتاب نقدي عنوانه «الغرب - تاريخ الفكرة وتطوراتها». وفي الكتاب نقد كبير للتمييز الذي يمارسه «الغرب» تجاه الحضارات الأُخرى منذ عصورٍ وحتى اليوم. فحتى عندما كانت أوروبا مسيحية كانت تعتبر نفسها مميَّزةً دينياً وإثنياً على الصينيين والهنود والمسلمين. وفضلاً على أن كل حضارة تعتبر نفسها مميزة؛ فإنّ الحديث قبل الأزمنة الحديثة كان يدور حول «أوروبا» في الغالب وليس حول «الغرب». أما أوروبا باعتبارها «هوية» مميزة فقد بدأ التفكير فيها في زمن النهضة بعد القرن السادس عشر، والارتباط بالتراثين اليوناني والروماني. ويلفت المؤرخون للدولة القومية إلى أنّ فكرة أوروبا حتى باعتبارها «قومية» لقيت دفعاً مع حركة الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن التاسع عشر وقد تطوع أوروبيون من مختلف البلدان (نموذج اللورد بايرون!) إصغاءً لنداءات الوحدة الأوروبية والهوية الأوروبية الواحدة والمستمرة منذ حضارة الإغريق!.

مسألة «الغرب» مختلفة، وتكونت في القرن العشرين، والعامل الرئيسي فيها الولايات المتحدة، وقد بدأت قرابية واستراتيجية ثم صارت في الحرب الباردة حضارية ومباراة في «التفوق الأخلاقي» على ما وراء الستار الحديدي بالحريات وبالديمقراطية وحتى بالنجاح الرأسمالي! ولا يزال الأمر يتطور حتى سقط الاتحاد السوفياتي - كما سقطت أسوار أريحا في العهد القديم -، وطوّر هنتنغتون فكرة الحضارة اليهودية - المسيحية التي تتبارى معها حضارات أخرى لن تلبث أن تنضمّ إليها حتى في القيم الحضارية باستثناء الإسلام الذي يملك تخوماً منبعةً مع الحضارة الغالبة مغمسةً بالدم!.

صورة «الغرب» المعاصر رغم تردّي الصورة في اصطدامها بالواقع، تلتقي مع الصورة الأوروبية عن الذات في ما بين زمان النهضة والأنوار وزمان الاستعمار. وكتاب سويني يذهب إلى أنّ الصورة متضمنة في نظام الفكر الأوروبي والغربي حتى اليوم. وصحيح أن الكاتب الألماني شتيفان فايدنر في كتابه «ما وراء الغرب»، يعالج مسألة التفوق والتمييز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ لكنه يرى معالم باقية لذلك ظهرت حتى في الحرب الروسية - الأوكرانية!.

وما عدنا في حاجةٍ إلى تلمُّس معالم أو مضامين مستبطنة بعد الحرب بين إسرائيل و«حماس»؛ فقد ظهر ذلك بأجلى وضوح ولثلاث جهات: الاستثناء لإسرائيل واليهود باعتبارهم أقلية مهددة بالفناء أو الإفناء من أعداء السامية - والحضارة اليهودية - المسيحية التي ينبغي حفظ عاملها الأول - وحضارة التحرر والنضال والاستنارة والتي قادها اليهود ضد النازية وفي المدارس النقدية كما بدا في بيان يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني البارز. وصحيح أنّ كثيرين غربيين من أنصار إسرائيل يبدأون أحاديثهم بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ لكنهم ما يلبثون أن يقولوا إنهم يهود (بلينكن) أو صهاينة (الرئيس بايدن). وما قالت وزيرة خارجية ألمانيا في حديثٍ مع «العربية» إنها يهودية أو صهيونية، لكنها ما أنكرت أنّ إسرائيل استثناء وأن مدنييها هم بمعنًى من المعاني أغلى من مدنيي غزة وأطفالها. بيد أنّ الإعلاميين الدوليين والعاملين في المؤسسات الإنسانية العالمية بدوا مروَّعين أكثر بسبب الفيتو الأميركي على المشروع العربي في مجلس الأمن والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية!.

غوتيريش الأمين العام للأُمم المتحدة معني بوحدة المعايير في مجلس الأمن وفي القانون الدولي. وعندما حاول أحد الإعلاميين أن يلفت انتباهه إلى أنّ «حماس» هي التي بدأت الحرب، أدان غوتيريش ذلك بشدة وطالب «حماس» بإطلاق سراح المحتجزين. لكنه تابع قائلاً: لا يجوز التوقف عند هذا التصريح ضد هجوم «حماس»، بل لا بد من النظر في أحوال المدنيين بغزة في الشهرين الأخيرين، حيث تُزالُ كل آثار الحضارة وإنسانية الإنسان.

مسألة: «الحضارة» وهي عارضة في إجابة غوتيريش، تعيدنا إلى «الغرب» ومفاهيمه الحضارية والإنسانية والتي صارت قوانين نافذة في ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان. لا يقبل غوتيريش ولا رئيس «الأونروا» ولا رئيس الصليب الأحمر ازدواجية المعايير. أما السياسيون «الغربيون» فلا يعتبرون هذه القوانين والتنظيمات ساريةً على قدم المساواة، وفي حسبانهم أنّ هذه القوانين نافذة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وشعبها، لكنْ لا يصح إنفاذها لدى الأطراف الأُخرى المتصارعة مع الكيان المحتلّ لأنهم لا ينتمون إلى الحضارة اليهودية - المسيحية أو حضارة الأمل والتحرر والتنوير. ولا يحتاج الأمر إلى تخمينٍ كثيرٍ فالاختلاف هنا في الحقيقة هو اختلافٌ في «القيمة الإنسانية» التي يتشارك فيها الغربيون مع شعب إسرائيل مهما احتلّ ومهما مارس، ولا يتشارك فيها مع الآخرين حتى لو كانوا أطفالاً لا يعرفون معنىً للنزاع كله.

حضارة الغرب شأنها في ذلك شأن حضارة أوروبا من قبل تبدو مقاييسها الآن ذاتية وليست عالمية أو إنسانية!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 01 جمادي الآخر 1445 هـ - 15 ديسمبر 2023 م

 

صراعات الناس لا سيّما الحضاريّة منها لم تنبعث من الخواء

في أغلب الحروب التي أدمت وعيَ البشريّة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين يدّعي المتحاربون أنّهم يحاربون من أجل أسمى القضايا وأشرف القيَم. أشدُّ الحجج تأثيراً تلك التي تقترن بالهويّة الجماعيّة، وفي طليعتها صونُ الأرض، وحمايةُ العرض، والدفاعُ عن وجود الجماعة، والذودُ عن الدِّين. أمّا الحجج الأضعف فتلك التي تتعلّق بشرعيّة المصالح، وضرورات التوسّع، ومقتضيات الازدهار. ليس غريباً عن وضعيّتنا البشريّة الاقتتالُ في سبيل إعلاء الذات الجماعيّة، سواء على مستوى القضايا المقترنة بالهويّة الجماعيّة، أو على مستوى المسائل المرتبطة بشرعيّة المصالح. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في مثل الأوضاع المأسَويّة هذه ينبثق من ضرورة التفكّر الهادئ في مسألة العنف: هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف تسويغاً فلسفيّاً يجعلنا نرضى به سبيلاً وحيداً إلى فضّ الخلافات ومعالجة الاختلالات وتقويم الاعوجاجات وتهذيب أهواء النفس الغضبيّة الفرديّة والجماعيّة؟

تقاتل الناسُ في القديم من الأزمنة، وما برحوا يتقاتلون حتّى اليوم، وفي ظنّهم أنّ الاحتراب السبيلُ الوحيدُ الذي يُنقذ الكرامة الإنسانيّة ويفرض العدالة الكونيّة فرضاً مطلقاً. بيد أنّنا ندرك جميعاً في قرارة أنفسنا أنّ العنف لا يولّد سوى العنف. إن بعض الفلاسفة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإغريقيّ هيراقليطُس الأفسُسيّ (القرن السادس قبل المسيح) عاينوا الاحترابيّة (polemos) في جميع مظاهر الحياة. فتصوّروا الوجودَ كلَّه مفطوراً على التصارع، وعاينوا في التناقض المضطرم انبعاثاً جديداً وبركةً كونيّةً تُعزّز فينا النموّ والابتكار والازدهار. كذلك سار على هذا النهج فلاسفةٌ معاصرون من أبرزهم هيغل (1770-1831) الذي جدل الواقعَ كلَّه جدلاً تشابكيّاً حيويّاً، فتَصوّر الكائنات كلَّها في تقابلٍ وتعارضٍ وتواجهٍ يُفضي إلى استيلاد أعظم الأمور فرادةً وتألّقاً وسموّاً.

لا أعتقد أنّ العنف الذي تناوله الفلاسفة على هذا النحو يشبه العنف الذي يرتكبه أهلُ الأرض حين يتقاتلون تقاتلَ الإفناء العبثيّ المقيت. بين عنف التناقض الخلّاق وعنف الاحتراب المهلِك بونٌ شاسعٌ أو مسافةٌ ضوئيّةٌ لا يجوز الاستخفاف بها. ذلك أنّ الاختلاف الشرعيّ بين الكائنات الإنسانيّة قد يُفضي إلى بعضٍ من التكامليّة المثمِرة. أمّا الخلافات الجسيمة التي تنبثق من تشنّجات الهويّة الجماعيّة وتضارب المصالح المنفعيّة، فتعيث في الأرض فساداً وإهلاكاً. لذلك آن الأوان لكي نتدبّر مظاهر العنف الاحترابيّ هذا تدبّراً عاقلاً يتيح لنا أن نستدلّ على مناهجَ أخرى من معالجة الخلافات الحادّة التي تنجم عن الواقع الجيوثقافيّ والجيوسياسيّ والجيواقتصاديّ الراهن.

لن أدخل في متاهات التنظير الآيديولوجيّ الذي يرسم خريطة الأرض رسماً استبداديّاً يعزّز لكلّ ذاتٍ جماعيّةٍ منعتَها وحقوقَها ومصالحَها الخاصّة، ويحرم الذات الجماعيّة الأخرى من أدنى مقوِّمات العيش الكريم. أصابتنا مثل هذه المحَن في القديم من الزمان، وما برحت تُصيبنا اليوم في جميع بقاع الأرض. قد يكون الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ من أخطر الأدلّة على انعدام سبيل المباحثة العقلانيّة الهادئة واستفحال النهج العنفيّ الإباديّ. ولكن إذا نظرنا في مسار الصراعات العالميّة، تَبيَّن لنا أنّ العنف غالباً ما يسبق التحاور والتفاوض والتسالم الرزين المبنيّ على الحكمة والعدالة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نناصر طريق الحكمة العقلانيّة قبل أن نؤيّد العنف الإهلاكيّ. حين يبلغ الظلم أشدّه في بعض الأوضاع، يُزيَّن لبعض الناس أنّ الحلّ الوحيد الاحترابُ الإفنائيُّ حتّى يخضع الظالمون، ويرتدع المعتدون، ويتوب الضالّون.

غير أنّ صراعات الناس، لا سيّما الحضاريّة منها، لم تنبعث من الخواء الزمنيّ والصفاء التاريخيّ. ثمّة أخطاء جسيمة وارتكابات مشينة وانتهاكات مقزّزة تغاضى عنها حكماءُ المسكونة، فأفضت بنا إلى الانحرافات والمظالم والأوبئة الأخلاقيّة المستشرية. إذا ثَبت أنّ الحروب لم تحلّ المشكلات العالقة، وأنّ العنف أذلَّ الناس المتحاربين إذلالاً كيانيّاً، وأنّ كلَّ صراعٍ سيُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى الاسترخاء والتهادن والتفاوض والتبادل والتسالم، ولو في حدود المقدار التفاعليّ الحضاريّ الأدنى، فلماذا يستميت الناسُ في الاقتتال العبثيّ؟ ولماذا يهيّجون النفوس من أجل معاداة الآخرين وتكفيرهم وإسقاط كرامتهم الإنسانيّة اللصيقة بماهيّتهم الأصليّة؟ ولماذا نواظب على تسويغ شرعيّتنا الاستبداديّة بواسطة تأجيج التناقض المميت وإدامة الصراع المهلك وتأبيد الحقد الحضاريّ؟

أعتصم بالاستفسارات الفلسفيّة الجذريّة هذه، وأنا على يقينٍ من أنّ الأجوبة عسيرةُ المنال، إذ إنّنا نُتقن فنَّ التقيّة والتورية والحجب والإخفاء حتّى نُظهر ما لا نُضمر، ونُعلن ما لسنا به مقتنعين. أقولها بصراحةٍ وشفافيّةٍ: ما الأفضل والأجدى والأرقى؟ أن نكافح كفاحَ المقاومة اللاعنفيّة التي تستلهم قيَم الروح الإنسانيّ السامية، على طريقة غاندي ونيلسون مانديلا وأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيّين؟ أم أن يَفني بعضنا بعضاً على نهج الإبادة العبثيّة التي تُزهق الكيان الإنسانيّ وتُفسد الحياة وتُعدم الرجاء الحضاريّ الكونيّ؟ هل يعتقد الناسُ حقّاً أنّ الرصاصة أشدُّ وقعاً في مسار التوبة الروحيّة الإنسانيّة من وداعة الاعتصام السلميّ وعزيمة الاحتجاج الفكريّ وحكمة المقاومة الثقافيّة الصابرة؟

لستُ على البراءة الساذجة التي تجعلني أنتظر ثمارَ النهج الاعتراضيّ السلميّ منذ المظاهرة الاحتجاجيّة الشارعيّة الجماعيّة الأولى. ولكنّ خبرة الحياة علّمتنا جميعاً أنّ ضحايا الاقتتال العبثيّ يُدفنون في تربة العقم الحضاريّ، في حين أنّ شهداء المقاومة السلميّة يُزرعون زرعاً في وعي البشريّة ويُثمرون رقيّاً بهيّاً في تضاعيف الزمن الآتي. ما دام الناس سيموتون موتاً من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة، فلماذا الموت العبثيّ؟ ولماذا الاقتتال الإفنائيّ الذي يُفسد الحسَّ الإنسانيَّ الحضاريَّ في المعسكرَين معاً؟ إذا كان لا بدّ من الموت بسببٍ من تعنّت الظالم، فليَمت الإنسانُ شهيدَ المقاومة السلميّة التي تهيّئ للناس أرقى سبُل التسالم الكونيّ المقبِل. أمّا موتُ الاقتتال الحاقد فلا يُفضي إلّا إلى تفاقم الاحتراب الإهلاكيّ.

لا سبيل إلى الانعتاق من حروب الهويّات المتشنّجة والمصالح المتضاربة إلّا بواسطة الارتداد الكيانيّ إلى فلسفة اللاعنف التي نادى بها عقلاءُ الأرض وحكماؤها، ومنهم الفيلسوف الفرنسيّ جان-ماري مُلِر (1939-2021) الذي ناصر نهج غاندي السلميّ، وبنى نظريّةً فلسفيّةً متناسقةً متكاملةً في تأصيل اللاعنف على جميع مستويات الحياة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وأنشأ معهد البحث في حلّ الصراعات اللاعنفيّ (Institut de recherche sur la résolution non-violente des conflits)، وشارك في إنشاء المجلس العالميّ المشرف على أوّل جامعةٍ تُعنى بتدريس اللاعنف في العالم، ومركزها الأساسيّ في لبنان. في عرفه أنّ حكمة الحضارات الإنسانيّة تختزن كنوزاً لا ثمن لها من المبادئ والقيَم والمناهج والسبُل والخطط التي نستطيع أن نستثمرها في فضِّ أعتى الخلافات الكونيّة استعصاءً على الحلّ السلميّ.

وعليه، أعتقد أنّه من واجبنا أن نبحث بحثاً هادئاً عن الطريق السلميّ اللاعنفيّ الأمثل الذي يُفضي بنا إلى التفاوض الحازم من أجل فكّ عقَد التاريخ، وشفاء الوعي الجماعيّ الشقيّ من أسقامه الآيديولوجيّة المتراكمة. في مطلق الأحوال، يبقى التسالم الودود والتفاوض المستمرّ والتعاون الصادق من أفضل السبُل التي تتيح لنا أن نتوب عن معاصينا، ونهذّب أخلاقيّاتنا، ونصيب خصمنا بالعدوى الروحيّة الصالحة، ونرتقي معاً في معارج النضج الفرديّ والجماعيّ. حتّى لو لم نحصل كلُّنا على جميع المطالب التي نَعدّها من صميم حقّنا الحضاريّ الأسمى، فإنّ التسالم الراقي الذي نختبره مع خصمنا يفعل فيه فعلَه الاختماريّ البطيء حتّى يرتدّ ارتداداً جميلاً إلى سبيل المعيّة الحضاريّة البهيّة. ليس الزمن المتباطئ بالمعثرة المانعة، إذ إنّه من الأفضل لنا أن نطوي الأيّام مقاومين مقاومةً سلميّةً في سبيل ارتداد خصمنا الظالم، عوضاً عن ضياع الزمن عينه في احترابٍ إفنائيٍّ عبثيٍّ يُفسِد فينا جوهرَ إنسانيّتنا.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 11 ديسمبر 2023 م ـ 27 جمادي الأول 1445 هـ

الحجاب والبرقع ما بين الديانات الثلاث

لقد ارتبط الحجاب والنِقاب في أذهان الأفراد بالدين الإسلامي، ويذهب الكثيرون إلى اعتبارهما أحد رموز التّطرف والمغالاة، ولهذا اقتُرنا بظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب خاصة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لكن الحقائق التاريخية تكشف لنا ما يتم التعتيم عليه، وهو أن الحجاب سابقٌ للدين الإسلامي وأنه موروثٌ اجتماعي سابق للديانات التوحيدية في حدّ ذاتها، فنجده في منحوتات تعود لحضارات متعددة كالحضارة الآشورية، والأكادية، والسومرية، والهندية. لكن بالطبع دون أن نغفل اختلافه بين هاته الحضارات نظرا لاختلاف ثقافة اللباس من عصرٍ إلى عصرٍ ومن مجتمعٍ الى آخر.

ومن هنا سيفهم القارئ أن الحجاب هو موروثٌ اجتماعي مرادٌ به التمييز بين المرأة الحرة وغيرها من الغانيات والإماء، لكن السؤال المطروح هو، هل أن البُرقع أو النِقاب يُعد موروثا اجتماعيا أيضا؟

للإجابة عن هذا السؤال، نقول، إن الديانات التوحيدية الثلاث لم تخرج عن السياق الاجتماعي وأن وجوب ارتداء الحجاب هو ليس الا التزاما بالمعايير الاجتماعية لا الدينية، ولهذا سنوضح موقع الحجاب والنقاب في الأديان التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.

الحجاب والنقاب في الديانة اليهودية

يُعد الحجاب في الديانة اليهودية واجبا على النساء وقد جاء في الاصحاح 24 من سفر التكوين، وهو من أقدم الأسفار اليهودية، “أن امرأة سألت عبدا مَن هذا القادم، فقال لها سيدي، فأخذت الحجاب وتغطت”.

كما نجد في نصّاً في التلمود مفاده “يغطي الرجال رؤوسهم أحيانا ويكشفونها أحيانا أخرى، ولكن النساء يغطين رؤوسهن دائما ولا يغطي البنات الصغار رؤوسهن البتّه”، كما وردت عبارة أخرى في التلمود تأمر النساء اليهوديات بارتداء الحجاب وهي كالآتي: “على بنات إسرائيل ألا يخرجن بشعر مكشوف”، هذا بالنسبة للحجاب.

أما بخصوص النقاب أو ما يسمى البُرقع، فإنه كان منتشرا أيضا في المجتمع اليهودي باعتباره شكلا من أشكال الحجاب السائدة آنذاك وكدليل على هذا نجد في نشيد الإنشاد الرابع لسليمان النبي نصّ مفاده: “لشدة ما أنت جميلة يا حبيبتي عيناك من وراء نقابك كحمامتين”.

أما في سفر التكوين فنجد: أن امرأة اسمها ” تامار” روت أن امرأة رأت رجلا جاء لجز الغنم فنزعت عنها ثياب ترملها و تبرقعت وتلفعت”، وهنا نستنتج أن الحجاب والنقاب في الديانة اليهودية كانا مفروضين على اليهوديات آنذاك وهناك من يعتبره من العادات القَبلية، أما اليوم فلا نجده إلا عند بعض الطوائف اليهودية المتشددة كجماعة “الحريديم” التي يطلق عليها “طالبان اليهود”، حيث تفرض هذه الجماعة على نسائهم ارتداء ” “الفرومكا” باعتباره نقاب اليهود العائد، كما أصدرت هذه الجماعة فتوى بمنع استعمال الهواتف أو بيع الألبسة القصيرة، أو تجوّل النساء عاريات الرأس، وقد أثارت هذه الفتوى الجدل بين من يساندها ويعتبر احتشام المرأة اليهودية من أساسيات التشريع اليهودي وبين من يعارضها ويعتبرها ضربا من ضروب الرجعية والعودة إلى المنطق القَبلي العشائري.

الحجاب في المسيحية

أما بالنسبة للحجاب في المسيحية فقد ورد ذكره ستّ مرات في الإنجيل، وهو لم يرد على لسان السيد المسيح لذلك لا يعتبره المسيحيون إلزاما من الناحية الدينية، بينما نجد في رسائل “بولس الرسول” عكس هذا، فقد وصف عدم تغطية المرأة لرأسها بالأمر المشين، كما ذكر في الإصحاح الحادي عشر في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، ” احكموا في أنفسكم: هل يليق بالمرأة أن تصلّي إلى الله وهي غير مغطاة”.

ولا يرى المسيحيون حرجا في عدم ارتداء النساء الحجاب لأن ذكره اقترن بوجوب ارتدائه في الصلاة وليس الحياة اليومية، بينما يعتبرونه إلزاما للبتوليات اللواتي يكرّسن أنفسهن لخدمة الكنيسة والصلاة اقتداء بالسيدة العذراء.

لكن ما لاحظناه وجود اختلاف بين المدارس الدينية المسيحية وهذا الاختلاف حالة طبيعية نظرا لتعدّد الطوائف والمراجع الدينية، ناهيك أيضا عن اختلاف التأويل فنجد مثلا: في كتاب الدسقولية، وهو يُعد أحد أهم المراجع التعبّدية والتشريعية والسلوكية للكنائس الأولى وللكنيستَين الأرثوذكسية المصرية، والأثيوبية أو الحبشية كما يطلق عليها، ويضم هذا الكتاب تعاليم رُسل المسيح الاثني عشر، وقد تضمّن من جملة الوصايا إلزام المرأة المسيحية الحجاب فقد ورد فيه القول التالي: “لا تتشبهن بهؤلاء النساء أيتها المسيحيات إذا أردتن أن تكن مؤمنات. اهتمي بزوجك لترضيه وحده. وإذا مشيت في الطريق فغطي رأسك بردائك فإنك إذا تغطيت بعفة تُصانين عن نظر الأشرار”.

وفي قول آخر نجد: “كون مشيكِ ووجهك ينظر إلى أسفل، وأنت مطرقة مغطاة من كلّ ناحية”، وهي نفس التعاليم التي وردت في المراسيم الرسولية، والمجموع الصفوي.

وهي بدورها من التعاليم الأرثوذكسية وهذا يمكن أن يفسّر سبب اختلاف حجاب راهبات الأرثوذكس عن راهبات باقي الطوائف، باعتبار أن أتباع الأرثوذكسية أكثر التزاما بتعاليم المسيحية وأكثر تشددا في تطبيقها، فنجد أن حجاب راهبات هذه الطائفة يتميز باللون الأسود واتساع الملابس تخاله لباس نساء الشيعة لو لا وجود الصليب على صدور الراهبات.

الحجاب في الإسلام

يعتبر العديد من المسلمين الحجاب فرض على النساء بموجب الآية 31 من سورة النور: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾، لكن يذهب العديد أيضا إلى اعتبار أن الحجاب حتى وإن كان فرض فإن النّص الديني لم يعطِ شكلا واضحا له لأن الغرض من الآية الكريمة هو الاحتشام وتغطية الجسد بما يتماشى مع ثقافة اللباس في ذاك العصر، كما يرى البعض أن تحريم الألوان أو فرض الملابس الفضفاضة هو اجتهاد من العلماء.

لكن مع بداية الحداثة وانتشارها في العالم الإسلامي أصبح ارتداء الحجاب مؤشّراً لتخلّف المرأة، فعزفت النساء في أغلب المجتمعات الإسلامية إلى نزع الحجاب تماشيا مع الثقافة الجديدة التي سادت مجتمعاتهن، لكن مع أواخر سبعينات القرن الماضي ومع القيام الدولة الإيرانية بتوجهها المذهبي أصبح الحجاب فرضا ورمزاً للأصالة الدينية، وتحوّل في مرحلة متقدمة خاصة مع جماعات الإسلام السياسي سواء كان في تركيا أو في تونس أو في غيرها من المجتمعات التي برزت فيها حركات الإسلام السياسي رمزا للانتماء السياسي الجَمعي، كما أصبح الحجاب في عصرنا الحالي رمزا يبرز التمايز العرقي من خلال طريقة ارتداء الحجاب أو حتى شكله.

أما بالنسبة للنقاب فهو يُعد رمزا للإسلاموفوبيا سواء كان في المجتمعات الغربية، أو بعض المجتمعات التي لم تألف وجوده كثقافة للباس وارتبط سياق ظهوره بأسباب سياسية كما حصل في تونس، فالعديد من التونسيين رغم انفتاحهم وإيمانهم القطعي بحرية اللباس إلا أنه في مرحلة ما بعد الثورة واعتبروا النقاب وسيلة لتخفّي الإرهابيين كما حدث حين هرب الإرهابي “أبو عياض” من جامع الفتح في تونس، أو حينما فجرت منقّبة نفسها قرب دورية للشرطة في وسط العاصمة تونس، لذلك اعتبره التونسيون من المعيقات الأمنية والتواصلية في نسيجه الاجتماعي.

وأخيرا لا يمكن أن نربط الحجاب بالإسلام أو بغيره من الديانات نظرا لأنه اجتماعي بالأساس والأديان بصفة عامة لم تخرج عن السياق الثقافي للمجتمعات التي نشأت فيها، ويبقى شكل اللباس وتوارثه من صنع الإنسان في إطار تأسيسه لخصوصيته الثقافية.

***

صابرين الجلاصي

أستاذة وباحثة تونسية في علم اجتماع الأديان والانثروبولوجيا الدينية

عن موقع الحل، يوم الجمعة, 8 ديسمبر 2023

 

في المقالة الماضية عرجتُ على وجهة نظر الفيلسوف المعمّر إدغار موران حول «العقل المحطّم»، وبما أنه فيلسوف لم يوقفه العمر عن المثابرة في متابعة الأحداث، فإنه أدلى برأيه كغيره من الفلاسفة الآخرين في أحداث غزة مع إسرائيل الدائرة الآن.

قبل ذلك أبدأ بمادة نُشِرت قبل أيام في «بي بي سي» لخَّصت آراء 4 فلاسفة من تحرير جوي سليم حول الحرب في غزة نشرها موقع الوكالة.

البداية بموقف الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، إذ تصر على ضرورة أخذ تعبير «إبادة جماعية» على محمل الجد، لأنه يصف ما يحدث بالفعل؛ فالهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضاً السكّان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير، وتُعدّ بتلر واحدة من عشرات الكتّاب والفنانين اليهود الأميركيين الذين وقّعوا رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن يدعون فيها إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وهي أيضاً عضو في المجلس الاستشاري لمنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام». وكانت بتلر نشرت مقالاً في 13 أكتوبر (تشرين الأول) في «لوس أنجليس ريفيو بوكس»، تحدثت فيه عن أهمية وضع سياق تاريخي للأحداث الأخيرة، قاصدة بذلك هجمات «حماس» في السابع من أكتوبر. وقالت مؤلفة كتاب «قوة اللاعنف» إنه «لفهم كيفية وقوع حدث ما، أو ما هو معناه، يتعين علينا أن نتعلم من التاريخ. هذا يعني أنه يتعيّن علينا توسيع رؤيتنا إلى ما وراء اللحظة الحالية المروعة، من دون إنكار رعبها، في الوقت ذاته الذي نرفض فيه السماح لهذا الرعب بأن يختزل كل الرعب الموجود»، وأضافت بتلر أن «وسائل الإعلام المعاصرة، في معظمها، لا تفصّل الفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن في شكل تفجيرات وهجمات تعسفية واعتقالات وقتل».

أما الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك؛ فقد تحدث بحفل افتتاح الدورة الخامسة والسبعين من «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب»، واستغرب من الحضور أنه «في اللحظة التي يذكر فيها المرء الحاجة إلى تحليل الخلفية المعقدة للوضع، فإنه يُتهم، كقاعدة عامة، بدعم أو تبرير إرهاب (حماس)»، ومنذ بدء هجوم «طوفان الأقصى»، شبَّه الفيلسوف السلوفيني، المعروف بوصفه واحداً من أشهر المفكّرين المعاصرين الأحياء وأكثرهم تأثيراً، حركة «حماس»، باليمين الإسرائيلي الحاكم في الوقت الراهن (كل ذلك بحسب «بي بي سي»).

أما الفيلسوف الجنوب أفريقي ديفيد بيناتار، فانتقد ما سمّاه «لوم الضحية»، أي «تحميل إسرائيل مسؤولية هجمات (حماس)»، وقال إنه كان يجب «التفكير في العواقب المحتملة لعدم قيام إسرائيل بضرب حماس (أو ضربها بشكل غير كاف) رداً على المجزرة». ورأى مؤلف كتاب «الأفضل ألا نوجد إطلاقاً - الضَّرر الكامن في المجيء إلى الوجود»، أن «إسرائيل ليست مستعمرة لأي بلد ولم يتم إنشاؤها على هذا الأساس»، مضيفاً أن الإسرائيليين «لديهم روابط الأجداد مع هذه الأرض».

بينما على موقعه الإلكتروني، دوّن الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين نصّاً مقتضباً بعنوان «صمت غزة». وكتب أغامبين، الذي عُرف باهتمامه بموضوعات متنوعة تراوحت بين فلسفة اللغة وفلسفة الأخلاق والقانون والأدب: «أعلن علماء من كلّية علوم النبات في جامعة تل أبيب، بالأيام الأخيرة، أنهم سجلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تصدرها النباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزة لا توجد ميكروفونات!».

بينما نشرت الوكالات خلاصة الرسالة التي وقَّعها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، رفقة 3 آخرين، حول «التضامن المفهوم مع إسرائيل واليهود في ألمانيا»؛ أن «هجوم (حماس) مذبحة مع النية المعلنة للقضاء على الحياة اليهودية بشكل عام». يعلق السيد ولد أباه على هذا الموقف: «ورغم تشبث هابرماس بالنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، فإنه في الحقيقة لم يسعَ يوماً إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جلياً في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية».

بينما بدا موقف إدغار موران أكثر حكمة، حين كتب خلاصته عمران عبد الله: «فيما يشبه وصايا الحكماء المعمرين، يواصل عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران (1921) دق جرس إنذار الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا»، منبهاً بشكل خاص إلى مخاطر تفاقم العنف والجهل على مصير البشرية، دعا المفكر الفرنسي - صاحب كتاب «هل نسير إلى الهاوية؟» - لاتخاذ موقف و«عدم نسيان القضايا العادلة»، مشيراً إلى أنه يتخذ موقفاً يتمثل في القلق الإنساني تجاه أولئك الذين يعانون «وفي الوقت الحالي هم في غزة، أن الأمر ربما لا يكون سهلاً؛ ففي الواقع ليس الجميع ضد الحرب، وهناك أوقات يجرفنا فيها التيار، ويطلب منا أن نختار جانباً ونتخذ موقفاً. أنا أتخذ موقفاً من قلق الإنسان. إننا نعيش في عالم من عدم اليقين، حيث مصير الإنسان أمر منسيّ تماماً»، وفسر ذلك بقوله «لم تتعرض الإنسانية قط لمثل هذا القدر من المخاطر، لأنه إذا انتشرت الحرب على نطاق واسع واستُخدمت الأسلحة النووية وغيرها، فإننا لا نعرف إلى أين نتجه؟ لأي تراجع، أو لأي انحطاط. إننا بحاجة لمواجهة هذا العالم الذي يبدو فوضوياً، الفوضى تحمل في طياتها قوى التدمير والإنشاء (التكوين)».

اللافت الذي يستحق التوقف أن موران دعا إلى «عدم كراهية العدو»، حين قال: «خضتُ الحرب (العالمية الثانية) من دون كراهية للألمان. كنت أكره النازية وآيديولوجيتها، لكنني أعتقد أن المسألة الحقيقية هي عدم الاستسلام لهذه العملية الحتمية التي تؤدي إليها الفكرة الخاطئة بأننا نواجه وحوشاً دائماً، أو أناساً من الطبقة السفلية، أو حيوانات».

الخلاصة أن مواقف هؤلاء الفلاسفة بقدر ما تتناقض، وبقدر ما يختار كل من أولئك موقعه من الطرفين، فإن ما يهمنا إرباك الحدث بوصفه خارج التحديد النهائي. إنه جزء من أزمة فوضى، وجذره أن القصّة التي أسست للحرب الدموية الدائرة الآن تتعلق بتاريخ مشحون بالعداوة والتطاحن بين «حماس» وإسرائيل. إن الحدث بمعنى آخر يرمز لفشل في المقاربة المتجاوزة، وآية ذلك أن الفيلسوف المعمّر موران يفضّ الاشتباك بين كراهية العدو وحربه، ويدلل على ذلك بتجربته لا الفلسفية فحسب، وإنما التاريخية في الحرب العالمية أيضاً. إن هذه الآراء توضح مستوى تشظّي الحدث وعدم اقتصاره على الصراع على الأرض ولا باستعمال السلاح، وإنما بجوانب الصراع المضمرة الأخرى بين المتحاربين المجترّين لخصومات التاريخ.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

7 / 12 / 2023م

ليس كل مثقفي الغرب كتلة واحدة صماء بكماء عمياء

بداية دعونا نسجل الملحوظة الأساسية التالية: معظم مثقفي الغرب إن لم يكن كلهم أدانوا بشدة عملية «حماس» الترويعية التي فاجأت العالم ليلة 7 أكتوبر (تشرين الأول). ومعظم مثقفي العرب (مع بعض الاستثناءات القليلة) أشادوا بها وصفقوا لها وعدّوها نصراً مظفراً. وهنا يكمن انقسام حاد بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين من أميركان وأوروبيين. ولا أعرف كيف يمكن ردم الهوة بيننا وبينهم هذا إذا كان يمكن ردمها يوماً ما... بلى أعرف. أطمئنكم يمكن ردمها. والدليل على هذا ذلك البيان الرائع الذي أصدره أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي رد فعل على بيان هابرماس وجماعته. فقد عدّوا بيانه متحيزاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل. وهذا يعني أنه ليس كل مثقفي الغرب كتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء. هناك تيارات ونقاشات خلافية ديمقراطية عديدة بينهم. هناك توجهات مختلفة ومشارب شتى. وبما أن حرية التعبير والتفكير متوافرة في بلدانهم فإنهم يستطيعون التعبير عن آرائهم دون أي خوف من التخوين أو التكفير أو حتى الاعتداءات الجسدية. وهذه نعمة كبيرة يتمتعون بها وتحسدهم عليها جميع شعوب الأرض. من المعلوم أن بيان هابرماس وجماعته صدر بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وأما البيان الذي رد عليه فقد صدر بعد عشرة أيام تقريباً، بالتحديد يوم 22 نوفمبر 2023. ماذا قال هؤلاء المثقفون في بيان الرد المهم والمحرج لفيلسوف الألمان الأكبر؟ قالوا ما معناه: إننا متفقون مع هابرماس على إدانة عملية القتل والخطف التي أصابت المدنيين الإسرائيليين من طرف «حماس» يوم 7 أكتوبر. ومتفقون معه كذلك على ضرورة حماية الحياة اليهودية في ألمانيا من موجة معاداة السامية التي أخذت تتصاعد مؤخراً. ونحن متفقون أيضاً على ضرورة حماية الكرامة الإنسانية أو البشرية للجميع باعتبار ذلك أحد المبادئ المركزية والأساسية الأخلاقية الديمقراطية التي تأسست عليها الجمهورية الاتحادية الألمانية. كل هذا نحن متفقون معه عليه.

ولكن ما يقلقنا في «إعلان مبادئ التضامن» الذي أصدره هابرماس وجماعته هو أنه حصر هذا التضامن (ظاهرياً على الأقل) بالإسرائيليين فقط. فالحرص على الكرامة الإنسانية التي عبر عنها البيان وبحق لا يمتد بالشكل الملائم لكي يشمل المدنيين الفلسطينيين في غزة بشكل متساوٍ مع المدنيين الإسرائيليين الذين أصابتهم واختطفتهم «حماس» في غزوتها «الإرهابية» المعروفة. لا ريب في أن بيان هابرماس مهتم بمصير الفلسطينيين، ولكن ليس بالشكل الكافي. فهو فيلسوف تنويري ولا يستطيع أن يخرج على مبادئ التنوير أكثر مما يجب. ينبغي على جميع المثقفين الاعتراف بأن فلسطينيي غزة معرضون الآن للموت والدمار.

ثم يردف البيان المضاد لبيان هابرماس قائلاً:

التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر وبالتالي فكلهم متساوون في الحقوق والكرامة الإنسانية. وهذا مبدأ أساسي نصت عليه فلسفة الأنوار التي ترفض بشكل قاطع التمييزات الطائفية والعنصرية بين البشر. وهي الفلسفة التي يعتنقها هابرماس ذاته ويدافع عنها باستمرار. وهذا المبدأ الإنساني يجبرنا على التضامن مع جميع السكان المدنيين الذين تسقط على رأسهم غصباً عنهم كارثة الحروب وويلاتها عندما تندلع فجأة.

ثم يردف البيان قائلاً:

بيان هابرماس وجماعته ينص على ثلاثة مبادئ ينبغي أن تتحكم بالحروب: الأول هو مبدأ الرد بالمثل. وهذا يعني ألا يكون الرد فاحشاً جداً يتجاوز العدوان الأصلي بما لا يقاس. ولكننا نلاحظ أن رد إسرائيل الهمجي تجاوز فعلة «حماس» الهمجية أيضاً بأضعاف مضاعفة. والثاني هو تجنب الخسائر المدنية بقدر الإمكان. لكننا نلاحظ أن الكوارث المدنية التي نزلت على رأس أهل غزة كانت مرعبة بل وأكثر من مرعبة. والثالث هو أن يكون شن الحرب بغية تحقيق السلام في نهاية المطاف، وليس الحرب من أجل الحرب، أو القتل من أجل القتل، أو الانتقام من أجل الانتقام. ونحن متفقون معه على ذلك. ولكن ما يقلقنا هو أنه لا يلح بما فيه الكفاية على ضرورة احترام القانون الدولي الذي يمنع ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالعقوبات الجماعية وتدمير البنى التحتية المدنية: كالمدارس، والمشافي، وأماكن العبادة. غزة كلها تحولت إلى أشلاء. من يستطيع أن يشاهد التلفزيون الآن؟ من يستطيع أن يشاهد تلك الأكفان والنعوش الصغيرة والأمهات؟

أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي: التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر

هذه هي المناقشة التي دارت بين هابرماس ومعارضيه من المثقفين الغربيين الآخرين. وأعتقد أن ردودهم عليه كانت أقوى من ردود معظم المثقفين العرب الذين فقدوا أعصابهم وراحوا يعدمونه بجرة قلم أو يكيلون له الشتائم. على هذا النحو نرجو أن نكون قد وضحنا إشكالية هابرماس بما فيه الكفاية. لم يخن الرجل مبادئ التنوير إلى الحد الذي نتصوره. فقد حجم الحملة الإسرائيلية على غزة وفرض عليها الشروط. ولكن ليس بالشكل الكافي. لا ريب في أنه بدا ميالاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل التي يخشى عليها وحدها من الإبادة. ويعتقد البعض في أوروبا أن فيلسوف الألمان يفكر على النحو التالي: المسلمون كثيرون جداً ولا أحد يستطيع إزالتهم من الوجود على عكس اليهود. من يستطيع أن يبيد ملياراً ونصف المليار شخص؟ والعرب أنفسهم كثيرون: 500 مليون شخص. وبالتالي فهم راسخون رسوخ الجبال والمنطقة كلها لهم من المحيط إلى الخليج ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ولكن اليهود قليلون جداً لا يتجاوز عددهم في العالم كله 15 مليون شخص. يضاف إلى ذلك أن هابرماس ملاحق بعقدة النازية. وبالتالي فلا يستطيع أن يكون موضوعياً ولا حيادياً تماماً، كما فعل جيل ديلوز أو مكسيم رودنسون في فرنسا مثلاً. وهذا ما يهمله المثقفون المحترمون الموقعون على البيان المذكور المعنون على النحو التالي: «الرد على بيان مبادئ التضامن لهابرماس وجماعته. نطالب بالكرامة الإنسانية للجميع». وعددهم يبلغ 107 بالضبط. ومعظمهم فلاسفة وأساتذة جامعات كبرى في أميركا وأوروبا كجامعة كولومبيا بنيويورك، وجامعة أكسفورد، وجامعة ييل... إلخ. الشيء الذي يذكر لهابرماس، الذي ينبغي أن نعترف له به هو أنه أدان العنصرية بشكل واضح وصريح في بيانه. لقد أدانها بشكل مطلق. وهذا يعني أنه لم يدن العنصرية الممارسة ضد اليهود فقط والمدعوة بمعاداة السامية. وإنما يعني كلامه ضمناً إدانة العنصرية الممارسة ضد جميع البشر الآخرين المقيمين في ألمانيا، ومن بينهم العرب والأتراك بطبيعة الحال. هابرماس لم يشرع العنصرية ضد العرب! ولا التمييز ضد المسلمين! هذا شيء لا يمكن أن يصدر عن فيلسوف تنويري كبير مثله. إنه ضد التشهير أو التشنيع بأي شخص لأسباب عنصرية أو طائفية. وكيف يمكنه ألا يكون كذلك؟ أليس هو فيلسوف التنوير الأول في هذا العصر؟ ومعلوم أن معركة التنوير الكبرى كانت ضد التمييز العنصري والطائفي بين البشر. قبل انتصار التنوير في أوروبا كانت الطائفية مشتعلة حتى داخل المسيحيين أنفسهم وليس فقط ضد الآخرين. كانت الأمور على النحو التالي: ويلٌ للبروتستانتي في البلدان الكاثوليكية، وويلٌ للكاثوليكي في البلدان البروتستانتية. أصلاً التنوير ظهر رد فعل على المجازر الطائفية التي كانت تحظى برضا ومباركة وتشجيع الأصوليين والإخوان المسيحيين. كان التكفير والتكفير المضاد في أوجه آنذاك بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية. وكان يشعل النفوس بالحساسيات المذهبية ويهيجهم على بعضهم البعض. هذه نقطة أساسية لا ينبغي أن تغيب عن بالنا. التنوير حسم مشكلة الطائفية في أوروبا وقضى عليها. وهذا الإنجاز العظيم هو الذي أتاح تشكيل الوحدة الوطنية المتراصة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا إلخ. التنوير قدم أكبر خدمة للشعوب الأوروبية. التنوير أنقذها من براثن الحروب الأهلية والطائفية. وهو الذي أدى إلى تفوق أوروبا على جميع شعوب الأرض. التنوير ليس كلمة مجانية تلقى هكذا في الفراغ... التنوير ليس تسلية أو مزحة. التنوير حل مشكلة حقيقية وفتح الآفاق المسدودة المستعصية. التنوير أنقذ أوروبا من براثن المفهوم الظلامي والطائفي للدين. هل هذا قليل؟ وبالتالي فلا ينبغي أن نقسو على هابرماس أكثر من اللزوم. ويرى البعض أن هابرماس يفكر على النحو التالي:

هناك طبيعة خاصة جداً لتاريخ الشعب اليهودي تميزه عن جميع شعوب الأرض. وذلك لأنه كان دائماً مهدداً بالإبادة والمجازر على مدار التاريخ. كان دائماً أقلية محتقرة ومهانة تعيش في الغيتوهات المغلقة على ذاتها سواء في البلدان الأوروبية المسيحية أو في البلدان العربية الإسلامية. لهذا السبب يتوجس هابرماس ومعظم مثقفي الغرب خيفة من «حماس»، لأنها ليست فقط حركة مقاومة وإنما هي أيضاً وبالدرجة الأولى جماعة دينية تابعة للإخوان المسلمين. وهابرماس كمعظم مثقفي الغرب يعتقدون أن هذه الحركات تريد إبادة اليهود لأسباب دينية. هناك فتاوى لاهوتية عديدة تكفر اليهود وتبيح دمهم. لهذا السبب أيضاً لم يستطع هابرماس التضامن مع الشعب الفلسطيني بالشكل الذي كان مرجواً ومطلوباً من فيلسوف كبير مثله. وينبغي الاعتراف بأن قضية فلسطين التي هي قضية حق وعدل، وظلم وقهر، دفعت ثمناً باهظاً لكل التفجيرات التي ارتكبها الأصوليون منذ ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى حتى اليوم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 ديسمبر 2023 م ـ 22 جمادي الأول 1445 هـ

كان الفيلسوف المسيحي غوتفريد فيلهلم فون لايبنتز (1646 - 1716) أكثر ارتباطاً بالفلاسفة الشكوكيين من أي فيلسوف آخر في نهاية القرن السابع عشر. ربطته علاقة شخصية بالثلاثة البارزين في ذلك الوقت؛ الأب سيمون فوشيه، والأسقف بيير دانييل هوييه، وبيير بايل. وككل الفلاسفة منذ أيام سقراط وأفلاطون، نشر كثيراً من كتبه المشهورة بوصفها إجابات عن أسئلة هؤلاء الشكوكيين أو للتعامل مع المشكلات التي أثاروها. وربما أشهر بيان عرض فيه لايبنتز آراءه الميتافيزيقية هي رسالة أرسلها في 1695 إلى فوشيه سماها «النظام الجديد».

لا شك أبداً في أن لايبنتز لم يكن شكوكياً، ومع ذلك فقد عدّه المشككون في عصره صديقاً أقرب من كل الميتافيزيقيين في تلك الفترة. وبينما هاجم فوشيه وهوييه وبايل الديكارتية وآراء مالبرانش وسبينوزا ولوك، فإنهم تعاملوا مع ميتافيزيقا لايبنتز بدرجة من الاحترام وضبط النفس لم تحدث قط في تعامل الشكوكيين مع رؤى الفلاسفة الدوغمائيين، وربما يرجع هذا إلى أسلوبه الدبلوماسي، وهو الدبلوماسي الكبير، في التعامل مع الناس، ومعهم خصوصاً.

وفي حين تعاهد آرنولد ومالبرانش وبيركلي على محاولة تدمير خطر الشكوكيين الذي يطارد الفلسفة الأوروبية، كان لايبنتز شديد الهدوء في معالجته التحديات التي تواجه العقلانية. وفي حين كان كثيرون لا يرون في حجج الشكوكيين سوى أنها خطرة للغاية، أو أنها ستقلب كل اليقين في المعرفة الطبيعية والموحى بها، وأنهم لم يستطيعوا رؤية الشكوكيين إلا بوصفهم شخصيات شيطانية عازمة على تدمير كل الثقة في النظرية المسيحية، وجد لايبنتز قيمة كبيرة وإلهاماً نافعاً في شكوك أصدقائه، وكان يرى فيهم أفضل نقاد فلسفته، وأن شكوكهم لن تتسبب في تدمير العالم العقلاني والديني، بل يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف أعمق المبادئ الأساسية للفلسفة والدين.

في ذلك الزمن، تعرض الشكوكيون للهجوم من جميع الأطراف، بوصفهم شياطين لا يستحقون المناصب التي شغلوها، واضطهد الكالفينيون الفرنسيون بايل في هولندا، وحاول المتعصبون مثل آرنولد فضح ما عدّوه الخطر الخبيث في دعاوى هوييه. في مقابل هذا، كان لايبنتز يعاملهم كأعز أصدقائه، وعندما أدان قاضي روتردام بايل وعزله من منصبه، سعى لايبنتز إلى إيجاد وظيفة جديدة له في ألمانيا.

تعرَّف لايبنتز على مشكلات الشكوكية مبكراً، فقد كتب أحد أساتذته ونشر بحثاً يرد به على فرنشيسكو سانشيز، كما أنه نشر هجوم سانشيز الشكوكي على الرياضيات. ويبدو أن لايبنتز قد أخذ بعض هذه النقاط الشكوكية على محمل الجد واستمر في مناقشتها مع علماء الرياضيات طوال حياته. وقد انغمس حقاً في عالم الشكوكيين عندما ذهب إلى باريس في مهمة دبلوماسية ابتداء من عام 1672.

لم تثر صداقة لايبنتز مع هوييه أي جدل، فكل واحد منهما كان يكنّ احتراماً كبيراً للآخر، ويفرح بموافقة الآخر له على آرائه. يبدو أن لايبنتز قد عدّ هوييه رجلاً يتمتع بسعة الاطلاع الهائلة في المسائل المتعلقة بتاريخ الدين. كما أنه يثمن بشدة نقد صديقه للديكارتية، ولذا دعمه بأدلة جديدة لاستخدامها في طبعة جديدة من كتابه «الرقابة على الديكارتية»، فقد كان ينظر لمناوشاته مع الديكارتية بوصفها عملاً مكملاً لجهد هوييه. ثم عاد ونشر بصورة مستقلة في تسعينات القرن السابع عشر بعضاً من هجماته على فلسفة ديكارت بناءً على اقتراح هوييه وتشجيعه. وبعد أن تقاعد هوييه وطواه النسيان وأهمل ذكره بقي لايبنتز يتذكره ويجلّه.

ومع كل هذا، كان بايل هو المؤثر الأعمق في لايبنتز، ومعه تبادل الأفكار الأكثر حيوية وأهمية عبر الرسائل، مع أن هناك شكاً كبيراً في أنهما قد التقيا فعلاً. ويبدو أن أول اتصال بينهما كان عام 1687، عندما أرسل إلى بايل رسالة حول كتاب للأخير كان بعنوان «أخبار جمهورية الرسائل» ويظهر من المراسلات أن لايبنتز كان حريصاً على أن يسمع من بايل رأيه في مشاكساته ضد الديكارتية، بغرض تطويرها.

مع صدور قاموس بايل بدأت مرحلة جديدة في علاقة الرجلين، فبعد سنوات من محاولة إقناع فلاسفة من مثل مالبرانش ولوك بالنظر في فلسفته الجديدة، وجد لايبنتز الاعتراف والتأييد من قبل بايل الذي عدّه واحداً من أبرز العلماء الميتافيزيقيين في ذلك العصر. وفي مقالة بايل عن أرواح الحيوانات كتب يقول: «ثمة صعوبات تنطوي عليها فرضية لايبنتز، إلا إنها تشير إلى مدى عمق عبقريته». لم يمنعه التقدير من انتقاد نظرية لايبنتز، كما أعلن أنه لم يكن جاهزاً بعد لتفضيل نظرية لايبنتز على نظرية مالبرانش؛ لأنه كان يريد أن ينتظر حتى يُحكِم لايبنتز عمله. فكتب لايبنتز ليجيب عن النقاط التي انتقده بايل بسببها، ثم جلس ينتظر الرد بفارغ الصبر، وكان بايل سعيداً بأن اعتراضاته قد دفعت لايبنتز إلى تطوير آرائه، وكتب معلقاً: «أنا الآن أعتبر هذه النظرية الجديدة فتحاً مهماً سيكون من شأنه توسيع حدود الفلسفة». هذا تعليق مهم يدل على وعي هؤلاء العظماء بدور الشكوك في تطور المعرفة.

إنه لأمر يثير الدهشة حقاً حين ننظر في المناقشات بين لايبنتز والشكوكيين فنجد الحوار الراقي السلمي، بعكس النقاشات الحادة المختلفة بين رجال الدين وفلاسفة القرن السابع عشر، مثل تلك التي جرت بين ديكارت وغاسندي، أو مالبرانش وآرنولد. لقد بذل لايبنتز وأصدقاؤه الشكوكيون قصارى جهدهم ليكونوا لطفاء، بعضهم مع بعض، وليقدموا صورة مشرفة للحوار الحضاري الخالي تماماً من التجريح، حتى في المراسلات الثنائية. يصعب أن نتصور أن مثل هذين؛ السلام والهدوء، ومثل هذا الإعجاب المتبادل والنيات الحسنة، يمكن أن توجد في ذلك العصر، والفضل في ذلك، فيما يظهر، يعود إلى لايبنتز ونفوره من الصدام.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 4 ديسمبر 2023 م ـ 20 جمادي الأول 1445 هـ

النقطة الوحيدة التي تحسب له هو أنه كان أكبر مفكك للأصولية والظلامية

بداية دعونا نطرح السؤال التالي: كيف حوّل المثقفون الفرنسيون من أمثال فوكو وديلوز ودريدا، نيتشه، إلى مفكر يساري تقدمي؟ هذا ما يكاد يجنن جاك بوفريس ويطير عقله. ومعه الحق. نيتشه يعلن نهاراً جهاراً على المكشوف أنه ضد قيم الحداثة: كالديمقراطية، والاشتراكية، والتقدم الاجتماعي، والمساواة بين البشر، بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة. وكان مضاداً لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية 1789، والذي يعد مفخرة فرنسا عالمياً حتى الآن. لهذا السبب كان حاقداً على جان جاك روسو الذي كانت كتاباته تعد بمثابة إنجيل الثورة الفرنسية. نيتشه كان مفكراً رجعياً حقيقياً. كان مدافعاً عن النزعة الأرستقراطية الراديكالية التي لا تعترف بمبدأ المساواة بين البشر؛ هذا المبدأ الغالي على قلب جان جاك روسو ومعظم فلاسفة الأنوار. ما هي العقيدة السياسية لفريدريك نيتشه؟ إنها تتمثل فيما يلي: هناك النخبة الأرستقراطية من الرجال الاستثنائيون الموجودون على رأس المجتمع أو الهرم الاجتماعي، وهناك جماهير الشعب الموجودة في أسفل الهرم. وهذا هو النظام الطبيعي الذي ينبغي أن يسود ولا اعتراض عليه أبدأ. ومهمة الجماهير هو الكدح والتعب والشغل والطاعة الكاملة العمياء للنخب المثقفة. ينبغي أن تخدم هذه الجماهير الغفيرة النخبة الأرستقراطية لكي تستطيع التفرغ للقيادة والحرية والخلق والإبداع. هذا هو نيتشه الحقيقي.

النقطة الوحيدة التي تحسب له هو أنه كان أكبر مفكك للأصولية المسيحية والظلامية الدينية. هنا تكمن عبقريته. وكان أكبر محطم للأصنام والمعبودات والشخصيات التي نعتقد أنها مثالية قداسية في حين أنها كانت بشرية عادية بل وأكثر من عادية. انظر لتكالب بعض رجال الدين على الأموال والأرزاق والوجاهات في كلتا الجهتين الإسلامية كما المسيحية... ولكن العامة يتعلقون بهم ويقبلون يدهم ويقدسونهم تقديساً. انظر لقصص بعض البابوات الفاسدين المنحلين في القرون السابقة كالبابا ألكسندر بورجيا الذي كان أبعد ما يكون عن المبادئ الدينية والفضائل الإنجيلية. وقد اشترى بابويته بالفلوس التي انهمرت مدراراً على الكرادلة لكي ينتخبوه. وخلف وراءه عشرة أولاد وثلاث بنات من عشيقات مختلفات. وقد عيّنهم في مناصب عليا في المجتمع الإيطالي بعد انتخابه. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن البابا يوليوس الثاني الذي خلفه عام 1503 فقد كان مستبداً دموياً مولعاً بشن الحروب. لقد خان المبادئ الإنجيلية كلياً، ومع ذلك فقد ظلت عامة المتدينين تقدسه كالصنم المعبود. وقل الأمر ذاته عن بعض الدعاة الكبار الذين أصبحوا أغنياء جداً عندنا، بل ومليونيريين بفضل المتاجرة بالدين. لا داعي لذكر الأسماء... نعم لقد ساعدنا نيتشه بمطرقته الفلسفية على التحرر من هيبة شيوخ التزمت والتقعر والإكراه في الدين. يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر. يدعونك إلى الزهد في الحياة الدنيا وعينهم على الشهوات والملذات والأموال التي يتكالبون عليها تكالباً. كل هذا كشف القناع عنه فيلسوف الألمان وحررنا منه. من هذه الناحية كان تنويرياً كبيراً. لتسقط الأصنام والأوثان التراثية إذن ولنتحرر منها كلياً ولنتنفس الصعداء لأول مرة في حياتنا. لنتجرأ على أن نفكر بأنفسنا دون أي وصاية لاهوتية أو كهنوتية فوق رؤوسنا. هذه هي وصية كانط لنا. هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفة التنوير. فالله زودنا بعقول لكي نشغلها لا لكي نلغيها أمام شيوخ الفضائيات وجماعات الإسلام السياسي الذين يعرفون كيف يستغلون الدين وهيبته وقداسته. إنهم بارعون في ذلك إلى أقصى حد ممكن. ولكن لعبتهم انكشفت بعد سقوط ما يدعى «الربيع العربي». لكأن الربيع يمكن أن يكون أصولياً ظلامياً. الربيع سيكون تنويرياً، أو أنه لن يكون!

أنا مدين لنيتشه بأشياء عبقرية كثيرة. يضاف إلى ذلك أن أسلوبه في الكتابة بركاني، عبقري، متفجر، لا يضاهى. أنا أدوخ، أخرج عن طوري عندما أقرأ نيتشه. أكاد أقوم وأقعد. لا أستطيع أن أبقى هادئاً. حقا إن من البيان لسحراً. وربما كان أكبر كاتب في اللغة الألمانية. ولكني لا أستطيع الاتفاق معه على هذه النزعة النخبوية والاستعلائية الكاسحة. لا أستطيع القبول بإدانته للحداثة ومنجزات الحداثة جملةً وتفصيلاً. هنا أقول له ستوب، قف: خط أحمر! فقد رفض رفضاً قاطعاً المثل العليا للحداثة كحقوق الإنسان والمساواة بين البشر وحق التصويت العام للشعب، ومشروع المدرسة للجميع، والسعادة والرفاهية للجميع، إلخ. ورفض كل السياسات التضامنية مع الفقراء والمنبوذين والمستضعفين. ووصل به الأمر إلى حد القول: ينبغي أن نحمي الأقوياء من الضعفاء وليس العكس. وعلى هذا المنوال يمكن أن نقول: ينبغي أن نحمي الأغنياء من الفقراء الذين يحسدونهم ويكادون ينهشونهم نهشاً. لماذا لا نصرخ: يا إلهي ما أجمل الأغنياء وما أبشع الفقراء؟ عيب! ثم صعد نيتشه من لهجته إلى حد القول: «لينقرض الضعفاء والفاشلون! هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفتنا الإنسانية المحبة للبشر! بل وينبغي أن نساعدهم على هذا الانقراض»... وهذا يشبه ما فعله النازيون عندما قضوا على المرضى والمقعدين والمعاقين، وعدّوهم عالة على المجتمع. ثم يضيف: «ما هي أسوأ النقائص أياً تكون؟ الشفقة على الفاشلين والضعفاء: عنيت المسيحية». ويحك! هكذا نلاحظ أن أفضل ما جاءت به المسيحية كدين محبة وشفقة ورحمة يدينه ويعده نقيصة. هنا تكمن خطورة نيتشه. إننا نفهم هجومه على الأصولية المسيحية التي كانت لا تزال قوية في عصره وقادرة على الضرب والقمع، والإكراه والقسر. وذلك على عكس ما هي عليه الآن، حيث لم يعد لها وجود في أوروبا، وحيث أصبحت هي الخائفة لا المخيفة. ولكننا لا نفهم أن يدين أفضل ما جاءت به المسيحية وكذلك الإسلام: أي الشفقة والرحمة على الضعفاء والفقراء واليتامى والمحتاجين وابن السبيل... هنا لا نستطيع أن نمشي معه خطوة واحدة إلى الأمام. هنا نفضل أن نكون مع مفكر عملاق آخر هو جان جاك روسو الذي كان يذوب ذوباناً في أحضان الشعب الطيب الفقير الذي يكدح كل نهاره لتأمين لقمة العيش له ولأطفاله.

ليس غريباً إذن أن تكون النازية قد وجدت ضالتها فيه واتخذته هادياً مرشداً لها ولآيديولوجيتها. ليس غريباً أن يكون النازيون قد رأوا في نيتشه «أيقونة العهد الجديد» الذي أرادوا إقامته وترسيخه في ألمانيا. ليس غريباً أن يكونوا قد اتخذوه قدوةً ومثالاً لكي يحتموا في ظله ويضربوا بسيفه. نقول ذلك وبخاصة أن شهرته كانت قد أصبحت أسطورية. لقد اندلعت بعد موته كالرعد القاصف واكتسحت السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. كانت كتبه خصوصاً «هكذا تكلم زرادشت» تباع بالملايين. لقد أصبح الإنجيل الخامس كما توقع هو شخصياً. وكانت شبيبة ألمانيا تعبده عبادة في حين أنه لم يلق في حياته أي اهتمام ولم يبع من كتبه أكثر من عشر نسخ! من يصدق ذلك؟ كل هذا النجاح الباهر حصل بعد موته عام 1900 بالضبط. ولهذا السبب قال عبارته الشهيرة: «هناك أشخاص يولدون بعد موتهم». كان يعرف أن لحظته آتية لا ريب فيها. وهذا السطو من قبل هتلر على نيتشه وفكره ما كان لينجح تماماً لولا تعاون أخته إليزابيث التي كانت عضواً في الحزب النازي منذ عام 1930. ومعلوم أن هتلر زار متحف نيتشه الذي يضم أرشيفاته ومحفوظاته في مدينة فايمار عام 1933: أي بعد توليه السلطة مباشرة تقريباً. وهناك انحنى أمام أخته إليزابيث كما تشهد الصورة على ذلك. وقد أهدته عصا الفيلسوف لكي يتبرك بها أو يتعكز عليها في نزهاته اليومية إذا شاء. وفي عام 1934 ترأست إليزابيث هذه بحضور هتلر الاحتفالات بالذكرى التسعين لولادة أخيها الفيلسوف الشهير. ومعلوم أن النظام الهتلري نظم احتفالات ضخمة بهذه المناسبة وبحضور كبار القادة النازيين. وعندما توفيت إليزابيث نيتشه في العام التالي عن عمر مديد حضر هتلر شخصياً تشييع جنازتها.

هذا الكلام لا يعني أن كل فلسفة نيتشه نازية من أولها إلى آخرها! لا، لا، أبداً، أبداً. ما إلى هذا قصدت. وإلا لما بقيت على مدار الأجيال ولكانت قد ماتت في أرضها. وذلك لأن فلسفته ضخمة، واسعة، متشعبة لا يمكن حصرها بهذا الجانب فقط. فلسفته تحتوي على إضاءات عبقرية عديدة كما أسلفنا. ولكن لا يمكن إنكار هذا الجانب المتطرف واللامسؤول من فكره. لماذا اعتمد هتلر على نيتشه كمنظر آيديولوجي أكبر للنازية، ولم يعتمد على كانط أو هيغل مثلاً؟ وهما من أعظم العقول الفلسفية التي أنجبتها ألمانيا. سؤال لا يمكن تحاشيه. والواقع أننا عندما نقارن بين انفجارات نيتشه الفكرية والأسلوبية الخارقة وبين هيجانات هتلر وخطبه النارية المشتعلة التي كهربت الشعب الألماني كهربة نلاحظ وجود أوجه تشابه عديدة. ونكاد نقول هذه من تلك!

على أي حال لا يمكن اعتبار نيتشه مفكراً حريصاً على المساواة بين البشر ولا على النزعة الإنسانية اللهم إلا إذا كنا من «جماعة العميان»، كما يقول جاك بوفريس. من هنا حملته الشديدة على فوكو وديلوز ودريدا الذين حولوه في ستينات وسبعينات القرن الماضي إلى مفكر يساري تقدمي غصباً عنه! هذا في حين أنه كان مفكراً نخبوياً، أرستقراطياً، استعلائياً، محضاً. كان يحلق في الأعالي أو أعلى الأعالي. كان يفكر «والناس تحته على مسافة ستة آلاف قدم» كما يقول هو شخصياً. هو من فوق وكل البشرية تحته! كل العنجهية الأرستقراطية تجسدت في شخصه، كما أن كل العنجهية الآرية الألمانية تجسدت في شخص هتلر.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 ديسمبر 2023 م ـ 19 جمادي الأول 1445 هـ

إن وضعت بعض المكرونة في الماء وغليتها، ثم صفيت الماء وأضفت إليه علبة صوص جاهزة فمبارك؛ لقد طبخت. وإن ذهبت مع أصدقائك إلى ملعب مستأجر، وانقسمتم فريقين متنافسين، فمبارك؛ لقد لعبت كرة قدم. لكن النشاط الأول لا يجعل منك طباخاً، والثاني لا يجعل منك لاعباً محترفاً. ثم إن الاحتراف نفسه لن يجعل منك بالضرورة فناناً في أي منهما. هناك مسافة شاسعة بين الفعل وبين فن الفعل. وفي هذه المسافة تكمن إنجازات الإنسان. تكمن قدرة عينة عشوائية من أفراده على إبداع يشبه الإعجاز.

المساحة بين الفعل وفنه ليست فراغاً. مليئة بمستويات متدرجة من المهارة. من لاعب عادي في نادٍ مغمور إلى لاعب في «البريميرليغ»، إلى ميسي ورونالدو ومارادونا وبيليه.

والفروق المهارية التي لا تخطئها عين سببها فروق بسيطة للغاية من الناحية الجينية. يشترك الإنسان مع الشمبانزي في 98.8 في المائة من الـ «دي إن إيه (DNA)». كل هذه الفروق الشكلية والحضارية والعقلية، كل الهندسة والطب والبيولوجي والجيولوجي والمعمار وعلوم الفضاء والتفاضل والتكامل، أحدثها اختلاف أكبر قليلاً من 1 في المائة من جيناتنا.

أما بين البشر، فالفروق أدق. أي شخصين يتشابهان في نحو 99.9 في المائة من «الدي إن إيه». بمعنى أن الفروق بين البشر في المواهب والقدرات والقوة العضلية والتفوق الذهني، كل هذه المعجزات في الفنون، والموسيقى والشطرنج، سببها اختلاف لن يتعدى 0.1 في المائة بيننا. لو تخيلنا أن الشخص منا مُكَوَّنٌ طبيعياً من 1000 عنصر، فأنت وأنا ونيوتن وأينشتاين متشابهون في 999 عنصراً منها، ومختلفون فقط في عنصر واحد بين الألف.

في المفارق، وفي الأزمات، وفي المهمات الجسام، وتحت الضغط، يعظم تأثير هذا العنصر البسيط، وتختلف مسارات الأمم، وتتباين إنجازات الأفراد. وبهذا الفارق البسيط بين رؤية ورؤية تتغير الحياة. فلا تستهن بالفروق الضئيلة، وبالتغيير البسيط في عاداتك، أو الاختلاف البسيط في وجهات النظر التي تستمع إليها.

من عادة المجتمعات التقليدية أن تعيد إنتاج آرائها، مرة بعد مرة. وأن يكتفي المتميزون فيها بالاحتماء بالكتلة الصلبة الموروثة من طرح العقول. في حين أنها لن تتطور إلا بفضل الرؤى التي تبحث عن مسار جديد، ولو في واحد من ألف من عناصره.

إن استمعت إلى رأي ووجدت أنك سمعته من قبل كما هو، بكل عناصره، في الموضوع نفسه. فاعلم أن عقلك لا يرى هذا الرأي، يكدسه ويملأ به الخزانة، لكن إن ارتداه فلن يميزه، كزي عمال موحد في بلد شيوعي. مصير هذا الرأي سيكون كمصير سابقه. إن خسرت بسبب المسار السابق خطوة، فستخسر بسبب تكراره خطوة أخرى على الأقل، وغالباً أكثر، لأنك تقف على الرصيف نفسه، ربما في انتظار غودو، بينما الحياة تمضي.

في كثير من جوانب الحياة في منطقتنا، في الاقتصاد وفي السياسة وفي العلاقة مع العالم، تقرأ رأياً مكتوباً منذ 50 عاماً، وتقرأ رأياً حديثاً يحظى بالتأييد، فلا تجد بينهما اختلافاً. كائن الرأي لم يتطور. يزيد الأمر سوءاً أن البيئة من حوله تطورت. ومن لا يتكيف مع تطور البيئة ينتهي. حتى صارت الثقافة الغالبة لا تكاد تحتفي بصاحب رأي على قيد الحياة، ولا ترى الفارق بين الأصالة والتقليد، بل تحتفي بآراء قديمة مُحَنَّطة، وتحتضن من يعيد إنتاجها مرة بعد مرة.

وصنعة الرأي موجودة في كل الحرف، ومُشَخَّصة في حرفة المقال أو النقاش الإعلامي، موجودة في حرفة كرة القدم، حيث خطة اللعب رأي، والتشخيص الطبي رأي، والأحمال التدريبية رأي.

من الصعب افتراض أن ما يجري على الرأي السياسي والاقتصادي من جمود لا يجري على قرارات التخطيط والتنمية، ولا يجري على قطاعات الحياة الأخرى. وأن هذا هو السبب الحقيقي في قلة المواهب البارزة بالنظر إلى حجم الإمكانات المادية والبشرية والجغرافية الموجودة في المنطقة.

يحتاج الموهوب لكي يصل إلى مستوى الفنان في حرفته إلى أن يشتغل على نفسه، وأن ينمي صنعته، ويحتاج أيضاً إلى مستويات موازية من التراكم المهاري في محيطه، تطور خططه، وتنمي أحماله التدريبية، وتشخص مشكلاته بما استحدث العالم من معرفة. هذا ما يجعل لاعباً موهوباً التحق بأكاديمية برشلونة صغيراً يصير ميسي، بينما مواهب أخرى دُفنت في تربة ريف ناءٍ، أو ضاعت في زحام حضر عشوائي منفلت كأعصاب الأحمق، تسبق أفعالُه أفكارَه.

***

خالد البري

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم:

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023 - 13 جمادي الأول 1445 هـ

 

قد تبدو الفلسفة في المجاميع الشعبية وبالصيغ العمومية حتى التعليمي منها غير مرحب بها، وأظن أن مرد ذلك لسببين أولهما: تشتيت الثبات الذي تحدثه. وثانياً: لعدم إيمان من يتلقاها بأهمية الأسئلة الفلسفية على واقعنا.

ثمة تشويه مرده إلى سذاجةٍ تعتورها غير أن انتشار ذلك التشويه والتشنيع حد الفجور بالخصومة يجعلنا أمام دفاعٍ عن الفلسفة، بوصفها النشاط العلمي الأكثر تماساً بالإنسان ووجوده. يمكن قراءة الحداثة كأثر من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل: «يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة».

بمعنى أن الحداثة بمواضيعها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت «التقنية» – ذاتها – موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع، يأتي من كون كل نظرية فلسفية مهمة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، إذ يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، ويمكنني هنا التذكير بإسهامات فلسفية أساسية.

من أبرز إسهامات الفلسفة أنها حوّلت الإنسان إلى موضوع للدراسة، وإذا كان «فوكو» كتب عن «كانط»: «ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية»، فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خصوصاً إذا وافقنا «هيغل» بأن فلسفة كانط هي: «بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط».

صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى «هيغل»، لكن ما يميز فلسفة «كانط» – بحسب فوكو – أنه وضع الإنسان «موضوعاً للدراسة»، كما أنه – وفق فوكو أيضاً – «أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير».

أسهمت الفلسفة في ترسيخ مبدأ الذاتية، وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق «هيغل» الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية.

من إسهامات الفلسفة الأساسية أيضاً تدشين الفضاء العلماني، إذ يرى «لوك فيري» أن «كانط» هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، ويكتب «هابرماس»: «إن فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة «علم، أخلاق، فن»، ما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

28 نوفمبر 2023

لا أدري، هل أصبح الإنسان رخيصاً إلى هذه الدرجة في دنيا العرب ومعتقداتنا السائدة؟ نعم، لقد أصبح الإنسان، ذاك الذي كرّمه الخالق في الأزل، وفضّله على كثير من خلقه تفضيلاً، والذي قال فيه سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم: “لأن تُهدم الكعبة حجراً حجراً، خير عند الله من أن يُهدر دم مُسلم”، مهاناً متهماً في كل سلوك أو فكر يتبناه، من رجال ومؤسسات وأحزاب وميليشيات نصبت نفسها وكلاء لله في أرضه، لا يعرف مقاصد الرحمن إلا هي، ولا يُمكن الوصول إلى علم العليم أو دخول جنته إلا من خلالها وما يقول رجالها، مع أن الإسلام دين فطرة وبساطة وتيسير وعلاقة مباشرة بين الإنسان وخالقه، حرامه أقل من القليل، وحلاله هو الأصل في الأمور، ولكن العلة تكمن في الرجال، وفي المؤسسات، وفي الأحزاب والميليشيات، حين تجعل من نفسها وسيطاً فيما لا يحتاج إلى وسيط، ومفسراً لما لا يحتاج إلى تفسير.

لقد آمن الأعرابي القديم بالإسلام ومارسه من دون حاجة الى وسيط ومفسر لما هو واضح، والحديث الصحيح عن ذاك النجدي ثائر الشعر “الذي نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول”، والذي تعهد بأن لا تزيد عبادته عن الأركان الخمسة، حيث علق الرسول قائلاً: ” أفلح إن صدق”، خير برهان على بساطة الإسلام، ناهيك عن حديث أبي ذر الصحيح، الذي يؤكد فيه نبي الرحمة أن من شهد أن لا إله إلا الله، دخل الجنة، وإن زنى أو سرق، برغم أنف أبي ذر، وفق ما ورد في الحديث على لسان الرسول الأكرم، ولكن المعضلة تكون حين يتحول الدين البسيط إلى مؤسسة معقدة (خصوصاً إذا كانت المؤسسة حزباً أو ميليشيا مسلحة)، ينتمي إليها أفراد يأسرهم خطاب المؤسسة وفكرها وأهدافها، ويعيدون بدورهم إنتاج هذا الخطاب، على أساس أن المؤسسة وحدها هي من يمثل الدين الصحيح، وغيرها فيه خروج عن المحجة البيضاء. فحين تتحول الأديان إلى مؤسسات ذات أهداف وغايات ومناهج موضوعة، ليس من الضروري أن تكون متسقة مع جوهر الدين، فحينها لا يعود الدين ديناً، وإنما يتحول إلى أداة تتحكم بالأبدان وتوجه العقول وتحكم السلوكيات، وتُنسى الروح والقلب في خضم هذا التعقيد لما هو بسيط، اللذان هما محل الإيمان أولاً وآخراً، ومن ثم تكون بقية الأشياء.

لم تكن دعوة المسيح، عليه السلام، مثلاً إلا دعوة أخلاقية وإرشاد روحي، هدفه صقل الروح الإنسانية كي تصل إلى درجات عليا من الرقي والسمو، ولكنها تحولت على أيدي الرجال إلى مؤسسات ذات مال ونفوذ وتسلط على البلاد ورقاب العباد، فعانت أوروبا القروسطية القمع والقتل وسفك الدماء والتفتيش عما في الصدور، باسم المسيح ودين المسيح، والمسيح وتعاليمه من كل ذلك براء، بل هي المؤسسة ورجالها، الذين اتخذوا من دين المسيح مطية نحو المال والسلطة والنفوذ، وجعلوا من أنفسهم طبقة من رجال دين (اكليروس)، لا ينتقدهم أحد، ولا يقترب من ساحتهم أحد، ولا يُسألون عما يفعلون، فلحومهم مسمومة بسم زعاف، ومن يفعل ذلك، فمآله النار وبئس القرار في الآخرة، وعذاب الويل في الدنيا، وبذلك جعلوا من رب العباد أداة في أيديهم، لتحقيق مآرب لا علاقة للرحيم بها، والعياذ بالله. فالمسيح يقول مثلاً: “أحبوا أعداءكم”، ورجال المؤسسة كرهوا الناس جميعاً، وخلقوا الأعداء حين لم يوجودوا، وسفكوا دماءهم. ويقول المسيح أيضاً: “من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر”، كتعبير عن التسامح في أقصى درجاته، ولكن المدعين بحماية دينه كانوا يبحثون عمن يرجمونه بالحجارة، ويحرقونه بالنار، فعُلقت النساء في محاكم التفتيش من الأثداء، وحُرقت ساحرات لم يكن بالساحرات. وخشيتي اليوم في دنيا العرب والمسلمين من طبقة من رجال الدين تنتمي إلى أحزاب وميليشبات تزعم أنها تمثل الدين الصحيح، كما تمثل الكنيسة وكهنتها دين المسيح، لا يجوز المساس بهم، فلحومهم سم زعاف، ولحوم بقية الخلق لحم حلال لذة للطاعمين. فالدين الذي يُبشر بالرحمة، ويبشر بأن بغياً دخلت الجنة لكلب سقته بخفها، كما دخلت النار امرأة لهرة حبستها، كما ورد في حديث سيد الخلق، هو الدين نفسه الذي تحول عند البعض إلى خطاب نقمة وخوف ووعيد، ومنادياً بسفك الدماء وجز الرقاب، حين تحول إلى مؤسسة، وتحكمت فيه أهواء الرجال وغاياتهم ومحدودية أفهامهم. نعم.. ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت أو اكليروس، كما لم يكن في المسيحية الصافية، أو يهودية موسى عليهم السلام جميعاً، أو حتى في تعاليم “المستنير” بوذا، أو المعلم كونفشيوس، ولكن حين يتحكم الرجال في الدين، ويُختزل ما هو خطاب مفتوح إلى القلوب، إلى خطاب ضبط مغلق مُنفر للقلوب، فإن الدين لا يعود ديناً، بل هو شيء آخر يمكن وصفه بأي صفة، ما عدا صفة الدين.

بناءً على هذا المنظور، نستطيع أن نفهم تلك الفتاوى “الغريبة ” التي تصدر عن أحزاب وميليشيات وشيوخ يقولون بأن من يتعرض لهم بالنقد أو المعارضة، فهو يعترض على الدين، أي أنهم طبقة لا يجوز المساس بها (اكليروس، كهنوت)، بينما كان فقهاء الماضي التليد، يمشون في الأسواق، ويتكسبون من عرق جبينهم، ويرفضون الأعطيات وما لم يكسبوه بجهدهم، ويناقشون الناس ويناقشونهم، ويسعون لليسر لا للعسر فيما يفتون به، بعد تردد وخشية وتفكير عميق، ويعترفون بالخطأ إن أخطأوا ولسان حالهم مقولة مالك: “كل يؤخذ منه ويرد، إلا صاحب هذا القبر”، أو مقولة الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

إن هؤلاء الشيوخ في الحقيقة منسجمون مع أنفسهم، ومع الفكر الذي يحملون، والخطاب الذي يعلنون، ولكن انسجامهم مع أنفسهم يجب أن لا يكون على حساب الإنسان، وحياة الإنسان وكرامته وحريته، ولا على حساب مصير وطن ومواطن… وهذه الفتاوى الغريبة ستستمر في الصدور والذيوع في دنيا العرب والمسلمين، طالما تحول الدين إلى مؤسسات وأحزاب وميليشيات، تحاول أن تحشر ما هو عصي على التحديد، بعلم أو من دون علم لا فرق، في قالب ضيق محدود.

لقد ابتلينا في هذا العصر بخطاب ديني يبشر، باسم الله والعياذ به، بالعنف والدمار وسفك الدماء، وخطاب ديني آخر ينبذ ذاك الخطاب، ولكن كلا الخطابين في النهاية يشتركان في جذر فكري واحد، ومن هنا تكون فتاوى العنف المكشوف في الخطاب الأول، وخطاب العنف المستتر في الخطاب الآخر، ومسلم هذا العصر ضائع بين الرحمة والقسوة، التسامح والاقصاء، في عالم أصبح يخشانا، وأناس أصبحوا لنا من الكارهين، ونحن فيه من الهائمين، ولدين الله غير مستوعبين، ولرسالة محمد غير واعين.. اللهم لطفك.. اللهم لطفك.. اللهم لطفك.

***

تركي الحمد – مفكر سعودي

عن صحيفة لبنان الكبير، يوم: 25 / 11 / 2023.

حرب أوكرانيا كشفت عن ظاهرة ثقافية بأن الإنسان أصبح كائناً سياسياً وبصيغة عالمية، وكل حدث يحدث في هذا العالم الذي نعيشه يتحول لخبر حي على الشاشات تستقبله كل العيون ثم يتلوه تفاعل حي على منصة (X)، ويشترك البشر كلهم في التفاعل لدرجة أن ترى من يظهر تذمره في المنصات من سيطرة خبر ما على تغريدات الحسابات، وهو تذمر يكشف تعمق الظاهرة لدرجة الإدمان وهي تشكل حيويةً تفاعلية تظهر فيها الآراء والتوجهات وتكشف عن المخزون الثقافي والتوجه السياسي والاجتماعي لكل مغرد ومغردة.

والعالم أصبح اليوم على (كف شاشة) وهو التعبير الذي أطلقته في كتابي (ثقافة تويتر)، وهذه ثقافة تتجه مع ما سماه «ديريدا» بالحداثة الفرنسية التي تجمع بين الفلسفة والأدب والسياسة، وهذا وصف لا يخص فرنسا بل نجده في معظم ثقافات العالم الجديد، عالم ما بعد الاستعمار، مذ تشكل الوعي الوطني المقاوم للمستعمر وتركزت اهتمامات جميع طبقات المجتمع البشري على دور السياسة في صناعة الأحداث، بما في ذلك الخبر الذي أصبح سياسياً بالضرورة، وعلامة ذلك هي شيوع نشرات الأخبار على كل فضائيات العالم، وكلها خطابات سياسية بتوجهات وتوجيه سياسي، مع مشاهدات لا حصر لها مما سيس الفضاء البصري والسمعي، وجعل الكرة الأرضية كلها تتكلم سياسة ً وتفكر سياسةً، ومن ثم تشعر سياسة وقد تدرجت البشرية من المذياع إلى الجريدة إلى التلفزيون إلى الفضائيات ثم إلى فرص التفاعل الحر، وكلها عوامل أسهمت لجعل الناس تتسيس فيتحرك حس الفضول في البشر لمعرفة الخبر وقد أصبح ذلك سهلاً ومتنوع المصادر ثم تغريهم مواقف غيرهم لكي يدخلوا معهم في مبارزة ذهنية في تفسير الحدث ووصفه بصفات تتسق مع ميول المتحدث.

ولا ينافس السياسة إلا الاقتصاد ثم المناخ، خاصةً بعد الأحداث الكبرى في الفواجع المناخية وتقلبات الحال في أوروبا صيفياً بين شدة الحرارة مقابل أيام تقع فيها فيضانات، وهذه أيضاً تتحول لأخبار سياسية إذ تعزو ذلك لأخطاء السياسيين في سياساتهم المناخية، ومن ثم أصبح كل حدث يفهم وفق النظر السياسي.

وما لبثت أن وقعت أحداث غزة فيما بعد السابع من أكتوبر 2023، لتزيح أوكرانيا عن تصدر الشاشات الفضائية وتجلب معها تاريخ سبعة عقود من صراع كوني لم تستطع البشرية حسمه رغم التوافق على أن «حل الدولتين»، هو الحل الذي ليس في الأفق غيره. ورغم القناعات حول هذا الحل لكنه يظل بعيداً مما يعزز استمرار الصراع والتصعيد المتصل، ويعزز فكرة تسييس الإنسان والثقافة ويعزز فكرة الاستقطاب الذي يجعل الحل في حال تأجيل مطلق.

وفي النهاية تتم برمجة التفكير العام والحر على نظريات التأويل السياسي ونظريات الاستقطاب الذي لا يقوم على العدالة ولا على الحقوق، وإنما يقوم على الغلبة والإكراه الذهني مع تحويل الحقيقة من كونها شرطاً للحل إلى كونها تسليماً بواقع مفروض، ويظل المعنى السياسي هو المرجعية الأولية حتى في تصويت مجلس الأمن الذي يتصرف دون حس أو مخافة من مشاهدة العالم على الألاعيب السياسية.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 نوفمبر 2023 23:38

يتميز الكاتب والمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي بانشغاله بفكر الاختلاف؛ فعليه تتأسس ممارسته الفلسفية، كما انشغل بسؤال الكتابة، مُعلياً من شأن التأمل والنقد والشك، ما جعله مقروءاً بشكل أوسع. ترجم لعشرات المفكرين والمبدعين والفلاسفة؛ منهم بورديو، وبارت، ودولوز، والعروي، مواصلاً شغفه بالفلسفة وتجريب مفعولها في اللغة. في كل هذا لا ينطلق بنعبد العالي من مسلَّمات، ولا يريد أن ينتهي إلى خلاصات وإجابات، بل غايته طرح الأسئلة، وهو ما تبلور في كتابيْه «ما لم يُقَل بعد»، و«ما يتعذّر قوله». فاز بـ«جائزة العويس»، هذا العام، في الدراسات الفلسفية... هنا حوار معه حول هموم الفلسفة والكتابة والأوهام المعاصرة التي ينادي بمقاومتها.

* يرى بعض الدارسين أنك أخرجت الفلسفة من خطابها المتعالي المنشغل بالمقولات الكبرى، وأنت تتحدث عن الفلسفة وكرة القدم، والطبخ والنحافة والموضة والموبايل والكذب وغيره... فهل تتفق معهم على ذلك؟

- ربما ينبغي أن ننطلق من ملاحظة أولى؛ وهي أن الفلسفة لم تكن دوماً تحيا «في برج عاجي». لا نحتاج إلى التذكير هنا بشخصية سقراط، الذي كان يجوب أنحاء «المدينة»، ولا يبرح أغوار أثينا كي يحاور الشباب و«يزعجهم»، بل يُحرجهم، وليواجه أفراداً احترفوا «فن الكلام». قد يقال إن هذا لم يكن ممكناً إلا لأن الفلسفة ترعرعت في مخاض «التجربة السياسية» عند الإغريق. صحيح، ولكن ينبغي ألا ننسى أنها لم تكن غائبة، حتى في غمار «التجربة الطبيعية»، والتي فيها نتصور الفيلسوف مشاركاً، معنيّاً بالتحولات الكبرى التي ستُفتَح أمام المعرفة وأشكالها التقنية (ولا أقول تطبيقاتها؛ لأن التقنية ليست مجرد تطبيق لنظرية). فيلسوف مثل ديكارت، لم يكن غائباً عما سيؤسس للحداثة العلمية، ومن ثم للحداثة الفلسفية. قد يردّ علينا بأن الفلسفة سرعان ما انعزلت، فغدا الفيلسوف «أستاذ جامعة». الشيء الذي سيترسخ مع الفلسفة الألمانية، لكن، حتى ها هنا ينبغي ألا نتصور الفلسفة غائبة عن التحولات الكبرى، والطفرات الصناعية والعلمية والسياسية، فهؤلاء الفلاسفة الذين نقول عنهم إنهم كانوا منحصرين داخل أسوار الجامعة، كانوا في علاقة وطيدة وعميقة مع ما يجري، لستُ مضطراً إلى أن أعطي مثال ماركس، بل أكتفي بأن أسوق من نعتوا بـ«المثاليين» كحال كانط وهيجل.

هذا ليس فقط دفاعاً عن الفلسفة، وإنما هو فحص لما انتقل إلى مدارسنا وأصبح يدرَّس كـ«مادة الفلسفة». لا داعي لأن أعدِّد المعوقات التي واجهت هذا الانتقال، فأشير إلى خصوصية الممارسة الفلسفية في العالم العربي، وما تعرفه من صعوبات تتمثل أساساً في غياب الدرس الفلسفي في كثير من معاهدنا التعليمية، وعدم مواكبة برامجنا لمستجدّات ذلك الدرس، فضلاً عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة، الأمر الذي يضع عراقيل في وجه ممارسة الفلسفة تفكيراً وتدريساً، وربما كتابة وتأليفاً.

هذا ما جعلني أختط مساراً «يقترب من الممارسة الفلسفية بالابتعاد عنها»، لا لإخراجها من الدرس المدرسي والجامعي فحسب، بل لإضفاء نوع من التشويق على لغتها وموضوعاتها، ومحاولة إخراج السؤال الفلسفي إلى الساحة العمومية، والانشغال اليومي.3972 عبد السلام بنعبد العالي

* هل هي دمقرطة لفعل التفكير...؟

- لنقل دمقرطة السؤال، بينما يبقى الفكر، كما تُعرِّفه الحداثة الفلسفية بأنه «أعدل الأشياء قسمة بين الناس».

* ومع ذلك تقع الفلسفة على جبهة الرفض، باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة والممانعة «ضد الراهن»، كيف للفكر أن ينفصل عن الراهن الذي تُغرقنا فيه وسائل ووسائط الإعلام مثلاً، بينما يستدرجه الراهن إليه، وإن اقترب منه نقدياً؟

-قال فوكو مرة عن الأيديولوجيا إنها ستدخل من النافذة إن أنت طردتها من الباب، فعندما كنا نقابل بين الفلسفة والأيديولوجيا، كنا نفترض مقدّمات أساسية؛ أولها أنه ليس هناك كوجيتو أيديولوجي. لا تقدّم لك الأيدولوجيا نفسها على أنها كذلك. لا تقول: أنا أيديولوجيا، إنها تتخذ دوماً صيغة اتهام للآخر: أنت أيديولوجيا، لذلك فحتى في حال فضحها كأيديولوجيا، سرعان ما تتقنع وتتخفّى، لذلك فهي محتاجة إلى فضح لا يكلّ، أو، كما تقول، ممانعة غير مهادنة. أما عندما دخلت الوسائط الجديدة على الساحة، ولم يعد الصراع الفكري يقتصر على أوهام الأيديولوجيا، فإن الأمور «تشبكت» مع الشبكة العنكبوتية، التي تجعل من الواقع واقعاً فائقاً، كما بيّن بودريار.

* ألّف جاك دريدا كتاباً بعنوان «أن تفكر هو أن تقول لا». وقد استعرتَ هذا العنوان لتجعله عنواناً لمقالة جديدة لك، لكنك استحضرت هذا المبدأ الفلسفي «التفكيكي» منذ عقود، وأنت تجعل من الفلسفة فكراً للاختلاف والانفصال بدل الاتصال. لكن، كيف يمكن لفكر الاختلاف والانفصال أن يحافظ على استمرارية التراكم الفلسفي والفكري، أم أنك تقول لا للتراكم نفسه، وعلى الفلسفة التي تنادي بها أن تقول لا للفلسفة نفسها؟

- ستسمح لي بأن أطيل في الجواب عن هذه النقطة، وربما على حساب غيرها، وذلك استبعاداً لمفهوم ساذج عن الاختلاف يجعله مجرد تبعثر. أعتقد أن علينا أن نستحضر أولاً وقبل كل شيء، المعاني المتعددة التي كان مفهوم الاختلاف يعنيها عندما غدا «مفهوماً» فلسفياً على يد أبي الجدلية هيغل. لتوضيح مفهومه عن الاختلاف، يبدأ هيغل باستبعاد موقف رائج يدعوه هو «الموقف الساذج عن الاختلاف» أو «الموقف الاختباري». يرى هذا الموقف أن الأشياء المتباينة تختلف عن بعضها اختلافاً بحيث لا يبالي أحدها بالآخر indifférente، ما دام كل منها مطابقاً لذاته مكتفياً بها. ما «يقف» عنده الموقف الاختباري من الاختلاف هو التنوّع. في هذا «الاختلاف الساذج» يغدو الكائن مُجزّأً إلى عناصر متعددة، وأطراف مبعثرة (خارج) بعضها عن بعض. إن هذا الاختلاف لا يرقى، حتى إلى مستوى التعارض، وبالأحرى التناقض. فالتنوع والتبعثر لا ينتعش إلا إذا تلقت الأشياء التي تشكّله السلب أو النفي، الذي هو سرّ الحركة التلقائية عند هيغل. والسلب لا يكون إلا (بجرّ المخالف نحو آخره لا بإبعاده عنه). هذا الجرّ هو ما يميز الاختلاف الأنطولوجي عن مجرد «التباين الساذج».

ينبغي إذن أن نميز بين مجرد «التباين الساذج» وبين «الاختلاف». الاختلاف يضعنا أمام متخالفين مُبعداً أحدهما عن الآخر، (مقرّباً بينهما في الوقت نفسه)، أما «التباين الساذج» فإنه يَعرضهما منفصلين متباينين، بينهما تباين وبَوْن. الاختلاف يقوم «في» الهوية، أما التباين فيحصل بين «هويات» متباعدة وكيانات منفصلة. الاختلاف «مفهوم» أنطولوجي، وليس مجرد مفهوم أنثروبولوجي إناسي، إنه ما بفضله يتحدد الكائن بوصفه زماناً وحركة، وما يصبح به التعدّد خاصية الهوية، والانفتاح سمة الفكر وسمة الوجود.

ما أريد أن أستخلصه من كل هذا هو أن القول بالانفصال لا يعني التبعثر، كما أن التفكيك لا يعني العدمية. أكاد أذهب عكس ذلك وأقول: هناك ضرورة للتفكيك؛ لأن هناك فيضاً من الحقائق، وربما أكثر مما يلزم.3973 عبد السلام بنعبد العالي

* كتبتَ عن الكتابة، اشتغلتَ على فعلها نفسه، مطوراً ما أسّس له رولان بارت ودريدا وموريس بلانشو وكيليطو، وآخرون في هذا الباب، هل يمكن القول إنها دعوة إلى التفكير في التفكير نفسه، نقداً وتفكيكاً له، بعدما ظل التفكير الفلسفي، ردحاً من الأزمنة واثقاً في خطاباته ومفهوماته ومقولاته، انطلاقاً من اعتقاد مفرط في المقدمات النظرية والصرامة المنهجية.

- ربما لا يسمح المقام ولا المجال لتفصيل هذه النقطة، والحديث عن علاقة الفلسفة بالأدب، أو، كما تقول مع بارت، علاقتها بالكتابة. ما دمت قد تحدثتَ عن التفكيك، فيمكن أن نقول باختصار إن مجال الكتابة يسمح لنا بأن «نمارس الفلسفة» ونفكك كثيراً من الثنائيات الميتافيزيقية، لعل أهمها ثنائيات معنى/مبنى، حقيقة/مجاز، أصل/مشتق. ولا أخفيك هنا أن اهتمامي بقضايا الترجمة ربما مكّنني من الانكباب على بعض تلك الثنائيات، وثنائية أصل/نسخة، على وجه الخصوص، فلست أهتم بالترجمة بحثاً عن «نظرية في الترجمة»، وإنما ممارسة للفلسفة، وتفكيكاً لأزواج الميتافيزيقا.

* عن مستقبل التفكير، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينوب عنا في التفكير. وعموماً، ينسى الذين ينكرون على الذكاء الاصطناعي ذلك أنه مِن صنع الفكر الإنساني نفسه، وهو مبرمج من لدن هذا الإنسان، وكأنه يدعوه إلى التفكير بدلاً منه ونيابة عنه؟

- إن كان لا مفر من أن يقارن الإنسان نفسه بمنتوجاته، فأنا أشعر بأنني متفوق على هذا الذكاء (الذي أستفيد منه وأستخدمه)، لا لأنني أكثر ذكاء منه ولا أغزر منه معرفة، وإنما فقط لأنني أتميّز عنه بقدرتي على النسيان.

* الفلسفة عندك فن، فن للعيش، كما ناديت بذلك. دعْني أطرح السؤال مقلوباً: كيف يمكن أن نعيش هذا الفن، أن نحيا فلسفياً على الأرض؟

- كي لا أتجاوز المساحة التي حددتها لي للإجابة عن أسئلتك، أقول باختصار شديد: أن نعيش بصحبة الشك.

* من كونديرا، استعرتَ مفهوماً آخر هو «البلاهة» لتوصيف ما يطبع عالم اليوم وخطاباته. هل مردُّ ذلك إلى تكرار الخطابات الجاهزة والمسكوكة فقط، أم لأنه يردد اليقينيات والمسلَّمات والمصادرات... بينما الفكر عندك خطاب غير جاهز وغير نهائي، منطلق وغير مطلق، منسرح ومتوثب؟

- تحدثنا عن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا. الفلسفة اليوم لم تعد تكتفي بمقاومة الأوهام ومكرها، وإنما تنصبّ على ما يدعوه دولوز الترهات والحماقات وأشكال البلاهة La bêtise، مقاومة أشكال البلاهة ربما لا تكفيهما رصانة العقل الديكارتي، ولا حتى صرامة النقد الأيديولوجي وشراسته، وإنما تحتاج، ولنقل فضلاً عن ذلك، لعقلانية ساخرة تقف عند ومضات الحياة المعاصرة، لا لتترصد أخطاء المعارف، ولا لتكتفي بفضح أوهام الأيديولوجيات، وإنما لترصد «منطق الخلل» الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها، ولتفضح اللافكر الذي يتخفى من ورائها.

* أخيراً، ماذا عن مفكر اسمه عبد السلام بنعبد العالي؟

- لنقل إنني لا أنفكُّ أبتعد عنه، ربما اقتراباً منه.

***

المغرب : مخلص الصغير

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 20 نوفمبر 2023 م ـ 06 جمادي الأول 1445 هـ

 

عبر التاريخ استفادت العلوم الإنسانية من ورش الصراعات السياسية، وأثرت الحروب والثورات وتشظّياتها بإنتاج مذاهب متفرّعة متجاوزة.

وإذا خصصنا الحديث عن الفلسفة، فإن الواقع له أثره في تثوير التيارات المتضاربة، وشهد تاريخها صراعاتٍ مريرة وصلت حد العته بالهجوم الشخصي المتبادل بين فلاسفة كبار؛ مثل خلاف شبنهور وهيغل، والأخير المسؤول عن لجنة الامتحان خلفاً لفيخته، واختلفا بشكلٍ عنيف حتى وصف شبنهور هيغل بـ«المشعوذ» وبأوصاف أخرى تنظر بمقدمة كتابه «نقد الفلسفة الكانطية».

ساحات النقاش بكل أشكالها تسهم حتى من دون ترتيب في إنتاجٍ مختلف، وحين تخاصم طويلاً «دريدا» و«هابرماس»، لم يلتقيا إلا بعد لأي، وأثمر اللقاء عن كتابٍ مشترك حول «الفلسفة والإرهاب» بمبادرة من الباحثة جيوفانا بورادوري.

لم يكن الفيلسوف الفرنسي والرئيس السابق لقسم الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة «آلان باديو» على وفاقٍ مع الفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز»، والسبب ألخصّه من روايته. لقد شهدت فترة الستينيات انتشار «المراهقة السارترية» و «لاكان جاك»، وهو المحلل النفسي الفرنسي، والمنطق الرياضي. و«جيل دلوز» لم يكن متصلاً بمرجعيات تلك الموجة، انشغل بأفلاطون، و«ديفيد هيوم« و«نيتشه»، و«هنري برغسون»، بينما «باديو» لديه مراجعه أفلاطون، هيغل، والفيلسوف الألماني إدموند هوسرل. وبالنسبة لباديو، فإن «دلوز»، كان ذوقه أميل إلى حساب التفاضل، كان ينهل منها الاستعارات. وباديو يرى في «دلوز» الملهم الفلسفي لظاهرة «الفوضويين» العدوَ اللدود، ثم يفصح عن تأسيسه لعصابة هجوم على درسه الأشهر في المنابر الجامعية آنذاك، إنها قصّة خلاف منهجي طويلة، انتهت أوائل التسعينيات من القرن العشرين.

حين تواصل «باديو» مع «دلوز»، وذلك بعد وفاة زميله «غيتاري»، طالباً منه البدء بتراسلٍ مستمر، هدفه تسليط الضوء على «دقة الوضوح، أو تميّزه المبهم» لتدوين كتابٍ حول فلسفة «دلوز» التي عاد إليها «باديو» بعد مقاومة لها امتدت لثلاثة عقود، لقد جاء إليه متأخراً إذ داهمته حينها حالة مرضية، ومزاجه ليس على ما يرام، وبعد عددٍ من الرسائل بينهما مزّق الورق كله وبشكلٍ فظ وأرسل بغضب: «لا أريد نشر هذه الأوراق»… عاد باديو إلى مقرّه ليدوّن كتابه «دلوز صخب الكينونة»، وضمّن مقدمة الكتاب هذه القصة المختصرة.

لقد جاء الكتاب كما يروي باديو «نتيجة صداقة صراعيّة بقيت، بمعنى معين، من قبيل الممتنع أن يحدث».

والكتاب يشبه «دلوز» أكثر من «باديو»، متجاوزاً للمنهج التسلسلي؛ كل فصلٍ منه هو قصيدة أو لوحة أو رسمة لمفهوم يتخيّله، يتناول بشاعرية فلسفية «مفهوم الواحد، تواطؤ الكينونة، الجدلية المضادة، مسار الحدس، في أساسٍ يعاود تفكّره، العود الأبدي والاتفاق، الخارج والطيّة، ومفهوم الطيّة»، المفهوم الذي سبب عودة باديو لدلوز؛ يصفه بابن القرن العشرين على الإطلاق. التفكير فرقٌ وتعرّف إلى الفروق. الأنطولوجيا تتطابق مع تواطؤ الكينونة. الأثر الذي لا يقوم على تراتبية هو تكثّف تكيانات، وتآينُ أحداث. منهج دلوز يرفض الاستناد إلى التوسيطات، منهج مضاد للجدلية".

تلك السجالات الأبدية أو الطارئة تحدث زخماً علمياً، ولكن الساحة العربية اليوم تفتقر لمناخات مماثلة من السجال الحيوي، وإن بَعُد مدى الاختلاف، لكنه ينتج تفجرات متعددة لتحفر مساراتٍ جديدة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 21 نوفمبر 2023

الشعوب القديمة اختبرت ضروباً شتّى من الأخلاقيّات والروحانيّات

حين يعاين المرءُ مسلكَ الأمَم والشعوب والمجتمعات، يدرك أنّ العلاقة الناشطة بين الأخلاق والمعرفة تخضع لعواملَ شتّى من التفاعل الجدليّ. الأغلبُ في التحليل الناشط أن نربط رقيَّ الوعي الأخلاقيّ بترسُّخ المكتسبات العلميّة وتطوّر المدارك المعرفيّة. غير أنّ الأمور في واقع التاريخ الإنسانيّ ليست على هذا الوضوح؛ إذ تَبيَّن لنا أنّ فهم الوجود فهماً علميّاً متقدّماً لا يُفضي في الغالب إلى التخلّق بأخلاق الرفعة الإنسانيّة. ومن ثمّ، لا بدّ لنا من أن نسأل: هل ترتقي الأخلاقُ الإنسانيّةُ بارتقاء المعارف العلميّة؟ هل يواكب الرقيُّ الأخلاقيُّ حتماً التقدّمَ العلميَّ؟ بتعبيرٍ آخر: هل يستحيل تهذيبُ الأخلاق إذا تَعطّل في مسلك الشعوب إنتاجُ المعرفة العلميّة المحض؟

مِن عِبَر التاريخ أنّ الشعوب القديمة اختبرت ضروباً شتّى من الأخلاقيّات والروحانيّات جعلتها تهذّب بعضاً من وعيها ومسلكها، ولو أنّ مقدار مكتسباتها المعرفيّة كان ضئيلاً. غير أنّنا نعاين اليوم تطوّراً مذهلاً في المعارف العلميّة يوشك أن يوهمنا برقيٍّ استثنائيٍّ في الأخلاق. والحال أنّ المجتمعات المتقدّمة معرفيّاً وعلميّاً وتقنيّاً ما برحت تخضع لأهواء الاحتراب والاقتتال، في حين أنّ أفرادها ما فتئوا يعانون في وجدانهم الصراعَ المريرَ بين الخير والشرّ، بين منافع الذات الأنانيّة ومصالح الجماعة، بين مقتضيات رعاية الكيان الذاتيّ وضرورات صون الاجتماع الإنسانيّ والطبيعة والبيئة.

أعتقد أنّ المسألة تتعلّق بطبيعة الإنسان المفطور على التنازع الجوّانيّ بين قيَم الرقيّ ومسالك الانحطاط، وبطبيعة الدولة المبنيّة على رعاية تملّك الأرض ومواردها والحفاظ على وجود الأفراد والجماعة وتدبير شؤون المعيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة. ذلك بأنّه ليس من اليسر تدبيرُ حياة الناس على الأرض في مقاطعاتٍ شبهِ متجانسةٍ تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى دوَلٍ مستقلّةٍ ترعى مصالحَها، سواءٌ بالتفاوض الفطن أو بالتصارع العنفيّ. لا ريب في أنّ جميع الوقائع التاريخيّة هذه تدلّنا على أنّ الرقيّ الأخلاقيّ أضحى مسألةً شديدةَ التعقيد والإرباك، إذ لم يَعد الأمرُ يقتصر على حسن النيّة وسوئها، أو صلاح الضمير وفساده، بل أمست بنى الاجتماع الإنسانيّ المعقّدة ومتطلّباتها المتشابكة المتدافعة في منزلة العائق الأخطر الذي يعطّل الالتزام الأخلاقيّ السويّ.

لا بدّ أيضاً من التأمّل في حقيقةٍ إنتروبولوجيّةٍ أخرى استجلى عناصرَها عالمُ الإتنولوجيا الفرنسيُّ كلود - لِڤي ستروس (1908 - 2009) الذي انتقد تصنيفَ الشعوب بحسب مراتب تطوّرها المعرفيّ. اعتمد ستروس على منهجيّة الإنتروبولوجيا البنيويّة التي تخالف التعليل الذي تسوقه المذاهب التطوّريّة والثقافويّة والوظائفيّة وسواها، فأكبّ يشرح طبيعة الاجتماع الإنسانيّ وتجلّياته الثقافيّة التاريخيّة، وقد تصوَّره في هيئة البنية الكلّيّة الشاملة التي تنطوي على نظامٍ تماسكيٍّ ذاتيِّ الانضباط يتجاوز قدرةَ وعي الأفراد على الإمساك به والتأثير فيه. ومن ثمّ، أخذ يبيّن لنا في كتابه الفكر البرّيّ أنّ التمييز بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الحديثة لا يستقيم على الوجه الذي نعرفه؛ إذ إنّ الفكر البدائيّ يتّصف بالمهارة العمليّة الإصلاحيّة الفطنة ويربط الأحداث بالبنى السائدة، في حين أنّ الفكر الحديث يتميّز بالحذق الإبداعيّ الذي يستند إلى البنى فيتجاوزها تجاوزاً يؤهّله لابتكار الحدث الفذّ.

وعليه، لا يجوز لنا أن نحكم على المجتمعات البدائيّة بالتخلّف أو بالعجز عن إدراك تعقيدات الظواهر التاريخيّة المتشابكة. كذلك لا يليق بنا علميّاً أن نمنح المجتمعات الحديثة مقامَ الصدارة من جرّاء امتلاكها وسائلَ المعرفة المتقدّمة. ذلك بأنّ جميع المجتمعات الإنسانيّة، بمعزلٍ عن زمنيّتها المعرفيّة، تمتلك القدرةَ عينَها على تدبّر الواقع الحيّ وتصنيفه وترتيبه. الاختلاف الوحيد يكمن في الطريقة أو في المنهج، لا في القدرة أو في الملَكة المعرفيّة. الثابت أنّ الناس في جميع المجتمعات يمتلكون القدرات الذهنيّة والفهميّة ذاتها بمعزلٍ عن مرتبتهم الحضاريّة أو لنقلْ عن اختبارهم الحضاريّ الخاصّ. لذلك يجب أن نحفظ للمجتمعات البدائيّة الفضلَ الذي اكتسبته في إحراز العلوم إحرازاً مقترناً بمنهجيّتها الخاصّة المستندة إلى المعاينة الحسّيّة الإمبيريقيّة، في حين أنّ منهجيّة العلوم الحديثة تقوم على التجربة التي لا تلبث أن تزدان بالنظر التجريديّ والبناء الأفهوميّ.

إذا كان العِلمُ أعدلَ الأمور قسمةً بين المجتمعات، فإنّ الأخلاق أيضاً تشترك في الشموليّة الحضاريّة هذه، ولكن من غير أن تقترن بطبيعة المعرفة العلميّة السائدة. في الأزمنة الحديثة والمعاصرة فاز الإنسانُ الغربيُّ بإدراكٍ معرفيٍّ جليلٍ أهّله للسيطرة النسبيّة على بعض عناصر الطبيعة الفيزيائيّة والكيميائيّة. ولكن هل ردعنا اكتشافُ القنبلة النوويّة عن استخدام القوّة المفرطة في إبادة أعدائنا؟ هل أسعفنا إحصاءُ خلايا الدماغ ورسمُ خريطة الجسم الإنسانيّ الجينيّة في ضبط غَضبتنا المؤذية وتهذيب مسلكنا اليوميّ؟ هل ساعدتنا المراصدُ الفضائيّةُ الضخمةُ المستقصيةُ مجرّاتِ الفضاء الأرحب وكواكبَه ونجومَه في كبح جماح هيمنتنا على الطبيعة وزجرنا عن إهانتها وتلويثها وتشويهها؟

ما من إجابةٍ مُقنعةٍ عن الأسئلة الخطيرة هذه إلّا تلك التي تُفضي بنا إلى التأمّل في الطبيعة الالتباسيّة الانعطابيّة التي انفطر عليه الكائنُ الإنسانيُّ، وقد تنوّعت تجلّياتُه الحضاريّةُ في مجتمعات المسكونة قاطبةً. أعلم علمَ اليقين أنّ الذين كانوا يأكلون لحم البشر لم يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من التدبّر المعرفيّ والتبصّر العلميّ والفهم الحضاريّ. ولكنّ البنية المعياريّة الأخلاقيّة البدائيّة التي كانت تضبط علاقاتهم ومعاملاتهم ومسالكهم تُشبه، في وجهٍ من الوجوه، البنية الحديثة التي تنتظم بها أحوالُ معيّتنا الإنسانيّة المعاصرة. ذلك بأنّ شرعة حقوق الإنسان المعتمَدة في القرن العشرين لم تنشأ في الفراغ الحضاريّ المطلق. جميع الحضارات الإنسانيّة اهتدت بالتلمسّ البطيء إلى اختبارٍ تشريعيٍّ أوّليٍّ جعلها تتحسّس ضرورةَ الانتظام الأخلاقيّ في معترك الاجتماع الإنسانيّ الناشئ.

أمّا اليوم، فإنّنا بلغنا شأواً بعيداً في اكتساب المعارف المتقدّمة التي تؤهّلنا لأفضل ضروب الوعي الحضاريّ المتراكم. بيد أنّنا ما برحنا نتخاصم ونتصارع ونتحارب ونتقاتل ونُبيد بعضنا بعضاً من جرّاء استفحال أنانيّاتنا الفرديّة والجماعيّة، حتّى إنّ المتشائمين يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّ العنف بين الناس اشتدّت وطأته بسببٍ من تطوّر أساليب العنف المستخدَم في الإبادة الجماعيّة. إذا قارن المرءُ حروب الأحصنة والسيوف بحروب الأشعّة النوويّة والاستئصال الجرثوميّ، جزم أنّ أخلاقيّات الاحتراب البدائيّة أرقى حضاريّاً من خبث السياسات الدوليّة الإفنائيّة المعاصرة. يبقى لنا أن نسأل: كيف نستطيع اليوم أن نربط تقدّمَ العلوم الإنسانيّة والوضعيّة بتهذيب الأخلاق الفرديّة والجماعيّة؟ إذا كان الاختلافُ الثقافيُّ بين البدائيّين والمتمدّنين مقتصراً، بحسب العالم الفرنسيّ ستروس، على المنهجيّة المعتمَدة، وَجَب علينا أن نراعي أخلاقيّات الهنود والأفارقة والعرب والآسيويّين والأُوروبّيّين الأوائل الذين ساروا في معاملاتهم الإنسانيّة على هدي البنيان المضيء في الفطرة الطبيعيّة، فقمعوا ميولَهم الرديئة ونوازعَهم السيّئة ورذائلَهم القبيحة، وأكبّوا يطلبون الفضيلة في مساعيهم الحضاريّة المتواضعة. أمّا الشرّ الكامن في الطبيعة الإنسانيّة، فلم يملك عصرَ ذاك أن ينفجر إهلاكاً وإبادةً على نحو ما نعاينه اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة. لا تكون المعرفة بركةً للناس إلّا حين تقترن بمكارم الأخلاق. في غير ذلك علّمتنا خبراتُ التاريخ أنّ العقل الأداتيّ الاستنفاعيّ الاستغلاليّ هدّامٌ في فتوحاته المنعتقة من كلّ هدايةٍ أخلاقيّةٍ. من الضروريّ أن يكتشف الإنسانُ بالمعرفة واقعَ الأحوال حتّى يُشرّع تشريعاً صائباً. غير أنّ المعرفة وحدها لا تكفي من أجل إقناع الإنسان بانتهاج سبيل شرعة حقوق الإنسان الكونيّة الأرقى.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 12 نوفمبر 2023 م ـ 28 ربيع الثاني 1445 هـ

صدر مؤخراً كتاب قيم للأديب اللبناني وأمين السر الدائم للأكاديمية الفرنسية أمين معلوف، عن دار النشر الفرنسية العريقة «كراسييه»، بعنوان «متاهة الحائرين – الغرب وخصومه»؛ ويرجع بنا هذا الكتاب عن طريق استحضار عوامل من التاريخ إلى تجليات المواجهة الحالية بين الغرب وخصومه من خلال تقصي مسار أربع دول عظمى: اليابان الأولى في عصر ميجي، وتعرف اليوم تطوراً صناعياً أبهر العالم أجمع، وروسيا السوفياتية التي شكلت لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان تهديداً كبيراً للغرب قبل أن تنهار، ثم الصين التي تمثل في هذا القرن الـ21 التحدي الرئيسي لتفوق الغرب بتنميتها متعددة الجوانب وثقلها الديمغرافي وآيديولوجيتها المختلفة، وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية التي وقفت في وجه الخصوم الذين تحدوها وهي التي أصبحت الدركي الكبير والقوة العظمى الأولى على كوكب الأرض.

وفي هذا السياق، حق لأمين معلوف أن يتساءل: «هل هناك حقاً تراجع غربي؟» يجيب الكاتب منذ مقدمة الكتاب بنعم؛ فالسقوط حقيقي، ويأخذ في بعض الأحيان مظهر الإفلاس السياسي والأخلاقي، ولكن من يحاربون الغرب ويتحدون تفوقه لأسباب جيدة أو سيئة يواجهون هم أيضاً فشلاً أخطر من فشله، لأنه لا الغربيون ولا خصومهم قادرون اليوم على إخراج البشرية من المتاهة التي يقبعون فيها، وبالتالي لا بد من إعادة التفكير في الميكانزمات والطرق التي يُحكم ويسير بها عالمنا من أجل بناء مستقبل أكثر أماناً للأجيال المقبلة وإيصالهم إلى بر من الأمان يكون خالياً من الحروب الباردة أو الساخنة، ومن صراعات لا نهاية لها من أجل الهيمنة.

ويبدأ أمين معلوف كتابه بقناعة ويختم بها مفادها أننا نتبع طريقاً معوجاً وخاطئاً عندما نظن أن البشرية لا بد أن تكون لها قوة مهيمنة على رأسها، وأن تكون هاته القوة الأقل سوءاً أي تلك التي لا يجب أن تهضم الآخرين... فلا أحد يستحق أن يتبوأ هذا الموقف الساحق، لا الصين ولا أميركا ولا روسيا ولا الهند ولا إنجلترا ولا ألمانيا ولا فرنسا ولا حتى أوروبا الموحدة، إذ إن الجميع بلا استثناء سيصبحون متعجرفين ومفترسين وطغاة ومكروهين، إذا وجدوا أنفسهم قادرين على كل شيء، حتى لو كانوا حاملين لأنبل المبادئ، لأن هذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه لنا التاريخ، وإذا فقهنا ذلك جيداً سيكون ذلك أساساً لحلول مرضية للبشرية.

نتمنى كلنا ذلك، ولكن المشكلة في نظري أكبر من ذلك؛ لأن النظام العالمي أصبح أولاً موسوماً بالغموض والمجهول وعدم اليقين وصعوبة التنبؤ بما سيقع، ثم ثانياً أضحى الفاعلون فيه في ازدياد مستمر، فنحن إذا نظرنا من زاوية سوسيولوجيا العلاقات الدولية سنخرج بقناعة أن القوة كانت في النظام القديم موزعة بنمط يشبه لعبة شطرنج معقدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى رقعة الشطرنج العليا، نجد القوة العسكرية أحادية القطب إلى حد كبير، واحتفظت أميركا بتفوقها في ذلك، فإلى حدود الساعة أميركا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن ترسل قوات رادعة إلى مناطق مختلفة في العالم، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فقد ظلت القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد هي المحددة، واللاعبون الرئيسيون هم بالخصوص الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة في التزايد، وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافاً فاعلين ليسوا دولاً، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونياً، والإرهابيين، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ إلى غير ذلك.

ونظرية أمين معلوف تحيلنا إلى فكرة أخرى كان قد طورها في كتاب سبق وأن ألّفه سماه «غرق الحضارات»... فهناك في نظره أمم ناشئة أو وليدة، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، ويفرض نفسه على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقي بظلالها على الكوكب، وبالتالي «لن نتمكن من مجابهتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به، لأنه يمثل السبيل الوحيدة أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا»، وفي الوقت نفسه يعزز الكاتب أطروحته «غرق الحضارات» بالتأكيد على حالة التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة الدولية وتنعكس أيما انعكاس على الحضارات، فالولايات المتحدة الأميركية تعرف تغييرات جذرية على الساحة الدولية كما أنها تتجه إلى فقدان مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق أمام مواطنيها بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها تعرف اليوم تبني سياسات عمومية هي نقيضة تلكم المبادئ، في الوقت الذي ينغمس فيه العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة تتفاقم رويداً رويداً...

ولكن إذا سمح لنا بتشريح مستوفٍ للساحة الدولية عبر العصور سنخرج بقناعة أن التناقضات لم تتوقف يوماً من الأيام بل كانت في بعض الأحيان أكبر مما هي عليه اليوم وتجعلنا نقول إن الحضارات باقية باقية ولن تغرق ما دامت الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي مكونات الحضارة، مستمرة؛ ولكن الذي سيقع هو أن الصراع في النظام العالمي سيبقى محتداً وسيكون هناك تراجع نسبي للولايات المتحدة في النظام العالمي، وتراجع هيبتها؛ وسيسطع نجم دول أخرى مثل الصين ودول أخرى لن تكون لها الهيمنة كما كانت لأميركا طيلة عقود، ولكنها ستكون مؤثرة اقتصادياً وصناعياً وستقود تحالفات عسكرية لا غربية، لأنها استطاعت فهم العولمة والارتماء في قواعدها بذكاء ونجاح، وهي تقول مثلاً لأي دولة تتعامل معها تجارياً أن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني بالضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو»، وإنما في إطار «رابح - رابح» win - win.

***

د. عبد الحق عزوزي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد 12 نوفمبر 2023 - 27 ربيع الثاني 1445 هـ.

 

بقلم: نيك هاسلام

ترجمة: مصطفى عطية جمعة

***

تتنوع التحيزات وتتعدد مذاق نكهاتها أكثر من نكهات آيس كريم باسكن روبنز، فهناك تحيزات معروفة تعود إلى الجنس والعرق والعمر والطبقة وأيضا للوزن وللوسائط Media، التي يمكنها – بالكاد- خدش السطح الظاهر لوعينا.

ومعلوم أن علماء النفس يصنفون التحيزات ضمن مباحث الإدراك المتأخر والاستبصار، والانتباه والذاكرة، والتفكير والحدس، بالإضافة إلى سلسلة من الأوهام العقلية، والمغالطات والإهمال (لأمور بعينها) إلى جانب الفجوات (المعرفية والفكرية) والنفور(من أشياء ونقاط بعينها). حتى إن هناك ما يسمى النقطة العمياء للتحيز، التي نؤمن فيها إيمانا خاطئا بأننا أقل تحيزا من الآخرين، وهناك ما يطلق عليه «تحيز التحيز» ويعني الميل إلى استخدام مفهوم التحيز بحرية كبيرة عند النظر وإصدار الحكم.

إن المفهوم الأساسي القائل إن التفكير البشري غير معصوم من الخطأ هو السبب وراء انتشار التحيزات الخطأ؛ فنحن نقع فريسة لأخطاء عدة تسحبنا وتدفعنا بعيدا عن المُثُل العليا كالعقلانية والإنصاف، فإذا كان ابتعادنا عن التفكير الجيد والعمل الصحيح نابعا من مثل هذه التحيزات والأخطاء؛ فإن تحديدها ومعالجتها تعد أمورا مهمة، وملحة وواجبة.

ويُعَدُّ كتاب «نهاية التحيز: كيف نغير عقولنا» The End of Bias How We Change Our Minds للمؤلفة جيسيكا نوردل Jessica Nordell» تعبيرا قويا عن وجهة النظر القائلة إن التحيز هو أصل العديد من الانقسامات الاجتماعية وعدم المساواة، وبدلا من مجرد الاكتفاء بهذا التشخيص؛ تقدم نوردل حجة قوية مفادها أن التحيز يمكن اقتلاعه.

ويشكّل كتابها مراجعة علمية جيدة على صعيد علم التحيز، خاصة في كيفية تطبيق الدروس المستفادة منه في تعزيز التغيير الاجتماعي التقدمي. وفي سبيل ذلك، تبدأ نوردل دراستها العميقة بفحص منظور علم النفس الاجتماعي الحديث للتحيز، إدراكا منها باستمرارية العنصرية والتمييز على أساس الجنس، مع أنماط تحيزات أخرى. فعلى الرغم من انخفاض ظاهرة التعصب الصريح، إلا أن علماء النفس توصلوا إلى وجهة نظر مفادها أن العديد من التحيزات الاجتماعية تلقائية أو غير واعية أو معتادة، حيث يمكننا الإعلان بصدق عن التزامنا بقيم المساواة، لكننا لا نزال نميّز ونتحيز في أفعالنا، أو في ردود أفعالنا، في مواقف أو آراء بعينها.

في الفصول الأولى من كتابها نهاية التحيز، تستكشف نوردل سيكولوجية أشكال التمييز، حيث تعرّف القارئ على المفاهيم الحديثة للقوالب النمطية Stereotyping، وعملية التهيئة Priming، وهي التحفيز التلقائي للجمعيات العقلية، وعملية الإدراك خارج الوعي. وتوضح نوردل كيف يمكن أن يكون التمييز خفيا بطبيعته، لكنه قوي في الواقع، وأن أجزاءه تتراكم بمرور الوقت في النفس. وعلى المستوى الطبي، يمكن أن تؤدي التحيزات غير المعترف بها من قبل الأطباء المعالجين، إلى حجب أدوية الألم عن المجموعات المصنفة على أنها عاطفية أو عديمة الشعور، وقد أشارت إحدى الدراسات الحديثة إلى أن بعض المتدربين من الأطباء البيض يعتقدون أن المرضى السود لديهم جلد أكثر سُمكا من المرضى البيض، وفي السياق الطبي أيضا، يمكن أن يؤدي هذا الوعي، إلى فقدان التشخيص الدقيق، وإلى قرارات العلاج القاسية أو الرافضة. على جانب آخر، يمكن للتحيزات اللاواعية أن تدفع ضباط الشرطة (في الولايات المتحدة الأمريكية) إلى المبالغة في تقدير التهديد الجسدي الذي يشكله المشتبه فيهم من السود، ما يدفعهم إلى التعامل المباشر بالسلاح معهم، متوهمين النية العدائية إزاءهم عن طريق الخطأ، وغالبا ما يحدث ذلك، وينتج عواقب مأساوية.

وتجادل نوردل بأن التحيزات اللاواعية تقف وراء الفشل في البيئات المدرسية، في النظر إلى طلاب الأقليات على أنهم غير موهوبين (أو غير أذكياء نابهين)؛ وكذلك في الاستخدام غير المتكافئ في عملية الانضباط المدرسي والصفي، بل إن التحيزات ذات الصلة تعرقل توظيف المجموعات غير الممثلة في الجامعات والمؤسسات الأخرى، وتحدّ من تقدمها في سُلّمها المهني أو الوظيفي. ومن أجل تغيير السلوكيات المتحيزة في العقول والقلوب؛ علينا الأخذ في الحسبان أن التحيز يبدأ بالعلاج في علم النفس، لكن يجب ألا نهمل الأبعاد النظامية والمؤسسية والثقافية لقضية التمييز وعدم المساواة، وفي ذلك، لا تقلل نوردل من التحيز الفردي قياسا على البنية الاجتماعية، بل إنها تناقش كيفية تعزيز التحيزات العقلية (لدى الفرد) والممارسات المجتمعية بعضها للبعض الآخر، ذلك أن نفي اللامساواة لن يحدث بعقد بعض الندوات التوعوية المتنوعة، فالحلول من أعلى إلى أسفل لا يمكن نجاحها دون تغييرات في القلوب والعقول.

هذا التركيز المجسم Stereoscopic focus – من قِبل نوردل – على التفكير الفردي والأنظمة الاجتماعية الأوسع؛ يساهم في إيضاح كيفية التغلب على التحيز، حيث تنصب طروحاتها في كتابها على سبل التدخلات الناجحة في الواقع، عبر تبني برامج متعددة كورش العمل التي تستهدف الأفراد؛ وتجارب الاتصال بين المجموعات، كالفصول الدراسيةJigsaw classrooms ، وما يمكن أن تقدمه للطلاب من ألعاب عديدة، مثل ترتيب الصور وتركيبها، وكذلك المسابقات الرياضية المتكاملة، كما تولي عنايتها إلى التحولات في العمليات المؤسسية والأعراف الاجتماعية. كما تنظر نوردل للتعليم قبل المدرسي، من أجل إزالة كل التحيزات المتعلقة بنوع الجنس، وكذلك التدريب الذهني Mindfulness training لضباط الشرطة، وأهمية وجود نماذج يحتذى بها للنساء العالمات في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وكذلك في مبادرات الشرطة المجتمعية، فبلا شك، يمكن إحداث تغيير عن طريق تعديلات وتنبيهات بسيطة، وأيضا عن طريق التحولات الشاملة للثقافة التنظيمية. فثمة ذخيرة من التدخلات الواعدة الكثيرة والمتنامية، على الرغم من اعتراف نوردل بأن هذه الإجراءات على فعاليتها غالبا ما تكون محدودة، وأن بعض التدخلات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية.

وهي تؤكد أن عملية النهوض بالوعي نادرا ما تكون كافية، فإذا كان التحيز في كثير من الأحيان اعتياديا وتلقائيا، فإن الإدراك والنية الحسنة لن يتغلبا عليه. وبالمثل، فعلى الرغم من أن ميلنا لرؤية بعضنا البعض من خلال العدسة المشوهة للصور النمطية الجماعية؛ قد تغرينا بالتخلص من التركيز على الفئات الاجتماعية، فإن نوردل تجادل بأن ذلك ليس خيارا مرغوبا فيه، فعمى الألوان لن يكون طموحا واقعيا في عالم يرى العرق مُهما، بمعنى أنه لا يمكن التغاضي عن لون البشرة في عالم يصدر أحكامه بناء على النظرة العرقية. إن دراسات الحالة التي أوردتها نوردل تأتي من كوسوفو ورواندا والسويد، لكن مرجعها الرئيسي هو الولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص الانقسامات العرقية، فهذا الكتاب يخاطب الجمهور الأمريكي بشكل صريح، على الرغم من أن الكثير من رسائله يمكن ترجمتها في سياقات أخرى. ويبقى التقييم الحقيقي لما طرحته نوردل للتغلب على التحيز أنه في نهاية الأمر حالة عاطفية، قد تبدو مقنعة في كثير من الأحيان، لكن لها حدودها، في أحيان أخرى، حيث تبالغ في التأكيد على صرامة الأدلة التي يبنى عليها علم التحيز. والمثال على ذلك، أن الادعاءات المبكرة التي تدّعي القدرة التنبؤية لفهم مقاييس التحيز اللاواعي مسبقا؛ واجهت تحديات وانتقادات جمّة، فكيف يمكن أن نفسر معنى مثل هذه التحيزات الظاهرة في التصرفات المباشرة في مواقف بعينها؟ هل ينبغي معاملتها على أنها علامات على التحيز التلقائي لشخص ما، أم أنها مجرد دليل على تعرضه للغمط في مجتمع غير متكافئ؟ وبالمثل، فهناك تحفظ على إشارات نوردل إلى «تهديد الصورة النمطية Stereotype threat» التي تعني أداء الأشخاص الضعيف وخشيتهم من أن يتم الحكم عليهم سلبيا؛ بناء على الصورة النمطية للمجموعة التي ينتمون إليها، حيث تتغاضى نوردل عن ذكر التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الظاهرة المستشرية.

أيضا، يجب استكشاف مفهوم العدوان الدقيق Microaggression، الذي هو مصطلح تمت صياغته لوصف الأشكال الضمنية أو اللاواعية للسلوك التمييزي، دون نقد له، ودون الاعتراف بإشكالية تعريفه ومواضع استخدامه، أو إذا كان هو بالفعل طريقة مفيدة لفهم الحقيقة التي لا شك فيها عن التحيز الدقيق. وبشكل عام، قد نتساءل عما إذا كان للتحيز مفهوم قوي بما يكفي لتحمل المقصد الذي تقدمه نوردل، فالمشكلة عندها أنه لم يتم تعريف ما يعدّ تحيزا أبدا، إنها تعمل كفكرة لتجميع الأغراض التي يمكن أن تمتد لتغطية أي ظاهرة اجتماعية تقريبا. ففي الواقع، فإن للتحيز نقاط ضعف عديدة، بوصفه حسابا لعدم المساواة الاجتماعية؛ إنه يعني ضمنا أن التحيزات ترتكز على اللاعقلانية، وتعكس في كثير من الأحيان اختلافات حقيقية في المصالح والقيم والموارد المادية. فلا يمكن اختزال هذه الاختلافات إلى أخطاء عقلية من جانب واحد، كما أن مفهوم «تحيز التحيز» قد يبدو ظاهريا خطأ إدراكيا، حيث تأخذه نوردل أحيانا إلى أقصى الحدود، فتصور التحيزات على أنها فواصل شاملة مع الواقع، وتصفها أحيانا بمصطلحات نفسية. وهي تشير أيضا إلى «الذهان الأبيض» وتذكر: أن «هناك، في العقل المتميز، وهمٌ مستمر» فالأفراد المنحازون – في تصور نوردل- «لا يرون شخصا ما، إنهم يرون أحلام يقظة على شكل شخص».

هذه النظرة إلى التحيز تجعله أشبه بالعمى والجنون والخيال والوهم، ناهيك عن الإيحاء بأن هذا التحيز مقتصر (وموجه) على بعض الجماعات أو الأفراد، فهو خروج صارخ عن سيكولوجية التحيز التي يبدأ بها الكتاب. (أي خروج عن الروح العلمية وتصبح النظرة أقرب إلى النمطية). أيضا، فإن التحيز له مشاكل إضافية تتعلق بالمفهوم الأساسي لفهم أوجه الظلم الاجتماعي التي قد تحدث؛ فالميول والأنماط المنهجية تظهر بشكل مجمل وعام وغير محدد، وسيكون من الصعب جدا إرجاع حدوث المظالم الاجتماعية إلى التحيزات، فمثلا من الصعب أن يكون أثر عامل خطير، متعلق بمرض ما بوصفه سببا لحالة شخص معين، وما يحدث غالبا أنه يتم عزو أحداث ونتائج معينة- في الظلم الاجتماعي- إلى التحيز، ويتم هذا بعجلة كبيرة وثقة، قد تكون هناك عوامل أخرى، تقف وراء هذا الظلم، وليس التحيز في أساسه. فعادة ما تكون التحيزات عرضة لتفسيرات بديلة ولعوامل مركبة، فهناك جدل مستمر حول مدى تفسير بعض التحيزات المتعلقة بالعرق على الأقل جزئيا بواسطة الطبقة الاجتماعية والاقتصادية. فمثلا، فإن نسبة كبيرة من فجوة الأجور بين الجنسين، قد تكون بسبب عواقب الأمومة وليس الجنس نفسه.

إذا كانت هذه التفسيرات البديلة لها ميزة، فإن بعض التحيزات المفترضة للعرق والجنس قد لا تتعلق – في الواقع- بشكل أساسي بالعرق والجنس إطلاقا، مثل عدم اليقين حول إمكانية تفسير التحيزات الظاهرة من خلال عوامل أخرى، بما يمثل مشكلة كبيرة لمنظور التحيز أولا. وعلى العموم، فإن التحيز في النهاية يتم طرحه بحماسة كبيرة بوصفه قضية أخلاقية، لذا، ففي بعض الأحيان، يتم استخدام الدين كطريقة لتخليص المرء من تحيزاته (السلبية) وهو ما يبدو غريبا – مثلا- على آذان الأستراليين، بأن يصبح الدين مسعى روحيا أو طريقا للهداية من التحيز، ثم يكتمل بالاعترافات والبوح والتطهير. وقد كتبت نوردل: ربما تكون «هشاشة اللون الأبيض» أو «هشاشة الذكور.. هي في الواقع ذات صلة محسوسة بضرر أخلاقي قديم، ارتُكِبَ من قبل أسلاف المرء» بأن يتم ربط هذه الظاهرة مع تحليلها، باستقطاب مفهوم التحيز، بوصفه عملية ذهان (هوس) غير مستنير The psychosis of the unenlightened، وهو الذي يذكرنا بعالم الملائكة والشياطين، بما يجعل نهاية التحيز ملونة بالتدين الأمريكي.

وختاما يمكن الجزم بأن نوردل تقدم في كتابها صورة متفائلة، توضح قدرتنا – نحن البشر- المتزايدة على تقليل التحيز، حيث استهلّت كتابها بمقدمة قيمة وواضحة عن دور علم النفس الاجتماعي ضد التحيز، وكذلك أنهت كتابها؛ مما سيُعزز التزام بعض القراء بمكافحة التحيز، وقد يتقاعس البعض الآخر عن كيفية تأطير تلك المعركة، لكن الجميع سيتعلمون دون شك.

جيسيكا نورديل

***

عن صحيفة القدس العربي، يوم: 19 - أكتوبر - 2023

هناك العديد من القصص المثيرة القابعة في محيط تاريخ الفلسفة، والغوص إلى القاع واستخراج تلك اللؤلؤ يستحق التعب، لأن قصة حياة الفكر هي القصة الحقيقية، وما سواها هي قصص أكل وشرب. من القصص التي يمكن اعتبارها إرهاصات لزمن الحداثة وانهيار النظام الكهنوتي القديم والانقلاب الراديكالي في الحياة الأوروبية، ما حفظته كتب التاريخ عن بيير دانيال أُويت. كان فيلسوفا وكاهنا كاثوليكيا فرنسيا، ولد في 1630 في "كاين" بفرنسا، وتوفي في 1721 بباريس، مع أنه ارتبط بالإيمانية المناهضة للعقل وهي حركة فكرية ترى أن العقل والإيمان خصمان لا يلتقيان، وإن الوصول إلى الاعتقاد بالدين يجب أن يكون عبر شيء متجاوز للعقل يقوم على التسليم لا المُحاجّة. هذه الأطروحة الإيمانية ذات علاقة تاريخية ببعض أشكال البروتستانتية، بينما ترفضها الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها كفرا وهرطقة.

عندما بلغ أُويت الأربعين قرّر أن يصبح راهبا وسرعان ما جرى قبوله وترقى في السلم الوظيفي الديني، إلا أن أبرشيته شكّت بأنه كان مشغولا عن رعايتها بكثرة القراءة، ومع ذلك، لم يلبث أن أصبح من ذوي الحظوة في زمن الملك لويس الرابع عشر، بسبب جهوده التاريخية والفلسفية.

في زمانه، كان يُنظر إليه كأحد أفضل من يقدّمون شخصية الشكوكي المؤمن، وتظهر إشارة إلى طبيعة شكوك أُويت وإيمانه في قصة أطروحة كتبها أحد اليسوعيين في "كاين"، حيث تبنّى هذا اليسوعي الأطروحة القائلة بأنه لا يوجد دليل على حقيقة المسيحية. وهذه القضية أثارت الناس، وطولب الأسقف أُويت بالتحقيق في القضية، فالتقى اليسوعي واتفق معه على كل شيء تقريبا، وأن المسيحية تقوم على الإيمان وحده، وبالتالي لا ينبغي أن نبحث عن دليل عقلي على وجود الله. أبلغ أُويت عن كل هذا بهدوء شديد وصرّح بموافقته على كل ما قيل. وفي ملاحظة له على باسكال، قرّر أُويت أن إيمانيات "الخواطر" عقلانية فقط بسبب حجة الرهان، وقرّر أن باسكال متعصّب، فالدين مسألة إيمان، لا أكثر.

أكثر أعمال أُويت تأثيرا هو "براهين إنجيلية"، وقد كتبه على الطريقة الهندسية، مقلدا سبينوزا في "الأخلاق"، وفيه تظهر بعض الإشارات إلى مواقفه الليبرالية والتجريبية حول الدين. كان عملا واسعا يُظهر الخصائص المشتركة للتقاليد اليهودية/المسيحية وعديد من الثقافات المختلفة، ويميل إلى إبراز أوجه التشابه كدليل مقنع على أن الوحي كان معروفا لجميع الثقافات، ولا يميل إلى ردّ هذا الشبه إلى التفسير الطبيعي الذي جاء فيما بعد.

وقرر أن الأنبياء معروفون في كل ديانة، قديمة وحديثة، وشدّدت كتاباته اللاهوتية على النظرية الإيمانية للمسيحية، وهي مسيحية تقوم على التشكيك في اليقين في كل مجال. بالنسبة إلى أُويت، لا يمكن أن يكون هناك يقين مطلق في علم الرياضيات ولا في اللاهوت، وفيما بعد، حاول تأسيس الحقيقة الدينية بشكل استقرائي من خلال دراسات الدين المقارنة التي بدأت في الظهور في أيامه.

في الأمور الدينية كان يميل إلى دعم الأنشطة الدينية الإنسانية، بغض النظر عن تفاصيل العقيدة. وسعى إلى إظهار العناصر المشتركة في جميع الأديان. ومن الجدير بالذكر أنه خلال كل من حياته السياسية والكنسية، بدا أنه الشخصية الفرنسية الرئيسية الوحيدة التي لم تشارك بأي نشاط في الاضطهاد الذي وقع على الكالفينية، على الرغم من قربه من الملك لويس الرابع عشر، بل وساعد أعدادا غفيرة من البروتستانت على تجنب العقاب. ويبدو أيضا أنه كان محبوبا عند اليهود، وكان منفتحا على النقاش مع الحاخامات والكهنة والقساوسة والناس العاديين. هنا اختلف عن أعظم الشكوكيين المؤمنين في تلك الفترة، بيير بايل، الذي كان عاش مقاتلا طوال حياته. بينما كانت مساهمة أُويت الكنسية الرئيسية، مع صديقه لايبنتز، هي السعي لإعادة توحيد جميع الكنائس وإزالة نقاط الخلاف من جوهر المسيحية.

ما حدث بعد وفاته كان صدمة كبيرة، وإن كانت نزعته البيرونية المسيحية قد تجلّت في فترة مبكرة، واستياء معاصري أُويت منه كان موجودا، ومنهم من رأى فيه تهديدا خطيرا للكنيسة، وحاول بعض خصومه في السوربون وفي البلاط منع طباعة أعماله اللاهوتية.

غير أن الصدمة لم تحدث إلا بعد نشر أشهر أعماله "رسالة فلسفية عن ضعف النفس البشرية" بعد وفاته، وفيه تقدّم مسيحيته البيرونية في أوضح صورها، وقوبل هذا الكتاب باستنكار هائل. أصر أصدقاؤه اليسوعيون على أن النص مزوّر لتشويه سمعة الكاثوليكية، وهاجموا واستنكروا الفلسفة واللاهوت المتضمّنين فيه، خصوصا أنه عانى لفترة طويلة من ضعف الذاكرة والعجز عن التركيز. ولم يكن لدى أولئك الذين كانوا يعتنون به طوال العشرين عاما الأخيرة من حياته أي فكرة عن إمكان كتابته لمثل هذا العمل. إلا أن دعوى التزوير لم تقف على رجلين، لأن العديد من العلماء قد شهدوا بأنهم رأوا مخطوطة الكتاب مرّات عديدة في يده لمدة تقارب الثلاثين سنة، فقد كتبه سنة 1690 ولم ينشر إلا في سنة 1723 بعد موته.

في رسالته الفلسفية، شرح الموقف البيروني كما هو في نصوص سيكستوس أمبريكوس، وأبرز نقاطه المركزية بطريقة واضحة للغاية، ثم جمع الانتقادات الم.فصلة في العصور القديمة والحديثة، وفنّد كل تلك الانتقادات، وأوضح أن الشكوكية نجحت في هدم الدوغمائيات الجديدة، مثل دوغمائية ديكارت، كما نجحت في هدم الدوغمائيات القديمة. وأوصى بتقدير الشك الحميد في العصور القديمة، باعتباره الفلسفة الدائمة التي مُنحت كنعمة للبشرية. الشك عند أُويت، هو الحكمة القديمة التي ظهرت في الشخصيات التوراتية، وفي المفكرين اليونانيين القدماء، وفي قادة الفلاسفة واللاهوتيين في العصور الوسطى، من مثل أبي الوليد ابن رشد وابن ميمون وتوما الإكويني، وكان يرى هذه المنحة في زمانه لدى كبار المفكرين من مثل مونتين وشارون وغاسندي وغيرهم، وخلُص إلى الشك في قدرة البشر على المعرفة الحقيقية للعالم الحقيقي.

لقد رأى العلم التجريبي الذي مثله خير تمثيل "المجتمع الملكي" في بريطانيا باعتباره الموقف المناسب للشكوكي، مع الإبقاء على الإيمان. الوسيلة الوحيدة لاكتشاف شيء عن الله أو الطبيعة أو الإنسان ليست نظرة ديكارت المتعجرفة الأمية المنتحلة، بل كانت فلسفة المجتمع الملكي، التي وجدها الأقرب إلى نفسه. ولم يشعر أُويت بأن عليه أن يدافع عن أفكار الشكوكيين وأفعالهم، لأنه يفرّق بين التفلسف والمعيش، وهو قد عاش مثل أي شخص آخر، وفقا للفهم المشترك والآراء العادية، لكنه لم يعش دوغمائيا.

***

خالد الغنامي

عن المجلة السعودية، يوم: 04 أكتوبر 2023

كل تناولٍ لمجالٍ من دون إدراك أسسه، وفلسفته يعد عملاً فكرياً ناقصاً، ما يمتّن ويجوّد الدرس والقول/النظرية يكمن في التوجه نحو أصل المجال وفلسفته وتاريخه وظروف تكوّنه، ومن ذلك التناول السياسي، فالفلسفة السياسية أساسية لفهم الحدث وأثره وتشظّيه.

من الصعب فهم الإجراءات السياسية من دون ردّها إلى جذرها. بل يعد الفيلسوف هارفي ك. مانسفيلد الفلسفة السياسية أكثر مجالات الفلسفة حسماً ولكن هذا لا يعني أنها المجال الأعظم في الفلسفة، فمهمة الفلسفة السياسية تتعلق بمعرفة الذات، حيث لا يمكنك التفكير بشكلٍ كامل من دون التفكير في ظروف التفكير، ويعد مهمة الفلسفة السياسية أن تربط بين الفلاسفة وغير الفلاسفة، بين ما هو معقول في الفكر، وما هو غير معقول، أو ما هو مميز أو سامٍ في الإنسان، وبشكلٍ عام أكثر بين ما هو مشترك لدى الأدنى من الإنسان، بهذا المدخل يجيب عن أسئلة مجلة «هارفارد» من أجل توضيح وجهة نظره حول نزعته السياسية المحافظة، راداً انتماءه إليها إلى تحليل فلسفي منظّم. (الحوار طبع ضمن كتاب: «حوارات فلسفية» عناية: جميلة حنيفي).

عادةً ما يتم تداول النزعة المحافظة باعتبارها حليفة التقليد، وبأن الليبرالي المحافظ ذو نزعة ارتكاسية ماضوية، لكنه يتناول هذه الدعاوى بكثيرٍ من التفصيل، صحيح أنه لا يرفض وصف «المحافظ» conservative لكنه غير راضٍ عنه. وتسبيبه أن هذا التصنيف ذو بعد سياسي، إذ يمكنه وهو محافظ أن يكون ليبرالياً، ولكن يقرّ بأنه سيواجه هنا معضلتين:

الأولى: أن المرء إذا كان محافظاً فهذا يعني أنه متمسكٌ بالتقاليد، وعادةً ما يحتوي التقليد على عناصر متناقضة. ما يستوجب على المرء أن يكون انتقائياً وليس مجرد محافظ.

والثانية: تتعلق بمسألة التكتيك، هل يجب على المرء أن يسير ببطء أو يعود أدراجه؟ السير ببطء يعني الحفاظ على ما تم إنجازه وإبطاءه عند المستوى قيد الإنجاز، ما يعني الحفاظ على وشيجة بين الماضي والحاضر، فالعودة إلى الوراء تعني «إحداث قطيعة» في تلك الوشيجة، وبالتالي عدم الحفاظ عليها. يضرب المثال برونالد ريغان الذي يناصر التمسك بالماضي، بينما جورج بوش اختار السير بتأنٍّ، ثم يطرح مفارقة خلاصتها: «أن المحافظين معتادون على تبجيل المؤسسين، وهذا صائبٌ تماماً، لكن التأسيس فعلٌ غير محافظ، من المستحيل أن تكون محافظاً بشكلٍ دائم ومعقول».

لا يعد هارفي ك. مانسفيلد الفلسفة الشتراوسية محافظة بالضرورة، لأن ليو شتراوس نفسه قال إن رائحة السياسة المحافظة لدى أولئك الذين يتبعونني في التفكير، ومع أن معظم الشتراوسيين محافظون فإن فيهم بعض الليبراليين، تتعلق بالمهمة بإحياء الفلسفة السياسية وليس بتغيير أميركا، نعم كون المرء شتراوسياً قد يجعله محافظاً ولكن ليس بالضرورة.

يثير الانتباه تأكيد مانسفيلد على أن الفلسفة السياسية تتيح جواً من التفكير السياسي، وليس مجموعةً من المبادئ يستخلص منها المرء السياسات بسهولة؛ إن السياسات نوعية جداً بالنسبة إلى الموقف. ينتقد الديمقراطية ويدعو للاحتمالات البديلة، لكن حتى ظهور البديل لا مناص منها. لا يعدها أفضل تنظيم سياسي على الإطلاق، ولكن على المرء أن يحتفظ في ذهنه الخاص بالولاء لأفضل نظام. ويختلف مع حتمية فرنسيس فوكوياما الهيغلية التي استعارها من كوجيف حول التطوّر المجتمعي المتحرّك بلا هوادة، لأن حتمية فوكوياما منقوضة بالاتجاهات التي حدثت بالفعل وبالإمكانات الموجودة حالياً. لا بديل عملي عن الديمقراطية، حتى الأصولية الإسلامية ليست بديلاً عملياً لأنها تفقد إيمانها بسرعة كبيرة، ولأنها تعتمد على العلوم والاقتصاديات الغربية فهذه التبعية تؤثر عليها بالضرورة.

أوضح تيارين ناصبا الديمقراطية بالعداء هما التيار الشيوعي وتسبيبهم أن الديمقراطية الليبرالية «أنانية للغاية وغير مكترثة بجميع الناس»، بينما الفاشية تعيب على الديمقراطية الليبرالية أنها لا تحقق تمام الطبيعة البشرية ولا كمالها، لكنها من الناحية العملية قد يتحوّل الأفضل إلى أسوأ، كما حدث مع الشيوعية والفاشية، ولكن يضيف مانسفيلد: «الناس كثيراً ما تغريهم المحاولة».

في عام 1978 طرح مانسفيلد كتابه «روح الليبرالية»، يعد مهمة كتابه تقديم نفسه كصديقٍ لليبرالية، ولكن من النوع الذي يخضعها ومناصريها للنقد مما جعلهم ينفرون منه وينقضّون عليه. هذا الكتاب هو نقطة انطلاق مانسفيلد نحو «النزعة المحافظة الصريحة» لكن ما مهمته الفلسفية كفيلسوف ليبرالي محافظ؟!

يجيب: «أعتقد أن على المرء أن يحدد المهمة الرئيسية للنزعة المحافظة اليوم، في أنها تكمن في محاولة جعل الليبرالية تلتزم بمبادئها الخاصة، وذلك في نواحٍ عدة، في علم الاقتصاد تلتزم بالسوق والملكية الخاصة، في الثقافة تلتزم بالمعايير العليا للجامعات، في القانون الدستوري تلتزم بحقوق الدستور وبالمؤسسات التي أنشأها». وينبّه مانسفيلد بأن سبب فقدان الليبرالية لجاذبيتها أن أتباعها انصرفوا عن الأشياء التي كانت جذّابة فيها، حدث هذا منذ أواخر الستينات، الحقبة التي يصفها بمسببة الأذى الكبير.

مانسفيلد سينتقد زميله في جامعة هارفارد الفيلسوف جون راولز؛ الذي كتب عنه مقالاً ونشره في كتابه آنف الذكر، يعده ممن حاول جعل ليبراليته تتلاءم مع كلا الاتجاهين، إذ يفضّل إيمانويل كانط على جون لوك، لأن كانط لديه سمو أخلاقي معيّن، ولا يؤسس حجته على الحفاظ على الملكية، وينتقد راولز بأنه لا يعلق على التدابير السياسية والأخلاقية التي اقترحها كانط في كتابه «ميتافيزيقا الأخلاق»، لذا فهو يعود أدراجه صوب جون لوك ليخلّص نفسه من صرامة كانط الأخلاقية، ويضيف: «أعتقد أنه استبدال غير متناسق بين الرغبة في أن يكون المرء أخلاقياً، والرغبة بأن يكون رحيماً»، صحيح أن راولز دعا إلى مستوى من إعادة التوزيع؛ حيث لا يولي الاستحقاق اعتباره الكافي، غير أن هذا يعد مستوى من الأخلاقية وفي ذلك تطلع إلى الحفاظ على الجماعة، أو الحفاظ الذاتي على الجماعة؛ ما يسميه راولز: «النظرية المخففة للخير»، ويعلق على هذا الوصف مانسفيلد: «يا له من توصيف رهيب للكانطية».

راولز على النقيض من مانسفيلد يحذّر من صرامة المبادئ: «من الخطأ أن نطبّق مبادئنا الخاصة في كل وقت؛ نحن في حاجةٍ إلى فحص الأشياء بمعزلٍ عنها، وإلا فإننا نخاطر بأن نصبح آيديولوجيين».

الخلاصة؛ أن مسألة النزعة المحافظة لم يطرحها مانسفيلد كنقيضٍ لليبرالية، ولا بوصفها حليفة التقليد ورهينة الماضي؛ بل المحافظة يمكنها أن تؤسس لانتقادات حيويّة ربما تسهم في إعادة الليبرالية لجاذبيتها الأصليّة، كما يمكن للمحافظة أن تسرّع من تجاوز الديمقراطية نحو ما يسميه «الاحتمالات البديلة»، مع أن الفلسفة السياسية لم تنجح في ابتكار البديل، لكن النزعة المحافظة يمكنها أن تكون مصلاً مقاوماً لنمط الليبرالية، أو تجربة النظم الديمقراطية.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس، 9 نوفمبر 2023 - 25 ربيع الثاني 1445 هـ

الوعي هو قوة المجتمع الذاتية والكامنة بداخله، التي تحميه وتحمي أفراده من أي خلل، وتُعدّ معارك استهداف الوعي من أخطر المعارك وأشرسها في القرن الـ20 وحتى الآن، والوعي المجتمعي، في تعريف علماء الاجتماع، هو: مجموع الأفكار والنظريات والآراء والمشاعر الاجتماعية والعادات والتقاليد التي توجد لدى الناس، والتي تعكس واقعهم الموضوعي، ويمكن القول: إنّ وعي المصريين بذاتهم في العصر الحديث تشكّل في منتصف القرن الـ19، بعد الحملة الفرنسية على مصر، وما تبعها من نمو للروح الوطنية وإدراك المصريين مدى تخلف الفكر السائد عن العالم، هذا الوعي نشأ بعد سلسلة من التفاعلات مع أحداث وأفكار القرن الـ19، تمثلت تلك الأفكار في وجدان العامّة بعبارات راجت على ألسنتهم رسمت إلى حد بعيد منظورهم لأنفسهم وللآخر وللدين وللدولة، مثل عبارة "الدين لله والوطن للجميع"؛ أي الوعي المجتمعي أيقن أنّ اختلاف العقيدة أمر مرجعه إلى الله وليس إلى الناس، وأنّ الدين علاقة بين الفرد وربّه، لا مكان ولا دخل للآخرين فيه، وأنّ جميع الناس باختلاف عقائدهم مشتركون في الوطن بدرجة واحدة ومتساوية.

أيضاً في عبارة "الدين المعاملة" التي لخصت حقيقة الدين في منظور الوعي المجتمعي، واعتبرت أنّ تجلي الدين الحقيقي في تعامل البشر فيما بينهم، وأنّ قيمة التدين الحقيقي والالتزام تكمن في تحقيق العدل والاحترام والحرّية وعدم التدخل في شؤون الآخرين، والعكس صحيح، وكشفت أيضاً أنّ الطقوس والعادات والشعائر هي من شكليات الدين المزينة له، ولا تُعدّ أساساً له بأيّ شكل من الأشكال، على هذه الركائز تأسست مرحلة وعي مجتمعي تحديثية، وكانت واعدة.

غير أنّ ثمّة تغيّراً حدث بالمجتمع المصري أدّى إلى انتكاسة وعيه بشدّة، ففي الثلث الأول من القرن الـ20 انتشرت الجمعيات الدينية، مثل؛ الجمعية الشرعية، وجماعة أنصار السنّة المحمدية، وجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة مصر الفتاة، وجمعية النهضة الإسلامية، وجمعية الحضارة، وغيرها الكثير، ظهرت هذه الجمعيات لأسباب متعددة؛ منها العمل كحائط صد أمام الأفكار السياسية والاقتصادية التي كانت تجتاح العالم في مطلع القرن الـ20، ولم يكن مرحباً بها من قبل السلطات الحاكمة وقتها، وحتى تقوم تلك الجمعيات بوظيفتها رفعت شعار العودة إلى الإسلام، وهي فكرة سطحية للغاية، تقوم على افتراض أنّ ما يعيشه المسلم المعاصر وما يمارسه من سلوكيات هي ضدّ الدين، وربطوا واقعه المهزوم وحياته الاقتصادية بابتعاده عن الدين، وقدّموا الحلّ في أنّ العودة إلى الدين هي النجاة، وقد انتشرت تلك الفكرة في صفوف العوام نظراً لحالة الارتباك التي أصابتهم من جرّاء استخدام الصفوة لمفاهيم حديثة مثل مفهوم الدولة والسلطات الـ3 (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وكذلك مفهوم الفصل بين هذه السلطات، ولم يستطع أصحاب خطاب الإسلام الرسمي تقريب تلك  المصطلحات إلى العوام، وإقناعهم بأنها امتداد طبيعي للتجمع الإنساني، وقد استغلت الجمعيات الدينية هذه الثغرة، ونفذت منها مستهدفة وعي المجتمع بذاته وعلاقته بمحيطه العربي والإسلامي والإنساني.

ثمّ قاد عناصر تلك الجماعات حملة لتشتيت الوعي المجتمعي، خلال العقود التالية حتى الآن، تقودهم جماعة الإخوان المسلمين بما لها من توغل في صفوف الجماهير، استهدفوا الوعي عبر 3 محاور:

الأوّل: غرس فكرة "المؤامرة الكونية على الإسلام والمسلمين" في وجدان المصريين، وروّج الوعاظ من تلك الجمعيات للمؤامرة مستخدمين كلّ وسائلهم لإثبات أنّ الغرب نجح في تحويل المسلمين إلى مسلمين بالاسم فقط دون المضمون، وسرعان ما وجد هذا الخطاب جماهير تستمع له وتؤمن به، فانتقل من جدران اللقاءات السرّية إلى ساحات المساجد الرسمية الكلاسيكية، وأصبح من سمات الخطاب الديني، حتى كاد يكون من أهمّ مكوّنات الوعي الزائف الحالي.

المحور الثاني: التشكيك في أنظمة المجتمع (النظام السياسي والاجتماعي والفكري والتربوي)، وبعد إيمان البسطاء بفكرة المؤامرة، يقومون بالتشكيك في صوابية الأفكار والنظريات الاجتماعية السائدة، مثل (الوطنية ـ القومية ـ الديمقراطية ـ الحرّية... إلخ)، واتهام تلك النظريات بأنها لا تتوافق مع الشرع الإسلامي، وأنها وافدة من الغرب الذي يتآمر على الإسلام والمسلمين، فروّجوا أنّ الديمقراطية يمكنها أن تقرّ أمراً لم يشرّعه الله، لهذا هي باطلة، وأنّ الوطنية هي شعوبية مذمومة من الرسول، وأنها من دعاوى الجاهلية، وأنّ الحرّية فساد، وأنّ الليبرالية أن تسمح لأمّك أن تسير عارية، وأن تعاشر من تشاء بغير زواج، وغيرها من النظريات، ثم إذا سأل سائل: ما البديل؟ ينتقلون إلى المحور الثالث بطرح أفكار ونظريات زعموا أنها إسلامية، وأنها هي التي ستنقذ البشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، منها ما يخصّ الإسلام، ومنها ما يخصّ الدولة والحكومة ومؤسساتها، فنشروا أفكاراً، منها على سبيل المثال "الإسلام دين ودولة"، والحق أنّ الإسلام دين وعقيدة،  وأنّ على المسلم أن يقيم دولة لكلّ المسلمين، وهذا لم يتحقق، ولن يتحقق، على الحكومة أن تكون إسلامية، وعلى الدولة أن تكون إسلامية، وعلى المجتمع أن يكون إسلامياً، وعلى الأفراد أن يكونوا إسلاميين، وغيرها من الأفكار السطحية التي لاقت رواجاً نظراً لتدثرها بلباس الدين، فنشأ وعي جديد، لكنه متهافت وزائف تمكّن فقط من التشويش على الوعي الحقيقي، ولم يستطع أن يضع أفكاراً ونظريات ونظماً اجتماعية وسياسية حقيقية، تلبي حاجات الفرد والمجتمع وتؤسس لدولة جديدة، لهذا أطلق البعض عليه "بلاهة الوعي" أو "الوعي الزائف".

وبدأ طريق الوعي الزائف بالتشكيك في الهوية الوطنية، وطرح بديل لها، وهي الهوية الإسلامية، وخطورة هذا الطرح الزجّ بالمجتمع في صراعات لا تنتهي بين مكوّناته بعضها بعضاً، ولا يتيح له فهم وترتيب أولوياته، فالهوية البديلة تعني رفض مشاركة الآخر في الوطن؛ بزعم أنه "ذمّي" ليس له حقوق المواطنة كاملة، وتأتي إجابة مرشد جماعة الإخوان مصطفى مشهور، حين أفتى في العام 1997 بإبعاد المسيحيين عن الالتحاق بالجيش المصري، وبرّر موقفه وقتها بضرورة "أن يكون أفراد الجيش في الدولة الإسلامية من أصحاب العقيدة ذاتها، وليس من أصحاب عقيدة أخرى، حتى يتمكنوا من مواجهة أيّ عدو يحاول الاعتداء على الدولة الإسلامية، وفي ظلّ وجود عناصر مسيحية في جيشها يمكن أن يجعل هذه العناصر تمالئ العدو وتسهل له"، صحيح أنّ هذه الهوية لم تترسخ بشكل جدّي في المجتمع نظراً لاستحالتها، إلّا أنّ هناك من يزعم أنّ تمام الوعي هو أن تؤمن بضرورة قيام الدولة الإسلامية.

 غالباً ما تدفع الهوية البديلة الزائفة المجتمع للانشغال بمشكلات مجتمعات أخرى، بزعم أنّ هذا من أولويات المسلم، ما يؤدي حتماً للانصراف عن الاهتمام بمشكلات الوطن الحقيقية، ويمكننا القول: إنّ هذا وقع بشكل جزئي عاطفي عندما انشغل المصريون وكثير من العرب والمسلمين في نهاية السبعينيات وطوال عقد الثمانينبات بمشكلة أفغانستان، وتقاطرت الوفود للانضمام إلى ما يُسمّى "الجهاد"، تحت الزعم بواجب نصرة المسلمين هناك، وهو السبب ذاته الذي دفع بعض المسلمين في أوروبا للانضمام إلى داعش.

وأخيراً استهدف الوعي المواطن المسلم نفسه، بإعطائه صورة غير حقيقية عن دوره في المجتمع، وتصوّره عن نفسه، فبدلاً من دفعه إلى الاعتزاز بهويته الوطنية، صوّروا له أنّ هذا الاعتزاز "وضيع" ولا يصحّ في حقّ المسلم، وأنّه لا اعتزاز إلّا بالدين، فنشأ صراع بين الهوية الوطنية والدين  كعقيدة، هذا الصراع المقلق جعل المجتمعات دائماً في حيرة، ولا يقين لديها، وتنكبت عن طريق التنمية والاستقرار والتحضر، وفقدت السلام الاجتماعي، وتفسخت العلاقات المجتمعية، وأصبح الجميع جاهزين للاحتراب الداخلي.

تفاوتت وسائل الإسلاميين عبر كلّ عصر، ففي البداية استخدموا الخطب المنبرية وكلمات الوعظ، ثمّ استخدموا المجلات والصحف الإسلامية، ثمّ الكتب ودور النشر، وأخيراً  صفحات السوشيال ميديا، وفي كلّ الأحوال كان هناك العنصر الإخواني القادر على نقل تلك الأفكار إلى محيطه بالمجتمع، سواء العائلة أو العمل أو الأصدقاء والمعارف، والمطالع لتلك الصفحات ولتلك الأفكار التي تمّ ضخها في عقول ووجدان الكثير من فئات المجتمع الطبقية والعمرية، يكتشف أنها تدور في هذه الدوائر، إمّا التشكيك في إسلام المسلم، وإمّا التشكيك في حقيقة الوطن ومؤسساته، وإمّا الدعوة لنظريات إسلامية  في الحكم والاجتماع، ومعظمها عند الاختبار جاءت بنتائج كارثية.

نحن اليوم في أمسّ الحاجة لترميم ما أفسده المتطرّفون والمتشدّدون في مكوّنات الوعي الاجتماعي، فهل لدينا القدرة على إدراك ذاتنا الحقيقية ووعينا السليم الذي شوّشه  الإسلامويون؟ أزعم أنّ فشل الإسلام السياسي أتاح فرصة ذهبية لاستعادة الوعي الحقيقي، بتكاتف الأطراف كافة، مثل؛ مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات المعنية بنشر الثقافة والتربية والتعليم، وتحت إشراف علماء الاجتماع المعاصرين، عبر تدشين مشروع قومي ووطني، يقوم أوّلاً بكشف أساليبهم في نشر الوعي الزائف، وتحديد ماهية الأفكار التي بثوها في المجتمع، ومن ثمّ هشّمت الوعي، ويقوم ثانياً بطرح أفكار ونظريات اجتماعية حديثة بشكل هادئ تعيدنا إلى مرحلة تقبّل الآخر، والفصل بين السلطات، وإلى حقيقة الدين كمعاملات بين البشر، مع توقع قيام معركة مع حرّاس الوعي الزائف، من غير عناصر الجماعات المتطرفة والذين لا يدركون أنهم واقعون تحت تأثير وعيهم الفاسد، الذين - بحسن نيّة - يعيقون مسيرة الوعي الحقيقي، وفي حالة فوات الفرصة أتوقع أن يعاود الإسلامويون هجمتهم على وعينا بضراوة، ما يصعب معه ترميم ما أفسدوه هذه المرّة... والله أعلم.

***

د. طارق أبو السعد - كاتب مصري

عن موقع حفريات، يوم: 26/10/2023

في كتابه الأخير الصادر بـ«الفرنسية» بعنوان «كتابات كوفيد»، يتساءل المفكر المغربي عبد الله العروي حول أهمية سبينوزا بالنسبة لأوضاع المجتمعات العربية المعاصرة، بالمقارنة مع مونتسكيو وروسو اللذين ترجم العروي بعض نصوصهما الأساسية. لا يتردد العروي في القول إن إشكالية سبينوزا غريبة عنا في سياقاتها الفلسفية والمجتمعية، ولا مكان لها في واقعنا الراهن.

ويبدو أن العروي قد اطلع على ما يسمى لدى المتخصصين بالتأويلات الراديكالية لفلسفة سبينوزا التي ترجع إلى الثالوث الماركسي لويس التوسير وجيل دلوز وتوني نغري، وهي قراءات تركز على مفاهيم الجمهور والقوة والمادة والرغبة.. في انطولوجيا سبينوزا وتصوراته السياسية.

وبطبيعة الحال تختلف هذه التأويلات عن مقاربات معروفة، من بينها القراءة الليبرالية التي تقرّب فكر سبينوزا من نظرية العقد الاجتماعي ومعايير الديمقراطية التمثيلية، والقراءة المحافظة التي اشتهرت لدى ليو شتراوس. إلا أن القراءات الراديكالية قد تأثرت بالعمل الشهير لـ«يوناتان إسرائيل» حول «التنوير الراديكالي لسبينوزا»، مقابل نمطين آخرين من التنوير هما: التنوير المعتدل لدى لوك ولايبنتز، حيث تمتزج العقلانية النقدية بالتصورات الدينية الإصلاحية، والتنوير المحافظ لدى مونتسكيو وفولتير وادمون بورك الذي لا يدعو للثورة والتغيير الجذري بل يتبنى التكيفَ مع الواقع القائم. لا يهمنا التعليق على هذا التصنيف الذي أصبح شائعاً في دراسات التنوير الأوروبي، لكن ما نريد أن نبينه هو أن سبينوزا، على عكس ما يوحي به كلام العروي، قد يكون أقرب فلاسفة الحداثة والتنوير إلينا.

لندع جانباً الأعمال التي حاولت الكشف عن الجذور الإسلامية العربية في فكر سبينوزا، الفيلسوف اليهودي الهولندي الذي ترجع أصوله إلى البلاد الإيبرية، والذي لا شك في أنه اطلع على الترجمات العبرية للفلاسفة العرب، وإن كان لا يذكرهم في نصوصه، كما أن علاقته بموسى ابن ميمون تلميذ ابن رشد معروفة للجميع. ويمكن أن نحيل هنا إلى دراسات المستشرقين من أمثال هاري ولفسون وروجيه أرنالديز.. إلخ، التي تحدثت عن التماثل بين أفكار فلاسفة الإسلام من قبيل ابن سينا وابن رشد وآراء سبينوزا، وفي كتابات الفيلسوف الهولندي ما يعزز هذا الانطباع.

بل إن مخطط كتاب سبينوزا الأساسي «الأخلاق» ومفاهيمه المحورية ومصطلحاته المستخدمة تتشابه بصفة جلية مع التقليد الكلامي الإسلامي، كما هو شأن كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» الذي يتوزع على طريقة الكلام الاعتزالي إلى بابي التوحيد والعدل، وفي الباب الأول من كتاب الأخلاق الذي يتحدث فيه عن الإله نجد العبارات نفسها الكلامية: الذات والصفات والأحوال ونرى التمييز السينوي الشهير بين واجب الوجود وممكن الوجود.

إن هذه السمات المنهجية والاصطلاحية هي التي حدت بهيغل إلى اعتباره «فليسوفاً شرقياً»، وأدت إلى تجاهله كلياً في نصوص هايدغر رغم تناوله المستفيض لكل فصول الفلسفة الغربية. وعلى الرغم من النقاش المعروف حول طبيعة موقف سبينوزا من الدين واعتباره لدى البعض فيلسوفاً مادياً يقف عند وحدة الطبيعة (وإن كان يراه آخرون صوفياً مؤمناً بوحدة الوجود)، فإن بعض كبار الباحثين (مثل أحمد العلمي ومروان راشد) بيَّنوا أوجه الشبه بين أطروحة الوجود السبينوزية وانطولوجيا الحال في المدرسة الجبَّائية الاعتزالية.

قد لا تكون هذه الجوانب الميتافيزيقية هي ما يهم الفكر العربي المعاصر في فلسفة سبينوزا، بل إن التركيز يمكن أن يكون على جوانب التأويلية النقدية والتنوير السياسي والاجتماعي. ولا شك في أن المفكر المصري الراحل حسن حنفي قد أسهم إسهاماً كبيراً في التعريف بهذه الجوانب من فلسفة سبينوزا من خلال ترجمته لكتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» عام 1971 مع كتابة مقدمة طويلة ووافية للنسخة المعرَّبة.

لقد اعتبر حنفي أن الفكر العربي قادر على الاستفادة من المنهج التأويلي السبينوزي الذي ينطلق من معايير العقلانية والقانون الطبيعي والحكمة الإنسانية في قراءة النصوص المقدسة، وهو منهج رشدي أصيل في تراثنا الإسلامي. كما أنه بحاجة إلى سبينوزا في الدفاع عن حرية التفكير وحرية التعبير والولاء للدولة الوطنية المعبِّرة عن التوافق الاجتماعي والقادرة على ضمان السلم الأهلي والمدني.

لا مناص من موافقة العروي في أن اهتمامات سبينوزا مختلفة عن سياقنا الراهن، وإشكاليته مغايرة لوضعنا المعرفي والفكري، لكن سبينوزا يظل في نهاية المطاف أقرب فلاسفة الحداثة الأوربية لنا، وإن كان يتعين علينا أن ننقل مفاهيمه وتصوراته إلى حقلنا الدلالي دون وثوقية أو تعصب.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

5 نوفمبر 2023 23:45

شعلة من الفرح والغرور كانت تتقد بداخل الواحد منّا، عندما يحاط بالمدح، إذ يستشعر بتفرد شخصه مقارنة بغيره. ولو تذكرنا طفولتنا بدقة لوقفنا على العديد من هذه المشاعر إزاء ما يتردد على ألسنة والدينا عندما يصفوننا بالذكاء أو النشاط أو العقل!

ربما كانت تشدنا آنذاك صفات الحصافة والفطنة، ومعلوم كم تعني جملة «فلان عاقل»، لدى الطفل، فهي عبارة موجودة في العديد من اللهجات، يتداولها العوام غالباً للإشارة إلى حسن سلوك الفرد ورزانة شخصيته وابتعاده عن الطيش التهور فعلاً وقولاً.

وإذا وسَّعنا دائرةَ العقل قليلاً، فهل يتشابه كل العقلاء في إمكاناتهم الذهنية، وهل يتشابهون في استخداماتهم للعقل نفسه؟ انطلق غالبية الفلاسفة والمفكرين والعلماء من أرضيات منهجية متباينة في تفسير العقل وماهيته، وجاء في المعجم الفلسفي أنه إما أن يكون دالاً على الوقار، فهو إذن صفة ظاهرة في سلوك الإنسان عامةً، وإما أن يدل على المكتسب من المعاني والأحكام الكلية، فيترجم من خلال اختياراته للأغراض والمصالح، وإما أن يكون دالاً على ما يوافق الفطرة فيحسن الإنسان التمييز بين الغث والسمين.

وفي سبيل الحصول على صورة مكتملة حول ماهية العقل، وبخاصة في الفلسفة الإسلامية، لا بد من الإمعان في فلسفة الفارابي الذي خصص جهداً وفيراً في هذا المجال، سعياً منه إلى كشف الطرق الرئيسة للتفكير، وصولاً لفكرة سليمة يمكن الأخذ بها من خلال «قوة الذهن» التي تعين على إدراك الصواب وتمييزه من غيره. ولعل هذا ما نجد ترجمته في العديد من كتب التنمية البشرية التي تعين الإنسان على الاقتراب أكثر فأكثر من ترشيد تفكيره وإكسابه التسلسل المنطقي.

ويبني الفارابي نظريتَه حول العقل على أربعة مستويات رئيسة؛ أولها العقل بالقوة (العقل الهيولاني)، ويدل على التهيؤ والاستعداد العقلي لقبول كل ما يوافق المعقول والمنطقي، من خلال صور الأشياء وماهيتها الموجودة في الطبيعة، وبالتالي فالطبيعة تتحد بقوة وجودها مع العقل.

وأما النوع الثاني فهو «العقل بالفعل»، والذي يعبر عن انعكاس صورته في النوع الأول، مما يعني أن هيئته مترجمة كفعل معاش، مما يدل على ارتقاء العقل الإنساني متجهاً نحو إدراك شيء وليس التوقف على التعرف عليه وحسب. وفي التدرج المنطقي، وإمعان العقل الإنساني بحذق، يأتي نوع آخر من العقل، هو «العقل المستفاد»، إذ يبني على استيعابه للمعقول، وصيرورته الوظيفية لمستوى الإدراك الذي يتدرج بتناغم ومنطقية.

مما يعني أن تسلسل هذه الأنواع هو تعبير تصاعدي عن تكوين «عملية الإدراك»، التي تسمو وتتصاعد إزاء المحسوسات، فكلما زاد إدراك الإنسان ابتعد عن ملاحظة المادة واقترب لما وراء المحسوس.

وما يزال الإنسان يعتبر مصدراً للدهشة الذي يسببها لنفسه، من خلال التفكر والتدبر في هذه الكينونة المغمورة، حتى وصفها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالقول: «وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر»!

وربما تعبّر كل الشروحات والإيضاحات السابقة عن مستويات تدرج التفكير الإنساني وحسب، أما ما يتممها فيبدو أنه النوع الرابع من العقل، الذي ينتقل بالإنسان من طور الاستعداد للمعرفة إلى الإدراك الفعلي، أي «العقل الفعال»، وهو الذي يتربع على قمة الهرم في نظرية العقل الفارابية، مستغنياً عن الجمود في المادة المجردة، ومرتقياً عن ما دونه من مستويات.

ومع ذلك يبقى العقل مدار التفكير والتصوير، فلا توضع لبنة «العقل الفعال» في القمة إلا ويعلوها شيء آخر، إذ يبقى كل هذا التطور والتسلسل في حدود «سلم الموجودات»، الذي يستظل بالمرتبة الأولى، والعليا التي لا تكون إلا للخالق سبحانه وتعالى.

إن العقول الأربعة (العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال)، تبقى حجةً على ذات الإنسان فيما يستطيع أن يسمو به ويتطور، وفيما يمكنه أن يضيف عليه إضافةً نوعية، وفي الآن ذاته يمثل هذا التدرج ككل شاهداً على الإنسان ومدى حاجته الدائمة للارتواء من أعلى مراتب المعرفة، من خلال السمو في العلاقة مع الخالق عز وجل، ونزع تراتبية التطور والحداثة المعرفية المنحصرة في سياق الولادة الفلسفية، والاستحداث المنهجي، والثبات وراء «هلامية» المادة منزوعة الروح. وهكذا يبدو الانعتاق من تراكمات المعارف، وإملاءات الطبيعة، هو السبيل الحكيم لفهم غاية المعرفة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 31 أكتوبر 2023 23:51

في كتابه الصادر مؤخراً باللغة الفرنسية تحت عنوان «متاهة الضائعين»، يتناول الكاتب والأديب الفرنسي اللبناني أمين معلوف واقعَ العالم الراهن، من منظور الصدام القائم بين الغرب والقوى المناوئة له. في هذا الكتاب يقف معلوف عند نماذج ثلاثة حاولت في العصور الحاضرة تحدي الهيمنة الغربية وإلحاق الهزيمة بها، وهي: اليابان في عهد الميجي، وروسيا السوفييتية، والصين الشعبية الحالية. كما يتناول القوة الغربية الكبرى التي وقفت ضد هذه التهديدات وهي الولايات المتحدة الأميركية.

وفي هذا السياق، يرى معلوف أن اليابان التي حققت نهضةً فائقةَ السرعة والحيوية استطاعت أن تهزم قوة عسكرية أوروبية كبرى هي روسيا في بداية القرن العشرين، لكنها دخلت في معارك خاسرة مدمرة بدايةً من عدوانها على الصين قبل أن تتعرض للضربة النووية الأميركية الماحقة التي أنهت أحلامها في القوة والهيمنة. أما روسيا الشيوعية فقد استطاعت بناء إمبراطورية أوروآسيوية كبرى، انحاز لها نصف أوروبا ودول كثيرة في آسيا وأميركا اللاتينية، ودافعت عن أنبل قضية وهي مواجهة الاستغلال الطبقي والسيطرة الاستعمارية.. لكنها انهارت نتيجة لفساد نظامها السياسي وفشل سياساتها الاقتصادية.

وكانت الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى هي المنتصر في هذا الصدام الأيديولوجي الاستراتيجي. أما الصين الحالية، فهي اليوم حاملة لواء مواجهة الغرب، وقد استطاعت بالفعل أن تكون المنافسَ الحقيقي لأميركا اقتصادياً وتقنياً وسياسياً، وتعول على مشروعها الطموح لإحياء طرق الحرير من أجل السيطرة على منافذ ومراكز التجارة الدولية.

ولئن كانت مآلات الصراع الصيني مع الولايات المتحدة غير محسومة مسبقاً، إلا أن المؤلفَ يرى أن القيادة الجديدة الحاكمة في بكين انتقلت من خطاب الإصلاح الداخلي والحياد المرن في الساحة الدولية إلى خطاب التعبئة والمواجهة الذي يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى هزيمة مشروع الريادة الصينية. بيد أن القوة الغربية الكبرى التي ورثت أوروبا سياسياً وثقافياً ودافعت عن النموذج الغربي طيلة قرن كامل ليست في أحسن أحوالها حسب معلوف. فالولايات المتحدة الأميركية عانت بعد انتصارها في الحرب الباردة من نفس الثغرة التي عانت منها اليابان والاتحاد السوفييتي سابقاً، أي أوهام القوة التي لا تقهر والتدخل غير الموزون في الصراعات الدولية، بما يفسر المصاعب التي واجهتها على أكثر من صعيد في السنوات الأخيرة.

وهكذا يخلص أمين معلوف إلى أن النموذج الغربي في ورطة حقيقية اليوم وقد فقد الكثيرَ من وهجه وقدراته التعبوية والاستقطابية، لكن النماذج المنافسة له ليست في وضع أحسن، وليست قادرة على تقديم البديل الناجع، ومن هنا يمكن القول بأن الكل ضائع في متاهة لا مخرج منها. لا يبتعد معلوف في كتابه الأخير عن أطروحته السابقة حول انهيار الحضارات، وإن كان يستند في العمل الجديد إلى معطيات تاريخية مكثفة ودقيقة.

ما نريد التعرض له هنا هو مفهوم «الغرب» نفسه الذي نعتقد أنه بُني على منطلقات واهية لا يمكن الدفاع عنها. فحين يتم الحديث عن الغرب، تكون الإحالة إما إلى خلفية حضارية تاريخية عادة ما يحصرها الباحثون في ثلاثية الفلسفة اليونانية والقانون الروماني والنهضة الأوروبية الحديثة، أو تتم الإحالة إلى المعطيات الجيوسياسية التي تتشكل من ثلاثية الرأسمالية الصناعية والديمقراطية الليبرالية والمنظومة العسكرية الأطلسية.

بالمعنى الأول، نرى أن الغرب صناعة نظرية متأخرة، لكون الثقافة اليونانية والتقاليد الرومانية تشكلت في الشرق الآسيوي وتفاعلت بعمق واتساع مع المجال الحضاري والفكري العربي الإسلامي ولا يمكن ربطها عضوياً بما يسمى الغرب الحديث.

وبالمعنى الثاني، نرى أن الغرب ليس مفهوماً حضارياً بل هو مجرد رابطة جيوسياسية تنتمي إليها أمم وبلدان لا تنتمي إلى السياق الأوروبي الأميركي، كما هو شأن اليابان وكوريا الجنوبية، في حين أن عدداً من البلدان الآسيوية واللاتينية الأميركية والأفريقية تستجيب لمعايير الرأسمالية الحرة والديمقراطية الليبرالية دون أن تصنف في الخانة الغربية.

ما نريد أن نخلص إليه هو أن النماذج الثلاثة التي تحدث عنها معلوف تعبِّر في حقيقتها عن توتر داخلي في المثال الغربي نفسه، وليست موجهة بالصدام مع الغرب ذاته من حيث هو ثقافة وحضارة ومسلك حياة. ولذا فالسؤال المطروح اليوم على نطاق واسع في بلدان كثيرة من العالم ليس: كيف يهزم الغرب ويقضى على هيمنته؟ بل هو: كيف يسمح الغرب باستيعاب الطامحين إلى ولوج ناديه المغلق؟

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإمارتية، يوم: 30 أكتوبر 2023

مع كل احتدامٍ بين الشرق والغرب، بين المسيحية أو اليهودية والإسلام، بين التقاليد الشرقية والأخرى الغربية، يبدو ماثلاً أمام المتابع أن صراع القيم هذا لن يوصل إلا إلى المزيد من الكراهية، ولن ينتج سوى كثير من الحروب. مع أن أسس التسامح وأفكار الاعتدال مطروحة ومدعومة من قبل الحكومات المعتدلة بالعالم، ولكن لا تستطيع المؤسسات السيطرة على مكنونات الشعوب. وآية ذلك أن الحدث المدوّي يعيد المجتمعات إلى المربع الأول، وكأن تلك الجهود ذهبت سدى. والعبء على الحكومات كبير، وهي معذورة في هذا المجال، لأن إصلاح إرثٍ طويل من السجال والتناحر والتنافر بين البشر بشتى انتماءاتهم يحتاج إلى أجيالٍ متعاقبة. الفيديوهات المتداولة اليوم بين اليهود والمسلمين تبيّن مستوى التناحر، كما حدث من قبل بين المسلمين والمسيحيين مع أحداث الإرهاب من جهة، أو حماقات إحراق المصاحف من قبل بعض المعاتيه من جهة أخرى. إنها هيمنة العوام على السجال الحضاري، ونفوذ الشعبوية على الإشكالات القيمية الكبرى.

وسؤال القيم والهوية والالتقاء الثقافي والحضاري أرَّق كثيراً من الفلاسفة الكبار، ومن بينهم داريوش شايغان الذي عكف على مثل هذه الأسئلة لسنواتٍ طوال. قد عدتُ إلى كتاباته بعد الأزمات المستجدة الحالية، ولفتني في كتابه المهم: «الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني» أحد الفصول بعنوان: «القيم الكونية في عالم النسبية الثقافية»، لكن ما مقاربته لهذه الإشكالات شبه المستعصية؟!

يرى شايغان أننا حيث نعيش؛ فلكل ثقافة مطالبها الخاصة: طريقتها في رؤية العالم، وطريقتها في تقويم حقوق الإنسان، وطريقتها في تعريف استقلالية الشعوب وحقوق المواطنين. فالبعض يطالب بقيمٍ آسيوية، وآخرون بانكفاءٍ إلى الذات في رؤية منغلقة للعلاقات الإنسانية، والبعض الآخر يرى أن أي سلطة سياسية إنما تنبع من مصدرٍ إلهي. تنضوي هذه الخطابات جميعاً على تحدٍّ للغرب وللحداثة التي تكمن خلفه، ولسان حالها يقول: لستم وحدكم مَن يبتّ في الأمر، ولم يخولكم أحد فرض قيمكم علينا من جانبٍ واحد. وفوق كل هذا وذاك، يأتي ناشطو التعددية الثقافية ليضموا أصواتهم إلى هذه الاحتجاجات، فيتحدثون عن «الإرهاب الأبيض»، وعن الأضرار الجسيمة التي تتسبب فيها النزعة المركزية الأوروبية التي تعمل، في رأيهم، وفق تعارضات ثنائية. في سياق هذا التعارض يُعطى الامتياز للمصطلح الأول الوارد في هذه الثنائيات. هكذا تميل التعددية الثقافية إلى أن تصبح نوعاً من السياسة الهوياتية حيث يختلط مفهوم الثقافة، ولا بد، بالهوية العرقية، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في إضفاء صبغة ماهوية على الثقافة؛ بالإفراط في تحديد تمايزاتها.

ويخبرنا جورج شتاينر George Steiner كيف أن اللغويات الجديدة تُثبِت أهميتها الكبيرة في ملتقى الفلسفة وعلم النفس. توجد في الواقع علاقات متعددة بين الفكر، واللغة، والواقع.

ثمة مكتسبات بشرية (يشير شايغان) غير أن بعض الثقافات ترفض هذه المكتسبات جملة وتفصيلاً باسم القيم العرقية والدينية، وتبحث عن طرق وبدائل التفافية، لكنها لن تعثر على قيم بديلة لتغير نوعي يخصها أيضاً مثلما يخص غيرها، لأن ذلك يعني التشكيك فيما أصبح جزءاً لا يتجزأ منها. علينا دائماً أن نقيم مواقفنا الخاصة، وفق هذا المقياس؛ ذلك أن هذا الحضور، وهذه الضرورة الملحَّة للحالة الجديدة، هو الذي يدفع طغاة العالم الثالث إلى تقليد صوري هزيل لحقوق الإنسان. إن هذه القيم الكونية والمحايدة آيديولوجياً الخالية من أي انتماء طائفي، تُشكل في ذاتها هوية جديدة؛ لا هي عرقية ولا دينية، كما أنها ليست وطنية تماماً، لكنها تنتمي إلى ذلك العقل الذي من المفترض أن يسهم فيه، بلا تحفظ، وبمعزل عن انتماءاتهم الثقافية، جميعُ البشر ممن يدركون أنهم يعيشون في بداية القرن الحادي والعشرين. وإن كنا نعني بـ«كوني» قيماً تتخطى الحدود والانقسامات العرقية والارتدادات الوطنية والقطيعات التاريخية، فإن هذه القيم كونية بالفعل. يمكننا أن نرفضها وأن نختبئ داخل هوامات هوياتية، ويمكننا أن نسعى بالطرق شتى إلى إيجاد بديلٍ يُريحنا ووهم جميل، لكننا لن نستطيع أن نضعها جانباً ونواصل دربنا الصغير في العيش كأن شيئاً لم يحدث، لأن ذلك سيقودنا ببساطة تامة إلى الانغلاق، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك؛ إلى يباس هوياتي.

لذلك، بحسب شايغان، لا مناص من الالتقاء الثقافي والحضاري، ومن دون ذلك لا يمكن الحفاظ على قيم الأنوار، بل رأى أن جميع الدول التي توهمت العثور على طريق ثالثة مخالفة لوجهة مكتسبات الإنسان الحديث حصدت إخفاقات مدوية. والقول إن مكتسبات عصر الأنوار تعمل على تجميل إمبريالية الغرب وهيمنته الشاذة لا يُغير شيئاً من المشكلة. على ثقافات الكوكب كافة أن تكون طوع بنان هذه المكتسبات، وأن تمتثل لها، لئلا تنعزل في عالم متمركز حول ذاتها؛ فتبقى وحيدة على قارعة الطريق، فضلاً عن أنه لا وجود لقيم بديلة. نستطيع دائماً أن نُلوح بالحقوق الدينية - المسيحية والهندوسية والإسلامية ونحوها - لكننا بذلك سنبقى عالقين بلا أمل في مجالٍ وهمي للأماني غير القابلة للتحقق. أضف إلى ذلك أنه إذا ما أمكن للأديان أن تتقلد زمام السلطة، فإنها ستغير طبيعتها وتخضع لسيرورة أدلجة لا محالة. فالتنوع الثقافي، رغم كل الزركشة والجاذبية اللتين تسِمانه، لا يمكن إلا لوعي تفكري ومزدوج وموسوط أن يعترف به. داخل هذا السياق تكتسي هويتنا الحداثية أهميتها، لأنها وحدها من دون غيرها تتمتع بملكية نقدية قادرة بفضل ذاكرتها الإجمالية أن تُبرز للمفارقة المستويات القديمة والمتأخرة تاريخياً عن الثقافات الأخرى، وتمنحها مساحة للوجود، وتعزز تمفصلاتها المتعددة، أي بعبارة أخرى: تستطيع أن تربط بين عوالم تعيش في عصور مختلفة، من دون إسهام الوعي التفكري والنقدي لهويتنا الحديثة.

من الواضح أن تصاعد التنافر بين أتباع الأديان وسكان تاريخ الحضارات سيزيد من احتمالات العنف، وسيفضي إلى مزيدٍ من الحروب. من الصعب وضع صفة سحرية للنجاة من هذا التلاعن الحضاري والديني، لكن يمكن للعقلاء وضع اقتراحاتٍ فلسفية وعلمية حيوية متجددة تستطيع أن تقبض على الشيطان الكامن المحرض على العداوة بين بني البشر، رغم إجماع الفلاسفة والمفكرين على أن ما يجمع بين البشر أكثر مما يفرقهم، ولكن الخطر كل الخطر في المخزون الثقافي الموروث الذي يجعل الشر المحض جزءاً أصيلاً من تكوين الآخر الديني والثقافي.

***

فهد سليمان الشقيران

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 11 ربيع الثاني 1445 هـ - 26 أكتوبر 2023 م

يرتبط "الفكر الأنواري" في الوعي العربي بدلالة سمو القيم الانسانية، لكننا نعاين اليوم هذا الغرب ما بعد الحداثي يغتصب ما كان دومًا يحرص على عدم انتهاكه، مما دفع عددًا من المفكّرين العرب لتبنّي نوع من الاستغراب الافتراضي ردًا على استنكارهم ممارسات الغرب تجاه ما يحصل في فلسطين، إذ هذا الغرب الحداثي الذي حطم حسبهم جلّ المحاضرات والدروس الأنوارية، اتضح أنه مجرد خدعة.

لكن أليس ربط مجازر فلسطين بالفكر الأنواري الغربي مجرّد تبسيط وتقزيم لا يرتكز على أسُس عقلية جادة تتغافل خصوصية الوضع السياسي الفلسطيني المركّب والمعقّد الذي يتداخل فيه عدة جوانب منها الجانب السياسي الاقتصادي والثقافي الديني؟ أليست عملية الربط بالأساس هي خلط بين الغرب السياسي والغرب الثقافي؟.

يجوز لنا هنا أن نشبّه هذه الردة الثقافية على الحداثة الغربية التي خلقتها أحداث الحرب المرعبة على فلسطين عند عدد من النخب المثقفة العربية بردة جيل المشككين من مفكّري الغرب إبان الأزمنة السياسية العالمية لمنتصف القرن العشرين، إثر صعود الحركات الشمولية والنازية والفاشية للحكم، مفكّرين عاشوا تجربة الحرب والتهجير والتقتيل من طرف النازية، نذكر هنا نموذج لتلميذ هايدغر المفكّر اليهودي الألماني الهارب من النازية وصاحب كتاب "التاريخ والخلاص"، ردة جعلته يربط الحداثة ومفاهيمها بالإرث اليهودي المسيحي، ساحبًا بشكل كلّي أصالة وكذا جدة الأزمنة الحديثة ما دامت لم تحقّق ما كان مأمولًا ومنتظرًا، أي اضمحلال/القضاء على الشر وتفوّق الخير بالنهاية، إلى جانب كارل شميث الذي اعتبر السياسة مجرّد علمنة للإرث الثيولوجي، لكن ما يُميّز هذه الردة فعاليتها الفكرية إذ راكمت عددًا من الأطروحات المتميّزة التي أعادت تقييم الأزمنة الحديثة وخلقت بالمقابل أفقًا ما بعد حداثي لا زال يمارس تأثيره في السياق الفكري المعاصر.

تفوّق الغرب في قيادة الدفة الإعلامية ساهم في توجيه الوعي الغربي نحو غايات سياسية لا تخضع للقيم الأخلاقية. نعاين اليوم الأمر عينه عند بعض نخبنا الذين سارعوا لارتداء جبة الاستغراب الافتراضي القائم على تخليهم عن الفكر الحداثي، إذ اعتبروه مجرّد خدعة غربية، مختزلين الأزمنة الحديثة في كلّيتها بما يجري من ظلم وتقتيل وتهجير وتطهير في فلسطين، فهل يستقيم هذا الربط أم إنه مجرّد رد فعل أمام هول الحدث وعجز عن الفعل؟ فهل كنا فعلًا نُمجّد فكرًا أنواريًا مزيّفًا؟ لما نتفنّن في لعب دور الضحية المخدوعة من طرف قوى غربية؟ ألا نتحمّل جزءًا من المسؤولية فيما يجري؟

إنها عملية اختزالية تبرهن على قصور في استيعاب الأمر أو تغليب كفة الجانب الانفعالي غير القادر على مواكبة الأمر بشكل فاعل، إذ ينبغي الفصل بين الغرب السياسي والغرب الثقافي، لأنّ عملية لمّ الشمل الغربي في سلّة الكلّ الإيديولوجي توضح عجزًا هوياتيًا في مقارعة الراهن، راهن يبرز تفوّق الغرب في قيادة الدفة الإعلامية والسياسية وكذا الاقتصادية، مما ساهم في توجيه الوعي الغربي نحو غايات سياسية لا تخضع لمعايير القيم الأخلاقية كما نتأمّلها في وعينا العاجز عن المشاركة الفاعلة، ربما لأننا نتقمص دور الضحية المستهدَفة التي يجب على الآخر المتفوّق بذل مجهود للكشف عن مظلوميّتها.

 إننا في حرب تُستباح فيها كل الأشياء... والطهرانية الأخلاقية في صورتها الحداثية لا يمثّلها لا الغرب ولا الشرق

نلمس هنا نوعًا من الفكر المتكئ على اللافعل، على خلاف سياق دور الضحية الذي تلعبه إسرائيل، مستغلةً نوستالجيا الهولوكوست التي تعرضت لها، فالأولى ترتكن لركن المظلومية كأنه أمر معروف وبديهي ولا يحتاج لمجهود لتعريفه؛ أما الثاني، فإنه يخلق مظلوميته ويعمل بشتى الوسائل على تسويقها فنصير أمام قلب للمعادلة، ما يجب التنبيه عليه أنّ سيطرة القوى الغربية هي سيطرة مُمَأسسة ومُهيكلة وعَمَلية، إذ تخصّص القوى الغربية بالأخص إسرائيل مثلًا عددًا من الهيئات الخاصة المتخصصة والمتتبعة على الدوام النشاط الافتراضي قصد المساهمة في توجيهه، إننا في حرب حيث تُستباح فيها كل الأشياء أوّلها الحرب الإعلامية التي لا تخضع بالضرورة لمبدأ القيم الأخلاقية، بل لمبدأ الغاية السياسية طبعًا التي قد يكون وراءها عدة محركات، دينية وثقافية واقتصادية.

إنّ الغرب لا يُمثّل القيم الأخلاقية التي بشّر بها خلال الأزمنة الحديثة لنحاكمه بها، القيم تظل دومًا في إطار ما ينبغي أن يكون، ما يجب أن تسمو وتبلغه الانسانية، أما مطلب الطهرانية الأخلاقية في صورتها الحداثية فلا يمثّلها لا الغرب ولا الشرق، إذ كلاهما يرفعان لافتة حقوق الإنسان، لكن واقع الأمر يخضع لأمور أكثر تعقيدًا.

***

د. نزهة بوعزة

نقلا عن موقع "عروبة 22"، يوم: الأربعاء 25 تشرين الأول 2023

تمر قرون على سقوط غرناطة، كان ذلك في الثاني من يناير (كانون الثاني) عام 1492، ولا يزال المسلمون يتباكون على الأندلس وعلى أيامهم فيها في قصائد الشعر حره ونثره وعموده، وفي الخطب السياسية اليمينية واليسارية والوسطية، وعلى منابر المساجد في خطب الأعياد والجمعات، وفي دروس التاريخ المطبوعة في كتب الأطفال والكبار أيضاً، وفي الروايات وفي الأغاني والموشحات، هذا التباكي من المسلمين عربهم وأمازيغهم يصل بهم إلى حد نوستالجيا العودة لهناك، الجنة المفقودة، عرب وأمازيغ من طنجة إلى دمشق لم يستطيعوا بناء أندلس على أرضهم الطبيعية والشرعية ويحنون إليها في أوهامهم وأحلامهم منتهية الصلاحية.

قرأنا جميعنا أو بعضنا في الأقل كتاب "العمدة" لابن رشيق و"التوابع والزوابع" لابن شهيد، وقرأنا "الفتوحات المكية" لابن عربي وكتب ابن باجة و"طوق الحمامة" لابن حزم، وقرأنا بعضاً من تصوف ابن سبعين وابن المرأة وشعر ابن قزمان وابن زيدون وولادة بنت المستكفي ولسان الدين ابن الخطيب وأبو إسحاق الإلبيري وابن خفاجة وابن زمرك، وقرأنا كتب ابن رشد وفصول معركته الفكرية مع الغزالي، وقرأنا كتب ابن ميمون. كانت الحياة كبيرة وسماء الإبداع عالية على رغم ما كان يشوبها بين الحين والآخر من تضييق على الرأي كما حدث مع ابن رشد ومع ابن حزم وابن عربي، ولكن على رغم ذلك كان "الخير" أكبر من "الشر" والعمل أكبر من الكسل والاجتهاد أعظم من النقل.

فحين كانت الأندلس تحت حكم العرب والأمازيغ كانت الحياة فيها بديعة، كان الموسيقيون الفقهاء، كان المغنون والمؤذنون ومجودو القرآن، أماكن العبادة إلى جانب أماكن اللهو، كانت المساجد العامرة وكانت الكنائس المسيحية والكنيس اليهودي، وكانت فضاءات الطب والفلك عامرة بطلاب العلم.

وكانت للمرأة المسلمة الأندلسية مكانتها، ولها حضورها الفاعل في كل ميادين الحياة من قرارات قصر الرئاسة إلى الوزارة إلى الدبلوماسية إلى الشعر والفقه والفلسفة والموسيقى.

ولكن مع ذلك، لم تكن الأندلس كلها بستان ورد وعناقيد سعادة كما يتصورها كثيرون، كان الصراع السياسي والأسري مشتعلاً حول السلطة، وهو أمر طبيعي أيضاً، تقاسم الأمراء المدن والقرى والضواحي والنواحي، وخرج الابن ضد أبيه أو عمه في حرب وقودها شهوة الحكم.

حين كان المسلمون بعربهم وأمازيغهم في السلطة العليا بالأندلس وعلى رغم صراعاتهم، إلا أنهم بنوا تحفاً معمارية مدهشة وخالدة لا تزال شاهدة حتى اليوم على الدرجة العالية للحس الجمالي السامي وعلى الذوق الاستثنائي الذي كان يسود، شيدوا القصور الخرافية السحرية والمساجد العظمى، وأقاموا الأحياء السكنية على تخطيط عمراني محكم يتماشى وطبيعة الثقافة الإسلامية وغير الإسلامية من أهل العقائد الأخرى كاليهود والمسيحيين الذين كانوا متعايشين في سلام وتنافع، احترموا الماء والمطر والطير فوق الشجر، لم يتركوا أمراً للإهمال أو للنسيان أو التفريط، كانت الحياة تمشي على سكة الرقي والفنون وسلطة العقل والسعي وراء المال وتبادل المصالح.

اليوم من يرغب في دراسة تاريخ فن العمارة الإسلامية البربرية والعربية على أصولها وقيمها الحقيقية، كالمساجد والقصور والحمامات وتنظيم الأحياء وفن البستنة عليه أن يشد الرحال إلى الأندلس الإسبانية، فهي المكان الأصيل لمثل هذه الدراسات، بدلاً من الذهاب إلى مدن أو حواضر عريقة في بلدان شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط، ففي هذه البلدان كل شيء مسخ وتم تشويهه أو القضاء عليه، في حين حافظ الإسبان على هذا الإرث وجعلوا منه كنزاً سياحياً لا ينافس.

جاءت لحظة سقوط غرناطة وسقطت ورحل العرب والبربر بمسلميهم ويهودييهم، فرادى وجماعات، واستقروا في كثير من الحواضر والقرى في شمال أفريقيا من طنجة وتطوان مروراً بتلمسان وتنس وقسنطينة وتونس وبرقة والقاهرة وغيرها من المدن، خرج القادة والتجار والمعماريون والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والفقهاء، خرج الرجال والنساء والأطفال، غادروا منازلهم وقصورهم ومزارعهم ومكتباتهم وتجارتهم ومصانعهم وعواطفهم وذكرياتهم بالأندلس.

استقروا في أراض لا تختلف كثيراً عن التي غادروها، أو هجروا منها، وشكلوا مجموعات بشرية حيثما نزلوا، لكنهم لم يستطيعوا حمل عبقريتهم معهم، فما السبب يا ترى؟ لم يتمكنوا من نقل ذلك الذكاء الجمعي، ولا شعلة الحياة التي كانت بالأندلس إلى أماكن إقامتهم الجديدة في بلادهم الأصلية، فما السبب يا ترى؟

ما الفرق يا ترى بين الضفة الشمالية للبحر الأبض المتوسط والضفة الجنوبية؟ ماء البحر هو هو، ومنسوب الملح فيه هو هو، والموج في علوه أو انبساطه هو هو؟ فما السبب يا ترى في أن يبدع المسلم حين يكون في الشمال ويخبو أو ينطفئ حين يكون في الجنوب؟

لا فرق بين سماء تغطي غرناطة وأخرى تغطي تلمسان، الزرقة هي هي والغيم هو هو، فما السبب في أن ينجح المسلم حين يكون هناك ويخفق حين يكون هنا؟

لا فرق بين شجرة زيتون تنبت في إشبيلية وأخرى تنبت في بساتين فاس أو تونس، فما السبب في أن يكون للزيتون والعنب والرمان طعم هناك وكثرة وجودة وفي الجنوب يفقد كل بهجة وكل متعة؟

ما الفرق بين سواعد مسلمة بنت ورفعت عماد قصر الحمراء أو مسجد قرطبة الأعظم، وأخرى لم تستطع رفع سقف بيت بسيط يحميها من الريح والمطر والتشرد والخوف في مراكش أو طرابلس أو وهران أو دمشق أو الإسكندرية، فما السبب يا ترى في أن هذا المسلم نجح في إبداع حضارة ها هناك وأخفق حين عاد لبلاده الطبيعية والأصلية؟

إن المسلم حين أبدع في الأندلس كان يعيش مع الآخر، مع المختلف عنه، كان يتعايش مع اليهودي والمسيحي وغير الديني، يتعايش معهم بسلام وفي تنافس وتنافع وتبادل للمصالح الدنيوية من دون التكفير ولا التخوين ولا احتقار الديانات الأخرى.

إن التعددية في كل شيء، في العقائد والثقافات واللغات، هي من يحرر المسلم المعاصر من أوهام التطرف، وحضور الأجنبي بثقافته في الفضاء الإسلامي يجعل المقايسة مسألة مركزية، هذا الحضور ينهي وهماً مركزياً فيها وهو أننا "أفضل أمة"، ويعيدنا لـ"الجد" والمنافسة السليمة والسلمية في الصناعة والعلم والفلاحة والأدب والأخلاق.

يوم تتحقق التعددية الشاملة في البلدان العربية والمغاربية، ويتجول المسلم في شوارع المدن إلى جانب اليهودي والمسيحي والبوذي واللاديني، آنذاك سيعود المسلم في بلده للإبداع في فن العمارة وسيدرك قيمة احترام التراب والأرض والشجرة والحصان والبحر والصديق والجار والمرأة.

إن نوستالجيا "الأندلس الضائعة" التي هي إحساس جمعي ومرضي لا ينتهي إلا بخلق أندلس أخرى في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا ومصر والشام واليمن والسودان، حنين استعادة الأندلس هو جرح لا يبرأ منه المسلم إلا إذا أدرك بأن عليه أن يفكر قبل "استعادة الأندلس"، التي هي فكرة استعمارية أساساً، إلى التفكير في استعادة "أرضه" الأصلية الثرية والغنية والواسعة التي يأكلها الكسل والفساد والنهب والخراب، في كل مكان من هذه الأرض من طنجة إلى حلب يمكن أن تنبت مئات "الأندلس"، حين يفهم المسلم قيمة العمل وقيمة الاختلاف وقيمة وضرورة التعايش بسلام.

إن المسلم الذي يفكر في "استعادة الأندلس"، ولا يعلم بأنه، في الوقت نفسه، يخرب أندلسه الحقيقية في بغداد وصنعاء والخرطوم ودمشق وبرقة.

***

أمين الزاوي - كاتب ومفكر

عن صحيفة الاندبيندت، يوم: الخميس 26 أكتوبر 2023

في عام 1929، وبالتحديد بين 17 مارس (آذار) و6 أبريل (نيسان) جرت واحدة من أكبر المناظرات الفلسفية وأكثرها إثارة في القرن العشرين. كان ذلك في فندق دافوس الشهير الواقع في أعالي جبال سويسرا الخلابة، حيث يجتمع قادة العالم حالياً كل سنة. وقد جرت بين تصورين مختلفين للفلسفة: التصور التنويري العقلاني الكانطي الذي يمثله إرنست كاسيرر، والتصور النيتشوي البركاني الهائج الذي يمثله هيدغر. كان هيدغر وقتها في عز شبابه (40 سنة) في حين أن كاسيرر كان كهلاً قد تجاوز الخامسة والخمسين. وقد دارت المناظرة حول الفلسفة الكانطية وكيفية فهمها وتفسيرها. وزعم هيدغر أن أحداً قبله لم يفهم كتاب كانط الشهير: «نقد العقل الخالص». وهو واحد من أعقد وأصعب أربعة أو خمسة كتب فلسفية في تاريخ البشرية... وشخصياً لا أتجرأ على فتحه مجرد فتح، رغم أنه موجود على الرّف عندي منذ أكثر من ثلاثين سنة؛ لأني بصراحة عاجز عن قراءته مباشرة وفهمه. هناك شروحات رائعة عنه للفيلسوف لوك فيري، أحد كبار المختصين الفرنسيين بالفلسفة الكانطية. ثم قال هيدغر: إن كانط على عكس ما يظن الجميع لم يكن يعتقد أن المعرفة ناتجة من العقل وإنما عن الخيال الابتكاري الخلاق. فالخيال هو الذي يسبق العقل ويؤسسه وليس العكس. والقدرة الخيالية الخلاقة هي التي تشكل خصوصية الإنسان وجوهره.

الإنسان ليس عقلاً في البداية وإنما خيالات وشطحات وأساطير بهيجة. وهذا يعني أن الشعر يسبق الفلسفة وليس العكس. الإنسان شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. وهذه الفكرة تقلب رأساً على عقب الصورة التي قد نشكلها عن الإنسان والطبيعة البشرية. فإذا كان الخيال هو الذي يسبق العقل فهذا يعني أن الإنسان شاعر قبل أن يكون عالماً، وحالم قبل أن يكون مفكراً. ثم يضيف هيدغر: الإنسان غني بالعالم في حين أن الحيوان فقير بالعالم؛ لأنه محروم من ملكة الخيال والتفكير. وهذه الملكة الخيالية هي التي تجعل من الإنسان صانعاً للمستقبل وراسماً لخريطة العالم.

بعد أن انتهى هيدغر من كلامه المزلزل للقناعات الراسخة صُعق الحاضرون، ذهلوا، داخوا... ويقال بأنهم صفقوا للفيلسوف الصاعد وقوفاً. عندئذ شعر الحاضرون أن الفكر الأوروبي انعطف انعطافة حادة مع هذا المفكر الشاب الواثق من نفسه إلى حد الغطرسة والغرور. على هذا النحو انتصر الهيجان النيتشوي على العقلانية الكانطية. في الواقع أن الظروف العامة السائدة آنذاك ساعدته، كانت تمشي في اتجاهه. ينبغي العلم أن هتلر وصل إلى سدة السلطة بعد أربع سنوات فقط من حصول هذه المناظرة الشهيرة (1929 - 1933). وبوصوله إلى عرش الرايخ لم يعد لصوت العقل الراجح والمنطق الرصين مكانة في ألمانيا. بل ويمكن القول بأن أوروبا كلها دخلت في مرحلة الهيجانات الجنونية. وسوف تكون أكبر مجزرة في التاريخ: 55 مليون ضحية. من سيستمع إلى صوت العقل والمنطق والتنوير في مثل هذا الجو؟

على هذا النحو حصلت تلك المناطحة الفلسفية الكبرى بين هيدغر النيتشوي - وكاسيرر الكانطي. ويبدو أن هيدغر انتصر في خاتمتها بالضربة القاضية إذا جاز التعبير. وكان ذلك إيذاناً بصعود القوى اللاعقلانية الجامحة في ألمانيا. ربما كان ذلك تبسيطاً لمناظرة فلسفية من هذا الحجم الضخم والعلو الشاهق. وهو حتماً تبسيط. ولكن لا يمكن إهمال السياق السياسي والمناخ النفسي العام الذي جرت فيه المناظرة.

ينبغي العلم بأن دافوس، هذه القرية السويسرية الصغيرة القابعة في رؤوس الجبال، كانت ملتقى مشاهير الأنتلغنسيا الأوروبية قبل أن تصبح لاحقاً ذلك الملتقى العالمي الضخم الذي نعرفه حالياً والذي يجتمع فيه كبار قادة العالم من ملوك ورؤساء وشخصيات رأسمالية وعولمية تقرر مصير العالم. وكانت منتجعاً للصحة والعلاج، حيث الهواء النقي والمياه العذبة المتدفقة... وهل هناك أجمل من مناظر سويسرا؟ متى سأعود إلى مشاويري الصباحية على ضفاف بحيرة «نيوشاتيل» هناك، حيث التجأ جان جاك روسو يوماً ما هارباً من ملاحقيه الأشاوس الذين حرقوا أنفاسه حرقاً. لحسن حظه أنه لم يكن يوجد إنترنت في وقته وإلا لكانوا قد اخترقوا جهازه الإلكتروني وقرأوا «إيميلاته» يومياً مثلما يقرأها هو أو حتى قبل أن يقرأها! ثم يتصرفون على هذا الأساس. شيء مخيف. شيء مرعب. جُنت الناس. هاجت الوحوش الضاريات. خرجت من جحرها فجأة دفعة واحدة. لكن، تبقى دافوس التي في ظلالها كتب توماس مان روايته الشهيرة: «الجبل السحري»، وجاء إليها ألبرت أينشتاين لكي يشرح للمثقفين الأوروبيين معنى نظرية النسبية التي دوخت العالم؟ وهل نعلم بأن فكرة «العود الأبدي أو التكرار الأبدي للشيء ذاته» خطرت على بال نيتشه في تلك الجبال الشاهقات كالإلهام الصاعق فقصمت ظهره وطرحته أرضاً؟

هذا، وقد تنادت الصحافة الألمانية والأوروبية من كل الجهات لحضور ذلك اليوم المشهود: يوم المصارعة الفلسفية الحرة بين هيدغر - وكاسيرر. وقد يدهشنا ذلك الآن إذا ما علمنا أن موضوع المناظرة كان ناشفاً متقشفاً إلى أقصى الحدود: «ميتافيزيقا كانط أو الميتافيزيقا الكانطية».

يضاف إلى ذلك، أن كلا المتصارعين كان نجماً من نجوم الفكر الألماني آنذاك. فإرنست كاسيرر (1874 - 1945) غير المعروف كثيراً في العالم العربي كان سيداً من أسياد الفكر. وكانت تحيط به هالة من العظمة والمجد نظراً لمكانته الأكاديمية العالية في الجامعات الألمانية. وعلى وجه الخصوص لمؤلفاته الكبرى. كان إرنست كاسيرر كانطياً عقلانياً تنويرياً بشكل محض. كان يمثل فلسفة الأنوار في أعلى ذراها تألقاً. كان زعيماً لمدرسة ماربورغ: وهو تيار فلسفي يمثل الفلسفة الكانطية الجديدة. كان كاسيرر من أتباع النزعة الإنسانية، ومن أنصار الفلسفة الهادفة إلى تغليب سلطة العقل ولغة المنطق. أما هيدغر فكان نيتشوياً متفجراً يتحدث بلغة الجبال الشاهقات والوديان السحيقات. بل كان يقول بأن الإنسان شاعر قبل أن يكون عالماً أو فيلسوفاً. ابتدأ كاسيرر الأكبر سناً المناظرة بروح منفتحة، متسامحة، متصالحة. أما هيدغر فرد عليه فوراً بلغة صارمة، قاطعة، متغطرسة. وربما لهذا السبب انتصر عليه في ختام المناظرة. وهو انتصار لم يقم منه كاسيرر بسهولة. لقد تأثر نفسياً وانكسر. أصابه الهم والغم. كانت هزيمة فلسفية كبرى أمام الناس كلهم. لقد صرعه هيدغر بالضربة القاضية. نقول ذلك وبخاصة أن المناظرة جرت أمام نخبة النخبة وصفوة الصفوة من كبار مثقفي سويسرا وفرنسا وألمانيا، بل وأوروبا كلها. هل يمكن القول بأن عهد العقل المتوازن الرصين انتهى وابتدأ عهد الخيال الجنوني الجامح الذي ينتهك المحرمات؟ ربما. يكفي أن ننظر إلى هتلر وهو يخطب بكل عصبية وهيجان جنوني لكي نتأكد من ذلك. فهل سبقت فلسفة هيدغر صعود هتلر؟ هل رافقتها ومهّدت لها الطريق؟ سؤال لا يمكن تحاشيه. ولكن من الظلم أن نختزل فلسفة مفكر ضخم كهيدغر إلى مجرد البعد النازي. فأكبر فيلسوف في القرن العشرين كان أعمق من ذلك وأكبر بكثير.

أخيراً، يمكن القول إن كاسيرر وهيدغر، كانا على حق. فالتصوران اللذان قدماهما عن الإنسان والعالم متكاملان في الواقع لا متعارضان. لأن الإنسان شخص منقسم على نفسه، منشق على ذاته. إنه مشكل في أعماقه من تيار المنطق المتوازن، وتيار الخيال الخلاق، من تيار العقل وتيار الجنون، من تيار الشعر وتيار النثر. والسؤال المطروح الآن هو: هل يمكن أن يعقل العالم قبل أن يشبع جنوناً؟ هل يمكن أن يهدأ قبل أن يقذف بكل ما في أحشائه من أحقاد تاريخية؟ هل يمكن أن تسكن لواعج التاريخ قبل أن يصفي حساباته ومظلومياته وعذاباته؟ هل يمكن أن تهدأ قبل أن تتحقق عدالاته؟ هذه هي الأسئلة المطروحة على العالم حالياً. والجواب عليها لن تجدوه عند هيدغر ولا عند كاسيرر ولا حتى عند كانط. الجواب موجود عند هيغل وكتابه الشهير: دروس حول فلسفة التاريخ!.

***

د. هاشم صالح

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 25 أكتوبر 2023 م ـ 10 ربيع الثاني 1445 هـ

جمعنا مساء الخميس (19/10/2023)، حوار ثمين مع عالم الاشوريات وأمين الألواح المسمارية في المتحف البريطاني بلندن، الدكتور ارفينغ فينكل Irving Finkel، العائد للتو من اول زيارة له للعراق، والذي كشف لنا عن سروره الغامر لمشاركته في مؤتمر دولي ببغداد بصفته متخصصا في الحضارة العراقية القديمة، التي كرس لدراستها معظم حياته، كما زار عدة مواقع اثرية سومرية من بينها زقورة عكركوف، التي بناها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ملك الكيشين كوريغالزو الأول لتكون معبدا للالهة السومرية.

كان مصدر دهشتنا الأول عظمة تواضع هذا العالم الجليل، الذي اصر على المجيء بنفسه، ومشيا على القدمين، لاستقبالنا عند استعلامات المتحف البريطاني، رغم ما يمتلكه من شهرة علمية استثنائية، لم ينل ربما مثلها في مجاله احد من قبل، اذا استثنينا رائد علم الآشوريات بالمتحف البريطاني جورج سميث، الذي اكتشف وترجم في عام 1872 أول حساب مسماري للطوفان العظيم، متمثلا باللوح الحادي عشر لملحمة جلجامش، ودون نسيان الكبير صموئيل نوح كريمر. وبداهة، كانت بهجتنا اكبر، عندما اعرب الدكتور فينكل عن اهتمامه الخاص بالمحاور التي تناولها كتابنا "الفلسفة البابلية" (الصادر عن دار المدى في 2019)، فيما تناول الحديث مجمل قضايا الفكر العراقي القديم ،مع وقفة مطولة حول المؤرخ البابلي الكبير بيروسوس (برعوشا) وكتابه الشامل "تاريخ بلاد بابل" المعروف باسم «Babyloniaca» (البابلونيكيا)، الذي صدر بثلاثة اجزاء (في حوالي 272 ق.م)، وأهداه إلى أنطيوخوس الأول وهو مفقود الآن الا اننا نمتلك مقتطفات منه اخذها لاغراضه الخاصة عدد من الكتّاب والمؤرّخين الهيلينستيين ابرزهم جوبا الثاني والكسندر بوليستور وأوسيبيوس ويوسيفوس وغيرهم بينما لا تذكر عنه شيئا مصادرنا العربية والإسلامية فيما سيصدر لنا كتاب خاص عنه قريبا.

ومكانة إيرفينغ فينكل العلمية، بدأت بالتألق منذ عام 2010 اثر قيامه بترجمة ونشر لوح طيني سومري نادر عائد للحقبة البابلية الأولى، أي قبل حوالي 4000، يكشف عن وجود توجيه للانسان من اله الحكمة انّكي (إيا)، يقضي ببناء سفينة لمواجهة خطر طوفان مرتقب. وهكذا، وعندما قرر ان ينقل الى البشر السر الالهي بارسال الطوفان على الارض التي شاخت بالذنوب، قام بتلقين الانسان (أتراحاسيس) المعرفة لبناء السفينة اللازمة، بخطاب غير مباشر عبر جدار كوخ القصب:

"جدار، يا جدار!

جدار القصب، يا جدار القصب!

أتراحاسيس، انتبه لنصيحي،

وقد تعيش إلى الأبد!

اترك منزلك، وقم ببناء قارب

ازدري الممتلكات.. وانقذ الحياة!

وارسم القارب الذي ستصنع

على مخطط دائري

وليكن طوله وعرضه متساويين،

واجعل شخصًا آخر يلف السعف وألياف النخيل من اجلك!

مع إصبع واحد من القار لأطرافها الخارجية

وإصبع واحد من القار لداخلها.."

هذا جزء من النص الخاص بالسفينة في اللوح الذي ترجمه فينكل حيث لاحظ أيضا ان شكل السفينة فيه يختلف عن سفينة نوح بكونه مستديرا من جهة ومشيدا من القصب وحبال ليف النخيل والقير من جهة اخرى.

وهكذا يقودنا فينكل الى الاستنتاج بانه لم يكن لبلاد ما بين النهرين قصة واحدة، بل ثلاث قصص طوفان تسبق النسخة التوراتية بألف عام، مع الاستنتاج المنطقي بأن مؤلفي "الكتاب المقدس" استعاروا حكاية طوفان بابلية تشبه تلك الموجودة على هذا اللوح الطيني وعدلوها لانتاج سفينة نوح التوراتية المستطيلة. وبينما كان هذا القارب او الفلك العائم مصنوعًا من القصب المربوط بحبال من ليف النخيل ومغطى بالقار، وربما مادة شبيهة بالقطران من اجل العزل المائي، غدا في سفر التكوين من "الكتاب المقدس" سفينة خشبية تشبه البارجة كي يكون صالحًا للإبحار.

هذه الافكار التي  طرحها فينكل دافع عنها في اكثر من دراسة، قبل ان ينشر عنها في عام 2014 كتابا بعنوان "السفينة قبل نوح: فك قصة الطوفان" The Ark Before Noah: Decoding the Story of the Flood,  ، لاقى اصداء عالمية واسعة كشف فيه اولا ان الفلك الموصوف في اللوح الاصلي كان مستديراً مثل "قفة" كبيرة جدًا، ودعم رأيه بمعلومات تفصيلية وافية عن أبعاده وبنيته، وهو ما قام بتوثيقه بفيلم وثائقي تلفزيوني تم انجازه في عام 2014 مسبوقا بدراسة معمقة وقيام فريق خاص من الخبراء بتنفيذ نسخة مصغرة لهذه السفينة في الهند بموجب مواصفات اللوح الطيني بقطر 60 متر وارتفاع 6، كما تم تنفيذ السفينة (القفة) من طابقين لتكون محمية بأمان من الطوفان فيما كان من المفترض، وهذا هو كشفه الثاني، أن تدخل الفلك اثنين من كل الاحياء.

ولد عالم الآشوريات البريطاني إرفينغ فينكل في عام 1951، وهو حاليا مساعد أمين مخطوطات ولغات وثقافات بلاد ما بين النهرين القديمة في قسم الشرق الأوسط بالمتحف البريطاني، متخصصا في الدراسات البابلية والآشورية كما في ترجمة النصوص المسمارية المكتوبة على ألواح طينية والعائدة الى العصور العراقية القديمة.

وكان ارفينغ فينكل حصل على الدكتوراه في علم الآشوريات من جامعة برمنغهام تحت إشراف ويلفريد ج. لامبرت اثر تقديمه أطروحة حول التعاويذ البابلية لطرد الأرواح الشريرة والاشباح، وقد صدرت في كتاب لاحقا. ثم أمضى بعدها ثلاث سنوات كزميل باحث في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو. وفي عام 1976، عاد إلى المملكة المتحدة، ليتم تعيينه مساعدًا لأمين قسم الآثار لغرب آسيا في المتحف البريطاني، ومسؤولاً عن تنظيم وقراءة وترجمة مجموعة المتحف من الالواح الطينية المسمارية المكونة من حوالي 130.000 لوحا مظهرا حميمة خاصة في العلاقة مع الكتابة المسمارية التي وصفها بانها "جسر سحري لعالم مات منذ زمن طويل، كان يسكنه رفاق معروفون لنا من البشر".

ومن بين أعماله المهمة الأخرى كتاب "لعبة أور الملكية"  Royal Game of Ur ، وهي لعبة طاولة يبلغ عمرها 4600 أعاد احياءها إلى جانب لعب طاولة بابلية أخرى منسية، مؤكدا ان ألعاب الطاولة هي مؤشرات عن التقدم البشري مثلها مثل التكنولوجيا حاليا. ولفينكل ايضا تعود المبادرة بتأسيس مشروع المذكرات الكبرى، الذي يهدف الى الحفاظ على مذكرات الناس العاديين عبر ارشفتها، وقد ساعد بالفعل في أرشفة أكثر من 2000 يوميات شخصية.

ومن مؤلفاته الاشهر كتاب "الأشباح الأولى: أقدم الموروثات" الصادر في 2021، و"السفينة قبل نوح: فك قصة الطوفان" الصادر في 2014، و"ألعاب الطاولة القديمة" الصادر في لندن عام 2008، و"مؤتمر ويلكوم للطب البابلي" الصادر في 2007، و"تقرير عن لوح صيدا المسماري” الصادر في لبنان في خريف 2006، و“وثائق الطبيب والساحر في سيبار" في 2005، و"النقوش المسمارية في متحف المتروبوليتان"، نيويورك في 2005، وبحث “عن بعض المرمر البابلي المنقوش” المنشور في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية لعام 2002، و"الكتابة في الحجر" 2018، الصادر عن "المدينة المنورة للنشر". ومن افلامه المتخصصة على اليوتوب: "السفينة قبل نوح: مغامرة رائعة"، و"حول فك رموز الكتابة المسمارية"، و"مشروع اليوميات العظيم" والعديد غيرها.

***

د. حسين الهنداوي

عن جريدة "المدى" البغدادية يوم: 22/ 10/ 2023

لم تكد الساحة الثقافية الفرنسية تطوي صفحة الجدل في موضوع آيديولوجيا «الووك» التي تغلغلت إلى الأوساط الأكاديمية بتأثير تيارات فكرية أنجلوسكسونية حتى ظهر جدل جديد ليٌقسم مجتمع الكتاب والناشرين بين مؤيد ومعارض. القضية تتعلق بما يعرف بـ«قراء الحساسية» أو «معيدو الكتابة» أو «القّراء الرقباء»، وهي تسميات مُتعددة لوظيفة واحدة وجدت طريقها إلى عالم الكتابة والنشر في الآونة الأخيرة، حيث تهتم شخصيات متّحدرة من الأقليات بفحص النصّوص الأدبية للتأكد من أن العبارات الواردة فيها لا تتضمن تمييزاً أو إهانة للأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية أو الجنسية. الإشكالية بدأت في فرنسا حين أعلن كيفن لمبير (وهو مؤلف كندي وصل بروايته الثالثة «فليدم فرحنا» إلى القائمة الأولى في جائزة الغونكور) على منصّة «إنستغرام» أنه استعان في كتابة روايته الأخيرة بـ«قارئة حساسية» (أو سونستيفيتي ريدر)، موضحاً أن أستاذة للأدب من أصول هايتية قد ساعدته في رسم ملامح شخصية «بيار موييس»، مساعد بطلة الرواية الهايتي الأصول، وهذا لتجنب الوقوع في الكليشيهات العرقية التي تحدث عندما يكتب مؤلف أبيض عن شخصية سوداء. ويوضح قائلاً: «القراءة الحسّاسة على عكس ما يدعيه الرجعيون، ليست رقابة، بل هي تثري النّص وتضاعف من حرية الكاتب، وليس هنالك شك في ذلك بالنسبة إليّ، وأنوي العمل بهذه الطريقة في كل أعمالي المقبلة».

تصريحات المؤلف الشاب أثارت حفيظة كاتب آخر هو الفرنسي نيكولا ماثيو، الفائز بجائزة «الغونكور» عام 2018 عن روايته «ومن بعدهم أولادهم»، والذي سارع إلى الردّ على تصريح زميله الكندي قائلاً: «للكاتب مسؤولية أخلاقية فيما يتعلق بالطريقة التي يتعامل بها مع شخصيات ومواقف الروايات، وبالأخص عندما تكون هذه الشخصيات قد عانت من طمس وتجاهل حضارة بأكملها. نحن لا نكتب باستخفاف لكن علينا أن نتحمل المخاطر، دون رقابة أو شرطة وهذا أقّل ما يمكننا القيام به...». تلى هذه الحادثة تراشق للكلام بين الكاتبين في وسائل الإعلام التي فتحت صفحاتها لهذا الجدل الذي انضم إليه كتّاب ونقاد وناشرون وحتى أكاديميون. رئيس لجنة «الغونكور» ديدي لوكوان عَدَّ القضية كلها «سخافة... وأن الكاتب يجب أن يحتفظ بحريته في الاعتماد على قارئ للحساسية أو لا، والأهم هو أن نمنحه ثقتنا بوصفه مُبدعاً...». وفي مداخلة له، صرّح الكاتب والإعلامي كريستوف ريو بأن الخطر الحقيقي هو الرقابة الذاتية التي قد يلتزم بها الناشرون على سبيل الحذر، إضافة للروائيين الذين قد يبتعدون عن الإشكاليات التي تتناول الأقليات بوصفها موضوعات حسّاسة تثير الجدل.

تشرح الباحثة جيزيل سابيرو في كتابها «هل نستطيع فصل الإنسان عن المبدع؟» (دار نشر لوسوي): «الأدب فضاء تجريبي يستحضر الغموض والخيال والجرأة... المطلوب أن يكون الكاتب حراً، بل مجازفاً، لكنه بالتأكيد لم يوجد لنشر الموعظة والفضيلة...». وهو نفس رأي دوغلاس كنيدي، الكاتب الأميركي المقيم في فرنسا، الذي قال لإذاعة «فرانس كولتور»: «المشكلة أننا وصلنا لزمن أصبحت فيه الكتابة كالمشي على البيض... علينا الانتباه في كل خطوة إلى ما نكتبه وإلا هوجمنا من كل ناحية... ولأني رجل، وكثير من شخصيات رواياتي نسائية فإني أُهاجم بحجّة أني لا أفهم ما يمكن أن تحس به امرأة... هذا أمر سخيف...». والواقع أن الموضوع، وإن كان دخيلاً على الوسط الأدبي في فرنسا، فإنه معروف في الأوساط الأنجلوسكسونية منذ فترة، وتحديداً بعد الجدل الذي رافق صدور رواية «أميركان ديرت» لجانين كومينس التي واجهت زوبعة من النقد، ليس بسبب القيمة الأدبية للعمل، الذي كان بحسب نُقاد كُثر عملاً ناجحاً بكل المقاييس، بل بسبب اتهامات بـ«عدم أهلية» المؤلفة للكتابة عن شخصية مهاجرة مكسيكية بينما هي بيضاء من أصول آيرلندية.

أربعة من الروائيين ذوي الأصول اللاتينية وهم: مريام غوربا، روبرتو لوفاتو، دانيال أوليفاس وفاليريا لويزيلي، دعوا في بيان لهم، إلى مقاطعة الرواية، بدعوى أنها نوع من «التملّك الثقافي»، ووقّع على البيان 82 كاتباً، ولم تهدأ الزوبعة إلا بعد أن قدّم الناشر ضمانات بأن الرواية ستُفحص من قبل لجنة من القرّاء ذوي الأصول المكسيكية؛ لإعادة صياغة المقاطع التي قد لا تطابق واقع المهاجرين وشخصياتهم. هذه الحادثة كانت بداية سلسلة طويلة من المطالب تقدمت بها تيارات «ووكية» يسارية بإعادة النظر في نصوص أدبية نُشرت قبل عقود ولا سيما تلك الموجهة للأطفال والناشئة، بحجّة أنها تقوم على نظريات ورؤى تُعدُّ اليوم عنصرية أو فاقدة للاحترام اتجاه فئات معينة. فبعد سحب رواية أغاثا كريستي بسبب الإيحاءات العنصرية المزعومة لعنوانها «عشرة زنوج صغار»، واستبدال عنوان جديد بها، هو «وكانوا عشرة». كشفت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية في فبراير (شباط) 2023 بأن «رولد دال ستوري كومباني» الشركة المالكة لحقوق الطبع والاقتباس (وهي الآن تابعة لـ«نتفليكس») قد وقعت عقد تعاون مع منظمة تدعى «أنكلوزيف مايندس» مهمتها تشذيب النصوص الأدبية على المستوى الأخلاقي؛ لجعلها أكثر تناسباً مع القيم العصّرية للعالم الغربي. المنظمة التي تقدم نفسها على أنها يد ممدودة للكتاب والناشرين من «أجل تمثيل أكثر مصداقية للأقليات»، أعادت صياغة عدة نصّوص من روايات رولد دال، فعلى سبيل المثال استبدلت بوصف «سمين» التي وُصف بها الطفل أوغست غلوب، أحد أبطال «شارلي ومصنع الشوكولا»، وصف «هائل». أمّا السيدة تويت في قصّة «آل تويت»، فقد أصبحت «بغيضة» أو «ساذجة» بدلاً من كونها «قبيحة وحيوانية».

وفي رواية «الساحرات» تم إضافة جملة بكاملها تشرح بأن الصلع الذي يميز الساحرات قد يحدث لأشخاص دون أن يكون ذلك «عيباً أو عاراً». صحيفة «ديلي تلغراف» نفسها كشفت عن أن التغييرات ستطال أيضاً سلسلة روايات «جيمس بوند» ليان فليمنغ، حيث أعلنت الشركة المالكة لحقوق النشر والاقتباس أنها تعمل مع «قرّاء الحساسية» لحذف كل الإيحاءات العنصرية أو المعادية للمرأة والعبارات التي لم تعد مناسبة الآن؛ ككلمة «نيغر» التي استُبدل بها في الأجزاء الأربعة عشر من روايات جيمس بوند كلمة «شخص أسود»، كما تم إدراج تحذير في الصفحة الأولى، مفاده أن هذه: «النصوص قد كتُبت في حقبة زمنية جرى فيها تخفيف لوقع بعض العبارات المسيئة،

كاتب أميركي: وصلنا لزمن أصبحت فيه الكتابة كالمشي على البيض.. علينا الانتباه في كل خطوة إلى ما نكتبه وإلا هوجمنا من كل ناحية

ولذا فإنه تم تعديل هذا الإصدار الجديد بطريقة قريبة من النص الأصلي».

وإن كان قطاع النشر والأدب الأنجلوسكسوني قد استجاب لهذه التغييرات التي نادت بها تيارات يسارية جديدة، فإن الوضع مختلف نوعاً ما في فرنسا. فقد أعلنت رولد دال، مديرة نشر «غاليمار أيدويج باسكيي»، في بيان رسمي نشر في فبراير 2023، أن «غاليمار جونيس» لن تعيد كتابة أي رواية من روايات قصّص رولد دال، موضحة أن المبادرة لا تخّص سوى بريطانيا، بينما اختارت دار نشر «أسكال» العمل مع قرّاء للحساسية؛ «لمزيد من النزاهة والنوعية». كما جاء في بيانها الذي نشُر على صفحات جريدة «لوموند» الفرنسية.

***

باريس: أنيسة مخالدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم: 21 أكتوبر 2023 م ـ 06 ربيع الثاني 1445 هـ

هل الإنسان كائن مفاهيمي؟ أي هل تنتجنا المفاهيم أم نحن ننتجها؟ ولا شك أن الإنسان حزمة معانٍ، فهو ابتداءً يولد في فراغ ذهني ثم يأخذ ذهنه بالتشكل بمقدار ما يتلقى من معانٍ وما يأتيه من إشارات لغوية عبر حافلة تسمى الألفاظ والألفاظ تنقل المعاني من الكبار العارفين إلى الصغار الذين سيصبحون عارفين وورثة للسابقين في شحن الألفاظ بالمعاني، غير أن المعاني أكثر من الألفاظ، ولذا يلزم أن يعني اللفظ أكثر من معنى (ابن سينا)، ويظل اللفظ قادراً على إسكان مزيد من المعاني وتخزينها فيه دون كلل ولا امتلاء، وكلما تعرض الذهن للغة أخرى غير لغته الأم تضاعفت معانيه بتضاعف ما يتلقاه من ألفاظ جديدة على ذهنه، وكل لفظ جديد سيتزاوج مع ما هو قار في الذهن.

وكلما تعددت معاني أي لفظ زاد شرف اللفظ الثري وتعدد حضوره في صيغ تتوالى مستضيفة له، وكما قال شاعر إنجليزي: ويلٌ لشاعر لا يجمع بين لفظين لم يجتمعا من قبل، فالجمع هنا مهارةٌ إبداعية، ولا يحجر الألفاظ سوى المعاجم التي تحدد أعداد المعاني ويأتي بعض أنصاف اللغويين ويجعلون مراصد المعاجم حجةً ضد أي لفظ يكتسب معنى لم يرد فيه من قبل، ويواجههم المبدع بتحدي قيودهم على الألفاظ في معركة معهودة على مر الثقافات كلها، وبالتالي فالإنسان نفسه مخزنٌ هائل للمفاهيم التي ستختلف حتماً بين إنسان وإنسان مما يشعل حرائق النقاشات، وفي المقابل يعمر شجرة اللغة ويمدد فروعها، ويحدث إشكال مفاهيمي من حيث إن الألفاظ ملوثةٌ بأنفاس الآخرين حسب تعبير رولان بارت، فالذين مروا من قبلنا وأورثونا لغتهم لتصبح لغتنا ما يزالون مختبئين في صيغ لغوية كانوا ورثوها ممن سبقهم، ومن هنا تختزن الكلمات أنفاس السابقين، وتظل في الوقت ذاته قادرةً على تخزين ما نصبه فيها، وهذا هو الثراء اللغوي لأي لغة بشرية بمقدار ما تتعاقب عليها الأجيال، فهي تتنامى تعبيراً ودلالات ومشاعرَ وتعدداً في الذهنيات، فتصبح اللغة بهذا قوةً معنوية هائلة تحتوي ناطقيها وتقيدهم، ولكنّ أفراداً يجنحون للتمرد على ذواكر اللغة ومحاولة صناعة أثر يخصهم ويتطبع بأنفاسهم، وهؤلاء هم الذين يثيرون دهشتنا بتعبيراتهم المختلفة أولاً والقادرة على لفت النظر مما يصنع الإبداعات الكبرى في معركة متصلة بين المشاكلة التي هي سمة المقلدين والمخالفة التي هي علامة المبدعين.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي، عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 21 أكتوبر 2023

كان لعمله الثوري تأثير هائل على الفكر الإنساني

تتوالى اليوم الاكتشافات العلمية عن الكائنات البشرية التي وجدت قبلنا بحسب العقائد الإبراهيمية، ويبدو من النظر في كتب التاريخ أن هناك من كان يتحدث منذ القدم عن بشر قبل آدم. لكن يبدو أن أقوى هذه الأصوات كان لإسحاق لا بيرير (1596 – 1676) سفير فرنسا لدى الدنمارك، وقد كان عالماً لاهوتياً وكاتباً ومحامياً فرنسي المولد، يهودي الأصل تحوّل إلى المسيحية. تأثر بتوماس هوبز وكان له تأثير على باروك سبينوزا، واشتهر بأنه سلف القرن السابع عشر للنظرية العرقية العلمية القائلة بتعدد الأجيال في فرضيته التي تقدمت بتحدٍ للفهم الإبراهيمي التقليدي لنسب الأجناس البشرية كما هو معروف من سفر التكوين. يوصف هذا الفيلسوف بأنه واحد من جماعة الخُلعاء the libertins، ويوصفون أيضاً بأنهم المفكرون الأحرار الذين قوضوا المعتقدات المعروفة. ومن القواسم المشتركة بينهم، أنهم كانوا قلقين بعض الشيء من أن صديقهم إسحاق لا بيرير سيطبق الشكوك على الكتاب المقدس في كتابه «بشر قبل آدم»، وهذا ما حدث، فقد قرر أن الكتاب المقدس لا يمثل تاريخاً دقيقاً لجميع البشر، وإنما هو لليهود فقط.

تعرض كتاب لا بيرير هذا لانتقادات شديدة من قبل السلطات البروتستانتية واليهودية والكاثوليكية، وفي عام 1656 بعد عاصفة من السخط، أُحرِق كتابه علناً في باريس، ووقع هو بيد الكنيسة الكاثوليكية، بينما كان في هولندا الإسبانية التي كانت آنذاك تحت حكم آل هابسبورغ وهناك جرى اعتقاله وسجنه لمدة ستة أشهر ولم يطلق سراحه إلا بعد تخليه عن آرائه وتحوّله إلى العقيدة الكاثوليكية. ثم ذهب بعد ذلك إلى روما وتوسل إلى البابا ألكسندر السابع طالباً المغفرة، وتراجع عن آرائه السابقة رسمياً، وإن تشكك الشكوكي الآخر بيير بايل وغيره في صدق تلك التوبة.

في كتابه «بشر قبل آدم»، يقرر ما في العنوان، وأن هذا يفسر حياة قابيل بعد مقتل هابيل وأنه تزوج وبنى مدينة. هذا التفسير لاختلاف الأصول البشرية أصبح أساساً لنظريات تعدد الأجناس في القرن التاسع عشر، واعتنقها أولئك الذين حاولوا تبرير العنصرية في أميركا. الفكرة كانت جذابة لأولئك الذين سعوا للبرهنة على دونية الشعوب غير الغربية، فالتفسير الوحيد المتسق لبعض المقاطع الكتابية والأدلة الأنثروبولوجية والتاريخية لاختلاف هيئة الصينيين والسود والمكسيكيين والإسكيمو وغيرهم من الشعوب يرجع إلى أن هناك بشراً قبل آدم، وأن الكتاب المقدس يتعامل فقط مع التاريخ اليهودي، ولا يمكن عدّه تاريخاً العالم. لكن سرعان ما هوجمت نظرية لا بيرير ودحضت من جميع الجهات.

ومع ذلك، كان لعمله الثوري تأثير هائل على فكر القرنين السابع عشر والثامن عشر. لقد بعث الاحتمال في أن كل البيانات الكتابية، إنما تنطبق فقط على التاريخ اليهودي، وبهذا قدّم مفهوماً جديداً جذرياً للتطور البشري وقاد الناس إلى تحسس المزايا النسبية للثقافات والأديان المختلفة. وسرعان ما أدى مزيد من الدراسات الأنثروبولوجية والجيولوجية، بالإضافة إلى التحقيقات والدراسات في علم الأديان المقارن، إلى التخلي عن التسلسل الزمني والتاريخ التوراتي بوصفه إطارا لفهم التاريخ البشري بالكامل، واندلعت بداية نقد أعلى للكتاب المقدس من قبل كتّاب مثل سبينوزا، ونقد فلاسفة التنوير للدين التقليدي.

غالباً ما يوصف لا بيرير بأنه ملحد، لكن الوصف مضلل، فمصطلح «الملحد» دائماً مضلل، وفي أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر لم يكن يصف حقاً موقف من ينكر وجود الله والرؤية اليهودية المسيحية لطبيعة الإنسان ومصيره. كان لدى المفكرين تفسيرات وشكوك متباينة حول جوانب من حقيقة القصة الدينية الشاملة. لكن الإلحاد بوصفه إنكارا لوجود إله وإنكارا لسرد الكتاب المقدس بعدّه الصورة الحقيقية لكيفية بدء التاريخ، أتى فيما بعد نتيجة لشكوك لابيرير وهوبز المطبقة على المواد الدينية. والأرجح أنه كان بعيداً كل البعد عن شخصية الملحد عندما طور وجهة نظره.

لقد جاء من عائلة كالفينية من مدينة بوردو، وعلى الأرجح هو من المجتمع البرتغالي اليهودي الذي تحول إلى المسيحية، لكنه اتُهم بالإلحاد والمعصية، وفي عام 1626 تمت تبرئته بدعم قوي من ستين قسيساً. لكن من المؤكد أنه كان غير مؤمن ببعض العقائد الرئيسية اليهودية والمسيحية، وأنه كان مؤمناً صوفياً بلاهوت خاص. وفيما بعد، تخلى عن كثير من أطروحاته التي عُدت هرطقية.

من قضاياه الكبرى، بالإضافة إلى دعواه وجود بشر قبل آدم، أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، وأننا لا نملك مخطوطاً دقيقاً للكتب المقدسة، وأن الكتاب المقدس هو فقط تاريخ اليهود، وليس تاريخاً للبشرية جمعاء، وأن تاريخ اليهود بدأ مع آدم، وأن الطوفان كان مجرد حدث محلي في فلسطين، وأن العالم ربما كان قديماً أزلياً.

لا يُعرف النظام الذي توصل به لا بيرير إلى علمه اللاهوتي، ولكن من الواضح أن نظرية «البشر قبل آدم» ونظرية «الأصول المتعددة الجينات للبشرية» كانتا من مكونات فكره المبكرة، ثم تطورتا لتكونا شكوكاً حقيقية حول المعرفة الدينية. والنقطة الأساسية في رؤيته اللاهوتية هي مركزية التاريخ اليهودي في العالم، وقد وضع نظرية ما قبل آدم، اعتماداً على النص التوراتي، والوثائق التاريخية الوثنية، والبيانات الأنثروبولوجية المعاصرة له، وكان الهدف الأساسي هو تمييز ما قبل الآدميين - ويعني بهم كل البشر باستثناء اليهود - من اليهود.

«كان عالم ما قبل آدم دموياً متوحشاً وتافهاً، لا شيء استثنائياً يحدث فيه. وعندما خلق الله أول يهودي بدأ التاريخ الإلهي، واليهود هم وحدهم الفاعلون، والتوراة والإنجيل مجرد أحداث يهودية، فالطوفان حدث في فلسطين فقط، والشمس حُبست عن الغروب فقط حيث كان يقف يوشع بن نون ليبدأ معركته العسكرية».

يقول لا بيرير: «هذه الكتب الخمسة ليست النسخ الأصلية، وإنما هي نُسخ عن نُسخ». وصار دليله أساساً لنقد الكتب المقدسة الحديثة، ألا وهو الإشارة إلى التضاربات والتكرار في النص، ولا سيما الجزء الذي من المفترض أن موسى كتبه «عن موت موسى ومكان موته وقبره». وخلص لا بيرير إلى القول: «لا أحتاج إلى إزعاج القارئ أكثر من ذلك لإثبات شيء في حد ذاته واضح بما فيه الكفاية. الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدس لم يكتبها موسى، كما يُعتقد. ولا ينبغي أن نشعر بالغرابة، عندما نقرأ فيها أشياء كثيرة مشوشة وخالية من الترتيب وغامضة وناقصة - وهناك أشياء جرى حذفها ووضعها في غير محلها - وعندما نجد أنفسنا أمام كومة من النسخ المكتوبة بشكل مرتبك».

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الاوسط الندنية يوم: 18 أكتوبر 2023 م

فور ترجمة كتب وائل حلاق حول الدولة المستحيلة، وتاريخ التشريع، ومقاصد الشريعة، صحب نتاجه الكثير من السجال ما بين مبجّل وناقد. وقد علقت على كتبه فور ترجمتها إلى العربية.

«الدولة المستحيلة» كتاب أربك الإسلاميين والليبراليين وذلك لسببين اثنين: أما إرباكه للإسلاميين فلأنه حاول أن يخطّ منهجهم ويفسّره في سياق الحديث عن الدولة المستحيلة، وآية ذلك أنه يأخذ في كتابه الموضوع السياسي الإسلامي وشكل الفقه أساساً لفحص إمكانات تحقيق الدولة الإسلامية المستحيلة باعتبارها تحاول البحث عن التأصيل ضمن الممكن التاريخي، فالفقه ليس هو القانون رغم أن الفقه كما يقول: «يتصف بالتعددية القانونية، ليس لأنه يعترف بالأعراف المحلية ويأخذها بالاعتبار ويحملها محمل الجد فحسب، بل أيضاً لأنه يطرح مجموعة من الآراء على أساس منظومة واحدة من الحقائق نفسها» يضيف كاتباً: «إنه إذا كان القانون، بوصفه ممثلاً للإرادة السيادية، في كلِّ مكان، فإن توزيع القوة القانونية لا يتقاطع مع (كل خطة حياة فردية) فحسب، بل أيضاً مع كل الوحدات التي تكوِّن الدولة. وإذا كان القانون، معرَّفاً كنظامٍ معياري، متوغلاً في هذه الوحدات بصورة رأسية وأفقية، فمن الصواب استنطاق العلاقة بين هذا النظام المعياري والمؤسسات التي تجسده، ولا سيما تلك التي تتخصص في فض الخصومات وتفعيل مبادئها الخاصة».

أما السبب الثاني لإرباكه لليبراليين: ذلك أن الطرح الفكري الحداثي التقليدي حول الغرب، بدا وكأنه مفاجئ لأول وهلة، والباحث محمد حصحاص قدم دراسة مهمة تعالج بعض الالتباس الذي تقدمه نظرية الدولة المستحيلة، فهو يشير إلى أن «حلاق قدم نقداً قاسياً للحداثة الغربية ولمفهوم الدولة الحديثة، مستدلاً في طرحه - إمّا اختلافاً أو اتفاقاً - بكبار فلاسفة الغرب في العصر الحديث، على اختلاف مرجعياتهم ومذاهبهم الفلسفية والدينية، أمثال إيمانويل كانط، وفريدريك هيغل، وفريديريك نيتشه، وماكس فيبر، وكارل شميت، وثيودور أدورنو، وميشال فوكو، وجون رولز، وبيير بورديو، وتشارلز لارمور، وجون كراي، ومايكل وولتزر، وتشارلز تايلر. يلخّص الكاتب نقده للحداثة وتمظهرها في مفهوم الدولة الحديثة».

قلتُ في مراجعةٍ نقدية لمشروع حلاق إن طرحه عبارة عن محاولة رسم مسار بديل موازٍ لعلمانية مشروحة جديدة، على غرار الاقتراحات النظرية التي يطرحها بعض المفكرين العرب من علي عبد الرازق إلى جورج طرابيشي، بل يخوض مقاربة أخرى ضمن منهاجٍ مخاتل. في كتابه «الدولة المستحيلة» يقول حلاق: «القانون في الإسلام ظاهرة اجتماعية في الأساس وليست سياسية. فهو مرتبطٌ بالمجتمع وليس بالدولة، بصرف النظر عن تعريف الدولة».

الخلاصة أن مشروع حلاق لم يأت بجديد وجوهري باستثناء التنويع على التبويب في شرحه، وحاول أن يتجاوز المناهج المطروقة من قبل، ففي كتابته حول الدولة المستحيلة لم يحسم موقفه بشكلٍ منهجي وصارم، بقدر ما بدا موارباً بين ممالأة الإسلاميين، ونقد العلمانيين، لذلك جاءت أطروحاته غفلاً من النتائج البحثية والأكاديمية الصريحة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 19 سبتمبر 2023 12:10

تصعب مقاربة الواقع المعاصر، الكثير التعقيد، بمعزل عن مجموعة من المفاهيم، التي تتعذر من دونها الإضاءة المنهجية عليه. يمكن المرء الموافقة على هذه المفاهيم، أو نقدها، لكن لا بد له من إدراكها، كي لا يظل تائهاً في تتبع مجريات الحاضر.

طالما فوجئت في حواراتي مع الكثير من المثقفين، بضعف اطلاعهم على النهضة الأوروبية، نهضة النصف الثاني من القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وعدم توقفهم عند معناها ودورها الأساسي في مقاربة الواقع الراهن. تلك النهضة التي حققت الانتقال من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، والتي يتعثر إدراك العالم الحديث والمعاصر في منأى عنها. يصعب في سطور قليلة اختصار ذلك التحوّل الكبير، الذي بدأ في الفن، في الرسم والنحت والعمارة، انطلاقا من فلورنسا، عاصمة توسكانا، قبل أن يمتد شيئاً فشيئاً إلى كافة البنى العقلية والفكرية والروحية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية في أوروبا، محدثاً لدى النخب، ومن ثم لدى الشعوب، تحولات جذرية في رؤية الذات والكون، ما أتاح للأمم الأوروبية، ولامتداداتها في شمال القارة الأميركية وأوقيانيا، هذه الهيمنة الطويلة الأمد على مقدرات العالم.

قبل تلك النهضة، كانت الثقافة المسيحية التقليدية مسيطرة بالكامل على نحو ألف عام من القرون الوسطى الأوروبية. كانت الإرادة الإلهية هي محور التاريخ ومحرّكه الأوحد، ولم يكن للإنسان أي دور في مسار الأحداث. وكان هدف الوجود البشري الأسمى كسب الحياة الأبدية، على حساب الحياة الأرضية الزائلة، وعلى حساب ضبط الجسد، «مصدر الشرور»، وقمعه. وكان «الكتاب المقدس»، في عهديه القديم والجديد، المرجع الأوحد لتفسير التاريخ والكون.

لم تلغ النهضة الأوروبية هذا الحيّز الديني. لكنها رسمت إلى جانبه، أكثر فأكثر، حيّزاً آخر مختلفاً، يولي الإنسان دوره في صنع التاريخ، وفي إحداث التحول والتقدم، كما يتيح إطلاق العقل النقدي، ويعيد الاعتبار للجسد، وللحياة والسعادة الأرضيتين.

في هذا السياق ظهرت الطباعة (التي منعتها السلطنة العثمانية لنحو قرنين من الزمن)، وأضعف الانشقاق البروتستانتي سلطة روما، وتم اكتشاف القارة الأميركية، واتسعت حركة التبادل التجاري عبر المدن التي أمتها جماعات آتية من الأرياف، تنتمي إلى طبقة الشعب، وتطمح إلى التحرر من نمط الحياة الزراعية والانخراط في الحياة التجارية. هكذا نمت البرجوازية (التي تعني حرفياً «سكان المدن» الصغيرة)، التي سيكون لها دورها الكبير في المسار الجديد، بحثاً عن مكانتها المفقودة بين الطبقات التراتبية الراسخة الثلاث: رجال الدين، والنبلاء، والشعب. هكذا، من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، توالت في أوروبا التحولات الكبرى التي كرّست الواقع الحديث: فكر التنوير، الثورة العلمية والتكنولوجية، الثورة الصناعية، الثورة الفردية، الثورة الفرنسية الكبرى.

كيف يؤثر إدراكنا هذه الظواهر البالغة الأهمية، تأثيراً عملياً، على مقاربتنا الواقع المعاصر؟ هو يؤثر بأشكال كثيرة بارزة، لا مجال في هذه المقالة للإحاطة بها كلها. سنتوقف هنا عند أحدها، على سبيل المثال لا الحصر:

ثمة مفهوم أساسي شبه مفقود في التحاليل الشائعة للواقع المعاصر، هو مفهوم التمييز بين مجتمع الأفراد ومجتمع الجماعات، الذي لا يمكن فهم الواقع الحالي بمعزل عنه، والذي تتوجب العودة إلى الثورة الفردية في أوروبا لإدراكه. لقد استطاعت الثورة الفردية، في ظلّ التحولات الصناعية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من مطلع القرن الثامن عشر إلى مطلع القرن العشرين، تفكيك الجماعات بأشكالها المتوارثة، وتحويلها إلى أفراد/مواطنين، من رجال ونساء على حد سواء، مستقلين ومندمجين في شعب واحد وفي دولة وطنية واحدة. تلك هي مجتمعات الأفراد التي تكرّست في مختلف أنحاء العالم الصناعي، في غرب أوروبا وشرقها، وفي أميركا الشمالية وأستراليا. وفي موازاة مجتمعات الأفراد، هناك مجتمعات الجماعات التي ما زالت سائدة في معظم أقطار العالم. فعلى سبيل المثال، لم تستطع كافة الأنظمة المتوالية على المشرق والمغرب العربيين، على مدى مائة عام، منذ سقوط السلطنة العثمانية حتى اليوم، تحقيق الانتقال التاريخي من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد/المواطنين. بل على العكس من ذلك، قويت الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وغيرها في هذه المنطقة الشاسعة، واشتد عصبها أكثر. وكذلك هي الحال في مناطق عديدة أخرى من العالم.

إذا لم ندرك الفارق العميق بين مجتمع الأفراد ومجتمع الجماعات، كيف لنا أن نحلل الواقع المعاصر؟ فما ينطبق على مجتمع الأفراد من تشخيص للمشكلات، ومن توصيف للحلول، لا ينطبق على مجتمع الجماعات. والمصطلحات المستعملة هنا لا تصح حكماً هناك. لذلك تطالعنا هذه الفوضى الفكرية العارمة في مفاهيم الإصلاح في الكثير من مجتمعات الجماعات، التي تتصرف نخبها المثقفة، وطلائعها التغييرية، وكأنها مقيمة في مجتمعات الأفراد. الوضع اللبناني الراهن هو مثال واضح، من بين أمثلة كثيرة أخرى، على ذلك. ومن أسباب هذه المتاهة، أن معظم المصطلحات التغييرية المتداولة في مجتمعات الجماعات، واردة إليها من مجتمعات الأفراد في العالم الصناعي الأوروبي الهوية أو الجذور. وهي تصحّ على مجتمع الأفراد وليس على مجتمع الجماعات، كـ«الديمقراطية العددية» مثلاً، التي سرعان ما تتحول في عالم الجماعات إلى ديمقراطية الـ99 بالمائة المزيفة، لصالح الجماعة الحاكمة وقائدها الأوحد، وكـ«العلمنة» التي غالباً ما تستعملها الجماعة الحاكمة كقناع مزيّف لبسط هيمنتها الفئوية على سائر الجماعات المغلوبة على أمرها، و«الاشتراكية العلمية» التي تنسب نفسها إليها أنظمة متسمة بالتخلف والتسلط والعوز، والعديد من المصطلحات المماثلة الأخرى.

ولا تقتصر هذه المتاهة على النخب في مجتمع الجماعات وما يرد إليها من مصطلحات، بل تطال أيضا النخب في مجتمعات الأفراد المتقدمة، وطبيعة نظرتها إلى مجتمع الجماعات. فالكثير من المقالات والدراسات السياسية والسوسيولوجية، الصادرة عن هيئات أكاديمية مرموقة في الغرب، تنظر إلى المشكلات والحلول في مجتمع الجماعات، هنا وهناك في العالم، بمنظار مجتمع الأفراد الذي تنتمي إليه، فتفقد بذلك قيمتها، وتساهم بدورها في تعزيز المتاهة الفكرية، والدوران في الحلقة المفرغة نفسها.

***

د. أنطوان الدويهي

الشرق الأوسط اللندنية في يوم: السبت - 23 ربيع الأول 1445 هـ - 7 أكتوبر 2023 م

تتردد مقولةُ «القيم» على كل الألسن، البعض يتحدث عن منظومة القيم الاجتماعية على غرار علماء الاجتماع، والبعض الآخر يتحدث عن القيم الدينية.. وقد أصبح «حلف القيم» محوراً لعمل منظمة اليونسكو.

وفي السياق العربي الإسلامي، برزت مبادرة منتدى أبوظبي للسلم الذي يرأسه العلامة الشيخ عبد الله بن بية وترعاه دولة الإمارات العربية المتحدة حول حلف الفضول الجديد الذي هو حلف فضائل وقيم عالمي.

ومع أن مفهوم القيمة ظهر في الأصل في الحقل الاقتصادي، فإنه دخل في التفكير الفلسفي على يد «نتشه» خلال بلورته لمنهج الجينالوجيا الذي يحلل أصول القيم وقيمة الأصول، من منظور نقدي لا يرى في التقويمات الأخلاقية سوى مظهر من مظاهر قوة الضعفاء والعبيد. وقد كاد مفهوم القيم يختفي في الفلسفة المعاصرة، منذ أن أصبح المسلك التفكيكي غالباً عليها، إلى حد أنها توزعت إلى مسلكين: نتشوي جينالوجي ينظر للمسألة الخُلُقية من زاوية الغرائز الحيوية، وليبرالي يستبدل القيم بالقانون المدني ويعوض الخيرَ بالعدل. ومن الاستثناءات النادرة أطروحة الفيلسوف الألماني هانس جوناس في كتابه «كيف تنشأ القيم؟» الذي صدرت ترجمته الفرنسية مؤخراً.

في هذا الكتاب يرى جوناس أن مسألة الغيرية التي هي محور التفكير الفلسفي الراهن، تقتضي التصورَ الموضوعي للقيم، أي اعتقاد استقلالها عن الذات وعن المواقف النفسية الفردية والجماعية، والنظر إليها من حيث هي مطلقات كونية تتعالى على التاريخ والسياقات الاجتماعية.

ومن هنا اعتبر جوناس أن القيم لا بد أن تستند إلى مرجعية دينية متعالية، ويمكن لهذا التعالي أن يأخذ أشكالا متعددة، من التعلق العاطفي والمحبة الصافية إلى الانقياد الطوعي والرضى النفسي، بما يعني أن القيم هي التي تمكّن البشرَ من التواصل العمومي الحقيقي وتتيح للإنسان الخروجَ من ذاتيته المغلقة، وليست بالتالي طريقاً للتعصب أو الجمود.

في معجمنا العربي، لا نجد مكاناً للقيم بالمفهوم المعاصر، بل أن المدونة الأخلاقية التراثية تتمحور حول ثلاث مفاهيم محورية هي: الآداب والفضائل والمكارم، وكلها تدور حول معنى التسامي والترقي في السلوك والعمل، بدل معايير الفعل القابلة للتعميم الكوني كما هو تصور كانط للمسألة الأخلاقية. ومن هنا يمكن القول إن ما نعنيه حالياً بالقيم هو نظام السلوك المتبع اجتماعياً، أي الفضائل العامة التي لا تستند بالضرورة لمرجعية دينية، حتى لو كان الشرع اعتمدها لاحقاً، كما يستشف من الحديث الشريف «إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».

وعلى هذا الأساس كان اعتماد «حلف الفضول» السابق على الرسالة المحمدية، بالرجوع إلى مقاصده ومراميه الثابتة. وإذا كان الكثير من المستشرقين الغربيين يرى أن الشريعة الإسلامية لا تتضمن منظومةً أخلاقية (وهو رأي الفيلسوف الألماني هيغل)، فالحقيقة أن تصورها الأخلاقي يختلف عن فكرة المعايير الذاتية المجردة والكونية التي لا ترى في القيم سوى قوانين ملزمة.

وقد حاول الفقيه الأزهري المرحوم محمد عبد الله دراز في كتابه الشهير «دستور الأخلاق في القرآن الكريم» تأصيل أخلاق الواجب الكانطية من منظور إسلامي، إلا أنه لم يدرك أن مساحة التشريع السلوكي في الإسلام لم تتجاوز الحدود القصوى في الفعل وفق سلم متدرجة من المنع إلى الوجوب مروراً بالكراهية والترغيب، مما حدا بالإمام أبي حامد الغزالي إلى اعتبار الفقه علماً من علوم الدنيا غرضه منع الظلم وضمان الحقوق.

القيم إذن هي الفضائل التي يعتمدها النسق المعياري العام للمجتمع، والأخلاق هي التسامي إلى أعلى درجات هذا السلم القيمي. ولقد أدرك الأصوليون هذا المنحى في القيم الشرعية من خلال أطروحة مقاصد الشريعة التي اعتبر الشاطبي أنها مشتركة بين الملل والأديان، أي أنها إنسانية كونية.

ومع أن الفكر الغربي تخلى عن نظرية الفضائل الأرسطية منذ عصور الحداثة، فإن العديد من المقاربات الفلسفية الراهنة أعادت الاعتبار لهذه النظرية باعتبار أن قوانين الواجب لا يمكن أن تغني عما سماه بول ريكور «القصدية الأتيقية» التي هي مصدر التقويمات الجوهرية أي تحديد معايير الخير والعدل. ما نخلص إليه هو أن القيم لا تكون إلا كونية، ومن ثم خطورة وعقم كل المقاربات النسبية للقيم من منطلق التعددية الثقافية والعقدية أو من منظور التفكيك النقدي. وهكذا يمكن القول إن الحوار المطلوب مع الثقافات الأخرى لن يكون بالضرورة إلا في نطاق هذه القيم الكونية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 24 سبتمبر 2023

علاقتنا مع هوياتنا الجذرية تتشكل بصيغ متعددة بين الخوف على الهوية وبين الثقة في الهوية، وفي ذلك نرى علاقتنا مع الدين واللغة، فبعضنا يميل للتسامح والتسهيل، ويقابله فريق يأخذ بالتشدد والتمسك. كل هذا تبعاً لنظرة كل فريق لمعنى الهوية إما بوصفها مرجعيةً قارةً مستقرة وتكون هنا مرجعيةً تقتضي الرجوع إليها والاتجاء إليها وقت الخوف على الهوية نفسها أو الخوف على الذات، وهنا تتحرك الهوية وقت الأزمات، والوجه الآخر يرى أن الهوية قيمةٌ حيةٌ تنتعش كلما تحركت وتفاعلت وتزداد قوتها تبعاً لتحركها وسيرورتها، وفي ذلك نرى التشدد النحوي مثلاً يتساوى مع التشدد الفقهي، وكلاهما يَنظر إلى الدين أو اللغة على أنهما مرجعيةٌ يركن إليهما ونعود لأي منهما لتحصين أمر ديننا أو أمر لغتنا. وكلما خفنا على أحدهما تشبثنا بجذره الأصلي لكي نحميه من جهة ونحتمي به من جهة أخرى والقضية هنا هي حماية أو احتماء، ويقابل ذلك التسامح في الفقه أو في النحو عند من يرى أن الدين بوصفه للعالمين فهو إذن خطابٌ حي وحيوي وتفاعلي، وكذلك ينظر للغة بوصفها لساناً حياً لأحياء يعيشون زمنهم وليس زمن سلفهم، سلف الاحتجاج، تبعاً لكون اللغة ذات مرجعية جاهلية من حيث الشعر الذي هو ديوان العرب ومقولة ابن عباس إذا عجزتم عن فهم شيء من كتاب الله فارجعوا لشعر العرب (أي الجاهليين)، وعبر واحدة من هاتين الرؤيتين تنقسم علاقتنا مع الهوية، ويجري الخلاف والاختلاف بين أنصار التشدد بما أنه تشبث بالجذر، ومن هنا تحدث السلفية الدينية أوالسلفية اللغوية، في حين يأتي التسامح وطلب التيسير بما أن الهوية قيمة متحركة تتجدد عبر معاني الإنجاز والقوة المعنوية للأمة. وغالباً يزيد التشبث بالهوية وقت الأزمات بينما تظهر الراحة والانفراجة وقت شعور الذات بقوتها وصلابة واقعها ولن تكون في هذه الحالة بحاجة للاستعانة بالماضي للتقوي على الحاضر.

فالتفكير المتشدد يصدر عن خوف، ومن ثم يتشبث بالجذر ويتحول الجذر عنده لكتلة صلدة وربما متجمدة، بينما التفكير الحر فمنفتح وتفاؤلي، والهوية الجذرية عنده ثابتة وأيضاً متحولة، وعلامة ذلك تجربة العصر العباسي والثورة الثقافية في مطالع ذلك العصر، حيث نشأت علوم لم تكن من علوم العرب الأولى، مثل علم الكلام وعلم الفقه وعلم اللغة، وهي علوم قامت لخدمة القرآن الكريم عبر معارف طابعها التجدد والتنوع مما يجعل القرآن يعيش بين عقول متفتحة تحمل رسالة الدين وتوسع فضاءات المعاني والمعارف، ولا يخدم القرآن الذي من شرطه العالمية (العالمين) إلا أن تنفتح لغة العرب وعقول ثقافتهم لتعيش أزمنتها وليس ماضيها.

 ***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يعتقد بأن المجتمعات البشرية تمر في مراحل مختلفة عبر تاريخ تطورها الثقافي، بحيث إن كل جماعة تتميز بمستوى معين من الوعي العلمي والفلسفي والسياسي والديني عبر تاريخها المتواصل، وعبر تفاعلها وتعاملها مع الجماعات الأخرى. على هذا الأساس، رأى فوكو أن كل جماعة بشرية تكون محكومة بخطاب معرفي يكون بدوره خاضعاً لمستوى الثقافة المسيطرة في مرحلة معينة من تاريخ الجماعة، ويسميه فوكو بمصطلح «إبيستيميه» Epistémé (الخطاب المعرفي السائد).

إذن، إن الخطاب السائد في المجتمعات المحلية يتفاعل مع المجتمعات الأخرى، بحيث ينتج عن هذا التفاعل نوع من السيطرة أو القبول والتعاون في ميدان الثقافات المختلفة على الصعيد العالمي. ولا شك في أن التكنولوجيا المعاصرة تساهم بقوة في نشر الأفكار السائدة على مستوى العالم بأسره.

في هذا المقال المحدود، سوف نحاول استعراض أهم الأفكار السائدة والمؤثرة في الثقافة الغربية المعاصرة، استناداً إلى مجلة «العلوم الإنسانية» الصادرة في فرنسا، في شهر فبراير (شباط) من عام 2019، والتي خصصت ملفاً أساسياً موسّعاً حول هذا الموضوع. وسوف نستعرض هذه الأفكار حسب الأبجدية الفرنسية.

نبدأ بفكرة Apocalypse التي تبشرنا بنهاية العالم أو بالقيامة. هذه الفكرة تطرح إمكانية انهيار العالم، اعتماداً على تقارير فريق الخبراء الحكومي حول المناخ والنشاط البشري الذي أدى إلى سخونة الكوكب الأرضي. وأصحاب هذا الرأي ينبهون إلى ضرورة أن تتحضر البشرية من اليوم للعيش في كوكب غير قابل للعيش.

الفكرة التالية Antispécisme المناقضة لنظرية الأنواع، تتعامل مع نظرية تفوّق النوع البشري على أنها تشبه العنصرية والجندرية. إن أصحاب هذه الفكرة يتعاملون مع الحيوانات بالتساوي مع الإنسان، ويدينون آيديولوجيا النوع، وينادون بضرورة تحرير الحيوان.

الفكرة التالية تحمل عنوان Asperger، أو «متلازمة أسبرجر» الذي اعتبر أن التوحّد (Autisme) كان يُعتبر خطأ كمحاولة مرَضية نفسية للتقوقع في مواجهة العالم، وصولاً إلى الهروب من الأهل غير الجديرين وغير المحبين. وفي بداية ثمانينات القرن العشرين بدأت «متلازمة أسبرجر» تفرض نفسها، وتحمل اسم طبيب الأطفال النمساوي الذي وصف قبل أربعين عاماً أطفالاً متوحدين يتميزون بغياب التأخر العقلي، وبتمكن ممتاز من اللغة. والدليل على ذلك عدد من المتوحدين الذين عرفوا شهرة واسعة إعلامية وأدبية.

الفكرة التالية تحمل عنوان Bienveillance، أي تربية المشاعر الطيبة، وتكريس فكرة التسامح، وهذا الرأي يبدو حائزاً الإجماع.

والفكرة التالية تحمل عنوان Capitalocène، أو محاكمة النظام الرأسمالي. وهنا نطرح السؤال التالي: من المسؤول عن سخونة الأرض؟ إجابتان ممكنتان: البشرية بكاملها، أو الأغنياء هم وحدهم الذين يهدمون الكوكب.

الفكرة التالية تتعلق بالمناخ Climat، أو بالهندسة الجيولوجية في سبيل إنقاذ العالم. لقد أصبح مؤكداً أن كوكب الأرض يسخن، ولكن كيف نخرج من هذه المشكلة؟ إن جواب علماء البيئة المباشر والاعتيادي يتلخص في الدعوة إلى خفض النمو. ولكن الذين يدعون إلى ذلك يعرفون أنه لا يمكننا التهرب من القيامة أو من نهاية العالم. ولكن النظام الرأسمالي يجيب بأنه تجب مواجهة المشكلات التي تجلبها التكنولوجيا بواسطة التكنولوجيا ذاتها. إنها سوق القرن الحادي والعشرين: إنقاذ البشرية. وسوف يتوجب تصور الوسائل التكنولوجية التي سوف تنقذ الأرض من التسخين.

ومن الأفكار السائدة والمهمة: Démocrature (استبداد الديمقراطية). هذا العنوان يستدعي القول بأن الديمقراطية في خطر، حسب تقارير المنظمات غير الحكومية؛ إذ إنه منذ ربع قرن لم تتقدم الديمقراطية في العالم؛ بل هناك أنظمة هجينة خليط بين الديمقراطية والتسلطية، تنمو حتى في البلدان الغربية (هنغاريا، وبولونيا). وأصبحت الحريات الفردية بشكل خاص موضع تساؤل (التعبير، التظاهر، التجمع، تعددية وسائط الإعلام...). وهناك بعض المثقفين الذين يتوقعون جدياً «نهاية الديمقراطيات» حتى في العالم الغربي. ووصل الأمر بالأستاذ الأميركي ستيفن هولمز إلى المقارنة البيولوجية؛ حيث إنه يعتبر أن الديمقراطية هي كأي كائن عضوي طبيعي ويمكن أن تموت. أما الصحافي جان-كلود هازيرا فقد استخدم مصطلح Démocrature كي يصف التحولات الحديثة للديمقراطية في بعض البلدان، كالولايات المتحدة وإيطاليا والنمسا، إذ إن هذه الدول لم تعد ديمقراطية حقاً، وذلك لأن قادتها يتبنون ممارسات تسلطية.

إذن نحن اليوم نعيش في عصر الديمقراطيات الخائبة. ورغم ذلك، فإن المواطنين يبقون متعلقين بالديمقراطية. باختصار: إذا كان الخبراء كما المواطنون يعترفون بنقائص وهشاشة الديمقراطيات الغربية، تبقى أقلية من المواطنين معجبة بالنظام التسلطي أو السلطوي.

ومن معجم الأفكار السائدة فكرة Épigénèse أو نظرية التخصيب. وهذه النظرية تستعيد طرح التساؤل حول الدور الوحيد للجينات في بناء الجسم الحي. الفكرة التالية Happycratie أو نظام السعادة. هذا العنوان يستبطن السؤال الآتي: هل السعادة إلزامية؟ في الواقع إن مسألة السعادة مطروحة بقوة، وكأن على الفرد أن يكون سعيداً مهما كلفه الأمر، بحيث يصبح تعيساً؛ لأنه لا يستطيع أن يكون سعيداً في ظروف معينة وتعيساً في ظروف أخرى. كيف يكون المرء سعيداً في ظل استبداد نظام السعادة؟ أليس الإنسان حراً في الحزن وفي السعادة؟

من أفكار الثقافة المعاصرة تبرز فكرة حسن الضيافة Hospitalité. هذه المسألة تتعلق بموضوع المهاجرين وضرورة تأسيس سياسة تقوم على حسن الضيافة، والعمل على تشجيع التعاون بين المهاجرين والمقيمين في سبيل الصالح العام.

الفكرة التالية: Hyperparentalité تتعلق بمبالغة الجيل الجديد من الأهل في الإحاطة بأبنائهم بحيث إنهم يتميزون بالميل المتطلب جداً تجاه أنفسهم، بحيث إنهم يريدون إنجاب طفل يكون سعيداً طيلة حياته، ولذلك يبالغون جداً في ممارسة الإحاطة بكل شاردة وواردة في حياة أطفالهم. ويبقى أنه بالنسبة إلى أهل هذا الزمن يبدو أن التشخيص أسهل من العلاج المطلوب: إذا كان الأهل يحاولون أن يكونوا كاملين، فيُخشى من أن يصبح التحدي قبول تنشئة أطفال غير كاملين.

ومن أفكار اليوم تبرز فكرة الذكورية le masculinisme التي تشن الهجوم المضاد؛ لأن العالم قد يصبح بين أيادي النساء. وهذا ما يطرحه أنصار الذكورية الذين يعبرون عن قلقهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً من خلال أصوات بعض الجامعيين الأنجلوساكسون، الراغبين في إعادة الاعتبار للهيمنة الذكورية. وفي فرنسا يتمثل هذا الفكر بالصحافي إريك زمّور، ومنظر اليمين المتطرف ألان سولال، وبالمحلل النفسي ميشال شنايدر.

ومن الأفكار السائدة تلك التي تقول بالمجتمع المفكك No society. وإحدى المقاربات المطروحة للنقاش حول هذا الموضوع هي مقاربة عالم الجغرافيا كريستوف غويلوي الذي يعتقد بأن الواقع الاجتماعي قد يكون منقسماً. وبدءاً من ثمانينات القرن الماضي وتحت تأثير السياسات الليبرالية، أصبحت الانشقاقات اجتماعية اقتصادية، مع اختفاء الطبقات الوسطى، وجغرافية بسبب الهوة المتنامية ثقافياً بين فرنسا المتروبولية وفرنسا الأطراف؛ حيث أصبحنا أمام فرنسا من فوق المتكونة من النخب المثقفة والسياسية والمالية، ولا تهتم أبداً «بعالم الأطراف».

ومن الأفكار الرائجة اليوم le posthumanisme (ما بعد الإنسانية). في الواقع إن نزعة تحويل الإنسان le transhumanisme هي مشروع تحسين القدرات الجسدية والذهنية والأخلاقية لدى الإنسان، من خلال التكنولوجيا العضوية، أما نزعة «ما بعد الإنسان» فتمثل التيار الفكري الذي يتمتع بإمكانية تدشين نوع جديد من خلال تحقيق هذا المشروع. إن أحد أشهر المبشرين بهذه الحركة هو إيريك دريكسلر الذي نشر عام 1986 كتاباً تحت عنوان «محركات الخَلق»؛ حيث كان يترقب الطريقة التي من خلالها سوف تفتح تكنولوجيات «النانو» عصراً جديداً، من خلال تحويل عميق للكائن البشري.

وحول هذا الموضوع، هناك فكرة توحي بكثير من الخشية من أن يوماً ما سوف تصبح الآلات أذكى من البشر، ومن الممكن أن تعدمهم. هكذا قد يصبح العالم ما بعد البشري تحت إدارة الذكاء الاصطناعي. ويمكننا بحق أن نقلق تجاه هذا الأمر. ولكن حتى الآن لا شيء يشير إلى أن الآلات سوف تصبح يوماً ما قابلة أن تكون مستقلة. وذلك لم يمنع بعض الفلاسفة من نقد القصد الأول للنزعة الـ«ما بعد إنسانية» المتمثل بتحسين شروط الكائنات البشرية من خلال تسويقها.

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: نُشر: 16 سبتمبر 2023 م ـ 02 ربيع الأول 1445 هـ

في عام 1996 أطلقت في تونس مقولة (موت النقد الأدبي)، وهي حالة تشبه مقولة التدمير الخلاق (Creative Destruction) عند الاقتصاديين حين يرون ضرورة التخلص من أي منشأة تعطلت قدراتها الإنتاجية، ما يستوجب التخلص منها والشروع بمشروع يعد بنتائج أكثر نفعية، وهذا أمر لن يكون سهلاً في مجال المفاهيم المعرفية لأن المفاهيم تتجذر في الأذهان وتتشابك مع النسيج الذهني، ولن يتسنى الخلاص منها إلا بحيل مجازية تتعامل مع الذهنيات وتطمح لاستئصال أثر مفهوم ما بإحلال غيره محله، ولهذا تعمدت ارتكاب جنايتي العلمية الخاصة بإطلاق شعار قد يبدو ظاهرياً أنه عدواني وإقصائي، لكنه في حقيقته هو محاولة لممارسة نوع من التدمير الخلاق بإحلال مفهوم يعد بفتح منهجي يعطي غير ما هو من معطيات النقد الأدبي.

وجاء هذا الشعور عندي نتيجةً لحالة ثقافية وربما نفسية من القلق المعرفي، تجلى ذلك ابتداءً من عام 1987، حيث إني فيما قبل ذلك العام أجهدت نفسي في بحوث الجماليات الشعرية مع كتابي (الخطيئة والتكفير)، وما تعاقب من كتب تتصل بالنظرية النقدية الألسنية بتفرعاتها البنيوية والتشريحية والسيميولوجية، وفجأةً جاءتني دعوة يبدو أنها فجرت الحالة القلقة عندي من الإغراق في الجماليات الشعرية، وكانت الدعوة من اتحاد الأدباء العرب، وخصصوا موقعها في أبوظبي، والبحث المطلوب كان عن الشعر الحداثي في الخليج، وهنا وقعت في حيرة مع نفسي وقد شارفت أقصى حدود التوتر المنهجي من الخوض في جماليات الشعر، وكنت أشعر بما يشبه الانسداد المعرفي مع المنهجية النقدية بصيغتها المستقرة في النقد الأدبي، وكنت أعاني من تساؤلات عن نجاعة النقد الأدبي في كشف غير الجمالي في النقد، وكأن أدوات النقد الأدبي قد استنفدت طاقتها في قتل الجمالي لدرجات الوقوع في التكرار، وكأن النصوص أصبحت تتشابه بسبب أن النظر إليها استقر وتيبس على ما هو جمالي، بينما النصوص تحفل بمضمرات لا حيلة لأدوات النقد الأدبي القارة على كشفها أو الحفر عنها، وقد فكرت أن أعتذر عن تلك الندوة، لولا أني كنت أعرف سلفاً أن عذري لن يكون مقبولاً من منظمي المؤتمر العلمي في أبوظبي، وهنا اتجهت لإعمال حيلةٍ علمية تسمح لي بالبحث دون الغرق فيما تشبعت منه، وكتبت بحثاً بعنوان (نماذج للمرأة في الشعر المعاصر) واخترت له ثلاثة نصوص لشاعر كلاسيكي معاصر ولشاعر رومانسي ولشاعر حداثي، ورحت أستخرج صورة المرأة في هذه النصوص المتفاوتة تنوعاً وذهنيةً، أي أني دخلت في نظرية (النسق المضمر) قبل أن تتشكل عندي وفق هذا المصطلح ووفق ذلك التخصيص. ولا شك أن البحث نفسه وفي مراحل إعداده قد فتح أمامي أبواب النسقية الثقافية بأخطر صيغها متمثلاً بمقام المرأة في الثقافة، ومن ثم في حضورها في نصوص الشعر.

والشعر ديوان العرب، بمعنى سجلهم المعنوي والقيمي وفيه كنوزهم المعنوية والقيمية، وفيه تتشكل الذهنيات عبر التوارث الممتد على قرونٍ وقرون لدرجة أن يتشابه نزار قباني مع عمر بن أبي ربيعة نسقياً، رغم فروقات الزمن وفروقات الوعي، فما الذي يجعل صورةَ المرأة عند نزار لا تختلف عن صورتها عند ابن ربيعة.

وهل هذا تقليد شعري كتقاليد الوقوف على الطلل الذي نجده عند امرئ القيس ونجده عند الشريف الرضي ونجده عند أحمد شوقي بوصفه تقليداً عابراً للأزمنة، وسنقول هنا إنه تقليد شعري دأب عليه الشعراء في مبارزة تنافسية ليقيس المتأخر منهم مهاراته على مهارات سالفه حسب نظرية هارولد بلوم (لوحة التلقي) التي يرسم فيها خطى الشاعر في تصديه لمنافسة سابقه النموذجي، وهذا وجه من وجوه القراءة حسب معطيات النقد الأدبي، أم نقول إن هناك نسقاً ثقافياً مخبوءاً في اللاوعي الثقافي، أي أن الثقافة نفسها هي المؤلفة الكامنة خلف المؤلف الواعي، وهذا ما سميته بعد ذلك بـ (المؤلف المزدوج)، أي أن في كل نص ٍمؤلفين اثنين هما المؤلف الواقعي الذي نرى اسمه على جبهة النص، وكذلك المؤلف المضمر الذي هو الثقافة نفسها، ومن ثم نكون أمام نسقين، أحدهما ظاهرٌ وهو النص الذي نستهلكه بالقراءة الواعية، ونسقٌ مضمر لا نراه ولكنه يتسلل إلى ضمائرنا ويشكل ذهنيتنا وذوقنا، ويشكل ما هو أخطر من ذلك وهو عقليتنا.

وتتوج ذلك بصدور كتابي «النقد الثقافي» (2000)، وهو قراءة في الإنساق الثقافية العربية، ومنه عبرت خط النار الأمامي وفتحت مضماري المنهجي الخاص بما توالى من كتب تعتمد المنهجية نفسها في سبر الأنساق المضمرة. وبذا أنجزت مغامرتي في التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي عبر مجازية (التدمير الخلاق).

***

د. عبد الله الغذامي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 16 سبتمبر 2023 01:29

في المثقف اليوم