اخترنا لكم

تشكل كل من الخبرة والملاحظة دوراً أساسياً ومحورياً في رحلة الاستقصاء نحو تشكيل المعرفة المبنية على الكم الوافي من المعلومات والمهارات. ولا يمكن غياب أي مِن الملاحظة والخبرة عند الحديث عن الأدوات الضرورية لتحصيل المعرفة، حيث إنهما تتداخلان في الخطوات والمراحل التي تدفع بالعملية الكلية لبناء وتكوين وبلورة المعرفة حسب طبيعتها، بالإضافة إلى تطوير تلك المعرفة والقدرة على تفسير وتحليل وفهم المجريات التي تحيط بالإنسان وهو يكوّن معارفَه.

أما فيما يتعلق بالخبرة على نحو خاص فمن الواضح أنها تعبّر عن مستوى مختلف من أطوار بناء المعرفة، حيث يبدو أغلب تفاعلاتها في السياق الواقعي العملي، البعيد عن التنظير المجرد، متداخلاً في مضمار التجربة والعمل، وبالتالي فإن الخبرة تعبّر عن مهارة متفوقة على مجرد الملاحظة، وبذلك تكون إحدَى الأدوات التي يمتلكها الإنسان بعد خوضه العديد من التجارب ومروره بالكثير من المراحل التي قد يقع في الكثير منها ذلك التكرار الذي يفسر إنضاج الخبرة نفسه كأساس لبناء المعرفة. كما تعمل الملاحظة على تمكين الإنسان من جمع المعلومات وامتلاك إطار من المعطيات الكافية لفهم الظاهرة التي تقابله، وذلك انطلاقاً من الحالة التفاعلية بين الإنسان كذات مدركة وبين مجال ملاحظته، لا سيما أنها تعتبر الأداة المستخدمة في سبيل الوصول إلى حل المشكلات ومعالجة التحديات وكإطار لجمع المعلومات الدقيقة حول موضوع معين.. وغير ذلك من الأمور والمراحل التي تصب مجتمعةً في تكوين المعرفة العلمية حول موضوع أو تخصص أو مجال معين.

وحين كانت الخبرات تعبّر عن المعارف والمهارات المجموعة التي يحصدها الإنسان على طول مسار حياته المشحون بالتفاعلات والتجارب المختلفة مع بيئته المحيطة، وكانت هذه الخبرات تحمل بين طياتها تنوعاً هائلاً، سواء أكان لجهة أصناف المعلومات أو المجالات المعرفية، فإنها شكلت عماداً رئيسياً في تطوير مهارات الإنسان وقدراته وتمليكه الأدوات التي تجعله قادراً على فهم ما يجري حوله. وبالتركيز على الخبرة في حد ذاتها، فإنها تلعب دوراً بارزاً في تطوير مهارات الإنسان التي تجعل منه عنصراً نافعاً وقابلاً للإنتاج في مجال عمله، كما أن الخبرة تعتبر أحد أبرز النقاط التي ينجذب لها أصحاب الاحتراف في العمل، لا سيما أنها تحدد أكثر المسارات نفعاً وجدوى بحسب مجال الخبرة وطبيعتها.

وحتى تكون الخبرة الإنسانية أكثر صلةً وفائدةً في مختلف المجالات، فلا بد من إشباعها بتغذية مستدامة من أجل تجويدها والارتقاء بها، مثل المهارات العملية التي تعمل بدورها على تعزيز الأداء والارتقاء بالمعلومات الإدارية والفنية للتخصص. وهذا إلى جانب تطوير المهارات الشخصية المتعلقة ببيئة العمل على سبيل المثال، بحيث يكون الإنسان (صاحِبها) قادراً على تطويع مهارات القيادة والتواصل، وبالتالي فإن اللجوء إلى البرامج التدريبية المختلفة التي تسعى لشحذ الخبرة الإنسانية يعد مثالاً متميزاً يؤهل الخبرة للتطور والتجدد والتوسع في نطاق المعرفة الريادية والابتكارية.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 سبتمبر 2024 23:54

 

قلت في مقال «الزحيلي والمودودي» إن الفكر الإسلامي الإصلاحي في العالم العربي حين ترجم كتاب «الجهاد في سبيل الله» إلى العربية عام 1950، كان مستقراً على القول بأن الأصل في الجهاد هو الدفاع لا الهجوم والتوسع. المودودي في كتابه هذا نقضَ هذا القول المستقر في الفكر الإسلامي الإصلاحي في الهند وفي العالم العربي.

سيد قطب كانَ أول منظِّر إسلامي في العالم العربي أشاع قول المودودي في الجهاد، ونوّع عليه، وذلك في الطبعة المنقحة من كتابه «في ظلال القرآن» الصادرة عام 1961. وفي كتابه التلخيصي الوجيز «معالم في الطريق» الصادر عام 1964. ثم عشّش هذا القول ثم باض وفرّخ في عقول كثير من الإسلاميين العرب، واستوطن فيها، وتفشّى في بعض كتبهم.

إنَّ مجيد خدوري في كتابه «الحرب والسلام في القانون الإسلامي» لم يتعرض لمفهوم الجهاد عند الإسلاميين الحركيين، ولا يلام على هذا، فالطبعة الأولى من كتابه هذا كانت في عام 1940. وأعاد طبعه عام 1951. والطبعة التي رجع إليها وهبة الزحيلي في كتابه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» كانت طبعة عام 1955.

وهبة الزحيلي مع أنه كتب رسالته للدكتوراه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» في أول الستينات الميلادية إلا أنَّه يلام قليلاً على إغفاله مفهوم الجهاد عند تلك الفئة الإسلامية، لأن كتاب المودودي «الجهاد في سبيل الله» وكتابه الآخر «نظرية الإسلام السياسية» كانا من بين مراجع رسالته.

أما عبد الحميد أبو سليمان، فقد أغفل ذلك عامداً متعمداً، لحاجة في نفسه، ألمعت لها في خاتمة المقال السابق.

استوقفني قوله: «والحياد مقابل التحايد». استوقفني هذا القول، لأن الحياد هو مفهوم قانوني ومفهوم سياسي. أما التحايد في اللغة العربية إلى الآن فليس له إلا المعنى اللغوي. ففعل «تحايد» معناه تجنب، تحاشى، ابتعد. وفي السياق الذي استعملت فيه كلمة «التحايد» يصبح معنى هذه الكلمة هو التظاهر بالحياد أو ادعاءه.

واستوقفني هذا القول؛ لأنَّ الذي يقابل «الحياد» في اللغة العربية وفي اللغة الإنجليزية هو «الانحياز» وليس «التحايد».

كنت قد ذكرت في المقال ما قبل المقال السابق أنَّ عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» التي أنجزها عام 1973، لم يحدد نوع «المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي كانت -حسب تفسيره- أحد سببين أعاقا مفهوم المساواة في الإسلام. وكنت قد ذكرت أنه حدّد نوعها أول مرة في العام الذي حصل فيه على درجة الدكتوراه من أميركا. وثاني مرة عام 1979، وثالث مرة عام 1986.

الآن سأعرض ما يعنيه بـ«المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي هي بالنسبة له مقولة تفسيرية حصرية، تمتد من أحداث الفتنة في خلافة عثمان إلى وقتنا الحاضر، وفي المقال المقبل سأوضح أن تفسيره تترتب عليه -منطقياً- شبهة كبرى تمس الجانب الإلهي والجانب النبوي في رسالة الإسلام، هو لم يقصدها. وسأبين كذلك تهافت تفسيره لنهاية الخلافة الراشدة ولبداية الخلافة الأموية.

في اللقاء الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «قضايا الفكر الإسلامي المعاصر» المنعقد في الرياض ما بين 17 و27 ديسمبر (كانون الأول) عام 1973، ألقى بحثاً كتبه كان عنوانه «السياسة والحكم في الإسلام».

قال في هذا البحث: «ونستطيع أن نضع أيدينا على بدايات الأزمة وأصولها التاريخية إذا دققنا النظر في الفتنة الكبرى التي ذهب ضحيتها حكم المدينة ونظامها السياسي ودم الخليفة الراشد عثمان بن عفان. فالأمر لم يكن كما يتخيل الكثيرون أنه ثورة أفعال بعينها، وأخطاء بذاتها وقع فيها عثمان أو غير عثمان، وإلا فما كان لعهد معاوية بن أبي سفيان أن ينعم بالاستقرار لأمور هي أنكى من كل ما يمكن أن يتهم به عهد عثمان، فالسبب في جوهره لم يكن إلا بداية طفو مفاهيم وقيم في نفوس القبائل والشعوب التي وصلت إلى جسد الجيوش ومراكز القوى في المجتمع الإسلامي، ولم تكن قد نالت من التربية والتعليم والتجرد مثل ما نال جيل المدينة، الذي ربّاه الرسول عليه الصلاة والسلام».

وفي اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «الإسلام والحضارة ودور الشباب» المنعقد في الرياض ما بين 18 و25 مارس (آذار) عام 1979، ألقى بحثاً كان عنوانه «الأسباب التاريخية لانحراف المجتمعات الإسلامية والمنطلقات الإسلامية لتصحيح البنية المعاصرة».

قال في هذا البحث: «وتبقى الحقيقة أن تحولاً أساسياً، في ميدان فاعليات الأمة وإمكاناتها المعنوية، قد حلّ بها بزوال عهد الصدر الأول والخلافة الراشدة وعلاقاتها الاجتماعية، رغم امتداد الدفع المادي وطرح ثماره خلال العهود الأولى اللاحقة لعهد الصدر الأول.

ولكن كيف حدث هذا التحول؟

في تصورنا أن ذلك التحوّل بدأ بانضمام أفراد القبائل العربية من غير المهاجرين (من قريش) والأنصار (من الأوس والخزرج) إلى صفوف الجيش الإسلامي في مسيرته نحو الشمال، لمواجهة الخطر الداهم من قبل الإمبراطوريتين العظيمتين في ذلك الوقت؛ الرومانية والفارسية. وجنود الأعراب لم تكن لهم من الرؤية العقائدية والتربية الإسلامية ما كان لجيش بناء دولة المدينة بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام».

في كتابه «أزمة العقل المسلم» الصادر في عام 1986، قال: «والسبب الذي أدَّى إلى الفتنة وسقوط الخلافة الراشدة هو التغيير الذي حدث دون التفات كافٍ إليه، أو قدرة على تلافيه، ألا وهو تغيُّر القاعدة السياسية التي ارتكزت إليها القيادة والخلافة الإسلامية الراشدة، فبعد أن كان الأصحاب و(كوادر) الأصحاب هم قاعدة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقامت على أكتافهم دولة الخلافة الراشدة بكل ما يمثله الأصحاب من نوعية وتوجه وإعداد ونضج وتربية، وفي زحمة الأحداث وتدافعها... فإننا نجد أن المجال قد أفسح واسعاً لتدفق رجال القبائل من الأعراب، وعلى ما كانوا عليه في ذلك الوقت من عصبية وجهالة من مضاربهم في أطراف البوادي للانضمام إلى جيش الفتح، مع تقلُّص دور الأصحاب المتضائل بسبب السن والاستشهاد. لقد مكّن هذا في النهاية للأعراب من جيش الدولة، بكل ما حملوه معهم، إلى جانب معالم الإسلام العامة من المفاهيم القبلية والعصبيات، والذين لم تخضع نفوسهم لما خضع له الأصحاب من تربية وتدريب وتوعية على مدى سني الدعوة والمعاناة، وعبر عقود بناء الدعوة والمجتمع المسلم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوائل الخلفاء الراشدين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الأحد - 19 ربيع الأول 1446 هـ - 22 سبتمبر 2024 م

 

خطر الأيديولوجيا يهدد المجتمع بعيدا عن القراءة النقدية

ملخص: لا مجتمع من دون أيديولوجيا، ومن دون مجموعةٍ من الأفكار والقيَم والمبادئ التي تخصه. لكن هذا لا يعني أن تُنزه الأيديولوجيا، فلا تخضع للنقد الشديد والقاسي حتى لا تتحول إلى أفيونٍ يدمر المجتمع. إذاً، إن الأيديولوجيا أنظومةُ "المبادئ" والقيَم والعقائد والأفكار المترابطة والمتماسكة التي تؤمن بها جماعةٌ معينةٌ من البشر وتبدو لهم أنها الأمْثَل إذا ما أرادوا أن يعيشوا حياةً فُضلى.

يمكن النظر في الأيديولوجيا كما لو كانت برنامجاً سياسياً طويل الأمد، غايتها تعبئة الجماهير وتحفيزها وتحريكها للوصول إلى السلطة وتحقيق الأهداف المرجوة. غاية الأيديولوجيا، إذاً، الفعلُ في الواقع، غايتها تحريكُ الجماهير، وليس المعرفة المنزهة عن الغرض أو البحث عن الحقيقة بغض النظر عن منفعة هذا البحث العملية، كما هي حال الفلسفة. لذلك بإمكاننا القول إنها، في جوهرها، سياسيةٌ بامتياز. من بين وجوه اختلافها أيضاً عن الفلسفة أنها تخص جماعةً معينةً من البشر، في حين أن الفلسفة تتوجه من حيث المبدأ إلى البشرية جمعاء. إنها تناسب السياسيين والمثقفين الذين يدعون امتلاكَ قدراتٍ خارقةٍ بإمكانها تغيير الواقع، لكنها لا تناسب الفلاسفة الذين جل همهم أن يبحثوا عن الحقيقة.

على رغم كل مثالب الأيديولوجيا وسيئاتها، فإنه لا بد منها ولا غنًى عنها، إذ لا بد لكل مجتمعٍ من أنظومةٍ من الأفكار والقيَم والأفاهيم والمبادئ والعقائد المترابطة التي يعمل بهَدْيها. فالأيديولوجيا تحث أصحابها ومُعتنقيها وتدفعهم لكي يعملوا ويغيروا وجه التاريخ. أملنا الوحيد أن يصاحبَ الأيديولوجيا نوعٌ من النقد الفلسفي الحر حتى لا تتحول إلى دينٍ جديد، أو إلى مجموعةٍ من الآراء الجامدة التي لا حياة فيها، فلا تعود تصلح للحياة على الإطلاق. أفضلُ المجتمعات مَن يقبل ضمنياً إخضاعَ أيديولوجيته للنقد الفلسفي المستمر، ومَن يسمح للفلاسفة والمفكرين أن يُمارسوا النقد بكل حرية.

وعليه، تختلف الأيديولوجيا عن الفلسفة. فالفلسفة للجميع، للبشرية جمعاء، للإنسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ ينهم بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته. إنها تحافظ على حركة الفكر وحركة الأفهوم، فلا تعامل الأفهوم تعاملَها مع رأيٍ نهائي ثابت. كذلك إنها عبارةٌ عن وجهاتِ نظرٍ تمثل بادراتٍ فلسفيةً يقوم بها عباقرةٌ أفذاذٌ نسميهم فلاسفة. وجهات النظر هذه لا تدعي القبض على الحقيقة. لكل وجهة نظرٍ حقيقتُها الخاصة بها. كل بناء فلسفي يحتمل النقد، حتى لو أدى النقد إلى انهياره وتحوله إلى مجرد أنقاضٍ مضيئةٍ، إذ ما يلبث العقل البشري أن يحاول البناء مجدداً.

أما الأيديولوجيا فإنها فكرُ جماعةٍ معينة، تتوجه أصلاً إلى أفراد الجماعة هذه مهما قل عددُها أو كثُر. لا يمكن الأيديولوجيا أن تتوجه إلى البشرية جمعاء؛ لأنها تنطلق من مُسلماتٍ يؤمن بها أتباعها، لكن من الصعب أن يسلم بها كل البشر. هكذا تنشأ أيديولوجياتٌ ويكون لها أتباعٌ، غالباً ما يؤمنون بها من دون نقاشٍ كبير، فتسْلَم الأيديولوجيات من النقد. بناءً عليه، قد تتحول فلسفةٌ ثوريةٌ حتى علميةٌ في وقتٍ من الأوقات إلى مجرد أيديولوجيا، وذلك عندما تتحول إلى مجموعة آراءٍ جامدةٍ نهائيةٍ لا تسمح بأي نقدٍ، كما هي حال "الفلسفة الماركسية" التي تحولت إلى مجرد أيديولوجيا ماركسيةٍ ما لبثت أن انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظومة الاشتراكية.

بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي

لذلك يُقال إن الأيديولوجيا مقبرة الفلسفة بحسب صديقنا المفكر اللبناني إيلي نجم. نضيف أنها أيضاً خطيئة الفيلسوف. يحاول الأيديولوجي أن يتناسى أن الأيديولوجيا التي يتبناها مجردَ أداةٍ لتعبئة الجماهير وتحريكها، فيتشاطر وينبري لتحويلها من خطابٍ سياسي يسعى إلى تحقيق برنامجٍ سياسي معينٍ إلى قولٍ فلسفي يبحث عن الحقيقة وينطق بها. هكذا يبني الأيديولوجي أنظومتَه الأيديولوجية أو عمارته الجميلة الهشة من دون أن يُخضعها للنقد الفلسفي الدائم. لذلك نراه لا يطيق الحقيقة التي تخالف أيديولوجيته، فيصر على تبني "حقيقته" الهشة التي صنعها بنفسه! لذلك يتمسك أصحاب الأيديولوجيا بها على رغم ظهور عشرات الحقائق التي تكذبها!

إذاً، شتان ما بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي. مع ذلك، يبدو أن هناك من لا يهوى العيش إلا في الأكواخ!

أستمعُ إلى بعض الأدالجة المتفلسفين، فأجدهم بمنزلة كارثة أيديولوجية. لا علاقة لهم بالفكر ولا بالفلسفة ولا بالثقافة، وإنْ اختصوا أحياناً بالفلسفة! لكنهم حتى في مجال الأيديولوجيا ما برحوا دونها. إنهم مجرد كارثة أو عاهة أيديولوجية أو حتى أصحاب أيديولوجيا رثة. لذلك أعجب من أحزابهم كيف تدعهم ينطقون باسمها!

الفلسفة والأيديولوجيا لا تجتمعان: فإما الكهف، وإما الخروج منه! من هنا، عندما يتأدلج الفيلسوف، يدخل إلى كهف أفلاطون ثانيةً، فلا يعود يرى سوى ظلال الحقيقة على جدران الكهف! لذلك يجب على الفيلسوف أن يحافظ على حرية الفكر، أن يحافظ على حركة الأفهوم، أن يحافظ على حرية العقل وأن يمنعه من الاستقالة. عليه أن لا يحول الأفهوم إلى رأيٍ نهائي جامد. باختصارٍ، على العقل أن لا يستقيل!

متى تصبح الأيديولوجيا خطراً على المجتمع؟

الأيديولوجيا سلاحٌ فتاكٌ أحياناً لا يقِل خطراً عن الأسلحة النووية، تزين لمعتنقيها فعلَ الإجرام. هكذا يجد الديكتاتور إلى جانبه مَنْ يزين له دائماً أعماله القبيحة، يجد إلى جانبه المثقف البهلوان الذي يحصر عمله في تسويغ أعمال السلطان. لذلك تراه ينتقل من سلطانٍ إلى آخر بحسب المنفعة المادية. من هنا عقمُ العِلم عندما يُحاول منافسة الفلسفة والحلول محلها. فالعلم ليس من وظيفته اكتشاف الأيديولوجيا القاتلة ومحاربتها، كما قد يتضمن هو نفسُه بشكلٍ مبطنٍ أيديولوجيا غير حميدة. ولطالما كان العلماء مجردَ أدواتٍ في خدمة السلطان.

يَقتل الأيديولوجي ويُقتل باسم الأيديولوجيا، حتى لو كانت منافيةً كل المبادئ الإنسانية. ذلك بأنه يظن أن أيديولوجيته مقدسةٌ وفوق النقد، تستحق أن يُناضِل من أجلها حتى لو ارتكبَ المجازرَ ومات في سبيلها. بل إنه يقتل بلذةٍ وسرورٍ معتقداً أن ما يقوم به عملٌ حسنٌ ورائع. هذا ما يُفسر، إضافة إلى المصالح الشخصية والقومية والجَماعية طبعاً، الجرائمَ الفظيعة التي يرتكبها الأدَالجة أو المؤدلجون، أكانوا من التيارات الدينية المتشددة أم كانوا من التيارات الدوغمائية غير المتدينة.

الأيديولوجيا قادرةٌ، إذاً، على تزيين أي شيءٍ مهما كان قبيحاً ورديئاً. لذلك يحيط السلطان المجرمُ نفسَه بالمثقفين ورجال الدين ليبيضوا إجرامه أمام الناس. يكفي السلطة أن تزين إجرامَها وسرقتها أموالَ الشعب ببعضٍ من الأفكار، ببعضٍ من الأيديولوجيا لتكون مرتاحة الضمير، بل لتكون فخورةً جداً بما اقترفته يداها! وعليه، فالتفكير… ذلك الرعب الذي لا يتحمله ولا يُطيقه كثيرون! يكفي أن تفكر من دون وصايةٍ وتخرج من الإطار السائد حتى تُتهم وتصبح خطيراً! إذاً، هناك أشخاص لا يفكرون ولا يريدون لك أن تفكر. فالتفكير، في عرفهم، عملٌ خطيرٌ لا يتحملونه. فإما أن تقول ما يقولون، وإما أن يحسبوك عدوا فيبدؤون بتهجماتهم الشخصية عليك.

بِمَ تختلف الفلسفة عن الدين؟

الدين رؤيةٌ كونية. لكنه ليس بأنظومة فلسفية، ليس بسستام فلسفي، ليس بعمارة فلسفية. إنه مجموعةُ عقائدَ وأخبارٍ تتخذ صفة اليقين لأن القائل بها، في نظر المؤمن، هو الله. أما الفلسفة فأمرٌ آخر مختلفٌ تماماً، وإنْ كانت تنافس الدين أحياناً كثيرة. فالفلسفة لا تقدم لنا عقيدةً مختلفة، ولكنها تسائلنا عن الطريقة التي بها أنشأنا عقائدنا. لا تقدم لنا معلومات، بل تجعلنا نفكر بطريقة مختلفة.

ليس كل ما يتوجه إلى الناس أجمعين فلسفة. فقد يكون أدباً أو فناً أو ديناً. فالرواية الأدبية أو اللوحة الفنية تتوجهان إلى البشر أجمعين، لكن ليس عبر الأفاهيم، بل عبر أدواتها الفنية الخاصة. الفلسفة هي الفلسفة، هي محبة الحكمة. وأفضل تصنيف للفلسفة هو نسبتها إلى اللغة التي كتِبت بها. فنقول فلسفة يونانية نسبةً إلى اللغة اليونانية، ونقول فلسفة عربية نسبةً إلى اللغة العربية التي كُتبت بها. هذا لا يعني أنها تتوجه إلى الإغريق فقط أو العرب فقط، إذ تصبح عندئذٍ أيديولوجيا.

عندما نوقِف حركة الفكر، عندما نُوقِف حركة الأفهوم ليُصبح مجردَ رأيٍ، تَسقط الفلسفة في مستنقع الأيديولوجيا وتتحول إلى أنظومةٍ من الأفكار النهائية الجامدة. من طبيعة الفكر أنه في حركةٍ دائمةٍ لا تهدأ. ومن ثم، علينا أن نعيد النظر في السستام الذي بنيناه على الدوام لأن المشكلات الفلسفية تتغير باستمرار، مما يُحتم علينا إعادة النظر، بشكلٍ دائمٍ، في ما لدينا من فلسفاتٍ وأيديولوجياتٍ وأفكارٍ وأفاهيم.

نقد الفكرة ونقد الممارسة

في المجتمعات العربية يُمنع على المفكر أن ينتقد السلطان الذي يُرفع إلى مستوى القداسة، وأن ينتقد النهج الذي يتعالى على المكان والزمان، وأن ينتقد الفكرة المنزلة من السماء، وأن ينتقد أخيراً الأنظومة التي وضعها مؤسسون كبار. ما هو مسموحٌ له أن ينتقده، هو فقط بعض الممارسات الهامشية، بعض التطبيق وبخجلٍ شديد، شرطَ أن لا يضر نقدُه بالشخص ولا بالمقدس ولا بالنهج ولا بالفكرة. لذلك يكتفي بعضنا بنقد التطبيق أو بنقد الشخص الذي يطبق، متجاهِلاً أن النقد الحق والمنتِج هو النقد الذي يصيب المنهج والفكرة أيضاً!

لا شيء في أفهوم الأيديولوجيا يشي بالعصمة أو يدعي أن الأيديولوجيا مقدسةٌ ونهائية. لذلك لا مانع، من حيث المبدأ، من أن تخضع الأيديولوجيا، بشكلٍ دائمٍ، للنقد الفلسفي حتى لو أدى ذلك إلى تعديلها جذرياً لتصبح، في كل مرةٍ، مناسبةً بقدر الإمكان مقتضياتِ العصر. يكفي أن تمنع الأيديولوجيا النقدَ الفلسفي، يكفي أن تحارب العقلَ الفلسفي، حتى تتحول إلى أيديولوجيا خطِرة وتكف عن كونها أداةً فعالةً للنهضة بالمجتمع. إذاً، الأيديولوجيا الشمولية التي تسعى إلى أدلجة كل شيءٍ ترتكب جريمةً كبرى بحق المجتمع لأن المجتمع لا يقوم إلا بالتعدد والاختلاف.

عندما يتحول الدين إلى مجرد أيديولوجيا ظلاميةٍ قاتلةٍ، يصبح أفيوناً للشعوب. وكل أيديولوجيا تفقد دورها التحفيزي والنهضوي تتحول كذلك إلى أفيونٍ للشعوب، حتى لو كانت أيديولوجيا ملحِدة. أن تكون الأيديولوجيا ضروريةً لتحريك المجتمعات لا يعني أن نتبنى أي أيديولوجيا كيفما كان وكيفما اتفق بعيداً من النقد الفلسفي.

ما زالت الفلسفة ملطخةً بالعار الذي ألحقه بها فيلسوف ألمانيا الكبير مارتن هايدغر عندما أيد النازية أو ما ظنه "الصحوة القومية الجرمانية". كان حرياً به أن يقول "لا"، وأن يستشعر أثر البربرية والظلامية اللتَين سيطرتا على ألمانيا ودمرتا أوروبا. سبق للفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1917-1976) من قبلُ أن أشار إلى أن الفيلسوف يهتم بالسياسة الكبيرة ويترك السياسة الصغيرة لرجال السياسة الذين يلهثون وراء منصبٍ هنا ومنصبٍ هناك، وتتملكهم الكراسي فيصبحون عبيداً لها.

من الصعب أن تناقش صاحب أيديولوجيا، دينيةٍ أو غير دينيةٍ، يدعي امتلاك الحقيقة ويزعم أنه على الحق المبين، مهما بينتَ له من عقم أيديولوجيته ومهما قدمتَ له من بدائلَ أفضل. تجده يحبِس نفسَه داخل أسوار أيديولوجيته الضيقة، فلا يستطيع الخروج منها كما لا يمكنه التفكير خارجها. لكن من السهل أن تُناقش مستنيراً متحرراً من الوصاية الفكرية التي تمارسها الأيديولوجيا على أصحابها لا يدعي امتلاك الحقيقة، وهو يبحث دائماً عما هو بارزٌ ولافتٌ وهام ومثيرٌ للانتباه من أفكارٍ، أنى وجدها، ليجدد بها البناء الفكري.

بين التحليل العلمي والحُكم الأيديولوجي

تختلف الترسانة الأيديولوجية بطبيعتها عن الترسانة الأفهومية الفلسفية. لذلك علينا أن نحذر دائماً من الوقوع في براثن الأيديولوجيا. لقد وقع اللبنانيون على سبيل المثال في قاع الجحيم أو يكادون. ووقوعهم كان غير مسبوقٍ. وتحليل ظاهرة هذا الوقوع أو هذه الكارثة عمليةٌ معقدةٌ جدا في بلدٍ يعاني من أمراضٍ نفسيةٍ مزمنةٍ، ومشكلاتٍ اقتصادية عميقةٍ، وتحالفاتٍ سياسيةٍ غير طبيعية، واضطراباتٍ مجتمعيةٍ طائفيةٍ متنوعةٍ، وموقعٍ جيوسياسي يقع على تقاطع زلازل المنطقة، وطبقةٍ سياسيةٍ نادرة الوجود في طريقة أدائها الفاسد، وقادة-آلهة، وفسادٍ مجتمعي مُستشرٍ، واحتكاراتٍ تجاريةٍ خبيثة.

وعليه، إذا لم نفسح في المجال أمام التحليل العلمي وبقينا في الأحكام الأيديولوجية التي تجمع الحاضر بالماضي والمستقبل والتي تجد أن أسباب ما يحدث تعود إلى أزمنةٍ غابرةٍ وإلى مسؤولية أشخاصٍ ماتوا منذ ألفٍ ونيفٍ من السنين، واستخدمنا العُدة والترسانة الأيديولوجية التي نراها في بطون الكتب القديمة والتي نتوارثها عبر الأجيال، فإنا لن نظفر بالتشخيص العلمي السليم. ومن ثم، لن نستطيع أن نعالج المشكلة التي نتخبط فيها بابتداع الأفاعيل الفلسفية والعلمية المناسبة، وسنبقى ندور في حلقةٍ مفرغةٍ، بل وسنظل نهدر الوقت والجهد والمال عبثاً، وستزداد أمراضنا ومشكلاتنا استعصاءً!

أدلجة الدين

يجري تَدْليج الدين وأَدْلَجته من أجل توظيفه واستثماره بسهولةٍ في المشاريع السياسية الخاصة والزواريب الضيقة. هكذا يتعطل العقل وينقاد المرء بسهولةٍ من أجل خدمة مشاريعَ أيديولوجية مدمرة. عندئذٍ، يُصبح الدين أفيون الشعوب. لذلك من الضروري التمييز بين الدين، وما ينشأ حوله من مذاهب وأيديولوجياتٍ واتجاهاتٍ فقهيةٍ ومدارسَ دينيةٍ وتياراتٍ صوفيةٍ بل وحتى كلاميةٍ فلسفيةٍ؛ لأن ما ينشأ حول الدين لا يمكن أن يستَنْفِده. ليس أي أيديولوجيا أو مذهبٍ أو تيارٍ أو مدرسةٍ إلا أنظومة جامدة نهائية لا تصمد أمام المتغيرات. الأيديولوجيا الدينية فهمٌ حصري للدين يدعي صوابيته ويرفض أي فهمٍ آخرَ مختلف. وعليه، لا بد دائماً من قراءةٍ مختلفةٍ للدين تتماشى مع العصر وأدواته المعرفية وفتوحاته العلمية والفكرية والفلسفية، شرطَ أن لا تدعي هذه القراءة أنها أيضاً الحق بعينه. مشكلة الأيديولوجيا الدينية أنها تدعي القبض على حقيقة الدين، وتدعي النطق باسم الله، فتعطل كل نقاشٍ وكل حوارٍ، مما يؤدي إلى انهيار المجتمع في النهاية.

الأيديولوجيا الدينية

هكذا ينشأ ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الدينية التي تنشأ حول الدين. فتبني له أنظومةَ أفكارٍ وعقائدَ وأنماطَ حياةٍ وسلوكاتٍ معينةً خاصةً بجماعةٍ معينة. تنشأ هذه الأنظومة وتكتمل عبر التاريخ وتتم المحافظة عليها من جيلٍ إلى آخر. فلا يتم الاكتراث لما يجري في العالم، عبر قرونٍ، من أحداثٍ سياسيةٍ وعلميةٍ وفتوحاتٍ فكريةٍ قد تطيح بهذه الأنظومة نفسها. فجميع هذه الأحداث تُفسر بشكلٍ لا يتعارض مع الأيديولوجيا المعتمَدة. تتوجه الأيديولوجيا الدينية إلى جماعةٍ معينةٍ أو طائفةٍ تدعي الصواب في ما تقول، كما تدعي القبض على حقيقة الدين بعينها. وما عداها يصبح باطلاً. فأتباعها هم المؤمنون حقا، وغيرهم على ضلال. لذلك لا يمكن أن تتوجه إلى البشرية جمعاء. ولهذه الجماعة سلوكاتٌ معينةٌ وفهمٌ معينٌ للدين. أما الدين فإنه، في رأينا، مفتوحٌ ومتاحٌ للجميع، يخضع لقراءاتٍ وتأويلاتٍ في كل مرة. كما يخضع دائماً للفهم وإعادة الفهم بحسب العصور.

هكذا تتكاثر الأيديولوجيات الدينية حول الدين الواحد نفسه. وكل أيديولوجيا تدعي أنها قبضت على حقيقة هذا الدين بعينها. بل كل أيديولوجيا دينية تنفي الأيديولوجيات الدينية الأُخَر وتنعتها بالضلال، في حين أن الأحداث غالباً ما تُثبت زيف الأيديولوجيات الدينية وغير الدينية. لكن أتباع الأيديولوجيات لا يأبهون لهذه الأحداث ولا يكترثون بها، بل ويصرون على أيديولوجيتهم، كما يدعون الغير إلى اعتناقها، ولا يسمحون بنقدها نقداً جذرياً. هكذا نعاني من الأيديولوجيات الدينية التي تريد أن تُقَوْلِبنا وتُقنعنا بما لديها من أفكارٍ وعقائدَ وأن نطبق ما تقترحه من سلوكات.

حتى للفساد ثقافته وأيديولوجيته

واهِمٌ مَن يفسر الفساد في لبنان مثلاً باسم المنافع والمصالح فقط، فهناك ثقافةٌ للفساد وأيديولوجيا للفساد أيضاً تزين الفساد وتبرره. لذلك لا نرى أثراً لتأنيب الضمير أو الخجل أو الندم في وجوه الفاسدين. تراثنا يُمكن القول عنه إنه تراثٌ غِب الطلب، بمعنى أنه جاهزٌ، في أي وقتٍ، لإمداد الأيديولوجي وصاحب المذهب بما يناسبهما ويدعم الأيديولوجيا والمذهب اللذَين بنَياهما سلفاً.

كثيرٌ من أصحاب الأيديولوجيات يتخذون مواقفهم من أي مسألةٍ مطروحة، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها من التراث. إذا لم يجدوا في التراث ما يدعم، بشكلٍ صريحٍ، مواقفهم التي اتخذوها، فإنهم يغرقون في متاهة التأويل ولَيْ عُنُق التراث ليناسب ما هم عليه. وعليه، فبدلاً عن أن يجترحوا طريقةً جديدةً في قراءة التراث ويُخبرونا عما كشفت عنه هذه الطريقة وما توصلوا إليه من نتائجَ مختلِفةٍ لم نتوصل إليها بالطرق الكلاسيكية السائدة، فإنهم يُقبلون على التراث بمواقفَ اتخذوها سلَفاً، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها في تراثٍ أقل ما يُقالُ فيه إنه خليطٌ عجيبٌ غريبٌ من الشيء وضده.

انكفاء الفلسفة وتقدم الأصوليات

ينكفئ الفيلسوف إذاً! فيتقدم اللاهوتيون والمشعوذون والسحرة ليملأوا الحقل الذي تركه الفيلسوف. فيَتبين أن هؤلاء أقدرُ من الفيلسوف في تلبية رغبة العامة الجامحة الطامحة في العلمان المطلق. هكذا راح الناس، في العصر الراهن، يصدقون كل ما يُقال لهم، تحقيقاً لطمأنينة العقل. فقد احتل هؤلاء الشاشات والساحات. لكن ما النتيجة؟ لقد انحسر دور العقل واندلعت الصراعات الإلهية على الأرض مرة أخرى، وسار الناس بكل سرورٍ إلى هلاكهم، سعداءَ فرحين بوصفهم يمثلون الإله. وهذا بالتأكيد "سيثيبهم" على أفعالهم، حتى لو كانت إجرامية.

هذا المصير الأسود والقاتم الذي وصلت إليه البشرية يُنذر بعواقبَ وخيمةٍ، قد تؤدي إلى فناء البشرية وزوال الحضارة الإنسانية. فبعد قرونٍ من التنوير، تتراجع الحداثة، حتى في موطنها الأصلي، وتستيقظ البربرية الأوروبية من سباتها بسبب الحرب في أوكرانيا، وينتشر الظلام مجدداً، بل ويحقق انتصاراتٍ هامةً، وينعزل أصحاب العقول النيرة حتى أنهم باتوا غرباء في مجتمعاتهم.

إذاً، إن انكفاء الفلسفة عن ساحة الفكر سمح للأصوليات بملء الفراغ. وإن تعدي العِلم على مجال الفلسفة أنتج ميتافيزيقا هزيلةً وادعاءاتٍ فارغةً لا تلبي رغبة العقل وتعطشه إلى المزيد. لا يمكن الفيلسوف أن يتفلسف بمعزل عن العِلم. هذا صحيح. لكن ليس للعِلم أن يحل محل الفلسفة، وليست لديه القدرة على ذلك. وإنْ فعلها العلماء، فإنهم يصبحون فلاسفةً ولا يعودون مجرد علماء. كما لا يمكن الدين أن يُفهَم فهماً مستنيراً من دون وجهة نظرٍ فلسفية. وحده الفيلسوف المواكب ما يجري في العلوم والمطلع على مغامرات العقل التاريخية الجبارة يستطيع أن يصوغ ميتافيزيقا مقبولةً ومناسبةً للعصر، وأن يستجيب للعقل البشري الذي لا يكف بطبيعته عن طرح أسئلة المعنى.

ما نعاني منه أساساً أزمةٌ في العقل

وعليه، لكي لا يتحول الدين إلى نوعٍ من الخرافة: لا بد من فهمٍ غير ديني للدين، لا بد من فهمٍ فلسفي للدين. بناءً عليه، لا يمكن أن يُترك أمر الدين إلى رجال الدين فقط. ما نعانيه من أزماتٍ منذ عقودٍ يعود، من حيث المبدأ، في ما يعود إليه، إلى أزمةٍ في العقل، إلى أزمةٍ في الفلسفة بوصفها بنتَ العقل. لذلك علينا أن لا نتجاهل أزمة العقل لدينا لو أردنا يوماً أن ننهض نهضةً جديدةً. طبعاً هناك عوامل كثيرةٌ، اقتصادية واجتماعية وسياسية، أفضت إلى الأزمة. لكن بإمكاننا أن نجد أصل الأزمات جميعاً في طريقة تفكيرنا وفي طريقة تعقلنا. من هنا ضرورة الفلسفة التي تطرح الأسئلة الأساسية وتعالجها وتحافظ على حركة الأفهوم، فتمنع الفكر من أن يتحول إلى أيديولوجيا نهائيةٍ جامدة. هكذا بإمكاننا أن نفهم أزمة الدين، أزمة الرأسمالية، أزمة النظام الطائفي اللبناني، أزمة العولمة، إلخ. من دون الفلسفة تنتعش الأصوليات وتسود الحماقة ونعيش في الابتذال. إذا كان لهذه الحياة من معنًى، فلأن هناك إنساناً مفكراً، لأن هناك فيلسوفاً جعل لها معنًى.

***

ا. د. جمال نعيم - أكاديمي لبناني

عن أندبيندت عربي، يوم: الجمعة 20 سبتمبر 2024 16:55

لن يكون نسخة طبق الأصل عن الأوروبي

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة

وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.

***

هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 18 سبتمبر 2024 م ـ 15 ربيع الأول 1446 هـ

تتداول في بعض المجاميع المعرفية العربية فكرة غريبة، وهي أن الليبرالية لم تنتقد نفسها، وهذا قول مأخوذٌ عليه. وآية ذلك أن جمعاً غفيراً من فلاسفة الليبرالية انتقدوا الليبرالية بغية تعديلها وتصحيح مسارها. لأن النظريات تكبر مثل الناس، وبالتالي تنضج وتقيّم المسار، وتباشر النقد. عدد من الفلاسفة انتقدوا النظرية بالمعنى العلمي لليبرالية ومنهم الفيلسوف جون راولز وهذا مشهور في كتابه: «العدالة كإنصاف»، وهو من أعمق الكتب التي نظّمت مسار القانون والعدالة في الفكر الليبرالي، وقد تطرّق إلى نقاط ضعف وخلل، واستعمل أدواته التقنية الفلسفية لتفكيك الأخطاء ومحاولة الإصلاح، وقد كتبتُ عنه من قبل ويمكن العودة إلى كتابه الأصلي.

لكن هذه المرة، لفتني حوار مهم نشر في كتاب: «حوارات فلسفية - حول الفلسفة الأميركية المعاصرة، حوارات هارفارد» من إعداد: جميلة حنيفي. الحوار كان مع الفيلسوف مايكل ساندل وفيه ينقض المقولات التي تقول إن الليبرالية لم يتم نقدها، يبدأ الحوار في الكتاب من صفحة (143). يقول: «أعتبر نفسي ناقداً لصيغة معينةٍ من الليبرالية، تلك الصيغة تلك التي تجد تغييرها أو حكمها الأكثر تأثيراً لدى إيمانويل كانط، لكن أيضاً لدى فلاسفةٍ آخرين معاصرين مثل جون راولز. إنها الصيغة التي ترى أن الحكومة ينبغي أن تتخذ موقفاً حيادياً إزاء مفاهيم متنافسةٍ عن الحياة الخيّرة. لابد أن نفهم أن كلمة «جماعاتية» عبارة عن تسمية تم إدراجها من قبل آخرين لوصف النقاش الذي تمخض عن بعض الانتقادات التي وجّهت إلى الليبرالية سواءٌ من قبلي أو من قبل آخرين، وما يجعلني منزعجاً وغير مرتاح لتسمية الجماعاتي، هو أن الجماعاتية تقترح أن القيم السائدة في أية جماعة معطاة وفي أي زمنٍ معطى. عندما أصف التقليد المنافس للتقليد الليبرالي في التاريخ السياسي والدستوري أحبّذ التركيز على التقليد المدني الجمهوري».

تعليقي على هذا النص، أن الليبرالية نظرية شاسعة ومتشعبة، بين السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، وميزتها الأساسية في نقد نفسها، وفي إنتاج فلاسفة يصححون أخطاءها، ويعالجون أدواءها. صحيح أنها أثبتت نجاحها العالي على المستويين الاقتصادي أولاً ثم الاجتماعي، ولكنها على المستوى السياسي الآن تتعرض لنقد مشروع ولاذع، وهذا طبيعي، ذلك أن النماذج التي طرحتها كانت ضمن سياقها التاريخي، وليس من الضرورة انتهاجها في جميع العالم.

في الاقتصاد ثمة إجماع على أن الاقتصاد الليبرالي هو السبيل الأبرز للنمو في العالم، حتى الصين لم تنجُ على مستوى الاقتصاد من موجة الليبرالية الحيوية رغم احتفاظها بنمط سياسي واجتماعي معين اختارته ويجب احترامه، بل إن فيلسوفاً ألمانياً كبيراً مثل ماكس فيبر قال في كتابه: «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» إن النماذج الغربية لا يمكن تطبيقها على الشرق ولا على الصين، وأفرد صفحاتٍ حول نموذج الصين.

الخلاصة، أن تميّز الليبرالية في نقد فلاسفتها لمنهجها، وتصويبهم لمسارها، والآن نرى النموذج الليبرالية (على المستوى السياسي) تعاني تحديات كبيرة، ولذلك على الدول كلها أن تحترم نماذج الدول الأخرى، وألا تفرض عليها نموذجها الخاص.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 17 سبتمبر 2024

أكسيل هونت، فيلسوف ألماني بارز، وهو دون شك من آخر فلاسفة الغرب المعاصرين الأحياء، وقد أصدر كتاباً هاماً بعنوان «السيد الكادح: نظرية معيارية للشغل» (تُرجم مؤخراً إلى اللغة الفرنسية)، قدّم فيه مساهمةً فكريةً متميزةً في فلسفة العمل التي شغلت منذ أفلاطون إلى ماركس العديدَ من كبار الفلاسفة. في هذا الكتاب يركز هونت على ثنائية السيادة والعمل في الديمقراطيات المعاصرة، معتبِراً أن فكرةَ السيادة المطلقة والحرية الكاملة للمواطن لا تتلاءم عملياً مع طبيعة نظام الشغل في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.

في هذا العمل، يبين هونت أن مفهوم العمل لم يكن ينظر له بالتقدير قبل النظرية السياسية الحديثة، وقد رُبط في البداية بالاشتغال على الأشياء وحدها، على حساب أنواع العمل الأخرى من زراعة الأرض واقتصاد خدمات وتدبير منزلي. مع لوك ومن بعده هيغل وماركس، أصبح يُنظر للعمل بمفهومه الواسع من حيث هو المسلك إلى الاستقلالية والتحكم في الذات عبر مسار «الموضعة» الذي حلله هيغل بعمق غير مسبوق، مشيراً إليه بوصفه تحققاً للذات من خلال تعلقها بالموضوع وتصرفها فيه بما يفضي في نهاية المطاف إلى وعيها بنفسها.

لقد سيطر هذا التصور الإنتاجي للعمل على الفكر الفلسفي والاجتماعي، وغدا العمل الصناعي هو الوجه الوحيد للشغل، رغم كونه لم يفتأ يتراجع منذ القرن التاسع عشر، كما نظر إلى الطبقة العاملة بوصفها محرك التاريخ والقوة الثورية القادرة على إحداث التغيير الجوهري للمجتمع. ومع ماكس فيبر، بدأ الانتباه للظاهرة البيروقراطية الإدارية في مقابل التركيز على المجتمع الصناعي، وإن كان فيبر ظل مهووساً بالصناعة التحويلية المنتجة.

بيد أن الدراسات الراهنة بيّنت بوضوح أن الثورة التقنية الجديدة قوّضت المفهومَ التقليدي للعمل وأخرجته من نموذجه الصناعي المادي إلى مجالات الذكاء الاصطناعي والشغل غير المادي. وبالاستناد إلى أطروحته التقليدية حول الاعتراف، يدعونا «هونت» إلى النظر إلى العمل في سياق العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، بما يقتضي معالجته من منظور القيم والأخلاقيات العمومية المشتركة وليس من جوانبه الإنتاجية النفعية وحدها.

وهكذا يصبح السؤال المطروح هو: هل يشكل الشغل دعامة فاعلة من دعامات التضامن الاجتماعي؟ يرى هونت أن الديمقراطيات الغربية الحديثة كرّست سيادةَ المواطن باعتباره ذاتاً قانونية تتمتع بحقوق سياسية ثابتة في مقدمتها حق الانتخاب، لكن المواطن هو أيضاً عامل، يتعرض في أحيان كثيرة للاستغلال والتنافس اللذين يحدان من السمة التعاونية للمجتمع. لم يعد مِن المجدي اليوم الرجوعُ لنظرية الاستلاب الماركسية التي أرادت إضفاءَ الطابع الأخلاقي العقلاني على نمط العمل الاجتماعي، ولا نظرية الاستقلالية الليبرالية التي حاولت محاربة التحكم السلطوي في حرية الفرد العامل، بل المطلوب هو ملاءمة طبيعة العمل مع الفكرة الديمقراطية نفسها بما تتأسس عليه من معايير الثقة في النفس والمعرفة والكرامة.

وفي هذا السياق، يحدد هونت خمس قيم مرجعية لإعادة تصور العمل في المجتمعات الليبرالية المعاصرة، هي: الاستقلالية الاقتصادية، وتوفير الفسحة الزمنية للفراغ، والمشاركة في المجال العمومي، وتطوير نظام العمل بما يكفل حقوق المشاركة والتعاون بين العامل ورب العمل، ومنح العمل الطابعَ الفكري الثقافي الذي يخرجه من محض الخضوع والتبعية.

ومن هنا يخلص هونت إلى إعادة تعريف العمل مِن منظور جديد يشمل كل أنماط الفاعلية داخل منظومة اجتماعية حركية ومتعاونة، بما يتعارض مع طغيان النزعة التجارية النفعية التي قضت كليا على الفوارق الضرورية بين المنتجات المادية والخيرات الرمزية والإنسانية.

أطروحة هونت تندرج في سياق النظرية النقدية الاجتماعية، والتي يُعَد هونت نفسه أحد أبرز ممثليها في الوقت الحالي، ولذا فقد تناول إشكاليةَ العمل في إطار النهج الذي دشنته فلسفة هيغل بضبط العلاقة المعقدة بين الشغل والحرية والاعتراف في مجتمع تعددي حر. لقد كان هاجس هيغل، ومن بعده ماركس، هو كيف يمكن الحفاظ على علاقات إنسانية متوازنة وعادلة في المجتمعات الصناعية التي تشكل فيها تجربة العمل مقومَ التركيبة الطبقية والمدنية، بما يحوله في آن واحد إلى دائرة أساسية للاعتراف ومصدر للاستغلال والاغتراب.

بيد أن أهمية نظرية هونت تتمثل في تجاوزها للتصور الإنتاجي المادي للشغل الذي يصدر عن استحقاقات الثورة الصناعية الأولى، وكان يعتبر محرك الصراع الأيديولوجي الذي يتمحور حول مكانة ودور الطبقة العاملة في الهياكل الاقتصادية والسياسية. وما نستنتجه من أطروحة هونت هو أن الخطر الذي يتهدد اليوم الديمقراطيات الليبرالية الغربية ليس تناقضات المجتمع المدني التي توقف عندها هيغل ولا الصراع الطبقي الذي تحدث عنه ماركس، وإنما الانزياح المتزايد بين منطق المواطنة وواقع الشغل في دلالته الجديدة الخارجة عن التقنين الإجرائي والضبط السياسي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 سبتمبر 2024 23:45

 

في زيارات البابا فرانسيس لدولٍ في شرق آسيا، تكررت في خطاباته أطروحات الأخوّة والمحبة والأمن والاستقرار. وقد لفتت انتباهي في الأسبوع الماضي خطاباتُه في إندونيسيا، وفي هذا الأسبوع خلال زيارته لسنغافورة يلفت الانتباه اهتمامه بالأخلاق والقانون، واستطراداً علائق الأمرين بالدين. وظائف القانون معروفة، وهي تتلخص بحفظ حقوق المواطنين وواجباتهم في أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وعلى درجات الحفظ أو الإضاعة تترتب آثارٌ تحسم فيها القوانين التي تطبق على المواطنين بالتساوي.

ويرتبط ظهور القوانين وتطورها بظهور الدول وإداراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل للقانون وظائف أخلاقية؟ ما طُرح الموضوع هكذا، بل بطريقة معكوسة، أي هل تأسس القانون أو يتأسس على الأديان والأخلاقيات؟ المرجعيات الكبرى للقوانين ثقافة المجتمعات، وفيها الأديان والأعراف والعادات. لكن فيها أيضاً الاختيارات المأخوذة من الخارج أو من الجوار إذا كانت هناك حاجة ملحة أو ضرورات التلاؤم مع السياقات الإقليمية والعالمية.

القوانين الأوروبية الحديثة التي تأثرت بها سائر القوانين، في الغرب والشرق، تهتم بسلطة إنشاء القانون من المجالس التشريعية، وتظل الإدارة السياسية تلعب فيها دوراً رئيسياً لأنها هي التي تقترحها على البرلمانات والهيئات الأخرى، وهي التي تتولّى الإشراف على إنفاذها.

ولا تتوخى السلطة أن تعكس الإرادة العامة للمجتمعات فقط، بل قد تكون لها مقاصد إرشادية أو توجيهية أو إصلاحية أيضاً كما هو معهود في القوانين وتعديلاتها دائماً أو إنتاج قوانين جديدة. إنّ البحث المستجد في الأخلاق والقانون افتتحه جون راولز، فيلسوف القانون الأميركي، في كتابه «نظرية العدالة» (1971). وللعدالة في جذورها البعيدة والقريبة أصول أخلاقية، والمشهور أنها بين الفضائل الأربع التي ذكرها أفلاطون في القوانين أو النواميس، وذكرها أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس».

ومع أرسطو ظهرت نظرية الوسط بين الإسراف والاستهتار في كل القيم التي تتطلب الانضباط الشديد حتى لا تتصدع فتصير ظلماً أو انفلاتاً في هذا الجانب أو ذاك. تصغي القوانين وتستجيب للمصالح والتلاؤمات.

ويريد راولز أن تتدخل الدولة بدوافع أخلاق «الإنصاف»، كما يسميها، لصالح الفئات الضعيفة والأقل حظاً في المجتمع. وهو يرى أن ذلك ممكن ومطلوب بخاصة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. وطوال خمسين عاماً ظلّت دراسات راولز موضع نقاش كبير وجدي ليس حول اعتبار الأخلاق في اشتراع القوانين فقط، بل وأيضاً في جواز تحول الاعتبارات الأخلاقية إلى قوانين. ليس هنا المجال لدراسة علائق الأديان بالقيم والأخلاق. لكنّ المعروف أنّ الأديان والأخلاق هي قوىً ناعمة، يعتمد تأثيرها على القناعات العميقة للأفراد والجماعات. وهي تؤثر بأشكال مباشرة وغير مباشرة في صناعة القوانين.

لكن ليس من المستحبّ أن تتحول الأديان والاختيارات الأخلاقية إلى قوانين. وذلك لأنها تصبح مفروضةً ويصبح لها معارضون ليسوا من أهل الدين والتدين أو ليسوا من أهل هذا المذهب الأخلاقي أو ذاك. في زيارته لسنغافورة واجه البابا فرنسيس مجتمعاً مختلطاً من الناحية الدينية، ليس إسلامياً ولا مسيحياً. ولذلك استدعى المفاهيم العامة للعدالة والسائدة على مستوى العالم. لكنه ما رأى تحويلها إلى قوانين، بل اكتفى بالنصيحة باعتبار الإنصاف وأخلاقيات إنسانية الإنسان.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، ليوم: 14 سبتمبر 2024 23:47

 

لو صدّقنا كل التهم التي نسمعها ونقرأها عن الآخرين، التي تنفي عنهم صفة العروبة والإسلام، فعلى الأرجح أن الغالبية منا لن يكونوا عرباً أو مسلمين. ستكون القلة الذين يوجّهون الاتهامات يميناً ويساراً، ويقيمون حفلات مستمرة من التخوين، ويطردون الآخرين من جذورهم العربية أو عقيدتهم الدينية هم فقط المسلمين والعرب! أما ملايين في هذه المنطقة فلا. خارجون من العروبة، ومارقون من الإسلام. وبعدها نسأل أنفسنا ونحن إذن مَن؟ عرب ومسلمون أم ماذا؟

الآلية التي يستخدمونها هي آلية التخوين المعروفة، التي لا تعمل إلا باستخدام أهم المعاني والقيم لدى الشعوب، ولكن بعد تفريغها من معناها، وتحويلها إلى سلاح يُوجَّه لصدر الخصوم لأهداف متعددة: اغتيال الشخص معنوياً، الترهيب، الابتزاز! العروبة والإسلام اللذان من المفترض أن يمثلا عاملاً مشتركاً وثقافة جامعة لشعوب المنطقة أصبحا من أدوات الكراهية والتقسيم والانتقام! الاختلاف في الرأي يقذفك خارج دوائر العروبة والإيمان.

الأسئلة المهمة هي: لماذا تنتشر هذه الثقافة؟ وما هدفها؟ وكيف بدأت؟ وكيف نعالجها ونكافحها؟

بدأت قديماً، ولكن نشرتها في عصرنا الحديث التيارات القومية والدينية المتطرفة التي هيمنت في عقود سابقة. أيُّ خلاف مع أنصار هذا التيار القومي المتطرف بفروعه المختلفة يعني تهمة بالعمالة للغرب والإمبريالية والرجعية. وهي مستمدة من الحركات القومية الأوروبية المتطرفة، مثل النازية والفاشية، التي استخدمت الخطاب ذاته. ونعرف في تلك الفترة وحتى الآن كم الشتائم البذيئة والاتهامات بالتخابر والصهيونية لمجرد الاختلاف في رؤية الأشياء. هم فقط حراس القومية، ويدخلون ويخرجون منها مَن يريدون. إذا رضوا عليك جعلوا منك قومياً ووطنياً، وإذا غضبوا منك جعلوا منك خائناً عميلاً. من الجانب الديني، نشرت التيارات المتطرفة، خصوصاً جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسنية، ثقافة التخوين والتكفير والإخراج من الملة. وكأن الإسلام ملك لهم وحدهم. إذا كنت معهم أدخلوك في الدين الإسلامي، وإذا اختلفت معهم طردوك منه، وأغلقوا الباب خلفك. يلعبون دور الله تعالى الذي يُدخِل ويُخرِج من رحمته من يشاء. لنشكر الله الرحيم أن مصيرنا ليس بأيديهم.

ما الغرض من آلية التخوين؟ ليست عبثاً، ولكن لأغراض متعددة؛ أولاً: تستخدم لإضفاء الشرعية على هذه التيارات والحكومات التي تعتمدها. ترديد مثل هذه الشعارات من دون عمل أي شيء سيمنحها الشرعية المطلوبة عند شعوب عاطفية تنخدع بها. إنها خدعة قديمة جديدة. ثانياً: بغرض التشتيت عن الفشل الداخلي. ولاحظوا أن الحكومات الفاشلة استخدمت هذه الشعارات حتى تخرج من أزماتها الداخلية. ثالثاً: بحثاً عن السلطة، وهذا مثل ما تفعله الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي لا تُخوِّن فقط، ولكن تقتل باسم الدين من أجل الوصول إلى السلطة. رابعاً: من أجل الترهيب والابتزاز والإخضاع، سواء لأفراد أو جهات أو حكومات.

ومن أجل ذلك، تستخدم أعدل القضايا من أجل كل ما ذكرناه، الشرعية والسلطة وتثبيت الحكم والابتزاز، كما يحدث الآن مع غزة. وبينما أهل غزة يُقتلون يومياً بطريقة وحشية، التفت هؤلاء إلى الآخرين يخرجونهم من الدين والعروبة باسم فلسطين، ويوزعون صكوك الغفران والوطنية. وحتى إنهم قاموا بتخوين الفلسطينيين أنفسهم وأهل غزة الذين يدفعون الثمن من دمائهم. ولو لاحظنا أنهم استخدموا هذه القضية بحثاً عن السلطة، ولهذا انصبَّ جهدهم على عدد من الدول العربية والتحريض عليها، مُتَّهِمِينَها بالتواطؤ والعمالة من أجل تقويض شرعيتها.

كيف نعالج هذه الثقافة؟ أولاً بالاعتراف بها ومعرفة مصادرها كما ذكرت. إذا عرف الشخص جذور المشكلة سهل عليه معالجتها. هذه التيارات والجماعات هي مَن روّجها وزرعها في العقول، ولكن التخوين ثقافة المهزومين، والدليل أن الحكومات والتيارات والجماعات التي تبنَّتها فشلت وانهارت، من الناصرية إلى البعثية إلى الخمينية إلى الإخوانية. مكافحتها تبدأ من نشر ثقافة بديلة، تنطلق من فكرة أن المزايدة على الآخرين بالدين والعروبة والوطنية فكرة خاطئة ومضرة بالمجتمع، وتتسبب في تقسيمه وزرع الكراهية داخله. المجتمع ينقسم إلى وطنيين وخونة، ومسلمين وكفار، وهذا لا يخدم أي قضية، ولكن يُحوِّلها إلى ذريعة للانتقام. إنها أيضاً خزان للأحقاد التي تتوارثها الأجيال. إذا تشرَّبت أن الآخرين خانوا وطنك وباعوه فستشعر بشكل طبيعي بالحقد عليهم. التخلُّص منها هو الحل الوحيد، وذلك أيضاً لاستبدال ثقافة التسامح بها، وفهم الدين بصورة رحبة وإنسانية، ومن المعيب استخدامه مسدساً كاتماً للصوت، وكذلك فهم القومية بأنها عنصر جامع لأبناء الوطن الواحد، والقومي الجيد هو الذي يخدم وطنه، ويسهم في ازدهاره، ويحمي مواطنيه من الحروب المدمرة، ويحفظ أرواحهم. نزع ثقافة التخوين واستبدال ثقافة متحضرة بها ليس سهلاً، ولكن ليس صعباً. وبرأيي أننا نعيش اللحظة المناسبة لتغييرها، خصوصاً مع حكومات معتدلة في المنطقة، وخصوصاً في الخليج، مستنيرة تركز على النجاح الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وليست بحاجة إلى استخدام الشعارات القومية والدينية المتطرفة لإثبات حكمها وبسط شرعيتها. لقد أثبتت نجاحها، وتحولت إلى نموذج لغيرها من دون أن تستخدم الخدعة القديمة المملة. ولهذا تحولت إلى هدف للمخونين؛ لأنها لا تستخدم لغتهم، ولا تخضع لابتزازهم، ولا تزج نفسها بحروبهم العبثية. لقد حافظت على قوة الدولة، ولم تسمح بظهور ميليشيات وجماعات تضعفها وتؤدي إلى تفككها (وهذا هو الهدف)، وركَّزت على الإنسان فقط، من دون أن تخرجه من دينه أو عروبته! لقد حان الوقت لنشر الثقافة الوطنية الإنسانية الأخلاقية العقلانية والدينية الرفيعة، بعيداً عن ثقافة التخوين، وكل ما تحمله من سموم وأحقاد وكراهية.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 10 ربيع الأول 1446 هـ - 13 سبتمبر 2024 م

لطالما تركزت الاهتمامات في نشر المعارف والعلوم، وبناء الثقافات المتنوعة والغنية، على محاولة إخراج الإنسان، أياً كان تموقعه الزماني والمكاني، من ضيق الانعزال إلى سعة التفاعل والتعارف الإنساني، باعتبارها «مفتاح» الارتقاء وإحداث التحول في مختلف مجالات الحياة.

وفي ظل ما تحقق مِن وفرة معلوماتية هائلة، وبخاصة مع التطور التقني والتكنولوجي الرقمي، وبناء قواعد البيانات الضخمة والهائلة التي وصلت إلى تحويل المكتبات الورقية إلى أخرى رقمية، وتحققت إنجازات في مجال الذكاء الاصطناعي لم يتخيل الإنسان أن يصل لها يوماً، فأصبحت الآلة طبيباً ومحاسباً ومهندساً وإعلامياً ومعلماً.. وغيرها الكثير.

وفي ذات السياق، فإن توصيف الوضع المعرفي للمجتمعات انتقل من الحاجة للوجود والاكتساب المعرفي إلى توليد ما يسمى «مجتمعات المعرفة»، أي المجتمع كمصدر لنشر وإنتاج وتوظيف المعرفة في مختلف المجالات والأنشطة الحياتية، وصولاً لتحقيق الرقي الإنساني بإنتاج نمط حياتي اجتماعي متقن، وهو الأمر الذي دعا منظمة اليونسكو لاعتبار المعرفة البنيةَ التحتيةَ التي تمكّن القوى البشرية مِن وضع خريطة طريق للتوجه الفكري بشكل دقيق.

ولأننا ندرك ضرورة حل المشاكل وتجاوز التحديات الموجودة، بالتزامن مع الانخراط في سباق المواكبة العالمي، فإن تحقيق مجتمع المعرفة لا بد أن يحظى باهتمام متوازٍ مع استراتيجية قادرة على قياس معاييره، وموازاة ذلك بتشجيع الاهتمام بالإرث الحضاري في مختلف المجتمعات بحيث لا يحول التطور التقني والتكنولوجي وبناء مجتمع المعرفة دون تقدير الموروث والاستفادة منه، بالإضافة إلى ضرورة العناية بالتحديات الملامِسة لواقع الإنسان، من تدني مستوى المعيشة والمشاكل التعليمية، وارتفاع معدلات البطالة وغياب الوعي الثقافي والتقني والسياسي والاجتماعي وضعف المؤسسات التعليمية والأكاديمية.. مما يدفع بضرورة العمل الجاد على الاستراتيجية المعنية ببناء مجتمع معرفة بحيث تكون متشعبةَ الأهداف، وأقرب إلى الشمولية منها إلى التخصص، لا سيما أن رأسمالها هو الإنسان نفسه وليس شيئاً مادياً يمكن تطويعه قسراً.

وتعتبر أبرز الأفكار اللافتة في هذا السياق، ما يصبح عليه المجتمع من صيغ مستحدثة بشكل مستمر، على هيئة خلاصة مكثفة ونتاج للتحول الحاصل في الواقع البشري، سواء أكان ذلك في السياق الثقافي أم الفكري أم التكنولوجي وغيره، وبالتالي فإنه يعتبر أحد أقوى عوامل التحفيز على الابتكار والتقدم في الطرح المعرفي القائم على الإبداع، والذي يقوم هو أيضاً بإنتاج منظومة فكرية ومعلوماتية ومعرفية لا تتناغم مع الواقع فحسب، بل تضع بين أيدينا الأدوات المناسبة لتطويع كل ما وصل له الإنسان، من أجل خدمة مصلحته والارتقاء بالخدمات المقدمة له.

إن أنظار أصحاب العقول الفطنة تتوجه اليوم نحو إحداث ثورة حقيقية نوعية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بحيث تختلف عن كل الإنجازات المدهشة المتحققة سابقاً، مما يعني أن المجتمعات الإنسانية اليوم تتسابق في مضمار رفع سقف الإمكانيات والتوقعات والمهارات، وذلك من خلال التركيز على توفير البنية التحتية التي تسمح ببناء صرح اتصال فعال يراعي مختلف المعايير العالمية ومدعوم بنخب متخصصة ذات كفاءة عالية في الإنتاج والتدريب، بالإضافة لتوفير قطاعات متخصصة في مجال الابتكار، وتوفير نافذة على نتائج الأبحاث والدراسات الناتجة عن أعرق الجامعات والمراكز حول العالم.

إن قدرة الدول على توفير البيئة الحاضنة المناسبة لمجتمع المعرفة، لا بد لها مِن الأخذ بعين الاعتبار أهميةَ إعطاء المنظومة الإعلامية المساحةَ الكافية التي تحتاجها، من حرية الرأي والتعبير والاستقلالية والتنوع في الوسائط، إلى جانب تثبيت وترسيخ الدعامات الأخلاقية في مجتمع المعلومات من خلال تعزيز القيم المشتركة والرئيسية مثل التسامح والتضامن واحترام كرامة الإنسان والحريات وغيرها، مما يأخذ بيد المجتمعات اليوم نحو حقبة معرفية مختلفة توصل مخيلتنا المتواضعة إلى استشرافات بديعة وخلاقة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 11 سبتمبر 2024

 

مع اغتيال حسن البنا فى فبراير من عام 1949 أصبح زوج ابنته سعيد رمضان المولود فى عام 1926 هو الخليفة فى نشر الدعوة إلى أسلمة العالم، سواء على الأرض العربية أو شبه القارة الهندية أو أوروبا. وفى مايو من عام 1948 ارتحل إلى القدس مع متطوعين لمساعدة عبدالقادر الحسينى فى نضاله ضد الدولة اليهودية. وفى أغسطس من هذا العام ارتحل إلى باكستان الإسلامية والمعادية للهند. كان له برنامج اذاعى، ولهذا كان يعتبر السفير الثقافى لدولة باكستان لدى الدول العربية. وفى عام 1950 عاد إلى القاهرة رسمياً وأسهم فى تدعيم العلاقة بين الإسلاميين الباكستانيين التابعين للسيد أبو الأعلى المودودى وحركة الاخوان. وفى عام 1962 أسس مع عشرين شخصية العصبة الإسلامية العالمية لمواجهة القومية العربية والشيوعية وكان المودودى أحد هؤلاء.

وفى نهاية الستينيات من القرن العشرين تأسست فى مصر الجماعة الإسلامية الجهادية وكانت فى بدايتها منتمية لحركة الاخوان المسلمين، وفى منتصف السبعينيات من ذات القرن انفصلت عنها عندما استبعدت الحركة العنف وعملت فى الصعيد وفى القاهرة وفى الإسكندرية واقتربت من القاعدة بقيادة الظواهرى، واشترك الاثنان فى اغتيال السادات فى عام 1981. وكان فى حينها الزعيم الروحى للجماعة عمر عبدالرحمن والمتأثر بأفكار كل من ابن تيمية وسيد قطب، وكان هو الملهم لمن حاولوا تدمير مركز التجارة العالمى فى عام 1993. وابتداء من عام 1992 وما بعده شنت الجماعة الإسلامية حرباً جهادية ضد الدولة المصرية، وكان ضحيتها 800 جنديا وعدداً كبيراً من الأقباط، وكان ذلك بمساعدة الحكومات السودانية والإيرانية والقاعدة.

وفى 26 فبراير من عام 1993، أى قبل ثمانى سنوات تقريباً من أحداث 11 سبتمبر احترق جراج فى نفق قريب من مركز التجارة العالمى بمتفجرات تزن 500 كيلو. وإثر ذلك قُبض على إرهابيين من بينهم من الاخوان محمود أبو حليمة ومعه الباكستانى رمزى يوسف من القاعدة، والفلسطينى محمد سلامة مساعد عمر عبدالرحمن الزعيم الروحى للجماعة الإسلامية المنتمية للاخوان وعبدالرحمن ياسين من القاعدة. و فى عام 1997 فى الأقصر قتل 58 . وبعد محاصرة النظام المصرى للجهاديين من قِبل الظواهرى ارتحلوا وكونوا خلايا فى أفغانستان وليبيا وسوريا والسودان والشيشان وأمريكا وأوروبا. هذا بالإضافة إلى حركة سواد مصر ولواء الثورة والمرشد السابق للاخوان مهدى عاكف الذى تبنى الاغتيالات فى العراق وميونخ.

وفى عام 2003 تأسست جماعة تضم السلفيين والجهاديين والإخوان لتدعيم فكرة الجهاد الدفاعى. ومع الانتشار الكوكبى للاسلام السياسى بتنويعاته يلزم إثارة التساؤل عن مصادر التمويل، وقيل فى الإجابة عن هذا التساؤل إنه مردود فى البداية إلى بنك التقوى ومعناه الخوف من الله، وله فروع فى بلدان متعددة (سويسرا، الباهاما، إيطاليا والنمسا). وفرع سويسرا تأسس فى عام 1988 من كبار الرأسماليين التابعين للإخوان وهم يوسف ندا من أصل مصرى وعلى غالب همت من أصل سورى ايطالى. وكان ندا قد اعتقله عبدالناصر من عام 1954 إلى عام 1956. وكانت ليبيا هى ملجأ يوسف ندا فى الستينيات من القرن العشرين. وعندما استولى القذافى على الحكم هرب وظل لاجئاً لمدة طويلة فى أوروبا، ابتداء من اليونان ثم النمسا، وأخيراً سويسرا، وأسس ثروته من التعامل فى الأسمنت ثم فى البنوك. وهو يعتبر من الأوائل الممولين للإسلاميين. وكان بنكه قد تصاعد مالياً فكان هدفه منح هذا التصاعد لإعادة توزيعها على المنظمات الاخوانية الأوروبية، كما أسس بنك التقوى جوامع ومراكز إسلامية مرتبطة بالإخوان وتمارس نشاطها فى ثلاثين دولة. كما أن البنك مارس خدمات إنسانية فى الدول الإسلامية. ومن الغريب أن يوسف ندا فى أفغانستان التقى حكمتيار وهو من الإسلاميين الراديكاليين الذى كان يتاجر فى الهيروين، وله علاقة بالقاعدة وطالبان بعد أن كان رئيساً للوزراء. أما على غالب همت فكان يتردد على كابول فى عام 1993. والمفارقة هنا أن رحلاته كانت تدل على أن الإخوان الذين يدينون الإرهاب رسمياً كانوا على علاقات مذهلة مع الجهاد الاسلامى الدولى. ومن الأعمال التاريخية المنسوبة لبنك التقوى قام بها الشيخ يوسف القرضاوى وأحمد إدريس نصر الدين وجماعة من حماس، وأعضاء من القاعدة، وهدى محمد بن لادن وإيمان بن لادن وهما شقيقتان لرئيس القاعدة السابق. وفى عام 2001 وصفت أمريكا بنك التقوى بأنه منظمة إرهابية لأنه ممول للقاعدة، كما أنه كان ممولاً لأحداث 11 سبتمبر ولحماس وفروع من الجماعة الإسلامية فى مصر والقاعدة فى إيطاليا وفى سويسرا. وفى لوكسمبرج كان البنك الاسلامى الدولى متحكماً فى جميع المؤسسات الإسلامية للإخوان فى أوروبا وكندا وأمريكا، وبذلك يمتد المجال الاسلامى إلى الحد الذى يمكن أن يقال فيه إنه مهيمن على الحضارة الغربية. وفى سبتمبر من عام 2017 زار وفد من حماس بريطانيا، والتقط صوراً مع الدبلوماسى الروسى ميخائيل بوجدانوف، وكان يبدو عليهم القلق لأنه لم يكن يوجد فى بريطانيا سوى فرع واحد مسلح تابع لحماس بقيادة عز الدين القسام ومتهم بأنه منظمة إرهابية. ومنذ بدايات عام 2000 والحركة الإسلامية فى اسبانيا فى حالة تمدد.

***

د. مراد وهبة

عن صحيفة الاهرام المصرية، يوم: الثلاثاء 7 من ربيع الأول 1446 هــ 10 سبتمبر 2024 السنة 149 العدد 50317

تتصارع المفاهيم في تاريخ الأفكار كما قُدِّر للبشر أن يتصارعوا مذ درج البشر على الأرض. من هذه المفاهيم المتصارعة مفهومي «قوة الحق» و«حق القوة»، حيث تبادل هذان المفهومان التأثير والقوة، كما تبادلا الحضور والغياب، والهزيمة والانتصار.

كان حقُّ القوَّة دائما شريعة الغاب، في هذه الشّريعة تتَّسعُ حرية القويّ حتى تصبح حرية مطلقة لا قيود لها من عرف ولا قانون ولا خلق، فالقويُّ هاهنا يصنع ما يشاء، ويفعلُ كلَّ ما تؤزُّه إليه شهواته الجامحة، قُوَّته غير قابلة للرّدع، فلا قُوّةَ فوق قوّته، إلا أن تُبْعثَ الحياةُ في ضميره فيدرك هول ما يصنع، وفداحة ما يقوم به، أو تنبري له مجموعة أقوى تمنع بأسه، وتَصُدُّ جوْره. كانت قوة الحق دائما شريعة المتحضرين، فلا تقوم حضارة إلا على قوانين تحمي وقصاص يردع، وقوة الحق لا ترى في صلف حق القوة مانعا لها عن الحركة الإيجابية في أروقة الحكماء وأهل البصائر تجأر بالدعوة أن تكون للقوانين السّيادة، وأن تكون السّنن المكتوبة وغير المكتوبة الحاكمة في الخصومات والمنازعات التي تكاد الأرض تميد بها وتضطرب.

قوة الحق رغم ضعفها لها صولة رمزية عندما تعجز عن الصّولة المادية، فهي بترسانتها القانونية والتشريعية والحقوقية تراقب الأوضاع وتسجل للعدالة والتاريخ التجاوزات الصارخة لحق القوة انتظار للقصاص العادل الذي لا تقوم الدول المحتضرة إلا به، ولنا في التاريخ أمثلة قوية على ذلك. يعلمنا التاريخ أن الكلمة الأخيرة لم تكن دوما إلا لقوة الحق، لأنها نداء الفطرة وملاك التعايش المشترك وأساس العلاقات الإنسانية التي لا تعمر الأرض إلا بها، وإذا كانت في ضعفها تقتصر على أن تقاسم المظلومين آلامهم ومواجعهم وحسراتهم فإنها في الوقت ذاته لا تني تستحدُّ دساتيرها ومعاييرها لتقيم الميزان في الوقت الأنسب، وللوقت رمزية كبيرة في تاريخ العدالة الإنسانية.

إن المجتمعات المتحضرة ناضلت طويلاً في تاريخها لسيادة القانون، إذ لا تَحَضُّر إذا لم يكن للمرء وعي بما له وما عليه، فيأخذ ما له ويقوم بما عليه من واجبات تجاه وطنه الذي يرعاه ويحدب عليه، ويمنع نفسه عن التعدي على ملكية الغير، حينئذ يسود الأمن والأمان والسّلم والسّلام وتنسج مجادل التعاون وتبسط بسط الأنس والإخاء. عندما يكون القانون شريعة الجميع لا أحد يفكر في انتهاكه خوفاً من يد العدالة الطولى، وطلباً للحياة الفضلى، الحياة في ظل السلام.

لقد علّمنا أصحابُ العقد الاجتماعي أن البشر تنازلوا عن بعض من حرياتهم من أجل الخضوع لقانون واحد يُشبع رغباتهم ويضمن لهم حرياتهم ويُعبِّدُ لهم سُبل التعاون خدمة لأوطانهم وطلبا لحياة تذرعها السّعادة والبهجة والكرامة. فلا تعيش المجتمعات تحت طائلة حق القوة إلا أن تكون حيوانات بشرية لا تراعي في الآخرين إلا ولا ذمة، إنها حالة الطبيعة التي نادى جون لوك بالخروج منها، لهذا السبب تدرك قوة الحق أن حياة مثل هذه لن تكون سوى حياة عارضة ما دام التاريخ يعلمنا أن جوهر الحياة لا يقوم إلا على قوة الحق، وأن المجتمعات تتداعى عندما يضعف فيها التماسك الاجتماعي بقوة السلطة والعرف والقانون. ولعل العربي القديم أدرك هذه الحقيقة عندما تداعى إلى «حلف الفضول» نصرةً لقوة الحق ضدا على حق قوة وإنْ كان من فرد ظالم شارد، وقد وعى العربي المعاصر، من خلال منتدى السلم للمجتمعات المسلمة، رمزية هذه الحقيقة أكثر، عندما جدّد هذا الحلف ودعا إلى تضافر جهود أهل البصائر والحجى من الحريصين على السّلام العالمي من أجل محاصرة حق القوة دفاعاً عن قوة الحق وانتصارا لها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 8 أغسطس 2024 23:47

 

في مجلة «نيو ستسمان» البريطانية، كتب عالِم السياسة الانجليزي «جوناتان وايت» أن وسائل التواصل الاجتماعي الراهنة قد غيرت نوعياً مؤسسة صنع القرار في العالم الديمقراطي، وقضت على الطابع المؤسسي والرسمي لفن الحكم وقوضت هالته الرمزية. بطبيعة الأمر، ليس استخدام تقنيات الاتصال بالجديد في عالم السياسة، من المطبعة إلى التلغراف انتهاء بالبريد الإلكتروني اليوم. ولذا فإن الهواتف الذكية تندرج في السياق ذاته، ولا يمكن لأحد أن يستغني عنها في الوقت الحاضر.

ولقد أظهرت جائحة كورونا في الأعوام الماضية الحاجة الحيوية إلى هذه التقنيات الإلكترونية من أجل تعميم المعلومة ونشر الإنذارات وتكثيف الرقابة العامة. بيد أن هذه المزايا تصاحبها أحياناً كثيرة سلبيات وتجاوزات عديدة، ناتجة عن طبيعة أدوات الاتصال الجديدة، التي تقوم على سمات الفورية والعفوية، بما يؤدي في بعض الحالات إلى الحد من جديتها وصدقيتها.

من هذه التجاوزات، أن هذه التقنيات تمنح مستخدميها سلطة مطلقة غير محدودة، بحيث يستغني كبار المسؤولين عن أعوانهم ومساعديهم، فينتفي منطق التنسيق والوساطة الضروري في العمل الإداري الرصين. وهكذا يتم إلغاء التمييز الجوهري بين الشخص والوظيفة، ويجري القضاء على الشكليات الرمزية للسلطة التي كانت في السابق تتمحور حول صيغ اللبس ونمط تدبير المكان وما تكفله من إلغاء الطابع الشخصي للوظيفة العمومية ومنحها إطاراً مؤسسياً مجرداً. صحيح أن تقنيات التواصل الراهنة فعالة وسريعة، إلا أنها لا تخلو من مخاطر جسيمة، من أهمها سهولة تتبعها بما يعرض مضامين التراسل للتسرب والوصول إلى عامة الناس، انتهاكاً لمبدأ الاختصاص الوظيفي وسرية المعلومات الحساسة. حسب وايت، يميل السياسيون الغربيون اليوم إلى شرعية الإنجاز السريع بدلاً من شرعية النهج الديمقراطي، غير مدركين أنهم بالاستخدام المفرط لتقنيات الاتصال الجماهيرية يؤثرون سلباً على طبيعة النظام الديمقراطي نفسه.

وهكذا تبدو العلاقة بديهية بين هذه التقنيات وانهيار الأحزاب السياسية والأنساق الأيديولوجية وطغيان ما يدعوه «التقنو شعبوية». يختم وايت أطروحته بالتنبيه إلى فشل كل الخطط والسياسات الرامية إلى مراقبة وتقنين التواصل السريع عن طريق الهواتف الذكية، منتهياً إلى ضرورة مضاعفة مقتضيات الشفافية والمشاركة في القرار العمومي، بالاستخدام السليم والناجع للتقنيات الإلكترونية الراهنة.

ما نريد أن نبينه هو أن إشكالية العلاقة بين الأدوات التقنية والخطاب العمومي ليست بالجديدة، وهي موضوع علم «الميديولوجيا» الذي أسسه الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه وأراد من خلاله دراسة الارتباطات الكثيفة والمعقدة بين تقنيات الحفظ والبث والتداول من جهة وأنماط الاعتقاد والفكر والتنظيم من جهة أخرى. ولا شك أن أهم هذه الأدوات التقنية عبر التاريخ هي الكتابة التي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد طرحت إشكالات نظرية مماثلة للأسئلة الراهنة التي تطرحها الثورة الرقمية الجديدة. في محاورة «فيدروس»، يذهب أفلاطون إلى القول إن الكتابة دخيلة على الفكر، لا تفيد شيئاً، بل تضعف الذاكرة وتلغي التفكير وتقضي على المعنى.إلا أن العديد من التحولات الجوهرية التي عرفتها الإنسانية ترتبط مباشرة بالكتابة مثل الدولة المركزية والاقتصاد النقدي (الشكل الأول للعولمة) والديانات الرسالية (الخطاب الإلهي عن طريق الكتاب المنزل).

ولقد ظهرت المطبعة في أوروبا في القرن الخامس عشر، مجسدة أولوية المقروء على الشفهي، ومدشنة آفاقاً جديدة للثقافة وللفكر، في مقدمتها الإصلاح الديني والدولة القومية السيادية والتحديث العلمي والتقني وانبثاق أيديولوجيا التقدم والنزعة الوضعية العلماوية. وكما كان سؤال أفلاطون هو كيف تمكن غربلة وتصفية السيلان اللغوي الكثيف الذي يجعل من الصعب الفصل بين الحقيقة والوهم، وكان سؤال ديكارت ولايبنتز في العصر الحديث كيف يمكن تعويض لغة الخطاب الميتافيزيقي بأدوات صورية دقيقة بحسب نموذج الرياضيات الشاملة، أصبح السؤال اليوم هو كيف يمكن إنقاذ مفهوم الحقيقة الموضوعية وغير المتحيزة في فضاء تواصلي مفتوح لا مرجعية له ولا محددات ضابطة لشبكته التواصلية السريعة. لقد لاحظ جاك أتالي، الكاتب والمنظر الفرنسي، أن التقنيات الرقمية الجديدة ألغت عملياً الكتابة واستبدلتها بعلامات التواصل التواضعية التي لا لغة لها، كما عوضت مناهج السؤال والنظر والنقد والتحليل بالإشارات الانفعالية من إعجاب وسخط ونفور، بما يشكل تحولاً نوعياً في الثقافة البشرية نفسها.

في هذا السياق، ندرك تأثير هذه الظاهرة في الميدان السياسي على مستويين متمايزين: مستوى القرار والحكم حيث يغدو التدوين والتعليق أداة للسلطة وإدارة المجتمعات، ومستوى الرأي العام الذي تتحكم فيه النزعات الشعبوية التي تحركها المشاعر والانفعالات السريعة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 9 سبتمبر 2024 00:05

لقد كان إعلان نهاية التاريخ النابع من مدرسة هيغل رائجاً على نطاق واسع قبل عقود إلا أن التفسير المفهومي لذلك الإعلان لم ينته بعد بل يتداول حتى اليوم على نطاقٍ واسع وآية ذلك الدراسات التي تصدر حولها تباعاً.

لقيتُ أستاذي الراحل الفيلسوف مطاع صفدي آخر مرة في ندوة في دبي، وقد أهداني بحثه حول هيدغر، الصيرورة والزمان. صفدي من أهم الفلاسفة العرب وبخاصةٍ حين برع في كتابه: «نقد الشر المحض»، والمكوّن من جزأين. وهو فيلسوف وجودي، كتب بالسياسة فلم ينجح، ولكنه بالفلسفة أسهم وقدم العديد من الإسهامات.

أسس صفدي وترأس «مركز الإنماء القومي» (عام 1981) الذي نشر عبره مؤلفاته وترجماته، وترأس تحرير مجلتيْ «العرب والفكر العالمي» و«الفكر العربي المعاصر» فاستقطب لهما عدداً كبيراً من المفكرين في المجال الفلسفي العربي، واهتمتا بنشر ملفات تتناول قضايا الفلسفة والفلاسفة.

صفدي حاول أن يتجاوز القراءات العاجلة والناجزة لمفهوم النهاية المتصل بالتاريخ، خاصةً، وأن تلك النهاية تكونت على فترات متقطعة منذ أكثر من قرن، والتي كان آخر من بلورها بنظرية مستقلة فرانسيس فوكوياما.

يتساءل مطاع صفدي ماذا تعني نهاية التاريخ، وأي تاريخ ذلك الذي يواجه نهايته؟

فإذا كان المقصود بالنهاية الحسّ العام فورياً، فإن التاريخ هو ما يمضي. إنه قائم على حس الانتهاء كل ما فيه مكرّس للانقضاء. فليس التاريخ سوى مسرح لزوال ذلك التاريخ الذي يضم كل أحداث الإنسان لكنه عالم الأحداث الزائلة بامتياز.

ومطاع صفدي وسط استغراقه في تفسير التاريخ يلفت إلى فعل الانتهاء. إن ما يجري هو تجديد فاعل لانتهاء عبر كل توثيق أو تدوين أو تسجيل. والتاريخ بذلك المعنى هو إصطلاح في اتجاه تغيير النهاية.

ويمضي صفدي في الشرح مُبيناً مفهوم النهاية في نهاية التاريخ، فالنهاية بحسب قوله:«أن ألا نفهم كالخاتمة والحدث الأخير. بل هي انغلاق التشكيل. هنا يتم الانقطاع بين مفهوم النهاية الزماني إلى مفهوم النهاية الخطابي».

ومطاع يمضي في بلورة الفرق بين النهاية كخاتمة وبين النهاية بوصفها إحدى النهايات المتصلة بانغلاق التشكيل، فيشرح كيف أن المشروع الغربي المنشغل بفكر النهائية منذ حوالي قرن أو أكثر مايزال مصراً على التفكير في النهاية كخاتمة للتاريخ بشكل مطلق والخاتمة عبارة حيادية جرداء إلى حد ما. والنهاية مشبعة بميتافيزيقا تتجاوز اللسانيات، إنها ترجعنا إلى مملكة الصمت. عبارة النهاية تتمتع برنين وتحظى بشغف اللامتناهي نفسه، وهي في خطاب التشكيل الغربي، تريد أن تجيء لامتناهية بما يعادل الذاتية اللامتناهية التي شرعت، هي نفسها في تلفظ نفحة النهاية.

الخلاصة، أن ثمة خطاب لامتناه يتصيد هو كذلك فكر النهاية، بل النهايات.

مطاع وصل إلى أن الخطاب اللامتناهي حول نهائية التاريخ جاء ضمن ظروف جدلية هيجل، ويرى أن الليبرالية تستند إلى ما يعتبرها البعض انتصارها النهائي على تجارب الأيديولوجيات من فاشية وشيوعية، من حيث إنهما محاولتان فاشلتان للخروج على مثال الدولة الشمولية المتجانسة وبالتالي فإن الليبرالية هي نهاية كل شيء، وذروة التجربة الإنسانية بالعالم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 20 أغسطس 2024

إذا كان بعض فلاسفتنا قد نبّهوا على أهمية مراعاة الفيلسوف قضايا الملة، والبعد عن الإفصاح عمّا قد يوهم التّعارض بين الحكمة والشريعة، فإن بعض الفقهاء لم يفوّتوا الفرصة على الفلاسفة، فأعملوا أقلامهم، كل ما واتتهم الفرصة في تخسيس الفلسفة والفلاسفة في أعين المسلمين، وكان من بين ما أقدموا عليه أنهم أقاموا تمييزاً صارخاً داخل الحقل العلمي، فقسّموه إلى علوم ممدوحة؛ من تفسير وحديث وفقه وعلوم لغة؛ رغّبوا فيها وحذروا من الإعراض عنها، وعلوم مذمومة؛ من موسيقى وميتافيزيقا وغيرها حرّضوا على الابتعاد عنها.

وقد كان الأساس الذي بنى عليه بعض الفقهاء مواقفهم «أن العلم كله في الكتاب الكريم»، وبنوا على ذلك أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى علوم غيرهم وفلسفاته، خاصة أن هذه علوم فلاسفة لا يعرفون الدّين، ولا الدّين يعرفهم.

ورغم أن فلاسفة الإسلام حاولوا أن يبرزوا للفقهاء أن القول السّابق لا يعني أن القرآن الكريم هو كتاب علم شامل، بدليل أننا لا نجد فيه العلوم قائمة بذاتها، وإنما هو كتاب ينبّه على مبادئ العلوم، وهذا التّنبيه من القرآن الكريم يدعو أهل الفكر أن يضربوا إلى كتب العلماء الذين أسسوا هذه العلوم، التي نبه عليها الكتاب، ويقيموا أساسها في عقولهم تصوراً وتصديقاً، فإن هذا العلم الذي نبّه على مبادئه القرآن لا يُصنع من فراغ، فقد سبقت أمم إلى إنشائه، وكتب علماؤها وفلاسفتها فيه كتباً قيمة عبرت العصور لتصل إلى المسلمين، فيكرعون من معينها، ويحافظون عليها ويبنون عليها؛ إذ كان من طبيعة المعرفية التراكم العلمي، وإلا كيف كان للمسلمين أن يتقدموا في مسيرتهم العلمية، التي نفخر بها جميعاً اليوم، لو لم يضربوا إلى كتب اليونان، ويستخرجوا منها نفائس أفادوا منها، قبل أن يفيد منها الغرب بعد أن قدموها له على طبق من مخطوطات نفيسة.

ما صنعه فلاسفة الإسلام وعلماؤهم لم يستوعبه بعض فقهائنا الذين ظلوا يشنّون الحملات على الفلسفة والفلاسفة، حتى اضطروهم إلى أضيق الطّرق، فخسر العالم الإسلامي بذلك فرصة ذهبية أتيحت له ليذهب بالفكر العلمي النظري إلى منتهاه كما فعل الغرب، ولم نوفق نحن، مع الأسف، إلى فعله.

إن العائق الفقهي شوّش كثيراً على الممارسة العلمية الفلسفية، حين لم يمز الفقهاء بين العلم الكلي في كتاب الله، وبين صناعة العلوم التي تتطلب نظراً على سبيل الاستقصاء والتفصيل، وهذا لا يمكن أن يتم أبداً إلا في مختبرات العلم والفلسفة، وقد كان أرسطو وأفلاطون العقلين الكبيرين اللذين وضعا أسس هذه العلوم، فكيف يستقيم هذا الأمر مع قول الشاعر الفقيه الفازازي: فاقذف بأفلاطون أو رسطا ليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا [يقصد أرسطو] ودع الفلاسفة الذميم جميعهم ومقالهم تأتي الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائبا كما أن بعض الفقهاء لم يفهموا أن العلوم لا تُبْنى من غير شيء، فلا بد للمعرفة العلمية من مسار تراكمي تقطعه، ولولا أن العلوم قد تمايزت مع أرسطو، واستوت على سوقها معه ومع إقليدس وبطليموس، وغيرهم، ولولا أن المسلمين بادروا واحتضنوا هذه العلوم لتعطلت مسيرة العلم لقرون، ولما تفيأت ظلالها البشرية، كما تتفيأها اليوم.

لا يسعنا القول سوى أن بعض الفقهاء أساؤوا إلى المعرفة العلمية الفلسفية عندما طردوا أرسطو من المجتمع الإسلامي عوضاً أن يحاجّوه محاجة علمية تبرز القصور الكامن في فلسفته، وتسهم في تطور الفكر العلمي والفلسفي للمسلمين، فشكّلوا بذلك عائقاً من عوائق التفلسف عندنا.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 سبتمبر 2024

لو تساءل المرء عن الصفة الأخلاقية التي يراد من الإنسان العربي أن يتحلى بها في كافة مراحل عمره، وفي جميع الميادين التي يتعامل معها خلال حياته الخاصة والعامة، لكانت هذه الصفة على الأرجح، هي الطاعة.

إن الطاعة، في ثقافتنا العربية، فضيلة الفضائل، وهي الضمان الأكبر المتماسك والاستقرار في المجتمع، وهي الدعامة الأساسية لاستتباب الهدوء والسلام بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين كافة المؤسسات التي ينتمي إليها الإنسان العربي خلال مراحل حياته المختلفة. والطاعة هي الفضيلة الصامدة، التي كان يعتز بها التراث العربي في أقدم عصوره، وما زالت في نظر كتابنا وموجهينا ومعلمينا المعاصرين وساماً على صدر كل من يتحلى بها. إنها في كلمة واحدة، الفضيلة التي تبدو، في نظر الثقافة العربية، صالحة لكل زمان ومكان.

فضيلة أم رذيلة؟

والفضيلة التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال تسير في الطريق المضاد لهذا التراث الأخلاقي والاجتماعي الراسخ، المتأصل، القديم العهد. ففي رأيي أنه إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا أمام التحديات، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب، إنها، بغير تحفظ، رذيلتنا الأولى، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا.

وأستطيع أن أقول إن تنشئة الإنسان العربي ترتكز، في مراحلها المختلفة، على تثبيت هذه القيمة الخلقية والاجتماعية وغرسها بطريقة راسخة حتى تصبح، في النهاية، جزءاً لا يتجزأ من تركيبه المعنوي. فمنذ سنوات العمر الأولى تعمل الأسرة على أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة "طاعة"، وتقدم "طاعة الوالدين" على أنها قمة الفضائل العائلية، بل إن الأبناء حين يكبرون، ينسبون نجاحهم إلى "دعاء الوالدين" الذي حلت بركاته عليهم لأنهم كانوا أبناء "مطيعين". ويعمل تراث شعبي كامل على ترسيخ فكرة الطاعة بين الأبناء والآباء، وكأنها هي النموذج الأعلى للسلوك الأسري المثالي، وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال، تكون النتيجة الطبيعية هي جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه، وتفاخر بشعار رجعي متحجر هو: "وينشأ ناشئ الفتيان فينا .... على ما كان عوده أبوهُ"!!.

أما العلاقة بين الزوجين فإن أساسها الذي تفرضه التقاليد، وتحاصر به المرأة من كافة الجوانب، هو طاعة المرأة لزوجها. إن الزوج هو الآمر، وهو الممسك بالدفة، أما الزوجة فإن سيلاً عارماً من الأدبيات والتراث الشعبي والنصائح الموروثة يؤكد أن فضيلتها الكبرى تكمن في كونها زوجة "مطيعة". فإذا خالفت أوامر "الزوج القائد" أو حاولت الإفلات من قبضته فهناك دائماً بيت الطاعة، أعني سجن التمرد.

فصام:

وحين ينتقل الطفل العربي من خلية المجتمع الصغرى، أعني الأسرة، ليبدأ في الاندماج في مجالات أوسع وأكبر، يجد نظاماً تعليمياً يقوم، من أوله لآخره، على مفهوم "الطاعة". فأسلوب التعليم لا يسمح بالمناقشة المستقلة، وإ،ما يفترض ضمناً أن التلميذ كائن مطيع، جاء ليستمع باحترام وإذعان، ولا يراد منه إلا أن يردد ما تلقاه، ويكرر ما حفظه عن ظهر قلب. وعلى الرغم من تلك التلال الهائلة من البحوث والتقارير والتوصيات، التي تصدر عن أساتذة التربية وأخصائييها في كل عام، والتي تدعو كلها إلى نظام في التربية ينمي الملكات الابتكارية والإبداعية، ويؤكد الشخصية الاستقلالية والقدرة على مواجهة المواقف غير المألوفة، الخ ... فما زال التعليم عندنا نصياً، يحتل فيه "الكتاب المقرر" مكانة قدسية، ولا يقوم المعلم فيه إلا بدور الكاهن الذي يحض سامعيه على الالتزام بكل حرف في "الكتاب". وتعمل المؤسسة التعليمية ذاتها على توطين فيروس "الطاعة"في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، فإذا بمعاييرها لتقييم أداء التلاميذ ترتكز كلها على الترديد الحرفي للمعلومات المحفوظة، وتعطي أعلى درجات التفوق "للتلاميذ المجتهدين". وهي في قاموسنا التعليمي لا تعني إلا "الحافظين" وتعاقب كل من يبدي رأياً ناقداً أو مخالفاً فننزله أسفل سافلين. والأدهى من ذلك والأمر، أن أساتذة التربية وأخصائييها، الذين يرون كارثة التعليم المرتكز على "الطاعة" بأم أعينهم في كل لحظة، لا يتوقفون عن التحليق في عالمهم الخيالي، وإصدار الأبحاث والنشرات الداعية إلى تعليم إبداعي مبتكر، ولا يحاول أحد منهم أ، يقترب من السؤال الأساسي والجوهري: ما هي الأسباب الحقيقية لهذا "الفصام" بين كتاباتنا وواقع التعليم؟ وكيف نقيم جسوراً بين ما ندعو إليه، على الورق، وما يحدث في قاعات الدرس؟ وكيف نخطو، ولو خطوة واحدة، في سبيل عبور الهوة بين التعليم الإبداعي الذي نحلم به، والتعليم المذعن المطيع الذي أنشب أظافره في جميع مؤسساتنا التربوية، بدءاً من الروضة حتى الدراسات العليا في الجامعة؟

وحين ينتقل الشاب العربي إلى مرحلة الحياة العملية، يجد علاقات العمل مبنية، في الأساس، على مبدأ الطاعة، فعلاقته بالمسؤول هي علاقة "رئيس بمرؤوس" وهو في ذاته تعبير يحمل دلالات بليغة. فكلمة "الرئيس" مشتقة من "الرأس"، أي أن المسؤول في أي موقع للعمل هو رأس العاملين فيه، وهو أعلاهم مقاماً، كما أنه عقلهم المفكر. وأهم الصفات التي تعبر عن تقدير المجتمع للموظف العربي، والتي تؤهله للارتقاء في منصبه، هي أني كون "موظفاً مطيعاً"، يستجيب للرؤساء (أي يحني رأسه الصغير أمام الرؤوس الكبيرة) ولا يناقشهم. وأسوأ أنواع العاملين، حسبما تذكر معظم "التقارير السرية" التي يتولى فيها المديرون تقويم عمل مرؤوسيهم، هو أن يكون ناقداً متمرداً "غير مطيع".

وفي السياسة والحكم:

ولكن أهم الميادين التي ينخرط فيها الإنسان العربي بعد أن يبلغ مرحلة النضج، هو ميدان السياسة والحكم، وهنا يصبح مبدأ الطاعة، في وطننا العربي، هو السائد والمسيطر بلا منازع.

فالأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لا تريد من المواطن إلا أن يكون "مطيعاً" لأوامر الحاكم، وأداة "طيعة" في يده، وقد تتخذ هذه الدعوة إلى الطاعة شكلاً سافراً، فتتولى أجهزة الإعلام المأجورة أو المنافقة تصوير الحاكم بأنه مصدر الحكمة ومتبع القرار السديد، ومن ثم فأنكل ما على المواطنين هو أن يوكلوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه، فهو الذي يفكر بالنيابة عنهم، وهو الذي يعرف مصلحتهم خيراً مما يعرفون، وهو الذي يعفيهم من مشقة اتخاذ أي قرار. وفي مقابل ذلك فإن أي نقد أو اعتراض أو تساؤل يوصف بأنه "عصيان"، هو إثم لا يغتفر. فكبيرة الكبائر هي "شق عصا الطاعة" (لاحظ الارتباط، في التعبير اللغوي التراثي، بين "الطاعة" و"العصا"!)، وجريمة الجرائم – كما كان يؤكد دائماً أحد الحكام العرب – هي "رذالة المثقفين"، أي مما حكتهم وتساؤلاتهم في الأمور التي ينبغي أن يترك زمامها للحاكم.

ولكن دعوة الحكام إلى الطاعة قد تتخذ طابعاً غير مباشر، حين يصبح الشعار الذي يسود المجتمع هو "الاتحاد والنظام"، أو حين يطلب إلى الشعب الاستغناء عن ديمقراطية النقد والمعارضة، والاكتفاء "بديمقراطية الموافقة"، أو حين تخنق كل صيحة احتجاج بحاجة أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". على أ، أشهر هذه المحاولات المستترة لتأكيد مبدأ الأمر والطاعة في علاقة الحاكم والمحكوم هي تحويل هذه العلاقة إلى رابطة عائلية، بحيث يصبح الحاكم "كبير العائلة"، وينظر إلى المجتمع كله على أنه "عائلة واحدة"، أو ما يسمى – في مصطلح العلوم الاجتماعية – باسم "النظام الأبوي أو البطريركي" (وكلمة بطريرك ... الانجليزية مشتقة من اللفظ اللاتيني باتر Pater ويعني "الأب").

ذلك لأن السمة المميزة لعلاقة رب الأسرة بأفرادها هي أن له عليهم حق الطاعة. وهكذا فإن الحاكم، حين يصبح "كبير العائلة" أو "رب الأسرة الواحدة"، يطالب لنفسه بحقوق الأب، الذي لا يخضع لمحاسبة أبنائه، والذي تطاع أوامره، مهما كانت قسوتها، برضاء واختيار، والذي ينبغي أن تقابل صرامته بالحب، لأنها تستهدف دائماً صالح "العائلة"، والأهم من ذلك أن "الأب أو "الكبير" هو الذي جمع الخبرة والمعرفة والرأي السديد، وكل من عداها أقل منه قدرة، ومن ثم ينبغي أن يترك القرار له وحده، وعلى الآخرين أن يسعدوا ببقائهم في الظل. حتى لو بدا أن في قراراته ظلماً أو عدواناً، فإن ذلك يرجع إلى جهلهم بمصالحهم الحقيقية، التي يعرفها "الرجل الكبير" خيراً من أي فرد من أفراد "الأسرة".

انتزاع جذور النقد:

أما في الأنظمة التي تستولي على الحكم بانقلابات عسكرية، وما أكثرها في وطننا العربي، فإن مبدأ الأمر والطاعة يصبح هو المسيطر بلا منازع. ذلك لأن تكوين شخصية الضابط أو الجندي المحارب، في الجيش يعتمد أساساً على تعويده أن يصبح إنساناً مطيعاً، وانتزاع كل جذور النقد والتساؤل من شخصيته. فالجيش مؤسسة تقوم كلها على ترتيب هرمي يسود الرتب المختلفة فيه نظام صارم من الأمر والطاعة. ومن المؤكد أن هذا النظام قد أثبت فعاليته في المهمة الأساسية التي تضطلع بها الجيوش وهي القتال في سبيل الوطن، دفاعاً أو هجوماً، بدليل أن معظم جيوش العالم كانت وما تزال تأخذ به. ولكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين ينقل هذا النظام الصارم من ميدانه الأصلي، ويصبح أساساً لحكم مجتمع كامل، بحيث تغدو علاقة الحاكم بالمحكوم مماثلة لعلاقة الضابط الآمر بالجندي المطيع. فمثل هذه العلاقة تؤدي حتماً إلى تخريب عقل المواطن وضياع قدرته على المشاركة في حل مشكلات مجتمعه، وتولد لدى الحاكم إحساساً متضخماً بذاته، حتى ليتوهم أن الوطن قد تجسد في شخصه. وما أكثر ما يمكن أن يقال عن النتائج المأساوية المترتبة على تطبيق الأنظمة العسكرية الصارمة على مستوى المجتمع بأكمله، وتحويل مؤسسات الدولة إلى نماذج مبكرة للثكنات الحربية. ولكن يكفينا، تحقيقاً لأهداف هذا الحديث، أن نشير إلى أن مبدأ الطاعة هو القيمة الأساسية والفضيلة الكبرى لرجل الجيش، وهو الذي يغدو مسيطراً حين يدار المجتمع بأكمله على النسق المطبق في المؤسسة العسكرية.

إن الطاعة وباء لا يفلت منه أحد، وإذا أطلقت لها العنان أصابت عدواها الجميع. ذلك لأن كل ما يفرض الطاعة على من هم دونه، يجد نفسه مضطراً إلى طاعة من يعلونه. فالأب الذي يمارس سلطات دكتاتورية على أبنائه وزوجته، يجد نفسه خاضعاً مطيعاً في عمله، ومقهوراً مكبوت الحرية على يد حاكمه. وفي جميع الأحوال يظل التسلسل مستمراً، فلا أحد يفلت من ذل الطاعة، ولا أحد يتنازل عن أية فرصة تسنح له كيما يمارس متعة فرض أوامره على غيره. حتى الحاكم المطلق يظل حبيس جبروته، لا ينام مطمئناً، ولا يسافر أو يتحرك إلا تحت أعين حراسه، ولا يملك في لحظة واحدة أن يعصى أمراً لمن يتحكمون في شؤون أمنه وسلامته.

التمرد .. قيمة أيضاً:

وهكذا ففي كل مجال من مجالات الحياة يجد الإنسان العربي مبدأ الطاعة مفروضاً عليه، يدفعه إلى المسايرة والخضوع والاستسلام، ويقضي على كل إمكانات التفرد والتمرد في شخصيته. إن الطاعة تحاصرنا من كل جانب، وتلازمنا في جميع مراحل حياتنا، وتفرض نفسها حتى على من يدعون "الثورية" في مجتمعاتنا.

على أنك حين تطيع، لا تكون ذاتك، بل تمحو فرديتك وتستسلم لغيرك. وأكاد أقول إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا "مطيعين": فالمصلحون الذين غيروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم في عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التي كان يسير عليها أسلافهم. وهكذا فغن كل شيء عظيم أنجزته البشرية كان مقترناً بقدر من التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة. وأكاد أقول إن الإنسان لم يكتسب مكانته في الكون إلا لأنه رفض أن "يطيع" الطبيعية ويستسلم – كما تفعل سائر الكائنات الحية – لقواها الطاغية. وهكذا فإن الإنسان الذي يعرف معنى وجوده هو ذلك الذي يهتف في اللحظات الحاسمة من حياته: أنا متمرد إذاً أنا موجود.

***

د. فؤاد زكريا

خطاب إلى العقل العربي، د/ فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1990. نقلا عن موقع الأنطولوجيا، يوم: Sep 29, 2020

بتاريخ الفلسفة ترتبط فلسفات بأسماء شراحها، بهم تتمدد وتحضر، وإمام عبد الفتاح إمام الذي رحل عن دنيانا يمثل ظاهرة فريدة في الفلسفة العربية، إذ يشكل مع جيلٍ من الشراح الكلاسيكيين نقطة اتصالٍ ضرورية بين العرب والفلسفة الغربية، حال عبد الرحمن بدوي، وخليل رامز سركيس، وفؤاد زكريا، وإدوارد البستاني، وسواهم من الكبار الذين أخذتهم همة نادرة بأن تترجم الفلسفة الغربية للعرب، منطلقين من قناعة راسخة بضرورة الفلسفة لتطور وعي الفرد، وأهمية دورها في استلهام المجتمعات لتجارب الآخرين.

وعند الحديث عن ترجمة الفلسفة، يتميز إمام عبد الفتاح إمام، الأكاديمي والمترجم المصري، الذي تخصص في الفلسفة والعلوم الإنسانية، واشتهر بترجمته لأعمال الفيلسوف الألماني هيغل إلى العربية. ودرس إمام بجامعة عين شمس وعمل في العديد من الجامعات المصرية والعربية ولهُ مؤلفات وترجمات غزيرة.

مثلاً إمام عبد الفتاح إمام، لدينا - نحن العرب - أشبه بجان هيبوليت لدى الفرنسيين، كلاهما رسَّخ جهده لترجمة هيغل وشرحه، هذا مع اختلافهما مع هيغل. فإمام يساري النزعة، وهيبوليت فيلسوف وجودي، بينما هيغل ناحت الجدلية، وراسم منهجه الاستثنائي في فلسفة التاريخ، ومقدم أصول فلسفة الحق، والمغامر في ظاهريات الروح أخذه التحليل الفلسفي للمجتمع لمفازات الانتصار للدولة المدنية المتكونة على تصدعاتٍ شهدها مثل انتصار الثورة الفرنسية (التي يعتبرها أساس تطور الألمان ودخول المدونات القانونية لديهم، بفضل النابليونية) حتى وصفه كارل بوبر بأنه «خادم سيده ملك بروسيا».

أخذ إمام -مثلاً- على عاتقه نقل وشرح فلسفة هيغل، وقدم للمكتبة العربية كنوزاً فريدة، يختلف المترجمون حول المستويات التي تقدم، باعتبار الترجمات التي تطبع لم تصل إلى المستوى الذي قدمه الجيل اللاحق لإمام وسواه من الكلاسيكيين، لكنه وفي «موسوعة العلوم الفلسفية» و«أصول فلسفة الحق» رسخ كل إمكاناته الفلسفية واللغوية، وكل طرق التبسيط لجعل نص هيغل الوعر بمتناول اليد، ليس سهلاً أن تشرح الديالكتيك، أو نظرة هيغل للتاريخ، أو مفهوم هيغل للشخص، أو معنى الدولة، ولكنه أجاد بشهادة مجايليه ومناوئيه بأن سد ثغرة في المكتبة العربية لم تكن لولا جهده هو في عشرات الكتب التي طرحها بكل همّة واقتدار.

بل قدّم لنا إمام كتاباً أراه غاية في الروعة والثراء حين ترجم كتاب «معجم مصطلحات هيغل» لمؤلفه ميخائيل أنوود، وأضاف إلى الترجمة شرحاً مقارناً للمفاهيم التي تضمنتها ورشة هيغل الفلسفية.

الخلاصة، أن هذه الصيغ المعرفية قلما نجد لها أنصارها في المكتبة العربية، وحتى الآن يمكننا تقديم معاجم لمصطلحات حتى مفكرينا وفلاسفتنا. فالفلسفة عدة من المفاهيم مثلما هي خرائط ودروب ومناهج، هذه قيمة ترجمة الترجمة حتى المفهوم الواحد تتنوع قراءته بين شارحٍ وآخر.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الامارتاتية، يوم: 6 أغسطس 2024

إعادة الاعتبار إلى فكره تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمّتين

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَداً ومنبوذاً من قِبل الجمهور الإسلامي العريض، مثل سلفه الأكبر أيام قرطبة والأندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبولاً الآن، ويحظى بالإعجاب والتقدير من قِبل الجمهور المثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي والإسلامي كله. ومعلوم أن ابن رشد رُفض من قِبل التيار الإسلامي المركزي، وماتت كتبه في أرضها، هذا في حين أن أوروبا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها المقبلة، وهنا يكمن الفرق بين الأذكياء والأغبياء، ولا ننسى ابن سينا بطبيعة الحال الذي كان تأثيره عظيماً على أوروبا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن.

ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمين رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكفَّروها باعتبار أن «مَن تمنطق فقد تزندق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربما لا يزالون حتى الآن) أن الفلسفة تُبعِد عن الله والدين، وهذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حتى وقت قريب. والسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: لماذا فشل فكر ابن رشد في العالم الإسلامي، ونجح نجاحاً باهراً في العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني؟

للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية الإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاته عام 1198، هذا في حين أن الفلسفة الرشدية راحت تشهد إشعاعاً كبيراً في كل أنحاء أوروبا المسيحية، وكانت أطروحاته تُدرَّس في جامعات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ.

هكذا نلاحظ الوضع؛ فشل كامل من جهة، ونجاح دائم من جهة أخرى. ولهذا السبب يرى أركون أن المسلمين لم يساهموا في تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة العثمانية، وشيوخ الإسلام عموماً، كل فتوحات غاليليو وديكارت وسبينوزا وفولتير وكانط وهيغل... إلخ، بل واحتقروها وازدرَوها وكأنها لم تكن، في حين أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة.

ولكن لماذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن رشد ذاته وهو العربي المسلم؟ لماذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل الأمر ذاته عن الفارابي المعلِّم الثاني بعد أرسطو، وقل الأمر ذاته عن عبقري العباقرة شعراً ونثراً أبي العلاء المعرّي، هو الآخر كفَّروه وزندقوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم الأوروبي المسيحي؟

إننا دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة بدءاً من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطلاقة النهضة العربية على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وكل ذلك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر المعتزلة أيضاً، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقلاني في الإسلام في مواجهة الحنابلة، والأشاعرة، وتيار النقل والتقليد والانغلاق الديني اللاهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلى كتب المعتزلة وهو الأندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك لأن التيار الظلامي كان يلاحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل الأوروبيين بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون.

أركون يطرح هذا السؤال: لماذا دخلنا بدءاً من القرن الثالث عشر في عصور الانحطاط الظلامية الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن، بدليل ازدهار كل هذه الموجة الأصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى الاجتماعية الانحطاطية التي جعلت حتى مفكراً كبيراً كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى الانغلاق اللاهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الرغم من إبداعاته وكشوفاته العبقرية في مجال دراسة الاجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي:

لا ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعاً آيديولوجياً ولاهوتياً كبيراً على جميع الناس في كل الغرب الإسلامي، أي في بلاد الأندلس والمغرب الكبير، وقد عانى ابن رشد ذاته من إرهابهم اللاهوتي في أواخر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ لأنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضاً قاضي القضاة في قرطبة، وعالماً كبيراً في الدين، ومع ذلك لم ينجُ من شرِّهم، والمشكلة هي أن المثقفين العرب التجديديِّين لا يزالون يعانون من التزمُّت ذاته حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل والاغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف الأردني التنويري اللامع ناهض حتر... إلخ. القائمة طويلة، وإرهاب الحركات الإخوانية الظلامية يخيِّم على الجميع.

ثم يتحدث أركون عن فضل النزعة الإنسانية والحضارية العربية على الفكر الأوروبي، وهو يقصد بذلك فضل العصر الذهبي ومفكريه الكبار، كابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه وابن الطفيل، وعشرات آخرين على المثقفين الفرنسيين في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلى اللغة اللاتينية انطلقت فعلاً الحركة النهضوية العقلانية الأوروبية. نقول ذلك في حين أن هذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي العرب والمسلمين، بل وكانت محتقَرة ومُدانة لاهوتياً من قِبل الفقهاء المزمجِرين أسلاف الإخوان المسلمين الحاليين، ما أشبه الليلة بالبارحة!

لقد شرح لنا المفكر الفرنسي الكبير إيتيان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الفلسفي العربي الخصب والغني جداً، في ذلك الوقت ابتدأت أوروبا تخرج رويداً رويداً من ظلمات العصور الوسطى المسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فلاسفة العرب والمسلمين، كنا وقتها أساتذة أوروبا، في حين أن مفكريها أصبحوا اليوم هم أساتذتنا، كان المثقف الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي يفتخر آنذاك بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا أو الفارابي، مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان.

أخيراً السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقاً أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو بالإيجاب طبعاً، فإعادة الاعتبار إلى فكر ابن رشد في العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمِّتين من إخوان مسلمين وخُمينيين وسواهم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضد أسلافهم من فقهاء عصره المتزمِّتين، لقد خاض هذه المعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الضيق المتعصب، وقد استخدم كفاءاته الفلسفية في هذا المجال أفضل استخدام، صحيح أنه لم يصل به الأمر إلى حد الخروج من السياج الدوغمائي اللاهوتي العقائدي المغلق على ذاته، وهو السياج أو الإطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع المؤمنين أو جميع المسلمين قاطبةً دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكناً في عصره؛ لأنه كان محكوماً بسقف العصور الوسطى وما هو مستحيل التفكير فيه في تلك العصور، ولكنه عقلَن مفهوم الدين عن طريق دحض أطروحات الغزالي الواردة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». لقد دحضها ليس فقط من خلال كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضاً من خلال كتاب «مناهج الأدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو النص على مشروعية الفلسفة والفكر العقلاني في العالم العربي الإسلامي، ونفهم من كلامه أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع المفهوم المتزمِّت والخاطئ للدين.

الفلسفة لا تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

لكن بعد كل هذا التمجيد لابن رشد فإن أركون يحذِّرنا قائلاً هذا الكلام الخطير: من ناحية أخرى، لقد أصبح فكر ابن رشد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي ألا ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قرون. ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، لماذا؟ لأن كل فكر فلاسفتنا القدماء حصل تحت سقف العصور الوسطى، ونحن نعيش الآن تحت سقف العصور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيلاً التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكناً التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فلاسفة الأنوار الذين تحرَّروا من هيمنة اللاهوت الديني كلياً.

يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت لايبنتز وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، وحتى برغسون وهابرماس... إلخ، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ ونهوِّل في قيمة ابن رشد، إنه لا يستطيع إنقاذنا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والفلسفية الذي تجاوز ابن رشد وسواه بسنوات ضوئية.

أخيراً يمكن القول بأن المعرِّي تجاوز ابن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني اللاهوتي التكفيري المنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكلام يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. المعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولم يكن ذلك فقط في «اللزوميات»، وإنما أيضاً في «رسالة الغفران» التي تُعدّ جوهرة الجواهر الأدبية والفكرية العربية، بحياته كلها لم يستطع الخيال الإبداعي العربي التوصل إلى هذا المستوى المذهل من الابتكار الخلّاق الذي استعصى على الجميع.

***

د. هاشم صالح

نُشر: 18:11-1 سبتمبر 2024 م ـ 27 صفَر 1446 هـ

في جولته الأخيرة في دول الساحل الأفريقي، اعتبر رئيس الوزراء السنغالي الجديد عثمان صونكو أن نخب القارة ترغب بقوة في القطيعة مع البراديغم الاستعماري الذي لا يزال مسيطراً على العقل الأوروبي رغم مرور أكثر من ستين سنة على استقلال الدول الأفريقية. في البرازيل، كبرى دول أميركا اللاتينية، ذهب الرئيس لولا دا سيلفا في الاتجاه نفسه، مقرراً أن عهد المركزية الغربية انتهى، ولا معنى لتحرر بلدان الجنوب الشامل إلا بفرض استقلالها الثقافي والفكري.

ليست هذه النغمة جديدة، لكنها انتقلت من الكتابات الفكرية إلى قلب العمل السياسي، وأصبحت هي الاتجاه الغالب على النخب الحاكمة في العديد من بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية. في هذا السياق، يجدر التمييز بين مصطلحين متقاربين هما «نزع الاستعمار» و«ما بعد الاستعمار».

العبارة الأولى ظهرت في أدبيات أميركا اللاتينية منذ بداية القرن العشرين في إطار الإشكالية التي عرفت بصراع الهوية المحلية والاستيطان الأوروبي، ووصلت إلى مداها في نظرية التبعية التي برزت في الأدبيات اليسارية من خلال نقد المركز الرأسمالي في علاقته بالهوامش الجنوبية الخلفية، ثم «لاهوت التحرر» الذي انبثق من داخل التقليد الكاثوليكي موجها النظر إلى المسألة الاجتماعية ومحاربة الفقر والاستغلال الطبقي. أما تيار «ما بعد الاستعمار» فقد ظهر أساساً في الهند في سياق «دراسات التابع» ثم في أفريقيا جنوب الصحراء.

ما يميز هذا التيار هو انتقاله من سؤال الهيمنة السياسية والاقتصادية إلى التركيز على التمثلات الاستعمارية وشكل الخطاب التصنيفي والمعياري الغربي، وآليات وسبل ترويض الجسم المستعبد ثم المستغل والمستعمر من خلال قبضة سلطة حيوية سيادية وقمعية (بما نلمسه بوضوح في أعمال الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل بمبة وبصفة خاصة في كتابيه نقد العقل الزنجي ونزعة ما بعد الاستعمار).

وبغض النظر عن خطاب المقاومة التقليدي في الأدبيات العربية، يمكن أن نشير إلى أن مساهمة المفكرين العرب في بلورة سردية ما بعد الاستعمار كانت أساسية، من خلال كتاب المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر سنة 1978، من حيث كونه الوثيقة النظرية الرئيسية لهذا التيار.

في كتاب سعيد توظيف غير مسبوق لأطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في سلطة الخطاب وثنائية المعرفة والقوة، من أجل نقد راديكالي للاستشراق بصفته نوعاً من إرادة الحقيقة غرضها اختراع شرق خاضع ومقصي ومشوه في ما وراء حجاب العلومية الزائفة. لقد طور مفكرو ما بعد الاستعمار هذه النظرية وطبقوها على سياقات مجتمعية وثقافية عديدة، ووضعوا جهازها الإبستمولوجي الخاص ورؤيتها المتميزة للتاريخ والبنيات الاجتماعية.

في الاتجاه نفسه، حاول المفكر المصري الراحل حسن حنفي تصدير لاهوت التحرر اللاتيني الأميركي إلى التراث الإسلامي من خلال علمه الكلامي الجديد المتمحور حول الثورة، قبل أن يكتب كتابه الجريء «الاستغراب» الذي أراده النقيض المباشر للاستشراق، وسعى من خلاله إلى «تحجيم» الغرب والنظر إليه في زمنيته التاريخية والمفهومية المحدودة (أي تشكل ثم نضوب الوعي الغربي). وعلى عكس كتاب إدوارد سعيد الذي كان تأثيره واسعاً، في ما وراء موضوعه الخاص بالاستشراق في نسخته الأدبية، لم يحظ مشروع حسن حنفي باهتمام كبير، سواء تعلق الأمر بـ«لاهوت الأرض والثورة» أو بعلمه الجديد «الاستغراب».

ظهر في السنوات الأخيرة بعض الاشتغال بأبيات ما بعد الاستعمار، خصوصاً دراسات التابع التي تحولت من الحقل الأكاديمي الضيق إلى الحركية السياسية والأيديولوجية، بما نلمسه بوضوح في ما يسمى في الولايات المتحدة الأميركية بموجة «اليقظة» woke التي تقوم على نقد أشكال المركزية والإقصاء في الأنساق الثقافية والقانونية السائدة، وتتجاوب مع أصناف النضال المدني ضد العنصرية والهيمنة الذكورية والتمييز الاجتماعي. في العالم العربي، لا يزال الاهتمام بهذه الحركية ضعيفاً، في الوقت الذي يستمر فيه نقد الحداثة الأوروبية الذي بدأ في الخطاب الإسلامي المؤدلج والسطحي مبكراً، وتطور راهناً في كتاب الباحث في الفقه الإسلامي وائل حلاق «قصور الاستشراق».

أما في أفريقيا جنوب الصحراء، فقد أصبح تيار ما بعد الاستعمار هو القوة الصاعدة في سياق تَطبعُه القطيعة المتنامية مع القوى الغربية الكبرى، وإنْ كان في عمقه محاولة ملتبسة وغير واعية لتحقيق وعود الحداثة والتنوير، التي فشلت في إنجازها نخب الاستقلال الأولى والأنظمة الديمقراطية المتعثرة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 سبتمبر 2024 23:45

الفلاسفة دعوا إلى الاعتناء بالنفس والعمل على ارتقاء الكائن الإنساني

ملخص

ليست الفلسفة طريقة تفكير تتمثل في إبداع المفاهيم وصوغ المسائل ونظم الأنظومات فحسب، بل أسلوب عيش أيضاً. كانت كذلك في بدايتها، قبل أن تصير تفسيراً للعالم وفهماً له أو تغييراً، وعادت اليوم كذلك. كانت حكمة عملية وتدبيراً حصيفاً لأمور الحياة، بما فيها الموت، قبل أن تصير بحثاً عن العلل الأولى والمبادئ الأوائل.

ما نود معالجته هنا هو الفلسفة بما هي إطيقا فن الوجود، بما هي أنماط حياة وأساليب عيش، بما هي سيرورات تذويت وتقنيات ذات، بحسب ميشال فوكو الأخير. فالفلسفة نمط حياة وأسلوب عيش ونحت ذات وانهمام بالنفس وعناية بها، قبل أن تكون بناء عمارات فلسفية شاهقة أو نظم أنظومات فلسفية متماسكة أو بحثاً عن العلة الأولى. وعليه فالفلسفة لم تكن طوال تاريخها مجرد نشاط نظري فحسب، بل كانت دائماً بمنزلة طريق ملكي إلى الحكمة والحقيقة.

إذاً بدأت الفلسفة تاريخها طريقة في فن الحياة، وأسلوباً في تدبير السلوك والملذات، ونهجاً في اختيار أسلوب الحياة ونمط العيش، تبعد الإنسان بقدر الإمكان من الأوهام وتجعله يتدبر حياته وموته، فتدخل في نفسه نوعاً من السلام والطمأنينة.

بين الأخلاق والإطيقا

علينا أن نميز الإطيقا بما هي اشتغال على أنماط الحياة وأساليب العيش وفن الوجود، من الأخلاق بما هي قواعد عامة ملزمة للجميع، فالحديث هنا ليس عما يتوافق مع الأخلاق وعما لا يتوافق معها، ولا عما ينسجم مع قواعد المجتمع وقوانينه وعما لا ينسجم، بل عن أمر مختلف. فسواء أآمن الناس بالأخلاق أم لم يؤمنوا، وسواء أكانت هناك دولة تطبق القوانين أم لا، يبقى المطلوب من الإنسان أن يشتغل على ذاته ويهتم بنفسه ويجترح نمط الحياة الخاص به.

لسنا هنا في حقل الأخلاق، بل في حقل الإطيقا بما هي فن وجود، بما هي أساليب عيش وبما هي أنماط حياة يبتدعها الشخص ويرتضيها لنفسه ويعيشها انطلاقاً من علياء شعوره السامي الراقي النبيل. نحن هنا لا نتفلسف في ميدان الأخلاق، بل في ميدان الإطيقا. فما يمنع الإنسان من بعض التصرفات ليس توافقها أو عدم توافقها مع قواعد الأخلاق ومبادئها، بل تعارضها مع نمط الحياة النبيل الذي رسمه لنفسه، وتعارضها مع ما يقتضيه ذلك الشعور السامي الرفيع الذي يشعر به. مثلاً لو كنت موظفاً في مصرف لبناني لما قبلت أن أسكت عن سرقة أموال الشعب من دون أن أقدم استقالتي وأخرج إلى الإعلام لأفضح ما يحصل. فأنا لا أقبل أن أسرق وأقتل وأغش وأخدع، لا لأن هذا يتعارض مع الأخلاق العامة، ولا لأن هذا يغضب الله، بل لأن هذا كله يتعارض مع نمط الحياة النبيل الذي اخترته، ومع فنية وجمالية اللوحة التي أرسمها لنفسي أولاً ولأولادي وأحفادي ولكل الأجيال من بعدي ثانياً، هؤلاء الذين سيفتخرون يوماً ما، كما آمل، بما فعلته وما رسمته وما نحته.

أعمل كثيراً حتى لو لم أحظ إلا بقليل من النجاح، ليس مهماً أن أصل، فهذا أمر متروك للأقدار، بل المهم أني فعلت كل ما كان بوسعي أن أفعله. بذلك أكون رسمت لوحة أراها أروع وأجمل لوحة رسمتها يد فنان قدير موهوب، لذلك أنا راض عما فعلت. فلا مكان في قلبي للندم، ولو عشت ألف مرة لكنت مشيت في الطريق ذاتها، ولكنت رسمت اللوحة ذاتها. ولو عدت للحياة ألف مرة لكانت لوحة حياتي هي ما يجسد عودي الأبدي في كل عودة، فأنا فخور بحياتي وأرحل عن هذه الدنيا وقد أديت قسطي من العلا.

الحياة بما هي تحفة فنية

هذا ما يمكن أن نسميه بالتفلسف الحياتي العملي، فكما يرسم الرسام لوحة بديعة، وكما يكتب الأديب رواية رائعة، وكما ينحت النحات منحوتة جميلة، فإن بإمكان كل واحد منا أن يصنع من حياته تحفة فنية نادرة، لوحة فنية فريدة يفتخر بها أمام نفسه وأمام الجميع. بعمله هذا يكون سعيداً وراضياً، لذلك فإن نحت الجسد لأمر ذو أبعاد كثيرة، صحية وجمالية وفلسفية، وذلك عندما يندرج في إطار فلسفي أوسع يتعلق بفن الوجود ونمط الحياة. هكذا يكون نحت الذات، جسداً وروحاً، نشاطاً فلسفياً بامتياز! وهكذا يتحول كل إنسان إلى فيلسوف. أوما زال الاهتمام بالذات ممكناً اليوم؟

يأتي الإنسان إلى الحياة من دون إذنه، فيبدأ مسيرته الطويلة والشاقة. لكن أي نمط حياة نريد؟ أي حياة نود أن نحياها؟ أي ذات نروم نحتها؟ الانهمام بالذات كان هماً من هموم الفيلسوف، وسيبقى. لكن هل ما زلنا اليوم قادرين على الاهتمام بذواتنا والعناية بها في ظل ما نعيشه من أزمات مالية وسياسية؟ هل ما زلنا قادرين على نحت ذواتنا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي وعصر الإنسان - الآلة أو الإنسال؟ هل ما زلنا قادرين على رسم لوحة حياتنا الفنية في ظل رأسمالية تأبى إلا أن تسيطر بجشع ومن دون رحمة على ثروات المعمورة؟ أفلم تفسد الرأسمالية المتوحشة كل ما هو جميل وحسن في حياة الإنسان؟ أفلا يجدر بنا التنبه إلى ما يمكن أن يؤدي إليه الذكاء الاصطناعي من تهميش للإنسان وربما من القضاء عليه؟ أفلا يستدعي الاهتمام بالجسد اهتماماً آخر أكبر وأهم بالذات؟ أوليس من الفلسفة أن يرسم كل إنسان لوحته الأجمل وأن ينحت منحوته الأفضل، فيجعل حياته نفسها تحفة فنية رائعة، كما نبهنا إلى ذلك فوكو في كتاباته الأخيرة؟

أنماط الوجود

تكلم فوكو عن أنماط الوجود وسيرورات التذويت وتقنيات الذات ضمن إطار ما سماه إطيقا فن الوجود، إذ سعى إلى أن يجعل المرء نفسه تحفة فنية رائعة لا تختلف عن لوحة رائعة أو منحوتة عظيمة. بذلك نقول إن بإمكان الفرد أو الذات، في المجتمعات المعاصرة، أن يتكون وينتصب ويقاوم في ظل الحصار المضروب عليه من أصناف المعرفة وأنواع السلطات القائمة. رجع فوكو إلى الإغريق فوجد عندهم هذا الشعار: إذا أردت أن تكون مواطناً فاعلاً في المدينة، فعليك أولاً أن تتمكن من السيطرة على نفسك.

ومن ثم، عندما لا تتوجه القوة إلى قوى الخارج، بل إلى ذاتها، أي عندما تتخذ القوة نفسها موضوعاً لفعلها، ينشأ ما يسميه فوكو سيرورات التذويت أو أنماط الوجود أو أساليب الحياة، وهي ما كان يسميها نيتشه إمكانات الحياة. بذلك يمكن المرء أن يقاوم أشكال المعرفة ومراكز السلطة من حوله، فالقوة تتعرض لعملية طي من الذات عندما تتخذ موضوعاً لها السيطرة على الذات نفسها وتقديمها بوصفها تحفة فنية رائعة. هذا ما نجده في سيرورات التذويت عند الإغريق وسيرورات التذويت في العهود المسيحية الأوائل، إذ يشدد فوكو على أن أنماط الوجود تلك إطيقية وجمالية في آن واحد. فإنها لا تبتغي تقديم قواعد عامة إلزامية لكل البشر، بل تعرض نماذج لسيرورات تذويت تتضمن قواعد اختيارية ومتغيرة عبر التاريخ. واليوناني لم يكن يريد أن يرضي الآلهة أو يتنعم بالنعيم في الآخرة، فهذه الأمور لم يكن ليهتم بها، بل كان يريد أن يقدم نموذجاً صالحاً، جمالياً وأخلاقياً في آن واحد، يتركه للأجيال المقبلة. لكن فوكو، بعودته للإغريق أو العصور المسيحية الأوائل، لم يكن يبتغي أن نتخذ منها نماذج صالحة لزماننا الحاضر. فهو يفكر الماضي من أجل الحاضر، ويحاول أن يتتبع أنماط الوجود الراهنة التي تحصل في مجتمعاتنا المعاصرة.

الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم

وعليه لا يحبذ الإنسان أن يرحل عن هذه الدنيا من دون أن يترك أثراً، من دون أن يترك لمسة خاصة به، من دون أن يترك بصمة يعرف بها، بل من دون أن يخلد اسمه بطريقة ما. فهناك من يكتب كتباً، وهناك من ينحت منحوتات، وهناك من يرسم لوحات، وهناك من يغني أغاني عاطفية مؤثرة أو أغاني وطنية، وهناك من يبني دولاً، وهناك من يخترع اختراعات إلخ. والفيلسوف هو من يحول حياته نفسها إلى أثر فني، إلى منحوتة رائعة، إلى لوحة فنية، يفتخر بها ويتركها أثراً فنياً جميلاً لمن يجيء بعده، حتى إذا دنا أجله، كان راضياً عن نفسه وعما فعله في حياته.

هكذا ينشغل الإنسان بنفسه فيرسم حياته بريشته كأجمل لوحة فنية ممكنة، ربما لا يرسم الأجمل والأفضل، لكنه يحاول أن يرسم أفضل الممكن نسبة إلى القدرات والإمكانات التي يمتلكها ونسبة إلى الظروف التي تهيأت له. بذلك يترك لأحبائه وأصدقائه والأجيال أمثولة رائعة يفتخر بها، فيها كثير من النجاحات والانتصارات، كما فيها أيضاً كثير من الهزائم والانكسارات.

على المرء إذاً أن يرسم لوحته الفنية الرائعة، وأن ينحت تحفته الأجمل في علاقته بنفسه أولاً، وفي علاقته بزوجته وأولاده ثانياً، وفي علاقته بمواطنيه في المدينة ثالثاً، وحتى في علاقته بالله أو المطلق رابعاً، من دون أن يعتقد وجود نموذج أو مثال عليه تقليده واتباعه.

وعليه فإن الفلسفة بما هي فن إطيقي، بما هي فن الإطيقا، بما هي أسلوب عيش، بما هي نحت لتحفة فنية حياتية رائعة، من مهمتها أن تجعل الحياة ممكنة وجميلة، بل وأن تجعلها ممتعة أيضاً، فنتقبل مآسيها ونتقبل فكرة الموت ونتعامل معها بما يناسب اللوحة الفنية هذه، فالفلسفة نوع من الفرح الدائم.

***

د. جمال نعيم - أكاديمي لبناني

الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25

عن موقع الأندبندت عربي، يوم:  الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25

في ذلك اليوم.. قامت الجماهير الغفيرة باقتحام منزل أينشتاين، وبعد تخريب كل ما فيه، سرقوا محتوياته، وكانت آلة الكمان التي يعزف عليها من بين المسروقات التي آلَمتْ العالم الكبير.

ليس هذا فقط.. بل تحوّلت الدعوة لقتله إلى لافتة شهيرة في عشرات الشوارع، حيث وضعوا صورته وكتبوا إلى جوارها: «لم يُشنق بعد»!

لم يقف الأمر عند الغوغاء الذين شكلّوا ثقافة القطيع في تلك الأثناء، بل إن نخبة من علماء ألمانيا وصل عددهم - حسب وثائقي بُث مؤخراً - إلى (100) عالم قاموا بالهجوم على أعمال أينشتاين العلمية، ودحض نظرياته. وقال العلماء: إنه مشروع إعلامي لا مشروع علمي، وأن حجم الدعاية وليس مستوى البحث هو الذي أدّى إلى ذيوعه وشهرته، واستنكروا الترويج لنموذج نظري افتراضي، لا دليل عليه، على هذا النحو الكبير.

بدورها أسقطت الحكومة الألمانية النازية الجنسية عنه، ورصدت مكافأة قدرها (20) ألف مارك لمن يقتل أينشتاين، وقد كان ذلك المبلغ باهظاً، لدرجة أن عالم الفيزياء الكبير قال: هل موتي يستحق كل هذا الرقم؟

إن هذه المشاهد مجتمعة تستحق التوقف طويلاً، كيف لهذا البلد الذي أنتج كل هذا العلم وكل هذه الفلسفة أن يهوي أمام قائدٍ تافه مثل أدولف هتلر؟ كيف لبلدٍ قدّم للعالم فلاسفة بوزن كانط وهيجل ونيتشه وكارل ماركس وانجلز وماكس فيبر، كما قدم جوته وبريخت وشوبنهاور، وبيتهوفن وباخ وشتراوس.. كيف لبلدٍ أبدع إلى هذا الحد في كل شئ تقريباً أن ينهار أمام غوغائي محدود التعليم، محدود المستوى الاجتماعي.. راح يتحدث عن القيادة العرقيّة للعالم.

لقد وصل الحدّ إلى مستوى الهذيان، راحوا يقولون إن أينشتاين قادم من سويسرا، ونسوا أن هتلر قادم من النمسا. ولو أن ذلك الهذيان كان في نطاق السياسة وتعبئة القطيع فحسب لكان الأمر مفهوماً، لكن أن يتصدّى عدد كبير من نخبة علماء الفيزياء الألمان لتسفيه أينشتاين والحطّ من شأنه، والسخرية من نظرية النسبية، واعتبار المكانة التي حازتها مجرد دعاية وعلاقات عامة.. وليس أكثر، فهذا كله يدعو للصدمة والذهول.

إن الظاهرة النازية هى ظاهرة مرعبة، ليس فقط على صعيد التاريخ، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وإذا كان مجتمع قوي، ونخبة رفيعة الشأن، وتاريخ معاصر يكتظ بالعباقرة، قد ركع على ركبتيه أمام سفيهٍ استخدم سفهاء، واحتل الدولة والمجتمع.. ثم قاد الجميع إلى الهاوية.. فما الذي عساه أن يحصّن مجتمعات أقل ثقافة، ونخب أقل كفاءة، وربما أضيفت إليها أزمة ندرة وشحّ الموارد ومشاكل المياه والطاقة.

إن المناعة الألمانية التي سحقتها النازية تدعو للقلق بشأن دول تمتلك مناعات أقل، وإمكانات لا تقارن حتى بإمكانات ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى أو الثانية.

إن مخاطر الديكتاتورية، وسطوة «الأنا الواحدة» على القرار.. هى مخاطر لا حدود لها. مكاسب الديكتاتورية وإن تعاظمت فهى لا محالة ذاهبة إلى الانهيار، ومكاسب الحرية وإن قلت هى قواعد قابلة للعلو في البنيان.

القوة والحرية وجهان لعملة واحدة.

***

أحمد المسلماني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 30 أغسطس 2024

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 28 أغسطس 2024 م ـ 23 صفَر 1446 هـ

ربما تتضمن الأفكار الكثير من الجنون والسخرية، لنقرأ مذكرات آينشتاين، أو ما قالوه عن داروين، لكن ساباتو- الذي كتبت عن سخريته بالمقالة الماضية - يذهب أبعد من ذلك، يرى إرنستو ساباتو، الأديب الأرجنتيني وأستاذ للرّياضيات والفيزياء، في الأفكار المجنونة أنها انعتاق، بل هي جزء من الجنون النظيف، الذي يمنع الإنسان من تقبل الأيديولوجيا.

إرنستو ساباتو، الذي اتّجه إلى الأدب وعاش هادئاً في الأرجنتين من أجل التّفرّغ للكتابة، يستعيد مقولة لألبير كامو: «إن تفكير أي إنسان هو قبل أي شيء حنينه». كتب ساباتو في الحنين وعنه، ورأى في الأساطير شموخاً، وفي الخرافات كنزاً يمكن استعادته وتركيبه وصهره في الأعمال الفنية والرسومات التي اتجه إليها بعد أن تعب بصره، لم يفصل بين الكتابة والرسم، يتحدث إلى كارلوس كاتانيا في كتاب «بين الحرف والدم»: «لست الكاتب الوحيد الذي يرسم، كان (كولوشكا) كاتباً وانتهى به الأمر إلى أن أصبح رساماً، وكذلك الأمر لدى فيكتور هوغو، وكيبلبلغ، وغوته، وهوفان، وتولستوي، وبودلير، وبلاك، ورامبو». يعتبر الرسم فصيلاً من الكتابة وتنويعاً عليها، كما أن الكتابة والرسم يجمعهما خيط الفنون الذي يرسمهما ويدمجهما ضمن صيغه المتعددة.

انحاز إلى «الإيماء» الذي طمسته إمبريالية اللغة، يتساءل: «من الذي قال إن الكلام أفضل من الإشارات، يرى هنري ميشو أن جل ما يشعر به لا يمكن تفسيره بالكلمات، وتؤكد عباراته أن الكلمات أقل من الإشارات كمالاً. كان البدائيون يعبرون بالأصوات وبالألوان والرسوم والتعاويذ». تأثر كثيراً بالبنيوية وسحرته قيم الريف البدائية، ويشكو: «إن ثقافتنا التي اتخذت الكتب أساساً لها هي ثقافة سمتها المبالغة، وقد احتقرنا ثقافات قديمة لم تقم على الأبجدية، وإنما على أسس أخرى أشد أهمية، أسطورية حكيمة، وتوازن رائع مع الكون، وإلفة مع الموت، وإحساس مقدس باللحظات العظيمة لهذه الحياة البائسة، والمجردة الآن من أسطوريتها: الولادة، والبلوغ، واتصال الجنسين، والأولاد ثم الموت». وهذا يذكر بشغف كلود ليفي شتراوس الذي زار البرازيل والأمازون في ولايات ماتو روسو وبارانا وغوياس، وذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، واعتبر تلك الحمولة من الأساطير والمكونات لها أكبر الأثر في حياته.

الخلاصة، أن مشروعه وقلقه وجنونه أثمر عن عشرين كتاباً في الفنون والفكر والأدب والنقد والموسيقى، إضافة إلى ثلاث روايات نال عنها جوائز كثيرة، والكثير من الحوارات، كان مرشحاً أساسياً في جائزة نوبل للآداب، غير أنه رحل من دونها في 30 أبريل (نيسان) 2011. رأى في الأدب حقبة روحية، بالنسبة إليه: «ثمة قرابة بين فرانسيس بيكون وكيركغارد وألبير كامو وسارتر ودوستوفيسكي، وكافكا، فكلهم ينتمون إلى الحقبة الروحية نفسها». وذلك على الرغم من تباعد الأيام ومسافات القرون.

لقد مزج ساباتو بين السخرية والكآبة، بين الكبرياء والضعف، آمن بالمقاهي والفنون، يحزن كثيراً، لكن على طريقة المهاجر القادم من نابولي وهو يلهو برقصة «ترانتيلا»، ويتعجب من مواطن بوينس آيرس الذي يستغرق في التفكير بمعضلات الحياة وهو يرقص «التانغو».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 27 أغسطس 2024

 

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر. من الصعب نسيانُ فرسان الرومانتيكية: شيللي وشيللر وكولردج وكيتس ووردزورث. تراجعت مفاعيل الرومانتيكية كثيراً في عصرنا بفعل مؤثرات العقلنة العلمية وسطوة الثورات التقنية المتوالية التي تتطلب عقلاً منضبطاً يتحرك بخوارزميات صارمة. بالنسبة لي صارت المرات القليلة التي تُعرَضُ لي فيها مفردةُ «الرومانتيكية» أو مشتقاتها اللغوية تذكّرني بكِتاب «رومنطيقيو المشرق العربي» لحازم صاغية الذي اختار مفردة «رومنطيقيو» بدلاً من «رومانتيكيو» في عنوان كتابه. المثيرُ أنّ أغلب أساطين الرومانتيكية العربية على صعيد السياسة والأدب نشأوا في حاضنة «الجامعة الأميركية في بيروت»، ونعلم جميعاً أنّ الفلسفة المعتمدة في الحياة الأميركية هي البراغماتية التي طوّرها وأنضجها ويليام جيمس، وهي أبعد ما تكون عن الرومانتيكية ومفاعيلها المتشعبة على الصعيدين الفردي والجمعي.

تتجوهر المعضلة الرومانتيكية (التي قادت بعض كبار الرومانتيكيين إلى الانتحار) في تغليب الخاص على العام. لكلٍّ منّا منخفضاته السيكولوجية وتحليقاته المتوهّجة. أحد الموضوعات الإشكالية هو تشخيص ومعرفة مناطق الاشتباك بين الخاص والعام: هل ما نعانيه نتاجُ توعّكاتنا الشخصية أم هو ردّة فعل لما يحصل في العالم، ولو حصل الاشتباك بين الخاص والعام (وهو حاصل بالتأكيد حدّ الصراع القاسي المفضي لنتائج مؤلمة) فكم هو حجمُ منطقة الاشتباك؟ هذه التشخيصات ليست يسيرة، وقد يحصل أن يتداخل الخاص والعام بطريقة مؤذية، وربما نكون نحنُ أحد الأطراف الساعية للنفخ في هذا الاشتباك على طريقة رومانتيكيي القرن التاسع عشر الذين تلذّذوا بمعاناتهم كلّما رأوها تتضخّم ككرة نار جهنّمية. ما أتمنّاه أولاً وقبل كل شيء أن لا يغرق أي شخص ذي ضمير حي في لجّة منطقة الاشتباك بين العام والخاص، وسواء حصل هذا الغرق بطريقة قصدية أو مُتوهّمة. لا يمكن فصل الأوهام عن كثير من ألوان معاناتنا النفسية لأنّ سلوكنا اليومي ليس سوى تمثّل ذهني شديد الخصوصية لما نراه في العالم وعن العالم، وهذه الرؤية مطبوعة ببصماتنا الذهنية والنفسية المتفرّدة كفرادة بصمات أصابعنا.

الحياة عملٌ شاق. ليست هذه العبارة محض عنوان يصلح لكتاب - مثل كتاب البروفسورة كيران سيتيا (Kieran Setiya) المنشور عام 2022 - بل هي قناعة تعززها الخبرة اليومية المتواترة. العالم مكان شديد الخطورة للعيش فيه والتعامل معه. هذه ليست تخريجة رومانتيكية أنتجتها حسّاسية أخلاقية مترفّعة. في العادة أتساءل، وكنوعٍ من التجارب الفكرية المثيرة: لو أنّ إنساناً رفيع الأخلاقيات، معروفاً بصرامة اعتباراته السلوكية، تركناه يتعامل مع البشر لساعة من الزمن - ليس أكثر- هل سيعود بعد هذه التجربة بالمواصفات الرفيعة التي كان عليها؟ لا أظنُّ ذلك.

الحياة عمل شاق، والعالمُ مكان يطفحُ بالسيئين أكثر بكثير من نظائرهم المخالفين لهم في الصفات. هذا ليس اكتشافاً جديداً، إنّه حقيقة أزلية. قد تدفعنا هذه الحقيقة إلى الخراب النفسي والظلام العقلي والشعور بالخواء المطبق؛ لكنّ أحد الامتيازات الكبرى التي تُحسَبُ لنا هي معرفتنا بهذه الحقيقة؛ ومع هذا نبقى محافظين على مخزوننا الاستراتيجي من الطاقة الروحية النشيطة والفاعلة والمؤثرة.

ليس من المروءة أو الإنصاف تحميلُ أنفسنا عبء المعضلة الأخلاقية في هذا العالم. من الواجب أن نعرف أفاعيل الشر في العالم؛ لكن من السذاجة - فضلاً عن عدم الجدوى - أن نتعامل مع هذه الأفاعيل بالطريقة الرومانتيكية المعهودة التي قرأنا عنها. يجب وضعُ حدود صارمة قدر الاستطاعة بين الخاص والعام. المعضلات العالمية أو حتى الإقليمية ليست حكاية حب على شاكلة روميو وجولييت. ما هو ألعنُ من العبء الأخلاقي هو التصارع بين العقل - الضمير: هذه الثنائية التصارعية لا تقلّ شأناً في مترتباتها الأخلاقية والفلسفية عن معضلة الثنائية الديكارتية العقل - الجسد التي ظلّت أحد الأعمدة الجوهرية في المقاربات الفلسفية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم. لماذا نحمّلُ أنفسنا هذا العبء الأخلاقي باهض التكاليف؟ لا أقول هذا من باب تسكين الروح القلقة المحمّلة بالنزوع الإنساني الفائق؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا أنّ خسارة أرواحنا لن تضيف شيئاً ولن تصنع فارقاً سوى زيادة مناسيب القباحة في هذا العالم، وليس هذا بالأمر المقبول في سياق المحاججة المنطقية الباردة أو في سياق مواجهة الشر وما تستلزمه من تفكّر وتسبيب للنتائج المتوقّعة. التعامل برومانتيكية فائضة في موضوعات ساخنة عالمية النطاق من حيث المؤثرات والنتائج مَهْلَكَةٌ مؤكدة. ربما سمعنا بمتلازمة القلب الكسير (Broken Heart Syndrome). الحَزَنُ الشديد والمفاجئ قد يدمّرُ قلب المرء ويورده موارد الموت المحتّم. هذا ما حصل لرومانتيكيي القرن التاسع عشر، وهو ما يمكن أن يحصل لأي فرد منّا عندما لا تتوازن الجرعة البراغماتية المطلوبة لديه في التعامل السلوكي اليومي مع حجم ردة الفعل الأخلاقية.

حتى لا أبقى في نطاق الأعالي التنظيرية سأتناول مثالاً مؤثراً على كامل مساحة العالم ولكل البشر بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان والجغرافية المحلية: الأغذية المعدّلة وراثياً (Genetically Modified Crops). لماذا لجأ العالمُ لهذه التقنية الثورية في زيادة غلّة المحاصيل والحفاظ عليها من التلف؟ لكي يستطيع إطعام المليارات المتزايدة من البشر، ولولا هذه التقنية لحلّت بالبشرية مجاعة كارثية رهيبة. صحيحٌ أنّ مذاقات الأطعمة لم تعد مثلما كانت. صارت الطماطم والقرنبيط وسواهما من الفواكه والخضراوات أشكالاً هندسية بديعة لكنها تفتقدُ إلى المذاق الأصيل للثمار غير المعاملة وراثياً. هذا جزء من التضحية التي يجب أن نقبل بها حتى لا يجوع مليارات البشر في العالم. إنها موازنة براغماتية دقيقة بين اللذة الشخصية والمصلحة الجمعية. لا تخلو كل فعالية عالمية النطاق من تحقيق مصالح لبعض الأطراف (شركات، حكومات، أفراداً أثرياء...)؛ لكنّ الحقيقة البيّنة أنّ الأغذية المعدلة وراثياً أنقذت البشر من مجاعة مهلكة. من الأفضل دوماً أن نؤكّد الحقيقة المركزية ولا نتغافل عنها بالتركيز على موضوعات جانبية سلبية مقترنة بكلّ فعالية بشرية. هكذا هي بعض حقائق الحياة التي نعيش. من هذه الموضوعات السلبية - مثلاً - أنّ الأغذية المعدّلة وراثياً قد تتسبب ببعض العلل وأنواع من السرطانات عقب عشرين سنة من تناولها المفرط. لنفترض صحة هذا الرأي. كم هي نسبة الإصابة؟ يقولون إنها لن تتعدى الواحد بالألف. أتساءل: لو امتلكتَ مصباح علي بابا السحري وعرفتَ أنّ «فلاناً» من البشر سيصابُ بالسرطان بعد عشرين سنة، ولو خيّرتَه بين السرطان أو الموت جوعاً، أيهما تظنُّ سيختار؟ أظنّ أنّ موتاً بعد عشرين سنة بمعدة ممتلئة أفضل من موت آني بشع بمعدة جائعة. برغم هذا ثمة فائض من الرفاهية ما زلنا نمتلكها، إذ يمكن لمن يريد أن يتبضّع أغذية عضوية بتكاليف تبلغ في العادة أربعة أضعاف تكاليف الأغذية المعدلة وراثياً. هل بعد كلّ هذه الرفاهية في الخيارات المتاحة نتحسر على عصر كنّا نأكل فيه طعاماً عضوياً؟ إنها رومانتيكية فائضة من مخلفات العصر الرومانتيكي الذي رأى في الآلة تحطيماً لروح الإنسان، وتناسى أنّ الآلة (التقنيات بمعنى أعمّ) هي التي رفعته في مرتقيات أعلى مقاماً على المستويين المادي والرمزي. يبقى على المرء أن يصمّم مقاربته الشخصية لبلوغ حالة التوازن بين العام والخاص.

الحياة الشخصية منحة مباركة وهِبَةُ ثمينة يجب أن نعيشها ولا نفرّط بها تحت أي شعار إنساني أو آيديولوجي، أو تحت ضغط أثقال نفسية وعقلية رهيبة ناجمة عن التصارع بين متطلبات الفضاء الخاص واشتراطات الحياة في الفضاء العام.

لم أكنْ واعياً بوجود الشر لأنني لم أكنْ أغادرُ المنزل

أتمنّى ألا نكتفي بتحويل منخفضاتنا النفسية - المتوقّعة بين حين وآخر - مرتفعاتٍ تسعى للتخوم البعيدة. ما أتمنّاه هو فضّ اشتباك صارم بين الخاص والعام، وأن تستعيد أرواحنا وعقولنا المنهكة من فرط التفكير غير المنتج ألقها وتوهجها بعيداً عن مؤثرات الإجهاد والإنهاك. لن نكسب شيئاً لو خسرنا أنفسنا. سنخسر حينها أنفسنا ومن نحب وما نحب.

تبدو الرومانتيكية الفائضة خصيصة شخصية تستمدّ مغذياتها من نقص المعرفة والخبرة. عندما يصبح المرء تجسيداً للمثال البورخسي (بمعنى المثال الذي حكى عنه بورخيس) حيث المرء يفضّلُ الانكفاء على معرفته السابقة وخبرته القديمة فحينها تتفجر فيه ينابيع الرومانتيكية التي قد تدفع صاحبها للغرق، ومعها تغرق كلّ أحلامه وتطلعاته. لا أظنّ أنّ من الحكمة غضَّ الطرف عن «الشر الذي في العالم» والانكفاء في منزل لا نبارحه، ويطيب لنا فيه رسمُ صورٍ عن العالم كيفما نشاء.

الحياة ميدانُ تسوياتٍ مستديمة، وما لم ننجح في إدامة تلك التسويات بمزيج متوازن من الرغائب الشخصية والإحساس البراغماتي المتناغم مع معادلات الواقع - أو غير المتصادم معها بعنف في أقلّ تقدير- فسننتهي إلى النهاية المفجعة التي انتهى إليها «رومانتيكيو المشرق العربي» وأجاد حازم صاغية في وصف مآلاتها الحزينة.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 21 أغسطس 2024 م ـ 16 صفَر 1446 هـ

انطلاقاً من قراءتنا لنص ابن طفيل الفلسفي «حي بن يقظان»، وجدنا ابن طفيل يرصد أمام فعل التفلسف عائقين أساسيين يقفان دون التمكن لفعل التفلسف في المجتمع الإسلامي، سنقف في هذه المقالة عن العائق الأول والذي يمكن أن نسميه «العائق الملي -الفقهي»، يقول ابن طفيل عن هذا العائق: «والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا إن سؤالك لن يتعدّى أحدهما، هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر. وهذا، أكرمك ﷲ بولايته، شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدم من الكبريت الأحمر، ولاسيما في هذا الصقع الذي نحن فيه [يعني الأندلس]، لأنه من الغرابة في حدّ لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد. ومن ظفر منه بشيء لم يكلم الناس به إلا رمزا، فإن الملة الحنفية والشرعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت عنه».

يكشف هذا النص عن وعي ابن طفيل بحدود الممارسة الفلسفية في المجتمع الإسلامي، وهي حدود تفرضها ملة الإسلام نفسها، وهي الملة التي تشكل قاعدة الوعي الديني وآصرة التماسك الاجتماعي عند المسلمين، وخاصة إذا تناولت هذه الممارسة الموضوعات «الملية» الحساسة، كموضوع المشاهدة، وغيرها من الموضوعات التي تُحرج ما تعوَّد عليه المسلمون في بادئ رأيهم المشهور عن الملّة، كما أكد ابن رشد من أن الكلام في علم الباري سبحانه بذاته مما يحرم أن يطرق في حال المناظرة فضلاً عن أن يثبت في كتاب، وعلل ذلك الموقف أن الخوض في هذه الدقائق يبطل العقيدة المقررة عند النّاس في القرآن الكريم، وله في كتاب «مناهج الأدلة» كلام قوي في هذا المجال.

لقد شعر فلاسفتنا أن هناك منطقة محرمة لا يجب أن يقتحمها فعل التفلسف، لما قد يترتب عن ذلك من أضرار فكرية ونفسية واجتماعية، وقد أبان ابن طفيل بأسلوبه السردي كيف يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية، وذلك من خلال وصفه العلاقة المتوترة التي جمعت الفيلسوف «حي بن يقظان» بجمهور «سالامان»، فبمجرد ما شرع «حي» يصرح بحقائقه الفلسفية لجمهور سالامان إلا وقد تفرقوا عنه ونبوا، وأظهروا له العداوة والشقاق، بعد أن كانوا قد اثنوا عليه وأكرموه وأجلّوه، مما اضطرّه إلى مغادرتهم إلى جزيرته، رمزا لفصل الممارسة الفلسفية عن الممارسة الشرعية الجمهورية، ورمزا لما يعرف بـ«فشل الفيلسوف» كما أبان عنه ابن باجة في كتابه الفريد «تدبير المتوحد»، أيضاً.

لكن هل يعني هذا توقف فعل التفلسف؟

لقد عالج ابن طفيل فضوله المعرفي النظري الفلسفي، الذي هو فضول قوي وأساسي لتقدم المعرفة العلمية، وهو الفضول الذي لا يحظى عند الجمهور بكبير عناية، باللجوء إلى الرمز والإيماض وعياً منه من أن أهل الذّكاء والخُلَّص من أهل العلم سيفيدون من كلامه ويبنون عليه ما هو كفيل بتطوير الممارسة العلمية، التي لا تتقدم إلا بالتّراكم المعرفي، وتحقيقاً للكمال الإنساني الذي سيصبح مع ابن طفيل خلاصاً ذاتياً، وأصبح مع ابن باجة خلاصاً للمجتمع العلمي الحقيقي والافتراضي، وهو ما سيجسده العصر الحديث الذي جعل الخلاص خلاصاً علمياً جماعياً في المختبرات العلمية التي ينفصل فيها الباحث عن الجمهور، وينذر كل وقته للبحث العلمي في مجالات العلم المختلفة إنسانية كانت أم علوماً حقة، إسهاماً منه في تنوير مجتمعه ليفهم، مع الزمن وتغيّر البنية الذهنية، أنه بجرأة العلم والعقل فقط تُقتحم غياهب الجهل والتخلف، خاصة عندما تُرى إنتاجات عمله وتُقيَّمُ التقييم الصحيح.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 23 أغسطس 2024

 

عندما يُستخدم سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً

ما العلاقة بين كامالا هاريس، وترمب، وبودلير؟ للوهلة الأولى لا شيء، فمرشحا الانتخابات الأميركية شخصيتان سياسيتان، أما بودلير فقد كرّس حياته للكتابة. لكنَّ الشاعر الفرنسي دخل بصفة غير مباشرة الحملة الانتخابية الأميركية، واستطاع أن يفسر لنا بنظريته حول الضحك وباستنتاج منطقي حجم الخطأ الذي ارتكبه ترمب وفريقه حين اختاروا استراتيجية الهجوم على كامالا هاريس مستخدمين سلاح «الضحك».

كامالا هاريس

الباحثة وأستاذة الأدب الفرنسي في جامعة «أكزيتر» البريطانية ماريا سكوت، شرحت في مقال بموقع «ثي كنفرسيشن» يحمل عنوان «الاستهزاء بضحكة كامالا هاريس استراتيجية غير مضمونة وفقاً لبودلير»، أنه كان من المفروض على المرشح الأميركي وفريقه أن يقرأوا أعمال الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، ولو فعلوا لما اختاروا «الضحك» للهجوم. صاحب ديوان «أزهار الشر» يشرح الفكرة في محاولة نثرية عنوانها «جوهر الضحك» نُشرت عام 1855، يميز فيها بين الضحك الذي يهدف إلى السخرية والازدراء من أشخاص نعتقد أننا متفوقون عليهم (ضحك ترمب) والضحك الهزلي البريء الذي يؤدي إلى نشر روح البهجة والتعاطف (ضحك هاريس)، وقد شرح ذلك عبر مفهومَي «المُضحك العادي le comique ordinaire» و«المُضحك الهزلي le comique grotesque»، إذ كتب كأنه يصف شيئاً رآه: «رجل ممدَّد في الشارع، يتعثر على مدرج الطريق ويتسبب في سقوط تاجه. وعلى مرأى هذا الرجل الملقى في الشارع، يبدأ الآخرون في الضحك». يستنتج بودلير أن الضحك هنا شّر وأنه تصرُّف شيطاني وعلامة على الخطيئة الأصلية حتى إنه كتب «الرجل الحكيم لا يضحك إلا وهو يرتجف».

ويواصل الشاعر موضحاً أن الحكماء يخافون من الضحك لأنهم يشعرون بوجود «تناقض سرِّي» بين الحكمة والضحك، وأن المجانين وحدهم هم من يضحكون، لأنهم لا يدركون ضعفهم ويظنون أنهم عظماء. وكان الضحك الذي يسميه بودلير «عادياً» قد نظّر له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وهو الضحك الذي يثيره مشهد تعثر شخص ما وسقوطه. وما يجعلنا نضحك، وفقاً لهوبز، هو الاعتراف بـ«تفوقنا» على الشخص الذي نراه يسقط. وقد تبنّى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون أيضاً هذه النظرة إلى الضحك في كتابه «الضحك» (1990). فبالنسبة إلى برغسون، نحن نضحك على الآخرين عندما يتصرفون مثل الكائنات الميكانيكية، ونفعل ذلك كنوع من التنشئة الاجتماعية: لتشجيعهم على أن يكونوا أكثر إنسانية.

نظرية التفوق تفسر إذن لماذا نضحك على غباء الآخرين أو على المهرّجين، ومع ذلك، عندما يُستخدم الضحك سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، إذ يوجب علينا الأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين: أولاهما العلاقة المركبة بين الفكاهة والتعاطف. فالروائي والكاتب المسرحي ستندال الذي قضى جزءاً من حياته محاولاً كتابة الكوميديا، كان يجد صعوبة في كتابة شخصيات فكاهية لأنها، كما كان يقول، تثير التعاطف وتمنع عموماً مشاعر الازدراء. وهنا المفارقة: فالفكاهة تخلق روابط من التعاطف بين الأشخاص الذين يتشاركون النكتة ويضحكون بينهم لكنّ الأشخاص أنفسهم لا يشعرون بأي تعاطف مع موضوع النكتة. ولكن ماذا يحدث لو أن الشخص موضوع النكتة يضحك بنفسه أيضاً كما هو الحال مع السيدة كامالا هاريس؟ في هذه الحالة قد يحّل التعاطف مع الشخص الضاحك محل الازدراء. وبعبارة أخرى، ترمب يريدنا أن نضحك على كامالا هاريس بغرض الاستهزاء بها ولكن ما يحدث هو أننا نضحك معها بدلاً من الضحك عليها. وهو ما يشرحه بودلير في «جوهر الضحك» حين يكتب: «الممثل الذي يقع على خشبة المسرح هو أول من يضحك، ضحكة بريئة متفوقة، فهو قادر على أن يكون نفسه وشخصاً آخر في أن واحد، هو مدرك لوضعه لكنه لا يخشى أن يصبح مثيراً للضحك: يسقط الرجل في الشارع، فيستقيم وينفجر ضاحكاً، إنه رجل حكيم ساخر...».

تكتب الباحثة ماريا سكوت في موقع «ثي كنفرسيشن»: أليست كامالا هاريس هي هذا «المُضحك الهزلي» الذي يتحدث عنه بودلير؟ تضحك مع الآخرين، لا عليهم، كما يفعل ترمب. صحيفة «سلات» أكدت الفكرة في مقال بعنوان «القصّة وراء نكتة شجرة جوز الهند لكامالا هاريس» جاء فيه ما يلي: «كيف أصبحت نكتة شجرة جوز الهند you think you just fell out of coconut tree متداولة بكثرة في شبكات التواصل؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكنَّ الطريقة (شبه المُحرجة) التي تروي بها القصّة والضحكة المدوية التي تختمها بها قد جلبت لها بالتأكيد التعاطف ومزيداً من الأنصار. خصومها حاولوا استغلال القصّة للاستهزاء بها، لكنَّ السخرية الذاتية التي اعتمدها أنصارها قلبت السحر على الساحر»... وإذا كنا نستطيع الضحك مع الآخرين وليس الضحك عليهم فهذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي تنتج عن استعمال الضحك سلاحاً سياسياً وهي قوة «الفرحة»، هذه العبارة المتداولة بقوة في التعليقات السياسية والرسائل التي ترد بخصوص ضحك كامالا هاريس، حتى أصبحت بمثابة العمود الفقري لحملتها خلال الأيام الماضية. وإن لم تكن نظرية بودلير حول الضحك كافية، فإن مراقبين كثراً قد لاحظوا أيضاً أن وضع الضحك في قلب الحملة الانتخابية بين رجل وامرأة يحمل في طياته مشاعر الازدراء وكره النساء والغرض منه التمييز بين ضحك الرجال «الجيد»، الذي يفترض أنه محترم، وضحك النساء «السيئ»، غير اللائق وغير المحترم. شخصيات أدبية كثيرة تطرَّقت إلى هذا التمييز، وهو ما شرحته الباحثة المختصة في تاريخ الأدب سابين ملشيور بوني في كتابها «النساء والضحك» (دار نشر بوف) حين قالت إن «الضحك والقدرة على الإضحاك ظلَّا لفترة طويلة حكراً على الرجال، بل إن ضحك المرأة قد يبدو خطيراً وعلامة من علامات الوقاحة، وناقلاً للجنون والهستيريا». المرأة التي تضحك كثيراً هي إذن امرأة «مجنونة»، وقد يكون هذا ما حاول ترمب إقناعنا به حين صرّح في تجمع ميشيغان في العشرين من شهر يوليو (تموز)، حين قال: «أنا أسميها كامالا الضاحكة، هل شاهدتموها وهي تضحك؟ إنها مجنونة. تعلمون أننا نستطيع معرفة الكثير من الضحكة. لا، إنها مجنونة. بالتأكيد إنها مجنونة». هذا المنطق الكاره للنساء حاربه كثير من الشخصيات الأدبية. فمارغريت دوراس، مثلاً، تحدَّت السلطة الذكورية في كثير من أعمالها مستعملةً الضحك والسخرية. ورأت فرجينيا وولف، رغم المآسي التي مرَّت بها، فعل الضحك خاصّية «تحريرية» وقد تحدثت عن ذلك في مقال رائع نشرته في صحيفة «الغارديان» عام 1905 بعنوان «قيمة الضحك» تقول فيه إن الضحك يفتح أعيننا لأنه «يرينا الكائنات كما هي، مجردة من زخارف الثروة والمرتبة الاجتماعية والتعليم».

***

باريس: أنيسة مخالدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 أغسطس 2024 م ـ 14 صفَر 1446 هـ

(الفلسفة كفاح ضد سحر اللغة لذكائنا)

لودفيك فيدجنشتين

***

مقدمة

مجموعة أسئلة تطرح نفسها عند محاولة فهم أطروحة طه عبد الرحمن، ولعل أهمها هل فلسفته فعلا أصيلة ومبتكرة كما يحاول أن يقنعنا بذلك، هو وكل المتحمسين له ومعه؟ وهو سؤال تتفرع عنه أسئلة من قبيل أين تتجلى أصالته إن اتفقنا على وجودها؟ هل في قطيعته مع التراث؟ أم مع الفلسفة الغربية؟ وهل تجاوز المدرسية التي ينعت بها الآخرين؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون طموحا أو حتى ادعاء يغطي بما فكر فيه من قبل بكلمات تبدو مبتكرة لتدل على أفكار غير ذلك؟ وما هو السرّ المعلن والمضمر خلف ذلك الادعاء والمنحى؟

هذا ما سنحاول توضيحه في هذه العجالة التفكيكية التي لن تهتم إلا بالمحاضرة على أساس البحث في المزالق المنهجية والمتناقض المنطقي والفكري.

وحتى لا نسقط في الارتجال والنقد العفوي، نطرح أوليات غير مغلقة نعتبرها تقود تفكيرنا بالمنهج الحذر وليس بوصفها معيارا نهائيا يرجع إليه خوفا من الضلال.

الأولية الأولى: الفلسفة فلسفة وكفى، وهي ليست بحاجة أن يكون لها دين، أو حتى ثقافة دينية أو وطنا دينيا؛

الأولية الثانية: يمكن التفكير في الدين وبالدين ودون الحاجة إلى فلسفة.

الأولية الثالثة: يجب الفصل المنهجي بين الفلسفة والدين، دون إلغاء مطلق للتماس، مع إمكانية أن يفكر الدين في الفلسفة كدين، وأن تفكر الفلسفة في الدين كفلسفة.

الأولية الرابعة: الفلسفة دوما بصيغة الجمع، والقول عنها وفيها يستوجب التعيين ويستحسن أن يكون معلنا؛

الأولية الخامسة: الفلسفة أصيلة بماهيتها ولا تحتاج إلى تأصيل خارجها؛

الأولية السادسة: اللغة رغم أهميتها فهي ليست الفكر؛

الأولية السابعة: التفكير أوسع من المنطق...

عنوان المحاضرة: كيف ننشئ فلسفة إسلامية أصيلة؟ البحث في الكيف يدل على تمهيد الطريق ووضع معالم لها لمن يريد المسير، بلغة علوم المعرفة هو بحث في المنهج، وهو هنا يروم الإنشاء وربما البناء من الصفر للفيلسوف، لكن باتباع خطوات ربانية حددها قبل ذلك النبي، وهي فكرة تذكرنا بالفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة التي يجب أن يحكمها نبي أو فيلسوف، دون أن يذكر صاحب المحاضرة أيًّا من الفلاسفة التراثيين الكبار سواء الفارابي، على الأقل بالنسبة إلى هذه الفكرة المحورية؛ أو ابن سينا؛ أو الغزالي في الانتقال من العقل إلى الحدس، والنور الذي يقذفه الله في القلوب، أو ابن رشد الذي يكاد يكون خطاطة عامة وصورية للمحاضرة كلها، رغم موقف طه عبد لرحمن السلبي من فيلسوف قرطبة.

عندما نفحص لفظ فيلسوف نجده بصيغة المفرد كأنه ليس هناك سوى فلسفة واحدة، وربما يقصد بها فلسفة واحدة تقادمت وهي الوضعية، في حين أن للفلسفة، وخاصة المعاصرة أكثر من تعريف وتعيين.

ماذا يعني طه بالإسلامي؟ هل نسبة إلى الثقافة الإسلامية وهو الأجدر؟ أم بالنسبة إلى الدين، وهو ما مال إليه بتسمية المسلم في المتن.

منذ العنوان نجد أن الأمر جد مرتبك، سواء في تحديد الموضوع في الكيف والمنهج أم بنعت الفيلسوف بصيغة المفرد، والإسلامي بدلالة الدين، ثم يضيف إلى كل ذلك لفظ الأصيل للدلالة على إمكانية أن يكون هناك فيلسوف مسلم غير أصيل، وهو يقصد هنا من تشبع بالفلسفة اليونانية والغربية حتى ولو كان مسلما، وهو يلمز إلى ابن رشد من القدماء، والذي يعتبره يونانيا بلغة عربية، والجابري وغيره من زملائه من المعاصرين.

أخيرا لو أزال الفيلسوف لفظ فلسفة من المحاضرة ليستقيم الخطاب على البحث في نهج النبوة الذي هو في الحقيقة التعريفية والعقدية لا حاجة له إلى الفلسفة، اللهم إذا كانت الفلسفة تعني نوعا من ترتيب الكلام بأبواب ومقدمات تنتج عنها نتائج طوطولوجية تقترب من التمارين اللغوية والمنطقية الصورية، وليس من التفكير والبحث عن الحقيقة.

الغايات من المحاضرة:

الغاية الأولى:

-  يفصح الفيلسوف طه عبد الرحمن ومنذ بداية كلامه على أن الغاية من مبادرته هي الدلالة على "بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن يهتدي بها الفيلسوف المسلم" وليس الإسلامي عكس ما في العنوان، لكنه يستطرد قائلا بكونه يتوخى وضعها؛ أي الفلسفة هذه، ضمن التداول الإسلامي، وهو التعيين الذي يشبه الثقافة الإسلامية وليس الدين الإسلامي. هذا التردد بين الثقافة والدين له مدلوله المنهجي والنفسي الذي يتجلى في عدم القدرة على التضحية بالمكونات الشخصية للمسار الفلسفي المنطقي من جهة وتصوره الخاص للعقيدة من جهة ثانية، وهي ازدواجية جد ملازمة لفكره.

الغاية الثانية:

-  أنس المتلقي المسلم، وهو يقصد هنا حتى غير الفيلسوف، وبلغته، حتى لا "يستوحش الفلسفة"، والتي تأتي من هناك الغربي مضمرا. يتعلق الأمر إذن بغاية بيداغوجية أو حتى دعوية في إطار الدفاع وليس محاولة الفهم والتحليل. هي دعوة إلى فلسفة تريد البقاء في الألفة ومنطقة الأمان بعيدًا عن الدهشة والتساؤل والنقد، وهي الوظائف والخاصيات المحايثة للتفلسف، وقد انتبه هو نفسه عندما اعتبر مقالته فقه الفلسفة وليس فلسفة.

الغاية الثالثة:

-  وضع أصول في "فقه الفلسفة"، وهي غاية تبدو دقيقة لكنها تتعارض مع العنوان، والذي كان ينبغي أن يتحول بذلك إلى "كيف ننشئ فقه فلسفة إسلامية أصيلة". أو منهج تفلسف المسلم، وليس الإسلامي.

بعد طرحه للغايات يصل إلى وضع الأصول، فيضطر إلى تحديد تصوره للتصور الفلسفي السائد في العالم، ويحصره في تصورين، العلمي والمعرفي، وهو الحصر الذي سيقود إلى انزلاقات عديدة؛ لأنه يقصي تصورا ثالثا هو التصور الفلسفي نفسه، تصورها لنفسها، وبذلك يقصي مباحث جوهرية وفعالة في الفلسفة عامة والمعاصرة خاصة تضع العلم والمعرفة نفسهما موضع تحليل فلسفي.

عندما يصف الفلسفة بالحكمة لا يجانب الصواب، لكنه سرعان ما يلتفت لحركة واحدة فحسب للفلسفة كحكمة تبحث عن الحقيقة وهي التطورية، غافلا عن الانتشار؛ والركود؛ أو حتى العودة إلى الينابيع الأولى للتفلسف وفق كون الفلسفة لا تاريخ لها كما ينعتها ميشال فوكو.

اعتماده التطورية أوصلته في تصوره إلى محطة نهائية واحدة للفلسفة، وهي البحث عن الحقيقة المستمدة من الواقع وتبعيتها للعلم، وبذلك يغفل عن غنى الفلسفة وكيف أنها تشتغل في الواقعي وغير الواقعي والذي تنتقده أحيانا، وتتخيل بدائل له وأوضاع أخرى أفضل للإنسان كما في الفلسفات السياسية والحقوقية والبيئية، وحتى العلمية.

وكما أوقف قطار الفلسفة عند محطة واحدة هي محطة الانكباب على فهم الواقع وربط الأمر بالعلم "وتحصيل القوانين الموضوعية"، وهو مزلق كان سيتفاداه لو استنجد بعلوم المعرفة والمنهج والابستمولوجيا ليصل إلى تعاريف عديدة للعلم وليس إلى تعريف واحد. واعتماده "العلم الموضوعي" نقص في تعريف الموضوعية نظرا لكون مياه كثيرة جرت تحت قنطرة العلوم سواء النظرية أو الطبيعية أو الإنسانية.

بعد ذلك يحكم على هذا التصور الذي أسماه علميا للفلسفة برياضة لغوية عزيزة عليه بمبادئ تصنيفية تبتسر الواقع والفكر والحقيقة.

ثم يعود ليخضع "الحكمة" للتصور الذي يضيق، حتى يرسو عند القيمة "المستمدة من الذات"، وهذا في رأيه التصور المعرفي للفلسفة بعدما ناقش ما أسماه بالتصور العلمي للفلسفة، وهو اختلاف بين التصورين لا يفسره.

ويخلص الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى أن الفيلسوف المسلم يحتاج إلى أن يستشكل بناء على منظور أمته، هكذا، من أجل بيان الطريق الذي يخرج الإنسان المعاصر من "تسفله" مع كون الخلاص لكافة الناس يجب أن يأتي من الأمة المسلمة.

في الأصل الثاني يفرض على الفيلسوف المسلم أن يقرر إرجاع "تسفل الإنسان" إلى "تسييب العلم" و"تجريد المعرفة" وإرجاع التسييب إلى استقلال العلم عن الفلسفة، ليصبح خاضعا "للحسابية" و"الإنتاجية" و"المردودية" و"الفعالية"، وهو تصور مختزل للعلم؛ لأنه ليس كل علم حسابي، كما أنه ليس كله إنتاجيا، هو كأستاذ باحث يعرف أن هناك البحث الأساسي الذي لا يهتم في أن يطبق أو لا، ولا في أن ينتج أولا.

يجب على العلم أن يخضع للحكمة بعدا عن التسييب والاستمتاع، وهو في مظهره نقد رصين لكن في مضمونه، وحتى في لغته يقترب كثيرا من حجاج الحس المشترك وأقاويل المشتغلين في الدفاع عن العقيدة الإسلامية من أمثال أصحاب الاعجاز وغيرهم.

في الفصل الثالث يفرض أيضا "ينبغي" على الفيلسوف المسلم أن يشتغل في كيفية دفع آفتي التسييب والتجريد لتطال عموم الانسان خارج مجاله التداولي مبررا ذلك بدفع التسييب التقني والتجرد القيمي أولا، وثانيا من أجل التوجه نحو الكونية كهوية للفلسفة. أما الثالث، فهو ديني يتجلى في كون الدعوة الإسلامية كونية. ثم يستنتج لزوما كون الأصالة لا تعني الانغلاق على الذات تراثيا بل هناك ضرورة الانفتاح الواعي، ليخلص إلى الكونية في آخر المطاف حسب تعبيره، إنما هي الارتقاء بالخصوصية التداولية حتى تنفتح عن خصوصيات أخرى للعالم، وهو كلام يبدو سليما وربما فهم فيه نوع من التسامح وقبول الاختلاف، وهي المفاهيم الغائبة كلية في المتن، وما أن تفحص عن قرب تصبح متهافتة؛ لأن الخصوصيات المعتمدة لديه دينية، بينما الخصوصيات الكونية تشمل الديني وغيره، لنعود مرة أخرى إلى نقطة الانطلاق كدعوة إلى نشر القيم الخصوصية للأمة على الكون.

مزالق تجاوز المنهجية العلمية:

-  عدم التعريف الدقيق والشمولي لمفاهيم كبرى وحاسمة في بناء الأطروحة مثل الفلسفة؛ والإسلام؛ والمعرفة؛ والعلم؛ والحقيقة، وهو الأمر الذي لو تم لمنع الأطروحة من كثير من التهافت.

- لم يحدد ماذا يقصده بالفلسفة؟ أو بصيغة أدق أي فلسفة؟ حيث تكلم عنها بصيغة المفرد الذي يشبه تعريف الحس المشترك لها أو التعريف الديني المتورط. كما أنه لم يتحدث عن أي إسلام يتحدث، هل هو إسلام الفقهاء والشريعة؟ أم إسلام علماء الكلام؟ أم الفلاسفة؟ أم عموم المسلمين؟ رغم انتصاره كما يقرأ داخل السطور للإسلام الصوفي، والذي هو في عمقه اسلام الفردانية والحدس واقتياد الجماهير بالوجدان والعاطفة.

-  المعيارية...

-  التطورية؛ قوله بالأطوار، كل طور يكون أكثر تضييقا لمدلول الحقية والفلسفة والمعرفة ليس دوما صحيحا، فقد تتوسع المعارف والعلوم وتتوسع الفلسفة بتوسعهما وكذلك مدلول الحقيقة.

-  الحقيقة في الفلسفة المعاصرة لا تستمد من الواقع فحسب، بل ومن النظر وحتى الخيال وما ينبغي أن يكون سياسيا وأخلاقيا.

شغف المحاضر بالتصنيف والتنضيد ووضع الأفكار في الخانات يجبره على الاختزال، حيث يحصر الإدراك في "الاقتناص" الذي غايته "الامتلاك العقلي"، في حين أن الإدراك أعقد لو اطلع على على الفينومينولوجيا كفاية؛ أو على علوم المعرفة لأدرك أن العمليات الذهنية الصرفة لا وجود لها، فهي مرتبطة، بالتحفيز والملهم والماضي من التجارب، ثم يربط الإدراك أيضا بالاستعمال وبذلك يقضي على التحديد الأول للفلسفة، والذي هو البحث في الحقيقة بما هي حقيقة، وليس بما هي استعمال، ثم يقترح "الإتمان" كنقيض للامتلاك، وهي عودة إلى المعتقد الذي لا يؤمن به كل الناس وكل الفلاسفة.

من مزالق هذا المتن أيضا حكمه في الأصل الخامس على كون "الصورة العلمية للفلسفة" تخرج الفلسفة من أصلها، وهو تهافت يرجع لعدم التعريف الدقيق للعلم كما سبق ووضحنا وربطه تضييقا بالآلة وبالوقائع، وهي ليست سوى أجزاء لتطبيقات العلم فحسب.

في الفصل السادس ينزلق الفكر المنفعل نحو نوع من فورة الحس المشترك في الحديث عن المراتب والسعات للأنشطة المعرفية حين يضع الحكمة تسع العلم وتعلو عليه، ولا يستطيع أن يتصور عكس علوم المعرفة اشتغالهما سوية وتظافرا، وأن الاجتماعي هو من يمكن أن يفصل بينها.

في الأصل الثامن يرفض التشبه الإلهي الذي يرى بأنه أسلوب فلسفي ويفضل عليه الاقتداء بالنبي، سواء في المنهج العقلي أو المسلك الخلقي منوّهًا بالصدق الذي عرف به كأسمى القيم العقلية نحو توحيد الربوبية والاتصال بالأفق الإلهي. الصدق يوصل إلى التوحيد والأمانة إلى العدل.

أخيرا يختم طه عبد الرحمن محاضرته بالدعوة الصريحة للحكمة والتخلي الصريح عن العلم، ودفع "التسفل" الذي يسببه "التسييب التقني" و"التسييب القيمي"، ويقترح علاج تهذيب العلم وتسديد المعرفة نحو رتبة "الصديقية" عودة إلى الفطرة التي جاء الدين على وفقها.

وعند الاقتراب من هذه النفحة الدينية نجده رغم ادعائه الاقتداء بالنبي يخرج عن المنطق الديني كما خرج عن المنطقي الفلسفي والعلمي. النبوة وحي ينزل من السماء وليس يصعد من صفات النبي.

خلاصة

هل جاء طه عبد الرحمن بمنهج أصيل يفيد الاستقلال الفلسفي؟

إن تجنب طه عبد الرحمن للمنهج العلمي موقف لا معرفي ولا تاريخي ولا أخلاقي، فهو نوع من المغامرة الفردانية التي تحاول أن تسبح في الفراغ، حيث المزالق والتهافت. إنه تجنب غير علمي وغير معرفي وغير فلسفي، إنما هو تجنب انفعالي، وبذلك يمكن للعمل برمته أن يعود إلى الحس المشترك ليس كفطرة وإنما كفورة.

ومع مثل هذه المشاريع الدعوية، لا نبرح المكان منذ السؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؛ لأنه ببساطة لم نتجاوز منطق الدعوة والانفعال نحو الفعل المثمر المتواضع الذي يعرف. إنه ممكن أن يخطئ في أي حين وأن يصحح، حتى يمتلك ناصية الأفكار والوقائع بفهم منطقها ومحاولة تدبيره بالملاءمة.

***

بن محمد قسطاني - أستاذ التعليم العالي -المغرب

 عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 19 أغسطس 2024

قبل عشرين سنة رحل الفيلسوف والأديب التونسي محمود المسعدي الذي كان نموذجاً فريداً في الساحة الثقافية والفكرية العربية من حيث منحى النظر ونوعية الكتابة وطبيعة أسلوب التعبير.

عندما أصدر مسرحيته الشهيرة «السد» في نهاية الخمسينيات، احتفى بها طه حسين، واعتبرها فتحاً جديداً في العمل الإبداعي العربي من حيث اللغة التراثية الرصينة، والأفكار الفلسفية العميقة التي تندرج في نطاق الموجة الوجودية المسيطرة وقتها، إلى حد التقارب مع رائعة البير كومو «أسطورة سيزيف».

وعندما نشر روايته «حدث أبو هريرة قال» في بداية السبعينيات بعد عقود من ضياع هذا النص الفريد، كانت شكلاً متميزاً من الكتابة الإبداعية، غلب عليها العمق الفلسفي، من حيث معالجتها لمواقف الإنسان الوجودية المتقلبة ما بين تجارب الجسد والسياسة والدين.

لم يكن المسعدي بدعاً من الأدباء العرب الذين اشتغلوا بالتأمل الفلسفي، وفي مقدمة هؤلاء الشاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران الذي أصدر كتاب «النبي» سنة 1923 على غرار رائعة الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا تكلم زرادشت».

ومع أن العديد من كتاب الرواية والشعر سلكوا مسلك التأمل الفلسفي، ومن بينهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وشاعر القضية الفلسطينية محمود درويش، إلا أن الكتابات الأدبية الفلسفية ظلت محدودة نادرة في الساحة العربية.

لا بد من التنبيه هنا أن الأدب شكل منذ فجر التفكير الفلسفي طريقة أساسية من طرق هذا التفكير، بدءاً من قصيد برمنيدس الذي يحمل عنوان «في الطبيعة»، ومحاورات أفلاطون الشعرية. ومع أن أفلاطون نفى الشعراء من جمهوريته، واعتبر الشعر نمطاً من التعبير الخرافي المناهض للعقل والبرهان، إلا أنه وظف الاستعارة والأسطورة والمجاز الأدبي في بلورة ونشر أفكاره الفلسفية.وفي التقليد الإسلامي، بلغ الأدب الفلسفي مكانة عالية على يد فلاسفة معروفين، أمثال ابن سينا وابن طفيل، ولدى أدباء متفلسفين من نوع أبي حيان التوحيدي والجاحظ، بالإضافة إلى الأدبيات الصوفية العرفانية والتي جمعت بين النظر الفلسفي والمجاز التعبيري الأدبي.

ومع بداية عصور الحداثة، أصبحت الرياضيات الصورية نموذج الكتابة الفلسفية، بما نلمسه بوضوح في كتابات ديكارت وسبينوزا ولايبنتز، إلا أن حقبة الأنوار الموالية شهدت طغيان الرواية الفلسفية التي ظهرت بقوة لدى فولتير وروسو ومونتسكيو.

لقد اعتبر فلاسفة الأنوار أن الجمهور العريض غير قادر على استيعاب الأفكار الفلسفية المجردة، ومن ثم ضرورة تقريبها للعموم من خلال العمل السردي والأسلوب الأدبي واسع التأثير.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، برزت كتابات الفيلسوف الألماني نيتشه التي غيرت مجرى التفكير الفلسفي، بنقده الجينالوجي ومنهجه التفكيكي الجذري ونزعته التهكمية الراديكالية. وبقدر ما كان نيتشه فيلسوفاً كبيراً، كان في الوقت نفسه شاعراً متميزاً، جميل الأسلوب، حلو العبارة.مع نيتشه رجعت الفلسفة للشعر، إلى حد أن هايدغر اعتبر أن الشعر هو أسمى مستويات الفكر، وغالباً ما يتقدم على الكتابة الفلسفية نفسها في الكشف عن معنى الوجود. الشعر حسب عبارة هايدغر هو «المكان الذي تتجلى فيه الحقيقة الأصلية»، وهو الأفق المقدس الذي يرتاده الأديب ويعبر عنه. ومن هنا ندرك شغف هايدغر بشعراء من أمثال هولدرلين ورنيه شار، حيث اعتبرهم المصدر الأعمق للتفكير الفلسفي في إشكالاته الراهنة.

في الاتجاه نفسه، يقف بول ريكور عند تجربة السرد باعتباره أكثر من مجرد إبداع أدبي، بل هو نقل للزمن من بنبته الطبيعية وانغلاقه الوجودي إلى الكينونة الإنسانية الحية. السرد ليس تخيلاً خارج الواقع، بل هو إعادة بناء للمعنى والدلالة، وخلق لمعان مبتكرة، واستكشاف لعوالم معيشة قابلة للسكن والارتياد.

الملاحظة التي لا بد من التنبيه إليها هنا، هي أن جل المشتغلين بالفلسفة من العرب المحدثين، اعتمدوا العلم التجريبي والمنطق التحليلي نموذجاً للكتابة الفلسفية، بدلاً من الأدب الذي نظر إليه إجمالاً باعتباره شكلاً من التعبير البياني الذي لا مكان له في الخطاب الفلسفي.ومع أن عبد الرحمن بدوي بدأ إنتاجه الفلسفي الغزير بكتابه الأدبي الجميل عن «نيتشه»، واهتم كثيراً بالأدب والشعر، إلا أنه خلص إلى التمييز الهيغلي الشهير بين جمالية الأدب الاستعارية، وعقلانية المفهوم الفلسفي كطريق وحيد للوصول إلى الحقيقة المطلقة، في حين ميز محمد عابد الجابري بصرامة بين العقل البياني «الأدبي» والعقل البرهاني «الفلسفي».

السؤال الذي نختم به هو: ماذا لو كان طريق الإبداع الفلسفي العربي يتم ضرورة عن طريق الشعر والأدب كما كان يري محمود المسعدي، لا عن طريق العلم والبرهان المنطقي كما اعتقد آخرون؟

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 أغسطس 2024 23:59

كتابه «المأدبة» بدا انتصاراً للحب على الحرب عشية السقوط الأثيني

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر، بل هو العمل الرائد والتأسيسي الذي استطاع أن يدمغ ببصمته الخاصة تاريخ الحب ومفاهيمه والنظريات المتعلقة به في العالم، وفي الثقافة الغربية على نحو خاص. ومع أن تسمية الكتاب قد استندت إلى المأدبة العامرة التي أُقيمت في منزل الشاعر التراجيدي أغاتون، إثر فوزه في مسابقة للدراما تم تنظيمها في أعياد ديونيسيوس، إله الكرمة والزرع والخمر، فإن الفيلسوف اليوناني الأشهر أراد بتلك التسمية أن يتخطى البعد المادي للوليمة، متلمساً بُعديها الثقافي والفلسفي، وموائماً بين غذاء الجسد وغذاء الروح.

على أن أي تأمل عميق في آراء الأشخاص المشاركين في تلك المناظرة النادرة في عمقها وتنوعها، لا بد أن تسبقه وقفة مماثلة عند تاريخ المناظرة نفسها، وهي التي أقيمت في الفترة التي أعقبت اشتعال الحرب الضروس بين أثينا وإسبارطة، وقبل سنوات قليلة من انهيار المدينة التي حملت شعلة التنوير في العالم القديم. ولعل من بين المفارقات التي عكستها مأدبة أفلاطون أنها لم تكن مجرد جلسة للمنادمة والأحاديث الساخرة، تنادى إليها مثقفون أثينيون مختلفو المشارب والثقافات، معظمهم من ذوي النزعات المثلية، بل كانت مطالعة إنسانية في الحب والشغف، لم يظهر بعدها أي تصور للتفكر أو التأمل الديني للرغبة، من دون أن يستند إليها مرجعاً تأسيسياً، وفق المحلل النفسي جاك لاكان.

وإذا كان كل من المشاركين يستند إلى خلفية ثقافية ومعرفية مختلفة، فهو أمر أملاه حرص أفلاطون على تلمّس الحقيقة من غير زاوية ومنظور. وهكذا كان بين المشاركين فيدروس، الفتى المفتون بالميثولوجيا القديمة، وباوسنياس المختص بالقوانين، وأركسيماخوس المهتم بالطب والفنون، وأريستوفان الشاعر الكوميدي، وأغاتون الشاعر التراجيدي المحتفى به، وسقراط الفيلسوف الممتلئ بالحكمة. وحيث كانت أثينا تترنح تحت وطأة الضربات الإسبارطية القاسية، لم يفت أفلاطون أن يلون مأدبته بنكهة حربية، فضم إليها ألكبياديس، أحد قادة الجيش الأثيني.

وإذ يفتتح فيدروس جلسة الحوار، يكشف عن حنينه البالغ إلى الحقبة الوردية لبزوغ الوعي اليوناني، معتبراً إيروس الإله العظيم الذي لا أم له ولا أب، ومشيداً بالأجيال السابقة التي صنع أبطالها الشجعان من أمثال أخيل، مجد اليونان وعظمتها الحقيقية. ويضيف فيدروس أن الحب يدفعنا نحو التصرفات الصائبة، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفقد شرفه أمام محبوبه حتى في لحظات الموت، وأن جيشاً من العشاق قادرٌ على هزيمة أعتى الجيوش وأكثرها بأساً.

ورأى بوسانيوس في مداخلته أن للحب الإيروسي طبيعتين اثنتين، واحدة حسية وأخرى روحية. وهو يعزو هذه الازدواجية إلى أفروديت، إلهة المتعة والجمال، التي كانت مزدوجة الهوية. فثمة أفروديت سماوية وُلدت من دون أم، من إله السماء أورانوس، وأخرى أرضية، هي ابنة زيوس وديونا، التي يسميها بوسانيوس بالوضيعة أو الدنيئة. وعدَّ أركسيماخوس أن الحب يشيع في حركة الطبيعة، ويجسد خير تجسيد حاجة الكون إلى التآلف. وهو إذ يتمتع بقوة عاتية تصعب مقاومتها، فإن هذه القوة «لا تظهر في النفوس البشرية وحدها، بل في الحيوانات والنباتات بقدر مماثل».

بعدها قدّم أرستوفان مطالعة مسهبة حول الحب مفادها أن البشر كانوا منقسمين إلى أجناس ثلاثة، ذكر وأنثى وخنثى، ليضيف بأن أجساد تلك الكائنات كانت مستديرة في السابق، وكان لكل منها أربع أيدٍ وأرجل ووجهان متماثلان، وكانت أجزاؤها السفلى مزدوجة، وحركتها في المشي دائرية أيضاً. وقد ظل شأنهم كذلك إلى أن تطاولوا على سلطة الآلهة، فقرر كبيرها زيوس قسمة كل منهم إلى كائنين اثنين؛ لكي يضعف شأنهم، ولكي ينشغل كل منهم بالبحث المضني عن نصفه المفقود. وحين يتفق لأحدهم أن يلتقي نصفه ذاك، ينتاب كليهما شعور مذهل بالتعلق والتقارب، بحيث لا يرغبان مطلقاً في أن يفترق أحدهما عن الآخر.

ثم تحدث أغاتون، الشاعر التراجيدي المحتفى به، فرفض اعتبار إيروس أقدم الآلهة، بل عدّه أجملها وأصغرها سناً، وأكثرها حرصاً على رفد العالم بالحب والتآلف والإخاء. وهذا الإله بالذات هو الذي يستحق أن تدبج له المدائح، حيث زالت بمولده معظم المنازعات بين الآلهة والبشر، وتراجع في كنفه منسوب الشقاء في السماء والأرض.

أما سقراط، فينسب رأيه في الحب إلى امرأة محنكة تسمى ديوتيما، قائلاً بلسانها إن رغبة الاتحاد في الآخر لا قيمة لها مطلقاً إذا لم تعكس نزوع صاحبها إلى الخير والجمال والخلود. ويضيف سقراط أن بعض البشر يسعون إلى الخلود عن طريق النزوع الجسدي إلى الإنجاب وتأبيد السلالة، في حين أن المبدعين منهم يؤثرون «الحبَل» في أرواحهم، فيسعون إلى إعلاء العقل ومعانقة الجمال الأسمى. وما الجمال الجسدي بشيء يُذكر إزاء ذلك الجمال الذي يشع بالمعرفة والحكمة والسمو الأخلاقي.

وإذ وافق أفلاطون نظراءه على بعض آرائهم، لم يوافق على اعتبار إيروس إلهاً، بل عدّه شيطاناً يلعب دور الوسيط بين البشر والآلهة. وهذه الماهية الشيطانية لإيروس تعود إلى ولادته من علاقة عابرة أقامها بوروس إله الرفاه المخمور، مع بينيا إلهة الفقر، أثناء وليمة صاخبة أقامها الأول احتفاءً بولادة أفروديت. وأضاف بأن إيروس كان خادم أفروديت الأمين لأنه مدين لها بولادته، وأنه كان بطبيعته محباً للجمال لأن أفروديت كانت تتمتع بجمال أخاذ. كما أن نظرية أفلاطون عن إيروس تقوم على مزاوجة جدلية بين المتناقضات، كالفقر والثراء، الحكمة والجهل، القسوة والرقة، والموت والخلود.

على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس

ويؤكد أفلاطون أن الحب لا يتم توسله بالعقل وحده، بل إن للقلب إسهامه المهم في الانتقال من المجال الحسي إلى الروحي، ومن النسبي إلى المطلق. كما أن على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس، بما يسمح للسالك أن يتحرر من عبودية التعلق بهذه المرأة أو ذلك الفتى، لكي يتمكن من رؤية الجمال الأزلي الذي هو الغاية القصوى لكل من الفكر والعاطفة.

وإذا كانت آراء أفلاطون في الحب قد شكّلت المرتكز الأهم لنظريات الحب في العالم، وفي الغرب المسيحي على وجه الخصوص، فإن الكثير من الفلاسفة والنقاد لم يروا في تلك الآراء ما يتعارض مع مبدأ العلاقة الجسدية الهادفة إلى حفظ النوع بشكل مطلق، بل مع تحول النزوع الشهواني غايةً وحيدةً ونهائيةً. ولعل غلو البعض في شططهم الروحي، هو الذي دفع هؤلاء إلى تحوير الحب الأفلاطوني وفصله التام عن طبيعته الجسدية. فالحب الأرضي - وفق أفلاطون - هو الدرجة الأولى من سلّم الحركة الارتقائية التي ينجم عنها إنجاب الأطفال وإرضاء الحاجة إلى التكاثر. أما الدرجة الثانية فترتبط بالإبداع الشعري والفني والعلمي، وصولاً إلى أعلى نماذج المعرفة والتعلق بالجمال الأسمى. والأرجح أن مقولات فرويد حول الأنا الأعلى، وتحويل الغرائز الحسية دافعاً للفن للإبداع، لم تكن بعيدة تماماً عن المقولات الأفلاطونية بهذا الخصوص.

يبقى القول أخيراً إن «مأدبة» أفلاطون قد استطاعت بثرائها الدلالي وبنيتها التعددية المفتوحة على التأويل أن تشكل المحور الأساسي لعشرات الكتب والمؤلفات والدراسات الاجتماعية والنفسية اللاحقة. ولم يفت الكثيرين أن المأدبة برمتها كانت الذريعة التي ابتكرها أفلاطون للاحتفاء بالحب والكشف عن وجوهه الملغزة، في اللحظة التي انتصر فيها «السيف على الكتب»، وعشية السقوط الأثيني أمام الجبروت الإسبارطي. وهو نفس ما فعله أراغون بعد أربعة وعشرين قرناً من الزمن، حين لم يجد خلفية ملائمة لحب إيلسا، أفضل من سقوط غرناطة ولحظة الغروب الأندلسي.

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 20 أغسطس 2024 م ـ 15 صفَر 1446 هـ

مئوية الفيلسوف الفرنسي وثلاثة عقود على رحيله

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا أفكارُهم حصراً، وما يمكن أن ينشأ عن تلك الأفكار حين نشتبك معها.

دولوز في ذلك ربما كان يسير على نهج فلاسفة القارة الأوروبيّة، من الألماني مارتن هايدغر -الذي لخّص يوماً لتلامذته سيرة أرسطو، فيلسوف اليونان العظيم، بقوله: «لقد ولد، وأَعملَ فكره، ثم مات»- إلى رولان بارت صاحب فكرة موت المؤلف، مروراً بموقف صديقه ومعاصره جاك دريدا الذي رأى أن «حياة المؤلف ما هي إلا تراكم سلسلة من التجارب - الحوادث»، على أنَّ مَن يدرس نهجه الفلسفي سرعان ما يرى أن موقفه ذاك نتاج نظرة كليّة للحياة والعالم وموقع الإنسان فيها، مما يجعل سرد سيرة شخصية ما نوعاً من إيداع لتلك الحياة في سجن قالب محدود، يفرض عليها شكلاً نهائياً غير قابل للتغيير، مما يحرمنا من فرصة إعادة التفاوض مع تلك الشخصية وتجديد قراءتها في ظل التحولات المستمرة للفكر. هذا، إلى جانب تصوره الذي رافق مساره المهني كفيلسوف، وهو لا محدودية الإنسان، واستحالة انفصاله بوصفه هوية فريدة عن محيطه الكلي في نقطة تقاطع الزمان والمكان (أو التاريخ - الجغرافيا)، إذ يظل دائماً مجرد جزء من كلٍّ تكون العلاقات في إطاره سائلة، ودائمة التحرك، ومتغيّرة، وفي طور التكوّن.

ومع ذلك، ويتفق كثيرون معي، إن ثمّة ما يغري دائماً باستعادة محطات أساسيّة في حياة قادة الفكر –والفلاسفة تحديداً– واستنطاقها توازياً مع الإبحار في المنتج الفكري الذي أنجزه أولئك القادة، إذ قد يسعفنا الحظ ونعثر على مفاتيح هنا قد تعين على فك مستغلقات هناك، أو مواقف هناك تفسّر خيارات هنا، وبالعكس، فكأننا نفكك الجدليّة التي هي مجمل الحياة، ونعيدها إلى مكوناتها الأساسيّة.

في حالة دولوز، هناك ما يلحّ على الجيل المعاصر الذي لم يلحق به، أن يُقْدم على قراءة جديدة للفيلسوف سيرةَ وفكراً. إذ إننا على وَشَك أن نشهد مئوية ولادته وأيضاً مرور ثلاثة عقود على غيابه، وتلك مناسبات صارت تجد صدى واسعاً ربما بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك بسعي الحكومات والدول إلى تكريم الشخصيات الفكرية البارزة في تاريخها بوصف ذلك نوعاً من تدعيم مصادر قوتها الناعمة في عالم ديدنه تنافس البرجوازيات. لكن الأهم، أن إعادة قراءة دولوز لعصرنا، والاشتباك مع نصوصه، وتجديد تأويلها هو أعلى أشكال الوفاء للرجل الذي قال عنه ميشيل فوكو: «ذات يوم، ربما، سيُعرَف هذا القرن بالدولوزيّ».

كان العهد بدولوز دائماً صرفه النظر عن طفولته بوصفها غير ذات قيمة. لكننا نعثر في حياته قبل تفلسفه على نقاط ارتكاز تساعد القارئ على رسم مخطط يستند إليه في عبور فكر الفيلسوف. أولاها، أنّه وُلد في باريس، وعاش فيها معظم أيّام حياته باستثناء فترات قصيرة خلال شبابه، واختار أيضاً أن تكون مكان موته، فكان مخلوقاً باريسياً بامتياز -إن جاز التعبير- بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات دامغة لا يمكن تجاهلها في التاريخ، والمجال الحضري، ونظم العيش، والتقلبات الحادة في المناخ الثقافي والفكري والسياسي الاستثنائي الذي حفلت به العاصمة الفرنسية في موازاة عمر دولوز. أما ثانيتها فإنه وُلد لأسرة محافظة، برجوازية الأهواء، يمينية التوجهات السياسيّة، الأمر الذي ترك بصمات على طريقته في التحدث والسلوك واختيار الكلمات، لكن لعله كان محفزاً مستفزاً قاد إلى انحياز فلسفته وأدائه كمفكر إلى المقهورين ضد كل أشكال السلطة. وثالثتها أن الحرب العالمية الثانية أنهت طفولته ونقلته إلى مرحلة جديدة بعيداً عن أهله الذين فضّلوا، بعد سقوط باريس عام 1940، أن يبقى وشقيقه جورج في النورماندي ويرتادا المدرسة هناك، ومن ثم التحاق جورج بالمقاومة الفرنسيّة قبل وقوعه في الأسر، ومن ثم مقتله على يد آسريه النازيين. لقد كانت تلك تجربة قاسية دون شك، وتركت، سوى جروح الفقدان، نوعاً من ثقل العيش الدائم في ظل الأخ البطل الغائب -الذي لا يمكن للأخ الباقي أن يبزّه في القيمة عند الأبوين. كل ذلك، كان خلفيّة لبُعدٍ دائم في فلسفته، حيث تفتقر كل الأشياء، والأشخاص، والمجتمعات إلى الثبات، وتستمر أبداً في الانتقال، والتحوّل، والتكوّن.

جاء دولوز إلى الفلسفة من بوابة الأدب، إذ سحرته قدرة الروائيين على خلق العوالم وتصوّر الحيوات الممكنة، وسرعان ما وجد في تاريخ الفلسفة وأعمال أسلافه المفكرين فضاءً شحذ همته للمعرفة، وفتح له مسارات لتوظيف دهشته الدائمة وبراءته الصافية في مساءلة القائم من التركيبات والنظم والأفكار، في وقت كان الناس قد انصرفوا عن ذلك التاريخ، وطفقوا يأتون إلى الفلسفة من بوابات أخرى: الهيغلية وهايدغر، أو هسرل والفينومولوجيا (الظاهراتية)، أو مادية ماركس التاريخيّة، أو المناهج اللغوية والتفكيكيّة.

يمكن قطعاً التعامل مع تاريخ انخراط دولوز مع الفلسفة عبر مراحل ثلاث متباينة: بداية في قراءة تفاعليّة مشتبكة مع كتابات السابقين: سبينوزا، وكانط ونيتشه وبرغسون، وتالياً في شراكات فكرية وكتابيّة وأكاديميّة مع عدد من الفلاسفة والمفكرين والفنانين والطلاب مجايليه: فيليكس غوتاري، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وكلير بارنيت، وآلان باديو، وغيرهم –وهي شراكات أخذت أشكالاً متنوعة تراوحت بين الحوار المكثف والكتابة المشتركة، وبين النقد المتبادل للنصوص والمراسلات، وبين العمل الأكاديمي والنشاط السياسي، وأيضاً بين الصداقات العميقة والجدل العدائي. وأخيراً، كفيلسوف ممارس: يختبر مفاهيمه الفلسفية والعالم عبر التَّماس مع الفّنون –الرسم، والعمارة والسينما– وأيضاً مع الألم، والمرض، وخيبات الأمل.

لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ

لقد كانت بحق حياة ثرية تليق بفلسفة عميقة، والتي مع أهميتها لم تنل ما تستحقه مقارنةً بما انتهت إليه أعمال مفكرين أقل شأناً منه. جزء من ذلك يعود إلى أن الثقافة الأميركيّة مالت إلى الهيغليين والهايدغرية، ودولوز كان على مستوى ما نقيضاً فلسفياً لهما، فتجاهله العالم الأنغلوساكسوني طويلاً، كما أنّه شنّ هجوماً لا يرحم على من سمَّاهم تيار «الفلاسفة الجدد»، تلك المجموعة من الراديكاليين المرتدين بعد ثورة الطلاب في 1968 ممن انقلبوا على الماركسيّة وقيم نصرة المضطهدين، لينتهوا إلى ثلة من أنبياء كَذَبَة، تدعو إلى الليبرالية، والصهيونية، وثقافة السوق. وكان أن تولى هؤلاء تحديداً قيادة الإنتاج الثقافي عبر المؤسسات الثقافية، والأكاديمية، والصحف، والمجلات الثقافية، ودور النشر واستوديوهات التلفزيون. وفوق ذلك كله، فإن هذا الفيلسوف المترفع عن الثرثرة، ذي العقل المبدع، والنزاهة الفكرية اتخذ مواقف سياسية خالفت التيار السائد وأفقدته صداقات كثيرة لا سيما مع رفيقه المقرّب فوكو: ضد الحرب على فيتنام، ومع الشعب الفلسطيني. لقد آلمه احتلال أراضي الفلسطينيين والمعاملة التي تلقوها على يد المحتل الصهيوني، وأصابته مذبحة صبرا وشاتيلا (1982) بالصدمة والاكتئاب، فكتب لشريكه الفكري، غوتاري، شاكياً: «لقد عمّ الظلامُ العالمَ. لا يمكنني احتمال هذا الذي يجري (للفلسطينيين) في لبنان»، كما نشر في غير مناسبة نصوصاً ومقابلات نظّر فيها للمقاومة الفلسطينية، مؤكداً دائماً أن أساس المسألة الفلسطينية يكمن في تجاهل من أقاموا دولة عبرية واقع وجود شعب فلسطيني يعيش بالفعل على أرض تلك الدّولة الملفقة.

التركة الدولوزية ظلت موضع خلاف بين النقاد والمفكرين. باديو مثلاً رأى أنّها ليست ذات فائدة للمنخرطين في العمل السياسي، واتهمه سلافوج جيجيك بأنه «صانع آيديولوجيا الرأسماليّة المتأخرة»، فيما رآه أنطونيو نيغري ومايكل هاردت مصدراً لإلهامها في وضع ثلاثية «الإمبراطورية» -مساهمتهما الفكرية المشتركة الأهم في البحث عن عالم بديل- ووصفه البعض برائد للبيبوليتيك (السياسة الحيوية)، وفيلسوفٍ للراديكالية. ومهما مال الرأي، فإنه لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 أغسطس 2024 م ـ 12 صفَر 1446

بقلم: ا. د. سيد حسين نصر

ترجمة العنود سعد

***

نجد في المشهد الثقافي الحالي في الغرب وأنحاء العالم الأخرى التي تأثرت بالحداثة وما بعد الحداثة أنّ الفلسفة والنبوّة تعدّان منهجين متباينين في فهمِ طبيعة الحقيقة، بل متضادّين في أعين الكثير، غير أنّ الحال لم تكن على هذا النحو في جلّ الحضارات التقليدية قبل ظهور العالم الحديث، وليست اليوم كذلك في الأماكن التي ما زالت محتفظة بالنظرة التقليدية إلى العالم، وغنيٌ عن الإشارة أنّنا لا نقصد “النبوّة” بمعنى الإخبار عن الغيب، بل إبلاغ رسالةٍ من مستوياتٍ أعلى من الحقيقة وأعمق إلى مجموعةٍ مخصّصةٍ من البشر، وهي وظيفةٌ تتفاوت أنماطها من دينٍ إلى آخر، لكنّها حاضرةٌ بجلاءٍ في عوالم مختلفة، فنحن نجدها في مصر واليونان القديمتين والديانة الهندوسية، فضلًا عن الديانات الإبراهيمية التوحيدية التي تحظى فيها بدورٍ مركزي، كما نراها إذا لم نتقيّد بمفهومها في التصوّر الإبراهيمي حاضرةً في دياناتٍ أخرى شديدة التنوّع، والتي لا تقتصر أهميّتها فيها على الجانب التشريعي والأخلاقي والروحي فحسب، بل تشمل أيضًا جانبَ الحكمةِ المعنيّةِ بالمعرفة، نشهد هذه الحقيقة في عالم الريشيين Rishis في الهند، والشامانيين في الديانات الشامانية، والإياترومانتس Iatromantis في الدين الإغريقي، والخالدين في الطاوية، وفي استنارة بوذا، وعند شيوخ بوذية الزِن الذين بلغوا الاستنارة أو الساتوري، وأنبياء الديانات الإيرانية مثل زرادشت، وأنبياء الديانات الإبراهيمية دون شك، إذن لطالما ارتبطت الفلسفة بمعناها العام بالنبوّة على صورٍ متعددةٍ ما ازدهرت في هذه سائر هذه العوالم.

وحتّى إذا حصرنا تعريف الفلسفة في النشاط الفكريّ الذي عُرِف بها في اليونان القديمة، والذي يُعتبر في المفهوم الغربي الحديث للتاريخ أصل النظر الفلسفي ذاته، فإنّنا نجد الصلة بين الفلسفة والنبوّة كانت وثيقة منذ نشأة الفلسفة الإغريقية، كما نلاحظ أنهما لم تفترقا إلّا لاحقًا إذ لم تَكُنَا منفصلتين عن بعضيهما في مستهلّ التراث الفلسفي الإغريقي، ولنبحث في أهمّ ثلاث شخصيات من مطلع هذا التراث: لم يكن فيثاغورس، الذي يُنسب إليه سكّ مصطلح الفلسفة، قطعًا فيلسوفًا عاديًا شأنه شأن ديكارت وكانط، بل يُقال أنّه امتلك قوةً نبويةً خارقة، وكان أشبه بنبيٍ عمل على تأسيس تنظيمٍ دينيٍ جديد[1]، ولقد رآه المسلمون في واقع الأمر موحدًا، وعدّه بعضهم في مصاف الأنبياء.

لطالما أطلق على بارمنيدس “أبَ” المنطقِ والفلسفةِ الغربية، ووصِف بالعقلانية، وكان قد كتب قصيدةً متواضعةَ الجودة، بيدَ أنّه كما أظهرت دراسات بيتر كينغزلي البارعة بوضوحٍ كان مُنغمسًا في عالم النبوّة بدلالتها في الدين الإغريقي، وكان رائيًا متنبئًا[2]، وهذا ما لا يتفق مع معنى العقلانية الحديث، ففي قصيدته التي ضمّت رسالته الفلسفية، تقود بناتُ الشمس القادمات من قصر النور الواقع في أقصى الوجود بارمنيدس إلى العالم الآخر[3]، أمّا عن كيف حصلت هذه الرحلة فمن خلال “الاحتضان”[4]، وهي ممارسةٌ روحيةٌ معروفةٌ في الدين الإغريقي، يستلقي فيها المرءُ في سكونٍ تام حتّى تُرفع روحه إلى مقاماتٍ أعلى من الحقيقة فتنكشف له أسرار الوجود.

وهكذا انطلق بارمنيدس في رحلةٍ داخليةٍ إلى أن التقى الإلهة التي علّمته كل أمرٍ ذي أهميّة، أي علّمته ما يعدّ اليوم أسّ النظر الفلسفي الإغريقي، وجديرٌ بالملاحظة أنّ الإلهة لدى مقابلتها بارمنيدس خاطبته بالكوروس Kouros، أيّ الشاب، وهذه معلومة مثيرة ومدهشة، فمصطلح الفُتُوّة -جوانمردى بالفارسية- مأخوذٌ من لفظة فتى –جوان- الدالّة على المعنى عينه، وقد كانت هذه الفتوّة كما يُذكر موجودة من قبل الإسلام، وأُحْيَت بعد بزوغه إحياءً جديدًا، ارتبط فيه مرجعها بعليّ الذي تلقّاها عن نبيّ الإسلام[5]، وحيث كان التحامها بالتصوّف، كما تعزو المصادر الإسلامية التقليدية نشأة الميتافيزيقا الإسلامية إلى عليّ[6].

كما أُطلق لقب كوروس على إيبيمنديس من كريتِ، والذي كان قد ارتحل إلى العالم الآخر أيضًا، والتقى العدالة، وعاد بشرائع إلينا، كان إيبيمنديس، مثل بارمنيدس، يكتب الشعر، وعُرِفَ بجَمْعِه بين النبوّة والقدرة على الشفاء، أي ممّن يُسمّون بالإياترومانتس، فقد رُفِع له ستار الغيب أثناء عملية “الاحتضان” التي استغرقت سنواتٍ من الاستلقاء في أحد الكهوف[7]، وهو تقليدٌ ارتبط ببارمنيدس، يرتحل فيه الإياترومانتس إلى العوالم الأخرى مثل الشامانيين الذين لا يكتفون بوصف رحلاتهم فحسب، بل يستخدمون اللغة على نحوٍ يتيحها لغيرهم، فهم يستعملون التعاويذ والتكرار في قصائدهم، وهذا ما نراه عند بارمنيدس أيضًا، كما يأتون بقصص وأساطير من بلدانٍ بعيدةٍ بُعدَ التّبت والهند، وهذا أمرٌ لافتٌ جدًا، إذ ينحدر مجتمع بارمنيدس في الجنوب الإيطالي من شرق الأناضول حيث يُبجَّل الإله أبولو، والذي يُعدّ النموذج المقدّس للإياترومانتس الذين يُلهمهم النبوّة لينسجوا قصائدَ تنويميةً تحمل بين ثناياها معرفةَ الحقيقة.

تكشف الحفريات التي أُجريت في العقود الأخيرة في إيليا، مسقطِ رأس بارمنيدس في الجنوب الإيطالي، عن نقوشٍ تضعه في صلةٍ مباشرةٍ بأبولو والإياترومانتس، يقول كنغزلي: “يظهر لنا أنّ بارمنيدس كان ابنًا للإله أبولو، بِجِوار رسوم غامضة للإياترومانتس الذين برعوا في الشعر التعويذي والخوض في رحلاتٍ إلى العوالمِ الأخرى”[8]، ويتضح لنا إذا ما استحضرنا، من جانبٍ روحي، أنّ “أبولو ليس إله النور، بل نور الإله”[9] مدى عمقِ علاقة الفلسفة التي أتى بها أبوها بارمنيدس الإغريقي بالنبوّة منذ لحظة تشكّلها، وذلك حتّى في تصوّرها في الديانات الإبراهيمية على ألّا يُغفل المرء معناها الباطني والذي سنأتي على ذكره لاحقًا، لقد نشأ تقليدٌ شامل من الكهنة الشُفاة الذين انْبَروا لخدمة أبولو أوليوس ‘أبولو الشافي’، والذي يُعزى تأسيسه إلى بارمنيدس، إنّه لمن العجيب أنْ اندثرت نواحُ بارمنيدس هذه في الغرب فيما بعد، بينما ظلّت حاضرةً في الفلسفة الإسلامية، إذ لا يُقيم مؤرّخو الفلسفة المسلمون العلاقة بين النبوّة والفلسفة الإسلامية فحسب، بل بينها وبين الإغريقية كذلك[10]، ونستحضر في هذه المناسبة الأثر العربي القائل: “تنبع الحكمة من مشكاة النبوة”.

وممّا يسترعي الانتباه غموضُ معلِّم بارمنيدس وفقرُه، وتعليمُه تلميذه السكون أو الهيزاخية Hesychia قبل كل شيء، والتي بلغت أهميّتها أنّ الذين سعوا لفهم بارمنيدس لاحقًا، كأفلاطون مثلًا، استعملوها أكثر من أيّ مصطلحٍ آخر لوصف مفهومه عن الحقيقة، “في نظر بارمنيدس، بواسطة السكون نصل إلى السكون، ومن خلال السكون يسعنا أن نفهم السكون، فعبر ممارسة السكون يتسنّى لنا اختبار الحقيقة الكامنة ما وراء عالم الحواس”[11]، ويجدر التفكّر مرةً أخرى في توظيف ‘الهيزاخية’، المنسوبة إلى مؤسّس المنطق والفلسفة الإغريقية، في الحركة الهدوئيّة Hesychasm التي تجسّد تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الغنوصية، والتي تصبو إلى تحقيق القداسة والعرفان.

تطلب الإلهة بارمنيدس في قصيدته صراحةً أن يعود بما علّمته إيّاه إلى العالم ويكون رسولها، يوضّح كنغزلي معنى مصطلح الرسول في هذا السياق فيقول: “هناك كلمةٌ محدّدة تبيّن أيّ نوعٍ من الرُسُل كان بارمنيدس وهي: نبيّ، ولا علاقة لمعناها الدقيق بالقدرة على الإخبار عن الغيب، فهي تعني في أصلها شخصًا تمثّلت وظيفته في التحدّث نيابةً عن قوةٍ عظمى أو أحدٍ أو أمرٍ ما”[12]، ولم تقتصر هذه “الوظيفة النبويّة” التي تولّاها بارمنيدس على كونه فيلسوفًا وشاعرًا وشافيًا، بل اقتضت أيضًا أن يكون حاملًا للشريعة مثل إبيمنديس.

لم تكن صلة بارمنيدس بالنبوّة اجتماعيةً وتشريعيةً ظاهريةً في جوهرها، بل كانت ذات ملمحٍ داخليٍ باطنيٍ روحيٍ، فقصيدته بحدّ ذاتها، إذا ما حُمِلت على وجهها الصحيح، ما هي إلّا إعدادٌ روحي لعالمٍ آخر: “تدل كلّ هذه العلامات التي لا يفوّتها إلّا الجاهل على أنّها نصٌ للمُريدين”[13]، ويشترك في هذا مع فيثاغورس وإيمبيدوكليس اللذين كانت فلسفتهما موجّهةٌ حصرًا لمن حاز الاستعداد لتلقي رسالتها، فقد كان مدارها الجانب الباطني من الدين الإغريقي لا ظاهره، وكانت تتطلّب تلقينًا روحيًا لاستيعابها بشكلٍ كامل، ونلاحظ مرةً أخرى التشابه الكبير بين تصوّر الفلسفة في الفلسفة الإسلامية وتصوّرها عند هذه الشخصيات التي عاشت قبل سقراط، كفيثاغورس وبارمنيدس وإيمبيدوكليس، والذين ينظر إليهم الفلاسفة المسلمون بعين التبجيل لا سيّما أتباع مدرسة الإشراق.

وفي الحديث عن شخص إمبيدوكليس الغامض، نرى من جديد فيلسوفًا قال الشعر وامتلك القدرة على الشفاء، وأنزله العديد منزلة الأنبياء، “فقد كان نبيًا شافيًا من الأنبياء الشفاة الذين ذكرتهم آنفًا، إلى جانب كونه ساحرًا وشاعرًا”[14]، كما كتب إمبيدوكليس في علم الكونيّات وفي العلوم الطبيعية كالفيزياء، وحتّى في مواضيع كهذه، لم تكن الأعمال تُكتَب لتقديم الحقائق فحسب، بل “لتخليص الأرواح” أيضًا[15]، وهذا يُماثل ما خطّه جمْعٌ من الفلاسفة المسلمين في علم الكونيّات كالسهروردي، وحتّى ابن سينا في رسائله[16]، وأهمّ ما علينا اعتباره هو أنّ إمبيدوكليس قد رأى نفسه نبيًا وعدّ قصيدتَه عملًا روحيًا.

حريٌ بالإشارة أنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين برزوا في طليعة التقليد الفلسفي الإغريقي كان شاعرًا، وهذه سمةٌ اصطبغ بها شطرٌ واسعٌ من الفلسفة التي ازدهرت تحت شمس النبوّة على مرّ العصور، وبِحَسْب المرء أن يستحضر حكماء الهندوس الشعراء، وآباء الفكر الفلسفي الهندوسي التقليدي، وثلة من حكماء الصين الذين وجدوا في الشعر وسيلةً للتعبير، كما نلاحظ ذلك في الديانات الإبراهيمية التوحيدية بين عددٍ من الفلاسفة اليهود والمسيحيين، وبين الفلاسفة المسلمين على وجه الخصوص، مثل ابن سينا، وناصر خسرو، والخيّام، والسهروردي، وأفضل الدين كاشاني، وميرداماد، والمُلّا صدرا، والحاج المولى هادي السبزواري الذي عاش في القرن الثالث عشر هـ/ التاسع عشر م.

وفي مثل العالمٍ الذي نعيش فيه اليوم، حيث تُختزل الفلسفة إلى العقلانية أو إلى اللاعقلانية أكثر فأكثر، وتُقصى فيه الروحانية بل الدين كذلك أو يُهمّشان، يُرفض التفسير السابق حول مؤسّسي الفلسفة الغربية في العديد من الدوائر، ويُضرب صفحًا عن العلاقة بين الفلسفة والنبوّة بشكل عامٍ، وعن الصلة بين الشعر والروحانية خاصّةً، أو يُستهان بأهميّتهما، لكنّ القارئ الغربي يجد، خلافًا لما يتوقعه، أنّ العلاقة بين الفلسفة والنبوّة والروحانية، التي أكّدها عددٌ من علماء الغرب المعاصرين، تحظى بمكانةٍ جوهريةٍ في الموروث الفلسفي الإسلامي، وهذا ما سيكون محطّ تركيزنا في معظم الكتاب، لقد أوردنا النقاش حول هذه الشخصيات الإغريقية لنبيّن أنّ الصلةَ بين الفلسفة والنبوّة ، برغم ما اعتراها من انقطاعٍ غير مسبوقٍ منذ نهاية العصور الوسطى وما تلاها، ذاتُ أهميّةٍ عظيمةٍ لا لفهم الفلسفة الإسلامية فحسب، بل لاستيعاب أصول الفلسفة الغربية ذاتها استيعابًا عميقًا، وهي أصول تشترك فيها الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية، بيد أنّ كلًا من الاتّجاهين الفكريين قد نحى في فهمها مناحٍ تختلف عن الآخر اختلافًا جذريًا، فقد نأت الفلسفة الغربية بنفسها بعيدًا عن الفلسفة الخالدة واللاهوت المسيحي.

˜™

لا شكّ أنّ للنبوّة أنواعٌ ودرجاتٌ مختلفة، وهذا ما يلاحظه المرء إذا ما درس التقاليد الدينية المتنوعة، أو حتى لو اقتصر على تقليدٍ واحد، فنرى في اليهودية والإسلام مثلًا أنّ وظيفة يونس ودانييل النبويّة تختلف عن دور موسى ونبيّ الإسلام، لكن ثمّة عناصر مشتركة بين مفاهيم النبوّة المتعددة فيما يتعلق بالتحديات التي تعرض للفلسفة، تفترض النبوّة أولًا تعدد مستويات الحقيقة، سواء صوّرت هذه المستويات في تراتبيةٍ موضوعيةٍ أم ذاتية، إذ إن لم يكن للحقيقة إلّا مستوى واحدًا يرتبط موضوعيًا بالعالم الحسيّ، وذاتيًا بوعينا الطبيعي، والذي يعدّ الصورةَ الوحيدة المجازة والمقبولة من صور الوعي، تفقد النبوّة معناها باعتبارها مهمةً تتمثّل في إبلاغِ رسالةٍ من عالمٍ أو مستوى آخر من الحقيقة، إذ لم يعد لهذا العالم أو المستوى وجود، وسيعدّ أيّ زعمٍ بوجوده أمرًا منكرًا وهذيانًا شخصيًا، وهذا واقع الحال مع العلموية الحديثة والنظرة السائدة التي تنزع القداسة عن العالم، فكلا المنظورين يستبعد وجودَ حقيقةٍ متعالية، أو أبعادٍ من الوجود تتجاوز عالمنا، أو ذاتٍ محايثة، أو طبقاتٍ من الوعي أعمق من وعينا الطبيعي، أمّا العوالم التي تؤمن بحقيقة النبوّة في أي شكلٍ من أشكالها، فهي تسلّم جميعها بأنّ الإيمانَ بوجودِ مستوياتٍ أرفع من الحقيقةِ ودرجاتٍ أعمق من الوعي هو النهج السليم لفهم طبيعة الحقيقة التي يعيشها البشر بإجمالها[17]، ويشمل هذا التسليم، وفقًا للصياغة السابقة، الديانات التوحيدية الإبراهيمية، والديانات الهندية، والطاوية، والكونفوشيوسية، بالإضافة إلى الديانات القديمة في حوض البحر المتوسط، والديانات الإيرانية القديمة، والشامانية، والبوذية، التي تؤكّد على تعدد طبقات الوعي، لا على تعدد مستويات الوجود الموضوعي، يستوجب مفهوم النبوّة بحدّ ذاته الإيمان بهرميّة الحقيقة، سواء أكانت هرميةَ حقائق مستقلة عن حاسة المرء ‘موضوعية’، أو هرمية حقائق متصوّرة ذهنيًا ‘ذاتية’، ذلك لأنّنا إذا اخترنا الاكتفاء بالثقة بحسْبةِ أذهاننا، والاعتماد على ما تمليه علينا حواسّنا، بطلت فكرة النبوّة، وتساوت جميع الفلسفاتِ مع الفلسفة الغربية الحديثة.

وتُثير النبوّة في جلّ هذه العوالم التي تعتبرها حقيقةً مركزيةً تبعاتٍ يتعيّن على الفلسفة معالجتها، فهي تمدّ المجتمعَ بقوانين وتعاليم أخلاقية تبحث فيها الفلسفة الأخلاقية والسياسية والقانونية، كما تدّعي تقديم معرفةٍ بطبيعة الحقيقة، كمعرفةِ أصل جميع الأشياء، وخلق الكون وهيكله، أي علوم نشأة الكون والكونيّات، وطبيعة الروح الإنسانية التي تضمّ ما يسمى “بعلم الكائنات الروحية” وعلم النفس التقليدي، إلى جانب المعرفة بنهايات الأمور أو ما يُعرف بعلم الأخرويات، وتكمن ثمرة النبوّة في التعرّف إلى جوانب الحقيقة الرئيسة التي يعيشها البشر، ويتساءلون عنها، مثل مسألة الزمن، والمكان، والجوهر، والعرض، والسببيّة، والقدر، وغيرها من المسائل الكثيرة الواقعة في دائرة اهتمام الفلسفة العام.

كما تختصّ بعض أشكال النبوّة بالمعرفة الداخلية، والأمور الباطنية الروحية، وبالكشوف من مستويات الحقيقة الأخرى، والتي لا تلاؤم العامّة من الناس على وجه الإجمال، لقد سبق أن رأينا الارتباط بين منشأ الفلسفة الإغريقية والبعد الروحي للدين الإغريقي، ويمكننا أن نرى أمثلة وافرة في التقاليد الأخرى، بما فيها البوذية، والإسلام على وجه الخصوص، والذي اشتدّت فيه أصر العلاقة بين الفلسفة والجانب الباطني للوحي القرآني أكثر فأكثر في القرون المتأخرة، كما أنّ تاريخ الارتباط بين الفلسفة والروحانية، وهو أحد أبعاد النبوّة بدلالتها العامّة، طويلٌ في الغرب، إذ استمرّ قائمًا حتّى الحركة الرومنطيقيّة الألمانية.

لقد ارتأت الفلسفة الغربية منذ القرن السابع عشر فصاعدًا بأنّ عليها الإدلاء بدلوها حول الصورة التي رسمتها العلوم الحديثة للعالم، فصارت سندًا يؤازر العلم الحديث لا سيّما مع كانط، بالغةً ذروتها في القرن العشرين في قسمٍ كبيرٍ من الفلسفة الأنجلوساكسونية، والتي تكاد لا تعدو أن تكون سوى منطقٍ جرى ربطه بنظرة علمية تجاه العالم، أمّا على صعيد العوالم التقليديّة، لم تجد الفلسفة بدًا من أخذ مركزية النبوّة والوحي فيها بعين الاعتبار، سواء تجسدت النبوّة في كتابٍ أو نمطٍ آخر من الرسائل السماوية، أو في النبيّ ذاته كما هي الحال مع الأفاتار في الهندوسية وبوذا والمسيح، تقدّم الفلسفة تفسيرًا فلسفيًا لموضوعٍ ما، ولطالما ضمّ هذا الموضوع في العوالم التقليدية التي نحن في صددها الحقائقَ التي تُكشف من خلال النبوّة، والتي تتباين في هيئاتها، من استناراتٍ تعرض للريشيين الهندوس وبوذا، وكلامِ الله مع موسى في طور سيناء، وتبليغِ جبريل رئيس الملائكة القرآنَ إلى نبيّ الإسلام.

وليست الفلسفة في هذه العوالم التقليدية مجرد مرادفٍ لعلم اللّاهوت كما يدّعي البعض، إلّا إن قمنا بحدّ الفلسفة في تعريفها الوضعي الحديث، وحينها ستختفي كلّ الفلسفات غير الغربية، بل حتّى الفلسفة الغربية الوسيطة، ولن يبقى لنا ما نتحدّث عنه في هذا الصدد، لكنّنا إذا ما سلّمنا بالفلسفة كما يعرّفها فيثاغورس، الرجل الذي ابتكر مصطلحها، ونظرنا إليها باعتبارها حبًا للحكمة، أو قبلنا بها “تدربًا على الموت” كما عند أفلاطون، بحيث تشتمل الفلسفة على النشاط الفكري والممارسة الروحية معًا، نرى وقتئذٍ تعدّد المدارس الفلسفية في شتّى العوالم التقليدية، والتي ما يزال بعضها قائمًا في صورته الشفهية فقط كما عند سكّان أستراليا الأصليين والهنود الحمر[18]، فيما حفظت أممٌ أخرى فلسفاتها في مجلداتٍ خطّتها على مرّ القرون.

وحتّى في حال أزمع المرء تناول الفلسفة في أرض النبوّة بالبحث مقتصرًا على الأعمال الفلسفية المدوَّنة، ففي وسعه تأليف المجلدات في هذا الموضوع إذا ما نظر في التقاليد الصينية الفلسفية الطاويّة والكونفوشيوسية والبوذية التبتيَّة وبوذية الماهايانا، بما فيها المدارس اليابانية، والتي تتميّز كل واحدةٍ منها بسماتها الخاصّة، بالإضافة إلى التراث الفلسفي الهندوسي الغنيّ في الهند، كما في وسع المرء التوجّه إلى الديانات الإبراهيمية، والكتابة عن المدارس الفلسفية اليهودية والمسيحية والإسلامية في ضوء ما كان من النشاط الفلسفي في الآفاق التي هيمنت عليها النبوّة، ولن تكون طرق البحث في هذه التقاليد المتقاربة متماثلةً تمامًا رغم التشابهات الكبيرة فيما بينها، إذ على الرغم من التقارب الشديد بين اليهودية والإسلام في مفاهيم النبوّة والكتاب المقدس، فإنّ المسيحية التي ترى مؤسِّسها تجسيدًا للإله تختلف عنهما في مناحٍ شتّى بخصوص هذه المسألة، وتشتد أهميّة هذا التباين من الجانب الفلسفي كما نرى في المعالجة الفلسفية للتجسّد في الفلسفة المسيحية و”الفلسفة النبويّة” في السياق الإسلامي[19].

سنقصر نقاشنا في هذا الكتاب الذي يتناول الفلسفة في أرض النبوّة على الفلسفة الإسلامية، وذلك نظرًا لطبيعة دراساتنا في الفلسفة على مدار العقود الخمسة السالفة، والتي انصبّ جلّ اهتمامها على الفلسفة الإسلامية، غيرَ أنّنا درسنا أيضًا ما سواها من التقاليد ما يخوّلنا الجزمَ على إمكانيةِ تأليفِ عملٍ مماثلٍ في الفلسفة الإغريقية، واليهودية، والمسيحية، والكونفوشيوسية الجديدة، والهندوسية، بما بينها من شبهٍ واختلاف، وأوجه التشابه، من ناحيةٍ، أشدّ جوهرية من الاختلاف، إذ تتمثّل في الحقائق الميتافيزيقية الأساسية التي تشكّل قاعدةً مشتركة، وهي ما نطلق عليه مصطلح الفلسفة الخالدة philosophia perennis، فاختلاف تمظهرات هذه الفلسفة يعود إلى اختلاف المناخ الفكريّ الذي يحتضنها، مثلما تتفق الأديان في الوحدة الروحية وتتنوع في أشكالها[20].

نستهدف بهذا المؤلّف تقديم الفلسفة الإسلامية بتعاليمها وتاريخها باعتبارها فلسفةً عمِلت في أفق الإسلام الذي هيمنت عليه النبوّة وساده كتابٌ مقدس، مركّزين على حقبها المتأخرة، بخاصةٍ في بلاد فارس التي أضحت بعد الغزو المغولي في القرن السابع هـ/ الثالث عشر م. ميدانًا رائدًا استدامت فيه الفلسفة الإسلامية، واقتربت أكثر من ذي قبلٍ من الحقائق الخفيّة المتحصّل عليها من خلال النبوّة، كما يوجد الباعث المهم في أنّ هذه الفترة ليست معروفة في الغرب جيدًا رغم الأبحاث التي قام بها عدد من علماء اللغات الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين، فيعرض الكتاب في قسمه الأخير، حقيقةً، العديد من الشخصيات والأفكار التي يجهلها الغرب تمامًا، ويهمّ تسليط الضوء على الفلسفة الإسلامية المتأخرة الدراسات المقارنة أيضًا، إذ يبيّن كيف افترق التقليدان الفلسفيان الإسلامي والمسيحي عن بعضهما سالكين مصائر مختلفة منذ القرن الثامن والتاسع هـ/ الرابع عشر والخامس عشر م. فصاعدًا، فقد نأت الفلسفة المسيحية أكثر فأكثر عن اللّاهوت من بعد القرن الثامن هـ/ الرابع عشر م.، ولم تعد المدارس الفلسفية الرئيسة في الغرب شيئًا فشيئًا فلسفة المسيحية، بل انقلب معظمها، في واقع الحال، على الدين إجمالًا، والمسيحيةِ على وجه الخصوص، جاعلةً من الفلسفة عدو الدين الأَّلد، أمّا في العالم الإسلامي، فقد ظلّت الفلسفة تعمل في نطاقٍ تحكمه النبوّة، ولم يزل هذا الوضع قائمًا على امتدادٍ واسع حتّى اليوم برغم ظهور الفلسفات العلمانية هنا وهناك في دول إسلامية مختلفة.

إنّه لمن العجيب جنوح جمْعٍ من علماء الفلسفة الإسلامية من المسلمين العلمانيين ممّن يكتبون عنها ولا ينتمون إليها إلى انتقاد مفهوم “الفلسفة النبويّة” عينه، وسعيهم إلى فصل الفلسفة عن النبوّة سَيْرًا على مثال الغرب الحديث، في حين نجد عددًا معتبرًا من الفلاسفة الأمريكيين ينضمّون في الحاضر إلى جماعة الفلاسفة المسيحيين، ونرى تزايدًا في الاهتمام بالفلسفة اليهودية أيضًا باعتبارها فلسفةً للحياة، وفي معرض هذا الحديث، يمكن للفلاسفة الغربيين الساعين إلى إحياء الفلسفة اليهودية أو المسيحية أن يُفيدوا من حضور التقليد الفلسفي الإسلامي المتّصل بوصفه فلسفةً للحياة، والذي طَالَمَا عمل في محيطٍ تسيّدته النبوّة، كما قد تساعد هذه الدراسة بعض المسلمين المهتمّين بالفلسفة ممّن كانوا قد انقطعوا عن إرثهم الفلسفي دون أن يتخلّوا عن إيمانهم بالنبوّة.

***

عن موقع حكمة

............

* سيد حسين نصر ولد في (7 أبريل 1933 م) في العاصمة الإيرانية طهران الإيرانية، هو فيلسوف إسلامي معاصر يعمل بروفسورا في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن، وهو فيلسوف إيراني بارز، ولديه العديد من المؤلفات والمقالات. اشتهر سيد حسين نصر في مجال مقارنة الأديان والصوفية وفلسفة العلم والميتافيزيقيا فلسفته تتضمن نقد ورفض شديد للحداثة وتأثيرها السلبي على روح الإنسان.

الملاحظات

* هذا النص ترجمةٌ لمقدمة كتاب سيّد حسين نصر Islamic Philosophy from Its Origin to the Present.

[1]على المرء أن يتذكّر أنّ فيثاغورس أنشأ تنظيمًا دينًا يتمركز حول أبولو في كروتونه، سنّ فيه قانونًا للحياة مثلما يفعل الأنبياء في الأديان الأخرى، انظر:

Kenneth S. Guthrie, compiler and trans., The Pythagorean Sourcebook and Library (Grand Rapids, MI: Phanes, 1987).

وانظر على وجه الخصوص ما كتبه يامبليخوس عن “حياة فيثاغورس”، حيث نجد إشاراتٍ تدّعي ألوهية فيثاغورس، وتعرّفه كأبولو ذاته، بالإضافة إلى عمل بيتر كينغزلي الأصيل والذي يتقصّى فيه حياة فيثاغورس وإيمبيدوكليس:

Ancient Philosophy, Mystery and Magic (Oxford: Clarendon, 1995).

[2] Kingsley, Peter. In the Dark Places of Wisdom (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 1999); Reality (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 2004).

[3] لقد ارتكزت فيما يلي عن بارمنيدس على كتاب Reality لبيتر كنغزلي [pp.31ff].

[4] تقابل هذا المصطلح لفظة Incubation بالإنجليزية، يقول بيتر كنغزلي في كتابهDark Places of Wisdom and Reality: “إنّ الشكل الذي يتّخذه الاحتضان بالغ البساطة، حيث يستلقي المرء عادةً في مكانٍ خاصٍ بعيدٍ عن الإزعاج، والذي قد يكون -أحيانًا- غرفةً داخل المنزل أو المعبد، ويغلب أن يكون كهفًا أو مكانًا يعتبر محطّةً لدخول العالم السفلي، ولا يلجأ الناس إلى هذه الممارسة حال مرضهم فقط، فهناك خبراء في الاحتضان، يتقنون فنّ الانتقال إلى حالة وعيٍ مختلفة… وقد يقومون بذلك أحيانًا من أجل شفاء الآخرين، لكنّ مقصد الاحتضان الرئيس، في حقيقة الأمر، لم يكن الشفاء على الإطلاق، وإن بدا كذلك، فمربط الفرس يكمن في حقيقة أنّ الشفاء مجلوبٌ من مستوى آخر من الوجود، مكانٍ مختلف، فقد كان هؤلاء الخبراء أناسًا قادرين على الوصول إلى العالم الآخر، والتواصل مع المقدّس، وتلقّي المعرفة من الآلهة مباشرة.” – المترجمة.

[5] Nasr, S. H. “Spiritual Chivalry,” in ed. S. H. Nasr, Islamic Spirituality, vol. 2 (New York: Crossroad, 1991), pp. 304–15.

[6] Allamah Sayyid Muhammad Husayn Tabatabai, Ali wa’l-Hikmat Al-Ilahiyyah, Majmu’a-yi Rasa’il, Sayyid Hadi Khusrawahahi (ed.) (Tehran: Daftrar-i Nashr-i Farhang-i Islāmī, 1370 A. H. [solar]), pp. 191ff.

[7] Kingsley, op. cit., p. 33.

[8]  المصدر السابق [p.40].

[9] Martin Lings, The Secret of Shakespeare (New York: Inner Traditions International, 1984), p. 18.

[10]  يلقّب النبيّ إدريس ‘أخنوخ’، والمعرّف بهرمس Hermes، بأبي الحكماء في الموروث الإسلامية الكلاسيكي، انظر:

Nasr, S. H. “Hermes and Hermetic Writings in the Islamic World”, Islamic Life and Thought (Chicago: ABC International Group, 2001), pp. 102–19.

[11] Kingsley, op.cit., p. 46.

[12]  المصدر السابق [p.87].

[13]  المصدر السابق [p.62].

[14]  المصدر السابق [p.320]. انظر أيضًا كتاب بيتر كينغزلي Ancient Philosophy, Mysticism, and Magic.

[15] Kingsley, Reality, p. 323.

[16] Nasr, S. H. An Introduction to Islamic Cosmological Doctrines (Albany: State University of New York Press, 1993), chapter 15, “Nature and the Visionary Recitals,” pp. 263–74.

[17] Huston Smith, Forgotten Truth (San Francisco: Harper, 1992), esp. chapter 3, “Levels of Reality,” pp. 34–59; and chapter 4, “Levels of Selfhood,” pp. 60–95; René Guénon, The Multiple States of Being, trans. Joscelyn Godwin (Burdett, NY: Larson, 1984).

[18] ليس على المرء إلّا قراءة تعاليم بلاك إلك Black Ilk، حكيم قبيلة السيوكس العظيم، ليدرك مدى عمق الفلسفة التي كانت حاضرةً في صيغةٍ شفهيةٍ بين شعبٍ عدّ النبوّة حقيقةً مركزيةً في حياته الروحية:

Joseph E. Brown, The Sacred Pipe (New York: Penguin Metaphysical Library, 1986).

[19] لقد تطرّق هنري كوربين إلى هذه المسألة في العديد من أعماله، والتي سنعود إليها لاحقًا في هذا المؤلَّف.

[20] انظر أعمال فريجوف شوان الأصيلة حول هذا الموضوع، بالأخص:

Transcendental Unity of Religions (Wheaton, IL: Theosophical Publishing House, 1993); Form and Substance in the Religions (Bloomington: World Wisdom Books, 2002).

قدّم فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، انتقادات حادة للعقلانية المطلقة، مشيرين إلى أن هذه العقلانية قد تتحول إلى أداة للسيطرة والهيمنة بدلاً من أن تكون وسيلة للتحرر. (الأمم المتحدة)

يتناول هذا المقال ـ بصورة مختصرة أردنا لها أن تكون مركزة حتى تغطي موضوعا متشعبا بأقل قدر من التفصيل كي يلائم المساحة المتاحة في هذا المقام ـ قضية العقلانية المطلقة ودورها في تشكيل الفكر الفلسفي الغربي، متتبعًا جذورها الأولى في الفلسفة اليونانية القديمة وتأثيراتها على الفلسفات اللاحقة حتى العصر الحديث. كما يسلط الضوء على الانتقادات الموجهة للعقلانية المطلقة من قبل فلاسفة معاصرين وما بعد حداثيين. هذا البحث يسعى لفهم كيفية تشكيل العقلانية للفكر الإنساني وما ترتب عليها من تحديات وإشكاليات فلسفية، وأثرها على المجالات العلمية والثقافية.

1 ـ  جذور العقلانية في الفلسفة اليونانية:

تعود فكرة العقلانية إلى الفلسفة اليونانية، حيث كان سقراط وأفلاطون وأرسطو من أبرز المؤسسين لهذه الفكرة. ارتكز هؤلاء الفلاسفة على العقل كأداة لتحقيق المعرفة، ورأوا فيه السبيل الأسمى للوصول إلى الحقيقة. فقد قسم أفلاطون الوجود إلى عالمين: عالم المثل، الذي يمكن إدراكه فقط من خلال العقل والتأمل الفلسفي، والعالم الحسي الذي لا يعدو كونه ظلًا للعالم الحقيقي. من جهة أخرى، رأى أرسطو في العقل القدرة الحاسمة لفهم العالم الطبيعي، معتبرًا أنه عبر التفكير المنطقي يمكن الوصول إلى المبادئ الأساسية للوجود.

2ـ تأثير الفلسفة المسيحية على العقلانية:

مع ظهور المسيحية وتداخلها مع الفلسفة اليونانية، ظهرت تغييرات مهمة في مفهوم العقلانية. كان القديس توما الأكويني من أبرز الشخصيات التي سعت إلى التوفيق بين فلسفة أرسطو والعقيدة المسيحية. حاول الأكويني، مستفيدا مما قدمته الفلسفة الاسلامية من تقريب بين الفلسفة والدين، بناء جسر بين الإيمان والعقل، مؤكدًا على أن كليهما يمكن أن يساهما في الوصول إلى معرفة أعمق للحقيقة الإلهية. هذا التزاوج بين العقلانية والفكر الديني أدى إلى تعديل بعض المفاهيم اليونانية لتتناسب مع التعاليم المسيحية.

3ـ صعود العقلانية الحديثة:

أشار العديد من الفلاسفة إلى أن الاعتماد المفرط على العقل قد يؤدي إلى اختزال التجربة الإنسانية، إذ يُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا عقلانيًا بحتًا، يتصرف بناءً على منطق حسابي دون اعتبار للعواطف والمشاعر. وتؤدي هذه النظرة إلى تفسيرات غير مكتملة للطبيعة البشرية، حيث يتم تجاهل تأثير العوامل العاطفية على القرارات الإنسانية والتجربة الوجودية.في العصر الحديث، شهدت الفلسفة تحولًا جذريًا في فهم العقلانية مع ظهور فلاسفة مثل رينيه ديكارت وإيمانويل كانط. ديكارت، الذي يُعد من رواد العقلانية الحديثة، طرح مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" كقاعدة أساسية للفكر الفلسفي، مؤكدًا أن العقل هو المصدر الأوحد للمعرفة. كان هذا الموقف ديكارت بمثابة نقطة انطلاق لتطوير فلسفات تعتبر العقلانية أساسًا لكل فكر نقدي وتحليلي، كما ظهر في فلسفة كانط التي سعت لتحديد حدود العقل البشري وقدرته على فهم العالم من خلال النقد الذاتي.

4ـ النقد المعاصر لفكرة العقلانية المطلقة:

على الرغم من الإسهامات الكبيرة التي قدمتها العقلانية في تطور الفلسفة، إلا أنها لم تسلم من الانتقادات، خاصة من قبل الفلاسفة المعاصرين وما بعد الحداثيين. نيتشه، على سبيل المثال، انتقد التركيز المفرط على العقل، مشيرًا إلى أن هذا التوجه أدى إلى إهمال الجوانب الأخرى من الوجود الإنساني مثل الإرادة والشغف. هيدغر، بدوره، قدم نقدًا للعقلانية الحديثة، معتبرًا أنها أغفلت العلاقة الأصيلة بين الإنسان والعالم، وأدت إلى نوع من الجمود الفكري والتقني.

الجزء الثاني ـ الإشكاليات والتحديات المرتبطة بالعقلانية المطلقة

1ـ تأثير العقلانية على فهم الطبيعة الإنسانية:

تناولت الفلسفة الغربية عبر تاريخها دور العقل بوصفه الأداة الرئيسية التي تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة وإدراك الحقائق. ومع تصاعد هيمنة العقلانية المطلقة، ظهر تركيز كبير على قدرة العقل في فهم وتفسير كافة جوانب الحياة الإنسانية. هذه الهيمنة لم تخلُ من تبعات سلبية؛ إذ أدت في بعض الأحيان إلى تهميش الجوانب العاطفية والوجدانية، التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.

أشار العديد من الفلاسفة إلى أن الاعتماد المفرط على العقل قد يؤدي إلى اختزال التجربة الإنسانية، إذ يُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا عقلانيًا بحتًا، يتصرف بناءً على منطق حسابي دون اعتبار للعواطف والمشاعر. وتؤدي هذه النظرة إلى تفسيرات غير مكتملة للطبيعة البشرية، حيث يتم تجاهل تأثير العوامل العاطفية على القرارات الإنسانية والتجربة الوجودية.

2ـ نقد فلاسفة ما بعد الحداثة للعقلانية المطلقة:

قدّم فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، انتقادات حادة للعقلانية المطلقة، مشيرين إلى أن هذه العقلانية قد تتحول إلى أداة للسيطرة والهيمنة بدلاً من أن تكون وسيلة للتحرر. فوكو، على سبيل المثال، يرى أن "العقلانية" التي تتبناها المجتمعات الغربية الحديثة ليست إلا وسيلة لتكريس أنماط معينة من السلطة. في أعماله، خاصة في "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، يستعرض فوكو كيف استخدم المجتمع العقل والعلم كأدوات لإقصاء الأفراد الذين يُعتبرون غير عقلانيين، وذلك من خلال مؤسسات مثل المصحات العقلية.

أما جاك دريدا، فقد قدم نقدًا بنيويًا للعقلانية، متخذاً من اللغة أداةً لتحليله. في كتابه "الكتابة والاختلاف"، يجادل دريدا بأن اللغة تحمل في طياتها تناقضات لا يمكن تجاوزها، مما يؤدي إلى انهيار الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الغربية التقليدية. من خلال مفهوم "التفكيك"، يسعى دريدا إلى الكشف عن هذه التناقضات والتفاوتات داخل النصوص الفلسفية، مؤكداً أن أي خطاب عقلاني هو في نهاية المطاف قابل للتفكيك والتقويض.

3 ـ  تأثير العقلانية على العلم والتكنولوجيا:

في سياق تطور العلم والتكنولوجيا، لعبت العقلانية المطلقة دورًا حاسمًا في تحقيق إنجازات علمية ضخمة. إلا أن هذا التقدم لم يخلُ من إشكاليات. العقلانية التي تركز على الفعالية والإنتاجية قد أدت في بعض الأحيان إلى تجاهل الأبعاد الأخلاقية لاستخدامات التكنولوجيا، مما أثار قضايا جوهرية حول الخصوصية والاستقلالية الإنسانية وحتى الأخطار البيئية.

على سبيل المثال، أدى السعي وراء التقدم التكنولوجي دون اعتبار كافٍ لتداعياته الأخلاقية إلى مشكلات مثل انتهاك الخصوصية، التحكم البشري المفرط بالتكنولوجيا، والتلوث البيئي. هذه القضايا تسلط الضوء على أهمية إعادة النظر في مدى تأثير العقلانية المطلقة على مسار التطور العلمي والتكنولوجي.

4ـ العقلانية والهوية الثقافية:

مع انتشار الفكر العقلاني الغربي، واجهت العديد من الثقافات غير الغربية ضغوطًا للتكيف مع هذا النموذج الفكري، مما أدى في بعض الأحيان إلى تآكل هوياتها الثقافية. العقلانية الغربية، التي تم تصديرها باعتبارها النموذج الأمثل للتفكير والتحليل، فرضت معيارًا ثقافيًا واجتماعيًا على المجتمعات الأخرى، مما أدى إلى تقويض التنوع الثقافي والتعددية.

يجادل النقاد بأن العقلانية المطلقة ليست حلاً عالميًا لجميع المشكلات الثقافية، وأن هناك ضرورة لاحترام التعددية الثقافية وحقوق الشعوب في الحفاظ على هوياتها الثقافية الفريدة. الفلاسفة المدافعون عن التعددية الثقافية يرون أن للعقلانية حدودًا، وأن فهم العالم وتفسيره يتطلب الاستماع إلى أصوات متعددة واحترام الفروق الثقافية.

الجزء الثالث ـ التحليل الفلسفي لنظريات الحداثة وما بعد الحداثة

1ـ الحداثة ونظرتها إلى الذات والعقل:

تمثل الحداثة فترة محورية في تاريخ الفلسفة، حيث شهدت تغيرات جذرية في نظرة الإنسان إلى ذاته والعالم من حوله. بدأت هذه الحقبة في عصر التنوير الأوروبي، حيث ركز الفلاسفة على العقل بوصفه المصدر الأساسي للمعرفة والتحرر من قيود التقليد والجهل. كان إيمانويل كانط ورينيه ديكارت من أبرز الشخصيات الفلسفية التي ساهمت في تشكيل ملامح هذا العصر.

في سياق تطور العلم والتكنولوجيا، لعبت العقلانية المطلقة دورًا حاسمًا في تحقيق إنجازات علمية ضخمة. إلا أن هذا التقدم لم يخلُ من إشكاليات. العقلانية التي تركز على الفعالية والإنتاجية قد أدت في بعض الأحيان إلى تجاهل الأبعاد الأخلاقية لاستخدامات التكنولوجيا، مما أثار قضايا جوهرية حول الخصوصية والاستقلالية الإنسانية وحتى الأخطار البيئية. كان كانط، في عمله الشهير "نقد العقل المحض"، يعتقد أن العقل البشري قادر على الوصول إلى المعرفة من خلال مزيج من التجربة الحسية والعقل المجرد. رفض كانط الأفكار الميتافيزيقية التي لا يمكن التحقق منها عبر العقل أو التجربة، مؤكدًا على أهمية العقل كمرجع نهائي لكل معرفة.

ديكارت، من جهته، أسس لفكرة أن العقل هو الأساس الوحيد للوجود اليقيني من خلال مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود". كان هذا الإصرار على العقل كمصدر لكل يقين فلسفي جزءًا من مشروع أوسع للحداثة، هدفه تحرير الإنسان من السلطات التقليدية والمعتقدات الموروثة، وإقامة مجتمع قائم على المعرفة العلمية والتفكير النقدي.

2ـ نقد مشروع الحداثة عند فوكو ودريدا:

مع تقدم الزمن، ظهرت تيارات نقدية توجهت إلى مشروع الحداثة ذاته، وكان من أبرز هؤلاء النقاد فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا. فوكو، في أعماله مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، أشار إلى أن العقل لم يكن دائمًا أداة للتحرر، بل يمكن أن يصبح وسيلة للسيطرة والإقصاء. بالنسبة لفوكو، فإن العقلانية التي تبنتها المجتمعات الغربية قد استخدمت لتبرير إقصاء من لا يتوافق مع معاييرها، مثل المرضى العقليين، عبر مؤسسات مثل المصحات العقلية.

دريدا، من جهته، قدم نقدًا للغة باعتبارها أداة عقلانية تستخدم لتأسيس وتثبيت الهياكل السلطوية. في كتابه "الكتابة والاختلاف"، يرى دريدا أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل المعاني، بل هي نظام معقد يساهم في تشكيل الفهم والعقلانية ذاتها. من خلال منهجيته في التفكيك، يسعى دريدا إلى إظهار التناقضات الداخلية في النصوص الفلسفية، مؤكداً على أن أي محاولة لتأسيس نظام معرفي شامل سوف تحتوي بالضرورة على تناقضات تقود في نهاية المطاف إلى انهياره.

3ـ ما بعد الحداثة وتفكيك الميتافيزيقا:

حملت ما بعد الحداثة معها نقدًا لاذعًا لمفاهيم الحداثة، خاصة فكرة العقلانية المطلقة. لم تعد الحقيقة مفهومًا ثابتًا أو مطلقًا، بل أصبحت حقيقة متعددة ومتشظية، تعتمد على السياق الثقافي والاجتماعي الذي تُفهم فيه. جان بودريار، في كتابه "المجتمع الاستهلاكي"، أكد أن الواقع ذاته لم يعد يمكن تمييزه عن الصور والعلامات التي تروج لها وسائل الإعلام. أصبحت الحقيقة في زمن ما بعد الحداثة "محاكاة" أو "هيبرواقع"، حيث لم تعد الحقيقة المطلقة موجودة، بل توجد فقط تفسيرات متعددة ومتضاربة للواقع.

يرى بودريار أن المجتمع المعاصر لم يعد يتعامل مع الحقائق بل مع رموز وصور تحاكي الواقع ولكنها لا تمت له بصلة. هذه الرموز تخلق نوعًا من الواقع الزائف الذي يتداخل مع الحياة اليومية، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف. هذه التحليلات أثرت بشكل كبير على الدراسات الثقافية والإعلامية في العصر الحديث، حيث أصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية تأثير الإعلام والتكنولوجيا على تشكيل الوعي الإنساني.

4ـ النقد والاستمرارية بين الحداثة وما بعد الحداثة:

رغم النقد القوي الذي وجهته ما بعد الحداثة لمفاهيم الحداثة، إلا أنها لا تمثل قطيعة تامة معها. بدلاً من ذلك، يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة كاستمرارية ونقد ذاتي للحداثة، حيث تسعى لتفكيك الأسس العقلانية التي قامت عليها، ولكنها في الوقت نفسه تعتمد على أدوات النقد العقلاني نفسها لتحقيق هذا الهدف.

هذا التفاعل المعقد بين الحداثة وما بعد الحداثة يمثل مرحلة جديدة في تطور الفكر الفلسفي، حيث يتم التعامل مع قضايا مثل السلطة، والمعرفة، والهوية الثقافية بطرق جديدة تتجاوز الثنائيات التقليدية. من خلال هذا النقد المتواصل، ساهمت ما بعد الحداثة في توسيع آفاق الفلسفة لتشمل قضايا لم تكن مطروحة من قبل، مثل دور اللغة في تشكيل الفهم الإنساني، وأهمية السياق الثقافي في تحديد ما يُعتبر حقيقة.

الجزء الرابع.. التأثير الفلسفي والاجتماعي للأفكار النقدية في عصر العولمة

1ـ الفلسفة النقدية وتأثيرها على الفكر المعاصر:

مع دخول العالم في عصر العولمة، أصبحت الفلسفة النقدية أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالفلاسفة النقديون مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجان بودريار أسهموا في تشكيل تفكير جديد يتعامل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نتجت عن العولمة. حيث طرحوا تساؤلات جوهرية حول السلطة، والمعرفة، والهوية في هذا السياق الجديد.

في هذا العصر، لم تعد الحدود بين الثقافات والمجتمعات واضحة كما كانت من قبل، مما أدى إلى إعادة التفكير في الكثير من المفاهيم التقليدية مثل الهوية، والدولة القومية، والسيادة. على سبيل المثال، يرى سلافوي جيجيك أن الفلسفة النقدية يجب أن تعالج التحديات التي تطرحها العولمة من خلال تطوير نظريات جديدة تتناسب مع هذا الواقع المعقد. هذه النظريات تعالج قضايا العدالة الاجتماعية، والنضال الطبقي، والسياسات الثقافية في عالم يتزايد فيه التداخل بين الثقافات.

2ـ نقد المجتمع الاستهلاكي والرأسمالية العالمية:

قدم فلاسفة مثل جان بودريار وسلافوي جيجيك انتقادات حادة للمجتمع الاستهلاكي والرأسمالية العالمية. بودريار، في كتابه "المجتمع الاستهلاكي"، يرى أن العالم الحديث قد تحول إلى "مجتمع استهلاكي" حيث تسيطر فيه "العلامات" والرموز على حياتنا اليومية، وتخلق واقعًا مشوهًا يتحول فيه الإنسان إلى مستهلك وليس فردًا فاعلًا. هذا الواقع الجديد يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وعن محيطه، حيث يصبح السعي وراء السلع والخدمات هو الهدف الأساسي في الحياة.

إن الفلسفة النقدية تلعب دورًا حيويًا في تحليل وفهم التغيرات التي يشهدها العالم اليوم. من خلال نقدها العميق للسلطة والمعرفة والهوية، تقدم هذه الفلسفة أدوات فعالة للتعامل مع التحديات المعاصرة، مثل العولمة والرأسمالية العالمية.جيجيك، من جانبه، يجمع بين الفلسفة النقدية والتحليل النفسي ليتناول التناقضات التي تسكن في قلب النظام الرأسمالي. يركز على كيفية تحويل الرأسمالية العالمية كل شيء إلى سلعة، حتى القيم والأفكار، وكيف يؤدي ذلك إلى أزمات اجتماعية واقتصادية متكررة. جيجيك يستخدم هذه التحليلات لتقديم نقد لاذع للنظام الاقتصادي والسياسي السائد، مقترحًا أن الحل يكمن في إعادة النظر في القيم التي تحكم حياتنا وإيجاد بدائل للرأسمالية.

3ـ الفلسفة النقدية والهوية الثقافية في ظل العولمة:

تناول الفلاسفة النقديون أيضًا تأثير العولمة على الهوية الثقافية للشعوب. مع تزايد التداخل بين الثقافات المختلفة، أصبحت مسألة الهوية موضوعًا رئيسيًا في الفلسفة المعاصرة. يرى هؤلاء الفلاسفة أن العولمة يمكن أن تؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية التقليدية، مما يدفع الشعوب إلى إعادة تعريف هويتها في ظل تأثيرات خارجية متزايدة.

لكن بدلاً من رؤية هذا التغيير كتهديد، يقترح بعض الفلاسفة النقديين أن التعددية الثقافية التي تنتج عن العولمة يمكن أن تكون فرصة لإثراء الحوار الثقافي وتعزيز الفهم المتبادل بين الشعوب. هذه الفلسفة تدعو إلى احترام التنوع الثقافي والاعتراف بأهمية الحفاظ على الهوية الثقافية في وجه التحديات العالمية.

4ـ دور الفلسفة النقدية:

في الختام، يمكن القول إن الفلسفة النقدية تلعب دورًا حيويًا في تحليل وفهم التغيرات التي يشهدها العالم اليوم. من خلال نقدها العميق للسلطة والمعرفة والهوية، تقدم هذه الفلسفة أدوات فعالة للتعامل مع التحديات المعاصرة، مثل العولمة والرأسمالية العالمية.

تدعو الفلسفة النقدية إلى اليقظة المستمرة والنقد المستمر لكل ما هو مألوف أو مسلم به، وتشجع على البحث عن معانٍ جديدة في عالم يتغير بسرعة فائقة. في عصر يسيطر عليه الإعلام والتكنولوجيا، يصبح الدور النقدي للفلسفة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث تسعى لتفكيك الواقع الزائف الذي تخلقه هذه القوى، ولإعادة بناء فهم أعمق وأكثر إنسانية للعالم.

ويبقى التساؤل قائما ملحا حول مشروعية ادعاء وجود حقيقة واحدة ينبغي إعلاؤها وفرضها على ما سواها أو ،على الأقل، التمسك بها من قبل من يتبناها، في مقابل ادعاء وجود أكثر من حقيقة تختلف باختلاف الزمان والمكان. ويترتب على ذلك قبول اختلاف الثقافات أو محاولة صهرها في ثقافة واحدة هي الثقافة التي يفرضها المنتصر أو المتفوق تقنيا.

***

ا. د. منذر جلوب

أستاذ جامعي عراقي ـ جامعة الكوفة

عن موقع، عربي 21، يوم: 14/8/2024م

...............................

الهوامش والمراجع

1. أفلاطون. *الجمهورية*، ترجمة وتقديم فؤاد زكريا، دار المعارف، القاهرة، 1984.

2. أرسطو. *الميتافيزيقا*، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1960.

3. توما الأكويني. *الخلاصة اللاهوتية*، ترجمة وتعليق جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1982.

4. ديكارت، رينيه. *تأملات ميتافيزيقية*، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995.

5. كانط، إيمانويل. *نقد العقل الخالص*، ترجمة موسى وهبة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008.

6. نيتشه، فريدريش. *ما وراء الخير والشر*، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت، 2007.

7. هيدغر، مارتن. *الكينونة والزمان*، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012.

8 ـ  **ميشيل فوكو، "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ترجمة: سعيد بنكراد. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 2006.

9 ـ  **جاك دريدا، "الكتابة والاختلاف" ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر، الدار البيضاء. 1988 .

10 ـ  **جان بودريار، "المجتمع الاستهلاكي: أساطير بنيته"،  ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار الفارابي، بيروت، 2009.

11 ـ  **مارتن هايدغر، "السؤال عن التقنية" ترجمة: سعيد توفيق.  دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت.  2012.

12 ـ  **يورغن هابرماس، "نظرية الفعل التواصلي" ،ترجمة: حسن صقر. دار الفارابي، بيروت.2009.

13 ـ  **ميشيل فوكو، *تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي*، ترجمة سعيد بنكراد، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006.**

14 ـ  **جاك دريدا، *الكتابة والاختلاف*، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، بيروت: دار توبقال للنشر، 1990.**

15 ـ  **جان بودريار، *المجتمع الاستهلاكي: أساطير بنيته*، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009.**

16 ـ  **سلافوي جيجيك، *العنف: ست تأملات جانبية*، ترجمة أحمد فؤاد، بيروت: دار نينوى، 2015.**

هل حربُ التَّحرير - كما قال عبد الحميد أبو سليمان - هي الصيغة العصرية للجهاد؟ أعيد طرحَ سؤال المقال الماضي، لأكمل الإجابة عنه في هذا المقال.

في الخطاب القومي العلماني وفي الخطاب اليساري بمختلف تياراتِه كانت تستعمل كلمة «مناضل» وكلمة «النضال» وكلمة «الكفاح» بديلاً علمانياً لكلمتي «مجاهد» و«الجهاد».

وفي الأدبياتِ الماركسية العربية يسمى الجهاد «الجهاد المقدس». صحيح أنَّ سواهم - والذين منهم من ينتمون إلى الخطاب الديني الإسلامي - يستعملون هذه التسمية، إلا أنَّ هؤلاء يستعملونها بعفوية لغوية وببراءة آيديولوجية تأثراً بلغة الصحافة وبلغة الأدب المتأثرتين هما أيضاً بلغة الترجمة من اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. فعن طريق التأثر بالترجمة من هاتين اللغتين صارت صفة القداسة - بالتذكير والتأنيث - تلحق بكلمات لم يكن معهوداً في الأسلوب والبيان العربي القديم أو الأصلي إلحاقُ هذه الصفة بها.

في الكتاب التجميعي «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنا وقطب، الذي أحال عبد الحميد أبو سليمان إليه في غير موضعه - كما أوضحت ذلك في المقال الماضي - يقول أبو الأعلى المودودي: «فأنت ترى أن الإسلام قد تجنّب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال (war) في اللغة العربية، واستبدل بها كلمة (الجهاد) التي تؤدي معنى (بذل الجهد والسعي)، ويرادفها كلمة (struggle) في اللغة الإنجليزية، غير أن لفظة (الجهاد) أبلغُ منها تأثيراً وأكثر إحاطة بالمعنى المقصود».

Struggle ترجمتها إلى اللغة العربية هي: يكافح، والكفاح؛ إذ إنها فعل واسم في آن واحد. وحين تُراجع معانيها بقواميس اللغة الإنجليزية، وتُراجع معاني كلمة «جهاد» بقواميس اللغة العربية، ستعرف أن ما قاله المودودي هو قول صحيح.

بعد الثورات العلمانية على صُعُد شتى في الغرب ونجاحها، اكتسى مصطلح «حرب مقدسة» و«حرب أو حملة صليبية» معنًى سلبياً، لذا فإنَّ المصطلح الأخير من أجل استمرار استعماله أُفرغ من معناه الديني الأصلي، واستُبدل به معنى دنيوي نافع، مثل قولهم: سنشنُّ حملة صليبية على المرض أو على الفقر أو على الفساد؛ الفساد السياسي أو الاقتصادي... إلخ. وعلى الضفة السوفياتية قيل: سنشن حرباً مقدسة على الإمبريالية.

ولمَّا ترجم الغرب كلمة «الجهاد» إلى «الحرب المقدسة»، فهو ترجمها بهذا المصطلح غير المستحَب في الغرب بعد أن تعلمن. وممَّا زاد الأمر سوءاً أن أوروبا كانت في قرونها الدينية ساحة حرب بارزة صالَ فيها الجهاد الإسلامي قروناً عدة.

بدأ الغرب استعمال كلمتي «جهاد» و«جهاديين» بلفظيهما العربيين في وسائل الإعلام وفي الأوساط الأكاديمية، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات الميلادية. وقد ذاعتا عند أهله كثيراً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001.

في اللغة العربية معنى كلمة «جهاد» متعدد، ولا يقتصر معناها على المصطلح الإسلامي «الجهاد في سبيل الله».

ولأن معانيها متعددة أطلقت عائلات مسيحية فلسطينية وسورية ولبنانية على أبنائها اسم «جهاد» بالمعنى اللغوي وليس بمعناه الفقهي. وتقصر معرفتي عما إن كانت العائلات القبطية في مصر، والعائلات المسيحية في العراق، سمّت أبناءها بهذا الاسم، أم أنها لا تسمي أبناءها به.

أَخلصُ من بعض ما ذكرتُ إلى أن اعتبار عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» حروب التحرير صيغة عصرية للجهاد، وتسميته لها جهاد «التحرير» كان خطأً بيِّناً.

رأى عبد الحميد أبو سليمان أن «التأثير الماركسي على العلاقات الدولية من الفكر الماركسي ذو أهمية لا تُذكَر (كذا في الترجمة العربية لرسالته)، كما كانت المفردات الماركسية، بشكل عام، منبع إرباك وحيرة متزايدين، ولم يكن من الواضح ممن يُراد التحرر ولماذا.

وللدلالة على ذلك فقد حملت هذه المفردات معاني مُبهمة لمفهوم الجهاد في حرب التحرير الجزائرية والحرب الأهلية اليمنية.

إن نقده هذا فيه ارتباك، وفيه أخطاء معلوماتية؛ فليس واضحاً إن كان يتحدث عن حروب التحرير الوطنية أم حروب التحرير الشعبية.

لقد مهّد للحديث عن تأثر العالم الإسلامي بالماركسية، بقوله: «وكان الاتجاه المتنامي لعلاقات الدول الإسلامية الخارجية، بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة، يبتعد عن السلام، ويخطو نحو المواجهة مع الغرب. وشهدت هذه المرحلة تورط الدول العربية بالمسألة الفلسطينية (!) وثورة العرب المسلمين في شمال أفريقيا ضد الاحتلال الأوروبي لبلادهم، وكان الإندونيسيون المسلمون منشغلين في حرب عصابات ضد المستعمر الهولندي».

إندونيسيا من البلدان التي شهدت حرب تحرير شعبية. ودول جنوب شرقي آسيا عامة شهدت حروب تحرير شعبية. الجزائر شهدت حرب تحرير وطنية وحرب تحرير شعبية.

حُدِّد تأثر العالم الإسلامي بالماركسية زمنياً ببروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع أن زمنه أقدم من ذلك. فعلى نحو عام، هذا التأثر بدأ بُعَيْد الثورة البلشفية 1917، إذ أنشئت أحزاب شيوعية في بلدان إسلامية عدة.

النطاق الجغرافي في العالم الإسلامي الذي خصّه بالوقوف على تأثره بالماركسية، هو البلدان العربية. وكان بذلك يشير إلى البلدان العربية التي ربطتها علاقات صداقة ونصرة وتحالف مع الاتحاد السوفياتي.

مرة أخرى، نحن أمام تحديد زمني خاطئ، فمصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي لم يكن لها هذا النوع من العلاقة بالاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما أن هذه العلاقة الخاصة بين هذه البلدان والاتحاد السوفياتي نشأت في أعوام متفاوتة، ولم تنشأ دفعة واحدة. ولم يكن سببها سبباً عاماً - كما قال - وهو ظهور الاتحاد السوفياتي بعد الحرب الكونية الثانية كقوة عظمى، فلكل بلد من هذه البلدان أسبابه في تكثيف العلاقة بالاتحاد السوفياتي.

وللتنبيه، أنا لم أنس ليبيا، فلم أذكرها لأنه في العام الذي أنجز أبو سليمان فيه رسالته، عام 1973، كان رئيسها معمر القذافي لا يزال يذم في العلن العقيدة الشيوعية. فليبيا ارتبطت بعلاقة خاصة مع الاتحاد السوفياتي عام 1974. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 06 صفَر 1446 هـ - 11 أغسطس 2024 م

 

أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح.

هل نعيش في لحظة انحطاط أو لحظة أزمة؟ الفرق كبير بين المفهومين حسب تمييز الفيلسوف الفرنسي جان ليك ماريون، الذي يرى أن الانحطاط يكون في حال العجز عن تغيير المسار بحيث يفقد السياسي القدرة على التأثير على الوضع القائم، أما الأزمة فهي لحظة فارقة تفتح آفاقاً متباينة للفعل والحركة، ولذا فإنها مفعمة بالأمل والرجاء. في كتاباتنا العربية الرائجة الحديث يدور في الغالب عن الأزمات في مناحيها المختلفة: أزمة الثقافة والفكر، أزمة النظام الإقليمي، أزمة التحول الديمقراطي، أزمة التخلف، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية..

ما تعنيه مقولة «الأزمة» في هذه المناحي هو الوعي بأن الأوضاع المختلفة للمجتمع العربي تعاني من التردي المتزايد والانتكاسة المتواصلة، بيد أن الأمل يظل قائماً للتغلب على هذه النقائص والانتكاسات في أفق تجديد الفكر وإصلاح النظم السياسية والمجتمعية المعطلة. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، برز مصطلحان أساسيان في رصد أزمات المجتمع العربي هما: النقد والتفكيك. النقد ينطلق من سياقين نظريين متمايزين هما: نقد ملكة العقل والحكم بالمفهوم الكانطي؛ أي ضبط أدوات التصور والمعرفة، والنقد الإبستمولوجي المتعلق بمناهج النظر والتحليل ونماذج التطبيق الإجرائي في الظواهر الطبيعية والإنسانية.

ورغم أن المفكرين الراحلين محمد أركون ومحمد عابد الجابري أصدرا أعمالاً مهمة بعنوان «نقد العقل» (الإسلامي والعربي)، إلا أن الإشكالية الكانطية كانت غائبة في هذه الأعمال التي نحت، إما منحى أنثروبولوجياً (الأنثروبولوجيا المطبقة بالنسبة لأركون) أو منحى إبستمولوجياً (الإبستمولوجيا المطبقة على النمط الباشلاردي بالنسبة للجابري). النقد يحيل في منطقه العميق إلى إمكانية تجاوز الأزمة الفكرية القائمة، من خلال الكشف عن الهنات ونقاط الضعف، ومن ثم الوصول إلى الإدراك الدقيق للظواهر والتوصل إلى الحلول المناسبة للقضايا العالقة.

في استراتيجية نقد العقل، يكون المخرج هو التشخيص الصحيح وبناء الموقف العقلاني العلمي الذي هو البديل الناجع عن الانغلاق في الممارسات التراثية المعيقة للنهوض والتحديث. أما التفكيك، فلا يحمل هذه الشحنة المتفائلة، لكونه ينطلق من مسلمة استحالة الخروج من سلطة النص والمعنى وسطوة الحقيقة الدوغمائية، وليس ثمة مسالك للخلاص والتحرر.

مفاهيم التفكيك دخلت أساساً عن طريق أدبيات الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، التي اخترقت العلوم الإنسانية والكتابات الفلسفية، وقد تركزت في الفكر العربي المعاصر في مواضيع مثل نقد التنوير والحداثة والالتزام.. ما نلاحظه هو أن أفكار التفكيك وظفت أساساً في الخطاب العربي المعاصر ضد الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، أي ضد مشاريع النهوض والتحديث التي بلورتها النخب الفكرية والسياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر.

وهكذا نخلص إلى أنه في حين تظل المقاربات النقدية دائرة في أفق التحديث والتنوير، فإن الكتابات التفكيكية لا تفضي إلى أي أفق للتغيير الإيجابي أو الحلول الناجعة لأزمات المجتمع العربي.

ومع أن مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح. لقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه من أهم من فكر فلسفياً في مفهوم «الانحطاط» الذي ربطه بالظاهرة العدمية الحديثة، ويعني بها سيادة التصور الأخلاقي للوجود وما ينجر عنه من تراجع الغرائز الحية وسيادة قيم الضعف والانتكاسة والجمود. وفي ما وراء الحرفية المباشرة لهذه العبارات، ما يقصده نيتشه هو أن الانحطاط ينبع من التشبث بالقيم السائدة من حيث هي معارف موضوعية ويقينية، بدلاً من اعتبارها قوى دافعة للفعل والنشاط والإبداع.

ما يبينه نيتشه هو أن الحضارة الأوربية المعاصرة قوضت كل إبداعاتها المعرفية والعلمية والإنسانية، من خلال اختزالها في حقائق موضوعية أو معايير قانونية عادلة، بما يفضي إلى تحصين الوضع القائم وكبح كل إمكانات تجاوزه. عندما تستخدم هذه المقولات التفكيكية في رصد وضع الانحطاط العربي، يتم في الواقع تثبيت حالة التردي الفكري والاجتماعي العربي عبر نفي إمكانات تغيير الواقع وتجاوزه إيجابياً.

ما نريد التأكيد عليه في نهاية المطاف، هو أن أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 11 أغسطس 2024 23:45

لاحقته المخابرات الأميركية في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه. وكانت أولاها: «الشمس تشرق أيضاً» (1926). وقد نالت شهرة واسعة وحظيت بأفضل المبيعات. وهي تعدُّ إحدى أعظم روايات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بين الحربين العالميتين. إنه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل الاحتراق والعبور، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الأولى ولم يستطع نسيانها.

ثم في عام 1929 نشر همنغواي رائعته الثانية «وداعاً أيها السلاح». وقد بيع منها خلال أربعة أشهر فقط ما لا يقل عن ثمانين ألف نسخة. ثم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثم إلى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك الأموال والفلوس. وراح يدلي بالمقابلات الصحافية للجرائد الأميركية والعالمية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح لأحد الصحافيين بأنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته 39 مرة. وفي كل مرة كان يشطبها قبل أن تعجبه أخيراً في المرة الأربعين... وهي تشبه السيرة الذاتية. وفيها يتحدث عن الحب والحرب والممرضة الإيطالية التي عالجته وشفته من جرح خطير كان قد أصيب به على الجبهة في نواحي ميلان أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة هي أنها جرحته جرحاً خطيراً من نوع آخر: لقد لوعته حباً وغراماً. وهذا الجرح الثاني لا علاج له ولا شفاء منه.

وفي عام 1940 نشر رائعته الكبرى الثالثة «لمن تقرع الأجراس؟»، وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية. وقد نالت نجاحاً فورياً مدوياً. وبيعت منها مليون نسخة بعد عام واحد فقط من ظهورها. مليون نسخة! ثم قبض مبلغ مائة وخمسين ألف دولار على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وهذا رقم قياسي في ذلك الزمان. ولم يسبق أن ناله أي كاتب آخر أميركي أو غير أميركي. وهو الذي اختار الممثل غاري كوبر والممثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية وبطلتها.

وفي عام 1952 تصدر رائعته الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقد نالت نجاحاً هائلاً وفورياً. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي عام 1954 بجائزة «نوبل للآداب». لكنه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى استوكهولم لتسلمها. فأرسل لهم كلمة قصيرة جداً قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنه يشتغل ضمن أجواء مطبقة من الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كان كاتباً جيداً بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجود الأبدية أو عدم وجودها. بمعنى آخر فإن سؤال الموت وما بعد الموت، سؤال الخلود أو الفناء الكامل سوف يظل يلاحقه باستمرار».

هكذا نكون قد عدنا إلى مسألة السر الأعظم أو اللغز الأكبر الذي لا يعطي نفسه لمخلوق على وجه الأرض.

سؤال بلا جواب؟

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ينتحر كاتب حقق كل هذا النجاح الأدبي غير المسبوق؟ لماذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نوبل» ووصل إلى قمة الأدب الأميركي والعالمي؟ لماذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مبيعات خيالية ودرت عليه الملايين؟ لماذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعماً مرفهاً عشرين سنة أخرى أو حتى خمساً وعشرين. وهي أجمل سنوات العمر، سنوات التقاعد، خصوصاً إذا كنت تمتلك كل هذه الملايين من الدولارات المتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب...

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

في عام 2011 وفي يوم 2 يوليو (تموز)، أي بعد خمسين سنة بالضبط من انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبراً مثيراً سرعان ما انفجر كالقنبلة الموقوتة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختياراً وإنما اضطراراً. فقد كان ملاحقاً من قبل عملاء المخابرات الأميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة الأميركية الشهيرة رسالة لصديقه هارون إدوارد هوتشنير. وهي رسالة ألقت أضواء جديدة على المراحل الأخيرة من حياة إرنست همنغواي. ماذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد الأيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من الاضطراب لا تُوصف. وقال لي بأنه متعب جداً من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت منه أنه يعيش حالة هلع وأنه بحاجة لأن يراني. فذهبت فوراً للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الذي يؤرقه ويقض مضجعه. قال لي: أنتم لا تعرفون ماذا يحصل لي؟ أنا في خطر يا جماعة. أنا ملاحق من قبل المخابرات ليلاً نهاراً فقط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن!

ثم يضيف صديقه في الرسالة قائلاً:

ولكن المقربين منه لم يلحظوا وجود أي برهان عملي على ذلك. ولذلك اعتقدوا أنه أصيب بمرض البارونايا: أي الذُهان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس الإحساس الوهمي بأنه ملاحق من قبل أجهزة المخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان ملاحقاً فعلاً أم أنه كان موسوساً عقلياً ومتوهماً بأنه ملاحق؟ ومعلوم أن أحد النقاد كان قد اتهمه سابقاً بعد أن تعرف عليه بأنه مصاب بمرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإلا من أين جاءت كل هذا الإبداعات العبقرية؟

فيما بعد كشفت الأرشيفات أن رئيس المخابرات إدغار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تحت المراقبة والتنصت بتهمة التعامل مع جهة أجنبية معادية. ولذلك لاحقته المخابرات في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية، بل وحتى على شواطئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعلاً بالملاحقات حتى جننوه ودفعوه دفعاً إلى الانتحار. والأنكى من ذلك أنهم اتهموه بأشياء لا علاقة له بها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بك إحدى الجهات ولعنت أسلافك وأنت بريء كلياً مما يظنون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل لإرنست همنغواي على ما يبدو. وبالتالي فقد ذهب ضحية عبث الأقدار الاعتباطية أو غلطات الوجود. لقد غلطوا به مكان شخص آخر. المجرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن!

ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها

ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقرياً مشهوراً فهذا يعني أنك قد دخلت فوراً في الدائرة الحمراء للخطر. سوف تنزل على رأسك النوازل غصباً عن أبيك. يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير علماء فرنسا وفلاسفتها على مدار 400 سنة متواصلة ولم أجد واحداً منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا معرضين للخطر بشكل أو بآخر وأحياناً لخطر الاغتيال. نستنتج أيضاً أن ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها. لقد احترقوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن الأفضل أن نكون أشخاصاً عاديين كبقية البشر لا أكثر ولا أقل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريباً لا يوجد عبقري واحد إلا ودفع ثمن شهرته عداً ونقداً بشكل أو بآخر: المتنبي قُتل في الخمسين، ابن سينا مات على الأرجح مسموماً في السابعة والخمسين، جمال الدين الأفغاني مات مسموماً في الآستانة عند الباب العالي وهو لما يبلغ الستين، عبد الرحمن الكواكبي قتله الباب العالي أيضاً في القاهرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة والأربعين. ديكارت مات مسموماً في السويد وهو في الرابعة والخمسين، وذلك على يد كاهن أصولي كاثوليكي دس له السم في القربان المقدس! الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطين القانون السوري والعالمي سقط مضرجاً بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة المقاتلة لـ«الإخوان المسلمين» وهو في الثامنة والخمسين. والقائمة طويلة... عندما نكتشف كل ذلك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 10 أغسطس 2024 م ـ 05 صفَر 1446

 

ظلّت طويلاً أقرب لاشتغال مهني مركون في المكاتب الهندسية وعالم المقاولات

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية: كانت العمارة (Architecture)، إلى جانب بعض ألوان الأدب «الرواية بالتخصيص» والفن التشكيلي والمسرح، إطلالتنا المبكّرة على عالم الحداثة وما بعد الحداثة؛ لكنْ برغم هذه الطلائعية الحداثوية ظلّت العمارة أقرب لاشتغال مهني مركون في مثاباته الوظيفية العالية (المكاتب الهندسية وعالم المقاولات)، ولم تتحوّلْ نسقاً ثقافياً فاعلاً. هذا ما تعزّزه حقيقة النقص الفادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية. ظلّ المعمار العربي أسير الرؤية الضيقة التي لا ترى في العمارة سوى طريق نحو تحقيق نوع من الحظوة الاجتماعية بفعل الانضمام إلى المجتمع المعماري الكلاسيكي الذي تشيع فيه أخلاقيات «الأرستقراطية المالية» المتوقعة. كانت النتيجة فقراً مزمناً في المنشورات التي تؤكّد على «دور المعمار في حضارة الإنسان»، وهو عنوان كتاب مثير للمعمار العراقي الراحل رفعة الجادرجي.

كانت العمارة تَرِدُ في مقروءاتنا كمَنْشط إنساني ملحق بالفعاليات البشرية. هذا ما حصل معي - وكثرةٍ من مُجايليّ - طيلة سنوات السبعينات من القرن العشرين. أذكرُ أنني قرأتُ في عدد شهر مارس (آذار) لعام 1978 من مجلة «آفاق عربية» العراقية موضوعاً مثيراً عنوانه «أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة»، ترجمه المعمار العراقي محمود حمندي. توفّر الموضوع على ميزة استثنائية وهي أنك كنت تقرأ فيه نتاج عقل مهجوس بالوضع البشري وليس بنطاق مهني ضيق فيه، وظهر الكاتب أقرب لمشتغل متمرّس بالأنساق الثقافية امتدّ بصره خارج أنطقة المكاتب المعمارية وسياقات عملها الوظيفية الصارمة. عزمتُ بعد تلك القراءة الكاشفة على أن أتابع قراءاتي في الثقافة المعمارية، وكان بعضُ ما عزّز هذه الاندفاعة لديّ هو أنّ بعض مُنظّري ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة في العالم كانوا من أكابر المعماريين العالميين، وأخصُّ منهم تشارلز جينكس (Charles Jencks) الذي يمكنك أن ترى في بعض كتاباته آثاراً من الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة الثقافية مثل إيهاب حسن.

تحفة بصرية

حصل معي بداية ثمانينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاباً صغيراً بعنوان «حديث في العمارة» نُشِر في العراق ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة. مؤلف الكتاب هو الدكتور خالد السلطاني، الأستاذ في قسم العمارة بجامعة بغداد، والمقيم حالياً في الدنمارك. منذ ذلك الحين حرصتُ على متابعة منشورات السلطاني في مقالاته الغزيرة أو في كتبه العديدة التي جاوزت العشرات. خالد السلطاني، كما أرى، هو أحد الأضلاع في المثلث المعماري العراقي (رفعة الجادرجي، معاذ الآلوسي، خالد السلطاني) الذي عمل على تكريس العمارة اشتغالاً نسقياً ثقافياً مؤثراً في طبيعة المعيش اليومي وحركياته المتطورة سعياً نحو تثويره وتحفيزه للارتقاء الحثيث بالمجتمع في كلّ جوانبه. آخِرُ كتب السلطاني هو الكتاب المعنون «عمارات: لمحةٌ إلى عمارة الحداثة... وأخرى إلى ما بعدها». الكتاب من منشورات أواخر عام 2023.

أربع خصائص مميزة يمكن تنسيبها لهذا الكتاب:

* أولاً، قَصَدَ المؤلف أن يكون الكتاب تحفةً بصريةً يرى فيها القارئ أعاظم المنجزات المعمارية لأسماء كبيرة في عالم العمارة. أراد المؤلف إحداث انعطافة مفصلية عن سياق مؤلفاته السابقة فعمد إلى تحريك الحواس كاملةً بدلاً من الاكتفاء بالجهد الذهني والتفكّر المعقلن. أنت هنا «ترى» الحداثة وما بعد الحداثة في سياق تشكلات صُوَرية معمارية غاية في الجاذبية ولا تكتفي بالقراءة الموغلة في التنظير الفلسفي للأفكار. من المؤكّد أنّ الإخراج الفني البديع ساهم في تعزيز قصد المؤلف.

وثانياً، الكتاب ليس ترتيباً زمنياً خطياً رتيباً (كرونولوجياً) يُشترطُ فيه القراءة السياقية المنتظمة. يكفي القارئ أن يطّلع على قائمة محتويات كلّ فصل ثم ينتقي ما يشاء من عمارة محدّدة أو اسم معمار عالمي أو مدرسة معمارية عالمية. الكتاب في النهاية ليس مقرراً دراسياً ولا كتاباً توثيقياً شاملاً لأفكار عمارة الحداثة وما بعد الحداثة بقدر ما أراده المؤلف خلوة محببة مع بعض منتجات الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية. كان المؤلف واضحاً منذ البدء في إشارته إلى أنّ خياراته للشواخص المعمارية في الكتاب إنّما تعكس ذائقته الشخصية وليس من المفيد أن تترتب عليها أي تقييمات على صعيد الجودة التنفيذية أو الأمثلية المعمارية.

وثالثاً، مع أنّ المؤلف لم يشأ بقصدية واضحة تقديم أطروحة تنظيرية مغالية في أكاديميتها؛ كانت المقدمة المختصرة التي كتبها مثابة مميزة حقاً لأنه استطاع في صفحات قليلة ضغطَ خبرة مديدة وتكثيفها وتقديمها لقارئ لم يتمرّس في دروب العمارة ومتاهاتها حتى لو كانت له حصيلة ثقافية عامة معتبرة.

وأخيراً، عهد المؤلف في التفاتة لمّاحة إلى إناطة كتابة تمهيد الكتاب بشاعر وإعلامي عراقي له صيته الجميل في الساحة الثقافية العراقية. وهو (المؤلف) في هذه الالتفاتة يؤكّد على كسر النخبوية المعمارية الضيقة والعمل على انفتاح الفضاء المعماري على أنسقة ثقافية أكثر اتساعاً من حدود القاعات الجامعية أو المكاتب المعمارية المهنية.

نظرية العمارة

الكتاب بسيط الترتيب ولا تعقيد فيه من جهة المحتويات، وهذه بعضُ فضائله. ثمة مقدمة (أؤكّد أنها عظيمة الفائدة) موجزة، يعقبها فصلان يختص الأول بنماذج من عمارة الحداثة، ويختص الثاني بنماذج من عمارة ما بعد الحداثة، ثم يختتم الكتاب بفصل قصير أوجز فيه المؤلف رؤاه السابقة (تسمى إيجازاً Summing Up). يرد في خاتمة الكتاب قائمة موجزة ومهمة بالمصادر والمراجع، مع ملحق قصير بالإنجليزية.

يؤكّد المؤلف أنّ مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية كانت سابقاً تدرّسُ كنُتَفٍ مفاهيمية مبعثرة في منهاج «تاريخ العمارة»؛ لكنّه عمل بجهد حثيث على التأكيد عليها وتضمينها في منهج دراسي منفصل هو «نظرية العمارة» متمايز عن تاريخ العمارة. يكتب المؤلف واصفاً بعض تفاصيل الحداثة المعمارية:

«اعتمدت الحداثة المعمارية على التقدم الصناعي والنجاحات الجديدة التي حدثت فيه، وتبنت الأفكار الطليعية المنادية للتغيير، كما اهتمت بالجانب الاجتماعي للعمارة...» ، ثم يوردُ صفات محددة للحداثة المعمارية: النزعات العقلانية في إيجاد حلول المعضلات المعمارية، رفض الطرز التاريخية للمباني، وإهمال لغة الذاكرة التاريخية المحلية.

شاعت عمارة الحداثة في الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين حتى سبعيناته، ثم بدأت طلائع ما بعد الحداثة المعمارية تقتحمُ حصون الحداثة منذ أواسط ستينات القرن العشرين بفعل تأثير ثلاثة أساطين معماريين. يكتب المؤلف في بعض هذا الشأن:

«معلومٌ أنّ روبرت فنتوري Robert Venturi (1925- 2018)، المعمار الأميركي المعروف، الذي ارتبط اسمه كأحد المنظّرين اللامعين لظاهرة عمارة ما بعد الحداثة، قد ألّف كتاباً ونشره عام 1966 بعنوان (التعقيد والتناقض في العمارة Complexity and Contradiction in Architecture) يتناول مسوّغات التغيير وضرورته في الذائقة الجمالية للعمارة، ويروّجُ لأطروحة تقف بالضد من عمارة الحداثة...». لقي الكتاب التأسيسي لفنتوري رواجاً واسعاً عقب نشره، وتُرجِم إلى 16 لغة عالمية، وقامت المعمارية العراقية سعاد مهدي بترجمته إلى العربية ونشره في بغداد عام 1987، ثم أعقبت هذا الكتاب بكتاب تاريخي مهم عنوانه «عصر أساطين العمارة». نجد في كتاب فنتوري تأكيداً صارماً لفكرة أنّ العمارة نظام نسقي معرفي متكامل مع المعرفة البشرية:

«الفعالية المعمارية ما هي سوى شكل من أشكال المعرفة حالها حال الرياضيات والفيزياء والأدب، ولتوسيع شكل المعرفة هذا ينبغي النظر إلى علاقتها بالأنظمة الأخرى...».

يشيرُ المؤلف في انتباهة شديدة الأهمية إلى جملة من العوامل التي تدفع الارتقاء الحثيث للممارسة المعمارية المعاصرة؛ فيذكر من هذه العوامل: تطور تقنيات المحاكاة الحاسوبية، العلوم الجديدة (علم الكونيات الحديث، علوم التعقيد)، توظيف المعلوماتية والعولمة، الاستفادة من المواد النانوية فائقة الصغر.

عقب الاستفاضة في الحديث عن عمل فنتوري يتناول المؤلف مُنظّراً معمارياً آخر هو تشارلز جينكس (1939 - 2019) وكتابه «عمارة ما بعد الحداثة» المنشور عام 1977. يعجب المرء لقلّة مترجمات أعمال جينكس الكثيرة إلى العربية، وربما من المفيد الإشارة إلى عمله الموسوم «عمارة الكون الوثاب» الذي تُرجِم قبل بضع سنوات.

بيتر آيزينمان (Peter Eisenman)، المولود عام 1933، هو المنظّر الثالث لما بعد الحداثة المعمارية، الذي تناوله المؤلف. تناغمت أفكار هذا المنظّر مع الفلسفة التفكيكية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وهذه المقاربة نراها واضحة في كتبه العديدة.

بعد القراءة المدققة للمقدمة المكثفة للمؤلف يمكن للقارئ الترحّلُ بتجوال بصري حر في عوالم منتقاة من عمارة الحداثة وما بعد الحداثة. للقارئ أن يحلّق كما يشاء ويحطّ أنّى يشاء؛ فالمؤلف يبتغي إمتاعه أولاً وقبل كل شيء من غير ضواغط فكرية أو منهجية ثقيلة.

عالمنا يتفجّر بألوان من المعارف كلّ يوم حتى بات المرء مثقلاً بعبء البحث عن الجديد مع عدم إغفال المعرفة القديمة. وَسْطَ شواغل ومثيرات حسية لا تنتهي قلما يجد القارئ (حتى الشغوف) وسيلة مناسبة لقراءةٍ مُصممة لإثرائه وتوفير الجهد والزمن له مع عدم الاخلال بالخصيصة الفكرية التي تشتغل في الجبهات العالية للمعرفة. أعتقد أنّ كتاب السلطاني أوفى بمتطلبات هذا الاستحقاق الذي سيقدّمُ خدمة كبرى لكثرة من القرّاء المهجوسين بالمعرفة المعمارية والإنسانية الشاملة.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 7 أغسطس 2024 م ـ 02 صفَر 1446 هـ

كان يرى أن التضاد بين الغرب والآخرين لم يعد صالحاً في عصر العولمة الكونية

لا أعرف مثقفاً عربياً ولا مسلماً واحداً أكثر انهماكاً في مسألة العلاقة بين التراث والحداثة من داريوش شايغان. لقد كانت شغله الشاغل على مدار خمسين سنة متواصلة؛ أي حتى رحيله عن هذا العالم عام 2018، مخلفاً وراءه العديد من الكتب المرجعية.

وهنا منذ البداية أقول: لحسن الحظ، فإن الفكر لا يموت بموت صاحبه، وإنما يظل حياً متألقاً بعده، إذا كان فكراً حقيقياً مضيئاً للإشكاليات العويصة. ما دام المثقف يخلِّف وراءه أعمالاً كبرى تخلده، وتضيء للأجيال القادمة الطريق، فإنه لا يموت. المفكر الكبير -بهذا المعنى- يظل يعيش معنا، بيننا، يظل يرافقنا. يكفي أن نفتح كتبه لكي نسمع صوته، لكي نستفيد من إضاءاته وإرشاداته. وهذا هو عزاؤنا الوحيد في الواقع بعد رحيله. هل مات ابن سينا؟ هل مات المعري؟ هل مات المتنبي؟ أين هو انتصارك يا موت؟ العباقرة لا يموتون!

نذكر من بين مؤلفاته: «ما الثورة الدينية؟»، وفيه ينتقد أدلجة الدين بعد الفورة الأصولية الخمينية عام 1979. والمقصود بالأدلجة هنا نزع القداسة عن الدين، وتحويله إلى مجرد آيديولوجيا سياسية مربحة جداً، على صعيد التجييش الشعبي، أو بالأحرى: الشعبوي و«الانتخابات الديمقراطية»! وحدها المتاجرة بالدين تبدو فعالة وفتاكة وقادرة على إنزال الجماهير إلى الشارع بالملايين. شيخ صغير واحد يعادل كل المثقفين العرب دفعة واحدة!

ثم كتاب: «النظرة المبتورة. البلدان التقليدية في مواجهة الحداثة»، وفيه يدرس ظاهرة الانفصام السيكولوجي أو «الشيزوفرينيا» التي نعاني منها نحن أبناء العالم الإسلامي، بين الانكفاء على التراث من جهة، والانبهار بالحداثة الغربية من جهة أخرى. فنحن نتذبذب بين قطبين. نحن في منزلة بين المنزلتين. فلا القدامة انتهت بعد، ولا الحداثة انتصرت بعد. من هنا قلقنا وعذابنا وعدم استقرارنا على «خازوق» محدد؛ إذا جاز التعبير. نحن في منزلة بين المنزلتين. نحن نعيش مرحلة انتقالية مترجرجة، مليئة بالمخاضات والعذابات. ولا ننسى كتاب المقابلات الشخصية الحميمية الذي أجاب فيه على أسئلة أحد الباحثين، بعنوان شاعري جميل جداً: «تحت سماوات العالم». ولا ننسى كتابه: «النور يأتي من الغرب». ولا ننسى، ولا ننسى...

لو لم يغادر داريوش شايغان إيران بعد انتصار الظلامية الخمينية، لما استطاع إتحافنا بكل هذه الروائع والمراجع. كيف يمكن التفلسف والتعمق والتحرر في مثل هذا الجو الخانق لرجال الدين؟! لولا استقراره في باريس، عاصمة الحضارة والأنوار، لما بقي منه شيء يذكر.

ما هي النظرية الأساسية لداريوش شايغان؟ يمكن تلخيصها على النحو التالي:

على الرغم من كل نواقص الغرب وانحرافاته العدمية المقلقة، فإن داريوش شايغان يعتقد بأن النور -أي الحل والخلاص- سوف يأتي من جهة الغرب لا محالة. لماذا؟ لأن الغرب على عكس الشرق هو الذي شهد عصر التنوير الكبير في القرن الثامن عشر. ويرى أن هذا العصر يشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ البشرية كلها، وليس فقط في تاريخ أوروبا الغربية. فالإنسان في تلك الفترة الذهبية من عمر الحضارة البشرية، أدرك لأول مرة معنى حريته وحقوقه، وأراد نفض الغبار عن نفسه، والتحرر من وصايتين اثنتين مرهقتين فوق رأسه، هما: وصاية السلطة السياسية القمعية ورهبتها، ووصاية الجلالة المقدسة لرجال الدين القمعيين أيضاً. لقد كبر الإنسان، لقد شب عن الطوق، لقد انتقل من مرحلة القصور الشرعي إلى مرحلة سن الرشد، كما يقول كانط في تعريفه للأنوار. باختصار شديد لقد تحرر من وصاية الكاهن المسيحي، وأصبح يفكر بنفسه، ويتجرأ على استخدام عقله.

ولذا يرى شايغان أنه لكي تتفتح شخصية الإنسان وتزدهر؛ بل ولكي تتفتح الروحانيات الدينية ذاتها، فإنه -ويا للمفارقة الكبرى- لا ينبغي أن يعيش في مجتمع ديني شرقي، وإنما في مجتمع غربي علماني حديث، محرَّر كلياً من اللاهوت والكهنوت. ينبغي أن تعيش في ظل حماية دولة القانون المضادة لدولة الاستبداد والتعسف والاعتباط. ينبغي أن تعيش في ظل مؤسسات عقلانية ديمقراطية، إذا ما أردت أن تكتب وتبدع. وهي المؤسسات السائدة في دول الغرب المتقدم في أوروبا وأميركا الشمالية.

ولهذا السبب، فإن معظم المثقفين العرب والمسلمين يحلمون بالهجرة إلى جامعات أوروبا وأميركا؛ حيث يستطيعون مواصلة أبحاثهم بكل حرية. لو أن فضل الرحمن لم يغادر باكستان على وجه السرعة، ولم يستقر في جامعة شيكاغو، هل كان سيتجرأ على كتابة ما كتب عن التراث؟ لو أن محمد أركون لم يبقَ في باريس وعاد إلى الجزائر بعد تخرجه في جامعة «السوربون»، هل كان سيتجرأ على إتحافنا بأكبر مشروع فكري في هذا العصر: «نقد العقل الإسلامي»؟ بالمعنى الفلسفي العميق لكلمة نقد، وليس بمعنى التجريح.

بهذا المعنى، يعتقد داريوش شايغان أن مغامرة الحداثة الكبرى كانت بمثابة حركة تحريرية ضخمة، هادفة إلى تحرير الإنسان من كل الضغوط التراثية التي تجثم على قلبه. هنا يكمن إنجاز الحداثة الأعظم.

ولذلك يقول المفكر الإيراني الشهير ما فحواه: عندما ننظر إلى أوضاع العالم الإسلامي، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن رجال الدين يتعدون أو يتطاولون على الحياة الشخصية للفرد أكثر فأكثر ويقمعونها. إنهم يراقبونك في كل حركاتك وسكناتك. فكيف يمكن للفكر أن ينتعش في مثل هذه الأجواء؟ كيف يمكن أن يبدع؟ ولذا نقول: من دون الفصل الحقيقي بين التدين التقليدي المتزمت، والمعرفة الفلسفية النقدية، فإننا لن نتوصل أبداً إلى مجتمع حر أو متحرر من السلفيات الموروثة؛ أياً تكن سنية أم شيعية.

كل هذا يدل على أنه لولا أربعة قرون من الفلسفة والعلمنة، لما استطاعت أوروبا التخلص من القمع اللاهوتي المسيحي، والتوصل إلى المفهوم الحديث والعلماني للحرية والديمقراطية. هذه أصبحت بدهيات، ولكن ينبغي التذكير بها.

وعندما تسأله: هل التضاد بين الغرب والآخرين لا يزال صالحاً؟ يجيبك قائلاً: لم يعد له أي معنى في عصر العولمة الكونية. وهنا يكمن النقص الأساسي في نظرية صموئيل هانتنغتون عن صدام الحضارات. لماذا نقول بأن صدام الحضارات لن يحصل؟ لأنه لم تعد توجد حضارة صافية أو خالصة على وجه الأرض. كلنا أصبحنا مزيجاً، خليطاً من القديم التراثي والحديث الأوروبي. لم تعد توجد كتلة واحدة في مواجهة كتل أخرى. وذلك لأن الحداثة الغربية اخترقت خلال القرنين الماضيين جميع الحضارات البشرية، بما فيها الحضارة الإسلامية، عربية كانت أم فارسية أم تركية أم أفغانية باكستانية... إلخ. وبالتالي فنحن نعيش جميعاً في حالة من الخليط الحضاري، من التمازج والتفاعل المشترك والمتبادل. من هنا كتابه المهم: «الوعي الخليط أو الهجين»، باريس، 2012.

ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أننا أصبحنا جميعاً نعيش داخل حضارة كونية واحدة؛ سواء أكنا شرقيين أم غربيين، صينيين أم يابانيين أم إيرانيين أم عرباً أم فرنسيين... إلخ.

يقول داريوش شايغان في أحد اعترافاته: «لقد دهشت كثيراً عندما عدت إلى إيران بعد طول غياب في الخارج. فوجئت بمدى نجاح كتبي المترجمة من الفرنسية إلى الفارسية، فوجئت بمدى إقبال الشباب الإيراني عليها. وعرفت عندئذ أن الشباب تواقون فعلاً إلى الخروج من الأصولية الخمينية، من الظلامية الدينية. الشباب يريدون الانفتاح على العالم، على أفضل ما أعطته الحضارة العالمية؛ وخصوصاً الحضارة الأوروبية والأميركية». ثم يضيف المفكر الإيراني الكبير قائلاً: «سوف أفاجئكم -وربما أصدمكم- إذا قلت لكم إننا أصبحنا جميعاً غربيين! بمعنى أن الحداثة الغربية وصلت إلى كل الثقافات والحضارات الأخرى. لقد دخلت فيها، تغلغلت إلى أعماقها». ثم يضيف شايغان: «أنا في أعماقي أشعر عاطفياً وشعورياً بأني شرقي. على المستوى الشخصي عواطفي شرقية من دون شك. ولكن فيما يخص وعيي الفكري وروحي النقدية الفلسفية، أشعر بأني فرنسي أو أوروبي أو غربي. أنا مشكَّل من ثلاث هويات متراتبة، بعضها فوق بعض: الهوية الفارسية، والهوية الإسلامية، والهوية الحداثية الأوروبية. وكل هذا يشعرني بغنى الشخصية، ولا يسبب لي أي مشكلة. على العكس».

ثم يردف الفيلسوف الإيراني الشهير قائلاً: «اعلموا أن الحضارة الغربية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الكونية. لقد عُمِّمت على جميع شعوب الأرض. فالعلم والفلسفة والروح النقدية والمخترعات التكنولوجية كلها أشياء غربية في الأساس. ولكنها صُدِّرت إلى شتى أنحاء العالم. وبالتالي فإن أي أمة ترفض التنوير الفلسفي بحجة الحفاظ على خصوصيتها وأصالتها، تعاقب نفسها بنفسها، وتحكم على ذاتها بالتقوقع التراثي والتأخر عن ركب الحضارة والعصر. كل مقاومة لمنجزات عصر الأنوار ومكتسباته هي عبارة عن محاولة يائسة تعيدنا إلى عصر الظلامية. لقد تشربنا الحداثة الغربية على غير وعي منا تقريباً. وهذه الهوية الجديدة التي اكتسبناها في جامعات أوروبا وأميركا هي وحدها المسلحة بالملكة النقدية، بالروح الفلسفية الحرة».

لكن داريوش شايغان يقول مستدركاً: «صحيح أن الغرب اخترع ما هو أفضل في هذا العالم: (الديمقراطية)، أي حل الصراعات عن طريق الحوار لا عن طريق العنف والضرب. صحيح أنه اخترع دولة القانون، والروح الفلسفية، والتقدم العلمي والتكنولوجي. ولكنه اخترع أيضاً الأسوأ للأسف الشديد: لقد اخترع الاستعمار، والاستعباد، والتوتاليتارية الفاشية أو النازية، والانحرافات الشذوذية. وبالتالي فهناك الوجه والقفا، هناك الأبيض والأسود. هناك الجوانب التحريرية الإيجابية للحضارة الغربية، وهناك الجوانب السلبية القمعية».

وعندما تطرح عليه السؤال التالي: لماذا يكره العالم الإسلامي الغرب؟ فإنه يجيبك قائلاً ما معناه: إذا ما وضعنا ظاهرة الاستعمار جانباً، فإن هذا الكُره ناتج عن الفشل التاريخي الذريع للعالم الإسلامي. فهو يشعر بالمهانة والذل والنقمة العارمة على هذا الغرب الذي نجح نجاحاً صارخاً، في حين أننا بقينا في مؤخرة الأمم والشعوب. هذا الشيء لا يستطيع أن يتحمله المسلم المعاصر. فهو يقول في قرارة نفسه ما يلي: أنا أنتمي إلى أعظم دين على وجه الأرض، أنا أنتمي إلى الدين الذي ختم الأديان الإبراهيمية أو السماوية كلها، أنا أنتمي إلى الدين الذي يتفوق ميتافيزيقياً وأنطولوجياً وإلهياً على الأديان كلها، فكيف حصل أن سبقني هؤلاء الغربيون المسيحيون؟ هذا شيء لا يُحتمل ولا يُطاق بالنسبة للعربي أو المسلم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 فبراير 2022 م ـ 05 رَجب 1443 هـ

نعيش اليوم في عصر مختلف عن أي عصر عاشه وتعايش به الإنسان، حيث يتقاسم العيش على هذا الكوكب في تشاركية لم يتمتع بقدرها يوماً ما، حيث هي تشاركية اتصالية وتواصلية، غيّرت من معنى الاختلاف الثقافي والفكري والجغرافي حتى، فإما كان التغيير عليه من باب إزالة المعوقات والحدود، وإما كان ذلك التغيير منصباً في باب تغيير الشكل والدلالة المعتادة عليها.

وعند النظر لهذه المعطيات في سياق الحديث عن التطور المعرفي والعلمي، فإننا نجد أن هناك الكثير من السبل التي وجدت ولا تزال تتطور وتتغير وتتحور لتتجه أكثر وأكثر نحو المزيد من خدمة الإنسان، وتسخير المتاحات كافة لجعل حياته في مختلف تفاصيلها أيسر وأكثر مرونة واستجابة.

وفي الوقت الذي ساعدت فيه التطورات الرقمية والمستحدثات المتسارعة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومتعلقاته على تجاوز نسبة كبيرة جداً من الصعوبات والتحديات، في مجال تحصيل المعلومات وبناء المعارف، ظهرت إشكاليات وجدليات ولدت اهتمامات جديدة لأصحاب السعي العلمي والبحثي، حيث شكلت ملامح وأدوات ووسائل وتطبيقات الكثرة والمبالغة في السهولة والمرونة، إلى ولادة التحديات جديدة تتعلق بالمعرفة وأدواتها وطبيعة الوسائل التي يمكن أن تجتمع مؤديةً لمعرفة جديدة. وفي صدد ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل نحن الآن في عصر سخاء المعرفة، أم تشتت المعرفة؟

فإذا كنا مع من يرى أن التشتت المعرفي هو عنوان المرحلة، فإن ذلك يعود إلى عشوائية انتشار أنواع وألوان وأصناف المعارف على مختلف التطبيقات والوسائل التي يستخدمها الإنسان اليوم، وهو أمر الذي يؤدي لإنتاج مكتسب ثقافي لدى الإنسان، ولكن هذا المكتسب يتميز بالعشوائية والكثرة غير المنظمة، وهذا إلى جانب ما توفره تعدد خيارات المصادر ومحركات البحث التي تتيح لنا معلومات لها تأثير مباشر على القدرة الإنسانية المتعلقة بالإرادة والشغف الموجهين للاستزادة المعرفية.

وقبل وجود هذه الوسائل، كان الشغف يدفع بإرادة الإنسان للانتقال من مشارق الأرض إلى مغاربها للحصول على المعلومة، ما يدل على قيمة العلم ومستوى الشغف الذي كان يتشبث به الإنسان من أجل تطوير مكتسباته ولمعرفية حينما كانت الوسائل والأدوات شبه معدومة إلا تلك المنوطة بسعي الإنسان الذي يتطلب منه جهداً ووقتاً والتزاماً مادياً كبيراً، وهو في الوقت ذاته السبب الذي حد من طموح الكثير من أصحاب الهمة العالية في المجال البحثي والمعرفي والثقافي والفلسفي لقلة الإمكانيات في ذلك الوقت.

وإذا اعتبرنا أن التشتت (وفرة وزخم المعلومات والمصادر والوسائل) ما هو إلا أسلوب اكتساب المعرفة، وأن ما وجد اليوم من أدوات ووسائل هو سبيل يسر على الإنسان طريقه المعرفي، وفتح العديد من المجالات والأبواب التي يمكن من خلالها زيادة رصيده المعرفي والثقافي، فإن ذلك يحتاج التأكيد على ما وفرته التقنية من سهولة ووفرة في أدوات تحصيل المعلومات، وما وفرت على الإنسان في ذات الوقت من مستلزمات كانت ضرورية قبل ظهور التقنية وتطورها.

وبالتالي يمكن القول بأن الوفرة في الأدوات والتقنيات الحديثة لا يمكن اعتبارها إلا مصدراً للتشتت، خاصة في ظل غياب منهجية تحصيل المعرفة، وغياب إطار منظم، وثقافة كافية تعمل على توجيه السلوك الإنساني على المنصات والمواقع. وغالباً ما يصبح المرء في حيرة بين مئات، بل آلاف النوافذ الرقمية التفاعلية، دون مرجعية رقمية ثقافية كافية، أو مهارات تجعلها مطلعة على التنظيم القانوني والتشريعي الحاكم لها، بحيث يكون عنوان تلك الرحلة المعرفية: (استزادة رقمية واعية ومنظمة)، وهذا ما سيؤول لاحقاً لإحداث تغيير فعلي، ربما على محركات البحث نفسها، أو المواقع وطبيعة تصنيفها من حيث الاختصاص والتوجه، وقبل ذلك كله تكوين صورة واضحة لدى الطالب والباحث والمثقف والمفكر عن طبيعة استخدام المصادر المتاحة في الفضاء الرقمي.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 7 أغسطس 2024

 

في مقابلة أخيرة مع «المجلة الفلسفية الفرنسية» (1 أغسطس 2024)، يبين الفيلسوف الأميركي المعروف مايكل فالزر أن الصراع السياسي الدائر حالياً في الولايات المتحدة يتعلق بمقاربتين متمايزتين للأمة الأميركية: إما النظر لهذه البلاد بصفتها من دون هوية إثنية، وحدتها الاعتبارات السياسية وبنيتها الدستورية وتاريخها الخاص والتزامها القوي بالديمقراطية، أو النظر إليها من زاوية القومية الإثنية المتمحورة حول البيض المسيحيين المهددين بمخاطر الهجرة والتعددية العرقية والدينية.

«فالزر» يُفسر صعود التيار القومي الإثني بامتعاض الطبقات العاملة والريفية من سياسات الليبراليين الجدد الذين راهنوا مطولا على القدرة على حسم الصراع الانتخابي من خلال تصويت الطبقة الوسطى العليا المتعلمة والأقليات السوداء والإسبانية (ذوي الأصول اللاتينية).

ما تغير أن فكرة الحركية الاجتماعية التي هي جوهر الحلم الأميركي تراجعت جذرياً، بما انعكس سلبا في تزايد أصناف التفاوت واللامساواة خصوصا في المدن الصناعية العتيقة، إلى درجة انهيار آفاق الصعود المهني والاجتماعي.

إن هذا الوضع يمهد حسب «فالزر» للحالة النازية كما حدث في ألمانيا في الثلاثينيات، حيث تركزت هذه النزعة المتطرفة في أوساط العاطلين عن العمل وأصحاب المهن الهشة وفي صفوف الطبقة الوسطى التي تستشعر مخاطر التراجع والانهيار. وما يحدث حالياً في الولايات المتحدة هو بروز قاعدة اجتماعية من هذا النوع، هي الدعامة الأساسية للترامبية، في الوقت الذي تسعى فيه القيادات الديمقراطية إلى إعادة الاعتبار للنقابات العمالية وحركة الشغيلة وفق معايير الليبرالية الأميركية الأصلية التي تقوم على المساواة الاجتماعية والديمقراطية الدستورية.

هل ستنجح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في تنشيط الليبرالية الأميركية على أساس تجديد المسألة العمالية في أفق العدالة الاجتماعية من حيث هي محور الخطاب السياسي للحزب «الديمقراطي»؟ السؤال مطروح بقوة، لكن «فالزر» يرى أن مسألة القومية المسيحية ستظل حاضرة بكثافة في الحقل السياسي الأميركي، مهما كانت نتيجة الانتخابات المقررة في نوفمبر القادم.

من المعروف أن هذه النزعة القومية المسيحية تتغذى من مفهوم «الديانة العمومية» التي هي القاعدة المرجعية الصلبة للمجتمع الأميركي، وإن حاولت اختزالها في الطابع الإثني الانغالوساكسوني، بينما تفيد المعطيات الموضوعية أن الديانة العمومية تتوسع تدريجيا لتشمل مختلف المعتقدات بما فيها اليهودية والإسلام، ضمن النسيج القومي الأميركي الخاص. تلك هي قراءة فالزر للواقع السياسي الأميركي الحالي في توتره الجدلي بين النزعتين الليبرالية والقومية الدينية، وقد خلص منها إلى أن البلاد سائرة نحو تصدع فكري واجتماعي حاد، لكنه لن يصل إلى خطر الحرب الأهلية التي يحذر منها كثير من السياسيين من مختلف الاتجاهات.

ما نريد أن نضيفه على هذا التحليل المهم، هو أن صراع الأفكار المحتدم حالياً في المجتمع الأميركي لم يعد محصورا في الحزبين الكبيرين اللذين يتقاسمان منذ عقود طويلة الحياة السياسية الأميركية. فالنزعة الليبرالية في مقوماتها الثلاث (الفردية والمساواتية والديانة العمومية) تخترق مختلف الاتجاهات الحزبية وإن كانت تتأرجح بين نزعة محافظة تقليدية ونزعة راديكالية تفكيكية لكل الثوابت والتصنيفات السائدة، كما أن المقاربة الهوياتية حاضرة في كل الاتجاهات وإن كانت تتفاوت بين نزعة اجتماعية اختلافية وأخرى عرقية إثنية.

ما حدث مع ظاهرة ترامب منذ عشر سنوات هو خروج الصراع السياسي عن محدداته وتقاليده المألوفة، باعتبار الطبيعة الشخصية للرجل الذي وإن كان يعبر عن حالة أميركية عامة، إلا أنه ترك بصماته الخاصة على المشهد السياسي. صحيح أن الظاهرة الشعبوية المحافظة تتجاوز السياق الأميركي وتمتد إلى العالم الليبرالي الغربي بكامله، لكن لها خصوصيات مميزة في المجتمع الأميركي الذي هو خليط واسع من هجرات متتالية إلى حد التشكيك في هوية قومية لهذه البلاد الواسعة. لم تعرف أميركا مسارات التحديث الأوروبي من نهضة وتنوير وثورات اجتماعية، بل إن ما عرف بالثورة الأميركية كان في حقيقته حركة استيطان وتحرر وضعت شروط الحكم السياسي على أساس هوية اجتماعية تشكلت قبل الدولة ضمن منظور تشاركي توافقي حسب ملاحظة الفيلسوفة الشهيرة حنة ارندت.

إن هذه الخصوصية التاريخية (المجتمع السياسي المتزامن مع نشأة الدولة)، هي التي تمنح الحالة السياسية الأميركية صلابتها، باعتبار أن النزعة القومية، وإنْ قامت على اعتبارات إثنية أو دينية، فإنها تظل مقيدة بالطابع المدني المفتوح للمجتمع. الجدل الحقيقي هنا يبقى متمحوراً حول مطلب العدالة والمساواة وإن اصطدمت المقاربات القائمة حولهما.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 أغسطس 2024 23:45

كان من ضمن قائمة المصادر العربية في رسالة الإسلامي السعودي عبد الحميد أبو سليمان للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» التي أنجزها في جامعة بنسلفانيا عام 1973، كتاب «الجهاد في سبيل الله» لأبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب الذي أصدره الاتحاد العالمي للجمعيات الطلابية في طبعته الثانية 1970.

هذا الكتاب أصدره هذا الاتحاد في طبعته الأولى عام 1969، وقد ضم فيه كتيب المودودي «الجهاد في سبيل الله» المعرّب عن الأردية والصغير جداً، الصادر عن لجنة «الشباب المسلم» بالقاهرة عام 1950، بمقياس 5.15x5.11 سم، وضم فيه رسالة لحسن البنا في الجهاد، وفصلاً من كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب عنوانه «الجهاد في سبيل الله».

كان أول متأثر ومتبنٍّ في العالم العربي لرؤية المودودي الجديدة لفريضة الجهاد في الإسلام، سيد قطب، وقد ظهر ذلك في الطبعة الثانية المزيدة والمنقحة لكتاب «في ظلال القرآن» الصادرة عام 1961، وفي كتاب «معالم في الطريق» المسلوخ من بعض أجزاء من كتابه «الظلال» في طبعته المزيدة والمنقحة. الكتاب المسلوخ صدر عام 1964 في طبعات متعددة في ذلك العام!

رؤية المودودي الجديدة للجهاد، كانت أن البلاد الإسلامية هي «دار حرب» وليست «دار إسلام»؛ لذا فاستئناف الجهاد يجب أن يبدأ بها، وذلك بالانقلاب على حكومتها، لتكون «دار إسلام». وبعد أن تكون «دار إسلام» يمتد الجهاد إلى أنحاء المعمورة.

وحين صدر ذلك العمل التجميعي، كانت تلك الرؤية متخمرة لدى الشباب المسلم بفضل كتاب «معالم في الطريق» الواسع الانتشار في الستينات الميلادية، وكتاب «واجب الشباب المسلم اليوم» للمودودي، وكتاب «ردّة ولا أبا بكر لها» لأبي الحسن الندوي، الصادرين في تلك الآونة.

لنرَ في أي موضع من رسالته أحال الإسلامي السعودي عبد الحميد أبو سليمان إلى كتاب «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنَّا وقطب.

أحال إليه بعد قوله في رسالته: «كما أخفق المنهاج الليبرالي هو الآخر في الإصلاح الداخلي للحكومة وفي تكوين مجتمع ديمقراطي حر، وفي إيجاد نظام دولي تحدد فيه العلاقات بين الدول على أسس من السلام والتعاون بينهم وبصورة خاصة مع القوى الغربية».

أحال إليه مع كتابين منشورين باللغة العربية؛ الأول للإسلامي محمد المبارك «الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية»، والآخر لليساري نايف حواتمة «أزمة الثورة في الجنوب العربي: نقد وتحليل»، ومع تسعة كتب منشورة باللغة الإنجليزية، هي: «الفكر العربي في العصر الليبرالي» لألبرت حوراني، و«نشأة تركيا الحديثة» لبرنارد لويس، و«ردة الفعل في الشرق الأوسط تجاه الثقافة الغربية» لهاملتون جيب، و«الحرب والسلام في قانون الإسلام» لمجيد خدوري، و«مصر تسعى بحثاً عن مجتمع سياسي» لنداف سفران، و«إطار وأسس الدبلوماسية العثمانية في عهد سليم الثالث 1789 – 1807» لتوماس ناف، و«الإسلام في التاريخ الحديث» لولفريد كانتويل سميث، و«ما هو الإسلام؟» و«الفكر السياسي الإسلامي» لمونتجمري وات.

ما الذي جعل أبو سليمان يحيل إلى كتاب «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنا وقطب للتوسع في معرفة أسباب إخفاق الليبرالية في العالم الإسلامي؟!

ما الذي جعله يحيل إليه في غير موضوعه؟!

سؤال بوسعك أن تعيده بصيغ متعددة، لكن – مع كل تغيير لصيغته – لن تفلح في الإجابة عنه!

إذا نظرنا في العام الذي أنجز فيه أبو سليمان رسالته للدكتوراه، وهو عام 1973، فإنه في هذا العام وفي السنين التي قبله، بوسعنا القول إن الليبرالية أخفقت في دول عربية، كمصر والسودان والعراق وسوريا. ويصعب إطلاق هذا القول على العالم الإسلامي.

تركيا الحديثة كانت إلى عام 1946 محكومة بنظام الحزب الوحيد؛ حزب الشعب الجمهوري. وكون هذا الحزب هو الحزب الوحيد لا يعني أنه غير ديمقراطي وغير ليبرالي أو حزب شمولي، على شاكلة الحزب الاشتراكي الوطني في ألمانيا، والحزب الفاشي في إيطاليا، والحزب الوحيد في البلدان الشيوعية. ومع انتقال تركيا الحديثة من الحزب الوحيد إلى التعددية الحزبية، حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية، واحد منها فشل. وفي العام الذي حاز فيه عبد الحميد أبو سليمان درجة الدكتوراه، رُفعت الأحكام العرفية وأجريت انتخابات نيابية عامة.

إندونيسيا منذ استقلالها إلى انتهائه من كتابة رسالته، ثم مناقشتها، كانت دولة سلطوية. وماليزيا كانت دولة مستقرة على ديمقراطية توافقية. وباكستان منذ تأسيسها لم تكن دولة ليبرالية – علمانية.

إن الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان كان يخلط عن قصد وبتضليل متعمّد بين الحداثة أو العلمانية وبين الديمقراطية في المجال السياسي!

بعد فراغه من الحديث عن عصر الليبرالية في العالم الإسلامي، تحدث عن عصر اليسار فيه، فقال: «عملت الدول الإسلامية، وخاصة الدول العربية منها، عقب ظهور الاتحاد السوفيتي بعد الحرب الثانية كقوة عظمى، على استخدام المساعدات الاقتصادية والتقنية والسياسية السوفيتية لصالح قضيتهم. وهكذا فليس غريباً من هذا المنظور أن أبرزت هذه التطورات الجديدة وأفرزت بعض جوانب النظرية الماركسية أوفدتها إلى محيط الفكر الإسلامي، وخصوصاً مفهوم حرب التحرير (وهي الصيغة العصرية للجهاد) بيد أن المصطلحات والمفردات الأيديولوجية الماركسية تنبع من فلسفة تتعارض، بل وتتناقض مع الأيديولوجية الإسلامية التقليدية».

هل – فعلاً – حرب التحرير الشعبية هي الصيغة العصرية للجهاد؟

إن حروب التحرير الشعبية من أنواع الحروب في الماركسية. وهي تخالف المقولة الماركسية التقليدية التي تضمن الحصول على النصر مع توفر «الحالة الثورية»، التي يعقبها كفاح حاد قصير الأمد؛ لأنها تقوم على الحرب الطويلة المدى أو الكفاح الممتد الشاق الذي يخلق «الحالة الثورية»، ولا ينتظر حلولها أو مجيئها.

يعرِّفها الجنرال الفيتنامي جياب بأنها: «تحول مستمر وتدريجي يتبع خطاً مستقيماً من حرب العصابات إلى الحرب المتحركة مروراً بمرحلة انتقالية هي حرب المواقع». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 29 مُحرَّم 1446 هـ - 4 أغسطس 2024 م

 

حلقة جديدة من الحرب الثقافية في فرنسا

لا يزال الخلاف الذي يقسّم النخبة الثقافية والسياسية بخصوص «الووكية» في فرنسا تترصّده وسائل الإعلام، حتى إنه لا يمر أسبوع من دون أن يكون هناك هجوم ضد هذه الحركة الآيديولوجية الثقافية المحسوبة على اليسار.

للتذكير، فإن «الووكية»، المشتقة من فعل الاستيقاظ باللغة الإنجليزية، هي مفردة انتشرت في الولايات المتحدة في العقد الثاني من هذا القرن، وهي تعني حرفياً أن يكون الشخص يقظاً إزاء الظلم وانتهاك حقوق الأقليات سواء أكانت عرقية أم دينية أم جنسية. الدخول القوي لهذا التيار الفكري إلى المشهد الثقافي الفرنسي تحولّ إلى كابوس للنخبة اليمينية التي تعده «غولاً آيديولوجياً» يهدد ثقافة فرنسا ومؤسساتها العريقة ويستبدل بأنساق ثقافية تعد أساسية لاستقرار المجتمع، أخرى تفتيتية تخريبية ومدمرة. آخر حلقات هذه الحرب الثقافية كانت بمناسبة افتتاح دورة للألعاب الأولمبية التي تنظم حالياً في باريس إلى 11 من أغسطس (آب)، حيث طالت موجة من الانتقادات اللاذعة من مختلف أنحاء العام منظمي هذه الاحتفاليات، تحديداً بسبب مشهد «العشاء الأخير» اللّوحة المعروفة للرسام ليوناردو دافنشي التي تمثل النبي عيسى عليه السلام والتي تم تجسيدها بطريقة ساخرة مثيرة للجدل؛ حيث تضّمن المشهد فنانين من المتحولين جنسيّاً والشواذ، إضافة إلى ظهور المغني فيليب كاترين عارياً لتجسيد الإله اليوناني ديونيسيس في المشهد نفسه. العرض لم يصدم النخب السياسة والمجتمعات المسيحية والمسلمة فحسب، بل أيضاً النخب الفكرية اليمينية المحافظة التي عبرت عن غضبها موجهة أصابع الاتهام إلى اليسار «الووكي» الذي يسعى، حسب اتهامات اليمين إلى تفكيك المجتمع وفرض ثقافة دخيلة، بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات.

الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت، في مقال على صفحات جريدة «لوفيغارو» بعنوان: «العبقرية الفرنسية تألقت بغيابها في احتفاليات افتتاح الألعاب الأولمبية» كتب: «أنا مذهول بما رأيته في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية، لم أكن أتصور أن تصل المشاهد إلى هذه الدرجة من القبح والابتذال... أين كان الذوق الرفيع، الرّقة، الخفة، الأناقة، الجمال؟ الجمال لم يعد موجوداً بحجة الدفاع عن كل أنواع التمييز»، ملمحاً بصفة واضحة ومباشرة لا تدع مجالاً للشك إلى «اليسار الووكي». وكان هذا الأخير قد ربط في عدة مناسبات بين الووكية وثقافة الرداءة، حيث كتب: «عندما نتوقف عن تعليم نتاجات الشعراء والفلاسفة والكتاب، وعندما يصبح التعليم تعليماً للجهل، تنطفئ النظرة، ولا يعود هناك أي عائق أمام تقدم القبح، إنها مشكلة الووك، إنهم يعيشون في غطرسة الحاضر وبحجة أنهم يقظون لكل أنواع التمييز فهم ليسوا بحاجة إلى شيء وتحديداً إنجازات الماضي التي لا يقرأونها لقراءة الذات، بل يستحضرونها ويستدعونها لمساءلتها وتوظيفها في خدمة روح العصر».

الباحث فرغان أزيهاري المندوب العام للأكاديمية الحرة للعلوم الإنسانية هاجم في عمود بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان «حفل افتتاح أكثر رجعية مما يبدو عليه»، التيار اليساري الذي يرُوج لثقافة الرداءة تحت أسماء الحرية؛ حيث كتب: «يبدو أن مقياس نجاح الأداء الفني أصبح مقروناً بقدرته على الإساءة للآخر، عندما يكون أول رد فعل يتبادر إلى ذهنك بعد عرض فني ليس مشاركة إعجابك، بل متعة المشاكسة لأنك أزعجت جارك، فماذا يقول ذلك عنك وعن علاقتك بالفن والثقافة والعالم؟ عدد السياح الأجانب الذين يتدفقون لزيارة متحف اللوفر والتحف الرائعة التي يضمها يفوق عدد الذين زاروا عمل بول ماكارتي المثير للجدل بسبب إيحاءاته الجنسية، والذي تألّق فقط بسبب موقعه في ساحة فاندوم، لأن الجميع نسيه الآن».

أما الباحث الحاضر بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي إدريس أبركان، فقال في مداخلة على حسابه على «اليوتيوب» بعنوان: «الألعاب الأولمبية في باريس: هل يزال هناك مكان للجميل في مجتمعاتنا؟»، ما يلي: «أن تكون فرنسا بلداً يسمح بحق التجديف شيء، ولكن أن تصبح الدولة هي حاملة هذا الشعار بسبب إرث 1968 و(شارلي إيبدو) فهذا عار كبير، ما كنا ننتظره من هذه الحفلة هو التمتع بالجمال والفن وليس عرضاً استفزازياً لنخبة يسارية أنانية نرجسية حاولت إحداث صدمة ليقال إنها طلائعية، لم يكن المكان مناسباً ولا الزمان».

الفيلسوف ميشيل أونفري، رغم ميوله اليسارية المزعومة ودفاعه عن حق التجديف في قضية «شارلي إيبدو»، لم يترّدد في الهجوم على منظمي عرض الافتتاح في مدونتّه الخاصة، حيث كتب ما يلي: «كان حفل افتتاح الألعاب الأولمبية فرصة فرنسا لتقدم عرضها للعالم، فكان لحظة عظيمة من (التهريج)».

ويضيف أونفري: «أعلن رئيس دولة من دون حكومة افتتاح الألعاب الأولمبية فكان بياناً (للووكية) عُرض على العالم بأسره وتّم فيه الاحتفال بالرجل الجديد... المفكك، من أجل فرنسا جديدة مختلطة، عالمية، مفتوحة على الأقليات الجنسية...». الباحث والإعلامي ماتيو بوك كوتي انتقد بالشّدة نفسها اليسار الووكي في عمود بعنوان: «ماذا وراء الجدل الذي رافق حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية»، حيث كتب: «أراد مصممو هذه الألعاب سحق فكرة معينة عن فرنسا، أرادوا إذلال الوطنية الفرنسية، من هنا جاء مشهد الرأس المقطوع لماري أنطوانيت، أما الحضور القوي للمتحولين جنسياً والذين أصبحوا بمثابة حاملي لواء التقدمية الغربية فهو سعي واضح لتفكيك حضارتنا بأكملها». وفي عمود على صفحات جريدة «لوفيغارو» بعنوان: «الحفلة لم تعظم الروح الفرنسية بل فرنسا التي يريد المنظمون أن يروها في المستقبل» كتبت الفيلسوفة بيرينيس لوفي، ما يلي: «تاريخنا لم يكن سوى سوق استغلها المنظمون كما أرادوا، كل شيء كان مقروناً بـ(الحاضر) ولكن من يصنع نكهة مدينة كـ(باريس) سوى ماضيها التاريخي؟ هذا العرض كان رسالة للعالم بأسره بأننا - نحن الفرنسيين - لم نعد نعرف ماذا نفعل بتاريخنا وبماضينا، وكأننا نرمي (الاستثناء الفرنسي) في سلّة المهملات، أقولها وأعيدها، هذا الحفل كان عرضاً (ووكيا) ولا يمكن لتوماس جولي وفريق المنظمين إنكار أن الهدف منه هو الدعاية للتعددية الثقافية والهويات الخاصّة». الكاتب والمفكر والمُنظر السياسي، جاك أتالي، في مداخلة على منصّات التواصل الاجتماعي، صرّح بأن التاريخ هو الذي سيحكم: «بعد عشر سنوات، إما أن تصبح هذه التجاوزات طبيعية ومألوفة وإما أن تُعدّ مقياساً لما كان عليه عام 2024 من انحطاط».

***

أنيسة مخالدي – باريس

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 أغسطس 2024 م ـ 28 مُحرَّم 1446 هـ

في المثقف اليوم