اخترنا لكم

العنوان أعلاه ليس مزاحاً. فـ»أب الشعوب» كانت له مساهمته في علم اللغة أيضاً.

والحال أنّ القائد التوتاليتاريّ، الآتي من حزب يستند إلى فكرة، مدعوٌّ دائماً لأن يبدو مثقّفاً في الأفكار والكتب، وهو قد يكون كذلك فعلاً، علماً أنّ الحقيقة تلك تنزع السحر الذي تحاط به الثقافة أحياناً ولا تستحقّه دائماً. ذاك أنّ الكتب والأفكار تشكّل للعقائديّ مادّة لا تتوفّر للسياسيّ التقليديّ، كما لا يعيرها الأخير بالضرورة، ولفظيّاً على الأقلّ، أهميّة مماثلة. فتشرشل وكيسنجر وبريجنسكي وكرايسكي وسواهم كانوا أيضاً مثقّفين، إلاّ أنّ تبريرهم لسياساتهم لم يستند بالدرجة نفسها إلى مقدّمات فكريّة، بل إلى إنجازات فعليّة تُحسب بالوقائع والأرقام.

أمّا ستالين فأصدر، في 1950، «الماركسيّة ومسائل اللغويّات»، وهو الكتيّب الذي عدّه شيوعيّون وماركسيّون كثيرون أفضل ما كتبه. لكنّ مادحي هذا العمل، ممّن لم يكن الخوف وراء مديحهم، كانوا كمن يناقشون في الخلّيّة المغلقة نقاشاً يراه سواهم سخيفاً أو بديهيّاً: فالأحزاب الإيديولوجيّة تفرض نظريّة يراد تحويلها إلى معتقد شبه دينيّ، فإذا أعاد أحدهم النظر فيها، استجابةً لظروف تتطلّب إعادة نظر، عُدّ كلامه العاديّ جدّاً باهراً يلامس العبقريّة.

كتيّب ستالين بدأ مقالةً طويلة نشرتها صحيفة «برافدا»، وقيل أنّه كتبها وأعدّها قبل سنوات على ثورة 1917، ثمّ أضيفت إليها الأسئلة التي زُعم أنّ الرفاق طرحوها عليه وأجوبته عنها.

وكانت «برافدا»، وبمباركة ستالين طبعاً، قد افتتحت مناقشة المسألة اللغويّة، في الاتّحاد السوفياتيّ متعدّد اللغات، كما في النظريّة الماركسيّة، عبر مقالات مهّدت لمقالة ستالين التي غدت كتاباً.

يستعير الكاتب، في البداية، تواضعاً يعلن معه نقص خبرته في اللغويّات، لكنّه يعلن أيضاً تضلّعه في موقف الماركسيّة منها. ومعروف أنّ الأخيرة تقصّر المسافات بين المعارف وتتيح إصدار الفتاوى فيها شريطة التقيّد بحذافيرها كمرجعيّة شبه دينيّة. وبدون أن تخلو مساهمة ستالين من آراء في قواعد اللغة ونظامها، يؤكّد أنّ اللغة لا تنتمي إلى «البنية الفوقيّة» (الدولة والسياسة والقانون والثقافة...) التي تنبثق، ماركسيّاً، من العلاقات الاقتصاديّة أو «البنية التحتيّة»، وأنّها بالتالي لا تعكس مصالح الطبقة الحاكمة ولا تحميها، بل يمكن للجميع استخدامها بمعزل عن طبقاتهم تسهيلاً للتواصل بينهم. فإذا كانت البنية الفوقيّة نتاج عصر ونمط إنتاج بعينهما، فاللغة نتاج عصور كثيرة كما تتعايش مع أنماط إنتاج عدّة.

فالأحداث التاريخيّة الكبرى، كالثورة البلشفيّة، تضيف إلى اللغة مفردات «مرتبطة بصعود إنتاج اشتراكيّ جديد»، كما تتساقط معها كلمات فقدت راهنيّتها، لكنْ لا هذا ولا ذاك يغيّرانها على نحو ملحوظ لأنّها ليست صنيع طبقة بل نتاج طبقات المجتمع كلّها، تماماً كما قد تخدمها كلّها.

ويكرّر ستالين حججاً أخرى لتوكيد الفكرة ذاتها، فيشرح ما قصده فريدريك إنغلز حين تحدّث عن اختلاف اللهجات (لا اللغات) على أساس طبقيّ في بريطانيا، وما قصده صهر ماركس والشيوعيّ الفرنسيّ بول لافارغ بحديثه عن اللغة الفرنسيّة قبل الثورة وبعدها، وما قصده لينين بكلامه عن وجود ثقافتين طبقيّتين في ظلّ الرأسماليّة إلخ... نافياً، في الحالات جميعاً، أن يكون المقصود انتقالاً من لغة إلى أخرى، أو انفصالاً «طبقيّاً» داخل اللغة ذاتها.

لكنّ الشرّير في رواية ستالين هو اللغويّ نيكولاي ياكوفليفيتش مار، خبير اللغات القوقازيّة، الذي توفّي قبل 16 عاماً على صدور الكتيّب الستالينيّ. فمار أدخل على اللغويّات معادلة «غير صائبة وغير ماركسيّة» عبر توكيده «الطابع الطبقيّ» للّغة، فخرّب اللغويّات السوفياتيّة بما يناقض تاريخ الشعوب واللغات كلّها.

ومار كان قد عُرف أصلاً بنظريّته التي سُمّيت «اليافثيّة» (نسبة ليافث أحد أبناء نوح)، ومفادها أنّ لغات القوقاز تتّصل باللغات الساميّة للشرق الأوسط، وأنّها انتشرت على امتداد أوروبا قبل وفادة اللغات الإندو-أوروبيّة إليها.

وهي نظريّة صيغت قبل ثورة 1917، فحين حلّت الثورة أيّدها مار بحماسة وتطوّع لخدمة نظامها. هكذا خلط نظريّته الأصليّة بالماركسيّة وبالصراع الطبقيّ، مجادلاً بأنّ المستويات اللغويّة المتعدّدة إنّما تحاكي طبقات اجتماعيّة مختلفة وتتجاوب معها. فالبورجوازيّة البريطانيّة مثلاً تتحدّث بإنكليزيّة أقرب إلى الفرنسيّة التي تتحدّث بها البورجوازيّة الفرنسيّة ممّا إلى الإنكليزيّة التي تتحدّث بها الطبقة العاملة في إنكلترا. أمّا أن تكون وحدة اللغة عنصر توحيد للشعب الذي يتكلّمها فهذا، عنده، مجرّد وعي زائف أنجبته القوميّة البورجوازيّة. كذلك ادّعى مار أنّ اللغات الحديثة تميل، مع قيام المجتمع الشيوعيّ، لأن تندمج في لغة واحدة، مستنداً إلى الحملة التي شُنّت في روسيا العشرينات والثلاثينات لإبدال الأبجديّة السيريليّة بالأبجديّات اللاتينيّة، ومن ثمّ إبدال أنظمة الكتابة التقليديّة للغات الاتّحاد السوفياتيّ بأنظمة تستخدم الكتابة اللاتينيّة، أو خلق أنظمة تستند إلى الكتابة اللاتينيّة للغات السوفياتيّة التي كانت حتّى ذاك الحين لا تتمتّع بنظام كتابيّ.

وكانت هذه الميول إلى الليْتَنة (Latinisation)، وهي تعود قروناً قليلة إلى الوراء، جزءاً من النزعة المتأوْرِبة لدى بعض الانتلجنسيا الروسيّة، ورثها عنهم البلاشفة في طورهم الأوّل السابق على الصعود الستالينيّ بمضامينه الآسيويّة والشرقيّة.

وبالفعل باتت نظريّة مار النظريّة الرسميّة المعتمدة في روسيا بوصفها تمثّل «العلم البروليتاريّ» ضدّاً على «العلم البورجوازيّ». هكذا كُلّف صاحبها، ما بين 1926 و1930، بإدارة المكتبة الوطنيّة لروسيا، كما بقي حتّى وفاته في 1934على رأس المعهد اليافثيّ التابع لأكاديميا العلوم.

ولئن ظهر من أشار إلى أنّ أرنولد شيكوبافا، اللغويّ الذي عُرف بشدّة معارضته لمار ولنظريّاته، هو الذي أوحى لستالين بأفكار كُتيّبه، إن لم يكن هو نفسه من كتبه، يبقى أنّ المداخلة التي حملت توقيع الزعيم أدّت إلى دفن نظريّة مار، بحيث بدأ اللغويّون الروس يؤكّدون على أولويّة اللغة الروسيّة وعلى ضرورة أن تنصبّ الأبحاث عليها.

فالقواسم المشتركة مع العالم اللاتينيّ لم تعد مرغوبة، فيما بات صَهر السوفيات من غير الروس في اللغة والثقافة الروسيّتين هو المطلوب. أمّا إحكام قبضة ستالين على الحياة، بما فيها اللغة، فتفكّ باقي اللغز الذي توسّلَ الثقافة والأفكار ليجعل من ستالين عالماً لغويّاً.

***

حازم صاغية

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأحد - 3 شوال 1444 هـ - 23 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16217]

فجأة، أصبح الأمر كما لو أننا واجهنا كائنات جديدة تماماً على شاشات هواتفنا الذكية وجهاً لوجه.

على مدى الأشهر القليلة الماضية، تدفقت أحاديث الذكاء الصناعي إلى وسائل الإعلام الاجتماعية في أميركا، وإلى حد ما، كوابيسها الجديدة، مع النص تلو الآخر، مما أثار شكلاً جماعياً و«ألفيّاً» مما وصفه ناقد القرن التاسع عشر جون روسكين على نحو لا ينسى بالمغالطة المثيرة للشفقة - أو الميل الإنساني للغاية إلى إسقاط هذه السمات التي نراها سمات أساسية للبشرية على الكائنات غير البشرية. مع «شات جي بي تي» و«بينغ شات»، نحن لا نكتفي بإبراز العمق، أو الشفقة، أو الحياة الداخلية، ونحن نتوسل إليهم لأجل «سرد غزو العراق بكلمات غنائية مناسبة لأميرة ديزني»، أو «شرح لفتى في الرابعة من عمره لماذا صُنع قناع الموت للملك توت عنخ آمون لامرأة»، نحن نقرأ ذعرنا الوجودي الخاص في ردود الروبوتات، ونراها بصورة أقل كحيوانات أليفة مثل العديد من وحوش فرانكنشتاين، حتى عندما يتبعون أوامرنا بكل بساطة.

ما مدى خطورة روبوتات الدردشة؟ إنها لا تزال ترتكب الأخطاء الأساسية بصورة روتينية لدرجة أنه من المبهم، ومما لا جدوى منه، الإشارة إليها بأنها مجرد «هلاوس»، كما يميل إلى ذلك مهندسو التعلم الآلي والذكاء الصناعي.

(هل كانت جرعات الذكاء الصناعي صغيرة للغاية أو ربما مخطئة عندما اقترحت أن ليبرون جيمس كانت لديه فرصة جيدة جداً للفوز بجائزة أفضل لاعب في الدوري الأميركي للمحترفين هذا العام؟) إنها عُرضة إلى التضليل، ومنحازة بطرق تقليدية للغاية وإن كانت مزعجة. بعضها مُدرب على قواعد البيانات التي لا تصل إلى يومنا هذا، بحيث إن أي أسئلة حول الأحداث الأخيرة (مثل انهيار بنك وادي السيليكون) من المرجح أن تولد إجابات غير مجدية أو عكسية، مما يجعل من «حالة الاستخدام» الرائدة اليوم لهذه الأدوات، كصورة من صور البحث على الإنترنت، عسيرة الفهم بعض الشيء.

لكن الذكاء الصناعي يُظهر أيضاً بعض التقدم المثير للحيرة بوضوح، ليس فقط في المهام الملموسة، وإنما في تلك المثيرة للأعصاب أيضاً: روبوت الدردشة الذي يستعين بموظف بشري من بوابة «تاسك رابيت»، أو حل كلمة التحقق الآلية، وروبوت آخر يكتب كوداً بلغة برمجة «بايثون» الخاصة به لتمكين «هروبه». هذه ليست أمثلة على استقلالية الروبوت بقدر ما هي انعكاسات لحالة القلق الراهنة - في كل حالة، دُفعت الروبوتات من قبل المراقبين البشر لاختبار حواجز الحماية - ومع ذلك لا يزالون قلقين، في مؤشرات بأن شيئاً غريباً ومزعجاً يحدث الآن.

تتقدم التكنولوجيا بسرعة فائقة، حتى إنه قد يبدو من قبيل الغرور، الاعتقاد بأننا ندرك بالحقيقة ماذا نفعل في خضم ذلك كله. لكن العديد من أولئك الذين قضوا العقد الماضي غارقين في التعلم الآلي يعتقدون أنهم يعرفون، في الواقع، وبأننا بحاجة إلى التفكير بعبارات مزرية للغاية.

من الشائع أن نسمع دعوات ثورة الذكاء الصناعي كحدث مهم مثل وصول الإنترنت، لكن التحضير لزلزال ثقافي مثل الإنترنت شيء، والتحضير لما يعادل الحرب النووية شيء مختلف تماماً. وهو أمر لافت للنظر بصفة خاصة، نظراً للطوباوية المنتشرة بين مهندسي الإنترنت الأصليين، فما مدى البؤس الذي يستشعره أولئك الذين يدخلون المرحلة التالية بشأن العالم الذي يعتقدون أنهم يتكاثرون فيه.

كتب عالم الأعصاب إريك هويل في نظرة تأملية واسعة الانتشار حول الحالة الراهنة تحت عنوان فرعي: «الذكاء الصناعي لدى مايكروسوفت ينذر في الواقع بتهديد عالمي كبير»، يقول: «في المرة الأخيرة كان لدينا منافسون من حيث الذكاء، وهم أبناء عمومة الجنس البشري، مثل الإنسان البدائي (نياندرتال)، والإنسان المنتصب، وإنسان فلوريس أو (الإنسان القزم)، وإنسان دينيسوفا، وغيرهم الكثير». وتابع الدكتور هويل: «لنكن واقعيين: بعد القليل من التزاوج، من المحتمل أننا قتلنا الكثير».

صرخات القلق الأكثر صراحة يتردد صداها عبر الإنترنت منذ شهور، بما في ذلك من إليعازر يودكوسكي، الأب الروحي لوجودية الذكاء الصناعي، والذي أخذ مؤخراً كل ما يمكن أن نسميه «عكس مسار النصر» يأساً من التقدم الذي أحرزه الذكاء الصناعي، والفشل في إقامة حواجز حقيقية في وجه تقدمه المريع. أخبر يودكوسكي اثنين ممن أجروا المقابلات معه أننا قد نكون على أعتاب إنجازات عظيمة في الذكاء الصناعي الخارق، إلا أن الفرص التي سوف نحظى بها لمراقبة هذه الإنجازات ضئيلة للغاية؛ «لأننا سنموت جميعاً». ونصيحته، بالنظر إلى مدى استحالة تصديقه لخروج الذكاء الصناعي بأي نتائج جيدة على الإطلاق، كانت: «الانطلاق للقتال بكرامة».

حتى سام ألتمان، الرئيس التنفيذي اللطيف لشركة «أوبن إيه آي»، الشركة التي تقف وراء أكثر روبوتات الدردشة الجديدة إثارة للإعجاب، قد تعهد علناً «بالعمل وكأن هذه المخاطر وجودية»، وأشار إلى أن يودكوسكي قد يستحق جائزة «نوبل» للسلام لدقه ناقوس الخطر بشأن تلك المخاطر. كما كتب مؤخراً أن «الذكاء الصناعي سوف يكون أعظم قوة للتمكين الاقتصادي، وكثير من الناس سوف يصبحون أثرياء بصورة أكبر مما قد رأيناها في أي وقت مضى»، ثم قال مازحاً عام 2015: «سوف يؤدي الذكاء الصناعي على الأرجح إلى نهاية العالم، لكن في الوقت نفسه، سوف تكون هناك شركات عظيمة!».

بعد عام واحد، وفي موضوع لمجلة «نيويوركر»، كان ألتمان أقل سخرية في الحديث عن مدى بؤس نظرته للعالم. وأقر قائلاً: «أنا أعد العدة للبقاء على قيد الحياة؛ بمعنى مواجهة احتمالات مثل الحشرات العملاقة المصممة مختبرياً، والحرب النووية، والذكاء الصناعي الذي يهاجمنا. وقال: «مشكلتي أنه عندما يسكر رفاقي فإنهم يتحدثون عن الطرق التي سوف ينتهى بها العالم، أحاول ألا أفكر في ذلك كثيراً، لكنني أملك أسلحة، وذهباً، ويوديد البوتاسيوم، ومضادات حيوية، وبطاريات، ومياهاً، وأقنعة واقية من الغاز، وبقعة كبيرة من الأرض في «بيغ سور» بولاية كاليفورنيا يمكنني الطيران إليها».

قد لا تكون هذه وجهة نظر عالمية بين العاملين في مجال الذكاء الصناعي، لكنها أيضاً ليست وجهة نظر غير شائعة. في أحد الاستطلاعات عام 2022 التي استشهد بها كثيراً، سُئل خبراء الذكاء الصناعي: «ما هو الاحتمال الذي تضعونه على عدم قدرة الإنسان التحكم في أنظمة الذكاء الصناعي المتطورة المستقبلية، التي تسبب انقراض البشر أو على نحو مماثل الحرمان الدائم والشديد من تمكين الجنس البشري؟». وكان متوسط التقديرات يبلغ 10 في المائة، واحدة من 10 فرص. وقد صنَّفت نصفُ الاستجابات الفرصَ بأنها أعلى من ذلك.

وفى استطلاع آخر، قال نحو ثلث الذين يعملون بنشاط في التعلم الآلي إنهم يعتقدون أن الذكاء الصناعي سوف يجعل العالم أسوأ. ووصف زميلي عزرا كلاين مؤخراً هذه النتائج بأنها محيرة للغاية: فلماذا إذن تختارون العمل على تطوير الذكاء الصناعي؟

***

ديفيد والاس ويلز - خدمة «نيويورك تايمز»

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الاثنين - 4 شوال 1444 هـ - 24 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16218]

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء!

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع؟ أيهما تَحقّق؟ وإلى أي مدى تحقّق؟ وبأي ثمن؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان؟

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام.

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 20 فبراير 2023 

قبل أيام، أعيد طرح معنى «العلمانية الجزئية»، وهو معنى طرحه عبد الوهاب المسيري بإزاء «العلمانية الشاملة»، وهو طرح منقوص، وقد كتب ضده الصديق حمد الراشد كتاباً كاملاً بعنوان «دفاع عن العلمانية ضد المسيري»، وهو في غاية المحاججة العلمية الرصينة.

لقد شكّل استصحاب إرث مفهوم العلمانية في القرون التالية للحروب الأهلية الأوروبية، عائقاً أمام فهم البعض لجدوى الاستخدام، وآية ذلك أن إلصاق تاريخ المسيحية بالمفهوم استعمل على المستويين «الآيديولوجي الأصولي» و«الأكاديمي الفكري»، وكل ذلك يعبر عن قراءة مدرسية للمفهوم، بعيداً عن التطوّر الذي شهده من خلال تعدد التطبيقات للمفهوم عبر نماذج دول كثيرة بالشرق والغرب.

يستظهر البعض جملة: «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وذلك من أجل وضع العلمنة بإزاء الدين بما يشبه «النقض»، وهذا يعزز من حجج التيارات الرجعية المناوئة للدولة المتجددة الطامحة لاستخدام أنجح المفاهيم وأقدرها على ضبط التفاوت الاجتماعي والصراعات الطائفية والاختلافات العرقية، ولولا العلمانية لكانت المجازر والدماء تملأ هذا العالم.

من بين من وقع في فخ مرادفة «العلمانية» بـ«الدين»، مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: «هرطقات»، وقد شنّ طرابيشي هجوماً مبرراً على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ويشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي... إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة؛ بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات»، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»؛ إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».

ما ذكره الجابري عن وظيفة «العقلانية السياسية» هو ذاته وظيفة «العلمانية»، لكنه يهرب منها؛ لسببين اثنين، الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها)، لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يُطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية مَن نشرها هم «مسيحيو الشام»، وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروِّج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: «عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي؛ لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة». وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من «فصل الدين عن الدولة» لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة».

لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية، في غاية النقص؛ إذ تطوّرت استعمالات المفهوم، وتحرَّر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد «فصل» سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط)، وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تُعدّ زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي، وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتُعدّ من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس، ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.

إن الحشو الآيديولوجي للمفهوم اجتاح حتى بعض المفكرين، متناسين أن العلمانية مفهوم حي يكبر مثل الناس، ويتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وأثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين؛ بل إن انتعاش الأديان لا يكون إلا من خلال العلمانية، وذلك لأمرين اثنين؛ أولهما: أن العلمانية تؤسس للتضابط بين مجموع الأديان، بحيث يتم إنصاف الديانات وأتباعها ضمن القوانين المتبَعة، كما هي الحال في العلمانية الهندية بكل التعددية الدينية واللغوية والعرقية والكثافة السكانية؛ إذ أسهمت العلمانية في حماية المسلمين، ولولاها لتمَّ سحق المسلمين على يد المتطرفين الهندوس. الثاني: أن العلمنة ليست آيديولوجيا؛ بل هي فضاء عام، ولا تخلق واقعاً جديداً؛ بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً.

في آخر المطاف؛ إن الجلبة والهستيريا تجاه المفهوم إنما تعكس الجهل بتطوره وتحولاته وعثراته أيضاً، ولكن من دون العلمانية يستحيل تأسيس دولة مدنية، هذه معادلة بسيطة لكل قارئ في تاريخ الشعوب والنظريات السياسية وتجارب الدول والأمم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الخميس - 29 شهر رمضان 1444 هـ - 20 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16214]

 

كان عالم الاجتماع الفرنسي «أوليفيه روا» قد نبَّه في دراساته الأولى حول ظاهرة الغلو والتشدد في الديانات العالمية الكبرى إلى العلاقة العضوية بين التطرف الديني والانسلاخ من التراث الثقافي ومن التقليد التأويلي، بحيث إن الجماعات المتشددة تدّعي وهماً العلاقةَ المباشرةَ بالنص دون توسط، وتلغي كل السياقات التفسيرية والتنزيلية للنص في الواقع والتاريخ.

وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «تسطيح العالم.. أزمة الثقافة وهيمنة المعايير»، يذهب «روا» إلى أن ما نشهده راهناً في مختلف المجتمعات والبلدان هو انهيار مفهوم «الثقافة» نفسه الذي هو الأرضية العميقة للحمة الاجتماعية.

ما يعنيه «روا» بالثقافة هنا هو معناها الأنثروبولوجي المحوري، أي مجموع السلوكيات والنظم القيمية والمؤسسية التي تحدد طبيعةَ مجتمع ما وتميزه عن غيره. فما نشهده راهناً ليس قيام ثقافة كونية جديدة أو بروز أوضاع تثاقفية على أنقاض ثقافات مهزومة أو متجاوزة، كما يحدث كثيراً في التاريخ، وإنما انهيار الثقافة نفسها الذي هو أخطر وأبعد شأواً من انحسار الأيديولوجيات الذي كثر الحديث عنه في نهاية القرن العشرين.

ولئن كان روا قد استخدم مقولةَ «أزمة الثقافة» التي هي عنوان أحد كتب «حنة أرندت»، فإنه ذهب أبعد من أطروحة الفيلسوفة المذكورة في نقدها للانتقال من ثقافة السؤال والتصور إلى ثقافة الدعاية والتعبئة. ما يقصده روا هو أن العالَم شهد في العقود الأخيرة ظواهرَ ثلاث متداخلة هي: التفسخ الثقافي الكامل، والترميز التواصلي، والتقنين المعياري.

ولقد ارتبطت هذه الظواهر بمسارات كبرى هي: الحركة النيوليبرالية التي حولت مختلفَ أوجه الوجود الإنساني إلى سلع تجارية، والنزعة الفردية الجذرية التي نقلت الإنسان من ذاتية الوعي العقلاني إلى ذاتية الرغبة الموغلة في الخصوصية الضيقة، والصناعات التقنية الكبرى التي تقوم على مبدأ الرقمنة الشاملة للوجود البشري.وكما أن الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي تحولت إلى مجرد دوائر ثقافية مغلقة متجاورة لا رابط بينها، وإن كانت تتغذى من نفس المتجر الثقافي الكوني دون تمحيص عقلي أو برهاني، فإن التواصل بين البشر أصبح موضوع ترميز تقني شكلي يستخدم الإشارات البصرية ويستعمل اللغة في حدودها الضيقة.

ومن هنا يتوجب التوسع في وضع قواعد التبادل والتواصل وفق معايير الخصوصية وحقوق التميز الفردي. إن النتيجة الكبرى لهذه التحولات هي، حسب روا، تحلل النظم الاجتماعية التي تعاني في كل الدول الصناعية المتقدمة من أزمة عميقة، تبرز في انهيار المؤسسات العمومية وطغيان النزعات الشعبوية المدافعة عن الهويات الخصوصية المغلقة التي هي النقيض الموضوعي لأفكار الكونية والعقلانية والذاتية التي قامت عليها الحداثة الغربية.

وإذا كانت بعض الأقلام تحدثت سابقاً عن مسار «الخروج من الدين» في الغرب، فإن الوضع اليوم يتمثل في انسحاب مسار نزع القداسة عن القيم الحداثية نفسها، وفي مقدمتها مقولة التقدم التي هي ركيزة الحداثة الأوروبية. ما نريد أن نبينه هو أن أطروحة روا تستوقفنا في ثلاثة مستويات كبرى:

أولاً: ما نشهده في عالمنا العربي الإسلامي من انفصام خطير بين مقوماتنا الثقافية الجوهرية والثقافة المعلبة الرائجة المتقاسَمة على نطاق واسع. لا يعني الأمر هنا الدفاع عن الجمود التراثي، لكن التجربة بيّنت لنا أن محاولات الانفصال عن التقليد والقطيعة معه تفضي في غالب الأحيان إلى عكس ما تنشده، بحيث إن التجديد والتحديث لا يمكن أن يتما إلا بالقراءة الثرية والنفَس التأويلي الخصب للمدونة التراثية التي هي الأثر الحي لديناميكية تأويلية طويلة ومتنوعة تفتح آفاقاً رحبةً للإبداع والاجتهاد.

ثانياً: ما نلمسه من قصور وفقر في الشخصية الثقافية ناتج عن ضعف ومحدودية الاطلاع على عيون المعارف والآداب والعلوم في تراثنا الثقافي. ومن هذه العيون أمهات الشعر من معلقات جاهلية ودواوين أموية وعباسية وأندلسية، وكتب الإمتاع والمؤانسة والحِكم والمأثورات، فضلاً عن كتب السلوك والأخلاقيات والفضائل.

ثالثاً: طغيان الثقافة الرقمية السريعة التي تخلق وهماً زائفاً بالمعرفة الموضوعية والاطلاع الشامل، في حين أنها تدفع للكسل العقلي، وتضعف القدرات النقدية والعقلانية، وتنتج ثقافة هي أقرب إلى الرموز الشكلية التي تحدث عنها روا. قبل سنوات، كان الحديث يدور حول «صراع الثقافات»، وشاع أوانَها وهمُ الصدام بين الثقافة الغربية بجذورها اليهودية المسيحية والثقافة الإسلامية. ما يتبين اليوم هو أن التحدي يكمن في استعادة مفهوم الثقافة نفسه الذي أصبح إشكالياً وعصياً على التحديد.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 3 ابريل 2023

 

أول كاتب إسلامي صرف هاجم سلامة موسى هجوماً دينياً إسلامياً في كتاب، هو الشيخ محمد الغزالي في كتابه «من هنا نعلم» الذي صدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1950.

كتابه هذا مع أنه كتبه ردّاً على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، إلّا أنه ضم إليه مقالات قصيرة كان قد نشرها في مطبوعة من مطبوعات الإخوان المسلمين تحت عنوان «بين الهلال والصليب».

وهذه المقالات القصيرة كانت رداً على حملة على جماعة الإخوان المسلمين شنها سلامة موسى. وكان سلامة موسى العلماني، والديني القمص سرجيوس سرجيوس مع جماعة من القبط، يشنون حملة على الإخوان المسلمين بين فترة وأخرى، في جريدة «مصر» ومجلة «المنارة المصرية» في عقدي الثلاثينات والأربعينات تختلف أسبابها من فترة إلى أخرى. وثمة حملة من حملات سلامة موسى يرجع تاريخها إلى عام 1946 تأذّى منها الشيخ حسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين، فهرع إلى بطريرك الأقباط يوساب الثاني مستغيثاً به ليوقفها.

جماعة «شباب محمد» التي هي جماعة دينية أكثر تشدداً من جماعة الإخوان المسلمين ومنافسة لها، عابت على حسن البنا هذا التصرف، واعتبرت تصرفه هذا مهيناً للإسلام والمسلمين!

مقالات الشيخ محمد الغزالي القصيرة عن سلامة موسى في الحملة المضادة التي شنها عليه، لم أتوصل إلى تاريخ كتابتها على وجه التحديد الدقيق؛ لأنها كانت ردّاً متأخراً على جدل احتدم بين سلامة موسى وبين الإخوان المسلمين عام 1949.

وأظنها كانت قبل أشهر من شروعه في الرد على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»؛ أي إنه نشرها في عام 1950. أقول بهذا التاريخ استناداً إلى تاريخ صدور كتاب في هذا العام، سيأتي الحديث عنه فيما بعد.

مهّد الغزالي لهجومه الإسلامي على سلامة موسى، والذي جعله هجوماً إيمانياً عاماً على الإلحاد، بالقول: «إن هناك يهوداً لا يعرفون موسى ولا التوراة! هل قرأت الدعوة التي وجهها أينشتاين إلى أخطر المؤتمرات العلمية يطالبها أن تحارب فكرة الألوهية وتنقي الأذهان من هذه الخرافة؟ ويعتبر النجاح – في محاربة الله - أكبر كسب تحرزه الإنسانية!»، ثم توجه في خطابه إلى القارئ، فسأله: «هل هذا يهودي؟ وهل يسمع لمثله رأي في التعاون بين أهل الدين؟ ثم تنزل من قمة العلم الطبيعي حيث يوجد هذا العالم الملحد، وتهبط إلى السفح فترى محمد التابعي، المسلم – كما يقال – وسلامة موسى المسيحي – كما يقال – فإذا بكلا الشخصين يدعو بقوة وحماسة إلى قرار البغاء وإباحة الزنا! ولا عجب، فلا هذا ولا ذاك يؤمن بالله أو يصدِّق باليوم الآخر. وليكن هذان الشخصان من رجال الصحافة أو السياسة، لكنْ كلاهما في شؤون الأديان لا يسمع إلا يوم يسمع رأي الشيطان في شؤون الوحي!

ومع ذلك فالوقاحة تجعل سلامة موسى يكوّن عصابة من الشطّار والصغار لترسم خطوط التعاون بين المسلمين والأقباط في مصر.

إننا نستريح من صميم قلوبنا إلى قيام اتحاد بين الصليب والهلال، بيد أننا نريده تعاوناً بين المؤمنين بعيسى ومحمد لا بين الكافرين بالمسيحية والإسلام جميعاً.

والذين يخوضون في العلاقات بين عنصري الأمة المصرية – كما يصفونها – صنف من الناس لا نطمئن إلى تقواه ولا إلى ابتغاء وجه الله!

ومن فترة طويلة و(عصابة سلامة موسى)، تعكر المياه، لتصيد فيها، وقد استهدفت لإثارة الضغائن بين المسلمين والأقباط:

1- هدم الإسلام بإعلان حرب متواصلة على شريعته ومحاولة إرغام المسلمين على تركها ونسيان أحكامها.

2- هدم المسلمين أنفسهم بإغراء القلة القبطية أن تحكمهم وتستأثر دونهم بالنصر الأكبر من المناصب والوظائف العامة.

وسنسوق في المقالات المقبلة الشواهد على هذه النوايا الخبيثة من كلام العصابة التي يتزعمها حضرة سلامة موسى أفندي المسيحي ظاهراً، وذو الباطن الذي فضحته الأيام!».

في مستهل المقال الذي تلا هذا المقال الذي أوردت منه مقتطفاً، قال الغزالي: «إنها مؤامرة على الأديان كلها، وإن كانت في ظاهر الأمر حملة ضد الإسلام وحده وردّاً لشعائره وشرائعه، وغضاً من مكانته وجدواه على الناس والحياة.

و(عصابة سلامة) في كيدها لدين الله تتبع المبدأ المشهور في الدعايات المهرِّجة الباطلة؛ مبدأ: (اكذب ثم اكذب ثم اكذب؛ فسيقع في أذهان الناس من هذا الكذب المتلاحق شيء ما).

وقد دار محور كذبها في الأيام الأخيرة على أن المسلمين أعداء للأقليات التي تعيش بينهم(!)، وأن الكثرة المسلمة في مصر تكنّ السوء لغيرها (كذا)».

ما نشره الغزالي في مقالات قصيرة تحت عنوان «بين الهلال والصليب» أعاد نشره في كتابه «من هنا نعلم» في العنوان نفسه، لكنه نشره كمقال متصل يمتد من صفحة (113) إلى صفحة (134) في الكتاب.

وقد يستشف القارئ أن هذا المقال المتصل عبارة عن أكثر من مقال قصير من قوله السابق: «وسنسوق في المقالات المقبلة الشواهد... ».

يقول الشيخ الغزالي في مقاله «بين الهلال والصليب»: «وقد نقل كتاب طائش – نشرته هذه العصابة – نقل كلاماً لإسماعيل صدقي باشا بصورة الاتجاه الإلحادي في حكم هذه البلاد».

الشيخ الغزالي يعمِّي على اسم الكتاب، ولم يعمِّ على الجهة التي نشرته وموّلت نشره، فهي – كما يزعم – عصابة كوّنها سلامة موسى من الشطّار أو الصغار، لترسم خطوط التعاون بين المسلمين والأقباط في مصر، مع أنها – كما يزعم في فقرة أخرى – عصابة مأفونة من الملحدين المبغضين لله ورسله كافة. وفي رواية من رواياته قال: إنها عصابة ماجنة!

استخدم الشيخ الغزالي تعبير «عصابة سلامة» في مقاله مرة واحدة، وفي أوله، ثم بعد ذلك اختصر هذا التعبير إلى «عصابة سلامة» واستخدمه مرات عديدة. في اختصاره لهذا التعبير واختيار اسمه الأول «سلامة» لا اسمه الثاني «موسى» الذي هو اسم نبي، فن وبراعة؛ إذ تشعر مع هذا الاختصار أنها – فعلاً – عصابة، يتزعمها فتوّة اسمه سلامة، انقلب من كونه فتوّة إلى قاطع طريق!

قدّم الشيخ الغزالي لكلام إسماعيل صدقي باشا الذي نقله كتاب، قال عنه: كتاب طائش نشرته «عصابة سلامة»، قدم لكلامه بقوله: «قال الباشا – الذي لا دين له: يجب أن نباعد بين سياستنا وبين الاتجاه الديني. لقد بدأت تصطبغ بصبغة دينية. وهذه نعرة قديمة انتهت من مئات السنين. ولم تعد السياسة العربية والإسلامية تلائم العصر الحاضر، بل إن سياستنا قامت في الماضي على غير هذا الأساس. فمحمد علي الكبير – ذلك الرجل البارع – كان يتطلع إلى الغرب وكانت إصلاحاته غربية، ومن بعده إسماعيل. وكذلك كان الملك فؤاد، بل إن سعد زغلول خريج الأزهر لم تكن سياسته عربية ولا إسلامية، بل كانت مصرية خالصة تتجه نحو أوروبا. فلماذا نتجه اليوم هذا الاتجاه الإسلامي؟ وأي مصلحة لنا فيه؟!».

من المحبط أن الشيخ الغزالي، لم يذكر تاريخ العام الذي قال إسماعيل صدقي باشا فيه كلامه هذا. فلو ذكره لعرفنا أنه قد قاله في فترة حكومته الأولى (20 يونيو/ حزيران 1930 – 22 سبتمبر/ أيلول 1933)، أو أنه قد قاله في فترة حكومته الثانية (17 فبراير/ شباط 1946 – 9 ديسمبر/ كانون الأول 1946).

كان من المهم معرفة العام الذي قال فيه كلامه؛ لأنه في الفترة الأولى لحكومته، تحالف الشيخ حسن البنا معه، تحالف معه مع سعي القوى الوطنية لإسقاط حكومته. وقد جنى الشيخ حسن البنا من تحالفه معه انتشاراً لدعوة الإخوان المسلمين ومكاسب أخرى، أبرزها نقل مقر جماعته من بلدة نائية، هي الإسماعيلية، إلى سُرّة مصر، وهي القاهرة.

ولأنه في حكومته الثانية كان الشيخ حسن البنا مؤيداً لاختيار الملك فاروق له، رئيساً للوزراء، رغم أن القوى الوطنية رافضة هذا التعيين؛ لأنه عندها هو عدو الدستور وعدو الشعب. وقد قبض الشيخ حسن البنا ثمن هذا التأييد، كزيارته بعد تعيينه لمقر الجماعة، وترخيص – كما يقول ريتشارد ميتشل في كتابه «الإخوان المسلمون» - بإصدار الصحيفة الرسمية للجماعة «جريدة الإخوان المسلمون» التي بدأت تصدر منذ مايو (أيار) 1946، وامتيازات في شراء ورق الطباعة بالأسعار الرسمية، والتي تعني توفير من 20 إلى 30 بالمائة من أسعار السوق السوداء، وامتيازات مخصصة للجوّالة، كاستعمال الزي القومي الذي يتم شراؤه بسعر مخفّض، واستخدام المعسكرات والتسهيلات الحكومية، ومنحها قطعاً من الأرض لإقامة المباني اللازمة في المناطق الريفية.

وفي تعداده لهذه الأثمان يضيف ريتشارد ميتشل لها ثمناً آخر مهماً، فيقول: «كذلك كان واضحاً أن تعيين محمد حسن العشماوي، الذي دعا منذ وقت طويل إلى إقرار التعليم الديني في المدارس الدينية، والصديق المخلص للجماعة، في منصب وزير التعليم (المعارف) في حكومة صدقي، قد جاء منسجماً مع نفس السياق من الأحداث».

ويختم تعدادها بذكر الثمن الأخير الذي دفعه إسماعيل صدقي للإخوان المسلمين، فيقول – موضحاً طريقة دفعه: «أما الإعانة المالية، فالأرجح أنها لم توجّه للجماعة على نحو مباشر، وإنما تم تمريرها من خلال وزارتي التعليم والشؤون الاجتماعية بوصفها مساهمات أو إعانات حكومية مشروعة للخدمات التعليمية والاجتماعية الخيرية للجماعة».

وأضيف إلى ما قاله ريتشارد ميتشل: أن محمد حسن العشماوي حينما عينه إسماعيل صدقي في 17 فبراير 1946 وزيراً للمعارف العمومية، كان ابنه حسن الموظف في النيابة والقضاء منضماً للإخوان المسلمين قبلها في حدود العامين، وما لبث منير الدلة صديق ابنه حسن منذ أيام دراستهما في كلية الحقوق، والموظف في مجلس الدولة، أن تزوج ابنته آمال في عام 1947. وفي هذا العام انضم منير الدلة وزوجته آمال العشماوي إلى الإخوان المسلمين بتأثير من أخيها حسن. وقد وصف انضمام زوجها إلى الإخوان المسلمين – كما يقول ريتشارد ميتشل – بأنه إدخال الكاديلاك والأرستقراطية إلى قلب الحركة. آمال وأخوها حسن هما أيضاً ينتميان إلى طبقة البرجوازية العليا. وكان بيتهما العائلي رغم ما يتخلّله من جو ديني، بيتاً متمدناً وعصرياً. وهذا ما يفسر لنا أن التي زفتها إلى زوجها صاحبة أكبر وأرقى مرقص في مصر حينها، وهي الراقصة بديعة مصابني صاحبة «كازينو بديعة»، وقد شاركت معها في الزفة الراقصة فتحية شريف التي تعمل في الكازينو الذي تملكه بديعة مغنية ومونولوجست.

ولموقعهما الاجتماعي والطبقي احتل حسن ومنير سريعاً موقع الكفة الراجحة في صفوف قيادات حركة الإخوان المسلمين مع أنهما متأخران في الانضمام إليها.

ولآمال العشماوي منذ انضمامها لهذه الحركة أدوار مهمة وخطرة في تاريخ الإخوان المسلمين قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 وفي أثناء فترة حكمها؛ حكم هذه الثورة.

سقت المعلومات السابقة عن تحالف الإخوان المسلمين مع حكومتي صدقي باشا؛ لأسأل سؤالاً سياسياً وعقدياً، وهو: هل الإخوان المسلمون تحالفوا مع حكومة إسماعيل صدقي باشا الأولى والثانية، لأنه – كما قال الغزالي عنه – باشا لا دين له، أو أنهم تحالفوا معه لأنه، كما قال عنه – إبان حكومته الثانية - قولة مشهورة للقيادي الطلابي الإخواني، وخطيب الإخوان المسلمين في جامعة الملك فؤاد، مصطفى مؤمن، في صد مظاهرات طلابية إسماعيل صدقي، مستشهداً بآية قرآنية، لإسقاطها عليه، وهي: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)؟!

بعد أن نقل الشيخ الغزالي لنا كلام إسماعيل صدقي باشا من كتاب ناقل لكلامه، قال مباشرة: «يقول الدكتور زغيب – وهو من أعضاء العصابة – هل بعد هذا كلام واضح صريح من رجل كان فريداً في ذكائه، وحيداً في تفكيره، ممتازاً في بعد نظره ورجاحة عقله...؟»، ثم علّق على هذا الكلام بقوله: «هذا الكلام هو قرة عين سلامة موسى وعصابته. وكل معول ينقض بنيان الإسلام، فهو في نظره مسلك ينطوي على الفهم والحصافة، ويدل على التقدم والارتقاء. فإذا قال أحد: إن لله وحياً ينبغي أن يطاع، انبعث صوت هذا الغر يطلب النجدة من أوروبا وأميركا قائلاً: الأقلية في خطر!

وقد علمت أن تحدث هذا الشخص عن الأقباط خدعة تستر وراءها أخبث النوايا نحو التوراة والإنجيل والقرآن».

بطريقة غير مباشرة، يشير الشيخ الغزالي إلى أن الدكتور زغيب هو مؤلف الكتاب الطائش الذي نشرته «عصابة موسى».

مع زيادة الشيخ الغزالي بالتعريف به، بأنه «عضو في عصابة موسى»، ومع معرفتي بأسماء ثلة من الأقباط، لاهوتيين وعلمانيين، الذين كتبوا في المسألة القبطية وعنها، إلا أنني لم أتعرّف على من هو «زغيب»، ولم أدرِ هل «زغيب» اسمه الأول أو اسمه الأخير.

شغلني التعرّف أكثر على اسمه الكامل، لأصل إلى اسم كتابه الطائش الذي عمّى الشيخ الغزالي على اسمه؛ إذ إنني لا أعرف دار نشر في مصر اسمها «منشورات عصابة سلامة موسى» أو «منشورات عصابة موسى» لأبحث فيها عن كتاب ألّفه دكتور اسمه الأول أو اسمه الأخير «زغيب».

في فقرة بعيد منتصف المقال عرفت أن اسمه كاملاً، هو زغيب ميخائيل، وأنه صعيدي قبطي.

وفي فقرة متأخرة من المقال عرفت معلومة ثالثة عنه، وهو أنه من أبي قرقاص. ووقتها كانت بلدة ولم تكن مدينة. وعرفت أن الشيخ الغزالي سبق له أن عمل بها.

وسأورد لكم نص هذه الفقرة: «والغريب أن الدكتور زغيب الذي يستغيث من الحجر (يقصد الحجر على بناء الكنائس) رجل من بلدة أبي قرقاص. وقد كان من المصادفات الحسنة أني عملت في مركز أبي قرقاص هذا واعظاً نحو العام. وإني لأستغرب كيف يقول هذا الكلام مع أن أبا قرقاص تضم 70 في المائة من سكانها مسلمين و30 في المائة أقباطاً. ومع ذلك فيها مسجدان وخمس كنائس فقط! وبها كذلك إرسالية تبشيرية من فرنسا، فهل هذه النسبة الصارخة دليل الحجر على إنشاء الكنائس أم دليل السرف في إقامتها».

بعد توفر المعلومات الثلاث عن الدكتور زغيب، عرفت أن اسمه ميخائيل زغيب لا زغيب ميخائيل، وأن اسم كتابه هو: «فرِّق تسد: الوحدة الوطنية والأخلاق القومية»، صدر بالقاهرة من دون ناشر عام 1950. والكتاب سجل للمشكلات التي واجهها الأقباط من بداية القرن الماضي إلى وقت تأليف الكتاب. والمؤلف طبيب، وقد توهمت وأنا أقرأ مقال الغزالي أنه دكتور في علم نظري أو في علم تطبيقي. وكان هذا الطبيب يعمل في أبي قرقاص مديراً للمستشفى الأهلي فيها.

هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد الذي ألفه. وكتابه هذا كتاب مغمور لم ينل ما يستحقه من معرفة به عند المهتمين بالمسألة الطائفية في مصر وفي العالم العربي. ولو أحصينا عدد الذين رجعوا إليه من الباحثين، فلن يتعدوا عدد أصابع اليد الواحدة.

وقد وجدت أن الكاتب والباحث سامح فوزي يسمي الطبيب القبطي ميخائيل زغيب، صاحب كتاب «فرِّق تسد: الوحدة الوطنية والأخلاق القومية» – كما يسميه الشيخ محمد الغزالي – بزغيب ميخائيل في معلومة كررها عن هذا الكتاب وعن صاحبه في جريدة «الحياة»، ثم في جريدة «الشروق»، ثم في جريدة «الشرق الأوسط».

في جريدة «الحياة» وفي جريدة «الشروق» ذكر عنوان الكتاب الأساسي (فرِّق تسد) ولم يذكر عنوانه الشارح (الوحدة الوطنية والأخلاق القومية). وفي جريدة «الشرق الأوسط» ذكر عنوانه الأساسي مع عنوانه الشارح. وحينما ذكر معلومته عن الكتاب لأول مرة في جريدة «الحياة» لم يكن في حوزته نسخة من الكتاب، وهذا ما حدثنا به في مقاله الذي رثى به حمدي رزق، وهو مقال «يا رب ارحم حمدي رزق» المنشور في جريدة «الشروق»؛ إذ قال: «أتذكر أنني كتبت عن هذا الكتاب مقالاً، ثم بعد أيام وجدت أن من يطلبني على الهاتف، هو حفيد الكاتب زغيب ميخائيل، وطلب لقائي في أحد أندية مصر الجديدة، وكرّمني بإعطائي نسخة أصلية من الكتاب. وروى لي أن جده اضطر أن يترك (أبو قرقاص) بعد هذا الكتاب، حيث تعرّض منزله للاعتداءات، وجاءوا إلى القاهرة».

الشيخ محمد الغزالي أسرف في ذم الدكتور زغيب، وأسرف في ذم كتابه، وأساء كثيراً إليه وإلى كتابه الذي عمّى على اسمه، والقبطي سامح فوزي أشاد بالكتاب وبصاحبه، لكنهما – يا للمفارقة - اجتمعا على قلب اسمه!

فهل اسمه، كما كتبه الشيخ محمد الغزالي في منتصف القرن الماضي، وكما كتبه سامح فوزي في العقد الأول وفي العقد الثاني من القرن الحالي، هو الاسم الصحيح، أو أن ميخائيل زغيب هو اسمه المقلوب؟

الإجابة الحاسمة هي عند حفيده.

في معلومته عن الكتاب ذكر سامح فوزي أن سلامة موسى هو الذي كتب مقدمة للكتاب. ونستفيد مما ذكره أن الشيخ الغزالي عينه عضواً في «عصابة موسى» التي اخترعها، وادعى أن هذه العصابة المخترعة هي التي نشرت كتابه، مع أن كتابه طُبع من دون ناشر، لمجرد أن سلامة موسى كتب مقدمة للكتاب.

وبطريقة أشد إعتاماً من الطريقة الأولى، التي – على الأقل – فيها بصيص من نور خافت، قال الشيخ الغزالي: «وفي كتاب آخر نشرته هذه العصابة جاءت هذه العبارة: إننا عانينا مذبحة فلسطين، ولم نزل تحت تأثير فكري عنصري. واستجابة لإثارة طائفية. ومن العبث أن نخفي ذلك ونتجاهله»، ثم ناقشه مناقشة صاخبة على قوله هذا وعلى قول آخر له، فيها سباب مقذع لهذا القبطي المجهول.

في آخر مقاله يورد الشيخ الغزالي مقتطفاً من مقال كتبه الدكتور حنا حنا يرد فيه على متعصبة الأقباط.

ومما قاله الدكتور حنا حنا في هذا المقتطف: «إن ما يشتكي الأقباط منه في هذه الآونة، وما يردده هذا الشاب في صحيفته صباح مساء، حتى جعل أشد الأقباط قومية وحماسة يملّون قراءة ما يكتب. والله يعلم أنه لا يقصد سوى أن يصبح بطلاً، وما هكذا يصبح الرجال أبطالاً».

عرّف الشيخ الغزالي في هامش هذه الصفحة من كتابه بهذا الشاب، بأنه «عضو في عصابة سلامة موسى المعروفة».

في الأولى تستّر على اسم كتاب وعلى اسم صاحبه، مع أنه يعلم أن الذين نشروه هم عصابة يتزعمها سلامة موسى!

وفي الثانية تستّر على اسم الشاب الذي رد عليه الدكتور حنا حنا، مع علمه أنه «عضو في عصابة سلامة موسى».

في القانون الجنائي يعد ما فعله الشيخ الغزالي، جناية. وللحديث بقية.

***

علي العميم - كاتب وصحافي سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 25 شهر رمضان 1444 هـ - 16 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16210]

 

هناك أسئلة صريحة عن المشروعية الدينية وإلى متى يبقى الجهل والاجتهادات المضللة سيدَي الموقف في رسم علاقة الدين بالحياة والسياسة والعلم؟ والأهم، ما أسباب استمرار أزمة التفكير الديني في مجتمعاتنا وتعثر محاولات إصلاحه وتجديده في أغلبها، بما هو تعثر لتحديث المفاهيم الدينية وتطويرها كي نتجاوز حالة التقليد والركود والفوضى الفقهية السائدة؟

لم يجانبوا الصواب مَن وجدوا أن فكرة الإصلاح الديني لاقت اهتماماً كبيراَ لدى كثير من العلماء والفقهاء والمفكرين ممن آمنوا بدور الإسلام في البناء والتغيير الاجتماعي، وحاولوا خلق أدوات ثقافية جديدة تنطلق من الإقرار بنسبية المعارف، وتعيد دراسة الفكر الديني في ضوء التجربة والمنطق وتطور العلوم الإنسانية، لتخليصه مما شوهته اختلافات التاريخ والمصالح، ومن الكثير من الأوهام والمسلمات الخاطئة التي عششت طويلاً في عقول المسلمين، على أمل تحقيق الانسجام بين مقاصد الدين ومصالح المؤمنين وحقوق الناس جميعاً، ولا يغيّر هذه الحقيقة تشتت دعاة الإصلاح وعجزهم عن توحيد خطابهم، وأحياناً انقسامهم إلى قوى واتجاهات وصلت إلى حد التعارض، كما لا يغيّرها ما لعبه الموقف من الأجنبي من دور في إعاقة الإصلاح الديني ومحاصرة دعاته، حين تجرأ هؤلاء على المقارنة بين الحالة التي آلت إليها أوضاع المسلمين وبين التفوق الغربي، ما جعلهم عُرضة للاتهامات بالترويج لقيم الغرب ومفاهيمه على حساب تراثهم ومعتقداتهم الدينية، ولعبت المواجهات السياسية ضد هيمنة غربية لم تخلُ من عنصرية ونظرة استعلائية، دورها في تغذية مشاعر التحفظ على الحداثة ورفض التجديد.

في المقابل، لم يخطئوا مَن ربطوا تعثر الإصلاح الديني بالحرب الشرسة ضد فكرة الإصلاح ودعاة التجديد التي شنتها قوى وجماعات إسلاموية اتفقت على إلغاء دور العقل في وعي الحياة الدينية وتمكينها، وتمسكت بالتقليد ورفض الاعتراف بأن جزءاً من مضامين التفكير الديني الذي تدافع عنه وتضفي عليه شيئاً من القداسة هو تفكير بشري، تجاوزته أحياناً المتغيرات ولم يعد يستجيب لمشكلات المسلمين وحاجاتهم الراهنة، ويتساءل هؤلاء كيف ينجح الإصلاح الديني في مواجهة ساخنة وغير متكافئة مع حركات أصولية متطرفة ترى نفسها الوصية على الدين، ولم تدخر جهداً لعزل الإصلاحيين وسحب الشرعية الدينية منهم، من خلال تأليب الناس ضدهم وإدانة من يتخذ فكرهم مرجعاً، أو التشهير بهم كخصوم وأعداء للإسلام، وصل أحياناً إلى حد تكفير بعض رموزهم وإباحة دمهم.

وأيضاً، لم يخطئوا مَن وجدوا أحد أسباب استمرار جمود الفكر الديني وانغلاقه، القطع التاريخي لمحاولات إصلاحه الذي أحدثه المد التحرري الوطني والقومي في ظل «علمانية صورية» وطابع براغماتي صارخ لقادته، فهُدرت جهود تجديدية كثيرة وضاعت بسبب توظيف «الحكومات الوطنية والقومية» الضيق لها، حين أخذت منها ما قد يفيدها في معاركها السياسية أو في اختياراتها الاجتماعية والاقتصادية وأُهمل تكريسها في حقول التربية والأفكار والقيم.

أصابوا كبد الحقيقة مَن مالوا نحو التركيز على غياب المناخ السياسي الضروري لنجاح الإصلاح الديني، فهذا الأخير يتعلق بإعمال العقل والنقد، ولا ينمو وينتعش إلا في مناخ يتسم بالحرية، حرية التعبير والاعتقاد، وحرية البحث، وعند هؤلاء لا يصح الفصل بين الدعوة إلى تجديد الثقافة الدينية وبين تقدم الإصلاح السياسي، بل إن كل خطوة نحو نصرة الديمقراطية هي خطوة نحو توفير أفضل الشروط لإحداث المراجعات الدينية الضرورية.

طبعاً، من دون أن نبخس الإصلاح الديني حقه ودوره، فتقدمه هو عامل مساعد أيضاً وممهد للتغيير السياسي، كما كان دور الإصلاح البروتستانتي والإنغليكاني في أميركا وإنجلترا، فإن النتيجة تقول إن النجاح في تصحيح العلاقة بين الديني والدنيوي لا يتحقق إلا بالاستناد إلى نظام يحضن موضوعياً طرائق المعرفة النسبية، ويبعث روحياً وسياسياً حقوق الإنسان وحرياته في الرأي والتعبير والاجتهاد، ويعرف الجميع أن أزهى فترات الإصلاح الديني في التاريخ العربي تمت في مناخات ليبرالية نسبياً وأن أجواء الحرية الفكرية والسياسية هي التي ضمنت تفتح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية.

لا يمكن لعاقل أن يُنكر أهمية الإصلاح الديني وضرورته في مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد وصارت في أمسّ الحاجة إلى نشر العقلانية في طرائق التفكير وتمكين الدين من تقديم إجابات واضحة عن أزمات الواقع وأسئلته الملحة، وفق منطق العصر واحتياجاته، لكن يعد جهداً ضعيفاً وناقصاً الاكتفاءُ بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني وغضّ النظر عن تردي الشروط السياسية والاقتصادية، أو اعتبار معالجة الواقع المتخلف والنهوض به تتأتى فقط من انتقاد مسلكيات دينية مريضة، على أهمية ذلك وإلحاحه، أو من قرارات تهدف إلى تصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة عن الدين، فهناك أيضاً ما يجب عمله لتحسين شروط حياتهم وضمان حاجاتهم المادية والروحية وخلق المناخ الحاضن لحرياتهم وحقوقهم وتالياً لتشجيعهم على تطوير أفكارهم وعاداتهم وأنماط حياتهم.

منذ قرن ونيف رأى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما من بعدهما، أن الإصلاح الديني ضرورة مصيرية للخروج من حالة الجمود واللحاق بركب التطور والحضارة. ومنذ قرن ونيف اقترح الكواكبي لمواجهة جهل العوام وشطط الفتاوى والاجتهادات «أن يؤلّف فقهاء الأمة كتاباً في العبادات يعتمده المسلمون، ويُذكر فيه الحد الأدنى للفرائض والواجبات، وكتاباً للسنن المستحبة، وكتاباً للسنن الإضافية، ثم كتاباً للمنهيات والمكفرات والكبائر ثم للصغائر والمكروهات، وتوضع كتب للمعاملات حسب أحكامها الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية كي يسهل على كل مؤمن معرفة ما هو مكلف به في دينه، وكي تظهر سماحة الدين الحنيف». وأيضاً منذ قرن ونيف، لا تزال تتواتر وللأسف، التساؤلات والإشكالات التي تخلّفها فوضى الاجتهادات الدينية والفقهية من دون أن تلقى إجابات جامعة، فكيف وأن تطور الحياة السياسية والاجتماعية في بلداننا وحتمية علاقتها بالعلوم والحضارة العالمية، باتا يطرحان تساؤلات وإشكالات جديدة أكثر حساسية وعمقاً وتعقيداً!

***

أكرم البني - كاتب سوري

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الجمعة - 23 شهر رمضان 1444 هـ - 14 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16208]

 

كيفية طرح القضايا والمسائل الفكرية والاجتماعية والدينية في الشأن العام والدلالات والمعاني التي يتم من خلالها تداول هذه القضايا تختلف من عصر إلى آخر.

لكن قد تكون هذه القضايا إذا ما تم النظر إليها دون تمعّن أو تدقيق هي هي لم تتغير ولم يطلها التحول، سواء على مستوى الدلالة والاجتماع أو المصطلح أو المفهوم.

أليس على سبيل المثال طرح قضايا الحريات في المجتمعات العربية الإسلامية لم تتزحزح قيد أنملة من سياقها العام الذي وضعت فيه: الحرية مقابل الاستبداد. وذلك منذ شيوع ثقافة التحرر من الاستعمار، وشيوع التحرر من الجهل والالتحاق بركب الحضارة؟! لكن المثال هذا لا يصدق سوى على التاريخ العربي الإسلامي لأسباب كثيرة، لا يسع المجال لذكرها هنا ويمكن أن نشير إلى عنوانها العام وهو فقدان العالم العربي الإسلامي طيلة قرون عديدة بوصلته إلى بناء حضارة عالمية جعلت منه عطالة تامة في الفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بينما لو تتبعنا مسار هذه القضايا في الحريات على سبيل المثال في التاريخ الأوروبي لرأينا التحولات بائنة وواضحة لا على مستوى المفهوم وتجدده ولا مستوى الرؤية الاجتماعية فقط، وإنما أيضًا على مستوى المعارف والمناهج التي تثيرها هذه الدلالة أو تلك لمفهوم الحريات، فمنذ كشر الصراع الديني عن أنيابه في أوروبا استخدمت مفردة الحرية للتعبير عن حرية المعتقد وتفرق الاستخدام تاليا بين المدونات الفلسفية والمدونات السياسية، وتلونت دلالتها تبعا للمدونة نفسها، لقد ساهمت فلاسفة الأنوار في تطوير هذا المفهوم كما كان (سبينوزا) دافع قبلهم عن حرية الرأي في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى أن وصلنا إلى مطالع القرن العشرين ورأينا تشكل نص الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في إعلانه المشهور في الأمم المتحدة في ديسمبر 1948، هذا المسار في تحولات المفردة في أوروبا لم يكن بسيطا ولم يكن سهلا أيضا. لكن المغذي الأكبر لحراك هذه المفردة هو المناخ العام الذي امتلأ بفكرة الحرية في كل المجالات من الأدب إلى السياسة والفكر والفلسفة والدين والاجتماع، وقد تولدت على إثرها مفاهيم عديدة كالفردانية والعلمانية.. إلخ، لكن السؤال الذي أريد أن أختم بإجابته هذا المقال هو: كيف يمكن الدفاع عن الحريات في عصر السوشيال ميديا إذا ما أدركنا أن الوسائل والتقنيات في هذا الفضاء أعطت الإنسان المزيد من الحريات التي لم يكن يحلم بها يوما ما، وبالخصوص في التعبير عن كل ما يخطر في باله من كلام وسلوك وفعل؟ لو أخذنا تطبيقا واحدا من هذا الفضاء، وليكن على سبيل المثال (التك توك) فأنت أمام واقع افتراضي من أهم سماته أنه لا سمات له، فضاء هلامي لا حدود له ولا حواجز، يختلط فيه السلوك البشري الثقافي بالطبيعي، وبالتالي لا أحد يصغي إلى أحد آخر، الكل يريد الكلام، الكل يريد أن يكون وسط الصورة، هناك قصص واقعية تروى، هناك مواقف حقيقية وأخرى تمثيلية، هناك خبرات حياتية في جميع المجالات، هناك أنماط من السلوك تنتقل بسرعة البرق بين مستخدمي هذا التطبيق، هذه الجردة البسيطة يخرج المراقب منها بانطباع أننا أمام فضاء يمارس فيه الإنسان سلوكا لفظيا وبدنيا يمكن وصفه ظاهريا باسم الحرية لكن جوهره لا يرتبط بالمفردة ذاتها التي جاءت تعبيرا عن حاجات أساسية ناضل الإنسان وضحى لأجل التحرر منها، ومن ثم أعطاها الدلالة المعروفة، وإنما يرتبط بشيء آخر، يمكن تسميته ثقافة الترفيه والتسلية كون تقنيات التواصل الاجتماعي ليست الخيار الوحيد للمدافعين عن الحريات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يوجد نظام مؤسسي يدمج هذه التقنيات في فضاء اجتماعي عمومي واقعي، صحيح فضاء هذا التطبيق وغيره من التطبيقات له تأثيره على المجال العام لكنه غير فاعل في القضايا الكبرى التي كانت الحرية اللاعب الأساسي فيها.

 ***

محمد الحرز

عن صحيفة اليوم السعودية، في يوم:2023/04/06

 

حفزني مقال مهم للأستاذ حازم صاغية في هذه الصحيفة بعنوان «ما بعد الحداثة... ما قبل ماذا؟»، الذي انتهى فيه إلى القول: «وربّما جاز القول إنّ ما بعد الحداثة واحدة من ظاهرات ما قبل الكوارث الشعبويّة التي تتفجّر بربريّتها اليوم». وسأحاول في هذا المقال أن أشتبك مع هذه النتيجة التي وصل إليها الأستاذ صاغية، والتي أرى أنها مجحفة إلى حد كبير.

بداية لا أختلف كثيراً مع ملخص ما ذكره الأستاذ صاغية حول نقاط القطيعة والاختلاف بين الحداثة وما بعد الحداثة من حيث الأسس الفلسفية والبدايات والنهايات، ولكن الحوار حول هذه المفاهيم الغربية تصعب أحياناً الكتابة عنه بلغة أخرى، واللغة العربية واحدة منها، وهنا أضرب مثلاً بـ«الهايفن» (The hyphen)؛ تلك الفاصلة أو الشرطة التي تشبك الحداثة في ما بعد الحداثة (post - modern)، هذه الفاصلة غير موجودة في «ما بعد الحداثة» بالعربية إلا إذا كتبناها «بعد - الحداثة»، وفي التنظير حول ما بعد الحداثة كان سؤال «العافين» أساسياً فالـ«post» في الـ«post – modern» ليست هي ذات الـ«post» في الـ«post office»، وهل هذه الشرطة أو «الهايفن» هي كوبري ورابط بين ما بعد الحداثة والحداثة، أم أنها فاصل وتفرقة وقطيعة؟

الحداثة كظاهرة في الأدب والعمارة والفلسفة والعلوم الطبيعية ظهرت نتيجة لرؤى أساسية شكلت سيادة الإنسان والعقل قادمة من معارف مختلفة، فمثلاً شكلت رؤية كل من فرويد ويونغ في علم النفس، وكذلك نظرية النسبية عند آينشتاين، فرغم أن بدايات الحداثة، كما ذكر صاغية، تعود إلى القرن التاسع عشر، وربما ما قبل ذلك حتى منتصف القرن العشرين، إلا أن فيزياء آينشتاين كانت جوهرية في رسم الأسس المعرفية للحداثة ورؤية الإنسان للحقيقة. آينشتاين كان مغرماً بفلسفة العلم والتأثير الذي تتركه النظريات العلمية على الفلسفة والعالم، وكانت فكرته هي أن العالم الطبيعي يمكن فهمه من خلال تحليل القوانين الرياضية التي تحكمه، والذي أوصلنا إلى النظرية النسبية الخاصة والعامة بحثاً عن فهم يوصلنا إلى حالة الاستقرار أو «الميتا ناراتيف» أو السرديات الكبرى التي تفسر العالم، ولكن حقيقة عالم آينشتاين الحداثي تحطمت أمام أبحاث «فيزياء الكوانتم»، فإذا كانت هناك حقيقة موضوعية عند آينشتاين، فهذه الموضوعية غير موجودة في «الكوانتم ميكانيكس» أو «ميكانيكا الكوانتم». إذ ترى «ميكانيكا الكوانتم» أن تصرف الجسيمات الدقيقة يصعب التنبؤ به، وهي أيضاً لا توجد بشكل موضوعي إلا في غياب المشاهد، أي أن هناك علاقة بين العين التي ترى والجسيمات الدقيقة التي تشكل سلوكها، إذن الحقيقة ذاتية وليست موضوعية.

ذكر الأستاذ صاغية أعمال أساتذة في الفلسفة أو في فلسفة اللغة مثل جان بودريارد وكتابه «samalcra and simulation»، أو جون فرنسوا ليوتارد وكتابه «post modern condition»، أو «الحالة ما بعد الحداثية»، التي ترجمها صاغية «شرط ما بعد الحداثة»، وأنا متأكد من أن الأستاذ صاغية أيضاً ملم بتأثيرات كل من جاك دريدا وميشيل فوكو كجزء من مدرسة الفلسفة الفرنسية التي ركز عليها في مقاله.

المهم في طرح الأستاذ صاغية هو نتيجة لموت السرديات الكبرى وموت فكرة الموضوعية هو الذي أوصلنا إلى حالة التقطيع و«الهايبر ريالتي»، أو الواقع المتفكك الذي نعيشه، والذي أشار إليه بحالة من الشعبوية التي أنتجتها الحالة ما بعد الحداثية، والتي تغيب فيها المعايير، ويصبح رأيك مثل رأيي، أو كما تقول بالعامية المصرية «أبو قرش زي أبو قرشين»، لا فرق بين رأي عالم ملم وبين رأي مؤثر في السوشيال ميديا.

...هنا نختلف.

كانت فيرجينا واحدة من رواد الحداثة، وكانت تعاني من الاكتئاب والانطواء، وماتت ضحية لفلسفة فرويد في معالجة الأمراض النفسية، لكنها لو تعرفت على الليثيوم مادةً كيماويةً معالجةً للخلل الدماغي التي كانت تعاني منه لربما شفيت أو عانت أقل، ولكنها كانت متوقفة عند فلسفة عصرها وعلوم عصرها، فالعلم دوماً متطور وتطبيقاته متطورة، فهذا الذي نراه مؤثراً، الإعلام الجديد أو السوشيال، سيموت حتماً ضحية لتطور الذكاء الصناعي (AI)، ولن تستمر سيطرة الإنسان على «الهايبر ريالتي» أو «عالم تقليد التقليد»، وننتقل من مركزية الإنسان الحداثية وشخصنة الواقع فيما بعد الحداثة إلى مركزية الآلة، والعودة إلى موضوعيات أكثر صرامة قد تعود بنا إلى الأسس الفلسفية الأولى للحداثة من كانت إلى هيجيل وغيرهما.

إن اللحظة التي نحياها ليست القول الفصل في فلسفة ما بعد الحداثة، لكننا داخل العملية (the process) ما بعد الحداثية، وهذا النسق قد يطور من نفسه. إن المشكلة التي نعاني منها اليوم هي تلك الفجوة ما بين تصورنا الفلسفي للعالم، وكيف ينفرط العالم أمامنا، إن الإحباط الناتج عن الفجوة بين عملية النمذجة (modeling) التي نرسمها في عقولنا مقابل الواقع كنموذج هو الذي يؤدي إلى حالة القلق والإحباط والخوف مما نراه شعبوية، ولكن فجوة النمذجة ستضيق كثيراً، وربما تختفي في حالة الذكاء الصناعي، وهو جزء من لحظة ما بعد الحداثة، ومعها يختفي الإحباط الإنساني ونرى الهمجية والقبح بوضوح تام، وفي المقابل نرى الحضارة والجمال بالوضوح ذاته. ويجوز القول هنا إنني لست متشائماً، كما الأستاذ صاغية، من لحظة ما بعد الحداثة ونتائجها إذن؛ كانت قنبلة هيروشيما ونجازاكي وكذلك هتلر جزءاً لا يتجزأ من الحداثة، والآن نحن في زمن أحداث صغرى متقطعة لها تأثير كبير على الوعي والضمير الإنساني حتى لو كانت الحقيقة ذاتية وشخصية إلى حد التشظي وحالة «الكوانتم».

***

د. مأمون فندي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الاثنين - 19 شهر رمضان 1444 هـ - 10 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16204]

 

يرتاب البعض بالمفاهيم التي تتقدّمها بادئةٌ كـ«ما بعد» و«نِيو»، إذ قد ينمّ التعريف سلباً عن صعوبات التعريف بالإيجاب. يصحّ هذا خصوصاً في «ما بعد الحداثة» التي لا تفتقر فحسب إلى تعريف صارم، بل ترفض أصلاً مبدأ التعريف.

لقد تطوّرت الحركة المذكورة في النصف الثاني من القرن العشرين، عبر الفلسفة والفنون والعمارة والأدب...، وعدَّها أصحابها بديلاً من الحداثة، وحرباً فكريّة على «السرديات (الحداثيّة) الكبرى»، كالموضوعيّة والعقلانيّة والتنوير والعلم والاشتراكيّة والتقدّم... ذاك أنّ ما أفضى إلى كوارث كالنازيّة والستالينيّة وهيروشيما بوصفها نتاجاً للعِلم، لم يعد مقبولاً.

وتتّسم ولادة الظاهرة، وفق رواية أصحابها، بطغيان الإعلام والتلفزيون والإعلان، ثمّ الفيديو الموسيقيّ واليوتيوب والإعلام الاجتماعيّ، ما يتأدّى عنه «واقع مُفرط» (hyper reality) تنعدم معه إمكانيّة تمييزه عن محاكاته (simulation). وفي تلقّينا العالمَ، تحلّ تلك العناصر الثقافيّة محلّ عناصر الثقافة التقليديّة كالفنّ والشعر والعمارة...

وكان جان بودريار قد سجّل مراحل ثلاثاً لتطوّر الثقافة:

- ما قبل حديثة من فنّ ومسرح وموسيقى، حيث هي نخبويّة ورفيعة ومحكومة بالدين كنظرة ورسالة.

- وحديثة ظهرت مع الثورة الصناعيّة، موادّها الفوتوغرافيا والسينما والطباعة، ويميّزها الإنتاج السريع ومحاكاة الواقع، ممّا تزامن مع الاستهلاك والشيوعيّة والعِلم.

- وما بعد حداثيّة ولدت منتصف القرن الماضي حيث بِتنا محاطين، بل «مقصوفين»، بثقافة غدت واقعَنا اليوميّ، فصارت الفيديوات والإعلانات ما كانتْه الأشجار والسيّارات حضوراً وتأثيراً، وصارت البرامج التلفزيونيّة ومثيلاتها مصدر معارفنا الأبرز. ولأنّ واقعنا بات مصنوعاً من تمثيلات ثقافيّة، أضحت سلعنا الجديدة تحيل إلى تلك التمثيلات، فنحن نصنع نُسخاً عن نُسخ، بدل الاعتماد القديم على مرجع أصليّ يمثّل الواقع.

فهي إذن «محاكاة زائفة» (simulacrum)، يحلّ فيها تمثيل التمثيل محلّ تمثيل الواقع. فصورة الأميرة مثلاً لم تعد تُستوحى من صور أميرات القرون الوسطى، بل من ديزني، علماً بأنّ الأخيرة ما هي إلا نسخة عن نسخة...

وبهذا الحضور الهائل للميديا وأخواتها، وبفعل تضارب رسائلها، «انفجر المعنى»، فلم يعد ممكناً فرز الصائب عن الخاطئ، ولم تعد ثمّة سرديّة كبرى تحدّد المعنى لنا. أمّا الحياة نفسها فلم تعد قابلة للربط بهدف وغاية. فنحن نوجد فحسب، وما من شيء نقوله ونفعله أكثر حقيقيّةً وصوابيّةً ممّا يقوله ويفعله شخص آخر. وإذ تتساوى تجاربنا صلاحاً أو طلاحاً، تنعدم الفوارق بين الثقافتين العليا والدنيا، فالفنّ كلّه تأويلات فرديّة لا يفضل أيَّ تأويل فرديّ منها تأويلاً آخر.

ولئن رأى الحداثيّون أنّ اللغة شفّافة تبعاً لعلاقة وثيقة وموضوعيّة بين التعقّل والدوالّ (signifiers)، فاللغة في الحقيقة ليست كذلك، بل هي ذاتيّة المرجعيّة (self referential). ذاك أنّ الأفكار التي نُضفيها على الكلمات محكومة بثقافة بعينها، وكلّ ما فعلته الثقافات أنّها، مع الزمن، أوّلت الكلمات بأشكال مختلفة. لكنْ ما دامت اللغةُ الوسيلةَ الأساس في تمثيل الواقع، لم يعد ممكناً اعتبار الواقع الموضوعيّ موضوعيّاً، فيما رغبة السلطات والحاكمين هي وحدها ما يقدّمه كذلك.

وبدوره وجّه جون فرانسوا ليوتار، في كتابه الصغير «الشرط ما بعد الحداثيّ»، هجاء معرفيّاً للسرديّات أو «الميتا سرديّات» التي «استجوبها». فهو نصير لـ«رغبة في العدالة» لم يعرّفها، إذ لكلٍّ فهمه للعدالة، ولـ«رغبة في المجهول» تعيد وصله بالتقليد الرومنطيقيّ في رفضه كلّ شيء تقريباً.

ويبني ليوتار على نظريّة فتنغشتاين في «اللعبة اللغويّة»، حيث لا يحظى مجال استخدام اللغة بمفتاح واحد. هكذا فنحن ليس لدينا معيار كونيّ ونهائيّ نحاكم بموجبه التواصل الإنسانيّ، بل مجموعةٌ متداخلة من ألعاب تتفاعل براغماتيّاً دون أن تتطابق، ما ينشئ «سرديّات صغرى» نواجه بها «السرديّات الكبرى». وكان من أبرز ضحايا ليوتار الكثيرين يورغن هابرماس، أحد أكثر مثقّفي عصرنا حسّاً بمسؤوليّة المثقّف العامّة. فلئن طوّر هابرماس فكرة مفادها أنّ في الوسع شرعنة الحكم الأخلاقيّ بالارتكاز على إجماع عقلانيّ حيال الأخلاق، يتمّ بالتداول والحوار، هاجم ليوتار الإجماع بوصفه غير عادل لأنّه كلما ارتفعت نسبة عدم الاتّفاق زادت حرّيّتنا، فيما الإجماع يردّنا إلى «الميتا سرديّات» ومن ورائها التوتاليتاريّة. فالمطلوب، عنده، تكثير «الخطابات» و«السرديّات» و«الألعاب اللغويّة» ووقف «الإرهاب» الحداثيّ لإسكاتها ومنع تكاثرها، فبهذا وحده يُخلَق فضاء للحرّيّة يشرعن خطابات الاختلاف والطرق المختلفة لرؤية العالم. وبدل الركون إلى برادايم كونيّ للمعرفة يسهّل التواصل، فلينشأ إفراطٌ لامحدود في موديلات المعرفة يطيح التواصل بما فيه تواصل المثقّفين أنفسهم.

وتولّى الأميركيّ تشارلز جِنكس التنظير للعمارة ما بعد الحداثيّة، فاعتبر أنّ العمارة الحداثيّة ماتت في ميسوري عام 1972 حين فُجّرت بالديناميت مباني ياماساكي الإسكانيّة المسمّاة «بروت إيغو». فقد قامت تلك العمارة، التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى لتبلغ ذروتها أواسط القرن، على ثوابت كالزجاج والفولاذ والكونكريت، ولكنْ أيضاً على فلسفة جماليّة وأخلاقيّة مفادها تبعيّة الشكل للوظيفة ورفض التزيين والزخرفة لمصلحة المينيماليّة. ومن الهندسة تسلّلت الوظيفيّة إلى مجالات أخرى كالملابس والفنون البصريّة...

وقد تكون المباني ما بعد الحداثيّة جذّابة وحيويّة فعلاً، بسبب تزيينها واستخدامها الألوان القويّة والخِدَع البصريّة وحسّ اللعب والسخرية، لكنّ نقد المابعد حداثيّين للعمارة الحداثيّة يُظهرهم أغنياء عابثين لا تعنيهم الهموم العامّة بتاتاً. فهم لا يستسيغون اكتراث الحداثيّين بضبط الاستهلاك وبالاستخدام الاقتصاديّ والعقلانيّ لموارد الكرة الأرضيّة المحدودة، كما يمجّون اهتمامهم بنظافة البيئة وببناء بيوت للفقراء. فهذا كلّه مصدر للإضجار وللاكتئاب ينزع الأنسنة عنّا.

وكثيرةٌ الأسئلة التي تطرحها ما بعد الحداثة: فإذا كانت الحقيقة المابعد حداثيّة هي غياب كلّ حقيقة، فلماذا تكون تلك الحقيقة نفسها حقيقة؟ وإذا لم يكن العلم موضوعيّاً فكيف نستطيع أن نقول إنّ 1 و1 يساوي 2؟ وهل الحداثة هي النازيّة والستالينيّة وهيروشيما فحسب؟

والحال أنّنا أمام نزعة رجعيّة أخرى داخل الحداثة، وحيال وعي رومنطيقيّ رافض لكلّ ما هو خارجه ومنكفئ، بكثير من الضجيج الصوتيّ، على نفسه النرجسيّة.

وربّما جاز القول إنّ ما بعد الحداثة واحدة من ظاهرات ما قبل الكوارث الشعبويّة التي تتفجّر بربريّتها اليوم.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندية ليوم: الأحد - 18 شهر رمضان 1444 هـ - 09 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16203]

«غالباً ما تُقدَّم النساء بوصفهنّ سبب الشرّ كلّه في العالم، كما في قصّة التوراة عن الخطيئة الأصليّة، أو في إلياذة هوميروس حيث كانت امرأة واحدة تكفي لإغراق شعب كامل في البؤس (...) كذلك يُعبَّر عن نقص احترام النساء في الأجور التي تُدفع للمرأة وتقلّ كثيراً عن أجور الرجال حتّى حين يكون عملهنّ مساوياً في قيمته لعمل الرجال».

هذه الفقرة بعض ما كتبه المحلّل النمسويّ ألفرِد أدلر في 1927، فبدا بلا قياس أشدّ تقدّماً من سيغموند فرويد وكارل يونغ. والحال أنّ ثمّة من رأى أنّ المحلِّلين النفسيّين لموجة ما بعد الفرويديّة، ككارِن هورنَي وأريك فروم، هم «نِيو أدلريّين» كونهم تبنّوا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مفاهيمه.

وأدلر أحد أهمّ المحلّلين النفسيّين الذين أنتجهم القرن العشرون، فإذا كان فرويد ويونغ قد فاقاه شهرة، بقى أنّه «لن يكون من السهل»، كما كتب هنري إلِّنبرغر، «أن نجد مؤلِّفاً آخر استعار منه الجميع، ودون إقرار بذلك، كما نجد مع ألفرد أدلر».

لكنّ تقدّميّة الأخير لا تتجلّى فقط في مسألة المرأة. فهو جادل بأنّ المحرّك الأساس في حياة الأفراد اجتماعيّ. وفي انشقاقه عن فرويد عام 1911 رأيناه يركّز على أنّ مفتاح فهم الفرد ليس الماضي، كما علّم المؤسّس، بل الحاضر والمستقبل اللذان يمكّناننا من تعقّل كيف صرنا ما صرناه. فالماضي قد يزيد الاحتمالات أو يُنقصها لكنّه ليس حتميّ التأثير، وبالتالي فالغائيّة (teleology) ، أي دراسة الغاية وراء ظاهرة محدّدة، تفوق منظومة الأسباب (etiology) أهميّةً.

أمّا الجنس عنده فبدا أقرب إلى استعارة أو طريقة للفهم، فيما العُصاب لا ينجم عن دوافع جنسيّة مكبوتة بقدر ما يُنجبه الشعور بالنقص. وبدوره فاللاوعي ليس كياناً منفصلاً، بل هو الجزء المجهول من سعي الفرد نحو هدفه. ولئن رأى فرويد أنّ كبتنا هو طريقنا إلى التكيّف، رأى أدلر أنّنا نملك قدرة فطريّة على أن نكون اجتماعيّين، وما علينا سوى أن ننمّيها عبر تنمية حسّنا الاجتماعيّ. ذاك أنّ غياب الحسّ هذا يعني غياب الرغبة في التكيّف والاجتماع، ما يُعَدّ حالة مَرضيّة تحمل صاحبها على طلب التفوّق المطلق.

هكذا احترم أدلر الأفراد وقدرتهم على التغيّر والتغيير، ومسؤوليّتهم عن أحوالهم، بحيث أخذ عليه معلّمه السابق مدى تعويله على الوعي وعمليّاته.

وهو اهتمّ فعلاً بالسعي إلى التفوّق، لكنّ التفوّق الأدلريّ، الذي لم تغب عنه التأثيرات النيتشويّة، بقي مضبوطاً اجتماعيّاً. فهو الدافع العميق وراء السعي الإنسانيّ، إذ نحن مدفوعون إلى تحسين أوضاعنا و»التحوّل من وضعيّة الناقص إلى وضعيّة الزائد».

فمن «المثال الذاتيّ»، الذي يختاره الفرد لنفسه ويتشكّل في فترة مبكرة من الطفولة، يُنتَقى الهدف الذي يُسعى إليه ويناط به توفير التفوّق لصاحبه. أمّا نقاط الضعف التي تعترض مسيرتنا إلى ذاك التفوّق فتحرّكُ فينا مشاعر الدونيّة التي تنبع من تقييمنا لنفوسنا ولتجاربنا. وفضلاً عن جوانب القصور الجسمانيّ، كثيراً ما يثير شعورَنا بالدونيّة «دونياتٌ موضوعيّة»، كأنْ يربط المرء تفوّقه بامتلاكه المال فيما يكون فقيراً وشديد الإحساس بفقره. لكنّ ثمّة حالات أخرى من الدونيّة تصدر عن تصوّر الناس لأنفسهم على نحو مغلوط يفتقر إلى أيّ أساس واقعيّ.

والشعور بالدونيّة ليس مرضاً، إلاّ أنّه يغدو كذلك حين لا يُعترف به ولا يواجَه: فإذا خسرنا عملاً بحثنا عن عمل آخر، وإذا أعوزتنا مهارة كي نحصل على عملٍ ما تعلّمنا هذه المهارة، وقد نعوّض عن ضعف بأن نقوّي أنفسنا في مجال آخر، فنطوّر قدرتنا على قراءة الشفاه إذا أصابنا ضعف في السمع. هكذا نواجه دونيّتنا مع ما يستدعيه ذلك من امتلاكنا شجاعة التغيير.

لكنّنا قد نتجنّب المشكلة بإنكارها وباللجوء إلى سلوك حمائيّ يردّ الفشل إلى عوائق تقع خارج السيطرة (ممّا تزخر بمثله الثقافة السياسيّة العربيّة). وقد يلجأ صاحب السلوك الحمائيّ إلى أسباب مزعومة، فيزيائيّة (وجع الرأس أو تعب مزمن) أو نفسيّة (غضب، توتّر)، أو يبحث عن مسافة تعفيه من الاحتكاك وتُبقيه في حيّزه المريح والمألوف (comfort zone)، مُشكّلةً ذرائعه التي تجنّبه المواجهة. إلاّ أنّ هؤلاء الحمائيّين مثيرون للشفقة إذ يستخدمون خِدعاً للهرب من تحدّيات الحياة، لكنّها مع تكرارها تخسر فعاليّتها، لتؤثّر سلباً في صحّتهم النفسيّة وفي نوعيّة حياتهم.

ويلجأ كثيرون من المنكرين إلى مبالغة تعويضيّة (overcompensation)، كالتقليل من أهميّة الآخرين وتصغيرهم واستصغارهم، أو التباهي بإنجازات حقّقوها هم في الماضي، مع تجنّبهم التعرّض لأوضاع قد تكشفهم كأشخاص زائفين، وهنا تنشأ عقدة التفوّق بمعناها المَرَضيّ.

وجادل أدلر بأنّ ثمّة هدفاً واحداً في الحياة يمكّننا من تذليل تصوّرنا عن أنفسنا كضعفاء ودونيّين، هو التعاون مع آخرين لتوكيد أهداف مشتركة، أو ما سمّاه «الحسّ الجمعيّ» (gemeinschaftsgefuhl) وصفاً للرغبة بحياة جماعيّة وللطاقة التي تُبذل للغرض هذا. فغالباً ما لا يكون مصدر ألمنا تحدّيات الحياة، بل الحلول التي نعتمدها في مواجهة التحدّيات تلك، إذ نحن محكومون بتجاربنا أقلّ ممّا بالمعنى الذي نعطيه لها.

وهذا التعويل على الرابط الاجتماعيّ مدّه أدلر إلى عالم الأطفال الذين عمل معهم فرديّاً وفي العيادات الطبيّة. فالصغار يرون إلى أنفسهم كضعفاء وتابعين قياساً بالكبار، وهم يدركون أنّ حياتهم رهن عثورهم على موقع آمن ومَحميّ في العائلة. وإنّما إبّان الطفولة، يخلق الطفل لنفسه «هدف حياةٍ» تبعاً لفهمه كيف يحسّن موقعه في العائلة. وما هدف سلوكنا كأطفال، وكراشدين بالتالي، بما في ذلك «نمط الحياة» المعتَمَد، سوى تقريبنا من ذاك الهدف الذي اخترناه في الطفولة. وهكذا فالتحدّي الأساسيّ المطروح على تربية الأطفال هو بالضبط تشجيعهم على «الحسّ الجمعيّ» بوصفه الطريقة الوحيدة التي بها يستطيعون تجاوز إحساسهم بدونيّتهم، وهذا إنّما يرقى إلى مُحرّك أساسيّ للبشر على مدى حياتهم.

أفكار كهذه كانت أكثر من كافية لدفع أدلر إلى الانشقاق عن فرويد ولاشتغاله على تأسيس ما بات يُعرف بـ»علم النفس الفرديّ» - عِلمه.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأربعاء - 14 شهر رمضان 1444 هـ - 05 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16199]

منذ أفلاطون وفيلسوفه الملك، هناك خرافة شائعة حول المثقّفين بوصفهم حكّاماً: إنّهم يُضفون على السلطة العقل والحكمة والعدل ممّا لا يفعله سواهم. ما تتجاهله الخرافة أنّ المثقّفين قد يكونون أكثر الناس تمسّكاً بأساطير جامدة، يصرّون على فرضها كائناً ما كان الثمن. وقد تكون المفارقة أنّ الثقافة وعموم المثقّفين، الذين يأبون الإذعان للأسطورة ويدافعون عن حرّيّتهم واختلافهم، يغدون أوّل ضحايا حكم المثقّفين.

فباستثناء النازيّة، لم تعرف ثقافة القرن العشرين الأوروبيّة، زمناً مظلماً كالذي عرفته الثقافة الروسيّة في ظلّ ثورة أكتوبر الشيوعيّة وامتدادها الستالينيّ، وهذا علماً بأنّ النظام الذي انبثق منها أقرب إلى ديكتاتوريّة مثقّفين: فـ11 من أصل 15 مفوّضاً في حكومة لينين الأولى كانوا منهم. مع هذا، خيّمت المأساة على حياة أفراد روس، إبّان النصف الأوّل من ذاك القرن، هم من ألمع الأسماء الثقافيّة في العالم كلّه.

الشاعر والكاتب والمسرحيّ ألكسندر بلوك الذي تسرّبت، في 1921، معلومات عن «عدم سعادته» بالنظام الجديد، لم يؤذَن له ولزوجته بالسفر للعلاج في الخارج، وهو ما توسّط فيه مكسيم غوركي، إلاّ بعد وفاته.

في 1922، حملت «سفينة الفلاسفة» عشرات المثقّفين الكبار إلى المنفى القسريّ، ما اعتُبر بداية اجتثاث المثقّف العامّ في روسيا. السبب كان نشاطهم «المضادّ للسوفيات» وكونهم «عبيداً أيديولوجيّين للبورجوازيّة». لقد كان في عداد هؤلاء السوسيولوجيّ بيتيرِم سوروكين والفيلسوف نيكولاي برديائيف.

فاسيلي كاندينسكي، الرسّام الذي رفضت ثورة أكتوبر فنّه لأنّ «روحانيّته وتعبيريّته بورجوازيّتان وفرديّتان»، انتقل إلى ألمانيا، وهناك عاش وعلّم.

سيرجي ياسِنِن، الشاعر الرومنطيقيّ والغنائيّ الذي يدور معظم شعره على الحنين إلى القرية، أُخذ عليه عدم اكتراثه بحياة الجماهير وصُنّف لاساميّاً. قُبض عليه مرّات عدّة ثمّ انتحر في 1925 عن ثلاثين عاماً، وتردّد أن الأجهزة الأمنيّة صفّتْه. الدولة كرّمته بجنازة رسميّة لكنّ معظم كتاباته تعرّض للمنع.

فلاديمير ماياكوفسكي الذي ناضل طويلاً كشيوعيّ وسُجن مراراً في العهد القيصريّ، اعتبر أنّ ثورة 1917 «ثورته»، ومع الحرب الأهليّة صمّم الملصقات المؤيّدة للشيوعيّين فكتب كلماتها ورسم شعاراتها ووزّعها، ما ولّدَ فنّاً جديداً هو فنّ الملصقات. لكنّ السلطات الشيوعيّة انتقدته مراراً ووجّهته نحو «الطريق الصحيح»، كما طالبته بأن لا يكتب قصائد حبّ.

ماياكوفسكي قرأ في مسرح البولشوي قصيدته الشهيرة عن لينين بعد وفاته، ثمّ سافر إلى الخارج للتعرّف إلى فنون الغرب. ولئن بدا متلهّفاً للعودة إلى روسيا، فإنّه عاد حائراً تساوره الشكوك، ثمّ بدأ يتبرّم بـ»تحوّل البشر إلى آلات» وبتدخّل الدولة في الثقافة، فيما كان شعره يُتّهم بأنّ العمّال لا يفهمونه. في 1930 انتحر ماياكوفسكي عن 37 عاماً.

الشاعر أوسيب ماندلستام وزوجته الكاتبة ناديجدا اعتقلا أوائل الثلاثينات وأرسلا إلى أحد المنافي داخل البلد، ثمّ في 1938 اعتقل أوسيب ثانية وحُكم بالسجن خمس سنوات في معسكر للأشغال الشاقّة في الشرق الأقصى، وفي السنة نفسها مات بينما كان يُنقل إلى معسكر للغولاغ قرب فلاديفوستوك.

المسرحيّ فِسيفولُد مايِرهولد الذي سبق أن انضمّ إلى البلاشفة، أُغلق مسرحه، وفي 1939 اعتُقل وعُذّب ثمّ أعدم في السنة التالية بعدما اغتيلت زوجته الممثّلة زينايدا رايخ.

الشاعر والروائيّ بوريس باسترناك الذي انحاز إلى الثورة، حُرّمت قصائده النقديّة مع توطيد ستالين سلطته وأصبحت مادّةً توزّع سرّاً. في 1949 اعتقلت زوجته أولغا لوجود بعض كتاباته القديمة معها واختفى كلّ أثر لها.

الشاعرة أنّا أخماتوفا نُفيت إلى طشقند بطاجيكستان ووصف أعمالَها أندريه جدانوف، مسؤول الثقافة الأعلى و»عازف البيانو الحسّاس»، بأنّها «شِعر كتبته سيّدة جميلة محمومة تتأرجح بين بيت الدعارة والكنيسة». أخماتوفا رُشّحت مرّتين في 1965 و1966 لجائزة نوبل.

الشاعر ميخائيل جوشنكو نفي أيضاً لكنْ إلى الماآتا بكازاخستان. أدانه جدانوف في 1946 وعاش باقي حياته في فقر مدقع، ولم يُدفع له تقاعده إلاّ قبل أشهر قليلة على وفاته.

أخماتوفا وجوشنكو كانا قد حُرما حصّتيهما المقنّنة من الخبز وباقي السلع الأساسيّة، وإذ سُحبت كتب جوشنكو من المكتبات فقد مُنع نشر كتب أخماتوفا.

الكاتب والصحافيّ والمسرحيّ اسحق بابل اعتُقل في 1939 بتهم مفبركة حول إرهابه وتجسّسه وأعدم في 1940.

الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش تعرّض في 1936 لهجوم مركّز من الصحافة وعبّر ستالين شخصيّاً عن استيائه من فنّه، كما اتّهمت الدوائر الحزبيّة أعماله بالشكلانيّة (formalism) وبأنّ الجماهير لا تفهمها.

شوستاكوفيتش وضع موسيقاه في خدمة الدولة إبّان الحرب العالميّة الثانية لكنّه، بعد الحرب، أدين ثانية بتهمة الشكلانيّة التي طالت فنّانين كثيرون اعتُبرت موسيقاهم كوزموبوليتيّة ومتأثّرة بـ»الغرب البورجوازيّ». في عداد هؤلاء كان سيرجي بروكوفياف وأرام خاتشاتوريان ممّن طولبوا باعتذارات علنيّة ومُنع الكثير من أعمالهم.

ستالين، وهو أيضاً صاحب نظريّات في التاريخ واللغة، توّج جرائمه في 12 آب 1952 في ما عُرف بـ»ليلة اغتيال الشعراء»: كانوا 13 شاعراً وأديباً يهوديّاً أُعدموا في سجن لوبيانكا بتهم الخيانة والتجسّس. معظمهم كانوا شيوعيّين وأعضاء في «اللجنة اليهوديّة لمناهضة الفاشيّة» التي أُسّست لتكون لوبي لكسب تأييد يهود العالم لموسكو في حربها مع ألمانيا النازيّة.

لاحقاً، في ظلّ خروتشوف، استفاد المثقّفون من الاسترخاء النسبيّ، لكنّ الستالينيّة كانت أصلب من أن تختفي. شوستاكوفيتش اضطُرّ للانتساب إلى الحزب الشيوعيّ والظهور في مواقف مهينة يدافع فيها عن سياسات النظام.

رواية باسترناك الشهيرة «دكتور جيفاغو» هُرّبت إلى الخارج ونُشرت عام 1957 في إيطاليا، وبعد عام نال جائزة نوبل للآداب لكنّه خُيّر بين رفضها ومغادرة البلد، فآثر البقاء وعدم تسلّم الجائزة.

الشاعر جوزيف برودسكي طُرد من الاتّحاد السوفياتيّ في 1972. أقام ودرّس في الولايات المتّحدة وفي 1987 نال جائزة نوبل...

وهكذا دواليك حيث تكرّ السبحة وتتزاحم الأسماء التي تأسّست محنتها مع استيلاء أولئك المثقّفين على السلطة في 1917. واليوم، يصعب فهم فلاديمير بوتين و»فاغنر» دون التذكير بذاك التفريغ المتراكم الذي عرفته روسيا مذّاك.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأحد - 4 شهر رمضان 1444 هـ - 26 مارس 2023 مـ رقم العدد [16189]

يقول المثقب العبدي:

وما أدري إذا يممت أمراً/ أريد الخير أيهما يليني

هل الخير الذي أنا أبتغيه/ أم الشر الذي هو يبتغيني

وفي البيتين مجاهدةٌ متصلةٌ بين حال الوعي بالخير وبين الوقوع في الشر، وكأني بالشاعر يصف حال البشر مع النسق الذي ينتاب سلوكهم ويدير تصرفاتهم حتى لتجد أشدهم وعياً وانفتاحاً في فكره وثقافته ينقلب من دون إدراك منه إلى مستبدٍ ومنحاز وربما عنصري وإقصائي، يحدث هذا وقت الامتحان الدقيق وغير المتوقع كأن يقع في حال استفزاز أو حال مواجهة، حيث يغيب العقل الحاكم ويتحول الحليم إلى جاهل، وللحلم أوقات وللجهل مثلها، كما يقول الشريف الرضي، وهذه هي المنازعة بين خير نريده وشر يريدنا، ويفوز الشر في كثير من الأمور، كما حدث للحارث ابن عبادة الذي سعى للصلح بين المتحاربين وقدم ابنه فديةً للمصالحة وكانت الأمور ستسير بخير لولا ما فعله المهلهل، إذ قتل ابن الحارث وقال له بؤ بشسع نعل كليب مما حول الولد لفديةٍ لنعل كليب وليس فديةً للصلح وإنهاء الحرب، وهنا صرخ الحارث:

لم أكن من جناتها علم الله/ وإني بحرها اليوم صالي

وطلب فرسه النعامة ودخل معها في الحرب والغارات بسبب كلمة فجرت غضبه وحولته من حليم عاقل إلى محارب يشارك في سعير الحرب، وقد كانت نيته إطفاء الحرب بين الأهل.

وهذه قصة صارخة الدلالة عن مفعول النسق في الذهنيات البشرية ومقدرته على اختراق الوعي البشري وتحويله من مسار متعقل إلى مسار طائش فاقدٍ للبصيرة.

وهذا في مصطلح النقد الثقافي هو ما نسميه بالعمى الثقافي حين تكون النسقية المتشيطنة هي الموجهة للتصرفات فيغيب العقل والوعي والحكمة، وتحل أوقات الجهل كما في بيت الشريف، ولا أحد من البشر يسلم من هذه التقلبات بين خير وشر أو لنقل بين الوعي والنسق تماماً كحال الجسد بين الصحة والفيروس، في مغالبة متصلة بين الطرفين، وفي القصص الكبرى للأمم سنرى أن لحظات النسق هي العامل المشترك في صناعة الحروب والفتن والانفصالات في العلاقات والصداقات، وكذلك في المواقف والرؤى، ومنها يأتي تبرير العنف، وكأن العنف هو دفاع عن السلام، أو أن السلام لا يتم إلا عبر العنف، وتكشف عن ذلك محاولة الحارث الذي نوى السلام، فتحول لمحارب مع المحاربين ولم يك من جُنات هذا العنف غير أن العنف طحنه حتى جعله يشهر سيفه، ويتحول من حكيم إلى جذاذ رؤوس.

***

د. عبدالله الغذامي

عن الاتحاد الامارتية في يوم: 25 مارس 2023 02:23

اشتهرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أطروحة المفكر الجزائري مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار» وهي ذات جانبين: جانب الضعف البنيوي بحيث يبعث ذلك على إغراء القوى الصاعدة بمهاجمتها - وجانب الأمارة على تلك القابلية بحيث يسود الولع من جانب «المغلوب بتقليد الغالب» بحسب القاعدة الخلدونية المعروفة.

وبذلك فقد كانت رؤية مالك بن نبي هذه آخر صِيَغ تعليل انحطاط الألف عام الذي التقى على القول به المستشرقون ونقّاد التقليد من العرب والمسلمين منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وفي الحالتين أو الزمانين ما كانت رؤية الانحطاط هذه بديهية. ففي أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، كانت مظاهر اليقظة والنهوض ومقاومة الاستعمار واسعة الانتشار. وكذلك كان الأمر في خمسينات القرن العشرين، حين تصاعدت حركات التحرر من الاستعمار والتجديد في العالم وإعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد اختلفت الأنظار في أسباب الرؤية التشاؤمية هذه. فمنهم مَنْ أعادها إلى السيطرة الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر، ومنهم من أعادها إلى تجدد الحيوية الاستعمارية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

بيد أنه كان هناك من لاحظ أنه لا بد من تأمل موقع أو مواقع القائلين من المؤرخين أو منظّري انهيار الحضارة في المجرى العام. فهذا التنظير للانحطاط بالمشرق أو انحطاط المشرق، شابهته رؤى وأفكار بشأن الانحطاط في الحضارة في الغرب. ويذكرون من ذلك مطالعة أوزوالد شبنغلر الألماني عشية الحرب العالمية الأولى بعنوان: انهيار الحضارة الغربية. ونجد نفس الرؤية في أربعينات القرن العشرين في عمل ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول! عند شبنغلر نجد ذاك الاستظهار للروح المأساوي في المسيحية - كما فعل نيتشه - وعند كاريل نجد الاستنتاج أنّ هذا الاختلال يعود إلى تقدم علوم المادة على علوم الإنسان. وما وافق أرنولد توينبي على الرؤيتين، وإلا فكيف ازدهرت الحضارة الأوروبية طوال القرون الثلاثة الأخيرة، أما رؤية كاريل وإن ظاهرتها أهوال الحرب الثانية؛ فإنّ الانتصار على الشذوذ الهتلري انتصارٌ لروح الحضارة الإنسانية في سُنّتها التاريخية بين التحدي والاستجابة.

اشتغل توينبي وفرنان بروديل على حركة التاريخ في المديات الطويلة، بينما اشتغل ألكسيس كاريل ومالك بن نبي ومثلهما شبنغلر على علائق المادة والروح في الدواخل الإنسانية للأفراد والجماعات. وبذلك فإنّ مقاربة كاريل ومالك بن نبي كانت إرادوية، بينما كانت مقاربة توينبي تاريخية.

إنّ هذه العودة للحديث عن مصائر الحضارة سببها النزوع التشاؤمي المتصاعد في المشرق العربي، وفي الغربين الأميركي والأوروبي. في المشرق العربي بسبب تصدع الأنظمة واندلاع الحروب، وفي الغربين بسبب أزمات الرأسمالية وظواهر الشعبويات، وأخيراً الحرب الروسية - الأوكرانية.

كان قسطنطين زريق المفكر المعروف، وفيما يشبه الردّ على مالك بن نبي قد ذهب إلى أنّ قيام الحضارات ليس أمراً إرادوياً بقرار فردي أو جماعي، بل هو في السياقات العالمية، وهي تتمثل في أمرين: حركة التحرر من الاستعمار وقيام الدولة القومية. وما نسي مالك بن نبي «زمن ما بعد الموحِّدين» (آخر الدول القوية بالمغارب، ونحن بالمشرق نذكر الحروب الصليبية والغزوات المغولية)، فاندفع باتجاه «النهضة المصرية» والتحالف الآسيوي - الأفريقي، وحركة عدم الانحياز؛ كل ذلك اعتبره سبيلاً للخروج الممكن من وهدة القابلية للاستعمار، بنفس الإرادوية القائمة على العقيدة والأرض والزمان. بيد أنّ كلا الرجلين عاد لشيء من التشاؤم في السبعينات، فتحدث زريق عن «استحقاق الحق»، وتحدث مالك بن نبي عن صعود الاحتجاجيات المدمرة باسم الدين!

إنّ هذا الإحساس بالفجيعة والوحشة إن وجد بعض التسويغ في أحداث العقدين الأخيرين بالمشرق العربي؛ فالأمر ليس كذلك في حالتي الولايات المتحدة وأوروبا. لكنّ الأميركيين وإلى حدٍّ ما الأوروبيين يشخصون حالتهم بما لا يختلف كثيراً عن تشخيص المثقفين ومفكّري الحضارة لحالتنا. وعماد هذا التصور أنّ الولايات المتحدة يتراجع دورها على رأس الحضارة الغربية التي كانت تتغنى بالانتصار قبل ثلاثة عقود؛ لكنها اليوم تقع تحت عبء التصدي للتفوق والصعود الصيني. ويضاف لذلك أنّ هذا الصعود يتخذ طابعاً عسكرياً في بحر الصين الجنوبي، وفي مساعي روسيا الاتحادية العسكرية لاستعادة ما فقدته بعد عام 1990. وهناك ثالثاً أزمات العولمة التي أطلقت الولايات المتحدة أمواجها لاكتساح العالم باقتصادات السوق؛ فإذا هي تعود عليها بإخفاقات بحيث صارت السوق أسواقاً، وسمحت حريات التنافس للصغار والأوساط بتطور الأحجام ومهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها. أما الأوروبيون، وحتى قبل الحرب على أوكرانيا، فقد روّعهم الخروج البريطاني من الاتحاد، ثم روعتهم إحساسات الحصار بين أميركا والصين وروسيا. وبعد ما يزيد على 70 عاماً على انتهاء الحرب الثانية، تجد أوروبا نفسها في قبضة الإحساس بالحاجة إلى الحماية من جانب الولايات المتحدة، في حين تسيطر على الأميركيين إحساسات السطوة مرة، وإحساسات الانكفاء مرات. وفي زمن الهول نتيجة تراجع الموقع وربما الدور، يريد استراتيجيون أميركيون كثيرون العودة إلى النفس والداخل، للمراجعة وتأمُّل ما حصل ويحصل بعيون الثقافة والحضارة والاستراتيجيا وليس بعين السوق والعسكر وحسْب!

هل يجوز اعتبار ما حصل في المشرق العربي وللمشرق العربي انتكاسة حضارية أو أزمة حضارية؟ ونحن – وليس على سبيل التعزية للنفس – نجد أنّ هذه الأحداث المفجعة (التي بدأت بأحداث عام 2001 على الولايات المتحدة وليس قبل ذلك!)، يمكن أن تُفهم انطلاقاً من فلسفة التاريخ عند أرنولد توينبي في التحدي والاستجابة. ونحن نرى في حِراك النهوض العربي مصداقاً لتلك الاستجابة للتحدي الكبير. لكنّ الأحداث تلك يمكن أن تُفهم باعتبارها ناجمة وبشكلٍ مزدوج عن «تفويتات» الدولة القومية، والانشقاقات الصحوية والعنيفة في التفكير والتدبير في الإسلام الحديث. ويذهب الأستاذان الراحلان جلال أمين وجابر عصفور إلى أنّ هذه الإمكانية الثانية يمكنها أن تفسّر مسألة «التحدي» الذي واجهه العرب في هذه الحقبة، ويضيفان إلى ذلك: السياسات الدولية.

لقد واجهت الدول الوطنية العربية منذ ستينات القرن العشرين وما بعد، مشكلات كبرى مع التحدي الصهيوني، وتحولات الحرب الباردة. وفاجأتنا جميعاً التطورات في التفكير الديني، وفي تصورات البدائل في التاريخ والحاضر. ومن وراء ذلك كلّه ومعه السياسات الدولية التي صارت في النهاية أكبر التحديات.

التفسيرات الثقافية والحضارية لأزمة من الأزمات الحاضرة هي حلولٌ سهلة. وهو الأمر الذي سار فيه المؤرخون والمعلّقون والروائيون العرب والمسلمون. لكنهم ما كانوا منفردين في ذلك؛ بل يسير فيه الاقتصاديون والاستراتيجيون الغربيون في نزوعٍ غلّاب يعتبره البعض تهويلياً، بينما يرى البعض الآخر أنه اتجاهٌ تحذيري مفيد. وفي كل الأحوال، القول ما جاء في المثل المأثور: المياه تكذّب الغطّاس أو تصدّقه!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الجمعة - 2 شهر رمضان 1444 هـ - 24 مارس 2023 مـ رقم العدد [16187]

ارتبط مفهوم «المثقف» وهو مفهوم إشكالي وغامض عموماً، بكثير من التصورات الرومانسية، عن دور اجتماعي وفكري وسياسي يشير إلى ضمير أو أمانة فكرية ما. وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي على الأقل اتخذت تلك «الأمانة» شكلاً أكثر أخلاقية، إذ بات من المستهجن أن يعبّر «المثقف» عن أمة أو طبقة أو جماعة معينة، لما في ذلك من شبهات قومية وعنصرية وفئوية، لم تعد مقبولة، أو ارتباط بأيديولوجيات باتت تُعتبر متحجّرة. صارت مهمة المثقف ليست أقل من «قول الحقيقة» بوصفه فرداً مستقلاً وحرّاً، ويا حبذا أن تكون «السلطة» هي الطرف المُخاطب بتلك «الحقيقة». المفهوم الغامض صار ثلاثة: المثقف والحقيقة والسلطة.

بالعودة إلى إدوارد سعيد، وهو مبتكر عبارة «قول الحقيقة للسلطة» نجد في الفصل الخامس من كتابه «المثقف والسلطة» المعنون بتلك العبارة، كثيراً من السرد الذاتي والمفاهيم غير المضبوطة، إلا أنه يمكن استخلاص بعض الأفكار الأساسية من النص، منها أن القيم الكونية عن الحقيقة عبّرت في كثير من الأحيان عن نزعة للسيطرة والهيمنة، غربية غالباً، إلا أن هذا كان قبل بروز حركات التحرر الوطني ومثقفيها، الذين وسّعوا القيم الكونية، وأضافوا لها أصوات الشعوب المستعمرة والملوّنة، واليوم وقّعت الدول كلها على شرعة حقوق الإنسان، وغيرها من الاتفاقات التي تصون حقوق النساء والأطفال والعمال واللاجئين، وبالتالي على المثقف أن يتخلّص من تقوقعه على ثقافته وأمته، وأن يوفّق بين الحقائق التي ورثها عنهما، وإدراك اختلاف بقية الثقافات والأمم؛ ومن ثم معالجة ما يتوفّر له من بيانات ومعلومات، رغم نقصها، لإظهار الانتهاكات والمظالم والعدوان ضد البشر، حتى لو كا لانت دولته من ارتكبها، ويعرضها باعتبارها حلقات في سلسلة تاريخية متصلة؛ وبالتالي يجب أن يتخذ المثقف دور الخبير أو تقني المعرفة المحترف، العامل في مؤسسة سلطوية ما، بل المفكر المستقل القادر على قول الحقيقة.

قد يكون هذا سرداً جيداً لأستاذ أمريكي من أصول عربية في حقبة ما بعد حرب الخليج الثانية، إلا أنه يُظهر «المثقف» أشبه بـ»روح حرة» غير مرتبطة إلا بضمير غير مفهوم الجذر والمنشأ، ما يسبغ عليه صفة «رسولية» إلى حد كبير، دون أن يوضح الكيفية التي سيستطيع بها الرسل الكونيون من المثقفين البقاء قابضين على جمر الحقيقة؛ وكذلك المصدر الذي يستقون منه كل ذلك الضمير الحي. في كل الأحوال بات السرد السعيدي قديماً بعض الشيء، رغم تأثيره وحضوره، وأمسى نموذج «المثقف» عموماً منتمياً لبلاغة غير مستحبّة في أيامنا، فيما ظهر نموذج جديد يمكن تسميته «الناشط الثقافي» القابض بدوره على جمر الحقيقة، إلا أنه لا يبذل جهداً نظرياً كبيراً، حتى بالمفهوم السعيدي، لأن الحقيقة «المستندة إلى البيانات» تبدو شديدة السهولة والوضوح في أيامنا. فهل يقول ذلك الناشط «الحقيقة»؟ ومن أين سيأتي بها حقاً ليرفعها في وجه «السلطة»؟

السعيدية الجديدة

يقوم السرد السعيدي عن «الحقيقة» على نوع من الجدل بين الانتماء المحلي والعالمية، فالمثقف عندما يكون جزءاً من حركة تحرر، نضال طبقي، دفاع عن هوية مهمشة ما، يجب أن لا يقتصر على توضيح معاناة الفئة التي ينتمي إليها، بل يربطها بمعاناة جميع البشر، وهكذا نصل إلى كونية مغايرة لكونية الاستعمار، التي لم تر أن الشعوب الخاضعة تمتلك الأهلية التي تخوّلها الحصول على حقوق متساوية. يمكن القول إن هذا التصوّر بات شبه بديهي نظرياً في عالمنا المعاصر، فعمليات «الربط» بين أشكال المعاناة والمظالم كافة، التي يتعرّض لها البشر، تمّت على يد كثير من المفكرين والحركات الاجتماعية، بل باتت لها مؤسساتها القوية، التي تدعم نشاط أي مجموعة مضطهدة، تريد ربط مظلمتها بحقوق كونية. إلا أن نموذج المثقف الفرد، الذي يرفض أن يقيّد ضميره بمؤسسة أو جماعة أو أمة، قد أدى إلى بعض الاختلال في الطرف الأول من المعادلة السعيدية، وهو «الانتماء» وهذا لا يعني أن المثقفين صاروا أقلّ ميلاً لإظهار هوياتهم، بل ربما يكون العكس صحيحاً، وإنما أن ارتباطهم بحقائق وحقوق كونية، باتت معروفة ومحددة بشكل مسبق وجاهز، جعلهم أقل اهتماماً بفهم واقعهم المحلي، مكتفين بإسقاط «الحقيقة» عليه، وبالتالي فإن ما خسروه أساساً هو السياسة، أي فهم توازن القوى، والتركيبات المعقدة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي يُخاض ضمنها الصراع الاجتماعي في بلدانهم.

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه.

تأثّر المثقفين بتيارات ثقافية وسياسية خارجية ليس أمراً جديداً بالتأكيد، بل ربما كانت الثقافات الإنسانية عبارة عن عمليات ترجمة وتبيئة للمؤثرات الخارجية، وجدل معها، يؤدي إلى تركيبات وتحويرات مبتكرة، إلا أننا، وربما للمرة الأولى منذ نشأة الحيّز العام الحديث، نتعرّف على نمط من النشاط الثقافي، يعتبر أن مهمته الوحيدة هي «التوعية» بالمعنى الناشطي، أي نقل معرفة بحقوق كونية، غير مكتسبة نتيجة فعل سياسي، وإنما متعالية بوصفها آخر ما توصّل إليه «العالم» الذي يعني بالطبع المؤسسات الحقوقية والثقافية الغربية. لا يحتاج «المثقّف» هنا إلى الجدل أو التهجين أو التحوير، فـالحق بيّن ومعروف، ولهذا يصبح «ناشطاً ثقافيا» فهو لا يبذل مجهوداً فكرياً مرتبطاً بحالات سياسية واجتماعية متعيّنة، بل يقوم بمجرد نشاط، يبحث عن داعم، لإيصال «التوعية» إلى مستحقيها.

قد تكون لهذا نتائج مأساوية في دول قمعية مثل الدول العربية، ومنها التنكيل بالناشطين واعتقالهم وقتلهم، لكن اللافت أن الانفصال عن السياسة يجعل الناشطين غير معنيين أصلاً بالبحث عن قوة اجتماعية، أو جماعة سياسية يستندون إليها، قادرة على ضمان أمنهم بالحد الأدنى، ويكتفون بالاستنجاد بالضغط الدولي لتخفيف معاناة زملائهم الأكثر شهرة، والأوسع علاقات. هم جاؤوا بقيمهم من «العالم» وعلى «العالم» أن يحميهم، وإلا سيكون قد خذلهم.

تلك هي النسخة المعاصرة من «قول الحقيقة للسلطة» لكن هل هي حقيقة فعلاً؟

اقتصاد الحقيقة

يبدو أن الدخول إلى الكونية له متطلباته، وأولها أن يثبت الناشط الثقافي اضطهاده، وحرمانه من الحقوق المُعترف بها عالمياً. لا يكفي هنا الموقف أو الرأي، وإنما نمط جديد من «الانتماء» إشكالي جداً، فهو ليس انتماءً موجّهاً نحو الداخل، أي التعقيدات الفعلية للوجود الاجتماعي لجماعة أو هوية ما؛ وإنما نحو الخارج، أي لـ»العالم» الذي «يُمكِّن» بناء على إبراز عناصر ورموز وبيانات معيّنة، يمكن ترجمتها بوصفها انتماءً مضطهداً. لا يشبه هذا أي مفهوم فلسفي معروف عن الحقيقة، فالناشط الثقافي «يبدو» ولا «يكون» بمعنى أن نشاطه الأساسي هو استعراض كل ما يلزم لتأكيد أحقيته بنيل الاعتراف ومن ثمّ الدعم، وليس التعاطي الفعلي مع ما يمكنه استخلاصه وفهمه من عناصر عالمه، ومن ثم التفاعل معه على أساس موقف ما، قابل للمساءلة الاجتماعية والفكرية.

يتعامل الناشط الثقافي مع «أخلاق جاهزة» أي مجموعة تعاليم معممة عالمياً عبر مؤسسات قوية، يمكن اعتبار غض النظر عن موقعها السياسي والأيديولوجي نوعاً من الظلامية، لأنه يقوم على التجهيل بعوامل مادية أساسية فاعلة في الواقع المعاصر. ويمكن القول إن تداول تلك الأخلاق يتم ضمن اقتصاد معيّن للحقيقة، مرتبط بتوزيع للقوة والمنافع المادية والرأسمال الرمزي بين الفئات الأقدر على الاستفادة من العولمة المعاصرة، وما تعمّمه من أيديولوجيات «كونية».

من جديد، ومثل كل العصور السالفة، يخبئ النموذج الرسولي لـ»المثقف» كثيراً من علاقات القوة والهيمنة. ماذا تبقّى إذن من «صورة المثقف» في عصرنا؟

المثقف العامل

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه. وإذا كان هذا المفهوم قد عفى عليه الزمن، مع تغير أشكال الإنتاج والتكوينات الطبقية، فإن نموذج المثقف الفرد، الكوني والرسولي، العائد لإدوارد سعيد، تجاوزه الزمن أيضاً، بعد أن تقادمت كونية العولمة نفسها، بكل ما أنجبته من «ناشطين». ربما كان على «المثقف» الحالي أن يكون أكثر تواضعاً بكثير، فهو ليس طليعة طبقة ستقود التاريخ، ولا فرداً يستبطن بذاته الضمير الإنساني، بل مجرد عامل، بين عمّال كثيرين، في مجال إنتاج «غير مادي» صار متداخلاً في كل فروع الإنتاج والاقتصاد المعاصرة. لقد بات «في» الطبقة، وليس جزءاً من «إنتلجنسيا» تكون مع الطبقة أو على رأسها؛ أصبح «كونياً» رغماً عنه، بكل ما تحويه هذه الكونية من تناقضات واستغلال ونفاق.

فئة العمال الثقافيين هذه لا تختلف شيئاً عن بقية العمّال في المجال العاطفي والرمزي والتواصلي. هؤلاء كلهم جزء من طبقة، تمّت فردنة المنتمين إليها، ولا تعي ذاتها وحقوقها، وربما من هنا يجب الانطلاق في البحث عن دور المثقف/العامل.

***

محمد سامي الكيال - كاتب سوري

عن القدس العربي في يوم: الجمعة: 24 مارس / 2023

اعتاد الفلاسفةُ والمفكرون منذ فجر تاريخ الفكر البشري على وصف "الإنسان" بأنه "حيوان عاقل"؛ من جهة اعتبار أنه الكائن الأكثر استخداما لعقله (= كَمّاً)، والأشد معقولية في هذا الاستخدام (= كَيْفاً). وحتى مَن وَصَفَه تعريفاً بأنه (حيوان ناطق)؛ فإنما أراد الدلالة على العقل من خلال كون النُّطْق الإنساني صورةَ العقلِ الظاهرة: منطقية النطق/ الكلام بنسبة ما؛ وإلا فَكُلُّ حيوان يصدح بصوت ما. بل حتى أولئك الذين وَصَفوا الإنسان بأنه (حيوان سياسي)؛ إنما أرادوا الدلالة على العقل من خلال أحَد أهَم وأوضح مظاهر التدبير العقلي العام الذي يقوم على التَّبَصّر بعناصر الفعل الواقعي، والموازنة بينها، وتَسْبيب مُتَوالِياتها، وتوقّع مآلاتها...إلخ فعاليات التدبير السياسي.

هل الإنسان مُنْحَازٌ لِنَفْسِه عندما يحتكر صفة "العقل" للنوع الإنساني خاصة ؟ الكتابات البشرية منذ بداياتها الأولى، وإلى يومنا هذا، تُؤكِّد على هذا الانحياز اللاَّمعقول. الإنسان يضع نفسه على أعلى هَرَم المعقولية بلا تردّد، وبدعوى المعقولية ذاتها. هذا في حال تواضعه، وقبوله أن يكون لبعض الكائنات الأخرى مستوى ما من المعقولية النسبية. وأما في أغلب الأحوال، أي عندما لا يتواضع كثيرا، فهو يضع نفسه على أعلى هرم المعقولية، محتفظا بكل مستويات هذا الهرم لبني جنسه احتكارا، ولا حَظَّ لغيره إلا الغرائزي والأهوائي والعَضَلي، أي المادي الحيواني الآلي أو شبه الآلي، الذي إن تَوَفَّر على ذكاء محدود؛ فليس إلا ذكاءً آليا يتحوّل في كثير من الأحيان إلى محض غباء قد يقود بعض فصائل هذا النوع الحيواني إلى الانقراض.

اليوم، رغم تطوّرـ بل وتنوّع ـ صفةِ المعقولية، وُصُولاً إلى تفكيكها؛ فإن أحد أشهر المؤلفين المعاصرين/ يوفال نوح هراري، عندما أراد كتابة تاريخ للنوع البشري، لم يتردّد في وصف إنسان هذا النوع بـ"العاقل"، وأن يكون هذا عنوان كتابه؛ وكأن لا عاقلَ إلا هو؛ أو كأن العقلَ أبرزُ صفاته وأشدّها تمييزا له، بينما التاريخ البشري يسخر، ويُسَجّل اعتراضاتِه الضّمنية على هذا التمييز الحاد ذي الطابع الاحتكاري.

طبعا، لا يعني هذا أن النوع البشري لا يَتوفّر على "عقلانية ما"، سمحت له بأن يخطو في سبيل التطوّر خطواتٍ واسعةً مكّنته من السيطرة على بقية فصائل النوع الحيواني، هذا النوع الذي لا يتجاوز الإنسان ذاته أن يكون تفريعا عليه بصورة ما.

الإنسان بلا شك، أكثر معقولية من سائر أنواع المشترك الحيواني؛ على اعتبار أن "العقلانيات" رغم تطوّرها باستمرار، ورغم تنوعّها الثري، تُشير ـ في خطوطها الرئيسة ـ إلى نواة المعنى العقلاني الكامن وراء هذا التطوّر وهذا التنوع، أقصد أنها تعني في قواسمها المشتركة: "التفكير الواقعي المنظّم"، حيث يجري ترتيب/ تنظيم المعرفة البشرية وتَسْبيبها وتنسيبها على ضوء مُعْطَيات الوقائع المادية التي تُكوِّن نقطة البداية دائما، دون أن تكون المرجع النهائي في كل الأحوال.

عموما، لا بد من التأكيد على أن هذا الاعتراف بالقابلية العقلانية للإنسان، لا يعني أنه "عاقل بالكامل"، ولا أنه "عاقل في كل الأحوال"، بل ولا أن أغلبية النوع الإنساني "عقلاء في أغلب الأحوال"؛ ولو على سبيل التَّعقّل النّسبي. الإنسان ـ في أفضل أحواله ـ عاقل بدرجة ما، بينما هو ـ في الوقت ذاته ـ يعيش دائما على شَفَا جُرُفِ الأهوائي والغرائزي والعبثي، ويعيش غالبا على شَفَا جُرُفِ التوحش الهمجي. بل حتى هذا الوصف الذي يُقَرِّر "العقلانية النسبية المهزوزة" هو وَصْفٌ مُتَحَقِّقٌ بالنسبة للشريحة المحدودة من كل مجتمع إنساني مُتطوّر؛ وبالتأكيد هو يَضْمُر ويَضِيق ـ نِسْبَةً وتَناسباً ـ مع رُسُوخ ظاهرة التخلّف، ومع شموليتها، كقاعدة عامة في كل مظاهر التجمّع الإنساني.

إن هذه النخبة العقلانية التي قادت حركة التطور البشري ليست هي صورة الواقع البشري، ليست صورته في حقيقته الأشد رسوخا والأوسع شمولا. فهذه "النخبة العاقلة" ليست إلا الانحراف الاستثنائي الإيجابي عن النسق العام لظاهرة النوع الإنساني المحكوم بدوافع غير عقلية بالأساس.

الإنسان قبل أن يكون كائنا عاقلا، ودون أن يكون كائنا عاقلا، هو كائن خرافي بالأصالة، قبل كل شيء، وبعد كل شيء. وكونه كائنا خرافيا بالأصالة، يعني أنه دائما في حالة تَنافُرٍ حَادٍّ مع مسارات التعقّل كافة. وما يقبله من هذه المسارات فإنما يقبله تحت ظرف استثنائي خاص، ولهدف استثنائي خاص، وغالبا ما يكون هذا القبول الحَرِج التِفافاً على التعقّل ذاته؛ لصالح منحِ مسارات الخُرَافة فرصةَ الظّفرِ بالمشروعية، ومن ثَمَّ الانتشار على أوسع نطاق.

إن الإنسان ـ بطبعه من حيث هو إنسان ـ يبتهج غاية الابتهاج بالخرافة، وينتشي غاية الانتشاء بالأوهام، ويحترم ـ بدرجة التقديس ـ متاهاتِ الأسرار وعوالمَ الغموض، ويَثِق ـ بدرجة التسليم الكامل ـ بالخُرَافيّين والعُصَابيين والمُتطرفين والمُتَعصِّبين والزعماء الغوغائيين. إنه يجد نفسه إنسانا حقيقيا في هذه العوالِم اللاَّمعقولة، بينما يجد نفسه إنسانا غريبا، إنسانا مُزَيّفا؛ في أي سياق من سياقات التفكير العقلاني المُنظّم الذي يُحَاول ترشيد هذه العواصف الهوجاء من الأهواء والنزوات والأحلام الكاذبة التي تحاول تجاوز الواقع الذي لا ترتاح إليه بالهروب منه؛ و لو إلى أسخف وَهْم من الأوهام.

لقد كشفت وسائل الاتصال الجماهيري هذا البُعد الخُرَافي الأصيل في الإنسان؛ كما لم يَتكَشّف مِن قبل. فهذه الوسائل التي منحت الجميع فرصة التفاعل التواصلي؛ كفاعلين وكمستقبلين في آن، أوْضَحت بشكل مباشر حقيقة مؤلمة مفادها: أن البشرية لو خضعت لمستوى الوعي الدَّهْمَائي/ الغوغائي الذي يُشَكِّل وَعْيَ الأغلبية الساحقة من بني الإنسان؛ لَبَقي النوع الإنسان إلى اليوم رَهين كهوفه وغاباته وأدغاله، إنسانا همجيا متوحشا؛ لم يتقدّم ولا خطوةً واحدةً في مسار التقدّم والرقي الإنساني.

إن الحسابات الخاصة الأكثر جماهيرية في هذه الوسائل التواصلية هي ذاتها الحسابات الأشد نفورا من العقل، الأجْرَأُ على الاستخفاف بقوانين العلم ومنتجاته في مجالات شتى، وخاصة في الطب البشري، كما هي الأكثر ترويجا للخرافات وللأوهام، و الأعرف ـ حسب وقاحة الادعاءات الكاذبة ـ بالمُؤامرات التي تجري في سراديب مُغْلقة على ذاتها منذ عشرات السينين.

بل ـ في مؤشر واضح وحاسم ـ ثمة حسابات مَكثت لسنوات تأبى أن تَنْجَرّ لمغازلة الوعي الجماهيري الكسيح بالسخافات وبالأوهام وبالأكاذيب؛ فلم تحظ بالمتابعة ولا بالتفاعل؛ إلا قليلا؛ أو أقل من القليل. لكنها، وبمجرد سقوطها ـ بفعل الإغراء الجماهيري ـ في مستنقع الترويج للخرافات الطبية والأساطير السياسية، والأكاذيب الشعبوية، والتفاهات العبثية؛ تحوّلت ـ في ظرف سنوات معدود ـ إلى حسابات رائجة متابعيها بالملايين.

أليس في هذا ـ لِمَن يُريد حَقّاً استبصارَ واقع الحال ـ دليلٌ ماديٌ مَلموسٌ، تَتواتَر وقائعُه، مُؤكدةً على أن الإنسان لا يرتاح للتفكير العقلي المُبَرْهَن، ولا يقنع بالإجراء العلمي المُقنّن؟

الإنسان لا تُغْرِيه الحقائق، ولا تُقْنِعُه الوثائق، ولا تُرْوِي ظمَأه السحري الأخبارُ الصادقة المُوَثَّقة ذات الطابع المؤسساتي؛ بقدر ما تَسْتَبِدُّ بوعيه الخرافات والغرائب. وكلما كانت الخرافات أشد سُخْفاً، والغرائب أبعد عن شروط المعقولية؛ كان الانجذاب الإنساني إليها أقوى، والوَلَع بها أشمل. ما يعني أن الإنسان ليس كائنا عاقلا، بل هو كائن خرافي بامتياز. ويجب التعامل معه على أن خُرافِيته هي الأساس، وأن عقلانيته مَحدودة بحدودها النخبوية، وأنها ـ في كل أحوالها ـ عقلانية نِسبية، ظرفية، هامشية، استثنائية، يَتَهَدَّدُها الوعيُ الخرافي الأصيل على الدوام.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 13 فبراير 2023

 

نشب نقاش طويل هذه الأيام حول الروبوت ومعالمه العملية وتحدياته الأخلاقية؛ شاهدت نماذج من عمله في عدد من المؤسسات الطبية والإعلامية، جهاز غاية في الذكاء ويمتلك مهارات استجابة عالية. البعض يقول إن الروبوت يهدد مصالح الإنسان بل ومصدر رزقه (العمل).

كنت أقول إنه وفي زمنٍ آتٍ، قد تنجز جميع مهامك اليومية من دون أن تتعامل مع أي إنسان، على مستوى الخدمات المنزلية، والتبضع الاعتيادي، وإجراء المعاملات الخدميّة، وسواها، هذا هو زمن الثورة التقنية الباهرة والآسرة والموحشة، لقد أخذتْ مدى لم تبلغه من قبل على الإطلاق.

قبل قرن من الزمانٍ كان حكماء البشرية يتلصصون على المستقبل، محاولين التنبؤ بمصائر التقنية وآثارها على بني الإنسان.

في آخر القرن العشرين طرح نيتشه انتقاداته لـ«عصر الآلات»، التي تجعل: «الحشود آلة نمطية واحدة، يذوب فيها دوارها الفرد، وتحوّله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة».

هيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم» وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» - في مقالة له - يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة»، إذ اعتبر التقنية كتمظهر هي أساس الحداثة وعصبه الرئيسي.

بينما لوك فيري يرى أن تفكير هيدغر تعمق بالتدريج في هذه المسألة، وخاصة من خلال تحديد طبيعة علاقة التقنية بالعالم من حيث هي علاقة استفسار ومساءلة، ففي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعتبره فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا»، فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية الممكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه «الوجود والزمن» فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول «بأن الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب وبأن الهضاب هي مستودع من الصخور، وبأن النهر قوة محركة مائية وبأن الهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية».

أما اليوم فإن جبال التقنيّة قد تفجّرت براكين بحمم، والنبوءات المستقبلية حول تطوّراتها يكاد لا يصدقها عقل، إذ ستصبح هي سيّدة الإنسان، وربما ليست صدفة أن يحذّر هيدغر آنذاك من تفوّق التقنية على الإنسان.

إن هذا ما بدأ يحدث تدريجياً… «الروبوت» بدأ يأخذ من وظائف الإنسان الخدماتية الوظيفية، والمتخصصون يتحدثون عن أدوار إبداعية مستقبلية لهذا الغول القادم، وهو الآن مشترك جزئياً بإجراء عمليات جراحية، ومن الممكن أن يدخل بخطوط الإبداع والخلق، مثل كتابة نص أدبي، أو تجهيز مادة صحافية، أو القدرة على التحرير والتصحيح ضمن مساراتٍ تقنية مهولة. التقنية يمكنها أن تحلّ محل الإنسان المغتبط بذاته وبقدراته، وهي ستضرب بكل اتجاه وبلا هوادة؛ ستكتسح أدوار الإنسان بهذا العالم؛ بدول خليجية حلّ الروبوت مكانة جيدة نسبة إلى محدودية تطوره؛ إذ قام بمهام الإنسان في السوبر ماركت، ويمكنه أن يقوم بذلك في المطارات، وفي أماكن أخرى، مما يجعل وظيفة الإنسان وقيمة عمله محدودة بالمستقبل، وقد يكون عاملاً مع الروبوت أو عنده بدلاً من أن يحدث العكس، هذه هي التقنية تخالها مثل كيميائي يخلط بمختبره ما يحرقه.

قبل سنوات تحدّث العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ عن مآلات علاقات الإنسان بما لديه على هذا الكوكب، وكانت صيحته مدوّية أن «التكنولوجيا يمكن أن تدمر البشرية، إذا لم يتمكن الإنسان من السيطرة عليها. إن العدوانية كانت منذ فجر الحضارة مفيدة بالقدر الذي تمنح معه أفضلية للبقاء. وذلك مبرمج في جيناتنا وفق النشوء والارتقاء الداروني. ولكن التكنولوجيا تطورت الآن بوتيرة بحيث أن هذه العدوانية يمكن أن تدمرنا جميعاً بحرب نووية أو بيولوجية. ومن الضروري أن نسيطر على هذه الغريزة الموروثة ولكنها هي ذاتها تخلق مشاكل. وقد يصبح ذلك طغياناً؛ إن الإنسان أوجد تكنولوجيا يمكن أن تدمر الكرة الأرضية، وعلينا أن نعد أنفسنا لعالم جديد حلت فيه الروبوتات محل كثير من الوظائف اليومية الاعتيادية. إن الروبوتات يمكن أن تمحق البشرية وإن الرحيل عن الكرة الأرضية هو أملنا الوحيد، لأن أيامنا فيها معدودة… أعتقد أن الحياة على الكرة الأرضية في خطر متزايد يبدأ من محوها بكارثة مثل اندلاع حرب نووية مفاجئة، أو فيروس معدَّل وراثياً، أو أخطار أخرى، وأعتقد أن الجنس البشري لا مستقبل له إذا لم يرحل إلى الفضاء».

هذا النذير الخطير، يوضّح مستوى تحوّل دور التقنية خلال القرن الآفل، لن تبقى التقنية تحت هيمنة الإنسان، ستنزلق من يده مهما تحكّم بأزرارها، ستبتلع الأجهزة الذكية العقول وتذيبها ليسير الناس مهووسين مضطربين حائرين شاردين، فاقدين معاني كبرى من ذواتهم، لأن التقنية قد دمّرت ذاكرتهم، ونابت عن حركة عقولهم، وكسرت جدوى علاقاتهم. على المستوى الكوني فإن تقنيات الفتك البيولوجية لن تستمر طيّعة بيد الإنسان، وقل مثل ذلك عن «الروبوت» الذي سينهي مركزية الإنسان بهذا العالم، والتي تسيّدها منذ عصور الأنوار حيث «الكوجيتو» الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود)، الذي اعتبره ميشال فوكو لاغياً إذ «مات الإنسان» بالصيغة المركزية الديكارتية، وستكون التقنية سيدة الإنسان ومركز العالم، وسيتبع الإنسان ظلّه خائباً خاسراً معركته مع ما أبدعه هو: «منجزات التقنية المتصاعدة».

من المفجع ألا يدرك الإنسان مستوى معركته مع التقنية، باستثناء حكماء البشرية وعلمائها، نرى جلّ البشر، كل يوم، يغرقون، يذوبون، ينهزمون، تجرفهم التقنية بموجها، وتسلكهم بسلاسلها، وتخرجهم من جنّة الطبيعة إلى زمنٍ تقني افتراضي، وليس ذلك الزمن المفصلي ببعيد، إذ يغدو الإنسان ضيفاً على منتجات التقنية بهذا الكوكب.

هوكينغ الراحل قالها في حديثه: «يجب أن نكون حذرين جداً في هذه الفترة».

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الخميس - 24 شعبان 1444 هـ - 16 مارس 2023 مـ رقم العدد [16179]

- لا بد لي اولا من الدعوة الى إعادة النظر في هذا التوصيف واقصد التوصيف القومي للعقل. ليس هناك عقل عربي وآخر فرنسي وثالث روسي والى آخره. هناك عقل انساني يتلون جغرافيا وتاريخيا ولا يتفوق ولا يتراتب بعضه فوق بعض الا بابتكاراته وانجازاته الملموسة والآنية وهذه تتغير وتتطور. كما لا اعتقد ان العقل في العراق او العالم العربي او الإسلامي او أي مكان آخر في محنة في زمننا هذا. لكنه في معركة شرسة مع أعداء العقل لم تحسم نتيجتها بعد بلا شك. لكن المقدمات تشير الى ان عقلنا الواقعي النقدي منتصر فيها عاجلا ام اجلا. ما اراه حاليا هو ان العقل في بلداننا أكثر حيوية وعطاء من أي وقت مضى واكثر حرية أيضا بفضل التداعي المتزايد للحدود الجغرافية والدينية والقومية والقطرية وبفضل التكنولوجيا والاتصالات والمواصلات وانتشار فكرة التسامح والاعتراف بتكاملنا مع الآخر وهذا لا ينفي ان هناك في دولنا روادع عنيفة واعتداءات وقمع وحتى اعمال قتل يتعرض لها المفكر العقلاني الحر بما فيه المفكر الديني عندما يدافع عن العقل.

- من جهة أخرى، لا شك ان هناك في العالم العربيِّ وربما كل ما يسمى العالم الثالث، شعور قوي ومتوارث بِأنَّ العقل فِي محنة. ومَعَ ذلِكَ فإنَّ كَثيرًا مِنَ المُتحاوِرينَ في هَذا المَوْضوعِ لا يَتفقون على ما هو العقل ناهيك عما هو العقل العربي؟ فهذه المفردات وكذلك الثقافة هي من أكثر الكلمات تداولا وأشدها غموضا في نفس الوقت.

- وكذلك الحال بشأن أسباب هذه المحنة المزعومة ومترتباتها او نتائجها، اذ يندر ان يصل باحثان او مفكرانَ إلى تَحدِيدٍ واضِحٍ لِطَبيعةِ المحنةِ المقصودة ومَظاهِرِها ووَسائلِ معالجتها. كما لو انهم لا يتحدثون عن الشيء نفسه.

- وانعدام الاتفاق على المعاني هذا ليس جديدا، وليس طارئا في ثقافتنا المعاصرة. وقد يعتبره البعض سبب كل مُعْضِلاتِ وضعنا الفكري ونزعاته المهيمنة حاليا سواء الأصولية منها باشكالها المختلفة المنادية بالعودة الى الجذور او تلك الداعية الى القطيعة مع الماضي الثقافي بمجمله واستبداله بحداثة وما بعد حداثة غامضة التعريف هي الاخرى. وهناك طبعا من يرى ان هذا الاختلاف في المعاني هو مصدر ارتباك التعامل مع قضايا الأَصَالةِ والمُعاصَرَة والاخفاق في مَشْاريعِ النَّهْضة المختلفة.

- ان احد الجوانب الجوهرية في هذه المعضلة هي عدم الاتفاق على التمييز من جهة بين من يرى ان العقل هو كيان جمعي لا شخصي الامر الذي يطرح مشكلة الفصل بين المقدس والدنيوي لا سيما وان العقل الديني عقل جمعي بالضرورة او بقوة العادة الفكرية، وبين من جهة أخرى حقيقة ان عقلانية مقولات الفهم العقلاني، كالزمان والمكان والعدالة إلخ، وكذلك المفاهيم الضرورية للفكر المنطقي، تتقوم بعقلانيتها النسبية ككيانات فردية وشخصية في واقع الحال. وهنا تنطرح قضية ماهي شروط إمكان المعرفة العقلية، اي امكانية فصل الديني اي المقدس عن الاجتماعي اي الدنيوي. فهذا التمييز حاضر في كل ثقافات العالم الكبرى بما فيها المتنفذة عالميا؛ حيث أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يطرح نفسه كممثل المجتمع نفسه الا انه يتنازل ضمنا عن عدد من اليقائن السابقة نظرا الى ان مبدأ التطور الدارويني موجود دائما ومقبول من المجتمع وبالتالي من الدين حتى اعترف له بانه مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر عقلاني وحاضنته الاولى.

- وهذا ما نجده عند هيغل الدارويني العظم في كل فلسفته، لكن الذي يرى انه لا يمكن فصل "الاجتماعي" عن "الديني" وأيضا وبالحدود التي يعطي فيها الدين فكرة ملموسة عن الله، عن المطلق في علاقة إيجابية مع العقل الجزئي. وهكذا، وبالحدود التي تعبر فيه هذه الفكرة عن الوحدة بين الالهي والانساني، فان الدولة المنبثقة عن هذا الدين هي دولة حرية وحقوق عند هيغل، أي دولة عقلانية: "الحرية الواعية لا يمكن ان توجد إلا حيثما ندرك ان الفرد (الانساني) حاضر بشكل ايجابي في الذات الالهية". في الدولة فقط يمتلك الانسان وجوداً متطابقاً مع العقل". بموجب هذا المبدأ الاساسي في الفلسفة الهيغلية، فان الفكرة التي يكونها عقل شعب خاص عن الله، لا يجب ان تكون مجرد شيء ما يفكر به من قبل الأفراد، انما ان يكون، خصوصاً، واقعاً ملموساً ومدركاً كنظام اخلاقي يعبر عن العلاقة بين الانسان، باعتباره ارادة ذاتية، وبين المطلق باعتباره ارادة موضوعية او عامة. هذه العلاقة هي درجة وعي الحرية عند هذا الشعب. هذا الوعي الذي يصبح مدركاً يطرح نفسه كواقع لهذه الحرية. لـ"انه في الدولة، يعبر المطلق عن نفسه عبر قوانين وعبر تحديات عقلانية وكونية".

المشكلة لدينا اذن هي في غياب دولة عقلانية: دولة الحرية الواعية. وهنا تحديدا تكمن محنة العقل. ومن هنا رفض التفسيرات الأخرى في هذا الشأن. وفي مقدمتها التفسيرات التي تمد جذورها في النزعة الذاتية الغربية وخرافة التفوقية الدينية التوراتية والانجيلية وغيرها. وهذه التفسيرات التي ولدت وتطورت في اوربا الغربية في القرن الثامن عشر، مرتبطة غالبا بصعود النزعة القومية في القارة الأوروبية بعد ان كان الاعتراف بالعبقرية الفلسفية للشرقيين وخاصة المسلمين ثابتا لدى المفكر الغربي. وقد عبر روجيه بيكون عن ذلك بوضوح قاطع عندما قال "ان المعرفة جاءت الى العالم اربع مرات: الاولى والثانية بالعبرية عبر الانبياء وعبر حكمة سليمان والثالثة بالاغريقية عبر ارسطو والرابعة بالعربية عبر ابن سينا..". وواضح هنا ان ارسطو يرمز للعبقرية الفلسفية الاغريقية باعتباره نتاجها الطبيعي، في حين يرمز ابن سينا للعبقرية الفلسفية العربية والاسلامية باعتباره نتاجها.

واختصارا لكل ما تقدم نقول بان الثقافة العربية الحديثة لم تستطع بعد انتاج هؤلاء "الفلاسفة العقلانيين الحقيقيين" وربما لن تنتج منهم لفترة طويلة اخرى طالما ظلت المعايير الحضارية التي تحكم العالم العربي والإسلامي حاليا، سيدة الساحة مستقبلا والتي تتجسد بغياب الحرية بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر، وانها تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها الفولوكلوري. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها الفولوكلوري هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.

وهذا الشرط الموضوعي هو الحرية والحرية بالتحديد. لان الحرية هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لعمل العقل، كفعل ابداعي بذاته، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في أسمى تعريفاتها، في تعريفها الاول والاخير كما أكدنا من قبل ليست شيئا آخر غير الحرية. وما دامت هذه مفقودة في العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث بمجمله فلا ضمان ان يستطيع فكرنا العقلاني ان يحقق طموحاته اسوة بسواه في أي مكان وزمان.

***

د. حسين الهنداوي

..........................

* نص مداخلتنا في ندوة: "محنة العقل العربي، العقل تحديداً وموضوعاً ووظيفة" بالمشاركة مع المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي وتقديم ادارة الاستاذ القاضي د. عثمان ياسين، في يوم الاحد الماضي  ضمن البرنامج الثقافي لمعرض اربيل الدولي للكتاب: والتي بدأها:

اطيب الشكر لمؤسسة المدى على اتاحة هذه الفرصة الثمينة للحوار مع هذه النخبة من الوجوه الكريمة المشاركة في  حوار هذه الامسية.

نقلا عن صفحته الشخصية في فيسبوك

 

من خلال متابعة ردود الفعل التي جاءت على المقال الطويل الذي كتبه ناثان هيلر لصحيفة «نيويوركر» الأميركية مؤخراً، حول تراجع معدل التخصص في اللغة الإنجليزية، والذي جاء بعنوان «نذير موت للعلوم الإنسانية»، فإنه يمكننا رؤية الفكرة التي كان يطرحها المقال بوضوح؛ حيث تم التقاط أكثر الأجزاء المحبطة من القصة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل أشخاص ربما لم يبدأوا حتى في قراءة المقال نفسه.

وقد لاحظت انتشار فقرة معينة من المقال، والتي ظلت تظهر على مدى عدة أيام على حسابي على تطبيق «تويتر»، والتي تتحدث فيها أماندا كلايبو، عميدة جامعة «هارفارد» والأستاذة في قسم اللغة الإنجليزية فيها، والتي كانت واحدة من بين كثير من الأكاديميين الذين تحدثوا في مقال هيلر، عن «التوجه نحو الحاضر بين طلاب الجامعات المعاصرين الذين فقدوا شغفهم بالماضي».

وقالت كلايبو له: «في المرة الأخيرة التي قمت فيها بتدريس رواية (The Scarlet Letter) اكتشفت أن طلابي كانوا يعانون بشكل حقيقي لفهم تركيبة الجمل الموجودة فيها، إذ كانوا يواجهون صعوبة في تحديد الفاعل والفعل، وذلك لأن قدراتهم مختلفة، كما أنه قد مضى وقت طويل على القرن التاسع عشر».

ومثل كل الآخرين الذين كانوا يقرأون للروائي الأميركي ناثانيال هوثورن في المدرسة الثانوية، قرأت مقال هيلر بمزيج من الشعور بالفخر والرعب في الوقت نفسه، ولكني بعد ذلك، قمت بفعل شيء كشف لي عن مؤشر تراجع العلوم الإنسانية والثقافة؛ حيث لم أكمل قراءة مقال هيلر (ولكني قرأته الآن)، كما أنني بالتأكيد لم أذهب لشراء نسخة من «The Scarlet Letter» أو أي رواية أخرى من القرن التاسع عشر لأبدأ في قراءتها من أجل المتعة.

والإجابة عن سؤال: «أين تكمن المشكلة؟» هي، أو يجب أن تكون: «أنا المشكلة»، مثلما كتب الفيلسوف الإنجليزي جيه. كيه تشيسترتون ذات مرة، وأي رد على السؤال حول ما حدث للعلوم الإنسانية يجب أن يتضمن الإجابة نفسها، فطلاب جامعة «هارفارد» الذين لا يستطيعون تحليل جملة معقدة من عصر النهضة الأميركي، هم جزء من المشكلة، وكذلك كاتب المقال الذي تلقى تعليمه في جامعة «هارفارد»، والذي يتحمل بانتظام مسؤولية الكتابة بأفكار عميقة عن «تلفزيون البوب» ولكنه لم يقرأ رواية كاملة من القرن التاسع عشر من أجل المتعة.

لقد قرأت صفحات من روايات الأدب الفيكتوري مؤخراً، وعادة ما أعود إلى هذه المنطقة المألوفة من أجل العثور على بعض الأفكار التي أبحث عنها، وقد بدأت كتباً كاملة، مع أفضل النيات في كل مرة، فعندما كانت عائلتي تشاهد إعادة عرض المسرحية الموسيقية «البؤساء»، قرأت المئات من الصفحات الأولى من رواية فيكتور هوغو، وحينها قرأت جزءاً كافياً للتخطيط لكتابة مقال يقارن ثقة هذا المؤلف بالأسلوب الخجول الموجود في الروايات المعاصرة، وهو المقال الذي كان يتطلب إنهاء رواية هوغو، ولكني لم أكملها، وبعد ذلك بدأت ألجأ إلى الكتب الأقل حجماً التي تعود إلى القرن التاسع عشر، فكلما قل الكلام كان أفضل.

وصحيح أنني أشعر بالإطراء لأنني أستطيع في الغالب أن أفهم بنية الجمل في هذه الكتب، ولكن من ناحية أخرى، أنا القارئ الذي تحدثت عنه كلايبو، وذلك لأنني مرتبط للغاية بالحاضر المُشتت، لدرجة تمنعني من الدخول بشكل كامل إلى لغة الماضي المعقدة.

كما أنني أشبه شخصيات أخرى في مقال هيلر أيضاً؛ حيث إنني أشبه ذلك الأكاديمي الذي تحدث عن تفضيله لتصفح مواقع الإنترنت على قراءة الروايات، وكذلك الأقران الذين تحدث عنهم ذلك الأكاديمي الذين يتصورون أنهم مثقفون؛ لكنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من استخدام هاتف «آيفون» الخاص بهم، وذلك حتى في أثناء حضورهم للعروض المباشرة.

لكن دعونا ننتقل من فكرة جَلد الذات إلى التوصل إلى وصفة يمكنها علاج ذلك الوضع، فصحيح أنني لا أقرأ روايات القرن التاسع عشر لنفسي؛ لكنني أصبحت أقرأها للآخرين مؤخراً، وعلى وجه التحديد، لقد قرأتها بصوت عالٍ لأطفالي الأكبر سناً، وقد بدأت برواية «Pride and Prejudice»، والآن (في تجربة أكثر صعوبة قليلاً) نقرأ «Jane Eyre».

ولكن لا تقلقوا، فلن يكون هذا جدالاً حول كيفية إنقاذ العلوم الإنسانية من قبل الأشخاص المؤيدين لإنجاب الأطفال (على الرغم من أن أقسام اللغة الإنجليزية تعتمد بالفعل على عدد مستقر أو متنامٍ من السكان في سن التعليم الجامعي) ولكن بدلاً من ذلك، فإن الأمر يتعلق بأنه من المفارقات أن قراءة نَص صعب للأطفال الذين قد لا يفهمونه تماماً، يعد أسهل من قراءة الكتاب نفسه لنفسك، وذلك لأن القراءة للأطفال تجبر على الانفصال بشكل جذري عن الأشكال الأخرى للإلهاء، بطريقة يصعب على أي نظام شخصي بحت أن يضاهيها.

إن جوهر تراجع العلوم الإنسانية، على مدى الجيل الماضي وخصوصاً في عصر الإنترنت، هو رفض قبول فكرة أنه من الضروري اتباع نوع مشابه من الفصل.

ولطالما كان الهدف -وهو أمر مفهوم للغاية- هو الحفاظ على الملاءمة والاتصال بالسياسة والحياة المهنية وبفكرة تقدم العلوم الإنسانية، ولكن هذا المسعى لا يمكن أن ينتهي إلا بالتدمير الذاتي، عندما يكون الشيء الذي تحاول أن تربط نفسك به بشدة (الثقافة وروح الإنترنت في عصر الهواتف الذكية، على وجه الخصوص) هو في الواقع يلتهم كل العادات الذهنية المطلوبة من أجل بقاء نظامك الخاص.

فلا يمكنك ببساطة الحفاظ على النزعة الإنسانية الحقيقية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الرقمية؛ بل عليك أن تنفصل، على الأقل حتى نكتشف طريقة لتصبح شخصاً رقمياً، ولكن ليس بالشكل المدمن.

وقد كتب الأستاذ في جامعة «تمبل» جاكوب شِل، تغريدة على حسابه على «تويتر» رداً على مقال هيلر قائلاً: «لقد حددت العلوم الإنسانية مصيرها عندما رفضت التكيف مع الدور المطلوب للنقد الفكري اليميني لعلم الاجتماع والتكنوقراطية».

وبصفتي يمينياً، فإنني أميل إلى رؤية هذا الأمر وإثارته، وأقترح أنه إذا كنت تهتم بنقل العلوم الإنسانية عبر العصر الرقمي، فيجب أن تتطلع إلى الأكاديميات المسيحية الكلاسيكية بشكل أكبر من النظر إلى كلية مثل «هارفارد».

ولكن النسخة الأكثر تواضعاً من رأي شِل تتمثل في أن العلوم الإنسانية بحاجة إلى أن تدفع بوعي ضد النظام الرقمي، وأن تدفع الناس للانفصال بنفسها عنه، وأن تضفي ميزة على هذا الفصل.

ولكن يجب ألا يكون هذا الفصل متطرفاً مثل ذلك النوع الذي اقترحه مقال رأي حديث في صحيفة «وول ستريت جورنال» بعنوان: «يجب أن تكون الكلية أشبه بالسجن»، والذي ناقشت فيه مؤلفته بروك ألين الجدية غير العادية التي يتعامل بها الرجال المسجونون الذين تقوم بالتدريس لهم مع الأدب، ولكن ذلك قد يعني استبعاد كل رمز مميز من العصر الرقمي من الفصول الدراسية والمكتبات، وإغلاق الإنترنت، وقراءة الروايات بشكل يدفعك للانغماس في أعماقك. وقد يؤدي ذلك إلى تنمية مجموعة من المهارات حتى لو كانت ستقدم فائدة فورية أقل للحياة المهنية التكنوقراطية.

ولكن هل يعيد أي من هذا العلوم الإنسانية إلى مجدها السابق؟ لا، ليس في البداية، ولكن من أجل إعادة الحياة إلى أي شيء فإنه يجب أن نقوم بالحفاظ على بقائه أولاً.

***

روس دوثات - كاتب من خدمة «نيويورك تايمز»

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الثلاثاء - 22 شعبان 1444 هـ - 14 مارس 2023 مـ رقم العدد [16177]

 

توماس باور، أستاذ ألماني يعمل منذ ثلاثة عقودٍ ونيف على التاريخ الفكري والأدبي للحضارة العربية والإسلامية بطرائق مختلفة عما اعتاده المستشرقون، وعما اعتاده المفكرون العرب في الأزمنة الحديثة. المستشرقون الذين أدان إدوارد سعيد مقارباتهم الشاملة للحضارة الإسلامية باعتبارها انحيازاً لوجهات نظر غربية تخدم السيطرة والسطوة في الزمن الاستعماري، يرى فيها باور تفسيراً ناقصاً أو بدءاً من الموقع الخطأ؛ ولذلك لا بد من البدء من الرؤية الغربية نفسها للحضارة الغربية. ودليله على ذلك، أنّ المستشرقين ذوي الثقافة الغربية بالطبع توصلوا إلى وجود حقبة انحطاطٍ طويلة في الحضارة الإسلامية بعد القرن الثاني عشر الميلادي وحتى الأزمنة الحديثة. وهي الفكرة نفسها للانحطاط الذي نزل بالحضارة الغربية فيما بين القرنين الخامس والخامس عشر، فيما سُمّي بالعصور الوسطى، عصور الانحطاط والظلام. ولذلك لا بد من البدء بفحص رؤية العصور الوسطى تلك فحصاً نقدياً، وهو الأمر الذي بدأته مدرسة «الحوليات» الفرنسية منذ عشرينات القرن العشرين، وتوصلت من خلال إعادة قراءة مجريات ومنتجات القرون العشرة إلى أنّ البعث الحضاري أو النهوض بعد القرن الخامس عشر إنما بدأ وتطور في «العصور الوسطى» نفسها المتهمة بالانحطاط.

ولهذا؛ فإنّ المستشرقين عندما قالوا بالانحطاط في الحضارة الإسلامية إنما كانوا ينقلون أو يقلّدون التصور الغربي لحضارتهم هم في الأزمنة ذاتها. ولذا؛ فالذي ينبغي إدانتهم به أو الأخذ عليهم بشأنه (وإدوارد سعيد يعتبرهم سطحيين أيضاً بالمقاييس النهضوية الغربية) أنهم وهم يكتبون مقارباتهم «العلمية» عن حضارة الإسلام ما لاحظوا الحراك التاريخي الكبير الذي كان يجري باتجاه إعادة قراءة العصور الوسطى الأوروبية، بحيث يصيرون وأمامهم النتاجات الفكرية والعلمية الكبيرة للحضارة الإسلامية إلى تأويلاتٍ أخرى للوجود الحضاري العربي والإسلامي وتأويلاته. ولهذا؛ فإنّ الرؤية الإصلاحية التي ينبغي أن يصير إليها المفكرون العرب من أجل الإصلاح الحديث والمعاصر، لا تكون بضرورات القطيعة مع حضارة الإسلام القديمة؛ بل بالمراجعة وتجديد الفهم، كما فعل الغربيون مع عصورهم الوسطى، وليس من أجل التقليد، بل من أجل التجديد تطلباً لفهم التأزم الحاصل اليوم، وكيفيات الخروج منه.

بدأ توماس باور دراساته بتجديد الفهم للظواهر الأدبية العربية فيما سُمّي بعصور الانحطاط بعد القرن الثاني عشر الميلادي. ثم تقدم لبحث الرؤى الفكرية والعقدية في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية. بعد الظواهر والتيارات الأدبية في الشعر والنثر، صار باور إلى تأليف كتابه الذي صار شهيراً بعنوان «ثقافة الالتباس». فالحضارة العربية الإسلامية في أزمنتها الكلاسيكية (فيما بين القرنين الأول والخامس للهجرة) حافلة بالتيارات المتعددة التي تعرفها الثقافات المزدهرة، ولا فرق في ذلك بين الفكر الديني والفكر الفلسفي والفكر الأدبي. في الحقبة ذاتها تطورت العلوم البحتة والتطبيقية ذات الأصول الإغريقية والفارسية والهندية، وصارت هائلة الانتشار والإنجاز والإبداع وظلّت على النحو نفسه حتى أنّ الأوروبيين في جامعاتهم توصلوا إلى نتاجات ابن سينا والرازي وابن الشاطر في القرن السابع عشر الميلادي. فلماذا يقال بالانحطاط في الفكر الديني والأدبي في الحقبة ذاتها؟ الالتباس - كما في عنوان الكتاب - ليس آتياً من الصراع بين المحافظين والمتحررين - كما ذهب إلى ذلك غولدزيهر - بشأن علوم القدماء؛ بل لأنّ الاختلاف بين التيارات العقدية والفكرية، كان قد جرى تجاوزه باتجاه تعدديات الازدهار حتى في تفسير القرآن، وفي صنع الجديد والمتقدم.

وبعد ثقافة التعدد المزدهرة في تلك الحضارة الكبرى، جاء كتابه الصغير «لماذا لم تكن في الإسلام (عصور وسطى؟)» بالمعنى الذي صار إليه المستشرقون ومن ورائهم مؤرخو الحضارة الأوروبيون. قامت الرؤية الغربية (والاستشراقية) على أنّ قطيعة حصلت بداخل الحضارة الإسلامية بعد القرن الخامس الهجري مع الحضارات الكلاسيكية بسبب سيطرة المحافظين بداخل ثقافات الإسلام وحضاراته. والحقيقة، أنّ الاستمرار الحضاري ظلَّ سائداً في زمن النشوء وفي الزمن الكلاسيكي في كل شيء، وليس في العلوم البحتة والتطبيقية فقط؛ بل وفي الثقافة والعمران وتيارات التفكير الديني والفلسفة والأخلاق. والفرق في الفهم، أنه في مرحلة معينة ما عاد المسلمون في حاجة إلى التقليد والاقتباس، بل كما في كل الحضارات الكبرى، وبعد الاستيعاب والتمثل - ومن جانب المحافظين وغيرهم – استتبّت مسارب ومسالك الثقافة بالإنتاج الخاصّ والإبداع وليس في العلوم وحسْب؛ بل في الفكر الفلسفي والكلامي واتجاهات التفكير الديني في التفسير علوم القرآن والحديث وعلوم الكلام، ومن قبل وبعد علوم اللغة ونظريات الشعر والنثر والبلاغة واللسانيات.

يتشارك المثقفون العرب مع المستشرقين والكُتاّب الغربيين في رؤاهم إلى انحطاط التقليد الديني والفكري بعد التمدح بازدهار القرن الرابع الهجري المستند إلى الإغريقيات! ثم ينتهون إلى أنّ الخروج من الانحطاط يكون بالقطيعة مع الموروث الانحطاطي، والالتفات إلى حضارة العصر وعصر العالم! وتوماس باور - وقد صارت توجهاته تياراً – يعتبر أنّ هذا التصور خطأ محض، ويخضع لرؤى الصحويين والمتشددين في الحضارتين؛ بل لا بد لتجاوز التأزم من العودة لقراءة وقائع الحضارة ومجرياتها. معظم المستشرقين وبعض مؤرخي الحضارة يذهبون إلى أنّ الخروج من انحطاطنا يكون بالمصير، كما صار الأوروبيون والغربيون بعامة إلى مغادرة عصورنا الوسطى، كما غادروا عصورهم الوسطى. وهم لم يفعلوا ذلك إلا جزئياً في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحتى عندما كانوا لا يزالون في الرؤية القديمة لزمانهم الحضاري، انصرفوا لبعث الحضارتين الإغريقية والرومانية لتكونا أساساً في النهوض وإعادة تعريف الهوية والإطلال على مستجدات القرون وتأصيلها. التطور الثقافي والحضاري مثل التطور العلمي. ربما لا يكون ضرورياً استعادة تاريخ الطب أو الهندسة (رغم أنه يحصل)، أما التاريخ الثقافي والحضاري فهو ضروري من أجل فهم الذات الإنسانية، والذاكرة الثقافية والإنسانية. لقد حاول ذلك على سبيل المثال محمد عابد الجابري، وقد خطا خطوات، إنما ظلت غالبة عليه نزعة القطيعة التي استعارها من الأبستمولوجيا الفرنسية.

إنّ التجاذب في أوساطنا الدينية والثقافية أنتج تيارات قطيعة وتشدداً. لكن كما أعاد الغربيون النظر ويعيدون، وكذلك اليابانيون والصينيون والهنود؛ فإنّ إعادة النظر من خلال تاريخٍ ثقافي جديد، يظل أمراً ضرورياً للحاضر والمستقبل. لا عودة للماضي، وهي عودة غير ممكنة على أي حال. لكن لا بد من إعادة قراءة ليس الماضي، بل التاريخ من أجل الحاضر والمستقبل.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الجمعة - 17 شعبان 1444 هـ - 10 مارس 2023 مـ رقم العدد [16173]

عندما اكتُشفت العوالم اللامتناهية للكون، وبدا أن الإنسان لم يعد مركزاً للعالم، فيما سمي بالثّورة الكوبرينيكية، أصبح وضعُ الإنسان الوجودي موضع سؤال ومحلَّ قلق: فما قيمة الإنسان في هذا الكون المترامي الأطراف الذي لا يكاد يعد فيه شيئاً ذا قيمة؟

هنا تدخلت الفلسفة مع ديكارت لتجيب عن هذا الإشكال، وتقول إن عظمة الإنسان ليس في شخصه الصغير إزاء هذا الكون العظيم الفسيح، وإنما عظمة الإنسان تكمن في فكره الذي يميزه، فها هنا ينبغي البحث عن جوهر الإنسان، وهذا هو منبع كرامته كما بَلْوَرَ«بيك دولاميراندول» ضمن رسالته «في الكرامة الإنسانية». بل إن العالم نفسه لم يعد له وجود إلا من خلال الذّات المفكرة نفسها، فالوجود متوقف على التفكير، وعندما يتوقف التفكير يتوقّف الوجود، وهو فحوى عبارة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود».

وقد وعى باسكال، معاصر ديكارت، هذه المفارقة بين الهشاشة والقوة، وعبر عنها قائلاً: «إن الإنسان ليس سوى قصبة هشّة في الطبيعة، لكنه قصبة مفكرة. ولا ينبغي أن يجتمع الكونُ كله من أجل سحقها، فهبّة بخار ونقطة ماء كافية لقتلها». يعني باسكال بذلك أن الإنسان من حيث كونُه جسداً هو هشٌّ وضعيف قابل لشتى ضروب العطب، لكن من حيث هو كائن مفكر هو قوي عظيم قادر أن يتأمل أسباب هشاشته ويتجاوزها.

إن هذه المعاني التي تردّدت في الأزمنة الحديثة والتي أفضت إلى النّزعة الإنسانية في القرن الثامن عشر، غير بعيدة عن الإرهاصات الكبرى للمنزلة التي احتلها الإنسان في الفلسفة الإسلامية القديمة، فقد اعتبر ابن باجة الإنسان من عجائب الطبيعية، وعلّل ذلك أنه له نسب من جهتين، نسب طيني مادي ونسب روحي فكري، واعتبر في كتابه العظيم «تدبير المتوحد» أن تدبير الإنسان وجوده لا يكون إلا بالفكر، وبه يدرك الإنسان أفضل وجوداته على ظهر هذه البسيطة، وإن كانت الظروف الاجتماعية تعانده.

مديحٌ عالٍ للفكر الإنساني وجد تجسيده في اعتبار الإنسان «العالم الأصغر»، على أساس أن الكون هو العالم الأكبر، وأن هذا العالم الممتد الأطراف، وُجدَتْ له نسخة مصغرة تحوي كل عجائبه، وهي الإنسان، فالإنسان ليس إلا جرم صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر، كما قال الشاعر، ومن هنا كلما تأمّل ذاته انفتحت له أبواب العوالم الكبرى والصغرى.

إنها دعوة فلسفية إلى خلوات التأمل الفردي والجماعي، خلوات ليست على غرار خلوة حي بن يقظان في قعر مغارته، رغم أنها قصّة جسّدت أيضاً عظمة النور الطبيعي الفطري الذي وهبه الله للإنسان، بل خلوات في المختبرات العلمية ومراكز البحث العلمي وغيرها من الفضاءات التي تُنقذُ الفكر من غفوته. ومن هنا أهمية الخلوات الفلسفية، في المراكز والنّوادي، التي يتدرب فيها الطالب على التفكير المنهجي ويصاحب فيها الفلاسفة، أفاضل النّاس عند ابن رشد، إذ ليس من سبيل لصنع الإنسان إلا بصنع عظمته الفكرية.

بين الحكمة والشريعة نسب قوي في شحذ الملكات العقلية للإنسان لعمارة الأرض، كما يندب الدين، ولتحقيق الفرد وجوده الخاص كما تذهب الفلسفة. وبين عمارة الأرض وتحقيق الإنسان وجوده الفردي أكثر من فن من فنون الوصال.

***

د. ابراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، ليوم: 24 فبراير 2023 00:48

 

في مثل هذه الأيام قبل ستين سنة (5 مارس 1963) رحل رائد التنوير المصري أحمد لطفي السيد، تلميذ الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان الداعية الأكبر لليبرالية، ورجل الدولة والفكر ورئيس المجمع اللغوي العربي ومؤسس أول جامعة عربية حديثة (جامعة القاهرة).

كان أحمد لطفي السيد يدافع عن نموذج التنوير الأوروبي ويراه الأفقَ الأوحدَ المتاحَ للتقدم، ولو تحت المظلة الاستعمارية. بعد هذا الجيل المؤسِّس، تراجعت الدعوة للتنوير في الفكر العربي، وانفصمت العلاقة الأصلية بين الأنوار والحداثة. ولقد برز اتجاه واسع في الفكر العربي، ينتقد المركزيةَ الأوروبيةَ، ويدعو إلى حداثة متناسقة مع الهوية الحضارية والقيميّة للمجتمعات العربية الإسلامية، بما يعني القطيعةَ مع ديناميكية التنوير الأوروبي التي التبست بمفهومين آخرين هما العلمانية اللادينية وأيديولوجيا التقدم التاريخاني.

ولهذه الإشكالية حقل انطباقها في الفكر الغربي نفسه، وذلك ما أماط عنه اللثامَ مؤخراً المؤرخُ الفرنسي «أنطوان ليلتي» في كتابه «تراث الأنوار.. التباسات الحداثة». ما يبينه «ليلتي» هو أن حركة الأنوار كانت من آثار الحداثة الأولى، من حيث الأزمة المعيارية العميقة التي عرفتها أوروبا المسيحية بعد الحروب العقَدية الدموية، مع ظهور بوادر الدولة القومية وانبثاق العولمة الأولى (ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر). لقد عبَّر فكرُ الأنوار عن مأزق الحداثة من حيث التعارض ما بين مسلّمة العقل الكوني المجسِّد لوحدة الطبيعة الإنسانية والمحمَّل بمُثُل التحرر والتقدم وظاهرة الاستثناء الأوروبي، أي انفراد مجتمعات وثقافة بعينها بالريادة الحديثة بفضل خصوصياتها التاريخية الانتروبولوجية.

والسؤال المطروح هنا: هل الحداثة مرحلةٌ من التقدم الإنساني تصل إليها كافةُ المجتمعات وفق قانون للتطور التاريخي الكوني، أم هي ظاهرةٌ تنفرد بها المجتمعات الأوروبية لأسباب جوهرية لها علاقة بأنساقها العقَدية والثقافية؟ وفقَ المقاربة الأولى، يُنظر إلى الحداثة من حيث هي نتاج الثورة الصناعية وما أفضت إليه من تكريس العقلانية التجريبية المطبَّقة ونظام قسمة العمل والفردية الليبرالية، وتلك سمات كونية تتأقلم مع كل السياقات الحضارية والاجتماعية.

ووفق المقاربة الثانية تكون الحداثةُ نفسُها التعبيرَ المؤسسيَّ الملموسَ عن قيم وأفكار التنوير الفلسفية والأيديولوجية. وعلى الرغم من التداخل الكثيف بين فكر الأنوار وحركية التحديث، فإن الفكرَ الفلسفي والاجتماعي الغربي عرف نمطين متمايزين من نقد التنوير ونقد الحداثة.

كان جان جاك روسو في القرن الثامن عشر من رواد فكر التنوير ومن أهم دعاة العقد الاجتماعي وأول من بلور فكرة التحسّن النوعي للبشرية، إلا أنه كان في الآن نفسه أول من وجّه نقداً جذرياً للحداثة مستبِقاً نقدَ فلاسفة مدرسة فرانكفورت لظاهرة الهيمنة الشاملة التي تُفضي إليها العقلانيةُ الأداتية التقنية التي تنتهي إلى تحويل الإنسان ذاتِه إلى مادة للتسلط والاستغلال. لقد اعتبر روسو ومن بعده فلاسفة التنوير الألماني أن قيم النقدية العقلانية والتقدم التاريخي والتحرر، ليست خاصة بالمجتمعات الحديثة، بل قد تكون عُرضةً للتلاشي والضياع في مجتمعات تتحكم فيها التقنية الاستهلاكية والنفعية الفردية.

وقد وصل هذا المسلك الفكري مداه في الكتابات الأخيرة حول «ليبرالية الرقابة» و«صناعة التواطؤ» و«الوشم السياسي».. وكلها تدور حول الأثر المدمر للعقلانية التحكمية المنفصلة عن مُثُل التحرر والذاتية الإنسانية التي نادى بها فكر الأنوار. لقد اعتبر الفيلسوف الألماني الأميركي «ليو شتراوس» أن معاييرَ التنوير أقوى وأنجع في الفلسفات السياسية والأخلاقية القديمة (اليونانية والإسلامية الوسيطة) لكونها تحافظ على مبدأ الغائية الطبيعية للوجود الإنساني وعلى فكرة العدالة بمضمونها القيمي الجوهري.

ولأمرٍ ما عمل أحمد لطفي السيد على ترجمة نصوص أرسطو الأخلاقية والسياسية التي اعتبر أنها مفيدةٌ للمجتمعات العربية المعاصرة، رغم أنها تطرح إشكالات وأفكار بعيدة عن سياق الحداثة الأوروبية. إنه المسلك نفسه الذي تبناه طه حسين (خاصةً في كتابه «قادة الفكر»)، وكان شديد القرب فكرياً وسياسياً من لطفي السيد.

السؤال الذي نخلص إليه هو: هل نحن بحاجة إلى أفكار التنوير أم إلى التحديث من حيث هو مسار تاريخي واجتماعي؟ لا يبدو أن خيار التحديث في ذاته يطرح إشكالا جوهرياً بالنظر إلى تعدد مقاربات الحداثة والانطباع السائد بإمكانية بنائها على أُسس معيارية مستقلة، أما مثال التنوير فيبدو معقداً والتباينُ واسع حول مضمونه ومرحليته، ومن هنا أهمية الرجوع إلى تركة التنوير العربي الحديث.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن الاتحاد الاماراتية في: 5 مارس 2023

قد تنقذ الدراسات السردية واجتهادات روادها في شتى حقول العلوم الإنسانية المختلفة الحدث التاريخي من سلطة الأيديولوجيا ومناهجها ومدارسها المختلفة، والتي ما فتئت تجرب نظرياتها بما يخدم توجهاتها وأهدافها، فمرة كان الهدف الأسمى هو الانتصار للنزعة الإنسانية بعدما شهدت عصور النهضة الأوروبية ميلا للإعلاء من شأن الإنسان بالضد من النزعة اللاهوتية التي كانت سائدة في ذلك العصر.

لكن انتهى هذا الهدف الأسمى لتفسير التاريخ إلى نظرة مثالية تمجد في جوهرها الطبقة البرجوازية السياسية القريبة من السلطة.

ومرة أخرى، مع التطور والتقدم الصناعي برز العقل بوصفه العامل المقدس الذي يفسر ليس التاريخ فقط، وإنما كل ما له علاقة بالإنسان والمعرفة، وأصبح المؤرخ العقلاني يحط من قيمة اللاهوتي ويعلي من شأن الفلسفي. لكنهم في كل الأحوال كانوا بلاغيين أكثر من كونهم مؤرخين محترفين في الدرس التاريخي مثل فولتير.

ثم جاءت مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية التي انقسمت أوروبا حولها انقساما عاموديا، بالخصوص في ألمانيا، نتجت عنه أفكار حدية بين مؤيد للحرية كشعار لهذه الثورة وبين معارض بسبب ما أحدثته من دمار وحروب.

هنا برز بعض الفلاسفة والمؤرخين (فيما يسمون بالرومنطيقيين) من طبقة النبلاء كهيردر وفخته وغوته الذين شيدوا معمارهم على استعادة المرحلة الإقطاعية في التاريخ اليوناني والإغريقي والحنين إليها، وركزوا على الفن والمجتمع والاقتصاد والثقافة.

وكانت لغتهم شعرية ساحرة حين يتطرقون إلى أحداث سياسية معينة، ظنا منهم أنهم سوف يجذبون القارئ إلى هذا الحدث أو ذاك بهذه اللغة.

وكلما تقدمنا في الزمن إلى العصر الحديث رأينا كيف كانت الدراسات حول التاريخ تخضع للمد والجزر في تطور المعرفة من جهة، وفي اختبار أفكار هذا التطور على الناس والمجتمع وردود أفعالهم وبالتالي الأحداث التي ترتبط بهم من جهة أخرى.

فالأفكار التاريخانية حول النظرة للتاريخ لم تكن سوى رد فعل طبيعي على طغيان النظرة العلموية الوضعية للتاريخ نفسه.

وبالقدر نفسه يمكن الإشارة إلى علاقة الماركسية بالتاريخ التي أعلت كما نعلم بالعامل الاقتصادي في قراءتها له وركزت على الطبقة الكادحة كمحرك لعجلته.

ولا يمكن إغفال التوجه البنيوي الذي حكم النظرة إلى التاريخ في الخمسينيات والستينيات، والبداية كانت من اللغة، وذلك في تحييد شامل للواقع وفصل تام عن الأحداث.

يمكن أن استمر في هذه المقالة في سرد الكثير من سرعة التحولات التي طالت دراسة التاريخ في المجتمع الغربي على يد مؤرخيها وفلاسفتها ومثقفيها ومدارسها إلى وقتنا الحاضر، لأعطي دليلا على أن التغيرات المادية الكبرى التي تحدث للمجتمعات، يتبعها تغير كبير في الذهنيات، وهذا الجدل بينهما، رغم ما يثيره من صراعات، يظل سمة إيجابية للفكر والمعرفة.

لكن المشكلة القائمة في المعرفة التاريخية لا تخلو من ثغرات إذا اطمأن المؤرخ إلى أفكاره ونتائجه إلى الحد الذي يفضي به إلى اليقين الأيديولوجي المطلق.

وإذا كان ديدن كل خطاب عن التاريخ لا يمكن أن يتخلص من هذه الإشكالية، رغم ادعائه خلاف ذلك، إلا الدراسات السردية قد تقلص هذه الإشكالية ولا تلقيها، لأنها بكل بساطة تنظر إلى أحداث التاريخ كقصص مسرودة من وجهات نظر مختلفة، والراوي العليم فيها هو التاريخ نفسه وليس المؤلف.

ورؤية كهذه للتاريخ لا تخلو من موقف أيديولوجي بالطبع. لكن ثمة فرقا كبيرا بين موقف وآخر بين موقف يستمد قيمته من معطيات وجهات النظر نفسها، وبين من يستمدها من مقولات أو سياقات خارج وجهات النظر أو السرد برمته كما هي حال علاقتنا بتاريخنا العربي وبماضينا على وجه الخصوص. وكلمة (الإنقاذ) التي وردت بالمقدمة أعني فيها هذا الماضي تحديدا.

***

محمد الحرز

عن اليوم السعودية في: 2023/03/02

 

كيف يمكن للفقه والفلسفة أن يجتمعا في شخص ابن رشد، الفقيه المالكي الذي أنفق عمره في قراءة كتب الفلسفة يديم النظر فيها بعيون نقدية فاحصة، ويفرد أرسطو بكثير من وقته، هذا الفيلسوف الذي ملك عليه حياته كلّها حتى أصبح يراه وكأنه تجسيد للكمال الإنساني محسوساً مشاراً إليه، كما قال؟ كيف يمكن لأرسطي خالص أن يُسمّى فقيها، فضلاً عن أن يُدّعى له أن يكون للفقه دور في تأسيس تجربته الفلسفية؟

وهل يُتَصوّر من فقيه قُحِّ يمتلك علوم الآلة وعلوم الشرع أن ينصرف عن الكتاب العزيز إلى كتب أرسطو يفسرها على الطريقة التي فُسِّر بها الكتاب العزيز في ثقافتنا الإسلامية، فيؤثر بذلك كتبا أعجمية على الكتاب العربي المبين؟

أما أن أبا الوليد ابن رشد كان فقيهاً ويحمل همّ الإصلاح الديني لمجتمعه، فذلك ما تنطق به سيرته ونصوصه القطعية في ثبوتها ودلالتها، وبخاصة «بداية المجتهد»، فضلاً عن أن الرجل أخذ الفقه وعلوم العربية عن أبيه، وعكف على قراءة كتب جده، وأجازه الفقيه الكبير المازري وهو لمّا يتجاوز الأربعة عشر ربيعاً. وولي في كبره «قضاء الجماعة» نائباً عن الإمام الأعظم.

إذن ليس غريباً أن يكون ابن رشد فقيها، إنما الغريب كيف أمكن لفقيه مالكي وأشعري، أن يمتلك أرسطو؟ إن امتلاك أرسطو حدث كبير في تاريخ الثّقافة العربية الإسلامية، لماّ تدرك أبعاده الكبرى بعد، وخاصة من رجل كان درّاكاً لمقاصد الشريعة، حفيّاً بأسرارها، محيطاً بكلياتها وجزئياتها، ها هنا مكمن الغرابة وهذا هو الذي يحتاج إلى فهم وتأويل.

أما التّشكيك في كتبه الفقهية، بل وأحياناً اتهامه بالتّقية، فهذه من بقايا الضلال الإيديولوجي، وابن رشد نفسه يقدّم أدوات فهم شخصيتيه في انسجام تام وفي قلب كتبه الفلسفية، بل في قلب أعظم شروحه على الإطلاق، وهو شرح ما بعد الطبيعة. حيث يتحدث ابن رشد عن مفهومه المفتاح: «الشريعة الخاصة بالحكماء» فيقول:«فإن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه».

يقدم ابن رشد في هذا النص الطريف سبب إقباله على قراءة نصوص أرسطو، إنّها النّصوص التي كانت في زمانه تفحص في الموجودات، سواء كانت موجودات متحركة، والتي احتفلت بها كتب أرسطو الطبيعية، أو كانت موجودات مفارقة بالقول، وهي التي تتعلق بعلوم التعاليم والتي احتفل رشد منها بكتاب «المجسطي» لبطليموس، أو كانت موجودات مفارقة بالقول والوجود، وهي الموجودات الميتافيزيقية التي أُفْردتْ لها مقالات كتاب ما بعد الطبيعة.

كان ابن رشد يعتقد، وهو يطوف في الكتب الفلسفية والعلمية التي أتاحها له عصره، وبخاصة كتب «المعلم الأول»، أنه لم يفارق محراب العبادة التي يفهمها كفقيه، وأن كتب أرسطو، وغيرها، تجعله أقرب من غيره إلى معرفة مدبر هذا الكون وصانعه، لأنه «كلما كانت المعرفة بالصّنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أتم» وكتب أرسطو تقدم، في عصره، المعرفة بالصّنعة، لذلك عكف ابن رشد عليها واتخذها زلفى إلى ربه على قصد الامتثال والطاعة.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 4 ديسمبر 2022 23:30 

 

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة  من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء !

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع؟ أيهما تَحقّق؟ وإلى أي مدى تحقّق؟ وبأي ثمن؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه ؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان؟ 

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام.

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.  

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.  

***

محمد المحمود

عن الحرة في: 20 فبراير 2023

تصبح هوية ملامحك واضحةً لدى الآخرين ما إن يتعرفوا على أحد أفراد عائلتك ليبدأ التشبيه والتقريب، فتصل مسامعك عبارات من قبيل: «لديك عينا أمك»، و«أنت تمشي كوالدك تماماً».. إلخ. فهل نحمل بداخل أجسادنا تشابهات أخرى تتعدى الجسد لتشمل سيمفونية إرث الروح أو النفس؟

لطالما تردد على أسماعنا هذا المثل «فرخ البط عوام»، للتعبير عن الصفات التي يرثها الإنسان من أحد والديه، إذ جاءت مناسبة هذا المثل الشعبي من بطة تركت بيضتين قبل وفاتها، وأكملت مهمتها في الرقود عليهما دجاجةٌ كانت تنتظر فقس الفراخ، ثم دارت الأيام واقتربت العائلة من بركة ماء، فاكتفى الجميع بالوقوف إلى جانبها، ما عدا البطتان اللتان قفزتا دون سابق تدريب وشرعتا في السباحة، فقيل فيهما: «فرخ البط عوّام». وبتكبير هذه الصورة على المجتمع الإنساني، فهل كلنا يعوم على شاكلة والديه؟

لقد أوردَ العلمُ الحديثُ العديدَ من الإشارات لتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته، وذلك يكون صحيحاً إذا ما وضعنا مختلف مفاهيم الأخلاق وما يسمى بأعمال القلوب، ومجموع الطباع النفسية والعقلية، في سلة جامعة دون التفريق بينها، وهو أمر بعيد عن الدقة، فالعامل الوراثي قد يتسرب للأبناء في الجانب البدني الفسيولوجي، لكن يصعب أن يكون محرك السلوك الأساسي والتوجه الفكري النابع من الإرادة الحرة.

ولعل ما ورد في القصص القرآني يوضِّح أن هذه الأمثال وما على شاكلتها قد يصح من باب المصادفة أو الاكتساب السلوكي من البيئة التربوية لا أكثر، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، لم تكن لصفاته وأخلاقه ونبوته دور في تقرير مصير ابنه الذي غرق بالطوفان مع الكافرين. فتحديد الصفات السلوكية والأخلاقية لا يتلاقى والتناغمية الحاصلة في الجينات وشيفرتها الوراثية (DNA). ولو كان غير ذلك لوجدنا كل بني آدم (عليه السلام) مثله تماماً. والشاهد في هذا الموضع ما للوالدين من صلة حقيقية في توريث الأخلاق، ولكن بكيفية سلوكية معاشة (التربية)، بدلالة قوله تعالى في سورة مريم: «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا»، أي لم يعرف عنهما الفجور ولم تترعرعي في بيئة سيئة، وهنا استنكار قومها من هكذا فعل (كما ظنوا) في نشأتها النفسية المنعكسة على السلوك. وبذا يكون القياس على أخلاق البيئة المحيطة كعامل توريث سلوكي وقيمي، ومع ذلك يبقى للفرد حيز الفعل والإرادة المنوطة وما يناط بها من مسؤولية أخلاقية. ولذا يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: «وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وحول حرية الإنسان أو تقييده تناقشت الفلسفات الإنسانية كثيراً، ويبقى في الأخير أن الإنسان مخلوق مولود على الفطرة، حر الاختيار، متأثر بحزمة الاستعدادات الذهنية والفكرية والبدنية. وكما يقول الراغب الأصفهاني، فإن: «الإنسان يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما، كما يرث مشابهتَهُما في خلقهما، ولهذا قال الله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وعلى نحوه روي أنه قال في التوراة: إِني إذا رضيتُ باركتُ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع، وإذا سَخِطْتُ لعنتُ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع.. تنبيهاً على أن الخير والشر الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثرُه موروثاً إلى البطن السابع». وفي ذلك تنبيه قوي لما قد يترتب على توارث الأثر الأخلاقي والسلوكي.

إن تأمل هذه المحطات الساعية لفهم الصورة السلوكية، يثبت أننا لا نطيق ازدياد التأثير الاكتسابي على الفطري حتى يحيد به لمناطق قيمية مبهمة، مبتورة الأصل وفاقدة الوصل.. ولذا فلا بد من التشبث بالفهم الثقافي الأخلاقي للسلوك الإنساني.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 15 فبراير 2023

العلم التجريبي الحديث هو المنهج العلمي المتبع اليوم للتحقق من صحة فرضية ما، فإما أن يثبتها فتغدو حقيقة علمية أو ينفي صحتها فتصبح معلومة خاطئة.

التولد التلقائي الفرضية القديمة والجديدة

ظهرت فكرة التولد الذاتي قديما عند الفلاسفة اليونان، فكانوا يعتبرون أن اليرقات التي تظهر على اللحم المتعفن دليلا على التولد والنشوء الذاتي للكائنات الحية من مادة غير حية. لكن في عام 1668 قام فرانسيسكو ريدي بتجربة تحت شروط صارمة أثبت من خلالها أن اليرقات ظهرت على اللحم المتفسخ لأن الذباب وضع بيوضه عليه.

لتأتي بعدها تجربة باستور عام 1859 التي حسمت الخلاف حول مسألة التولد الذاتي (التي افترضت أن سبب تعكر مرق اللحم المعقم والمعرض للهواء بعد فترة هو تولد كائنات دقيقة ذاتيا من المرق نفسه) فقام باستور بغلي مرق لحم في حوجلة لها رقبة طويلة محنية للأسفل كالبجعة كي يمنع الجزيئات الساقطة الموجودة في الهواء من الوصول إلى المرق بينما تسمح بالتدفق الحر للهواء.

وكانت النتيجة أن بقي المرق في الحوجلة (القارورة الغليظة الأسفل أو الصغيرة الواسعة الرأس) بدون تعكر بالمقارنة مع حوجلة أخرى عادية تسمح بوصول الجزيئات الساقطة في الهواء للمرق واستنتج بذلك أن الكائنات التي نمت إنما هي أحياء دقيقة مصدرها الهواء ولم يكن تولدا ذاتيا.

فرضيات النشوء الذاتي والتلقائي القديمة قد عفى عليها الزمن، وحولها العلم التجريبي من فرضية إلى خرافة. لكن مع بداية القرن الماضي عادت فرضية التولد التلقائي (Abiogenesis) من جديد لتفسر ظهور الخلايا الأولى التي كانت برأيهم بذرة الحياة بكافة أشكالها على الأرض، فظهرت فرضية الحساء البدائي (Primordial soup) في عام 1936، تشير هذه الفرضية إلى أن الخلايا الحية الأولى نشأت في حساء بدائي يحوي مزيجا من الجزيئات العضوية.

في عام 1986 طُرحت فرضية (RNA world) التي ترى أن الحياة على الأرض قد بدأت بجزيئات RNA ذاتية التكاثر التي أدت في النهاية إلى ظهور الخلايا الأولى، ولكن مصدر RNA نفسه بقي لغزا، وفي عام 2003 طرح فكرة أن الخلايا الأولى نشأت من أغشية دهنية غلفت جزيئات عضوية بسيطة ووفرت بيئة مستقرة للتفاعلات الكيميائية العشوائية، ومنذ بضعة أعوام اقترحت فرضية التركيب (Composome)، وما زالت الفرضيات تتوإلى إلى الآن لتفسر أصل الحياة على الأرض.

إن القاسم المشترك بين هذه الفرضيات هو أن الخلايا الأولى ظهرت تلقائيا عن طريق التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة، واستمر التفاعل والاتحاد العشوائي لها عبر ملايين السنين لتشكيل جزيئات عضوية أكثر تعقيدا تستطيع حمل المعلومات ولها القدرة على نسخ نفسها، ثم أحيطت بغلاف خاص بها يفصلها عن الوسط المحيط واكتسبت القدرة على التكاثر وإنتاج الطاقة اللازمة لها، وهكذا ظهرت الخلية الأولى على الأرض.

منهج العلم التجريبي الحديث وشرط القابلية للتكرار

إن العلم التجريبي الحديث حال دون وصول فرضيات التولد التلقائي إلى مستوى الحقيقة العلمية. لأن إحدى القواعد الأساسية التي يفرضها العلم التجريبي هو أن تكون التجربة قابلة للتكرار، فعندما تعاد التجربة بنفس الشروط والظروف يجب أن نحصل على نتائج مماثلة، لم يكن بإمكان منظري التولد التلقائي تكرار هذه التجربة، ولم يستطع العلماء في المختبر تحت ظروف مختلفة إلى الآن أن ينتجوا خلية حية، ولم يتمكنوا عن طريق الخلط العشوائي لمزيج الجزيئات البسيطة (الكربون والهيدروجين والنتروجين والأكسجين…) من تصنيع شريط واحد من DNA يحمل معلومات لشفرة بروتين، ولا حتى إنتاج بروتين وظيفي من البروتينات الموجودة في أبسط الخلايا.

تعلل منظري فرضية التوالد الذاتي أن شرط تكرار التجربة الذي يفرضه المنهج العلمي الحديث غير قابل للتطبيق بسبب عامل الزمن، فهم يتحدثون عن مصادفة نتجت بعد تفاعل عشوائي استغرق حدوثه ملايين السنين، وهذا لا يمكن تطبيقه بالمختبر لأنه يحتاج إلى زمن هو أطول من عمر البشرية كلها. وعليه لكي تصبح فرضية التولد التلقائي حقيقة علمية لا بد من إسقاط إحدى أهم القواعد الأساسية التي قام عليها منهج العلم التجريبي الحديث ألا وهي شرط تكرار التجربة.

الاحتمال والمصادفة العشوائية

إنه لمن الغريب الاعتقاد بأن الأمر يماثل رمي أحجار النرد ثم تكرار التجربة عشوائيا ملايين المرات. لو أردنا تصنيع حاسوب أو هاتف نقال كالذي بين أيدينا اليوم فهل نحقق الهدف بوضع مزيج من العناصر البسيطة (كربون، هيدروجين، نتروجين، حديد، نحاس وليثيوم…) ثم نحدث تصادما عشوائيا بين تلك العناصر في ظروف مختلفة ثم ننتظر في نهاية الأمر لتنتج لنا المصادفة العشوائية حاسوبا يحتوي على معالج وذاكرة رئيسية (RAM) وشاشة وبطارية بالإضافة إلى برامج تشغيل Windows وحزمة Microsoft Office.

كيف لنا أن نقنع العقل العلمي البحت بأن الزمن كان هو العامل الأساسي وأنه في الأشهر والسنوات الأولى من التصادم العشوائي لن نرى شيئا ولكن بعد مرور ملايين السنين لا بد أن ينشأ هذا الحاسوب المنشود، ولكن عمر البشرية لا يكفي لإحداث هذه التجربة لذا عليك أن تسلم بها فقط.

لو أن واحدا من منظري هذه الفرضيات ذهب ليشتري جهازا ما فإن أول ما يسأل عنه هو ما الشركة المصنعة؟ فهل يخطر بباله ولو للحظة أو يقبل أن يجيبه البائع بأن المصادفة العشوائية هي التي أنتجته ولا يوجد له شركة مصنعة.

إن البيولوجيا الجزيئية بينت أن أبسط الخلايا الموجودة على الأرض هي أكثر تعقيدا من أي حاسوب، وتحتوي مادة وراثية تشفر لمئات البروتينات التي تفاعل مع بعضها البعض لتتمكن الخلية من الحياة والتكاثر. المصادفة العشوائية والاحتمالات لن تتمكن أبدا من إنتاج خلية حية، وعامل الزمن لا يمكن أن يلعب أي دور في ذلك، لذا قام بعض منظري فرضية التولد التلقائي بالقول إن ظهور الخلية الأولى لم يكن على الأرض بل في مكان آخر من هذا الكون الفسيح، ثم انتقل إلى الأرض عبر النيازك من خلال عملية تُعرف باسم (Panspermia)، ولكن هذه الفرضية لا تقدم حلا للمشكلة بل تنقلها إلى مكان آخر.

رغم ذلك تعد فرضية التولد التلقائي من أكثر الفرضيات رواجا ومع كل أسف تُدرج في الكتب المدرسية على أنها حقيقة علمية، مع أن العلم التجريبي الحديث ما زال يحول دون وصولها إلى مرتبة الحقيقة العلمية.

***

يونس حصرية

دكتوراه في العلوم الطبية البيطرية، مقيم في ألمانيا

عن مدونات الجزيرة ليوم: 22/2/2023

................

المراجع

"The Origin of Life" by Leslie E. Orgel.

"The Emergence of Life: From Chemical Origins to Synthetic Biology" by Pier Luigi Luisi.

 

 

بثت قناة «إم.تي.في» قبل أيام ندوة حيوية حول الدولة ومفهومها ومعاني الهوية؛ لم يكن كل الحضور بمستوى تحدي السؤال الشرس، ماذا يعني أن نحدد مفهوم الدولة ولا معنى الهوية ببلد تتناثره الهويات بل وتتقاتل عليه، كما هو معنى كتاب أمين معلوف بكتابه المألوف: «الهويات القاتلة».

كل ذلك سهّل العودة المحقّة إعلامياً لأطروحة صموئيل هنتنغتون «صراع الحضارات؟». أصلها مقالة مطوّلة نشرها مستفهماً في «فورين أفيرز» عام 1993، في السطر الثاني من المقالة ذكر عبارة «نهاية التاريخ» عنوان مقالة لفرانسيس فوكوياما نشرت في العام 1989 بمجلة «ناشيونال إنترست» قبل تطويرها لكتابٍ عام 1992.

صموئيل هنتنغتون لم يتراجع عن نظرية الصدام حتى وفاته في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2008. وباستعادة بعض مضامينها يمكن الوقوف على مضامين فصيحة منها: أفترض أن سبب الصراع الأساسي في هذا العالم الجديد لن يكون آيديولوجياً بالمقام الأوّل، أو اقتصادياً بالدرجة الأولى، فالانقسامات الكبرى بين بني البشر والأسباب الطاغية للنزاعات ستكون ثقافية… ستكتسب الهويّة الحضارية أهميّة متزايدة في المستقبل، وستتم صياغة العالم إلى حدٍ كبير، من خلال جملة التفاعلات الجارية بين سبع أو ثماني حضارات، هي الحضارات الغربية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والسلافية – الأرثوذوكسية، والأميركية – اللاتينية، وربما الأفريقية، ستتم أكثر صراعات المستقبل أهمية على امتداد خطوط الصدوع الفاصلة بين الحضارات، إحداهما عن الأخرى… يصبح العالم أصغر، تتزايد التفاعلات بين أبناء الحضارات المختلفة، وهذه التفاعلات المتزايدة تؤدي إلى تكثيف الوعي الحضاري والإحساس بالفروق بين الحضارات والجماعات… هناك نتيجة مع تقدم الغرب، وهي نوعاً ما ظاهرة العودة إلى الجذور بين صفوف أبناء الحضارات الغربية… من غير المحتمل أن يتضاءل التفاعل القديم قدم القرون بين الغرب والإسلام، قد يصبح الاشتباك بين الطرفين أكثر ضراوة».

مع بلوغ العولمة ذروتها في المجالات الاقتصادية والتقنية، دأبت الماكينات الإعلامية على وصف العالم بالقرية الصغيرة، وذلك إغراقاً في التفاؤل والاغتباط بما وصلت إليه المجتمعات من تعارف، وبسبب ازدياد التبادلات الاقتصادية الحرة، وغرق الفضاء بالأقمار الصناعية، وانفجار ثورة الإنترنت، وصولاً إلى انكسار الحدود بين الأمم، غير أن ما نبّه إليه هنتنغتون بوضوح أن صغر العالم قد يسبب ضربة للتعايش بين الحضارات، باعتبار التقارب والاحتكاك محفزاً لإدراك الفروقات، ومن ثم البحث عن الهويّة الخاصة، وخصائص الذات، ونقائص الحضارات الأخرى.

إن العولمة لم تعزز الفهم بين الأمم والأديان، بل حرست وكررت ونشرت الفهم التقليدي القائم عن الشعوب. وعلى المستوى الثقافي فإن المستفيد الأبرز من ثمرات العولمة التيارات المتطرفة عموماً، وبخاصة «جماعات العنف الإسلامي» بشتى أنحاء العالم، التي ركبت ثبج التقنية واستخدمت أحدث خصائصها بغية الحرب على الآخرين، ورسم صورة دموية عن الحضارة الإسلامية ونجحت بذلك منذ ضرب البرجين في أحداث سبتمبر (أيلول)، وصولاً إلى أعمال «داعش» الوحشية، حتى كادت فروع تنظيم القاعدة تنافس فروع «ماكدونالدز»… نعم لقد عبرَت القارات.

استذكار مقولات هنتنغتون بعد طول سنين ضروري لفهم الذي يجري في الولايات المتحدة وأوروبا. يأتي في ذلك السياق الهوياتي كتاب أثار ضجّة كبرى بألمانيا عنوانه: «ألمانيا تفقد هويتها» من تأليف ثيلو سارازين عام 2010. المؤلف وزير مالية سابق وعضو مجلس إدارة المصرف المركزي الألماني، رصدت ردود الفعل على الكتاب جاكلين سالم بكرّاسة مهمة لها بعنوان: «المواطنة الدينية في الغرب، تحليل لتجارب المسلمين في فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة» تذكر أن خلاصة الكتاب تتمحور في الآتي: «المجتمع الألماني أصبح أقل ذكاءً، بسبب المهاجرين المسلمين وأولادهم» ويخصّ باحتقاره «الجالية التركية» بوصفها الأكبر بين المسلمين هناك.

الواقع قد يقسو على الأحلام، لكن هذه هي المرحلة المعيشة، إنها نتاج وحصيلة ظروف واشتباك.

اليمين ستكون له صولاته وجولاته، والمرشحون يصدحون بالخطب كل يوم، والإسلام والمسلمون جزء أساسي من المضامين الخطابية. حين فاز دونالد ترامب علّق والد زعيمة حزب الجبهة الوطنية الممثل لأقصى اليمين الفرنسي جان ماري لوبان: «اليوم الولايات المتحدة، وغداً فرنسا» ليردّ عليه نائب زعيم الجبهة فلوريان فيليبو: «عالمهم يتفتت، وعالمنا يبنى».

هكذا تسير الموجة اليوم… بالتأكيد العالم ليس قرية واحدة، تلك عبارة شعرية خاوية.

ليس سراً أن اليمين المتطرف في أفضل حالات انتعاشه حالياً، بسبب من استفزاز الطوفان الآتي، وتغلغل التنظيمات المتطرفة، ووحشية العمليات الإرهابية، هذا بالإضافة لكون المسلمين لم يحددوا بعد دنيوية واقعهم وأصالة براءة الآخرين الذاتية، هذا الاضطراب في فهم موقع الدنيا أسس لموجاتٍ من الاضطراب في العلاقة مع الغرب، ولعل مثال الدكتور طارق رمضان غاية في الوضوح، بوصفه متعلّماً وفصيحاً.

غير أن النتائج التي يطرحها والمقولات التي يدوّرها على الشاشات الفضائية لم تخدم المسلمين بشيء، بل في غالبها تخاطب وجدانهم وتطمئنهم على صواب الانغلاق والانكفاء، وتخدم تلك المقولات اليمين المتطرف.

الحقيقة متوزّعة أمامك، خارج أنفاق هويّتك، إنها في الآفاق من حولك، وقديماً كتب «غوته» – ديوان الألمان الشغوف بالشعر العربي: «ليس بالضرورة دائماً أن يتخذ الحق جسماً، يكفي أن يحوم في الضواحي كروحٍ، ويحدث نوعاً من التوافق مثلما تفعل الأجراس حينما يطوف رنينها في الجوّ، حاملاً السلام».

***

فهد سليمان الشقيران

كاتب وباحث سعودي

صحيفة الشرق اللندنية ليوم: الأحد - 29 جمادى الآخرة 1444 هـ - 22 يناير 2023 مـ رقم العدد [16126]

في 1919 وقف الاقتصاديّ البريطانيّ جون ماينرد كاينز، موقفاً شجاعاً وحكيماً في آن. فبصفته عضواً في الوفد البريطانيّ المفاوض في فرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، كره التنازلات التي فرضها الحلفاء على ألمانيا، وحجم التعويضات المطلوبة التي ستُثقل على مدنيّي ألمانيا الأبرياء. هكذا استقال من الوفد ومن عمله الاستشاريّ في وزارة الخزانة التي مثّلها في المفاوضات. وهو سريعاً ما كتب «الآثار الاقتصاديّة للسلام»، مُظهراً أنّ الحرب دمّرت أساسيّات الاقتصاد الأوروبيّ بينما لم تفعل معاهدة فرساي شيئاً لإصلاحه، ومجادلاً بأنّ على ألمانيا ألّا تستجيب للعقوبات المفروضة، ولائماً الدول الكبرى على وقوفها وراء اتّفاقيّة غير أخلاقيّة، فضلاً عن توقّعه نتائج مُرّة للقسوة على ألمانيا. وإذ أزفت الثلاثينات، بدا واضحاً كم كان موقفه صائباً. فالصعود النازيّ، كما نعلم، كثيراً ما تغذّى على المذلّة والضائقة اللتين أنجبتهما فرساي.

وفي الثلاثينات نفسها، استوت الكاينزيّة مذهباً في المعالجة الاقتصاديّة والمقاربة الأخلاقيّة، فضلاً عن انهجاسها بامتصاص التطرّف. تمّ ذلك مع صدور كتابه الأهمّ «النظريّة العامّة للعمالة والفائدة والمال» (1936)، الذي أرسى أسس النظام الاقتصاديّ الغربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، أي مع وفاة كاينز في 1946 وبعدها. فـ«الثورة الكاينزيّة» كما سمّيت، صانعةً أحد أهمّ اقتصاديّي التاريخ، رأت أنّ من مسؤوليّات الحكومة ضمان العمالة الكاملة، أو ما يقاربها، وهو ما ينجزه تنشيط الطلب كردّ على الانكماش، أي الإنفاق العامّ في البنى التحتيّة والخدمات الاجتماعيّة (بناء طرق وجسور ومستشفيات إلخ...).

والكتاب أعاد التفكير في مسألة البطالة، بهدف إنتاج حلول جديدة لأزمات الثلاثينات، وللرأسماليّة عموماً.

فالاقتصاد الكلاسيكيّ قدّم ثلاثة أسباب للبطالة: تغيير العاملين والعمّال أشغالهم، واختيار الأفراد ألّا يعملوا بالاستفادة من تقديمات الدولة، وارتفاع الأجور بما لا يحتمله أرباب العمل. وفي الموديل الكلاسيكيّ يُفترض بالسوق الحرّة أن تصحّح هذا العامل الثالث آليّاً، بحيث يتساوى عفويّاً عرض العمل والطلب عليه، بلوغاً إلى العمالة الكاملة. لكنّ كاينز خالف النظريّات هذه: ففي الثلاثينات كان الملايين بلا عمل، ما يعطّل التفسير بالعوامل الثلاثة أعلاه. أمّا السبب، عنده، فليس تغيير العمل ولا رفض العمل والكسل أو تدخّل النقابات، خصوصاً أنّ الاقتصاد يومذاك لا يخلق فرص عمل أصلاً، فيما ارتفاع البطالة خلال الكساد الكبير يقلّص نفوذ النقابات. وأمّا الرهان على التساوي العفويّ بين العرض والطلب فيستغرق وقتاً طويلاً لن يبقى بعده، بين الأحياء الحاليّين، من يستفيد منه.

فمشكلة البطالة تكمن، إذن، في نقص الطلب أو انعدامه، والمطلوب بالتالي تدخّلٌ يكسر دورة الركود ويستعيد الازدهار. وإذا كانت الحكومات، إبّان التراجع، تتوجّه تقليديّاً إلى العرض، معوّلةً على أنّه ما يشجّع النموّ ويخلق العمالة، فقد رأى كاينز عدم جدوى العرض في ظلّ طلب بالغ الانخفاض. لذا ينبغي منح الأولويّة للطلب الذي تخلقه الدولة بمشاريعها، عبر الاقتراض لتمويل مشاريع عامّة واستثمارات في البُنى التحتيّة. وفي نقده، لم يغفل عن الشبه بين السلوك التقليديّ للحكومات والعقليّة الأبرشيّة الضيّقة للعائلة التي تميل إلى التقتير عند تبخّر المداخيل، مميّزاً بين إدارة الدول وإدارة البيوت.

أمّا السؤال عمّن ينبغي أن يسدّد القروض، فجوابه أنّ خلق الوظائف عبر المشاريع الكبرى إنّما يوفّر المال الذي كانت الحكومات ستنفقه معوناتٍ للعاطلين عن العمل، كما أنّ ازدياد عدد العاملين سيوسّع الإنفاق ويغذّي الضرائب، وإذ يتحسّن «البيزنس» في هذه الغضون، تتوافر العائدات التي تسدّد الدَّين.

فالرأسماليّة قد لا تكون حميدة، كما رأى آدم سميث، إلا أنّها ضروريّة بقدر ما هو ضروريّ كبح جماحها. وكاينز، برفضه المزدوج للشيوعيّة ولإطلاق يد السوق، كان متفائلاً بقدرة الحكومات، عبر الإنفاق العامّ والتدخّل التنظيميّ (regulation) على تذليل الأمراض التي تنجم عن الرأسماليّة، والرهان تالياً على عصر غير مسبوق في ثرائه.

وتفاؤله هذا بدا أوضح ما يكون في مقالة شهيرة كتبها عام 1930، في ذروة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وعنونَها «الإمكانات الاقتصاديّة لأجل أحفادنا». فبنبرة شبه خلاصيّة رأى أنّ معظم الأزمات قابل للتذليل، بحيث يحلّ عصر يغدو معه التحدّي الأعظم للكائنات الإنسانيّة: كيف نملأ أوقات فراغنا في ظلّ بحبوحة على نطاق جماهيريّ؟

إبّان الحرب العالميّة الثانية، قاد كاينز الوفد البريطانيّ إلى مؤتمر برِتون وودز، حيث عالجت الدول المتحالفة اقتصادات ما بعد الحرب. وهو، مجدّداً، كان متفائلاً بقيام نظام كونيّ لتنظيم الاقتصاد، مطالباً الدول، خدمةً للتجارة العالميّة، بتأسيس مصرف مركزيّ عالميّ وعملة سمّاها «بانكور». ولئن لم يؤخذ بالاقتراحات هذه، فإنّ اقتراحاته الأخرى أسهمت في تأسيس البنك الدوليّ وصندوق النقد لتشجيع التجارة الدوليّة.

والحال أنّ الكاينزيّة وأفكار «دولة الرفاه» سادت معظم الاقتصادات الغربيّة بين نهاية الحرب العالميّة الثانية وأواسط السبعينات، حين أسقطها ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف، لتباشر النيوليبراليّة، بعد سنوات قليلة، صعودها الريغانيّ والثاتشريّ. لكنْ منذ أزمة 2008، وفي أيّامنا هذه تحديداً، يعاد الاعتبار للكاينزيّة مقروناً بالتساؤل عن صعوبات العودة إليها.

في الأحوال كافّة، فـ«اللورد كاينز»، وعلى عكس ما يُظنّ، لم ينتسب إلى حزب العمّال، بل عُرف بتأييده الحزب الليبراليّ. وهو، وإن غازل لاحقاً تيّارات عمّاليّة، حافظ على مواقف متعجرفة من النقابات، كارهاً كلّ حشد جماهيريّ بوصفه قطيعاً.

فمن عائلة ثريّة جاء كاينز، ودرس في مدارس النخبة وجامعاتها، كإيتون وكمبردج، وعلى مدى حياته ظلّ جزءاً من «الإستابلِشمنت» البريطانيّة. وبوصفه ذا اهتمامات أدبيّة وفنّيّة، ربطته صداقات ببعض ألمع المبدعين، وفي عدادهم فرجينيا ولف، كما انتمى إلى جماعة «بلومزبري» الليبراليّة للكتّاب والفنّانين والمثقّفين، التي قادت الهجوم، في العقدين الأولين من القرن الماضي، على القيم الفيكتوريّة في الجنس والاجتماع.

لكنْ ما بين انتقائيّة أفكاره ومحدوديّة زمنه ومعارفه، ناصرَ كاينز خرافة «علم تحسين النسل» (eugenics)، فكانت هذه شهادة أخرى على المسار المتفاوت للبشر. أوَلسنا جميعنا، في وعينا، متفاوتين؟

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الأحد - 14 رجب 1444 هـ - 05 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16140]

 

إن ربط الفلسفة بالكمال يعني فصلها عن الضّرورة، وبهذا المعنى الذي يوحي به العنوان يمكن أن يُفهم أن الفلسفة لا توجد في المدن على جهة الضرورة بل توجد على جهة الكمال، ومن هنا فلا حاجة بالمدينة للفلسفة. لكن هل يعني هذا أن ما يوجد على جهة الضرورة أفضل مما يوجد على جهة الكمال؟

إذا كان العمران البشري يقوم على ضرورة الغذاء والسعي إليه، وعلى ضرورات أخرى تُبقي النّوع الإنساني، فإن هذه الضرورات لا تصنع حضارة، إذ الحضارة مرتبطة بالصّنائع والعلوم والفنون، لأنها كمالات ترفع الكائن الإنساني من مستوى الضّرورة إلى مستوى يحقق فيه كمالاته الإنسانية الكبرى إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه، فالإنسان هو إنسان بعقله وقلبه وحدسه، وهو إنسان بكلّ الأدوات المعرفية التي وُهبت له بعد أن أخرجه ربه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وهو إنسان بقدراته الفطرية الهائلة الثّاوية قي أعماقه، والتي ميزته عن غيره من كائنات هذا الوجود «فطرة الله التي فطر الناس عليها»، وعند تحقيق الكمالات يتجسّد للموجود الإنساني وجوده الجميل، وينعم بالحياة الطيّبة التي لا تقوم إلا على الأثافي الثلاث: الحقّ والخير والجمال، ومن هنا أهمية الفلسفة، بمعارفها وأدواتها، بل وضرورتها في تحقيق الكمال الإنساني الممكن.

إن الفلسفة لا تنشأ إلا داخل المدينة، فالفلسفة بنت المدينة، وهي لا تنشأ إلا بعد تحقق جملة من الشّروط، فإذا كانت الفلسفة عند اليونان نشأت في مدينة أثينا، فلأن هذه المدينة الدولة، التي تميزت بساحة الأغورا وما ترمز له من نقاشات سياسية ثريّة، عرفت تراثاً فكرياً غنياً متفرقاً تجمّع لها من الحكماء ما قبل «السّقراطيين»، فأتى سقراط ونظر في التّراث الفلسفي السابق وجعل موضوع الفلسفة هو الإنسان، بعد أن كان موضوعها الوجود، ونظر في المفاهيم وفي السبب الغائي، فكان أن اكتشف بذلك قارّة فلسفة الأخلاق. ليتتابع تلميذاه على «صوفيا» فيبلغا بها أسمى ما وصلت إليه الفلسفة في العالم القديم، حتى إن ابن رشد قال عن أفلاطون وأرسطو إنهما منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من كمال عقل. ولولا أرسطو الذي أدخل العقل البشري إلى مجال العقل النظري ما تحرّك قطارُ العلم الذي أوصل الإنسانية اليوم إلى ما وصلت إليه.

وقد وعت المدينة الإسلامية هذا الدّرس، فأسّس المامون «بيت الحكمة»، ونقل إلى اللغة العربية، بخاصة، تراث أفلاطون وأرسطو، فانتقل العرب من العبارة الشّعرية إلى العبارة الفلسفية، وأصبحت الفلسفة، عموما، جزءاً من التّعليم النّظري عند المسلمين حتى وجدنا الغزالي يعتبر العاطل من علم المنطق ممن لا يوثق بعلمه، واختلطت الفلسفة بعلوم الشريعة، وحُقَّ للمسلمين أن يعتبروا أنفسهم أمّة فلسفية، خاصة أن تراثهم الفلسفي أسهم في نهضة الغرب كما يُصرّح بذلك أهله. وقد أسهم ابن رشد، الفقيه الفيلسوف، بمختصراته وجوامعه وتلاخيصه وشروحه، في هذا الأمر الجلل إسهاماً كبيراً كان لتلامذته من الرشديين اللاتين الدور الأكبر في التعريف به وإشاعته بين قومهم، وإن كان الأمر قد تمّ في سياق من تنازع وجدال وتدافع.

نعم، إن الفلسفة توجد في المدينة على جهة الكمال، لكن ما يوجد على جهة الكمال أفضل مما يوجد على جهة الضرورة.

*** 

د. إبراهيم بورشاشن

مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

16عن صحيفة الاتحاد الامارتية، ليوم: 16 ديسمبر 2022

كان يرى أن جميع الطرق تؤدي إلى ذواتنا

لعل أبرز هؤلاء الكتّاب والفلاسفة الذين لم يعيشوا العزلة فحسب، بل نظروا لها، الفيلسوف الروماني الأصل، الفرنسي الجنسية، إيميل سيوران. ولو جرّبنا أن نقرأ هذا الفيلسوف بعناية، نجد أن جل أعماله تدور حول عزلة الإنسان. جان بول سارتر قال بعبارة شعبية: «الآخرون هم الجحيم». ولكن حالة سيوران تختلف، فهو يعطي العزلة تقديساً من نوع آخر، بل إنه تحدث كثيراً عن كون الإنسان في نهاية المطاف كائناً منعزلاً. والعزلة التي يقصدها سيوران هي صُنع العزلة من خلال الإبداع الخلاّق.

اكتشف سيوران الفراغ في الحياة اليومية وغرف الفنادق في باريس منذ عام 1937، مما دفع الفيلسوف في صيف عام 1946 إلى اتخاذ قرار حاسم، وهو: عدم الكتابة إلا باللغة الفرنسية، والتخلي عن أعماله التي كتبها بلغته الأصلية الرومانية. إلا أن مكتبة جاك دوسيه الأدبية في باريس قررت الاحتفاظ بها، لتكون أرشيفاً توثيقياً، في عام 1949. وقام نيكولاس كافيليس، محرر أعمال سيوران الكاملة في سلسلة «غاليمار» الشهيرة «لابلياد»، بترجمتها ونشرها في عملين، هما: «نافذة على العدم» و«المتناقضات»، في أواخر 2019. وهما يمثلان سيوران الشاب، حيثُ نرى فيهما احتفاءً بما نطلق عليه التجربة والخطأ. ولم يكتمل البحث الفلسفي العميق عند سيوران في هذين الكتابين. وقد أكّد فيهما على حقيقة أن «كل واحد منا يمكن أن يغرق في هاجسه الذاتي من الفجر حتى منتصف الليل، حتى يتجاوز نفسه ووعيه، وهو في مواجهة السعي لحّل الألغاز والأسرار التي تكتنف الشمس والأرض والسماء، إنها تأخذنا إلى عزلة النجوم أو عزلة الخرف أو اضطراب الذاكرة. ومهما يكن الاتجاه الفكري أو الفلسفي الذي يتبناه المرء، فإن جميع الطرق تؤدي إلى ذواتنا، كما لو أن هذه الذات هي روما في التاريخ».

ومن خلال الأمثال والاستطرادات التي يوردها الفيلسوف سيوران في كتابيه، نتعرف على الفيلسوف الذي يجنح نحو الغنائية المتخيلة، معتبراً أن الالتزام بالذات الفردية شكل من أشكال مركز الجاذبية، التي تفضي إلى الذاتية الموضوعية في نهاية المطاف. ويبرر سيوران كتابته هذه بأنها عفوية صادقة بعيدة عن النمطية الجاهزة؛ إنها نوع من أنواع القناع والهروب، وزعزعة الاستقرار على تفكير أحادي. ويقول سيوران في كتابه «المتناقضات»: «عندما أنظر إلى العيون والسماء والأزهار، فإنني أرى أن انسجام الكون مثل سوناته شعرية لا يمكن فك ألغازها وأسرارها وشيفرتها». ويضيف في لحظة تساؤل: «إن العالم المتقدم لم يتعرض للانهيار حتى الآن، ونحن فقدنا حساسيتنا إزاء السخرية». ومن خلال كتابه الثاني «نافذة على العدم»، يظهر سيوران المحب العاشق: «لقد عرفت النساء اللواتي لا يملكن الفخامة بالضرورة». وعند قراءة سيوران الشاب، يظهر التجلي الحاد للذات التي تكشفها رسائله. وفي الحقيقة، إن القارئ ليشعر في أثناء قراءة هذين الكتابين بأنه أقل عزلة مع سيوران.

وتتجلى عزلة الكتابة عند سيوران بطريقة فريدة من نوعها، وهي تنفتح على عناصر الشعور، والإحساس، والهوس، والصورة، والرمز، والفكرة، والمفهوم... إنها نوع من الاستبصار عبر الوجود والوعي. العزلة مع الذات، والإحساس بها إزاء الآخرين والأشياء. وتتجلى قوة الاستقلالية بأسمى صورها، ساعية إلى معالجة المحن التي يواجهها الإنسان المعاصر. وهذا الشعور بالعزلة غير قابل للذوبان أو الزوال، بل ينفتح على ذروة داخلية مأساوية ذات أبعاد كونية، وهي فلسفة الانفصال عن الآخرين، والصفاء مع الذات. ويتفق سيوران مع بيكيت في أن مارسيل بروست هو أول كاتب جعل «الفن يقدّس العزلة». ولعل هذه العزلة تجعل سيوران يبحث في تصوره عن الصداقة والآخرين، ومواجهة العزلة بأفكار أخرى، مثل استجواب كل من كيركغارد وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وهايدغر، وإلقاء الضوء على أفكارهم في العزلة.

كيف نفهم عزلة الكاتب وأفعاله؟ وهل يتجاوز الكاتب هذه العزلة ليبحر في عزلة أكثر حدة؟ لا تزال جملة سيوران الشاب حاضرة: «على الإنسان أن يتعوّد على أن يكون بمفرده أكثر مما يتعوّد على الاختلاط بالآخرين»، وهذا هو جوهر فكرة سيوران عن العزلة. إنها بالأحرى التأملات التي تثيرها العزلة، وتلقي بظلالها على فضاءات فلسفية، وأدبية، وشعرية، ولغوية، ونفسية، وتاريخية. وتُجبرنا هذه العزلة على إدراك حدودنا، وماهية الموت الذي ينتظرنا، لأن الموت يحوّل الحياة إلى سؤال، وقلق، ومعنى. والروح تختنق في الجسد لأنه صغير جداً، ولا يقدر على استيعابها، كما يؤكد سيوران. ومن هنا يفرض القيد الزماني والمكاني شروطه على جوهر دراما الإنسان.

يكتب سيوران أن الإنسان لا يمكن أن يوجد إلا في الأنا، من خلال تأمل الفراغ الذي يقوده إلى أن يعيش كبرياء العزلة حتى النهاية، إذ لا يوجد أمام الإنسان سوى التفكير فيما يتعلق بذاته، فالحياة تجربة مؤلمة، لكنها الوحيدة التي تضع الكائن الإنساني في مواجه الإله. الهواجس هي شياطين عالم بلا إيمان، ولا يمكن إخفاء معاناة الإنسان إلا من خلال السخرية فقط. عندما تكون بمفردك، فإنك غير محدود، بل مُطلق. وبمجرد أن يدخل إنسان آخر في حياتك، فأنت تواجه حدوداً، وسرعان ما يحل العدم. لذا يجب الاتكاء على الذات، وليس على الآخرين. عندما أفكر بالعزلة، كما يقول سيوران، ترتسم صورة الصحراء في ذهني تلقائياً، فقد ظل القديس أنطونيوس منفصلاً عن العالم طيلة عشرين عاماً لكي يتأمل ويكتب. هل يمكن أن نتحمل هذه العزلة من دون مساعدة الإيمان؟ سؤال يطرحه سيوران: ليس أمام الإنسان سوى الشك أو الصحراء، ولا يمكن له أن يعيشهما معاً وفي آن واحد.

ما معنى المنفى في نظره؟ إنها لحظات العزلة القصوى. وسيوران لم يبدع أعماله الفلسفية المتميّزة إلا في صلب العزلة، حتى تحوّل إلى ناسك باريس. والمكان المناسب لتجربة العزلة في نظره هو «الجزيرة» و«الصحراء». فالعودة إلى الذات، تجعل الإنسان يخلقُ عزلة الذاتية لنفسه. وهو لا يعني أن يبقى محبوساً، لأنه يحب الشارع والحوار مع يوجين يونيسكو وهنري ميشو وصموئيل بيكيت، ولا يغفل حضور المؤتمرات والحفلات الموسيقية والمسارح، وهو يقول بهذا الصدد: «إنا مؤنس - ضد نفسي، عن طريق العقاب الذاتي»، والليل يثير في نفسه «روح التناقض»، حساسيته شبيهة بروحية الرومانسيين، روح قلقة تنجذب إلى «العزلة المطلقة». يقول سيوران أيضاً إنه «رومانسي متخلّف أنقذته السخرية». وهو مع بودلير، يعدُ نفسه «الغريب» بين البشر، وهو يعيش هوس الوقت: «الزمن يحفظني»، ويقول: «الشيخوخة هي اندحاري الوحيد». ويفترض سيوران أن ثمن المعاناة هي وجود الآخر، لكن فعل الكتابة يخفف من هذه الوطأة. لذا ثمة علاقة بين العزلة الفردية والعزلة الكونية، وهما يؤديان إلى العزلة الإبداعية، والتجربة الجمالية، وعظمة الروح.

اختفى سيوران في يونيو (حزيران) 1995، وتوّج القول المأثور، حيث ولد فقيراً وتوفي فقيراً، وكان يزدري المجد والشهرة. على أي حال، اشتهر سيوران بمديح العزلة، وتأثر بنيتشه والموسيقى. ونصوصه في عام 1931 كانت أكثر تشاؤمية، وامتدت إلى أعماله اللاحقة. وكان سيوران في العشرين من عمره، عندما نشر مقالاته في الصحف الرومانية، وكان مغرماً كبيراً بالفلاسفة الألمان، وهو القائل: «لا يمكنني الحديث عن الرأسمالية دون ذكر الموت». وجمل سيوران وعباراته مؤثرة، تشبه إلى حد ما قصائد الهايكو، في تكثيفها واختزالها للمشاعر والأحاسيس. وقد قال في عام 1934: «إننا لا يمكن أن نحقق السعادة لو استأثرنا بأنفسنا، فالتعاسة خطيئة ضد الحياة، لكنها تعبّر عن أعماقنا، إذ لا مصير إلا في إدراك مصيبتنا». وقد ثار سيوران ضد الذين قاموا بطرد زميله ومواطنه الفيلسوف ميرسيا إلياد من الجامعة عام 1937، لكنه لا يحمل الكراهية في أعماقه، وظل يحتفل بالمناظر البافارية وموسيقى موزارت وأحاديث عن غريتا غاربو. ونصوصه في العزلة ثمينة للغاية لأنها تجسّد وجوه سيوران المتنوعة؛ ذوقه للمفارقة، ورومانسيته الكئيبة، وكراهته للآيديولوجيات والأفكار الجاهزة وطائفته، ويقف بكل سخرية فولتيرية وجهاً لوجه ضد الأبدية، ويتساءل: كيف يمكن أن يعيش بعض الناس غير مبالين في هذا العالم؟ وكيف يمكن أن توجد قلوب لا تحترق بالألم والمعاناة؟.

***

شاكر نوري - دبي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الثلاثاء - 13 شهر رمضان 1441 هـ - 05 مايو 2020 مـ رقم العدد [ 15134]

 

لا يُمكن فصل إشكاليات الحاضر العربي عن إشكاليات ماضيه. فبقدر ما الواقع/ الراهن يَحْكم بضروراته على مُجْمَلِ الخيارات المُعَبِّرة عن إرادة عامة؛ فالذاكرة التاريخية تَحْكم أيضا، وربما بما هو أشدّ إلزاماً من الواقع وضروراته القصوى. وما تأزّمَ الواقعُ العربيُّ منذ بدايات الاشتباك السياسي والثقافي مع الحضارة المعاصرة التي فرضت تحدّياتها في سياق خيارات مصيرية؛ إلا لأن الذاكرة التاريخية ظلت تُعانِد من جهة، وتعجز ـ بطبيعة مُكوّناتها ـ عن فهم هذا الواقع؛ من جهة أخرى.

إذن، الذاكرة العربية/ الإسلامية مصدر التأزم الراهن؛ كما هي مبدأ اجتراح الحلول الممكنة. لا خطوة واثقة، لا خطوة مُجْدِية بحق، تبدأ من فراغ. فكيف إذا لم يكن ثمة فراغ؛ إلا فراغا مملوءا بما هو أسوأ من الفراغ. والأسوأ هنا يتمثّل في فوضى الذاكرة وعبثيتها واضطرابها وامتلائها بالمتناقضات، بل واللاَّمعقول/ الخرافيات. ومن ثم عُقْمُها وعَجْزُها عن الإسهام في اجتراح الحلول، فضلا عن سدِّها منافذ التواصل/ المُثَاقفة بما تطرحه من أوهام الاكتفاء الذاتي.

الغريب أن الوقائع السياسية في التاريخ العربي/ الإسلامي، وعلى ضخامتها، لم تُنْتِج نظرية سياسيا توازيها أو حتى تقاربها. فمع أن الإسلام يُشَكِّل أكبرَ "واقعة سياسية" للعرب (وهذا لا ينفي الواقعة الدينية له بالطبع) إلا أنهم لم يُنْتجوا من خلاله نظرية سياسية واحدة متماسكة؛ على الرغم من تتابع تأسيس الإمبراطوريات الواسعة التي كانت تتطلب نظرية سياسية ما؛ وعلى الرغم أيضا من استدماج كثير من الشعوب المتحضرة ذات الإرث السياسي الممتد لقرون قبل الإسلام.

لماذا لم يَنتج عن هذه الوقائع الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، وعن هذا الاشتباك الاجتماعي والثقافي الواسع عبر التاريخ العربي/ الإسلامي الطويل، نظرية سياسية في الإسلام؟ وبالتقابل المُقارِن: لماذا أنتج الغربُ منذ أيام المدن اليونانية، ومرورا بالقرون الوسطى، إلى فجر العصور الحديثة ـ ولا يزال يُنتج ـ تنظيرات سياسية بالغة الحيوية في اشتباكها الجدلي مع الواقع من جهة، ومع المرجعيات النظرية الأخرى، من جهة أخرى؟

لا شك أن الأسباب كثيرة، بعضها مَحَلّ اتفاق، والآخر مَحَلُّ اختلاف. ولكن، في تصوري الخاص، فإن نشوء الواقعة السياسة في الفضاء الإسلامي الأول كظاهرة دينية (= ما قبل سياسية) جعل المحاولات اللاَّحقة أسيرة لها، بحيث لا تستطيع تجاوزها بالنقد؛ لاكتسابها مرجعية قُدْسِيّة في الوعي الإسلامي العام.

كان يُفْترض أن تبدأ السياسية في الإسلام ـ كسياسة أولا ـ بمجرد وفاة نبي الإسلام، أي بمجرد غياب المرجعية الما ورائية، المرجعية القائمة على العصمة الإلهية المتعالية على الأرضي/ الواقعي (= على السياسي المحض)؛ رغم مُحَايَثتها له. هذا هو المفترض. ولكن، ما حدث كان مجرد امتداد لأعراف وتقاليد ما قبل الإسلام، كان اشتغالا عربيا محضا بالأساس؛ حتى في اللحظات التي صرّح بها الفاعلون السياسيون عن ارتباط الإجراء الواقعي بالدين.

بدأت أيام السياسة الأولى في الإسلام باجتماع "السقيفة" يوم وفاة النبي، وكانت المبادرة السياسة نِزَاعا قَبَليا/ مناطقيا، مُفَرَّغا من كل مبدأ سياسي، كما هو مُفَرَّغ من الديني، رغم الحديث كان يجري باسم الدين أو لغاية الدين. كان الاجتماع، ومُتَتالياته، مسار رُدُودِ أفعال متلاحقة لا تتصل بخيط نظري ناظم، لا عند الأنصار (= الأوس والخزرج: الجيش الإسلامي الأول)، ولا عند المهاجرين (= القرشيين بالذات) الذين كسبوا الجولة الأولى بالتفافة أرستقراطية بارعة، ومن بعدها سيطروا على الملعب السلطوي بالكامل لأكثر من ستة قرون.

وكانت النظرية المقابلة لاجتماع السقيفة (= نظرية الوصية) دينية خالصة تتعالى ـ مبدئيا ـ على السياسة ومعادلاتها في الواقع. أي أنها في النهاية لم تكن نظرية في السياسية؛ بقدر ما كانت نظرية في الدين؛ رغم دافعها السياسي الواضح.

على أي حال، تكاثرت الفرق الإسلامي لاحقا، والتي كان منشؤها معارضة سياسية لاحتكار السلطة بالكامل من قبل الأرستقراطية القرشية وحلفائها (حلفاء ما قبل الإسلام). وكما هو متوقع، فقد كان القادة الفكريون لهذه الفرق المعارضة يطرحون تصوراتهم السياسية التي تتوسل المبدأ الديني، محاولين اجتراح نظرية سياسية ذات بعد ديني، تخدم حراكهم السياسي على أرض الواقع. ولكن أيا منهم لم يطرح رؤية سياسية تتوفر على الحد الأدنى من التماسك والشمول، بدءاً بِمُبَرِّرات السلطة/ الدولة، وانتهاء بتفاصيل الأداء السلطوي، مرورا بالشروط الدستورية التي تتعلق بالحاكم، وكل التفاصيل في هذا المجال.

أعرف أن كثيرين هنا سيتقدمون بما طرحه بعض كبار متكلمي الإسلام وكبار فقهائه في هذا الشأن، بوصفه تنظيرا سياسيا. والحقيقة أن ما طرحه هؤلاء؛ إما أنه مجرد رؤى عابرة متناثرة تفتقر للحد الأدنى من التنظير، أو هو تنظير متماسك نظريا إلى حد ما، ولكنه مجرد تعقيب على الواقع؛ لا لنقده على حدود الاستواء النظري المفترض، وإنما لتبريره وتسويقه، فالمتكلم أو الفقيه إنما هو في النهاية يقوم بدور المتحدث الرسمي باسم السلطات القائمة آنذاك، وهي السلطات المتقلبة المتحوّلة ذات المشروعيات المُتَعدِّدة، والتي يستحيل ـ جرّاء ذلك التحول والتعدد ـ أن تكون "التبريرات" لها مُتّسقة نظريا، كما يستحيل البناء على تراكمها عبر التاريخ للخروج بنظرية سياسة جامعة للمجتمع الإسلامي.

في التراث الغربي، كان هناك التنظير السياسي المرتبط بالواقع، أي التنظير على ضوء الواقع؛ كما كان هناك ـ بالتوازي معه، أو بمحايثته ـ تنظير متجاوز للواقع، قد يكون حالما، بل وقد يكون خياليا، ولكنه في النهاية يُعبِّر تطلّع وإرادة تطوّر، كما يُعَبِّر ـ وهو الأهم ـ عن نقد ضمني للسياسية السائدة في بُعْديها: النظري والعملي. وهذا ما لم يكن موجودا في التراث الإسلامي؛ إلا كالفُتَات المتناثر على ضِفاف هذا التراث، كما هو الحال عند متفلسفة الإسلام الذين ظلوا خارج نطاق الوعي الجمعي الإسلامي الذي هَيْمنَ عليه الفقيه الديني، فكانوا ـ أي الفلاسفة ـ مجرد هوامش منبوذة، لا تُؤثِّر على المسار الفكري العام، فضلا عن أن تُؤَثِّر في مُجْرَيَات الحدث الواقعي.

لهذا، ليس غريبا أن يكون التنظير السياسي الإسلامي الرائج في المدونات التراثية، هو التنظير المُعَبِّر عن الفراغ النظري، أقصد: الآداب السلطانية (بما فيها "المقدمة الخلدونية" التي تدّعي ـ بادعاء مزيف ـ تجاوز هذه الآداب) التي كانت شَرْعَنَة للتشوّهات العميقة في تاريخ الإسلام السياسي. وليس مصادفة أن يكون مؤلفو هذه "الآداب السلطانية" "فقهاء" بالدرجة الأولى، أو متقاطعون أصالة مع الخط الفقهي التقليدي العام.

أخيرا، ماذا يعني غياب النظرية السياسية الإسلامية على امتداد تاريخ الإسلام؟ يعني أن الرابط الوحيد الذي كان قادرا على التنظيم والتوحيد الأممي في تصور العرب/ المسلمين هو رابط الإمبراطورية الكبرى الجامعة، أي أن الرابط واقعي قسري. وبالتالي، عندما يزول هذا الرابط؛ يطفح على السطح شعورٌ عام باليتم والضياع، ومن ثم التيه النظري الذي يقف أمام المستقبل عاجزا، مقهورا بعجزه. هذا ما حدث بعد سقوط الإمبراطورية العباسية (السقوط الكلي لواقع المشروعية عام 656هـ، وليس السقوط الأول المتمثل في تفكك السلطة الواقعية 247هـ)، وأيضا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن العشرين. فالعرب/ المسلمون كانوا ـ ولا يزالون ـ حائرين، لا يعلمون حقيقة ما يريدون. وعندما يُحاولون البحث في هذا المجال فإنهم لا يُنتجون إلا مضغ كلام في كلام؛ لعجزهم عن البدء من حيث كانت البدايات الأولى.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم 09 يناير 2023

 

عندما كانَ علماءُ الأنثروبولوجيا وفلاسفة الدين يشتغلون على الفروق بين الدين والثقافة؛ كانوا يحسبون شأنَ مارسيل غوشيه أنَّ الأوروبيين خرجوا من الدين ولم يخرجوا عليه. وأنّ الذهاب باتجاه الثقافة بعد مغادرة الحرام الديني يسهِّل عمليات التغيير إلى حدٍ كبير.

وما كان في الحساب أنّ بعض العادات والأعراف والانطباعات العامة الداخلة في الثقافة تتحول إلى ما يشبه الدين؛ وهذا أمرٌ مختلفٌ عن تحول «التديُّن» إلى دينٍ وإن يكن بين الاثنين نسبٌ وسبب. مناسبة هذا الحديث ما تكرر على ألسنة كثيرٍ من المتحدثين في الآونة الأخيرة عن سوء العلاقة القديمة بين الدين والدولة في الإسلام الأول والكلاسيكي. وهم يحتجون لذلك بأثر نبوي: «تكون الخلافة ثلاثين عاماً ثم يكون مُلْكٌ عَضوض»! وقد استمر هذا التصور وتعقْد حتى صار اعتقاداً شبهَ يقيني، ودعمه مستشرقون كثرٌ في الأزمنة الحديثة، ثم صار يقيناً لدى الصحويين والأصوليين. فكانت النتيجة هذه الحملة الشعواء على الدولة الوطنية والغزو الثقافي الغربي، شأن ما كان للدثائر اليونانية والإيرانية من تأثيرٍ كبير على تقاليد ودواوين الدولتين الأموية والعباسية. لقد تبيَّن لي (وقد عملتُ في أطروحتي على بعض الثوار على الأمويين) أنّ الأمويين ما كانوا أقلّ التزاماً بالإسلام من خصومهم. فهم ما كانوا من أهل السابقة ولا من أهل قرابة النبي، ولذلك فقد استندوا إلى الإسلام بعامة، واشتغلوا على بناء إمبراطورية بالفتوحات والجهاد. فما كان الأمويون قليلي الدين.

وعندما استولى العباسيون ما تغير هذا الأمر، وبخاصة أنهم كانوا من سلالة العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وسلم). نوعان من أنواع الشرعية: شرعية التأسيس وشرعية المصالح. وتقوم شرعية التأسيس على الوحدات الثلاث: وحدة الدين والدار والسلطة. أما المصالح فالمعنى بها حسن إدارة الشأن العام في ظل قيم وممارسات العدالة. ومشروع الدولة هو مشروع العلماء أيضاً، ولذلك فهم لا يتصارعون مع السلطات، والاختلاف مع السلطة القائمة من جانب سائر الفئات يدخل في نطاق المصالح التي لا يشكل الخلاف حولها خطراً على الدولة، وينتهي بالمصالحة حتى لو كان نزاعاً مسلَّحاً. هو تاريخ قديم وما كان العلماء كما يصورهم الأصوليون اليوم إما ثواراً أو عبيداً للسلطان. لكنّ الانطباع عن وقوف السلطات في وجه الدين استمر عبر العصور، وعاد مسلَّمة قوية في الأزمنة الحديثة؛ حيث شيطن الصحويون الدولة الوطنية (المتغربة) مثلما فعل الثوار الراديكاليون مع خصومهم في إدارة الدولة قديماً. ما مآل هذا كلّه؟ لا يقتصر الأمر على تصحيح الصورة التاريخية للعلاقة بين الدين والدولة؛ وهذا أمر خطير على كل حال. بل ضرورة التحول ضمن رؤية أُخرى للعالم من التأريخ العقدي إلى التاريخ الثقافي. ومقتضى ذلك الانفتاح من جهة البدايات على واقع دخول العناصر البيزنطية والفارسية واليونانية والسريانية على التاريخ والحضارة، ووجود التيارات الفكرية المتجددة والمتواشجة في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية. إنّ وقائع الضيق والانكماش التي أفضت إلى التشدد المشهود في الأزمنة الحديثة، هي أساس فكرة انحطاط الألف عام، وأساس فكرة العصور الوسطى الإسلامية المماثلة في ظلامها للعصور الوسطى الأوروبية.

وهكذا فإنه كما خرج الأوروبيون من العصور الوسطى، ينبغي أن يخرج المسلمون بالأسلوب نفسه من عصورهم الوسطى! والمقصود بالأسلوب الفصل بين الدين والدولة، باعتبار هذا عائقاً دون التقدم. وهذا ما طالب به فرح أنطون الشيخ محمد عبده في مطلع القرن العشرين. وقد أجابه محمد عبده أنَّ الحكمَ في الإسلام مدني، بمعنى أنَّ الدولة لا تُحكَمُ بالدين، فلا حاجة للتصارع بينهما على السلطة! بيد أنّ هذا هو ما وقع في النصف الثاني من القرن العشرين عندما ظهرت أفكار النظام الكامل والحاكمية.

في حين ظلّ التحديثيون أجانب وعرباً يتابعون دراسات الانحطاط، ويقترحون الأساليب للخروج منه ومن ضمنها نفي الموروث أو الخلاص منه. وهذه الفكرة نفسها عن الانحطاط (إنما بسبب الابتعاد عن الدين الحنيف) ظهرت لدى الإسلامويين والصحويين، الذين كافحوا الغزو الثقافي الغربي، وأرادوا التشبث بالأصالة في مواجهة كل دخيل! وقد كانت لذلك آثار سلبية على الدولة الوطنية، في تجربتها الأولى والثانية.

إنَّ من فوائد انتهاج سبيل التاريخ الثقافي ظهور استمرارية الحضارة وتعدد تياراتها التي ما كانت بينها قطيعة، وإن لم يكن الوفاق التام سائداً بين اتجاهاتها، وإنما كانت الثقافة الإسلامية بمثابة الشبكة الضخمة لجهتي الذاتية والترابط. وقد ازدهرت في النهاية حضارة عظيمة ما داخلها الانحطاط كما يزعم هذا الطرف أو ذاك، وإنما قهرها الغزو بعد القرن الثامن عشر. وهناك جدلٌ عظيمٌ اليوم بشأن الدولة الوطنية وتجربتها تتجدَّد في عددٍ من الدول العربية؛ لكنّ دعاة القطيعة من الشرق والغرب بعضهم يبحث عن الفرادة والتفرد، والبعض الآخر يبحث عن الأصالة والعراقة والقدسية! ويردُّ على هؤلاء مثقفون عرب كبار يريدون القطيعة مع الموروث الإسلامي مثلما يريد الصحويون استهداف الثقافة الغربية. وبالطبع فإنه بعد العنف الهائل فالانحدار الهائل في التوقعات؛ فإنّ هذه التأملات المتناقضة صارت كلاماً نظرياً، وقد كُتبت عشرات الألوف من الصفحات عن النظام الكامل من جهة، وعن القطيعة من جهة أُخرى.

لكنْ يبقى لها تأثير بالطبع في الفكرة السائدة عن الخصومة المستمرة بين الدين والدولة منذ القديم. في حين يريدها المثقفون العرب علمانية صافية لا تنتهي نصاعتها! وفي حين يختار الصحويون والجهاديون من النصوص والوقائع التاريخية ما يعتبرونه دالاً على النظام الكامل؛ فإنّ تصويت الإسلاميين أو عدم تصويتهم غير ذي معنى ما دامت «العقدنة» مستمرة ولا إصغاء لآمال الناس وتوقعاتهم.

لسنا محتاجين إلى أن يكون النظام السياسي عقيدة حتى يمكن الحفاظ عليه. يكفي ما نرى في العالم اليوم من صراعاتٍ على الدولة لكي نخاف عليها بدلاً من الخوف منها. وقد كان ديدني دائماً القول؛ لا بد من استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع العالم!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، ليوم: الجمعة - 6 جمادى الآخرة 1444 هـ - 30 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16103]

بقلم: أ / سايمون كريتشلي

ترجمة: عبدالله المطيري

مراجعة: محمد العمودي

***

?What Is a Philosopher

Simon Critchley

للفلسفة تعريفات بعدد الفلاسفة وربما أكثر. فبعد ثلاثة آلاف سنة من النشاط والاختلاف الفلسفي فإنه من غير المحتمل أن نصل إلى إجماع حول تعريف الفلسفة وليس لدي الرغبة في إضافة المزيد من الهواء الحار للسحابة البركانية الناتجة عن عدم المعرفة المحيطة بتعريف الفلسفة. ما أود أن أقوم به في هذه المقالة الافتتاحية في هذا المشروع الجديد، ذا ستون، هو أن أفتتح النقاش بطرح سؤالٍ مختلفٍ قليلا: ما الفيلسوف؟

وكما قال ألفرد نورث وايتهد من قبل فإن الفلسفة هي سلسلة من الهوامش على أفلاطون ولعلّي أن أغامر بإضافة هامشٍ جديدٍ من خلال إلقاء نظرة على تعريف أفلاطون للفيلسوف الذي ظهر في منتصف محاورته ثياتيتوس Theaetetus في فقرة يعدّها بعضُ الباحثين “استطرادًا” ولكن، وبعيدًا عن كونها مجرد هامش على استطراد أعتقد أن هذه اللحظة عند أفلاطون تخبرنا عن أمر مهم جدًا عن ما لفيلسوف وعما تفعله الفلسفة.

يحكي سقراط حكاية عن طاليس الذي يعدّ في بعض المنظورات الفيلسوف الأول. كان طاليس منغمسًا في النظر إلى النجوم في السماء مما أدى به إلى الوقوع في بئرٍ لم ينتبه لها وهو ما دفع بإحدى العاملات الظريفات إلى السخرية منه على اعتبار أنه كان شديد الحرص على معرفة ما يجري في السماء دون علمه بما يجري أمامه وتحت قدميه. يضيف سقراط بحسب ترجمة سيث بينارديتي Seth Benardete “أن ذات السخرية تنطبق على كل من يشتغلون بالفلسفة.”

ما الفيلسوف إذن؟ الإجابة واضحة: أضحوكة، مهرّج شارد الذهن، موضعُ عددٍ لا يحصى من النكت من مسرحية أرستوفينيس Aristophanes السحب إلى كتاب ميل بروكس Mel Brooks  تاريخ العالم الجزء الأول. حين يضطر الفيلسوف إلى الحديث عما حول قدميه فإنه سيصبح محلّ سخرية الجميع وليس فقط تلك الفتاة من ثراسيا. جهل الفيلسوف بالشؤون اليومية يجعله يبدو غبيا وربما “يعطي الانطباع بسخافته الخالصة”. وبهذا نبقى مع تعريف مسرحية مونتي فايثونيسك Monty Pythonesque للفيلسوف بأنه الأبله.

ولكن، وكما هو الحال عادة مع أفلاطون، فليست بالضرورة أن تبدو الأمور على ما هي عليه من الوهلة الأولى ولا ننسى أن سقراط هو أعظم الساخرين. كما يجب أولا أن نتذكّر أولًا أن طاليس اعتقد بأن الماء هو الجوهر الكوني الذي تتكون منه كل الأشياء وأنه يمثل “حجر الفلاسفة” إن صحت العبارة. وبالتالي فإن سقوطه في البئر قد أكّد بدون قصد أطروحته الفلسفية الأساسية.

ولكن هناك طبقة أعمق وأكثر إشكالية من السخرية أود أن أنزعها هنا ببطء. افتتح سقراط “الاستطراد” الذي تحدثنا عنه أعلاه بالتفريق بين الفيلسوف والمحامي أو ما اعتبره بينارديتي “محامي القضايا التافهة”. يضطر المحامي لعرض قضيته في المحكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الوقت جوهري هنا ففي الإجراءات القانونية الإغريقية هناك وقت محدد متاح لعرض القضايا يتم قياسه بساعة مائية أو celpsydra تسرق الوقت حرفيا كما في المعجم اليوناني، السارق أو المختلس. إن محامي القضايا التافهة وهيئة المحلّفين وبالتالي المجتمع كله يعيش داخل ضغط زمنيّ مستمر بينما ينهمر ماء الزمن بشكل مستمر مهددًا بإغراقهم.

وعلى الضد من ذلك يمكننا القول بأن الفيلسوف هو الذي يملك الزمن أو أنه ذلك الذي لا يكون على عجلة من أمره. وقد قدّم ثيدورس Theodorus ، مُحاور سقراط، “الاستطراد” بهذه الكلمات “ألسنا في وقت استرخاء يا سقراط؟” وقد علّق سقراط بقوله المثير للاهتمام: “يظهر لي أننا فعلا كذلك.” وكما هو معلوم في الفلسفة فإن المظاهر قد تكون مخادعة ولكن التضاد الأساسي هنا هو بين المحامي المستعجل الذي لا يملك وقتا أو من يمثّل الوقت بالنسبة له مالًا time is money وبين الفيلسوف الذي يأخذ وقته دون عجلة. تكمن حرية الفيلسوف إما في الانتقال بحريّة من موضوع إلى آخر أو ببساطة في إمضاء سنين من العودة إلى نفس الموضوع بسبب الحيرة أو الافتتان أو الفضول.

وإذا دفعنا أكثر باتجاه هذا التفكير فإنه يمكن القول بأن التفلسف يعني أن تأخذ وقتك الكافي حتى حين لا تملك وقتًا وحتى حين يضغط عليك الوقت بشكل متزايد. يمكن القول إن قرّاء النيويورك تايمز المشغولين سيتفّهمون بالتأكيد هذه النزعة وأملنا أن يمنح بعضهم من وقته لقراءة ذا ستون وكما قال فتقنشتاين “بهذا الشكل يجب أن يُحيّي الفلاسفة بعضهم: خذ وقتك.” بالفعل، قد تدرك شيئًا عن طبيعة الحوار الفلسفي لو اعترفت أن اهتمامي قد انصبّ مؤخرًا على هذه الفقرة من محاورة ثياتيتوس Theaetetus في حوار كان للمتعة مع أحد طلاب الدكتوراه في جامعة نيو سكول New School، تشارلز سنايدر Charles Snyder.

يقول سقراط عن أولئك الذين يعملون في أجواء ضغط عمل مستمر مثل المحامين والمشرّعين وسماسرة الرهن العقاري ومدراء صناديق الاحتياط أنهم يصبحون “محدّبين ومحدودي النموّ ومجبرين على القيام بـأعمال ملتوية.” محامي القضايا التافهة ناجح بالتأكيد فهو ثري ومعسول اللسان بشكل استثنائي ولكنه كما يضيف سقراط “صغير في روحه وداهية ومخادع.” في المقابل فإن الفيلسوف حرّ بفعل انشغاله بعالم آخر غير العالم المباشر وبقدرته على السقوط في البئر والظهور بمظهر السخيف.

يضيف سقراط بأن الفيلسوف لا يرى ولا يسمع ما يُسمى بالقوانين غير المكتوبة للمدينة أي التقاليد والأعراف التي تحكم الحياة العامة. كما لا يعترف الفيلسوف بالتراتبية والامتيازات المتوارثة وهو في ذات الآن غير واعٍ بأي أصلٍ راقي أو متدني للناس كما أنه لا يخطر على بال الفيلسوف الانضمام لأي حزب سياسي أو جماعة خاصّة. ويضيف سقراط بأن جسد الفيلسوف وحده هو ما يسكن ضمن أسوار المدينة. أما فكره فهو في كل مكان.

يبدو كل هذا الكلام حالما لكنه في حقيقته ليس كذلك إذ يجب على الفلسفة أن ترافق تحذير الصحة المكتوب على علب السجائر الأوروبية: الفلسفة قاتلة، هنا نقترب من السخرية العميقة في كلمات أفلاطون. كُتبت حوارات أفلاطون بعد موت سقراط، وقد أُتهم سقراط فيها بعدم احترام آلهة المدينة وإفساد شباب أثينا وكان عليه الحديث في المحكمة للرد على تلك التهم والحديث ضد الساعة المائيّة السارقة للوقت، غير أن الوقت سرقه فعانى من النتائج بعد أن حُكم عليه بالموت وتجرّع السمّ بنفسه.

بعد عدة أجيال وخلال الانتفاضات ضد الحكم المقدوني التي تلت وفاة الاسكندر الأكبر سنة ٣٢٣ قبل الميلاد، هرب معلّم الاسكندر السابق أرسطو من أثينا قائلا “لن أسمح للأثينيين بارتكاب الخطيئة مرتين في حق الفلسفة.” ومن الأغريق القدماء إلى برونو واسبينوزا وهيوم وصولا إلى القضية المخزية المرفوعة ضد برتراند راسل لمنعه من التدريس في سيتي كولج في نيويورك سنة ١٩٤٠ بتهم الإلحاد والفساد الجنسي فإن الفلسفة ارتبطت بشكل متكرر ومستمر بالتجديف ضد الآلهة أيًا كانت تلك الآلهة. ليس هناك ما هو أكثر تكرارا في التاريخ الفلسفي من اتهام الفلسفة بالعقوق، وبسبب واقعهم الساخر وعدم التزامهم بالتقاليد والتراتبية والامتيازات الاجتماعية يرفض الفلاسفة إجلال المعتقدات القديمة وهذا ما يجعلهم مريبين وخطرين. هل لا تزال هذه الأحداث الكئيبة تقع في عصرنا المتنوّر السعيد هذا؟ إن الجواب على هذا السؤال سيكون مرتبطًا بسؤال آخر؛ أين يتوجه المرء بعينيه وبأي قدر من التركيز ينظر؟

ربما ستكون تلك الضحكة الأخيرة مع الفيلسوف رغم أن الفيلسوف سيبدو دائما ساذجا في أعين محامي القضايا التافهة وأولئك الحريصين على المحافظة على الوضع الراهن، إلا أنّ العكس يحدث حين يضطر غير الفيلسوف إلى تعريف العدالة في ذاتها أو السعادة أو المأساة بشكل عام. بعيدا عن الفصاحة والانطلاق فإن محامي الشؤون التافهة سيكون “مشوّشا ومتلعثما” كما يصرّ سقراط على إيضاح ذلك باستمرار.

بالتأكيد يمكن للمرء أن يعترض بأن السخرية من تلعثم أحدهم ليست بالأمر المقبول. يوضح سيث بينارديتي أن سقراط قد نسب كل الفضائل للفيلسوف ما عدى التوسّط. هناك أمر مخيف وغير تقليدي في الفلاسفة تم تغذيته بالحرية والتريّث، أمر متوحّش أو يقارب الآلهة أو الاثنين معا. لهذا السبب لا يزال كثير من العقلاء يعتقدون أن لدى الأثينيين وجهة نظر في الحكم على سقراط بالموت. سأترك القرار لكم فليس بإمكاني الحكم.

***

.....................

* الكاتب: سايمون كريتشلي Simon Critchley رئيس الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك، وبرفسور بعمل جزئي في جامعة تيلبيرغ Tilburg في هولندا. مؤلف لعدة كتب من ضمنها كتاب الفلاسفة الموتى The Book of Dead Philosophers، وهو المنسّق لمقالات هذا المنتدى.

** المترجم: عبدالله المطيري أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.

*** المُراجع: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.

- تم نشر هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

- نقلا عن موقع جميعة الفلسفة السعودية

 

في كتابه «إبستمولوجيا (نظرية المعرفة)»، يحدثنا غاستون باشلار تحت عنوان «أفول الأفكار الأولية» عن النسبية باعتبار إمكانات نجاحها في مناقشة صورة العالم، من خلال طرح «الشك في الأفكار المؤكدة الثابتة»، أو «إعادة ازدواجية وظيفية للأفكار البسيطة»، وبهذا فإنه يقدم للقارئ محاولة للإجابة عن مجموعة من التساؤلات من خلال موضوع النسبية منها «كيف يمكنك استخدام الفكرة البسيطة؟»، وكيف تُبرهَن الآنية؟ «اللحظة»، وكيف يمكن التعرُّف عليها؟ و«كيف تقترح علينا أن نتعرَّف عليها؛ نحن الذين لا ننتمي إلى النظام المرجعي نفسه؟»، وهي تساؤلات تُطرح على المستوى الأخلاقي التواصلي، الذي يريد من خلاله المرسِل الإقناع بأفكاره حتى البسيطة منها، فماذا يفعل من أجل ذلك؟ ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟.

إن باشلار هنا يطرح النسبية من خلال تلك القدرة التي تمنحنا إيَّاها لتقديم مفاهيمنا إلى الآخر، وتلك الأساليب التي نستعملها من أجل الإقناع عبر وسائل معرفة استدلالية وتجريبية آنية، قادرة على مواكبة تلك الآنية اللحظية دون تزامن مع الواقعية؛ أي دون أن تكون لها علاقة حقيقية بالواقع، فهي آنية مستقلة عن النظام المرجعي، ولهذا فإنه يقدِّم في مقابل ذلك تلك النظرة التي تجعل من الواقع حتمية آنية لا تنتظر، إذ يجب (الإمساك به لحظيا) – بتعبير باشلار –، ومن هنا فإنه يحيلنا إلى (التجربة) التي تعتمد على خواص قابلة للتمثيل أو الاستيعاب باعتمادها على (المرجعية)، فهي (ملحِّة وحاسمة) بينما النسبية تسعى على الدوام إلى إيجاد نظام يتأسَّس على تنظيم التجربة وفق خواصها المميَّزة، الأمر الذي يعني أن تلك المرجعية ضرورة حاسمة من أجل الإمساك باللحظة الآنية، وبالتالي القدرة على الوصول إلى الاستدلال.

ولأن التجربة قابلة للتمثيل ومعتمدة على المرجعية؛ فإنها في علاقتها بالواقع ترتبط بالآخر؛ الآخر الذي نتعامل معه، والآخر الذي نتواصل معه، والآخر الذي نصل إلى معرفة فكره اعتمادًا على التجريب والاستدلال، ولهذا فإن هذه المعرفة تعتمد على حتمية الثقة باعتبارها تبادلية، قادرة على كشف المقاصد بين المتواصلين، ومستجيبة لأنماط التفكير وأنماط الفعل القائمة على الأدلة، والعقلانية واستيعاب المعرفة باعتبارها المسوِّغ القادر على اختزال مفهوم الثقة بين طرفين قد لا تجمعهما مرجعية واحدة، لذا سنجد أن موضوع الثقة من الناحية الفلسفية التواصلية يقوم مبدئيا على المعرفة التجريبية، اعتمادا على فهمنا للآخر وقدرتنا على الوثوق به.

إن الثقة بذلك مكوَّن أساسي فيما يُطلق عليه بول ريكور بـ (الاستهداف الأخلاقي) القائم على معيار الذاتية ونظرتها للآخر؛ فهو استهداف تقوم عليه (الحياة الجيدة الخيِّرة) ضمن مرسى (التداول) والواقعية من ناحية والتعقُّل والحذر من ناحية أخرى، إذ لابد أن تكون العلاقة بينها جميعا باعتبارها فضائل للوصول إلى الغاية القصوى في الحياة عبر (الثقة)، ضمن علاقات منطقية ما بين التنسيق والتبعية والتوازن والتجريب لبلوغ تصوُّر معياري لحقيقة الثقة التي نمنحها للآخر ضمن المفاهيم الفلسفية للأخلاق. ولأن الثقة ضمن المفاهيم العقلانية لا تعتمد على المنطق العقلاني الواضح، إذ ارتبطت بالعلاقات الأخلاقية من حيث قابلية تطبيق مفاهيم الصدق والكذب أو المدح والذم والنقد، وذلك ضمن مفاهيم الإبستمولوجيا الأخلاقية التي تعتمد على قدرة الثقة على المرونة والتأثير في الآخر في حدود الزمان والمكان المُتاح، وضمن الممارسات التواصلية (اللغوية، والسياسية، والأدبية....)، فثقتنا في الآخر مسؤولة على المستوى الأخلاقي عن تلك الآليات والأنساق التي نبوح بها للآخر في حدود (الحلقات التأويلية) التي تحددها تلك الثقة والمعرفة والمنظور الأخلاقي الذي تفرضه، ولذلك فهي المسؤولة عما يسميه تشارلز تايلور بـ (تقدير الذات) الذي يتبع مصير التأويل التواصلي وصراعاته بالمفهوم الفلسفي الأخلاقي.

ولعل الثقة من وجهة النظر الإبستمولوجية (المعرفية)، والأخلاقية الفلسفية، تُشكِّل اليوم موضوعا يحتاج إلى إعادة تفسير وتأويل ضمن آفاق تواصلية أكثر تعقيدا من الناحية التجريبية؛ ذلك لأن المنظور الأخلاقي للتواصل قد أصبح أكثر تعقيدا ليس فقط من ناحية الوسائل والقنوات الافتراضية بل أيضا على مستوى الزمان والمكان، وكذلك على مستوى الخطاب نفسه، ومفهوم الذاتية على المستوى الحواري، وبالتالي على مستوى ما يُطلق عليه إيمانويل كانت (فكرة التبادل) في الصداقة (الخيِّرة) بين الشركاء الذي تجمع بينهم مشتركات فكرية تستهدف الحياة المشتركة. إن الثقة انطلاقا من ذلك تبدو أكثر إلحاحا؛ فما الذي يدفع ذواتا لا تجمعها مرجعية أو حتى هُوية معرفية مشتركة إلى التواصل بل إلى (الثقة)؟ وما الدافع الذي يجعل المتواصلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا يثقون ببعضهم ضمن فضاء افتراضي غير معرَّف؟ وما الذي يدفعهم إلى التأثير والتأثر ضمن المفاهيم الأخلاقية المعرفية حتى يصبحوا (أصدقاء افتراضيين) على المستوى العقلاني أو حتى العاطفي؟

ليس من السهل الإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن علينا التفكير في ماهية (الثقة) التي نمنحها للآخر، ولعل ذلك يدفعنا إلى محاولة الإجابة عن السؤال (ما الثقة؟) من الناحية المعرفية والأخلاقية؛ ففي كتاب (الثقة والأخلاق والعقل البشري)، يناقش أولي لاغرسبيتز، مفهوم الثقة وفقا لمفاهيم الفلسفة، انطلاقا من اعتبار أن (تثق يعني أو تُراهن)، أو (إن الوثوق يماثل المراهنة)؛ فطريقة مقاربة الثقة هنا تعتمد على (وصف السياق)، فالمرء ينظر إلى الثقة باعتبار السياق العام للفعل، ذلك لأن الثقة أو عدمها تحدده المرجعية المشتركة سواء أكانت بين الذات في علاقتها بنفسها، أو في علاقتها بالآخر؛ بمعنى، ما الأسرار التي لا آمن بكشفها لأحد (غيري) بوصفي موثوقا به، وبين تلك التي آمن بها مع (الآخر/ الصديق أو الأخ أو غيره) باعتباره موثوقا به، فالثقة هنا ترتبط بالمراهنة باعتبار السياق الذي يحكمها ومدى موثوقية الآخر، أو المراهنة على موثوقيته.

لهذا فإن (الثقة) في التواصل الافتراضي تبدو أكثر تعقيدا من ناحية السياق والمرجعية المشتركة، وبالتالي قدرتها على تأسيس ما يسميه لاغرسبيتز بـ(علاقات ثقة مستقرة)، باعتبار أن المتواصلين غالبا لا يشتركون في تعارف إنساني واقعي، قائم على (اليقين) الفكري والأخلاقي، الذي يمكِّنهم من رؤية اجتماعية وأخلاقية من الناحية المعرفية، وهذا يعني أن الثقة في الآخر ضمن هذه الفضاءات التقنية تعني المراهنة على مصداقية الآخر وموثوقيته على المستوى الأخلاقي؛ ليتشكَّل فعل التواصل وفق علامات تفاعلية ذات موارد فكرية متاحة تقنيا تعتمد على تأسيس فضاءات اجتماعية تعيد تشكيل أنماط التواصل وبالتالي تغيير أنساق النمو المعرفي، وتحاول ضمن ذلك إعادة الرؤية الجريبية للأخلاق.

إنَّ المتابع لآليات التواصل ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، سيجد أنه تواصل أشبه بمواثيق الإشهار من ناحية، والفُرجة من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الذات في ثقتها بالآخر تجعل من المراهنة أكثر اتساعا، من حيث اتساع اختراق الثقة، وإمكانات الفضاء التجريبي، فما نكتبه من منشورات أو تغريدات هو إشهار، أو فرُجة مرئية أو صوتية، على مستوى الذات الفردانية، وبالتالي فإنها تعرض قدرتها على الموثوقية لمتابعيها وفق شروط يحكمها التجريب والتصورات الموجَّهة نحو التوقعات في ردود الأفعال، الأمر الذي يعني أن تلك الثقة ليست سوى رهان يمكن اختراقه من ناحية فضاء العلاقات الأخلاقية التي تجمع مجموعة من الذوات غير المتجانسة أو غير المتسقة فكريا، والتي لا تجمعها مرجعية فكرية مشتركة، ليظهر ذلك في (التفسيرات المعيارية البحتة للثقة) –حسب تعبير لاغرسبيتز–، فيتسع نتيجة لذلك مجال التبادلات الاجتماعية والتجادلات التي قد لا يجمعها مشترك غير المنشور الذي يمثِّل رأيا ذاتيا مثيرا قابلا للطعن من الناحية المعرفية البحتة.

ولأن جاكبسون في نموذجه التواصلي يخبرنا أنه (لا يكفي معرفة الشيفرة (العلامة) لفهم الرسالة... نحتاج إلى معرفة السياق)، فإن السياق في خطابات التواصل الاجتماعي غالبا غير متوفِّر، وغير معرَّف؛ فالإطار المرجعي الذي يحدِّد (العلامات اللسانية) غير واضح بالنسبة للمتلقين، وهذا يعني غالبا عدم الوثوق فيهم على المستوى الأخلاقي، فكثير من تلك العلامات رمزية أو موجهة نحو أهداف قصدية لا يعرفها سوى الذات المرسلة، الأمر الذي يدُّل صراحة أن الثقة المنشودة بين المتواصلين ضمن هذا الفضاء المكاني المُفترض قائمة على المراهنة على قدرة المتلقين على التفسير أو التأويل، وبالتالي قدرتهم على التعاون أو التعاطف أو إحداث ردة فعل تُرضي المرسل، أو تُحدث تأثيرا.

إن العقل الذي يتحكمَّ في خطابات التواصل الاجتماعي لا يخرج عن تلك الأُطر الذي وضعها يوجين هابرماس والمتمثِّلة في نوعين هما (العقل الأداتي) المتمركز على الذات وهو نتاج سيرورة اجتماعية قائمة على (سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيَّأ) –حسب تعبيره–، و(العقل التواصلي)؛ الذي يمثل البعد الموضوعي الإنساني للعقل، بحيث يتجاوز الذات نحو الشمولية، فـ(يدَّعي أنه يتضمَّن كل شيء)، وفي كليهما سنجد أن صورة الذات المرسلة تعبِّر عن الثقة ضمن الفعل التواصلي الذي يقدِّم نفسه باعتباره إشهارا متعاليا وفي الوقت نفسه قادرا على إثارة المتلقين والكشف عن مدى ثقتهم في الخطاب المرسل أو حتى في الذات المرسِلة سواء أكانت صريحة أو مختبئة، شخصا أو شخصية، فالأمر هنا لا يتعلق سوى بالإثارة والتفاعل الناشئان عن تعالي الخطاب وفوقيته أو ادعائه بالمعرفة المطلقة.

وعلى الرغم من أن هابرماس لم يتحدث عن الثقة كثيرا في نظريته للفعل التواصلي، إلاَّ أنه اعتمد على هذه النظرية فيما يرتبط بالوعي والفعل والممارسة، ولعل مناظراته المتعددة مع هيدجر وريكور كان لها الأثر الكبير في تطوير هذه النظرية اعتمادًا على اللغة وبعدها التداولي، إضافة إلى ما لاقته نظريته من معارضات على مستوى ما يسمى بـ(الفعل الاستراتيجي)؛ فالفعل التواصلي لا يُراد منه على الدوام التفاهم، ففي أحيان كثيرا يراد منه التلاعب أو الخداع أو غير ذلك، وهنا يمكن القول أن ما يحدث من جدليات تأويلية على المستوى اللغوي في وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن إلاَّ أن يتأسس وفق منظور الفعل التواصلي القائم على (الثقة)، إلاَّ أن ذلك الفعل، وهذه الثقة لا يمكن الجزم بمرجعيتهما أو مقاصدهما سوى وفق المنظور الأخلاقي العام، فكثير من تلك الأفعال قائمة على مقاصد خفية، أدَّت إلى نتائج غير محمودة على المستوى المجتمعي، وبالتالي فإن فعل التواصل قادر على اختراق الموثوقية من خلال المراهنة على الفعل نفسه.

ولهذا فإنَّ الثقة ضمن مفهوم (الفعل الاستراتيجي) تقوم على معرفة مرجعية الذات المرسِلة والخطاب اللغوي للرسالة، الأمر الذي يجعل هذا غير متحقِّق في وسائل التواصل الاجتماعي وسط العديد من التداخلات المرجعية، وتعدد الثقافات، إضافة إلى ما يسميه لاغرسبيتز بـ(المأزق الفكري) بين العقلانية والاجتماعية؛ أي بين ما نؤمن به وما نصدقه، وبين مرجعيتنا بوصفنا متلقين، وبين مرجعية نص الرسالة والذات المرسلة، بصرف النظر عن معرفتنا الشخصية بالذات، إلاَّ أن هذا المأزق يشتد وفقا للعوائد العاطفية، ورغبة الذات المرسلة إلى تعظيمها استغلالا للانفعال والإثارة، وهنا ستكون الثقة في حالة المراهنة على المستوى الأخلاقي.

في مقال بعنوان (حول مخاطر الاطمئنان؛ النظرية التطمينية للثقة)، يخبرنا إدوارد هنشمان عن تلك المخاطر التي تواجهها الثقة؛ حيث يتم انتهاك (التفاهم المتبادل للثقة البين – شخصية) –حسب تعبيره–، فـ(التطمين) الذي تمنحه الذات المرسِلة عبر خطاباتها اللغوية يشكِّل تأكيدا أخلاقيا، سواء أكان عبر العلامات اللغوية الصريحة أو عبر الصور أو الإشارات أو غير ذلك، فكلها وسائل تلجأ إليها الذوات من أجل بث الاطمئنان في الآخر، بهدف الوصول إلى الموثوقية والجدارة، وهو يندرج ضمن (الفعل الاستراتيجي) الذي يبث الاطمئنان من أجل تحقيق الثقة، وبالتالي الوصول إلى الغاية التأويلية المنشودة، ولهذا فإن حالة الاطمئنان سواء أكانت ضمن ما أسماه هنشمان (الثقة المخونة)، أو (الثقة المخيبة للأمل)، تندرج ضمن مفهوم (المأزق الفكري)؛ فهو تطمين يقود إلى الاستدراج من الناحية الأخلاقية، وبالتالي تعظيم العوائد للذات المرسلة ومصالحها.

إن موضوع الثقة باعتباراته الفلسفية والأخلاقية، يبدو أكثر تعقيدا في التواصل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر منه في الحياة الاجتماعية العامة؛ ذلك لأنه يعتمد على الرغبات والتفضيلات من ناحية، والائتمان وإمكانية الطعن من ناحية أخرى، وفقا لتلك المعطيات التي يفرضها (الفضاء الافتراضي)، فهو افتراضي من حيث الزمان والمكان، وافتراضي من حيث الذات المرسِلة، بل وحتى الخطاب المرسل يعتمد على الافتراض باعتباره غير معروف المرجعية غالبا، ويقوم على الانفعالية والتأثير، ولهذا ستكون (الثقة) على الدوام في مأزق فكري غير قادرة حتى على المراهنة، وسيبقى السؤال (ما مدى ثقتنا في الآخر الافتراضي؟)، ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟).

***

عائشة الدرمكي

باحثة عمانية متخصصة في علم السيميائيات

عن جريدة عمان ديلي – الثقافي في يوم: 26 / 1 /2023م

 

تقوم «فينومينولوجيا» إدموند هوسرل أو الظاهريات على حدس الماهيات خلافاً للعلوم التجريبية الأخرى التي تقوم على وقائع، لذلك يصر هوسرل على ضرورة تحقيق الفلسفة الترانسندنتالية لا بروح نظرةٍ عامة، بل بروح علمٍ دقيق متوجه نحو فكرة الصحة المحددة، معتبراً قبول المذهب الطبيعي كمثلٍ أعلى من أجل إقامة فلسفة علمية يحقق وعياً زائفاً، لأن الفلسفة لديه يجب أن تكون أكثر دقةً من العلوم التي تتميز عنها بالانطلاق من دون افتراضاتٍ سابقةٍ تنأى عن السؤال بحجّة الوضوح.

وظاهرية الفيلسوف الألماني «هوسرل» تختلف عنها لدى «هيغل»، مع امتيازه بقراءة التراث السابق عليه: «لذلك نجده يقرأ التراث الفلسفي قراءةً شديدة الانتقاء: تفضيلٌ مطلقٌ لأفلاطون من القدامى، وتمييزٌ لديكارت بمقام السبق والتأسيس لدى المحدثين، ثم تنويهٌ بطائفة من الفلاسفة مثل ديفيد هيوم وجون لوك وغوتفريد لايبنتز وإيمانويل كانط، وتبجيلٌ للفيف من معاصريه تبجيلاً خاصّاً: برنتانو، أفيناريوس، ديلتاي، هربارت، لوتسه، ماينونغ، بولزانو… فالفينومينولوجيا قد سبق إليها هؤلاء جميعهم بما حدسوا به من معان وأغراض فلسفية قريبة مما أقر به، ولا سيما من حيث النفور من كل أشكال الميتافيزيقا التأملية، والبناءات المجردة التي لا أساس لها في المعطيات المباشرة للتجربة».

«العودة إلى الأشياء عينها» هذا ما لا يتحقق بالموقف الطبيعي، وينقضه هوسرل في كتابه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» بقوله: «في الموقف الطبيعي نحقق ببساطة، كل الأفعال نحققها بالأفعال التي بفضلها يوجد العالم بالنسبة إلينا، ونعيش على نحوٍ ساذج في الإدراك والتجريب، وفي هذه الأفعال التي تظهر لنا فيها هويات الأشياء والتي لا تظهر فيها فحسب، بل هي تعطى لنا بطابع الموجود، والواقع الفعلي، إننا نحقق خلال ممارستنا للعلم الطبيعي أفعالاً فكرية منتظمة منطقياً - تجريبياً، أفعالاً تكون فيها هذه المعطيات معطاة، وتكون مأخوذة كحقائق محددة، بمقتضى الفكر، وفيها كذلك على أساس مثل هذه الأشياء المفارقة التي جربت وحددت مباشرةً نستنتج أشياء مفارقة جديدة، أما في الموقف الظاهرياتي، فإننا نعطّل بمقتضى الكلية المبدئية تحقيق مثل هذه الأوضاع الفكرية، أعني أن ما تحقق نضعه بين قوسين، فلا ندخل هذه الأوضاع في البحوث الجديدة وبدلاً من أن نعيش فيها وأن نحققها بمنطق الموقف الساذج نجري عليها أفعال التفكر الموجهة إليها، فندركها هي ذاتها بصفتها الوجود المطلق الذي هي إياه. والآن نحن نعيش بإطلاق في مثل هذه الأفعال التي هي من الدرجة الثانية، والتي يكون معطاها المجال اللامتناهي للتجربة المطلقة - مجال الظاهراتية الأساسي».

يتجلى منهجه الظاهراتي بالآتي: «إننا لا نقصد أبداً أن نكتفي بمجرد الألفاظ، أعني بمجرد فهم رمزي للألفاظ كما هو الحال بادئ الأمر في تأملاتنا في معنى القوانين الموضوعة في المنطق المحض، إن غرضنا هو العودة إلى الأشياء نفسها، فنحن نقصد أن نرفع البداهة، وأن ما يُعطى ها هنا ضمن تجريدٍ بالفعل، إنما هو حقاً وفعلاً، ما تريده الدلالات اللفظية حين تعبّر عن القانون، وأن نستثير الاستعداد فينا إلى الإمساك بناصية الدلالات في هويتها القارة عند التمرس بالمعرفة بمواجهتها، بالحدس الذي يقبل أن يُعاد توليده… إن كل حدسٍ مُعطى أصلي هو مصدر شرعي للمعرفة، وكل ما يعطى إلينا في الحدس على نحوٍ أصلي بفعليته المتجسدة ينبغي أن يتلقى فقط كما أعطي، ولكن دون أن يزيد على الحدود التي أعطي حينها في نطاقها، يتعين أن ندرك أن نظرية ما ليس لها أن تستمد حقيقتها من غير المعطيات الأصلية، كل منطوق يقتصر على إضفاء العبارة على هذه المعطيات بواسطة مجرد التفسير بالدلالات التي هي مضافة إليها، هو - إذاً - بالفعل بدء مطلق مدعو بالمعنى الخاص للكلمة أن يكون أساساً ومبدأً».

الدافع الرئيس لهوسرل: «لا يتأتّى من الفلسفات وإنما من الأشياء والمشكلات. إن الفلسفة إنما هي في ماهيتها علم البدايات الحقيقية، أو علم الأصول».

ولذلك يصرّح في كتابه المؤسس: «مباحث منطقية - مقدمات في المنطق المحض» على انتقاله من «صوري الحساب» و«صوري المنطق» لأسئلةٍ أكثر أساسية، بصدد ماهية صورة المعرفة بافتراقها عن مادة المعرفة، وعن معنى الفرق بين التعيينات والحقائق والقوانين الصورية (المحض) منها والمادية، و«حتى يكون ثمة علم، يجب أن يكون ثمة وحدة معينة في تعالق التعليلات، ووحدة معينة في تراتبها».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن الاتحاد الاماراتية في يوم: 13 ديسمبر 2022

 

بين الدينيّ والثقافيّ علاقات معقّدة من التجاذب والتداخل والتنازع والتمايز والسيادة والاحتواء. ومردّ هذا التعدّد في العلاقات إلى أسباب شتّى أبرزها، في ما نرى، اختلاف علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس في تحديد دقيق لمفهوميْ الدين والثقافة ومن ورائهما الدينيّ (Le religieux) والثقافيّ (Le culturel). فإذا ما قلّبتَ النظر في مفهوم الدينيّ ألفيتَ تعريفات بشأنه لا تكاد تحصى وذلك باختلاف مدارس أصحابها (اجتماعيّة، وظيفيّة، بنيويّة، رمزيّة تأويليّة…) وباختلاف العصور والأوضاع المعرفيّة المميّزة لكلّ عصر[1]. فالدين مثلا عند الفرنسي إيميل دوركايم (ت 1917) هو “نظام من العقائد والطقوس والأعمال المتعلّقة بالأشياء المحرّمة، وهي مترابطة في ما بينها تضمّ في مجتمع إنسانيّ واحد كلّ الذين يتّصلون بها ويسلّمون بالأمور نفسها”[2]، ومن ثمّ فهو يعتبر الدين نظاما تتوفّر فيه عناصر قارّة موجودة في كلّ الأديان (معبود، زمن مقدّس، مكان مقدّس، طقوس…). وهو يقدّر أنّ البساطة التي تتميّز بها العقائد الدينية القديمة تسمح بضبطها وتعيينها بشكل يسير وسهل.

 وبعد نصف قرن من أطروحة دوركايم تمّ تدقيق الصلة المهمّة بين الدين والمجتمع وتطويرها في ضوء تقدّم المعارف الإنسانيّة ومناهج البحث المتاحة وقتئذ. وهذا ما يجلوه مثلا تعريف بيتر برجر P. Beger للدين وهو يعني عنده “إقامة نظام مقدّس من خلال النشاط البشري يشمل كلّ الوقائع أي كون المقدّس يكون قادرا على ضمان استمراره تجاه الفوضى”[3]. وإذا كان المكوّن النفسي في تعريف الدين غير جليّ فيه، فإنّه سيتمّ تدارك ذلك في إطار المدرسة الرمزيّة التأويليّة الأمريكيّة خاصّة مع كتابات كليفورد غيرتز C. Geertz وفي مقدّمتها تأليفه الشهير “تأويل الثقافات” (1973)[4].

 أمّا الثقافة من جهة التعريف، فهي عَصِيّةٌ على الحصر والتحديد لأنّ هذا المفهوم متطوّر ومتغيّر ومتحرّك باستمرار. فكلّ محاولة لفرض تعريف ثابت للثقافة لا يُنتج حسب عبارة سمير أمين إلاّ “تشويشا ثقافويّا”. ولكنّ ذلك لم يمنع من تعيين تعريفين أساسيين للثقافة أحدهما تعريف واسع أقرّته الدراسات الأنتروبولوجية ومفاده أنّ الثقافة هي كلّ ما يصطنعه الإنسان من مؤسسات وقيم وعادات ومعارف ومنظومات أخلاقيّة ينظّم بها وجوده. ومن ثمّ قام تقابل بين الطبيعة والثقافة استنادا إلى أعمال الفرنسي كلود لفي ستراوس (Claude Levi-Strauss) تحديدا. أمّا التعريف الآخر فيتميّز بضيق مجاله لأنّه يربط الثقافة بشعب ما. ولعلّ هذا التحديد الضيّق كان من الأسباب التي جعلت بعض الدارسين الوضعانيّين (Positivistes) يقرّون بوجود مجتمعات قديمة أو بدائيّة وحتّى حديثة عارية من الثقافة لأنّها عاشت في عصر ما قبل المنطق. وأطروحة الفرنسيّ ليفي برول (Lévy Bruhl) مشهورة في هذا الباب من خلال كتابه المعروف “العقليّة البدائية” (1922).

 ولمّا كانت كلّ ثقافة إنسانيّة متعدّدة الأبعاد حيث يتساكن فيها الاجتماعي والمعرفيّ والأخلاقيّ والمعرفي والديني والفنّي، فإنّ ذلك يجعلها مركّبة من عدّة عناصر متفاعلة ومتداخلة جديرة بالدرس والتفهّم. واعتبارا لذلك ظهرت مقالة احتواء الثقافي للديني واشتماله عليه، إذ الديني، ههنا، عنصر من عناصر ثقافة مجتمع ما يؤثّر في رسم ملامح هويّة جماعة محدّدة. وهو ما يقيم البرهان على أنّ الثقافي يتجاوز الضمير الفرديّ ويتطلّب القسمة مع الآخرين أو المجموعة الاجتماعيّة.

 وفي المقابل نجمت أطروحة مقابلة لما سلف ذكره قرّر أنصارها أنّ الدين نفسه هو نظام ثقافي مستقلّ بنفسه حسب ما جنح إليه مثلا كليفورد غيرتز  (في دراسة له بعنوان “الدين نظاما ثقافيّا” (1961). وترتّب على هذا القول أنّ الدينيّ هو غير خطاب اللاهوت القائم على مسلّمات دينيّة مثل الإيمان، بل إنّه متّصل بعلم الأديان (Religions wissenschaft) حسب التسمية التي أثبتها ماكس مولّلر (Max Muller).

 وبناء على ما تقدّم نرى أنّ الخوض في إشكالية الديني والثقافي من جهتي مقتضيات العلاقة بينهما وصلا وفصلا من ناحية، وحدودها وما يمكن أن يترتّب على ذلك كلّه من نتائج من ناحية أخرى جدير بالتدبّر والتفحّص والمتابعة العلميّة الرصينة، وذلك بعيدا عن الأحكام الجاهزة والمواقف المسبقة أو الإقصائيّة. فعندما نتفحّص أهمّ مقتضيات الوصل والفصل يتأكّد لدينا أنّ هناك عدّة دواع مباشرة وغير مباشرة في ضوئها تتحدّد علاقات الوصل أو الفصل بين الديني والثقافي تردّ على الأقلّ إلى ثلاثة مقتضيات مدارها على المفهوم أوّلا ومناهج المقاربة ثانيا ومقاصد العلاقة والرهانات المرجوّة منها ثالثا. والذي نذهب إليه أنّ مقتضيات الوصل تُحوج إلى النظر في الأغراض التالية:

مقالة التماهي بين الديني والثقافي: مبرّراتها وحدودها (يمكن ههنا سوق رأي توماس إليوت القائل: “إذا ذهبت المسيحيّة فستذهب كلّ ثقافتنا”).

تقييم مدى وجاهة مقالة أنّ الدين فعل اجتماعي ينهض بتحقيق الانسجام بين الأفراد في المجتمع ومن ثمّ يؤسّس لثقافة متوازنة تصمد أمام كلّ ما يمكن أن يتهدّدها من اهتزاز أو تفكّك.

ملامح حضور الديني في الثقافي خاصّة في علم الانتروبولوجيا الدينيّة وذلك في مستويات الطقوس والقيم الدينيّة والأحوال الشخصيّة والسلوك الاجتماعي وغيرها[5].

الديني والسياسيّ (باعتباره أحد تجلّيات الثقافي في معناه الواسع): السؤال مثلا عن مدى وجاهة أطروحة توكوفيل (1859)  Tocquevilleالمثبتة للدور الإيجابي للدين في إرساء الديمقراطيّة بأمريكا وتدعيمها[6].

الديني والاقتصادي (باعتباره أحد تجلّيات الثقافي في معناه الواسع): دور المبادئ الدينيّة البروتستانيّة منذ عصر الإصلاح الديني الأوروبي (إيثار نزعة التقشّف في الإنفاق واعتبار العمل من مقتضيات الدين والإيمان) في قيام النظام الرأسمالي بفعل تراكم الثروات ورؤوس الأموال[7]. ولا مناص لنا من القول إنّ عديد الدراسات الحديثة والمعاصرة[8] اهتمّت بتقويم أطروحة الألماني ماكس فيبر Max Weber من خلال كتابه “الأخلاق البروتستانية وروح الرأسماليّة” (1905).

الجوامع المشتركة بين الديني والثقافي: الصفة القهريّة والإلزاميّة التي يمارسها الديني والثقافي على الفرد والمجموعة… الإنسان باعتباره صانعا للمؤسسات الماديّة والرمزيّة ومن ضمنها الدين والثقافة… خضوع الديني والثقافي للرقابة الاجتماعيّة وللرأي العامّ… مدى مساهمة الديني والثقافي في هيكلة الوعي الفردي وجعله منسجما مع الوعي الجمعي…دور الديني والثقافي في جعل العالَم ممكن الفهم.

 أمّا من جهة مقتضيات الفصل فإنّها تستدعي منّا السؤال الآتي: هل إنّ الفصل بين الديني والثقافي هو فصل منهجي يستدعيه البحث العلمي في هذين المكوّنين كلّ منهما على حدة، أم إنّه فصل بنيويّ بحكم التمايز بين المنظومة الدينيّة والمنظومة الثقافيّة؟ وهذا ما يحوج إلى تعيين الفروق بين الديني والثقافي[9]: إذ الديني معبّر عن قيم مطلقة نازعة إلى الثبات وصامدة أمام تقلّبات التاريخ وإكراهاته، فضلا عن كون القيم الدينيّة عادة ما تكون فوق المراجعة والنقض. أمّا الثقافي فهو متلبّس بوجود الإنسان في الواقع ومحايث لمعاشه ومتأثّر بقانون الحراك الاجتماعي وذلك ضمن مقالة التلازم الجدلي بين التاريخيّة والنسبيّة. وفضلا عن ذلك لابدّ من التنبيه إلى استقلال الدينيّ عن الثقافيّ داخل تصوّر حديث يثبت وجود “ديانة طبيعيّة ماكثة في عمق الإنسان”[10] لا علاقة لها البتّة بالثقافي مهما كان ضربه أو حجمه.

ومهما يكن من أمر فإنّ لعلاقات الوصل والفصل حدودا تُضبط حسب نوعيّة العلاقات القائمة بين القطبين المذكورين، وهي لا تخرج مبدئيا عن ثلاث علاقات هي التالية:

علاقة السيادة والاحتواء: ومفادها أنّ الثقافيّ يهيمن على الدينيّ ويحتويه ويوجّهه الوجهة التي يريد، ومن ثمّ يصبح كلّ الإنتاج الدينيّ، مهما كان الدين، تعبيرا عن إنتاج ثقافي يتحدّد في ضوء سُنن ثقافيّة وقوانين الاجتماع الإنسانيّ (مثلا: الفقه أو التفسير القرآني أو علم الكلام هي منتجات ثقافيّة في المجال الإسلامي). وبالمقابل يمكن للديني أن يهيمن على الثقافي وذلك ضمن أطروحة يرفع أصحابها شعارا مفاده أنّ الدينيّ أشمل من الثقافي وحاضن له ومتحكّم فيه. والحجّة في ذلك أنّ المؤسسات الثقافيّة، المادّية والرمزيّة، لا تصبح نافذة المفعول في المجتمع إلاّ إذا أُسبِغت عليها مشروعيّة دينيّة. ومن ثمّ يمكن السؤال عن مدى أهمّية الوظيفة التبريريّة التي ينهض بها الدينيّ في صلته بالثقافيّ (في مواضيع مهمّة في حياة الإنسان عامّة مثل علاقات القرابة والأحوال الشخصيّة). إذ الكلام ههنا على مدى نجاعة الدينيّ في تبرير ما هو ثقافيّ من أجل أن تفوز المؤسسات الثقافيّة بالاستقرار والاستمرار.

علاقة التكافؤ والتنازع: وهي مترتّبة على ما سبق قوله بشأن مقتضيات الفصل بين الديني والثقافي، إذ لا يتدخّل أحدهما في الآخر بأيّ شكل في الأشكال دون أن يعني ذلك امتناع قيام تنازع بينهما يحاول كلّ واحد منهما بسط سلطانه على الآخر، وذلك في ضوء ما يقوم به “الفاعلون الاجتماعيّون” أو “المتصرّفون في المقدّس” من محاولات توظيف كلّ ما هو دينيّ أو ثقافيّ في غير ما وُجد من أجله وفي غير ما يحقّقه من دلالات وما ينهض به من وظائف (النظر مثلا في أبرز التوظيفات السياسيّة للشأن الديني في المجال الإسلامي).

علاقة التفاعل والجدل: هذه العلاقة جديرة بالنظر والاستقصاء لأنّها تقوم على تجاوز مقالتيْ السيادة والانكفاء. فكلّ ما هو دينيّ مؤثّر في الثقافيّ ومتأثّر به في الوقت ذاته، والعكس صحيح[11]. ومن الأغراض الجديرة بالنظر ههنا العلاقة التفاعليّة والجدليّة بين الدين (Religion) والتديّن (Religiosité) في الأديان التوحيديّة وغيرها من الأديان القائمة على الفلسفات التأمّليّة. فالإنسان الديني يصنع أشكال تديّنه ضمن الثقافة التي ينخرط فيها رغما عنه. وهذه الأشكال بدورها تعيد صياغة مفهوم الدين وتعمل على تحيينه بما يتّفق وشواغل الجماعة الدينيّة وانتظاراتها والأطر الاجتماعيّة للمعرفة السائدة[12]، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى التباس التديّن بالدين وإلى إضفاء القداسة على منتجات بشريّة والارتقاء بها إلى مستوى “الأخلاق الكليّة أو “الروح الإنساني المشترك”[13].

وختاما لا مناص لنا من الإشارة إلى أنّه في عقدَيْ الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين تعالت أصواتٌ داعية إلى “الخصوصيّة الثقافيّة” مقابل أصوات أخرى مدافعة عن مبدإ “التنوّع الثقافي”. غير أنّ ذلك لا يعني غياب الوعي بأهمّية التعالق بين الدينيّ والثقافيّ. تشهد على ذلك عدّة معاهد ومؤسّسات وهيئات بحثيّة من نحو “معهد البحوث الاجتماعيّة والدينيّة” بالولايات المتّحدة الأمريكيّة (1921) ومن قبيل بعث “كرسيّ اليونسكو حول المسارات الثقافيّة والدينيّة” بفرنسا (1999)، وفي طليعة أهدافه مساعدة الأديان والثقافات على إشاعة قِيَم السِلم العالميّ والتسامح والتضامن وتكريس الحوار بين الأديان والثقافات.

إلاّ أنّ التعالُق بين الدينيّ والثقافيّ تمّ تنزيله في مقالة التعدّدية وذلك في سياقات محلّيّة وإقليميّة وعالميّة تتميّز بتصاعد أصوات “التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة”[14]. وفي هذا الإطار مثلا افتُتح بفرنسا سنة 2012 “مرصد التعدّدية الثقافيّة والدينيّة” (O.P.C.R) وهو ينادي باحترام حرّية الرأي والتعبير وصيانة الحريّات الدينيّة، كلّ ذلك في سياق تكريس “الميثاق الأوروبي حول الحقوق الأساسيّة”.

ومن شأن مقالة التعدّدية الدينيّة والثقافيّة أن تثير في المجال الإسلامي عدّة قضايا يمكن النظر فيها من قبيل القيم القرآنيّة / الإسلاميّة والقيم الكونيّة (المواطنة، حقوق الإنسان، حقّ الاختلاف…)، ومن نحو التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية الحديثة والمعاصرة، ومن مثل الإسلام واحدا ومتعدّدا: الإسلام الآسيوي، الإسلامي العربيّ، إسلام الأقلّيات، الإســـلام “الأسود”…[15]، فضلا عن أهمّيّة تدبّر موضوع الحوار المسيحيّ الإسلامي من جهات السياقات والدواعي والشروط والمقاصد والعوائق.

***

أ. د. بسّام الجمل

عضو عامل بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، تونس، عن مركز نقد وتنوير في يوم: 12 ديسمبر، 2021

..................

[1] الرأي عند جاكلين لاقري (Jacqueline Lagrée) أنّ كلّ تعريفات الدين عالة على تعريف شيشرون (Cicéron) (ت 43 ق م) له ومفاده “أنّ الدين هو الانشغال بطبيعة عليا وتقديم عبادة لها”. راجع كتابها:

La religion ; Éditions Armand Colin, Paris 2006, p 8.

[2] انظر كتابه: Les formes élémentaires de la vie religieuses ; Quadrige / Presses Universitaire de France ; 2ème édition, 1990, p 31.

[3]  القرص المقدّس: عناصر نظريّة سوسيولوجيّة في الدين. تعريب: مجموعة من الأساتذة، إشراف عبد المجيد الشرفي، الطبعة الأولى، مركز النشر الجامعي تونس 2003، ص 98.

[4]  يقول غيرتز في هذا السياق: “إنّ الدين يُعرّف بأنّه نظام من الرموز يفعل لإقامة حالات نفسيّة وحوافز قويّة وشاملة ودائمة في الناس عن طريق صياغة مفهومات عن نظام عامّ للوجود وإضفاء هالة من الواقعيّة على هذه المفهومات بحيث تبدو هذه الحالات النفسيّة والحوافز واقعيّة بشكل فريد”، تأويل الثقافات، ترجمة: محمّد بدري، منشورات المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت 2009، ص 227.

[5]  يوجد عرض تأليفيّ جيّد لأطروحة دوركايهم بشأن حضور الديني في الثقافي، وذلك ضمن الفصل الأوّل كتاب: Shmuel Trigano, Qu’est-ce que la religion ? ; Éditions Flammarion 2001, pp : 17 – 51.

[6]  يراجع كتابه “حول الدين في أمريكا” /1835 و 1840.

[7]  يقول هانز جورج غادامير (Hans-Georg Gadamer) في هذا السياق: “لقد علّمنا ماكس فيبر أنّ الرأسماليّة والتصنيع ينهلان إلهامهما إلى حدّ كبير من النزعة الطُهرانيّة، كما أنّ العقيدة الجبريّة هي التي تُضفي الشرعيّة اليوم بالخصوص، على مدى واسع، في نظر سكّان البلدان المصنّعة، على البحث عن الفعاليّة في الأعمال. إنّ التقدّم اليقيني للعلم والتقنية جعل نتائج هذا التصوّر، منذ ذلك الحين، تتّخذ طابع قوّة مستقلّة تنفلت ببساطة من تحكّمنا”، الدين في عالمنا، ضمن كتاب جماعي بعنوان “الدين في عالمنا”، إشراف: جاك ديريدا وجيّانّي فاتيمو. ترجمة محمّد الهلالي وحسن العمراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004، ص 185.

[8]  انظر مثلا الفصل الثاني من كتاب: Shmuel Trigano , Qu’est-ce que la religion ? ; Éditions Flammarion 2001, pp : 55 – 115.

[9] خصّص أوليفييه روا (Olivier Roy) في كتابه “الجهل المقدّس: زمن دين بلا ثقافة” (ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي لندن، الطبعة الثالثة، 2015) فصلا ورد بعنوان “عندما يلتقي الدينيّ بالثقافة” (ص ص: 51 ـ 99)، وفيه طرح السؤال التالي: “هل الدين جزء من الثقافة؟” (ص 51). والرأي عنده “لا يُطرح الدين بصفته دينا إلاّ عندما ينفصل انفصالا بيّنا عن الثقافة، وإن كان ذلك في توتّر مؤقّت وهشّ ومجرّد إجمالا. ونتيجة لذلك، لا يسري مفهوم الدين في أنظمة يُدرَك فيها ما يُقرن بالدين في مكان آخر (تقوى، مقدّس) على أنّه ثقافيّ كلّيّا (دين مدنيّ)” (ص 57).

[10] ميشال مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ترجمة عزّ الدين عناية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2009، ص 45.

[11]  يرى روجيه باستيد (Roger Bastide) أنّ الدين يمكن أن يؤثّر في المجتمع، إذ يقولبه في ضوء ما يبثّه فيه من عقائد ومقالات وأفكار. وبالمقابل يمكن أن يفرض المجتمع على الدين أطره ويحدّد بنيته وشكله. راجع كتابه: Éléments de sociologie religieuse ; Éditions Stock, Paris 1997, p127.

[12]  يقول كورنيلوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis) في هذا السياق:

 «La liaison profonde et organique de la religion avec l’hétéronomie de la société s’exprime dans ce double rapport: toute religion inclut dans son système de croyances l’origine de l’institution ; et l’institution de la société inclut toujours l’interprétation de son origine comme extra-sociale» ; Domaines de l’homme ; Éditions du Seuil, Paris 1986, p 466.

[13]  عبد الجواد ياسين، الدين والتديّن: التشريع والنصّ والإجماع، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص /2012.

[14] تعبّر التعدّدية الثقافيّة عند تزيفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov) عن “نزعة إنسانيّة، إنّها سمة سياسيّة تكمن في نقد الاختلافات بين المجتمعات داخل بلد ما”، حوار منشور ضمن كتاب “تزفيتان تودوروف: نحو رؤية جديدة لحوار الحضارات، تأمّلات في الحضارة والديمقراطيّة والغيريّة”، ترجمة وتحرير وتقديم: محمّد الجرطي، دار المتوسّط، ميلانو، الطبعة الأولى 2015، ص 165.

[15]  تُراجَعُ سلسلة “الإسلام واحدا ومتعدّدا” بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي/منشورات دار الطليعة بيروت.

 

في الفكر النقدي المؤسس على رؤية فلسفية عقلانية لا توجد منطقة رمادية، جميع المناطق يجب أن تكون مضاءة، تحت الشمس، بألوانها المختلفة والمتميزة.

"الاختلاف" هو الأصل في التفكير الإنساني الحر الفاعل والإيجابي، لأن الحقيقة متعددة وزوايا النظر إلى الأمور مختلفة ومتعامدة. الاختلاف هو أصل الحياة المشتركة.

ظهرت "الوسطية" كطريق لجر الفكر العقلاني نحو "التلفيق" والترقيع والتمويه.

 "الوسطية" هي توأم التلفيقية، تعتصم الجماعات والأفراد بها كآلية لستر مرض "الانتهازية"، بهذا فالوسطية هي أيضاً أخت الانتهازية الناعمة، هي ذر الرماد في عيون العامة البسيطة.

"الوسطية" هي التوجس الكبير من قول "الحقيقة" كما يراها العقل في مرحلة زمنية معينة. هي الوسيلة لإقناع القطيع بطمأنينة كاذبة وخادعة سياسية أو اجتماعية أو دينية، وهي أيضاً إسعاد للدماغ الكسول وبهجة للخمول الفردي والجمعي.

"الوسطية" هي اغتيال للقناعة الفكرية وهي مصرع "السؤال" المحرج الذي يحفر في المناطق الخطرة والممنوعة. هي جمع ما لا يجتمع في طبخة لا طعم ولا رائحة لها وهي الموقف الثقافي لمن لا موقف له وهي التخندق السياسي لمن لا خندق له وهي الرأي الديني لمن لا رأي له.

"الوسطية" هي آلة جهنمية لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يلبس لبوس الاحترام الزائف والمنافق حيال السياسي والفقيه والمثقف.

"الوسطية" ليست محاربة التطرف كما يروج لذلك حراس معبدها، بل هي عبارة عن حرب باردة ضد النقاش الجاد وضد صراع الأفكار المثمر.

تحت قناع المحافظة على الوطن والحفاظ على الأمن والاستقرار، وما إلى ذلك من بلاغة التدجين السياسي والتدين المظهري، تمارس "الوسطية" وأنصارها استخفافاً بالوضوح الفاعل وفرض "الرمادي" في الحوار والسلوك واللغة.

"الوسطية" هي دفن رأس العقل في رمال المتاهة. هي ليست المناقض للتطرف، إنها الاكتفاء بكنس "التطرف" تحت السجاد.

ومن منطلق تقوقعها حول "تبرير ما لا يبرر" فهي راعية التطرف جراء تعميم الكسل الفكري وغسل الدماغ الجمعي، فـ"الوسطية" من حيث تدري أو لا تدري تعمل على إسكات الأصوات الأخرى المغايرة وتسعى إلى وأد الاجتهاد وقبر كل صراع إيجابي يعمل على تطوير العقل وتنمية التفكير وتطوير المجتمع.

"الوسطية" هي أكبر كذبة فكرية معمرة في تاريخ الفكر العربي، يصدقها المثقف والسياسي ورجل الدين، يصدقها المثقف الانتهازي والسياسي الذي لا يؤمن بفكر التناوب ورجل الدين الذي يسعى إلى خدمة السلطان مهما كان لونه وفكره.

المواطن البسيط والساذج ضد كل من يقف مدافعاً عن مصالحه بتلفيق تهم ونعوت تلحق به.

"الوسطية" تشيطن المختلف الواضح الذي يعيش بيننا وتصوره كائناً يريد الفتنة. تخون الوطني الناقد وتقدمه في شكل عدو يجب عزله. تكفر المؤمن الذي يعمل العقل في إيمانه ويرفض العقيدة بالوراثة كما يرفض التوريث في الخلافة.

"الوسطية" في الدين السياسي كشراء رأسمال محبة العدو والصديق في الآن نفسه والخلط بين الخصم والصديق بين الشر والخير، وبهذا تحول هذه "الوسطية" الخير إلى الشر والشر إلى الخير، من دون أن يتنازل لا الخيّر عن موقعه ولا الشرير عن موقفه.

"الوسطية" في الدين السياسي هي الإتيان ببرهان تراثي لكل موقع وموقف لتثبيته أو نفيه في الوقت ذاته، كل قضية يتم تبريرها بالنص في تأكيدها وفي نفيها في الوقت نفسه. 

"الوسطية" في السياسية أو عند السياسي هي محاولة ممارسة لعبة البهلوان على الحبل، المهم التوازن حتى لا يسقط، في هذه "الوسطية" تقبض الطبقة الحاكمة على العصا من الوسط، لا لشيء إنما لتحقيق البقاء حيث يتم ضرب اليسار باليمين واليمين باليسار. كلما شعر السياسي باقتراب ساعته يبدأ المساومة بالتمركز داخل "الوسطية"، يشتري ويبيع في القيم والمواقف والحلفاء. في السياسة تمثل "الوسطية" حبل النجاة للسلطة الحاكمة الآيلة للانهيار.

على المستوى الفلسفي، فالفكر الصادق الجريء هو الذي يعتصم بموقعه من دون خوف أو تردد أو تلكؤ، ينحاز إلى أمر أو موقف ويبرر انحيازه ولا يخفي قناعته، من دون الاعتقاد بأن موقعه أو موقفه هو "الحقيقة" المطلقة، هذا الانحياز الفلسفي والفكري الواضح يساعد الخصم على التموقع والوضوح المقابل.

الفكر الصادق الجريء هو خصم "الوسطية" لأنه يريد أن يكون اللون الأصلي في ضمة الألوان الأساسية، في حين تكون "الوسطية" خلطة ألوان باهتة وكاذبة وغير منسجمة ولا متناغمة.

كلما تحرر السياسي والمثقف النقدي ورجل الدين من "الوسطية" وتعامل كل واحد منهم بصدق وشفافية وانسجام مع مواقفه تمكن المجتمع من التقدم بثبات، وأصبحت الحياة السياسية والثقافية والدينية في صحة جيدة، معافاة من النفاق والمراوغة والفساد بكل أنواعه.

***

أمين الزاوي -  كاتب ومفكر

 عن صحيفة اندبندنت العربية

ليوم: الخميس 13 أكتوبر 2022 0:03

وها هو الذكاء الصناعي يخرج لنا أرنباً جديداً من قبعته، برنامجاً إلكترونياً يستطيع أن ينظم الشعر ويؤلف لك الكتب التي تريد. يكفي أن تلقي إليه ببعض الأفكار وهو جاهز للتنفيذ في رمشات عين. وقد جرّب صحافي فرنسي البرنامج وحصل على كتاب يباع الآن عبر «أمازون». لكنني لم أسمع، حتى الآن، عن شاعر أو روائي عربي جلس مكتوف اليدين أمام الشاشة وتركها تتمخض وتلد له ديواناً أو رواية.

معنى هذا أننا لن نعود نعرف للكتب نَسَباً. لا ينفع تحليل الحمض النووي للاهتداء إلى الأب الحقيقي، أي المؤلف. هل هو بشر أم آلة تنافس البشر في الذكاء؟

إن المؤلف الشبح معروف في عالم النشر من قبل. يُطلقون عليه في فرنسا تسمية «العبد». أي ذاك الذي يساعد كاتباً في تأليف كتاب مقابل مبلغ متفق عليه. وكان الروائي الرائج جان لو سوليتزر يتشدّق بالقول: «أكتب مع عبيدي». وبقيت رواياته تحقق أعلى المبيعات رغم علم القراء بأنها ليست من بنات خياله. لكن مهمة عبيد الروايات لا تشبه مهمة الأشباح الذين يحررون الكتب للمشاهير من الفنانين والفنانات. يجلس أحدهم مع الفنان ويستمع إلى وقائع حياته. بعد ذلك يتولى صياغتها بأسلوب جذاب. أي «بماء الورد»، كما يقول المصطلح الفرنسي. وتتراوح مكافأة الشبح ما بين 5 آلاف و15 ألف يورو، بحسب خبرته كصحافي أو بحسب شهرة الفنان الذي ستنزل المذكرات باسمه.

سئل شبح فرنسي معروف عن السبب الذي يجعله يؤلف الكتب للغير. قال إنه حلم منذ صباه بأن يصبح كاتباً معروفاً. فهو بالتأكيد لم يولد ليكون عبداً أدبياً. لكنه فشل في بلوغ أمنيته وها هو يعيش من تأليف كتب المشاهير وبعض الروائيين المعروفين.

دفع الأمير البريطاني هاري مليون دولار للصحافي الأميركي جي. آر. مويهرنغر لكي يؤلف له كتابه «بديل». ودفعت دار النشر ما يعادل 45 مليون دولار لهاري مقابل ثلاثية يروي فيها تخبطات حياته. بيع من الجزء الأول، حتى الآن، ملايين النسخ بعدة لغات، وما زال يبيع.

ليس من واجب الكاتب أن يكون موضوعياً حين ينجز مهمة مثل هذه. هو ليس صحافياً ملتزماً بالحقيقة، بل هو وسيط ينقل مشاعر من يكتب باسمه. تعرّف هاري على شبحه بواسطة صديقه الممثل جورج كلوني. ولم يكن الشبح نكرة بل كان كاتباً نال جائزة «بوليتزر» المرموقة. سبق له وأن ساعد لاعب كرة المضرب أندريه أغاسي في تحرير سيرته، وكذلك عارضة الأزياء كلوديا شيفر. لكن الشهرة والمقدرة لا تكفيان. لا بد من استلطاف بين الطرفين. حب من النظرة الأولى. كيمياء تسري بين العبد والسيد.

استمع الكاتب إلى الأمير عبر «زوم». تمدد هاري مرتاحاً في منزله في لوس أنجليس وراح يفضفض وكأنه في حضرة طبيب نفسي. وخلال خمسين جلسة تجمعت لدى الشبح مادة تصلح لعدة كتب. ليس مطلوباً منه أن يحذف أو يختصر أو يجمّل، حتى لو كتب كفراً. تلك مهمة الناشر وفريق المحامين الاستشاريين.

هل يجوز لي الانتقال من الحيز العام إلى الخاص؟ فمنذ بدأت نشر الروايات وأنا أتلقى طلبات من سيدات عربيات لكي أكتب سِيَر حياتهن. هناك من لا يفهم الفرق بين الروائي والعرضحالجي. واليوم يمكن لأي كان أن يستخدم التطبيق الجديد ويحصل على كتابه الأدبي أو بحثه العلمي الخاص. ثورة في عالم الفكر يخشاها المؤلفون وأساتذة الجامعات. هل يخيفني الذكاء الصناعي ويُبهت رواياتي ويهدد مقالاتي؟ إن قدراتي على قدّي ومع هذا أقول له: أتحداك!

***

إنعام كجه جي

صحافيّة وروائيّة عراقيّة.

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 29 جمادى الآخرة 1444 هـ - 22 يناير 2023 مـ رقم العدد [16126]

 

حين التفكير في بدايات أزمنة جديدة ومُستهل عامٍ جديد، يتصدر مجالَ الرؤيةِ مفهومُ ’التقدم‘. وهو يعني حرفيا السير قُدمًا.. إلى الأمام، ودلاليا: الانتقال إلى وضعٍ وحيثياتٍ أفضل. هذا يعني أن التقدم خاصية، أو على الأقل إمكانية، مفطورة في صلب وجود الإنسان كفردٍ وكنوع. ببساطة، الإنسان يمكن دائمًا أن يكون/ يصبح أفضل.

يبدو العلم الرياضياتي التجريبي، وهو أنجح مشروع ثقافي أنجزه الإنسان، بمثابة التمثيل العينى والتجسيد الماثل لمقولة التقدم في الحضارة. قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير.. للتقدم. هي فروضٌ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، وأقدر على التوصيف والتفسير والتنبؤ والسيطرة التكنولوجية. كل يومٍ ثمة جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيتجاوزه ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعد.

ولئن كانت فلسفة العلم قد صاغت البلوَّرة المنهجية والمنطقية للطاقة التقدمية العظمى المتوشجة في بنية العلم، فإن ما نزعمه هنا أن التقدم في توجهات الفلسفة/ أم العلوم يتسارع ويتعاظم الآن حتى أنها تفوق العلم في معدلات التقدم. ولا شطط أو مُغالاة أو عجب في هذا. العجب أننا لا نلاحظ كيف تتقدم الفلسفة الراهنة نحو آفاقٍ جديدة، وطروحات مستجدة، تساؤلات أعمق ومناهج أقدر وأكفأ. وتموج الساحة الفلسفية الآن بتقدمٍ وتقدميات هائلة حقا.

بعبارة وصفية بسيطة وكاشفة، أقول إن معظم الفلسفة الآن، ما يشغل دارسيها وباحثيها وصانعيها، هو تقدميات مستجدة، لم يكن لها وجود في الدرس الفلسفي حين كنتُ إبان سبعينيات القرن العشرين طالبة في قسم الفلسفة بآداب القاهرة، أعرق قسم في أعرق كلية في أعرق جامعة. لم نكن ندرس: الفلسفة الإسلامية المعاصرة، الفلسفة في آسيا وأفريقيا، فلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية، فلسفة البيئة، الفلسفة النسوية، الفلسفة التطبيقية والعلاجية، آليات الخطاب والحوار بين الثقافات، أخلاقيات العلم والأخلاقيات المهنية والتواصلية، المنطق اللاصوري والتفكير الناقد، الفلسفة للأطفال.....إلخ. ولا كنا نسمع في دروسنا عن المناهج المدوية الآن: الهرمنيوطيقا أي الفهم والتأويل، التفكيك أي قراءة ما بين السطور قبل السطور نفسها بحثًا عن موجهاتها، الأركيولوجيا أي الحفر والتنقيب التاريخي والمفهومي بحثًاعن المنشأ، بخلاف مناهج التكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية في فلسفة اللغة والذهن والذكاء البشري والآلي ......إ ذلكم بعض ما يدرسه طلبة الفلسفة في الجامعات الآن، في الليسانس أو الدراسات العليا.

فضلا عن هذه المتون، انطوت هوامشنا فيما سبق على ثلاثة عُمَد، كان لابد أن يحددَ الموقفَ منها كلُ مَنْ يلج رحابَ الفلسفةِ: الوجودية والماركسية والوضعية. هذه الركائز الثلاث طواها الآن تيار التقدم؛ لتتخلق هوامش فلسفية أكثر تقدمًا، أوسع مراما وأبعد غَورًا. الوجودية غلبها سؤال الهوية الثقافية والموقف التاريخي. أما عن الماركسية التي اقترنتْ في حينها بالموقف السياسي العلمي التقدمي، فقد بات ثمة الطريق الثالث والهندسة الاجتماعية الجزئية والليبرالية الجديدة و’جديدات‘ شتى. وبدلا من الوضعية المنطقية في فلسفة العلم نجد الآن رؤية بانورامية شاملة لظاهرة العلم، لا تقتصر على منطق العلم ومنهجه، بل تضم إليهما الأبعاد الثقافية والحضارية للعلم في تيار التاريخ وفي تفاعلاته مع مكونات الثقافة والمتغيرات الحضارية الفاعلة.

إن الفلسفةُ هي الانعكاس المُجرَّدُ الواعي لحقبتِها الحضارية، ومن ثمَّ كانت هذه التقدميات الخلاقة في أعطافِ الفلسفة الراهنة انعكاسًا ومحصلةً للقفزة الحضارية الشاملة بالانتقال في النصف الثاني من القرن العشرين من مرحلة الحداثة إلى مرحلة مابعد الحداثة التي هي ذاتها مابعد الاستعمار، مابعد المركزية الغربية وواحدية نموذج التقدم الغربي. فقد تخلقت نماذج أخرى عديدة لتجارب التقدم العملاقة، مع المعجزة اليابانية والعملاق الصيني والتصنيع الكوري وقهر الفقر في ماليزيا ومعدل الدخل في سنغافورة ووادي السليكون في الهند وتعاظم الثقل المالي في الخليج العربي وصناعة الطيران في الأرجنتين....إلخ.

نلاحظ أن هوامش المتون المطروحة عاليْه انتهت بتجسيدٍ لفلسفة علم مابعد الوضعية. أما الأمثلة التي طرحناها لفروعٍ الفلسفة المستجدة فبدأت بالفلسفة الإسلامية المعاصرة والفلسفة في آسيا وأفريقيا وفلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية. واضح أنها فروع تجسد عصر مابعد واحدية النموذج الغربي. إنه ثراء التنوع البشري الخلاق وتعدد مراكز التقدم، وانبثاقة عصر ’التعددية الثقافية‘. لقد توهجت في مونديال قطر. وتوهج معها ما أسماه فيلسوف الإعلام والتواصلية يورجين هابرماس ’مابعد العلمانية‘، التي تعني تصالحا مع الدين وكفًا عن إدانته باللاعقلانية والتخلف، تطبيقًا لمبدأ بعد حداثي شامل هو قبول الآخر. ولئن قبلتْ الثقافة الغربية شراذم آخرين عجبًا كالمثليين وراغبي التحول الجنسي، فإن الدين بالذات أهم مكونات الثقافة عموما وثقافة الأنا خصوصا.

في هذا تبدو العلمانية التنويرية المقترنة بالحداثة آخر حلقات مواجهة عريضة وكفاح طويل لتحجيم الدين وإقصاء رجالاته، منذ المرتدين في الإسلام والنزعة الإنسانية في عصر النهضة والواحدية المادية ولغة الفلسفة التجريبية التحليلية والبلشفية....الخ. في الصيف الماضي قُدّر لي أن أزور سبع دول أوروبية في غضون شهرين؛ فرأيت في سويسرا شوارع تعج بالراهبات، ودخلت في فينسيا كنائس مهجورة فتحولت بناياتها الثمينة الشاهقة إلى مراكز فنية وثقافية، ولا مشكلة في هذا أو ذاك. ولم أر شارعًا واحدًا في أوروبا يخلو من مُسلِمة مُحجبة؛ وليس يقُض هذا مضجع التقدميين، أو فلول العلمانيين التنويريين. لقد دخلتُ جامعات في 34 دولة، ولم أرَ دولة في العالم لا يزال مثقفون فيها مهمومين بتحجيم الدين وحجب شخوصه، إلا مصر! كم يستبد بي الحُلمُ أن يلحق هؤلاء بتقدميات عصر مابعد العلمانية، مابعد الحداثة والاستعمار وواحدية المركز الغربي، ومابعد سلطان شمال الأطلنطي.. عصر قبول الآخر، والتعددية الثقافية الأكثر عدلا وثراءً.

نعود إلى الفلسفة من حيث هي الفلسفة، أو ’الحكمة‘ بتعبير أسلافنا الإسلاميين، لنجدها تختلف عن العلم في أن الجديد لا يلغي القديم ويحذفه، بل يستوعبه ويتجاوزه. وتلك المساقات التقدمية في الفلسفة، التى ذكرت أمثلة عديدة لها، إنما تُدرَس وتُدَرَّس على خلفية وأصولية من الكلاسيكيات الخالدة عبر مراحل تاريخ الفلسفة الممتد بطول تاريخ الحضارة الإنسانية وعرضِها. فتحمل الفلسفة لدارسيها ومحبيها، وللثقافة الإنسانية الشاملة، وعدًا أكيدًا بثراءٍ عقليّ لا يُضاهى، ولا يكف عن الاستثمار والتنمية في تقدميات لن تتوقف حتى قيام الساعة ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾.

***

د. يمنى طريف الخولي

عن صحيفة الأهرام القاهرية ليوم:

20 – 1 – 2023م

في المثقف اليوم