اخترنا لكم

رغم أن «داعش خراسان» أعلن أنه خلف العملية الإرهابية في ضواحي موسكو، فإن هناك من ينفي ذلك! الإرهابيون الجناة يقولون إنهم من خطط للعملية ونفذها، والمعارضون يقولون لا!

يذكرني هذا بالتبريرات الغربية التي يقولها بعض المفسرين لإرهاب «القاعدة» سابقاً وحتى الآن، حيث يقول قادة «القاعدة» ومنظروها إنهم مؤمنون بآيديولوجية تكفيرية هي من تحركهم وتجعلهم يضحون من أجلها ويكفّرون حتى المقربين منهم، ولكنّ المنظرين في الغرب يرددون أن سبب «11 سبتمبر/ أيلول» وغيرها هو التوسع الأميركي والإمبريالية الحديثة وهجوم الحداثة على مجتمعات ترفضها. وقد كنت في محاضرة بجامعة غربية وردد البروفيسور كل هذه التبريرات على الطلاب، لكنه نسي أن يقول التفسير البسيط، وهو أن التطرف يولد إرهاباً! ونسي أن يقول إن المتطرفين لا يخرجون من بطون أمهاتهم متطرفين، بل شخصيات سوية طبيعية، لكنهم ينغمسون في ثقافة تحولهم إلى متطرفين ويرتقون بعد ذلك في السلم الوظيفي ليصبحوا إرهابيين!

وآخر الأعذار الجديدة هو أن «داعش» أداة استخباراتية، وهناك بعض المخبولين على وسائل التواصل من يقول إن الرئيس أوباما هو مؤسسه. وهم يرددون بذلك تصريحات ترمب التبسيطية الكيدية الذي يتهم أوباما بأنه خلف «داعش»، وهو يقصد أن انسحابه من العراق خلق فراغاً ملأه «داعش»! وفي كلا الحالتين الأمر غير صحيح، فجماعة «داعش» أعلنت ذلك في بيانها الأخير، وبينت أن دوافعها نتيجة تفكير متطرف أولاً وآخراً، وقد تلجأ دول أو منظمات لاستخدامها، لكن سبب تشكلها ونشوئها هو فكر متطرف، ونهايتها يقضي بنهاية الفكر المتطرف الذي بث فيها الحياة من البداية.

ولكن لماذا اختلاق مثل هذه الأعذار؟ هناك أصحاب نيات طيبة ينخدعون بمثل هذه الدعايات ولا يريدون إلصاق التهم بالإسلام لهذا يبحثون عن تبرير يريحهم. ولكن الإسلام كدين عظيم بريء من هذه الاتهامات، وهناك فرق كبير بين الفكر المتطرف والدين الإسلامي، ولكن، للأسف، أصبح يُنظر لهما كشيء واحد. الإشكالية أن خطاب الكراهية ساد لعقود وربما قرون، وخلق هذه البيئة الحاضنة التي جعلت المتطرفين يختطفون الدين ويتحدثون باسمه وكأنه ملك لهم، ويخرجون منهم من يريدون ويستخدمونه أداة للتحريض والتجنيد. ولهذا شهدنا في العقود الأخيرة فقط كماً كبيراً من التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية مثل «القاعدة» بفروعها لـ«داعش» بتقسيماته إلى «حزب الله» و«عصائب الحق»، كلها قامت عملياً باختطاف الدين وتكفير غيرهم لفظياً، أو الإجهاز عليهم بالأحزمة الناسفة أو السيارات المفخخة. إنها أزمة فكر متطرف، ولنتذكر أن روسيا تعرضت لهذه المذبحة الدموية، ولكن الدول المسلمة هي أكثر من تعرض لهجمات المنظمات الإرهابية، وأبناؤها هم الضحايا، سواء كانوا القتلة أو المقتولين. تحول فتى مسالم إلى وحش عديم القلب خلال سنوات قليلة هي مسؤولية المجتمع ولا يمكن أن يلقى اللوم عليه لوحده. لو عاش في بيئة تغرس فيه منذ صغره، في البيت والمدرسة والمسجد والتلفزيون، قيم التسامح والعقلانية وفهم الجوهر الإنساني لكل الأديان هل يمكن أن يتحول إلى إرهابي؟ بالطبع لا، سيكون إنساناً سوياً متسامحاً صالحاً يحب الخير للبشرية ويعمل لخدمتها (ولخدمة نفسه كما نفعل جميعاً)، ولن يقوم بتفجير نفسه وسط الأطفال أو دهسهم بالشاحنة كالحشرات بحجة أنهم كفار!

ولكن أكثر من يردد هذه الاتهامات بأن «داعش» أداة استخباراتية هم أصحاب النيات السيئة لسبب واضح وبسيط، وهو أنهم لا يريدون محاكمة الفكر المتطرف، ولهذا يقومون بخلط الأوراق. وهم من يقولون في كل مرة إن المنفذين مرضى نفسيون ومختلون، وهذا أيضاً عذر آخر بهدف التشويش بتحويل القضية من قضية فكرية ثقافية إلى قضية صحية! ولكن المرضى النفسيين يذهبون إلى العيادات ولا نراهم ينظمون أنفسهم في جماعات مسلحة حديدية ويحرقون المجمعات ويفجرون المساجد! كل هذه مجرد خدع بصرية وهم يتحدثون الآن عن المواجهة الثقافية مع الغرب وتحويلها إلى وقود لإنعاش الفكر المتطرف وإيجاد الأعذار والمخارج له، ومن المفارقات أن هؤلاء المتطرفين يذهبون إلى الغرب نفسه الذي يمنحهم حرية التعبير، ولكن يستخدمونها للتحريض على الدول التي تتبنى الفكر المتسامح والإنساني الذي يحفظ للإسلام تساميه وروحانيته ويستعيده تدريجياً من يد خاطفيه.

ليس التوسع الأميركي أو غزو الحداثة ولا الاستخبارات ولا الاستعمار أو الإمبريالية أو المواجهة الثقافية مع الغرب. كل هذه مبررات اختلقها المتطرفون المراوغون لإبقاء فكرهم المتطرف على قيد الحياة. الإرهابيون أنفسهم أكثر صراحةً ويقولون إنهم تكفيريون ويستحلون الدماء، لنصدقهم مرة واحدة!

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم 25/3/2024م.

 

تتصل الدلالة الأنطولوجية بالعلوم ذات العلاقة بتلك «الشطحات العقلية»، الساعية للاستزادة المعرفية والوجدانية فيما بعد الحسي والمعتاد، وفي ذلك اجتهد الإنسان وتعددت «مناوراته الفلسفية».

وعلى الرغم من الإمدادات المسهبة التي تلقفتها الإنسانية، من رحم التحولات العالمية المتعاقبة، من تغير كبير في ملامح الحضارة، وطبيعة الثقافة، وفحوى الاستمرارية، فإن ذلك لن يحول من دون الركون إلى «وسادة الدين» للحصول على الراحة المبتغاة، أي التغذية الروحية «الخالية من الشوائب»، إذ لم تنجح التطورات التكنولوجية وأدواتها، ولا معطيات الحداثة الغربية في شغل ذلك الفراغ الكبير المتروك على أنقاض «الإصلاحات الدينية» في القرون الماضية. بل إن ذلك، وإنْ بدا في حينه علاجاً ناجعاً، فإنه تسبب لاحقاً في تصدع عميق في قلب الهيكلة الفكرية والأيديولوجية لمجتمعات إنسانية عديدة، وبخاصة في ظل إطباق الثقل المفاجئ للمادية على صدر الإنسانية وإنسانيتها.

وفي تتبع تحليلي لوصف أحد الأعمدة الفكرية حول الحاجة الأنطولوجية للمقدس، نجد أن البروفيسور الأب يوسف مؤنس يربط بين الحالة الدينية «التدين» وبين الشوق الإنساني الذي يعبر عن سعيه مهرولاً نحو تخليد الحضور الإلهي على امتداد التاريخ، كما يبين أن الحاجة إلى الشعور الديني تمثل «شريان حياة» لدى أفراد المجتمعات، وهي لا تختلف عن الحاجة للمياه والهواء وغيرهما من ضرورات «صون الوجود» الإنساني. إن الكينونة البشرية تعيش في وعثاء متقلبة، ولا يمكن البتة أن تجد إنساناً صافية حساباته من المشاكل أو الابتلاءات، حتى وإن عاش داخل «طوق من أمل»، وبالتالي فإن ما يجعله قادراً على الاستمرار أو المحاولة على أقل تقدير مواجهاً «عطب» الحياة، هو تمتعه بروحانية بهية تسمو به فوق «طاحونة الحياة».

إن القدرة على الاستمرار لا تتحقق عبر أفكار «إقناعية» من الإنسان لذاته، بل عبر خلجات ذات ارتباط عميق مع بالعلاقة بين العبد والمعبود، لاسيما حين يتحول ذلك الارتباط إلى علاقة انجذاب وتعلق وهيام وعشق من العبد لمعبوده. إن الخطوة الأولى في سياق تصالح الإنسان مع ذاته، والسماح لروحه بالتنعم في عالم السكينة الأبدية، هي معرفة الله عز وجل، مما يعني تهذيب النفس وتزكيتها والفوز بطمأنينتها، وتالياً القدرة على التعامل مع أسئلة واستفهامات ذات علاقة بما وراء الفيزيقي.

وبتعبير أكثر شمولية، فإن القدرة على تحقيق التوازن بين الفيزيقي والأنطولوجي لدى الإنسان، سيؤول لإنتاج مجتمع أكثر جودة من حيث القدرة على استشعار وإدراك الحاجة للسلام والطمأنينة، وبالتالي سريان التوجهات الفكرية، وإيجاد حالة ثقافية وفكرية تحمل ذات الأسس التي تؤمن بالقيم المشتركة. إن ذلك التوازن من شأنه أن يأخذ الإنسان نحو اختيارات جديدة، كأن يبدل «ثوبه الذهني والسلوكي المستعار» تقليداً، بكسوة مختلفة يعرف ممَ نُسجت وكيف تكونت ولِمَ وُجدت.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 مارس 2024 23:45

 

وصفَ أستاذ العقائد الفكري المعروف «ويلفريد سميث» رجل الدين الآسيوي «أبو الأعلى المودودي» بأنه «أكثر المفكرين منهجيّة في الإسلام الحديث». لم يكن ذلك صحيحاً بأيّ حال، ولكن الإضاءة الغربيّة على المودودي كانت تجري وفق حسابات ورؤى. وكان الهدف أنْ يصبح المودودي ومن تأثّر به كحسن البنا ومن أثّر فيهم كسيّد قطب.. النموذج العالمي للإسلام. ولأنّ ذلك لن يكون محل رضا وقبول لدى عموم المسلمين، فمن شأن ذلك أن يمهّد لحروب أهلية دينية لا تتوّقف، ليدبّ الوهن في تلك الأمة التي تمتد من جاكارتا إلى داكار، ولتصبح معادلة فشلها «هزيمة بلا حرب».

تمتّ صياغة العديد من مسارات الغرق الفكري.. من جدل الخلافة، والحكومة الإسلامية.. إلى تسونامي الحاكمية والجاهلية والطواغيت. ولقد نجحت هذه الخطة المُحكمة لعقود طويلة، حيث يتم دعم المتطرفين وإضعاف المعتدلين وتشويه المثقفين، ليسقط المجتمع في حالة عدميّة من استحالة التوافق وفشل التنمية.

في عام 1963 أصدر مولانا وحيد الدين خان كتابه الشهير «خطأ في التفسير». رأى خان أن كتاب المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن»، وكتاب سيد قطب «في ظلال القرآن» يحملان خطأً في التفسير.. ذلك أنهما قاما بالتفسير السياسي للدين، وهو ما يختلف عن فهم علماء الإسلام عبْر القرون، والذين أجمعوا أن الدين في جوهره هو علاقة بين الله وعباده، وغايته الهداية، وليس فرض نظام سياسي.

اشتهر مولانا وحيد الدين خان الذي ألّف أكثر من (50) كتاباً قبل أن يرحل عام 2021.. بكتابه «الإسلام يتحدّى» والذي يدافع فيه عن الإيمان في مواجهة الإلحاد.

انتقد المفكر الهندي المسلم جماعات الإسلام السياسي التي أسّست «هوية قتالية» قائمة على الصراع ومحاربة العالم لكي يصبح المسلمون حكّام الأمم، وذلك تحت عنوان «استعادة حكم الخلافة» الأمر الذي حوّل الدين إلى عامل صدام.

يقول خان: لقد جعل المودودي الغاية المنشودة للأنبياء إحداث انقلاب سياسي في مجتمعاتهم للوصول إلى الحكم، وأن هذا كان هدف كل نبيّ ورسول. فالدين في فكر المودودي هو السُّلطة والحُكم، وأمّا العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج.. فهي مجرد تربية وإعداد للمسلمين.. وذلك للوصول إلى الهدف وهو اقتلاع النظام، وتأسيس حكومية إلهية، وليست أركان الإسلام سوى الطريق للهدف الأسمى وهو الوصول للسلطة.

يردّ خان: إذا كان الأمر كذلك.. لماذا لم يعبر سيدنا موسى ويقيم الحُكم بعد غرق فرعون، وقد أصبح الجو السياسي مهيئاً، ولماذا لم يُقم سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء ولا المسيح عليه السلام بتأسيس حكومة؟ فهل لم يقُم أولو العزم من الرسل بالغاية المنشودة في هذه الدنيا.. معاذ الله؟!

وفي لفتة رائعة يقول مولانا وحيد الدين خان: إن الجماعات المتطرفة تقدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) كرجل حرب لا يترك السلاح، نبيّ مقاتل، لا يخرج من حرب إلاّ إلى أخرى، مع أنه حاربَ بنفسه (3) حروب فقط، في بدر وأحد وحنين.. وكانت مدتها (36) ساعة في (23) سنة، وأمّا باقي المعارك فقد كانت كلها دفاعيّة.

إن دعاة التطرف يتصرفون وكأنهم «محاسبو الكون».. والقرآن الكريم يقول: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ».. فالمسلم يكون ناصحاً لا قاضياً، وهدف الإسلام ليس وصول المسلم إلى السلطة، بل وصول المسلم إلى الجنّة.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 مارس 2024

الطفل ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم

في مقابلة طويلة مع المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» (Question de Philo)، الصادرة في خريف 2023، عدت الفيلسوفة الفرنسية شانتال دِلسول (Chantal Delsol) في مقابلة معها أن «الطفولة هي بداية الدهشة الفلسفية». وكانت المقابلة تدور حول كتابها الأخير المخصص حول فلسفة الطفولة وهو تحت عنوان «un personnage d’aventure» (شخصية مغامرة). وهي تعدُّ أن موضوعها الأساسي هو الطفولة، وذلك لأنه موضوع ساحر بامتياز لأنه غامض بامتياز. وهي تبرر اهتمامها بهذا الموضوع، إضافة إلى اهتمامها بالفلسفة السياسية بأنها قبل أن تكون فيلسوفة هي أُم لأسرة كبيرة مؤلفة من ستة أبناء. وهي الآن محاطة بعدد من الأحفاد والحفيدات، وذكرت في كتابها العديد من الملاحظات التي استخلصتها من حياتها اليومية معهم، وتقول إننا لا يمكن أن نتفلسف حول الطفولة إذا لم نكن قريبين جداً من موضوعنا. ولكن كيف يعبر الطفل عن الحقيقة البشرية؟ برأيها، إن ما يظهر بشكل فاقع هو هشاشة الطفل وكونه خاضعاً لعناية وانتباه الراشدين. أضف إلى ذلك كونه يجد نفسه أمام عالم ضبابي وغامض، حيث يسيطر عليه الخوف والبحث عن الدلالات. وكل ذلك هو ما يميز الكائن البشري والمحدود وغير الكامل والضعيف بشكل مرعب والخاضع أيضاً إلى عناية الآخرين وإلا أصبح مجنوناً. ولكنه غالباً ما يجهل ذلك ويظن نفسه مستقلاً. في الواقع، إن شرط الكائن البشري هو شرط كائن مصدوم أمام عالم مجهول يحاول دوماً أن يمنحه معنى ما.

إن الطفل يعرف ويقبل حالة الضعف البشرية التي يحاول الراشد باستمرار أن ينتصر عليها أو يتجاهلها. إذن، تعدُّ الفيلسوفة دِلسول أن الطفل هو المصدر ونحن نتبع للطريقة التي من خلالها نفهم أصلنا أو مصدرنا. وهي تعدُّ أن ليست هناك أي قطيعة بين الطفولة وسن الرشد، وذلك لأنه مع الطفولة يبدأ كل شيء بما في ذلك كل ما هو أكثر تعقيداً، وذلك لأن النظرة المتفاجئة لدى الطفل الذي يضاعف طرح سؤال «لماذا» ليست سوى بداية الدهشة الفلسفية، وشعور الطفل بالرعب أمام الشر الذي يجهله هو بداية الاستياء الأخلاقي.

وحول رأيها بأعمال المحلّلة النفسية فرنسواز دولتو التي تعدُّ أن الطفل هو ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم ويسمع كل شيء إذا عرفنا كيف نكلمه ونشرح له، فإن فيلسوفتنا ترى أن هذه طريقة معاصرة جداً في رؤية الأمور، حيث إن الأهل الشباب يشرحون كل شيء للطفل وحتى للرضيع. وتعتقد أيضاً أن الطفل ليس فقط شخصاً متمتعاً بكرامة كاملة بل هو أيضاً ذات تفهم؛ وإن ما يدعو للعجب هو أن الأطفال يفهمون الأوضاع، لأن لديهم قدرة كبرى انفعالية وحدسية. ونحن لسنا بحاجة لأن نخفي عنهم شجاراً أو قلقاً أو صعوبة ما، وذلك لأنهم يشعرون بذلك مباشرةً. إذن، بالنسبة إلى الفيلسوفة دلسول كل شيء يتم ويتأسس في مرحلة الطفولة. وكل شيء يتعلق بتلك الصورة التي يتم منحها للقلب وللروح. وأيضاً كل شيء يتعلق بالأحداث التي تمهر مرحلة الطفولة الطرية العود. وهي تعتقد أن الطفولة السعيدة هي بمثابة رأسمال لحياة لا يُقدر بثمن.

كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية لأن مواجهة الواقع هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية

ولكن، ماذا تقول فيلسوفتنا اليوم لأولئك الأزواج الذين يترددون في إنجاب طفل في هذا العالم خوفاً من المستقبل في مجتمع معرّض للإرهاب وللأخطار البيئية على الخصوص؟ في الواقع، هي تعدُّ أن الأخطار المذكورة أعلاه لا تعني شيئاً. برأيها، فلكل عصر أخطاره الكبرى. ومن دون شك كانت الأخطار أكبر في العصور السابقة مع الحربين العالميتين ومع الأنظمة الشمولية؛ ومن السخرية أن نتذرع بأخطار العالم كي لا ننجب أطفالاً. ولكن هل نساعد أطفالنا لمواجهة الواقع من خلال تعليمهم بعض المفاهيم والمبادئ في الفلسفة وعلم النفس؟ دلسول لا تعتقد بذلك. فهي تعدُّ أنه كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم والواقع ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية، لأن مواجهة الواقع كمحبة الأقارب والأشقاء والأصدقاء هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية. وحتى نقبل الواقع يلزمنا ليس المعارف والنظريات، بل الفضائل مثل الصبر والمثابرة والرجاء، وهذا لا نتعلمه في الكتب، بل من خلال الوجود الواضح والجدّي المعاش مع راشد حريص. لا شيء يجعل الطفل مسؤولاً سوى وجود مربّ يتسم بالعمق والاهتمام الدائم.

ولكن مشكلة التربية الأساسية اليوم تتمثل في عدم قدرة الأهل على إجبار الأطفال على الكبت، وتعليمهم كيفية إدارة كبتهم. دلسول تعدُّ هذا الأمر بمثابة إحدى المشكلات الكبرى التي نصادفها وتتمثل في عجزنا، ضمن المجتمعات الثرية، عن حرمان الأطفال من كل ما يشتهونه... ويجب الاعتراف بأنه من الأسهل للمربي أن يُرضي كل رغبات الطفل، وذلك لأن قول «لا» يقتضي قوةً وثباتاً يشعر الكثيرون بأنهم عاجزون عن ذلك. ولكن المشكلة تكمن في أن طفلاً يكبر من دون أن يعرف الكبت يصبح منحرفاً بالقوة.

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 20 مارس 2024 م ـ 10 رَمضان 1445 هـ

انعقد بمكة المكرمة من جانب رابطة العالم الإسلامي مؤتمرٌ واسعٌ لعلماء الإسلام من مختلف الفئات والمذاهب من أجل التعاون والتضامن وإزالة الحساسيات، ونشر قيم الاعتدال والتسامح والوحدة والتطلع للمستقبل. وقد صارت هذه الملتقيات سُنةً محمودةً شكلت خلال العقود الأخيرة مظلةً في مواجهة تحديات الفرقة والقطيعة والتطرف؛ وبخاصةٍ ما صار يصدر عنها من بياناتٍ ووثائق وعقود تشارك وتعاون بين المؤسسات لجلاء القتام عن وجه الدين الحنيف، واستعادة السكينة ونشر قيم السلم والانفتاح وصنع الجديد والمتقدم.

بيد أنّ الذي أريد تجديد الحديث فيه هو الخطاب الديني العام وكيف تجري صناعته وسط المتغيرات الكثيرة والكثيفة. وهو شأنٌ كبيرٌ يمضي الحديث فيه كل يومٍ على وجه التقريب. ذلك أن المهمات الأساسية لعلماء الدين تتمثل في أربعة أمور: الدعوة لوحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام. ومؤتمر مكة والمؤتمرات المشابهة تتعلق بالإرشاد العام بالذات. فلا يزال التأثير قوياً ومعتبراً في الأمور الثلاثة الأولى: العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى؛ لكنه لم يعد كذلك في المجال الرابع: الإرشاد العام. لقد صارت هناك جهات كثيرة في المعارف والإعلام ووسائل التواصل والفضائيات، تملك أجندات لتوجيه المجتمعات، وضاق الحيز الذي يشغله علماء الدين لهذه الجهة للاشتراكات الكثيرة والتحديات الكثيرة من خلال المتغيرات والبرامج والمصالح المتصارعة في المعارف وفي الميول وفي تصورات الحاضر والمستقبل.

ولكي يكونَ واضحاً ما أقصده أذكر تحديات مواجهة التطرف، وتحديات الحوار مع الآخر الديني والثقافي خلال العقود الأخيرة. لقد كانت هناك صعوبات كثيرة سواء في المواجهة أو في التواصل، بسبب نقص المعرفة والخبرة، وبسبب متغيرات العصر والعالم. وقد احتاج الأمر إلى جهود جبارة من جانب الأفراد والمؤسسات حتى انفتحت سُبُلٌ بعد انسداد، وتبلورت شراكاتٌ بداخل المجال الإسلامي ومع عوالم الأديان والثقافات. ولا يزال. الأمر يحتاج إلى عملٍ كثير؛ لكنْ كما سبق القول فإنّ المجال انفتح؛ لأنّ الاحتياجات صارت ضرورات، وتتنامى المعارف لدينا بشأنها دونما توقف.

هناك مشكلاتٌ نوعيةٌ الآن، يقف الخطاب الديني أمامها عاجزاً أو لنقل إنه حائر. فالقرآن الكريم يأمرنا في عشرات الآيات والمواطن بصنع المعروف أو الأمر به والنهي عن المنكر. والمفهوم أنّ المعروف عالمي أو أننا نتشارك مع العالم في معرفته والتشارك بشأنه. وفي طليعة عوالم المعروف المسائل القيمية الكبرى المتصلة بحياة الإنسان وأفكاره وسبل السلوك استناداً إليها، وفي قلب هذه القيم حياة الأسرة وأخلاق العائلة، واهتمام القرآن الكريم مركزيٌّ وأساسيٌّ لهذه الجهة وما يقاربها في الأخلاق الخاصة والعامة. فهل لا يزال هناك معروفٌ عالمي يمكن تحديده والاحتكام إليه في مجتمعاتنا الجديدة ومع العالم الذي صار عميق التأثير في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حيواتنا الخاصة والعامة؟! هذه المتغيرات الكبيرة هل تركت مجالاً لمعروفٍ عالمي وكيف نفهم ونواجه جهات التأثير التي تهجم علينا في المنازل والأُسَر والطفولة والتعليم ومُثل التربية والتوجه. أعرف أنني لا أقول جديداً، ولا أتحدث عن مجهولٍ من جانب الخاصة والعامة. إنما الملاحظُ أننا ما عُدنا نملك خطاباً أو أساليب للفهم والإفهام في هذه المسائل. لقد صار خطابنا - إذا أمكن تسميته كذلك - قسمين: القسم الثائر الذي يتحدى ويستنكر ويتصدى من دون عروضٍ لبدائل معقولة. والقسم الذي يلجأ للرسوّ في التقليد المعتاد وهو خطابٌ انسحابي متشائم وفضيلته أنه يتشبث بالاستقرار مع يقينه أنه جرى تجاوزه وحوصر إلى حدٍ بعيد. الدول والسلطات ساعدت وتساعد في استقرار الحياة الدينية والشعائرية وحياة الأُسرة وسلاسة التعليم وحقوق المرأة والطفل. لكنّ علماء الدين أفراداً ومؤسسات يكون عليهم أن يواجهوا الجمهور، ويخاطبوه بشأن هذه المتغيرات التي غيّرتْ معالم المعروف والمنكر.

الدين قوةٌ ناعمةٌ وخطابها الإقناعي هو المعتبر وليس الخطاب الاحتجاجي الذي لا يصنع اقتناعاً ولا ينتج رضاً أو سكينة.

المتغيرات تجتاحنا، ولا سبيل للمواجهة بعقلية المؤامرة على طول الخطّ. فكما تدربنا خلال العقود الأخيرة وبالمعرفة والتأهُّل على مواجهة التطرف والإرهاب، وعلى المصير إلى الحوار العاقل والمنفتح، يكون علينا المصير إلى استمرار التأهُّل بالمعرفة لهذه المستجدات في حقائقها وفي وقائعها وإمكاناتها وتأثيراتها في الحاضر والمستقبل. إنّ التأهيل لمخاطبة الجمهور، والتنافس مع جهات الإرشاد والتوجيه، يقتضي تأهلاً معرفياً بالمستجدات وفهماً لكي نتأهل إذا صحَّ هذا التعبير في إنتاج استراتيجيات تحمي وتصنع المبادرات باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، لا نقصد إلى مواجهته، بل نتوخى الصيرورة إلى أن نكون ونبقى جزءاً من سلامه وأمنه وتقدمه.

فهل يمكن بالمعرفة العميقة والعقل النيّر أن نصير مع الجهات العالمية والإنسانية إلى إعادة صياغة «المعروف» وإجماعاته ليس من أجل الحماية فقط، بل ومن أجل صناعة الصيغ التي تحفظ إنسانية إنساننا وإنسانية العالم الذي نعيش فيه؟!

إنها بالطبع مهمة كبرى لا يستطيع علماء الأديان القيام بها بمفردهم. لكنّ القادة الدينيين يلعبون دوراً بارزاً في المجال القيمي والأخلاقي. ولست أزعم أن مشكلات المعرفة والفهم، قصوراً أو إنكاراً، قاصرة علينا، لكنّ المسلمين يوشكون أن يكونوا خُمس سكان العالم، وكذلك الكاثوليك المقبلون على شراكة معنا.

وقد تأثرت كثيراً بوثيقة الأسرة الصادرة عن الفاتيكان عام 2019 لما تنم عنه من فهمٍ وشجاعة وإحساسٍ بالمسؤولية. ومثار القلق لدى كثيرين في أوساطنا وأوساط أصدقائنا هذه الكراهية التي تعود للتفجر في أوساط المثقفين من العرب والمسلمين من الغرب - هكذا من الغرب كله (!). والكراهية عجزٌ وسوء تقدير ولا تفيد في مواجهة المشكلات أو الإقبال على اجتراح الجديد، سواء في الخطاب الديني أو الثقافي. لقد مضت علينا زهاء العقود الأربعة في مكافحة التطرف والإرهاب في أوساطنا وتجاه العالم. وكنا نحمل على الانشقاقات في الدين، كما كنت أُدافع عن التقليد الديني باعتباره الدرع الواقي. لكنّ هذا القصور المستشري الذي يعود للاعتصام بالكراهية لا يدع مجالاً للأمل بالخروج من المأزق. فلا بد من المعرفة المحرِّرة. ولا بد من الإرادة المسؤولة. ولا بد من المبادرات الشجاعة.

لا بد من تجديد الخطاب الديني لتكون مهمته الإرشادية الكبرى إعادة تعريف المعروف، والمصير إلى ملاقاة العالم به، بدلاً من نبذه وكراهيته. تجديد الخطاب الديني ليس موقفاً فقط، بل هو إرادة ومبادرة فلا بد من المصير إلى إنجازه اليوم قبل الغد.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 22/3/2024م.

 

تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا في ممارسة السلطة

غالباً ما يستغرب الناس العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتمدّن الإغريقيّ. أعظمُ فلاسفة الألمان، في مقدّمتهم هيغل وهايدغر، أثبتوا الحقيقة الحضاريّة هذه. أمّا الوقائع فتدلّنا على أنّ التفلسف الحقّ لم ينشأ عند العرب أو الفرس أو سكّان الهند أو الصين أو أفريقيا أو مجتمعات السكّان الأصليّين في القارّة الأمِيركيّة أو الأستراليّة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نستفسر عن العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت المدينة الإغريقيّة الناشئة في القرن الثامن ق. م تساهم مساهمةً جليلةً في ولادة الفكر الفلسفيّ المحض. أعرف أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اختبرت ضروباً شتّى من التأمّل الوجدانيّ النفيس. غير أنّ استخدام العقل في بناء قواعد المنطق واستخراج أحكام النظر الموضوعيّ في الحياة ظاهرةٌ ثقافيّةٌ خطيرةٌ اقترنت بما انعقدت عليه المدينة الإغريقيّة القديمة من خصائص بنيويّة انفردت بها انفراداً استثنائيّاً.

إذا كانت المدينة الإغريقيّة قد استهلّت زمناً حضاريّاً جديداً في مَسار التاريخ البشريّ، فذلك لأنّها انطبعت بثلاث سماتٍ جوهريّةٍ بالغةِ الأثر. تجلّت السمة الأولى في مقام كلام التخاطب، وقد أولاه سكّانُ المدينة الإغريقيّة الصدارةَ المطلقةَ على جميع وسائل النفوذ والسلطان المستخدَمة عصرَذاك. من جرّاء الانتظام الاجتماعيّ في المدينة، أضحى كلامُ التخاطب الوسيلة السياسيّة البارزة، وباب السلطة في الدولة وسبيلها الأفعل والأخطر، وأداة الحكم وواسطة السيطرة على الآخرين. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بـ«إلهة الإقناع» عند الإغريق القدماء، وقد أطلقوا عليها اسم «الإلهة بيثو» (Peitho) تُسعفهم في إتقان فنّ المحاجّة العقليّة القادرة على استقطاب تأييد الشعب. لا ريب في أنّ صورة «إلهة الإقناع» مستخرجةٌ من الشعائر الدِّينيّة التي كانت تفترض في الأقوال الابتهاليّة المنطوقة قدرةً خارقةً على الاستجابة للدعوة وتحقيق الأمنية. وما لبث سلاطين الممالك والإمبراطوريّات القديمة أن استأثروا بهذا السلطان، فغدت أقوالُهم محلَّ إكرامٍ وتبجيلٍ لما انطوت عليه من قيمةٍ إنفاذيّةٍ خطيرةٍ.

بيد أنّ أهل المدينة الإغريقيّة لم يقلّدوا القدماء، بل أعادوا تعريف كلام التخاطب، فجرّدوه من صفاته الشعائريّة التعظيميّة ومن سلطانه الملوكيّ القاهر، ونسبوا إليه مقاماً تداوليّاً جعله ينبسط في صورة المباحثة الحرّة والمناقشة المفتوحة والمحاجّة البرهانيّة الموضوعيّة. من جرّاء التحوّل الخطير هذا، أصبح الكلام التخاطبيّ النشاطَ الاجتماعيَّ الثقافيَّ الأبرزَ في حياة أهل المدينة، إذ أخذ الناس يعاينون في الجماعة الملتئمة جمهوراً مُصغياً قادراً على التمييز والحُكم على مضامين المناقشة العلنيّة المحتدمة. كذلك اكتسب القاطنون في المدينة الإغريقيّة صفة المرجعيّة القضائيّة التي تَنظر في القضايا المتناقضة المطروحة على بساط البحث، وتقرّر أيّها الأقدرُ على الإقناع والأنفعُ لمدينتهم.

اعتلنت السمة الثانية في عَلانية المباحثة المنعقدة بين أصحاب الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة. ذلك بأنّ المدينة الإغريقيّة أتاحت للحياة الإنسانيّة أن تحظى بمنظوريّتها الاجتماعيّة في المجال العامّ أو العموميّ، بحيث أجمع أهلُها على البحث عن أسباب المنفعة العامّة المشتركة وصونها من هيمنة المصالح الذاتيّة الخاصّة. في قرائن هذا التحوّل، اضطرّ أهل السلطان إلى تقليص دائرة الممارسات الأرستقراطيّة النخبويّة التواطئيّة السرّيّة، والإفصاح العلنيّ عن عمليّات التفاوض المفضية إلى استخراج القرارات السياسيّة والاقتصاديّة. من البديهيّ، والحال هذه، أن يجرّد الناسُ أصحابَ السلطة من هيمنتهم على مصادر المعرفة حتّى يتسنّى للجميع أن يطّلعوا على المعلومات الضروريّة التي تؤهّلهم للحُكم الموضوعيّ على القضايا المصيريّة المشتركة. بعد أن كانت المعرفة محصورةً في دائرة السلطان الحاكم، شاعت شيوعَ المساواة في الاطّلاع والاستعلام. فنشأ من جرّاء هذا كلّه تحريضٌ حميدٌ على إعمال الفكر في شؤون الحياة المدنيّة العامّة، فنهض الناسُ إلى الاعتناء بتهذيب عقولهم حتّى يستطيعوا أن يواكبوا الحدث ويضطلعوا بمسؤوليّة الوعي النقديّ المستجدّ.

أمّا السمة الثالثة فظهرت في خضوع الشأن السياسيّ كلّه لسلطان الكلام التخاطبيّ التداوليّ. ذلك بأنّ المناقشة والمحاجّة والجدل أعمالٌ أمست تضبط مَسار النشاط الفكريّ والحركة السياسيّة. أمّا الجماعة الناظرة في القضايا العامّة فتحوّلت إلى رقيبٍ يدقّق في إنتاجات الفكر وأعماله، وفي اجتهادات الدولة وقراراتها. فما لبث هذا التحوّل أن أفضى إلى تغيير ناموس المدينة الإغريقيّة، بحيث نبذ الناسُ الحُكمَ الاستبداديَّ المطلق، وآثروا نظام الانتخاب المباشر والمواكبة الساهرة والمحاسبة الصارمة. ومن ثمّ، لم يَعد في مقدور السلطان السياسيّ أو الدِّينيّ أن يفرض أحكامه بالقوّة، بل اضطرّ إلى الاستعانة بالدليل الواضح والبرهان الجليّ من أجل إقناع الناس بصوابيّة السبيل الإقراريّ الذي أفضى إلى مثل هذا التدبير أو ذاك.

لا ريب إذن في أنّ التحوّل الثقافيّ الذي أصاب المدينة الإغريقيّة أتاح انبثاقَ نمطٍ جديدٍ من التفكّر المبنيّ على النظر العقليّ الموضوعيّ المجرّد. فإذا بالفكر الفلسفيّ يولَد في معترك التحوّلات البنيويّة الذهنيّة الثقافيّة الاجتماعيّة هذه، فيحرّر رويداً رويداً الوعي الإنسانيّ من تصوّراته اللاهوتيّة الميتولوجيّة الأسطوريّة، ويساهم مساهمةً حاسمةً في تجلّي زمن العقل. في سياق هذا المنعطف، يمكن القول إنّ الفلسفة الإغريقيّة لم تشهد ولادة العقل، بل بَنت بنفسها العقل، أي أنشأت الشكل الأوّل من العقلانيّة الغربيّة. ذلك بأنّ العقل الإغريقيّ، في اعتلانه الأوّل، اضطلع بمسؤوليّةٍ جليلةٍ على قدر ما أكبّ ينظر في الأمور نظرةً منهجيّةً موضوعيّةً مجرّدةً أتاحت له التأثير في عقول الناس، قبل أن يتمكّن لاحقاً من تغيير مسار الطبيعة. وعليه، يصحّ القول إنّ العقل هذا، في طاقاته الاستكشافيّة وفي حدود إمكاناته، إنّما هو ابن المدينة الإغريقيّة القديمة.

لا بدّ هنا من التذكير بأنّ هذه المدينة تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً أفضى إلى قيامها على هيئة الانتظام الاجتماعيّ الذي كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا تشاركاً عادلاً في ممارسة السلطة، بحيث إنّ القوانين لم تَعد تَتنزّل عليهم من سماء التعالي الإلهيّ أو من دائرة السلطان القاهرة، بل أضحت تنبثق من صميم مباحثاتهم المستندة إلى مراعاة مصالح المدينة المشتركة. بفضل التحوّل الخطير في البنية السياسيّة هذه، استطاعت المدينة الإغريقيّة أن تستولد ضروباً جليلةً من التغيير الثقافيّ الاجتماعيّ البالغ. إذا أراد المرء أن يستجلي طبيعة هذا التغيير، أمكنه أن يحصيه في أربعة حقول أساسيّة من حياة الناس في المدينة. تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون (حوالى 640 ق.م - حوالى 558 ق.م) يصوغ دستور المدينة الأوّل، وقد عزَّز فيه سلطة الشعب. لذلك عاين فيه أفلاطون وأرسطو مثالَ المجتهد المصلِح الجريء الذي جدّد الحياة السياسيّة الإغريقيّة. تحقّق التغييرُ ثانياً في انتقاد التقليد الثقافيّ السائد، لا سيّما في البنى السياسيّة والاجتماعيّة، بحيث عكف العقلاءُ على تعطيل القرارات التي كانت الأريستوقراطيا الإغريقيّة تستأثر بها وتُبرمها سرّاً وتفرضها على الناس. كذلك طفق الفلاسفة ينتقدون المنهج التربويّ القائم على الذهنيّة العسكريّة القتاليّة والائتمار الإذعانيّ الذي لا يبيح الشورى. أمّا موضع الانتقاد الأخطر فأصاب مقام الكلام الذي كان مقتصراً على تلاوة القصائد وحفظ الملاحم الشعريّة المبنيّة على تعظيم أصول المدينة الأسطوريّة.

تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون بصوغ دستور المدينة الأوّل وقد عزَّز فيه سلطة الشعب.

لا عجب، من ثمّ، في أن ينعقد التغيير الثالث على ابتكار النظام الدِّموقراطيّ الذي أفضى إلى تدبير الحياة السياسيّة بالاستناد إلى مباحثات الساحة العامّة العلنيّة (الأغورا) ومجادلات الناس الملتئمين فيها التئامَ التمثيل الانتخابيّ العادل. أمّا السبيل الوحيد الذي كان يتيح تقلُّد المناصب التشريعيّة والتنفيذيّة، فالكلام التخاطبيّ التحاوريّ القادر على إقناع عقول الناس وإرشادهم إلى القرار السياسيّ الأنسب. من جرّاء الضروب الثلاثة الخطيرة هذه من التغيير البنيويّ العميق، انبثق التغيير الفكريّ الأخطر الذي أصاب الذهنيّة السائدة، إذ انصرف الناس إلى ممارسة الفعل الفلسفيّ، فالتأموا في مدارس محبّي الحكمة الذين شرعوا يحرّضونهم على ترك التفاسير اللاهوتيّة الأسطوريّة والاعتصام بالتحليل العقليّ الموضوعيّ. من أعظم هؤلاء الحكماء كان المعلّم سقراط (حوالى 470 ق.م-399 ق.م) الذي انتهج في المحاورة الفلسفيّة الحرّة سبيلَ التفكّر العقلانيّ الجريء. ولشدّة الإقبال على مزاولة المحاجّة الفلسفيّة، انبرت فرقةٌ من حكماء الدهاء البرهانيّ عُرِفوا بالسوفسطائيّين، ومنهم بروتاغوراس (490 ق.م - حوالى 420 ق.م) الذي رسم أنّ الإنسان مقياسُ كلِّ حقيقة ومرجعها، فطفقت تحثّ الناس على تعلُّم فنّ الكلام وأساليبه وإتقان لغة البلاغة والإحكام البيانيّ الساحر. أمّا أفلاطون فجسّد مثال الفيلسوف القادر على انتزاع نفسه من قرائن الخضوع لأحكام التقاليد، والارتقاء إلى مستوى النظر في عالم المثُل السامية. لذلك استهلّت كتاباتُه زمنَ الفلسفة الأصيلة التي استثمرت تحوّلات المدينة الإغريقيّة، فأخذت تسائل الوجود الإنسانيّ وتستفسره عن معناه الأعمق والأرحب. إذا كانت الفلسفة بنتَ العقل النظيف الحرّ، فإنّ الاستبداد يخنقها ويُجهِض ولادتها.

***

مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 13 مارس 2024 م ـ 03 رَمضان 1445 هـ

غونتر أندريس: البشريّة خلقت الظروف المناسبة لإبادة نفسها

لم تعد مسألة النّظر في التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية ووجودها ذاته من نافل القول، إذ اقتحمت نماذجه الأحدث كل مجالات الحياة المعاصرة، وأصبحت تطبيقاته في وقت قياسيّ جزءاً لا يتجزأ من فضاءات عديدة: الصناعة، والدفاع، إلى الطبّ، والتعليم، والإدارة، والصحافة، والنشر. ويعلّق كثيرون آمالاً كبيرة على هذه الخوارزميّات المتطوّرة بأن تعين البشريّة على التعامل مع تحديّات معقدة تواجهها كتغيّر المناخ، وتعظيم منافع الموارد القابلة للاستنفاذ، ومعالجة الأمراض المزمنة والعضال، وإنجاز المهام المتكررة والخطرة على نحو يوفّر وقت وطاقة البشر. لكن تلك الآمال الكبيرة تحمل في ثناياها تهديدات، تبدو عند محاولة تصورها، أقرب إلى ديستوبيا تامّة: من تحويل مليارات البشر إلى كتل متبطلة هائمة يأكلها البؤس بسبب أتمتة غالب الوظائف، وتطوير أسلحة متفوقة ذاتية التشغيل قد يساء استخدامها، ناهيك عن تعملق قدرات أنظمة الذّكاء الاصطناعي على نحو قد يخرج في لحظة ما عن سيطرة البشر، وينتج ما قد يتعارض مع رفاههم.

ومن الجليّ أن هذا التطوّر المتسارع لا توازيه، إلى اللحظة على الأقل، تدابير استباقيّة لضمان أن يسترشد استخدامه بأخلاقيات تمنع من تحول الذكاء الاصطناعيّ في النهاية إلى أداة لهيمنة فئة محدودة من البشر، وتبقيه دائماً في خدمة رفاهية النوع الإنساني، واستمرار وجوده.

من هذا المنظور، يمكن تفهّم تلك الاستعادة المفاجئة لأعمال الفيلسوف غونتر أندريس (1902 – 1992) إلى قلب الجدل الفكريّ المعاصر بعد طول إهمال. كان أندريس، مثل زوجته الأولى الفيلسوفة اليهوديّة الشهيرة هانا أرندت، قد تأمّل عميقاً في تراجع الأخلاق الإنسانيّة، وبحث في العوامل التي قد تدفع الإنسان إلى تعليق قدرته على التفكير المستقل، وخضوعه الطوعيّ للأنظمة على حساب حساسيته وتعاطفه الإنسانيّ.

في منتصف القرن العشرين، أي بعد تكشّف فظائع الحرب العالميّة الثانية، واستعمال الأسلحة النووية في حسم الحرب على الجبهة الآسيوية، ومن ثم انطلاق سباق التسلح بأسلحة الدّمار الشامل، لم تكن هناك مهمة أكثر إلحاحاً على الصعيد الفلسفي من فحص تلك النتائج التي قادت إليها الحداثة التقنية وجعلت من تكرار التوحش أمراً ليس ممكناً فحسب، بل إنه الاحتمال الأقرب.

انفصال أندريس عن أرندت في العلاقة التي جمعتهما، انعكس لاحقاً في تباعد مصائرهما ومساراتهما الفكريّة، إذ تحولت الأخيرة إلى عشيقة لمارتن هايدغر، الفيلسوف الذي يعده الكثيرون أباً فكريّاً للنازية، وهاجرت لاحقاً إلى الولايات المتحدة التي احتفت بها في أرقى الأكاديميات، وتحوّلت إنتاجاتها باللغة الإنجليزية إلى أدوات تبرر للهيمنة الأنجلوساكسونيّة في مواجهة النقيض الاشتراكيّ وكذلك للمشروع الصهيونيّ العنصريّ في فلسطين، فيما عاد أندريس، الذي هاجر مع موجة المفكرين اليهود الفارين من تعسّف النظام النازي إلى الولايات المتحدة، تالياً إلى القارة القديمة، واستمر ينظّر بالألمانية لمعنى كوارث الحرب الكبرى، وتأثير التكنولوجيا على الحداثة والحالة البشرية، لا سيما الهيمنة التدريجية للتكنولوجيا على جميع جوانب النشاط البشري: من التسليع الشامل، والتجريد من الإنسانية، إلى فصل النظرة إلى العالم عن الواقع الحقيقيّ بصورة بديلة أنتجتها تلك الهيمنة، وتعاظم احتمالات انقراض نوعنا بشكل نهائيّ.

لكن وعلى الرّغم من أهميتها الفائقة، فقد ظلّت أعمال أندريس غير معروفة في العالم الأنجلوساكسوني النّاطق باللغة الإنجليزية حتى وقت قريب، ليس فقط بسبب ما تحمله من «تشاؤم نقدي لاذع لا يرحم» - كما وصفها هربرت ماركوزه، ولكن أيضاً لأن تلك النّذر كانت لا تتوافق مع مضامين المشروع الآيديولوجي للغرب في تلك المرحلة من القرن العشرين. ومع ذلك يتم الاعتراف به الآن رائداً فكريّاً لعدد من الموضوعات الفلسفيّة الرئيسيّة التي تناولتها أعمال العديد من الفلاسفة اللاحقين له أمثال جان لوك نانسي، وبرنارد ستيجلر، وجان بيير دوبوي، وزيغمونت بومان.

غادر أندريس بلاده إلى باريس عام 1933، وانتهى به الأمر بعد نشوب الحرب العالمية الثانية لاجئاً في كاليفورنيا، بالولايات المتحدة، يكسب رزقه من خلال كتابة سيناريوهات الأفلام لصناعة السينما في هوليوود والقيام بوظائف متواضعة أحياناً في المصانع ومستودعات الأفلام. على أن تلك التجربة الحياتية القاسية هناك بموازاة اختلاطه بالمثقفين اليهود رواد مدرسة فرانكفورت مكنته من أن يراقب عن كثب ذلك الصعود الدراماتيكي للثقافة الاستهلاكية في الغرب، قبل أن يعود في عام 1950 للاستقرار بشكل دائم إلى فيينا ويشرع في تدبيج المقالات حول المعضلات التي تواجهها الحالة الإنسانية في مواجهة صعود التكنولوجيا بلغة سهلة قريبة من الجمهور العادي، متخلياً عن الأسلوب الأكاديمي المتعجرف لمعلميه إدموند هوسرل ومارتن هايدغر.

استنكر أندريس متلازمة العمى الجماعي للنخبة من السياسيين والمثقفين التكتيكيين، وانعدام الوعي لديهم بخطورة استغلال التهديد بالإبادة النووية لأغراض سياسية، وكتب محذراً بأن لا أحد منا لديه معرفة تتناسب مع ما يمكن أن تنتهي إليه حرب نووية ما يعني أن نهاية عجلى للعالم هي، في جوهرها، في أيدي ثلة من غير الأكفاء والحمقى، عاداً أن «الاستخدام الحديث للطاقة النووية أدى إلى طمس التمييز بين المدنيين والعسكريين، وجعل إمكانية وقوع كارثة حاسمة أمراً يمكن أن يبدأ من أي مكان. لقد تجاوزت البشريّة عتبة ربما لا يمكن العودة عنها بعدما علّقت متعمدة سيفاً مسلطاً على رأسها، وخلقت الظروف لإبادة نفسها».

وعدَّ أندريس أن الكوارث المروعة التي شهدها القرن العشرون كانت نتيجة تلقائيّة ومنطقية لذلك الاستبعاد التدريجي للبشرية من جميع عمليات الإنتاج الذي أطلقته الرأسماليّة - ما يسميه كارل ماركس بالاغتراب -، وهو الأمر الذي لم يعد يثير استهجاناً بقدر ما كان مدمراً، مشيراً إلى أن القنبلة النوويّة كانت التجسّد المادي لقوة غير مكتشفة ومقلقة ومؤرقة تؤججها أدوات التكنولوجيا المعقدة، التي كلّما تطورت وتقدمت تضاءل النوع الإنساني أمامها، وكلما أصبحت قدرتها غير مشروطة وغير محدودة، صار وجودنا ذاته مشروطاً بها ومرهوناً لها.

قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ

في عمله الأهم، «تقادم الإنسان» - الذي ظهر مجلده الأول بعنوان فرعي «عن الروح في وقت الثورة الصناعية الثانية» عام 1956، والمجلد الثاني «حول تدمير الحياة في وقت الثورة الصناعية الثالثة» عام 1980، قدم أندريس نقداً صارخاً للواقع الاستهلاكي الذي أنتجته التكنولوجيا الحديثة منطلقاً من تحليل عميق لنموذج العمل الحديث الموجه جذرياً لتعظيم الربح، الذي جعل العامل معنياً بعملية جزئيّة متكررة غافلاً عن المنتج النهائي، وما قد ينشأ عنه من عواقب اجتماعيّة أو بيئية، مع تلاشٍ متلاحق لإمكانية التعبير عن الذات أو التفكّر في أخلاقيات العمل. وعدَّ أن تقزيم بروليتاريا العمل توازي جنباً إلى جنب مع تصنيع مواد ذات نوعية رديئة مبرمجة للتقادم الفوري: إذ لم يعد المقصود من الأشياء أن تدوم، بل أن يتم استهلاكها كمواد قابلة للتلف، واستبدالها بمعدل محموم، وفي دورة لا نهائيّة من الإنتاج والتدمير، ما مكّن الإمبراطورية التكنولوجية الشمولية من اختزال البشر إلى مجرد تروس من الآلة الضخمة، تحت التهديد الدائم بالتصفية والبطالة لمصلحة الآلات.

بعض نذر أندريس المبثوثة في أعماله تبدو غريبة في قدرتها على التنبؤ بالكيفية التي تؤثر بها الأجهزة والآلات في أفكارنا ومناقشاتنا ومشاعرنا وحتى علاقاتنا، وكيف يتم حبس الأفراد وتجريدهم من إنسانيتهم وعزلهم عن بعضهم تحديداً من خلال توفير أدوات ظاهرها مطلق الحرية الشخصية وحقوق الفرد.

على الرغم من زيادة ترداد وسائل الإعلام لهذه التهديدات التي وصفها أندريس، فإننا نعيش عصراً من «فقدان القدرة على الخوف»، كما يقول، إذ ما زلنا بعد ما يقرب من 75 عاماً على تفجير أول قنبلة نووية سلبيين بشكل كبير في مواجهة كل هذا التطور التكنولوجي. فهل لنا الحق في مواجهة احتمال انقراض نوعنا غير البعيد أن نكتفي بالكسل المطلق والاستسلام للاستهلاك المفرط المتهور؟ إن «عمانا عن مواجهة استحقاق نهاية العالم»، الذي، وفقا لأندريس، دائماً نهج متأصل للثورة الصناعية الثالثة، التي يبدو البشر في ظلها مستمرين بـ«وضع الخطط والعيش كما لو أن كل شيء سيستمر في تقدمه كما عهدوه». أليس هذا وضعنا المؤسف تماماً اليوم قبالة تغوّل الذكاء الاصطناعي؟ قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 مارس 2024 م ـ 09 رَمضان 1445 هـ

الوهج الشمسي للمعشوق يشلُّ قدرة العاشق على تبيُّن ملامحه

لم يترك الفلاسفة والشعراء والباحثون وجهاً واحداً من الوجوه الكثيرة للحب، إلا وتناولوه عبر حقب التاريخ المختلفة بالدرس والتمحيص والتحليل. ورغم أنهم أسرفوا إلى أبعد الحدود في امتداحه أو هجائه، واختلفوا في تأويله واكتناه طبيعته، مدبجين حوله الكثير من الكتب والمصنفات، دون أن يصل أحدٌ في تأويله له إلى مرسى أو يقين، فقد أكد الجميع، وبمعزل عما يصاحبه من فرح غامر أو تكلفة باهظة، بأن الحب هو العنصر الملازم للحياة نفسها، والأكسير الأكثر نجاعة الذي من دونه يتحول الكوكب الأرضي إلى صحراء.

ولم يكونوا بعيدين عن الصواب، أولئك الذين توصلوا إلى الاستنتاج بأنه ليس علينا أن «نفهم» الأشياء لكي نصادقها، وأن نحيل كل ما نود عيشه أو تعاطيه، إلى مشغل التفكر والتفكيك. ليس فقط لأننا بذلك نحول الحياة إلى جحيم من الكوابيس والهواجس العصية على التبدد، أو نسلخها عن متعة انسيابها التلقائي، بل لأن سعينا المفرط للوقوف على الجوانب الحسية الظاهرة من المعشوق يمكن أن يُفسد الخلطة السحرية اللازمة لكل افتتان، والتي يشكل المتخيل ممرها الإلزامي ورأس حربتها الأهم.

ولعل عبارة «الحب أعمى»، التي يتداولها العرب وغيرهم من الشعوب، لم تأت من فراغ محض، أو تأويل اعتباطي لهذه العاطفة المشتركة بين بني البشر، بل هي الترجمة الفعلية لطبيعته الملتبسة، وللانجذاب الغامض الذي يؤلف بين قلبين، كما للمعايير الجمالية المتفاوتة، التي من دون طابعها النسبي كان يمكن للرجال أن يعشقوا امرأة واحدة، وللنساء أن يفتتنوا برجل واحد. والواقع أن الشخص المحبوب لا يلزمه أن يبذل كبير جهد لكي يوقع المحب تحت سطوته الجاذبة، «فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ»، كما يقول الإمام الشافعي، والعاشق تبعاً لذلك يخلق المعشوق من عندياته، مؤالفاً بينه وبين نموذجٍ للجمال ماثلٍ في بهاء التصورات أو في حياة سابقة، كما ذهب أفلاطون.

على أن مفهوم العمى لم يكن واحداً لدى الفلاسفة والدارسين وعلماء النفس والاجتماع. فالإغريق تحدثوا عن قدرة الجمال المعشوق على حجب الحقيقة عن عيني العاشق الرائي، وعن الإشعاع الشمسي للكائن المشتهى، بما يملأ عينيه بغبش دامع، ويسد عليه سبل الإبصار. ولم يكن تشبيه الحبيبة بالشمس في الشعر العربي وغيره، سوى ترسيخ إضافي لهذا المفهوم، حيث يتدفق من جهة المعشوق جمالٌ عصيٌّ على الفهم، لا تملك العين لسحره دفعاً، «وله كل ساعة تجديد»، وفق ما وصف به ابن الرومي جمال وحيد المغنية. أما رولان بارت فيرى أن الشخص المصاب بالعشق يبدو وكأنه يتخبط في عتمة واسعة، دون أن يعرف الجهة التي باغتته من صوبها ضربة الحب. ولأنه محروم من نور إدراك الأسباب والغايات، فهو يتعلق بشكل أعمى بالأشياء، أو بما ينجم عنها من فوضى. ومع أن الشهوة التي تعتريه ناقلة للضوء، فيما لو شاء البحث عن مخرج، فهو لا يكف عن استبدال ليل بآخر، مؤثراً بشكل طوعي أن يلازم عتمة اللامعنى، لأنها بالنسبة إليه «بوابة العجائب». واللافت في هذا السياق أن نيتشه، بتأثير من علاقته الفاشلة بسالومي، ومن سوء تكيفه مع المحيطين به، لا يكتفي بجعل الحب حالة من أحوال العمى، بل يضع الصداقة في خانة مشابهة، مختزلاً العلاقتين بقوله «الحب أعمى والصداقة تغلق عينيها».

وإذا كان أكثر الفلاسفة والدارسين قد اتفقوا على الربط بين الحب والعمى، إلا أنهم اختلفوا حول الأسباب والأدلة التي قادتهم إلى ذلك الاستنتاج. فقد رأى شوبنهاور بأن المخاتلة هي من طبيعة الشخص المعشوق. والمرأة على نحو خاص «تشبه سمك الحبار الذي يطلق حبره الداكن، لكي يحيل الماء من حوله ماءً حارقاً، فهي لا تمتلك للدفاع عن نفسها في مواجهة الرجل سوى الخداع والتمويه». والعمى، وفق ساراماغو، في روايته التي تحمل الاسم نفسه، هو أن لا نرى سوى لون واحد من الألوان، حتى لو كان الأبيض لا الأسود هو اللون المرئي، وسواء تعلق الأمر بالحب أو بالأفكار والمعتقدات. أما جان لوك ماريون فيرى في كتابه «ظاهرة الحب، ستة تأملات» أن كل حب جارف لا بد أن يولّد الغيرة والوساوس المؤرقة، وليست مقولة الحب الأعمى سوى طريقة البشر في التعبير عن خوفهم من اكتشاف الحقيقة «المبصرة». ولأن الحب نقيض الفكر، فإن الآخر عنده لا يحضر بوصفه مفكراً بل بوصفه معشوقاً. فالعاشق لا يرى مَن يحبه كما هو بالفعل، بل كما تتخيله رغبته. ولأنه لا ينظر إلا بعيون الحب العمياء لشدة بلبالها، «تصبح المرأة الكبيرة عنده مهيبة، والصغيرة لذيذة، والهستيرية شغوفة، والفاجرة مثيرة، والبلهاء عفوية، والمماحكة نبيهة».

ومع ذلك فنحن لا نستطيع إشاحة النظر عن الآراء المضادة لفلاسفة وباحثين آخرين رفضوا بإصرار مقولة الحب الأعمى، معتبرين أن هذا الأخير ليس مجرد عاطفة بحتة وكلمات خاوية، بل هو طاقة «مضادة للعقم، ولا تقايَض إلا بالحب نفسه»، وفق تعبير كارل ماركس. فالحب بالنسبة لإريك فروم فن نتعلمه بالدأب والخبرة، كما نتعلم الرسم والهندسة والموسيقى، بقدر ما هو رعاية وحدب وعطاء، «فأن تحب الزهور يعني بالضرورة أن تسقيها، وإلا فإن حبك كاذب». ويسخر فروم من مقولة الحب الأعمى، لأنها تضع الشخص العاشق في مرتبة انعدام الشعور بذاتيته، بما يجعله يغترب عن قواه ويميل إلى تأليه المحبوب وعبادته. وإذا كان هذا النوع من الحب لا يعكس سوى جوع العاشق وبؤسه وامحائه، فإن الحب الحقيقي في رأي فروم، لا يكون ممكناً إلا بتواصل العاشقين من مركز وجودهما الإنساني والمتكافئ.

وخلافاً لما ذهب إليه شاتوبريان من أن إقحام العقل بالعواطف، وإخضاع ذلك الجزء من كياننا الذي يعيش بالحب للمراجعة والتحليل، هو عملية شائنة ورعناء، فإن باسكال يعتبر بأن الحب والعقل هما الشيء ذاته مع فارق قليل في التوقيت، وما يفعله الأول ليس سوى استعجال الثاني وتمهيد الطريق له. والشعراء وفق باسكال «ليسوا على حق حين يصورون الحب بأنه أعمى، إنما يجب أن ننزع عن عينيه العصابة التي تحجب عنه نور العالم».

ولم تغب ثنائية الإبصار والعمى عن أذهان الشعراء العرب، الذين أعشى العشق أبصار بعضهم عن جمال النساء كلهن، ولم يضئ لهم سوى النور الذي يشع من جهة المرأة المعشوقة. وهو ما يعكسه قول عروة بن أذينة، في أبياته الحوارية مع حبيبته سعدى:

قالت، وأبثثْتُها وجدي فبحتُ به

قد كنتَ عندي تحب الستْر فاستترِ

*

ألستَ تبصر مَن حولي ؟ فقلت ُلها

غطّى هواكِ وما أَلقى، على بصري

وإذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة، فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها، والتي يفقدون بفقدها الطريق إلى فردوس الوجود الآمن. وهو ما جسّده قول الفرزدق في نُوار، وقد عمد إلى تطليقها في لحظة غضب، قبل أن يأخذ منه الندم والأسى كل مأخذ:

ندمتُ ندامة الكسَعيّ لما

غدتْ مني مطلّقةً نُوارُ

*

وكانت جنتي فخرجتُ منها

كآدمَ حين لجّ بها الضِّرارُ

*

وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً

فأصبح لا يضيء له النهارُ

إذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها.

لكن الأمر يختلف تماماً حين يتعلق بالعشاق المكفوفين، وفاقدي البصر بالمعنى المحسوس. فهؤلاء لا يحتاجون إلى مزيد من العزلة المعتمة لكي يتمكنوا من مواصلة حياتهم، بل إلى الحب الذي يؤنس وحدتهم، ويتحول عندهم إلى عصا النجاة من الوحشة والتعثر. ووفق مبدأ التعويض عن الحاسة المفقودة بأخرى غيرها، فإن المصابين بالعمى الفيزيولوجي يعولون على الأذن بدلاً من العين، وعلى إشراقة القلب والبصيرة بدلاً من البصر المطفأ. وهو ما جسّده بوضوح بشار بن برد، الذي لم يمنعه عماه من الشغف بالحياة والنساء والملذات، قبل أن يقع في حب «عبدة»، المرأة التي سحره جرْس صوتها وأشجته حلاوة ألفاظها، وبات قوله فيها «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» أحد الأمثال السائرة عند العرب. أما الإبصار بعين القلب فيختصره بشار بقوله:

يزهّدني في حب عبدةَ معشرٌ

قلوبهمُ فيها مخالفةٌ قلبي

*

فقلتُ دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبِّ

وإذا كان بورخيس الذي فقد بصره باكراً، قد وجد في الكتابة حبل النجاة المشع الذي مُدَّ له في ليل حياته الدامس، وفق اعترافاته لألبرتو مانغويل، فإن طه حسين، وقد تقاسم مع نظيره الأرجنتيني وطأة العمى وملكة الابداع، لم يجد خلاصه في الكتابة وحدها بل في الحب. وهو ما يؤكده قوله لسوزان، حبيبته وزوجته الفرنسية، «أشعر بدون وجودك أنني أعمى حقاً. أما وأنا معكِ فأتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي».

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 12 مارس 2024 م ـ 01 رَمضان 1445 هـ

مع كل حدثٍ يستجدّ تبدو معضلة «إدارة الأزمة» ماثلةً للعيان. من السهل أن تصنع أزمة، ولكن الأصعب أن تديرها، وأن تخرج منها، وأن تكون أنت المتحكم بها لا العكس. مرّ زمن طويل علينا في المنطقة وأحداثها، تبدو الأزمة هي التي تقود صانعها، بل وتتحداه وتتجاوزه وربما هزمته. ولا يمكن إنجاح إدارة الأزمة من دون الخروج من مناخ العاطفة والحماسة، والتوجه نحو العقل والمنطق. إن التفكير بدمٍ بارد مع أي حدث عاصف وأزمة خانقة يسهّل من حلها، أما النواح والصراخ يجعل الأمور متجهةٍ نحو التفاقم والانفجار، وفي زمنٍ قل فيه الحكماء وكثر فيه الحكاة وصنّاع الشعارات لابد من الذهاب لتفسير الأزمة، للصلب المفهوم.

الفيلسوف المعمّر «إدغار موران» له كتاب معروف: «مفهوم الأزمة» فيه درس المعنى وعالج صيرورة المفهوم وتحولاته، ليست الأزمة بالضرورة تطوّريّة، إذ يمكن - كما يقول - أن تُستوعَب في رجوع إلى الوضع القائم، لكنّ للأزمة احتمال قابليّة التطوّر. فهي تحمل عند نشأتها خصائص التطوّر. ولفهم هذا، يجب التخلّص من فكرة أن التطوّر عمليّة متدفّقة متواصلة. فكلّ تطوّر يَنشأ دائماً من أحداث أو حوادث، ومن اضطرابات تولّد انحرافات تصبح بدورها اتجاهاً يدخل في تعارض ضمن النظام ويجرّ اختلال تنظيم أو إعادة تنظيم متفاوتة الدراماتيكيّة والعمق. إذن، يمكن اعتبار التطوّر سلسلة من اختلال التنظيم ومن التنظيم شبه الحرج. إذن الأزمة حقل للتطوّر. إنها نوع ما مخبر لدراسة العمليّات التطوّريّة. إنّنا في مجتمعات تتطوّر باستمرار وبسرعة، ويبلغ تركيبها مبلغاً يجعل هذا التطوّر مرفقاً بغياب استقرار وباضطرابات كبيرة. كما أنّنا اليوم لا نعرف هل إنّ التطوّر المستمّر، وانطلاقاً من لحظة معيّنة، يمثّل أزمة مستمرّة أيضاً. لكنّنا نستطيع أن نفرّق بين المفهومين لكون الأزمة غير مستمرّة، إذ إنّها تتجلّى بين حدود زمنيّة معيّنة. ويجب أن يكون هنالك ما قبل وما بعد «عاديين» تقريباً: فالأزمة بالمعنى الدقيق تتحدّد دائماً بالنسبة إلى فترات استقرار نسبيّ، وإلّا فإنّ فكرة الأزمة سوف تغرق في فكرة التطوّر. بهذا، وبما أنّ كلّ تطوّر يحمل مظهراً «أزميّاً»، يمكن القول إنّ التّطوّر ينطوي على عنصر «أزميّ»، ويمكن أن يكون مُصَمَّماً على شكل سلسلة من الأزمات غير القابلة للرجوع.

هذا المفهوم عن الأزمة يمكن توسيعه ليشمل لا الأزمات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي عرج عليها في فصول الكتاب، بل لتشمل حتى الحدث السياسي، أو الأزمة السياسية، لأننا على الدوام مع مستجدات كل حدث نواجه معضلتين:

أولها: التكييف الأخلاقي للمشكلة ومن ثم الانقسام على أساس ذلك التكييف، كما حدث في حرب الخليج حين وقفت دول مع صدام حسين لأنه «يريد تحرير فلسطين عن طريق الكويت»، بينما الطرف المؤثر وصاحب الحجة والمرجعية القانونية هو الذي قرر تحرير الكويت من غزو يخالف كل قوانين الأمم ومواثيقها. وثانيهما: كيف يمكن لملمة الأزمة والخروج منها، لا ننكر أن آثار حرب الخليج لاتزال ماثلةً حتى الآن على مستويات اقتصادية وفكرية واجتماعية.

لابد من التعامل مع الأزمة بطريقةٍ عادلة وحكيمة، يمكنك أن تتجاوزها حين تتأمل بها من خارجها، وأن تكون مدركاً للأزمة لا منخرطاً في أثرها ولظاها.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 12 مارس 2024

 

(الكهنة في العصور الوسطى حوَّلوا الدين قيوداً وأصفاداً).. كارل ياسبرز

طيلة سنوات عديدة كنا مبهورين بفلاسفة الإلحاد في الغرب من أمثال ماركس وهيدغر وسارتر وعشرات غيرهم. بل وكنا نعتقد أنه لا يمكن أن تكون فيلسوفاً كبيراً إن لم تكن ملحداً. وكنا نتوهم أن الفيلسوف المؤمن لا يمكن أن يكون إلا شخصاً متخلفاً عقلياً، بل وطائفياً. وذلك لأن التدين كان مرتبطاً طيلة العصور الوسطى بالانغلاق داخل جدران الطائفية والمذهبية. ولكن فيما بعد اكتشفنا أن هناك فلاسفة كباراً مؤمنون فعلاً وليسوا متخلفين ولا طائفيين. من بين هؤلاء كارل ياسبرز الذي كان معاصراً لهيدغر ومنافساً له على عرش الفلسفة الألمانية. أياً يكن من أمر فإن المناقشة الخصبة التي اخترقت الفكر الأوروبي منذ بداية العصور الحديثة كانت هي الخاصة بالعلاقة بين العلم والإيمان، أو الفلسفة والدين. والبعض يحاول أن يحصر هذه المناقشة الكبرى في خيارين متطرفين لا ثالث لهما: فإما أن تكون مؤمناً تقليدياً طائفياً رافضاً للعلم والفلسفة، وإما أن تكون فيلسوفاً ملحداً رافضاً لكل إيمان أو تعالٍ رباني!... أما ياسبرز فيفضل اتباع الخط الثالث: أي خط الوسط الذي يجمع بين العقل والإيمان. إنه يرفض التضحية بالفلسفة مثلما يرفض التضحية بالدين أو لنقل جوهر الدين. وهذا هو الخط الوسطي العقلاني الذي يناسبنا نحن في العالم العربي الإسلامي. ليس لنا أي مصلحة في اتباع الخط المادي الإلحادي المحض السائد في الغرب حالياً.

في مقالة له بعنوان «الإيمان والتنوير» يقول هذا المفكر الكبير ما معناه: يوجد فهمان للدين: الفهم التقليدي الأصولي القائم على التسليم الأعمى أساساً، والفهم الحديث القائم على العلم والعقل والبصيرة الفلسفية. ولكن المشكلة هي أن معظم الناس لا يستطيعون التفريق بينهما. ثم أنهم يعتقدون أن التنوير يؤدي إلى الإلحاد بالضرورة. ولكن هذا مفهوم خاطئ أو ناقص للتنوير. ولكن ما هو التنوير يا ترى؟ ينبغي العلم بأن التنوير يتعارض مع التعصب الأعمى الذي يعتقد بأفكار دوغمائية معينة دون أن يخضعها للتفحص النقدي. التنوير يتعارض مع الأفكار السحرية والشعوذية والخرافية. إنه يرفض الحَجْر على حرية التفكير باسم الإيمان أو العقائد الدينية. كما ويحارب الأحكام المسبقة والأفكار المذهبية العتيقة التي ثبت بطلانها وضررها، بل وخطرها على المجتمع. إنه - أي التنوير - يتطلَّب منا بذل الجهد باستمرار من أجل البحث عن الحقيقة، وعدم تصديق أي شيء إلا بعد غربلته وتمحيصه على ضوء معايير العقل والمنطق. وبالتالي، فهناك فرق كبير بين الإيمان القائم على التسليم الأعمى، والإيمان القائم على التعقل والتنوير. ولهذا السبب قال كانط، فيلسوف التنوير الأكبر، بأن التنوير يعني انتقال الإنسان من مرحلة القصور العقلي إلى مرحلة البلوغ وسن النضج. فالإنسان في العصور المسيحية الأوروبية السابقة كان يطيع الكاهن بشكل أعمى ويصدق كل ما يقوله ويخضع له دون أي مناقشة. وهذا يعني أنه كان يُعَاْمَل معاملة الطفل، أي كالقاصر الذي لا عقل له. بدءاً من عصر التنوير، أي عصر العقل والعلم، أصبح الإنسان مطالباً بأن يفكر بشكل شخصي حر أي متحرر من شيخه أو كاهنه. لقد شب الإنسان عن الطوق في عصر التنوير. لقد بلغ سن الرشد.

لكن دعونا ندخل في التفاصيل أكثر:

بعض الكهنة المسيحيين يقولون: لقد قضى عصر التنوير على الاعتقاد الديني في أوروبا. فلعنة الله على التنوير والمتنورين أجمعين! وهذا ما ابتدأ يقوله أيضاً بعض المثقفين في العالم العربي. فكثيراً ما نسمعهم يتهكمون بالتنوير ويسخرون منه كأن يقولوا مثلاً: هذا الشخص تنويري أعوذ بالله! هذا الشخص تنويري أجارنا الله! أوف! أوف! أوف! معظم من يقولون ذلك من المحافظين العرب إن لم نقل الرجعيين... فما هي حقيقة القصة يا ترى؟ يقول لنا كارل ياسبرز ما فحواه: لا ريب في أن التنوير الراديكالي المتطرف أدى إلى تدمير التراث المسيحي الذي كانت ترتكز عليه حياتنا كلها من المهد إلى اللحد، ومن العمادة إلى القبر... لقد فكَّك الإيمان والمعتقدات الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. لقد تركنا يتامى، مهجورين، وأوصلنا إلى الفراغ، إلى حافة العدمية... فالتنوير إذا ما فُهم بشكل خاطئ ومتسرع وسطحي كارثة.

ولكن الفيلسوف الكبير يرى أن هذه الانتقادات لا تنطبق إلا على التنوير الخاطئ أو الفهم الخاطئ للتنوير. فليطمئن الناس إذن وليهدّئوا من روعهم!... فالفهم الخاطئ للتنوير، أو لنقل الفهم المغرور والمتعجرف والمتغطرس، يعتقد أن كل معرفة ترتكز على العقل فقط. هذا في حين أن العقل ينبغي أن يُستخدم فقط كأداة ضرورية لإضاءة ما يُقدَّم له من مكان آخر يتعالى عليه. ثم أن الفهم الخاطئ للتنوير يحول المعارف الجزئية التي يحصل عليها الإنسان عن طريق عقله التجريبي ثوابت مطلقة أو حقائق يقينية ونهائية. نقول ذلك ونحن نعلم أنها عابرة ومؤقتة، وكل تاريخ العلم يثبت لنا ذلك. فالنظريات العلمية تتوالى وراء بعضها بعضاً وتصحح بعضها بعضاً أو تلغي بعضها بعضاً. يضاف إلى ذلك أن الفهم الخاطئ للتنوير يغري الإنسان ويجعله ينتفخ ويعتقد بأنه يمتلك معرفة كاملة لوحده. يحصل ذلك كما لو أن الإنسان هو وحده الكلّ، وأنه لا ينتمي إلى جماعة كبرى تتجاوزه... إن معنى الكائن الأعظم، أي الله عز وجل، يخفى على المتنوّرين المتسرعين السطحيين، وكذلك معنى الهيبة العليا أو الفوقية. نقول ذلك ونحن نعلم أن كل حياة بشرية ينبغي أن تسلك طريقها على ضوء الإيمان بالله والهيبة الفوقية أو الذروة الأخلاقية العليا التي تعلو ولا يعلى عليها. باختصار، فإن الفهم الخاطئ للتنوير يعتقد بأن الإنسان مكتفٍ بذاته وليس في حاجة إلى أي مساعدة أو هداية من خارجه أو من فوقه. إنه يحثّ على المعرفة، لا على الإيمان.

والآن نطرح هذا السؤال: ما هو إذن المعنى الصحيح للتنوير؟ وعليه يجيب ياسبرز بما معناه: إنه الفهم الذي لا يحدد بشكل مسبق للعقل حدوداً من خارجه. إنه الذي لا يحصره مسبقاً بفرضيات دوغمائية طائفية متحجرة. فالعقل ينبغي أن يظل حراً، منطلقاً، من دون قيود أو حدود تعسفية. والفهم الحقيقي للتنوير لا يكتفي بتفكيك الأفكار التعصبية، والخرافات، والأساطير الطائفية وإنما يضع نفسه على محك الشك والنقد أيضاً. فالعقل التنويري ليس معصوماً. وحده العقل الدوغمائي المتحجر يعتقد أنه معصوم. ولكن عقل التنوير لم يُطِح بمعصومية العقل اللاهوتي السابق لكي يحِل محلها معصومية جديدة. فحرية البحث والتمحيص تظل مفتوحة. وينبغي أن تُطبَّق على التنوير ذاته لأنه ليس فوق النقد ولا فوق الفحص. والفهم الصحيح للتنوير لا يخلط بين مجريات العقل وبين القيم الأخلاقية العليا. فهذه القيم يمكن إضاءتها عن طريق المجريات الفكرية للعقل، ولكن لا يمكن أن تجد في العقل أساسها أو قاعدتها التي ترتكز عليها. إنها تتجاوز العقل البشري أو تعلو عليه، إنها إلهية لا بشرية.

إذا ما فهمنا التنوير على هذا النحو فإنه لن يقضي على الإيمان بالمعنى الجوهراني، الداخلي، الحر، للكلمة. على العكس؛ فإنه سيؤدي إلى اتساع الإيمان واستضاءته كلما اتسعت معارف الإنسان وزادت علومه. نقول ذلك بشرط ألا نخلط بين الإيمان الداخلي والإيمان الخارجي القائم على الطقوس الكنسية والشعائر والقوالب الشكلانية ذات الطابع الإكراهي والقسري بالضرورة. ثم يوضح ياسبرز الفرق بين الفهم الصحيح للدين والفهم الخاطئ ويقول: هناك فرق بين جوهر الدين وبين التأويلات الدوغمائية المتعصبة الطائفية التي قدمها الكهنة عنه على مدار القرون. فإذا فهمنا أن جوهر الدين هو الحرية وأن الله ذاته لا يتجلَّى للإنسان إلا من خلال الحرية فإننا نعرف عندئذ سبب انصراف الناس في أوروبا عن المسيحية وسبب نجاح حركة التنوير. فالمسيحية تحولت في بعض المراحل قيوداً مرهقة وعبودية. بل وتحولت محاكم تفتيش. وضد كل ذلك نهض التنوير.

نعم، إن الكهنة حوَّلوا الدين قيوداً وأصفاداً، إكراهاً للضمائر والعقول، مجرد طقوس وشكلانيات... فأنت أصبحت مجبراً على الإيمان ببعض العقائد والطقوس إجباراً غصباً عنك. بمعنى آخر، فإنهم حولوا الدين إلى عكسه، إلى إكراه في الدين. هذا في حين أن الدين محبة وعقلانية وحرية. وأعطوا عن الله تصوراً مضاداً لطبيعته وجوهره. فالله هو الخير المطلق والحق المطلق والعدل المطلق ولا يريد بعباده إلا خيراً (بين قوسين: لاحظوا كيف أن كلامه هنا يتطابق حرفياً مع كلام المعتزلة في الإسلام دون أن يكون مطلعاً عليه). ولكن الكهنة في العصور الوسطى قدموا عن الله صورة مخالفة تماماً لجوهر الله عز وجل. لقد قدموه على هيئة جلاد لا هم له إلا تعذيب الناس وتخويفهم! وبما أن هذا التصور ساد طيلة قرون وقرون فإنه تحول حقيقة واقعة لا تقبل النقاش. وأصبح يصعب علينا أن نقدم تصوراً آخر عن الدين والله، تصوراً أقرب ما يكون إلى أصوله الأولى وجوهره. والناس الذين يظهرون العداء للتنوير هم أولئك الذين لا يستطيعون الخروج من التصور القديم الموروث عن الأسلاف. لقد تعودوا عليه، أي على العبودية إلى درجة أنهم أصبحوا ينكرون طعم الحرية. فهم يشعرون بحاجة نفسانية للخضوع للكهنة الذين يقدمون أنفسهم وكأنهم الناطقون الرسميون باسم الله على وجه الأرض! ولكن إذا ما فهمنا الله على أساس أنه مطلق الحرية والخير والعدل والحق فإنه لا يعود هناك أي تناقض بين التنوير والإيمان. وسوف يظل الإيمان مستمراً حتى بعد انتصار التنوير. بل إنه سيصبح أقوى إشعاعاً بكثير. سوف يصبح نوراً على نور: نور الإيمان ونور العقل، نور الدين ونور الفلسفة! فاطمئنوا أيها الناس ولا تخافوا من التنوير.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 11 مارس 2024 م ـ 29 شَعبان 1445 هـ

مع صعود موجة «عودة الدين» في أميركا، وفي أوروبا إلى حدٍ ما، كثُرت المقاربة الأخلاقية للمشكلات. وكان ثمة مَن علّل ذلك بأنّ النظام الدولي والقانون الدولي للإنساني قصّرَا في معالجة المشكلات العالمية المتفاقمة.

والمشكلات العالمية عدة أنواع، منها مشكلة الصراع على المجالات الاستراتيجية، ومشكلات الصراع على الموارد. وهذه الأمور تؤدي إلى نشوب نزاعات مسلحة المفروض أن يتصدى لها مجلس الأمن بالحلّ أو المعالجة. لكنّ المجلس معطَّل في حالة النزاع الروسي الأوكراني، لأن روسيا تملك حق الفيتو على أي قرار. أما في حالة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني فإن مجلس الأمن معطَّل، لأن الولايات المتحدة تستعمل حق الفيتو دائماً لصالح إسرائيل.

وهناك أنواع أخرى من المشكلات حتى مجلس الأمن لا يستطيع حلَّها، مثل مشكلة تغير المناخ، ومشكلات الاضطراب السياسي والاجتماعي في كثيرٍ من البلدان الأفريقية. والنوع الثالث أو الرابع من المشكلات تدخّل الدول الكبرى أو الوسطى في شؤون دولٍ أخرى والسيطرة من خلال ميليشيات محلية أو مرتزقة على مقدرات وقرار تلك الدول.

بدأ هذا التفكيرَ الأخلاقيَّ المفكر الكاثوليكي هانس كينغ (توفي 2021) في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث قال أنْ لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلا بالإجماع على أخلاق عالمية. وقد رأى كينغ أنّ التيارات المتطرفة في الأديان صارت جزءاً من النزاعات العالمية، ولذا فإنّ قيم السلام والتضامن والتسامح والتعايش والعدالة والأخوّة، وهي قيمٌ يلتقي فيها الديني والمدني، كفيلةٌ بإخراج المتدينين من معترك الخصومة. ثم إنّ المجتمع المدني العالمي، يستطيع التدخل إلى جانب الجهات الدينية في الضغط على القوى الكبرى لوقف النار والمذابح. ذلك أن هذه الجهات تصبح قوةً كبرى بالفرق الكبيرة للمتطوعين للأغراض الإنسانية، والتربية في المدارس، وإصدار الوثائق الأخلاقية والأخرى الموجهة إلى أصحاب القرار، والمؤسسات المؤثرة ومراكز البحوث، ومجموعات عصف الأفكار. إنّ كلَّ هذه القوى أخرجت ملايين الناس في أنحاء العالم إلى الشوارع في تظاهراتٍ حاشدةٍ من أجل وقف النار في غزة. وإذا قيل: لكنّ الحرب لم تتوقف؟ فالإجابة: أنّ الرأي العام العالمي ما عاد يمكن الاستخفاف به، كما أنّ كثيراً من الدول تغيرت سياساتُها وتوجهاتُها تحت وطأة الرأي العام في بلدانها، ومشاهد الحرب المفزعة.

تُجمع الوصايا العشر، أو ما يقاربها في كل الأديان، على أمرين: تحريم القتل، وأن تحب لأخيك (الإنسان) ما تحبه لنفسك (ويسميها الفلاسفة واللاهوتيون «الوصية الذهبية»). لقد تحولت هذه الفضائل الفردية في الأصل إلى وصايا إنسانية عامة. وفي عصر التنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر) صارت هذه الوصايا قيماً إنسانيةً عامة. ولفترة، وبسبب الحروب الطاحنة، ظن كثيرون أن الحل يكمن في القوانين بدلاً من الوصايا العاجزة.

لكن ها هي القوانين الدولية والمحلية تَعجز أمام جرائم الحرب والفساد. ولذا لا بد من عودةٍ إلى القيم الإنسانية العامة التي لا تتجاهل القوانين بل تدعمها، حيث تستعصي بعض القوى الدولية عليها. كتب أرسطو في مصنَّفه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» أنه لا يمكن تصور مجتمعات المدينة إلاّ بالعيش معاً. ويحتاج العيش المشترك بالطبع إلى قوانين. لكنّ القوانين حتى لا تكون قمعيةً لا بد أن تكون لها مظلة أخلاقية، ليس للتبرير بل للإقناع. القوانين للتنظيم والإلزام الذي قد يكون قاهراً. ولولا القيمة الأخلاقية للعدل لما كان للقانون معنى! المقاربة القيمية والأخلاقية للمشكلات هي عنوان جديد لإنسانية الإنسان.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 9 مارس 2024 23:26

 

قد يُسْتغرب هذا العنوان في بادئ الرأي، إذ كيف تجتمع الطفولة والرشد؟ فالطفولة سنّ النّزق واللعب واللهو، إنها سن العاطفة والانفعال، أما الرشد فهو سن الأناة والحركة القاصدة والجد، إنه سن الإرادة والعقل. فهل يمكن للمتضادات أن تجتمع؟

لقد كنت دوماً مهموماً بهذا «الفيلسوف الصغير» الذي يدرج بيننا، وأرى في الطفل ملامح متعددة تعكس هذا المزيج العجيب في شخصه؛ بين شخص يغلبه الانفعال، وشخص كثير السؤال، وبينهما تتسع المسافة وقد تضيق، فأسئلة الطفل في عمقها أسئلة تمتح من أسرار الوجود، وإن كان يغلب عليها العفوية وتصدر عن تلقائية مدهشة، ولذلك نرى الطفل، وهو يلقي أسئلته، فاغراً فاه ينتظر أجوبة الراشدين عليها، لكن في الغالب ما تضيق عقول الراشدين وأخلاقهم عن متابعته؛ فالراشدون غير مهيئين لأسئلته الجريئة، ولا يملكون الأدوات المعرفية لشفاء شغفه إلى المعرفة، والراشدون أيضاً غير مهيئين للصبر على متابعته في حواره المبدع وتألقه في الاستشكالات، فيعمدون إلى إسكاته تارة، ويُلوّحون له بعصا التهديد، وقد يصمونه بالنعوت القبيحة التي تجعله يرتد إلى غبائه في استمراء التقبل والبعد عن النقد، تارة أخرى.

حرصاً على الطفل ورغبة في الحفاظ على شخصيته النقدية المستقلة تداعى كثير من الباحثين اليوم إلى رفع شعار «لنعلم الفلسفة للطفل»، وظهرت مؤسسات متخصصة في هذا المجال لتكوين الأطر التي تحمل مشعل تعليم الفلسفة للأطفال، ورفع كثير من المتخصصين في هذا المجال لواء الورشات التدريبية لصقل موهبة فلذات أكبادنا في السؤال وتعلميهم طرق الحجاج حتى لا تتسع عندهم روح التقبل، ويصبح النقد سلاحهم في مواجهة أعداء المعقول.

إعداد الأطفال فلسفياً هو إعداد للمستقبل هو تحصين العقول البريئة من لوثة الغلو. إعداد الأطفال فلسفياً هو شدّ عضد الأوطان بالعلم والحكمة. إعداد الأطفال فلسفياً هو إعداد فرسان القلم والفكر لنهضة بلدانهم ونشر ثقافتها الإنسانية في العالمين. إعداد الأطفال فلسفياً هو تخصيب بيئتنا الثقافية بثقافة السلم والتسامح والعيش المشترك القائم على الحوار والتعليل واحترام حرمة الاختلاف، إنها الفريضة التعليمية الغائبة، والعودة إليها عودة إلى الفضاء الفسيح الذي أثمرت فيه حضاراتنا الإسلامية أطيب الأفكار، وأخرجت فيه أجمل ما عندها في الفكر والذوق والسمت الحسن.

والاهتمام بالأطفال واحترام شخوصهم، والدخول إلى عوالمهم من آداب القرآن الكريم كما في وصايا لقمان، وهي من أخلاق نبينا عليه السلام، كما في صحيح البخاري، فقد خدم أنس بن مالك، نبيّنا، عقداً من الزمن، فما تضجر منه قط، ولا عاتبه على فعل صنعه، أو على فعل تركه، احتراماً لشخصه، وتحريكاً لعقله أن يطغى عليه صوت صاخب أو وعيد جارف. وعندما مات النّغير، وهو عصفور صغير ، كان لأبي عمير، وهو أخ أنس بن مالك، كان الرسول يلاطفه ويدخل عالمه الحزين، ويقول له ملاطفاً متسائلاً {يا أبا عمير ما فعل النغير؟}. والدخول إلى عالم الأطفال بالاحترام والمشاركة العقلية والوجدانية من سمات التجربة الفلسفية التي ندعو إليها.

إن الذي تشرق بدايته لاشك تشرق نهاياته، ولا يمكن لعقل أشرقت بدايته بالفلسفة والإيمان أن يقع في حبال التطرف أبداً، ولا أن يورد أمهته المهالك، وهو ينتصر للفضيلة العلمية والعملية، يتعلمها، ويعلمها. لذا نعتقد أن إنارة العقول بقبس الفلسفة والإيمان لن يضيء فقط جوانب الطفل البريء، بل سوف يضيء جوانب حضارة تستشرف مستقبلاً زاهراً رغم كل الظلام المنتشر في الآفاق.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 8 مارس 2024

 

عدم تقبل المرء النقد قد يعود إلى أسباب تاريخية أو راهنة. فقد تعود معضلة عدم تقبل الإنسان النقد إلى نفاد ذخيرة من الحُجج الدامغة. فيجد نفسه أمام التعريض بالناقد، أو التشكيك في نيّاته، أو تسطيح مقاصده.

ومن أعمق أسباب رفض النقد تلك «الحساسية الشخصية» المفرطة، كالاعتقاد أن نقد الفعل هو نقد لكينونة الفاعل. وشتان بين الاثنين. فأنت لا تحبّذ سلوك ابنك أو زميلك لكنك تشاطره المودة. ولذلك كان من الحكمة تذكير هؤلاء بأنك لا تنتقد سوى «الفعل» وليس «فاعله».

أحد أسباب النفور من النقد هو «رغد المديح الزائف» الذي كان يعيش الفرد في كنفه، كمبالغات إطراءات أسرته أو الانتهازيين من حوله. ولذلك ما إن يتبوأ طاغية مقاليد الأمور حتى يتخلص تدريجياً من كل مخالفيه الرأي. والطاغية ليس ذلك الذي نعرفه في سدة الحكم بل كل مَن طغى في سلوكه وظلم الآخرين وهضم حقوقهم.

وتقول العرب: «ما كل ما يُعرف يُقال» وكذلك حال النقد. فلا يليق بفتى أن ينتقد رجلاً كهلاً بحدة أمام الملأ. ولا يليق نقد الضيوف، وأفراد الأسرة أمام الآخرين، فلكلِّ مقام مقال.

لا يتقبل البعض النقد لأسباب قديمة تعود إلى مشاعر جارحة تعرض لها في طفولته أو صباه. تظهر على شكل طوفان من الغضب ما إن يدوس أحد على طرفه بنقد لاذع لشكله وكلامه أو سلوكه.

من الانتقادات ما هو مرتبط بانخفاض الثقة بالنفس. والثقة بالنفس كما نكرر دوماً متغيرة حسب أحوالنا. ولذلك كان من المهم الفصل بين مفهومين يخلط بينهما كثير من الناس، هما: مسألة تقدير الذات، والثقة بالنفس؛ فتقدير الذات هو أمر ثابت يجب ألّا يقل مقداره في نفس المرء، في حين أن الثقة بالنفس مسألة نسبية لأنها مرتبطة بأنشطتنا الحياتية ونجاحاتنا وإخفاقاتنا. فمَن لديه لغة ثانية قوية تكون ثقته في أوجها حينما يحاور أصحابها في ديارهم، لكنه ما إن يهجرها لعقود حتى تضمر لغته، وتنخفض معها ثقته بنفسه.

كما أن ضحالة الحصيلة المعرفية والتجارب تجعل مشاعر الإنسان هشة عند تلقّي سهام الانتقاد. ولذلك ما إن تزيد تجاربنا ومعلوماتنا حتى يقل منسوب الحساسية. واللافت أنه كلما تقدم المرء في العمر قلَّ اكتراثه بما يقوله الناس عنه! وهذا ما يجعل المسنين يعيشون في سلام بعيداً من تأثير النقد.

تقبُّل النقد لم يعد ترفاً، فهو ينبغي أن يُمارس في البيت قبل المدرسة، ومن المعلم قبل التلاميذ، وإلا غابت القدوات، فنسير جميعاً نحو حتفنا لأننا لم نعد نتقبل شيئاً غير «طلاوة» المديح ولمعانه.

***

د. محمد النغيمش - كاتب كويتي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الثلاثاء - 23 شَعبان 1445 هـ - 5 مارس 2024 م

قبل ستين سنة (مارس 1964) توفي الكاتب والأديب المصري المشهور عباس محمود العقاد الذي طبع الحياة الثقافية المصرية والعربية لمدة أكثر من أربعة عقود كاملة. كان العقاد نموذجاً متميزاً لنمط من المفكرين الموسوعيين الذين عرفتهم الحياة الثقافية أوانها، فجمع بين الكتابة الأدبية شعراً ونثراً وسرداً، والتأمل الفلسفي، والمعالجة السياسية والاجتماعية، والنشاط الإعلامي.

قرأنا للعقاد عبقرياته التي كانت آنذاك نوعاً من الكتابة النفسانية والتاريخية غير المألوفة في الفكر العربي، كما قرأنا إسلامياته التي نحى فيها منحىً مختلفاً عن صديقه اللدود طه حسين الذي غلبت على أعماله الدينية الروحُ الأدبيةُ، كما اختلف فيها عن الكتابات المأدلجة لدعاة الإسلام السياسي الذين كان خصماً لهم من منظور إيماني عقلاني. ومع أن العقاد كتب عن أهم فلاسفة الإسلام، مثل ابن سينا والغزالي وابن رشد، إلا أن دراساته في الموضوع لم تكن في مستوى أعماله الأدبية الرصينة، ولذا قسى عليه عبد الرحمن بدوي في مذكراته واعتبر كتاباتِه الفلسفيةَ سطحيةً وهامشية.

ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن العقاد هو أحد الأعلام الأربعة الذين أسسوا التقليد الفكري العربي المعاصر، وهم بالإضافة إليه، طه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود. كان الأربعة من رواد فكر التنوير والحداثة، وإن اختلفت اهتماماتهم ومناهجهم وطرق تفكيرهم. سلك طه حسين طريق النقد الثقافي من منظور ليبرالي عقلاني عبّر عنه بمقولة الشك الديكارتي، وأرسى طُرقَ الكتابة المنهجية الجديدة في تاريخ الأدب والأفكار، واتسمت أعمالُه بالجرأة والصدامية.

أما أحمد أمين فيحسب له أنه أول صاحب مشروع لكتابة تاريخ شامل للأفكار والمذاهب والرؤى في تاريخ الثقافة الإسلامية الوسيطة، من منظور حديث. ومع أن اطلاعه على الكتابات الاستشراقية والمقاربات الفلسفية والتأويلية المعاصرة كان محدوداً، إلا أنه نجح في تقديم قراءة جديدة ومركبة للتراث العربي الإسلامي الكلاسيكي في جوانبه الفلسفية والكلامية والأدبية، ما تزال مادةً ثريةً صالحةً للمتابعة والمطالعة. أما زكي نجيب محمود فقد كان سباقاً إلى نشر الفكر العلمي الجديد من خلال اطلاعه الوثيق على الفلسفة الوضعية الإنجليزية.

ولم يكن عرض أفكار الوضعيين المناطقة منفصلا عن موقف نظري ملتزم أساسه التبشير بقيم العقلانية التجريبية والموضوعية الإجرائية والحقيقة العملية، وإن كان محمود انتهى في أعماله الأخيرة إلى نزعة تصالحية ما بين العلم والروحانية الإيمانية.

لم يذهب العقاد إلى طريق طه حسين الذي كان شديد التشبع بالفكر الحداثي الفرنسي إلى حد اعتبار أن المدخل الأوحد للحضارة المعاصرة هو التغرب الواعي والتنصل من الموروث الشرقي. كما لم يتبع زكي نجيب محمود في نزعته الوضعية البرغماتية التي نظر إليها بعين الأديب المبدع بصفتها اختزالية للفكر والثقافة، قاصرة عن بلوغ الرقي الإنساني الحقيقي. وربما كان أحمد أمين أقرب الثلاثة إلى فكره، وقد نوه بكتبه في التاريخ الثقافي للإسلام التي اعتبر أنه ينطلق فيها من منهجية «محافظة تجديدية».

ليس من همنا تقويم مسار المفكرين الأربعة الذين تجاوزهم البحث العلمي، رغم غزارة إنتاجهم وعمق ثقافتهم، بل ما يهمنا هنا هو التنبيه إلى أن العقاد ومعاصريه المذكورين شكلوا نموذجاً من المثقفين الموسوعيين قريبين من مفكري التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلادي.

ومن خصائص هذا النموذج الثقافةُ الموسوعية الواسعة، التي نلمسها بقوة لدى العقاد الذي ناهزت أعماله المائة عنوان، وقد تناول فيها مختلف المعارف والحقول الثقافية القديمة والحديثة، وتلك هي الميزة التي يشترك فيها مع طه حسين. كما نلمس لدى العقاد خصلةً أخرى من خصال مفكري التنوير الأوروبي، وهي الجمع بين التأمل الفلسفي وجمالية الأسلوب الأدبي، حتى في كتبه الأكثر تعقيداً مثل «التفكير فريضة إسلامية» و«عقائد المفكرين».

وكما أن مفكري التنوير الأوروبي تبنَّوا نزعةً دينية عقلانية ترفض التعصب والتحجر وتتبنى التسامح والحرية، ذهب العقاد في الاتجاه نفسه، وفياً لمشروع الإمام محمد عبده الذي وصفه بـ«عبقري الإصلاح والتعليم». كانت الصحافة الثقافية هي القناة المفضلة لرواد التنوير الأوروبي من أجل نشر أفكارهم وآرائهم، وقد سلك العقاد الطريقَ ذاتَه، فكانت كتاباته في مجلات «الرسالة» و«المقتطف» و«المؤيد» حاملةً لأفكار التجديد والتحديث التي غيرت جذرياً وجهَ الثقافة العربية المعاصرة. بعد ستين سنة اختفى المثقف التنويري في الساحة الفكرية العربية، وكان العقاد من الوجوه الأولى التي قامت عليها ديناميكية التنوير العربي المتعثر.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

3 مارس 2024 23:45

لعل أبرز حضور لجملة «نحن والتراث» هي في عنوان كتاب محمد عابد الجابري، وهو الكتاب الذي صدر عام 1980، وفيه طرح الجابري معالم منهجيته العلمية التي رسمت خطه المنهجي في كل عمل أنتجه بعد ذلك الكتاب.

وفي هذا الكتاب تحرر الجابري من خطاب السياحة الفكرية كما كان كتابه السابق الذي كان بمثابة بيان ثقافي عن حال الثقافة العربية يومذاك وقد جاء كتابه «نحن والتراث» ليتخلص الجابري من الأكاديمية البحتة ويدخل في العلمية المعرفية. وقيمة الكتاب تأتي في مقدماته المنهجية، ثم في طرحه لفكرة العلاقة بين العصر الحداثي وعصور المدونات الكبرى للموروث الفكري والذوقي العربي، وأهم ما في الأمر هو أن يعمد المؤلف لتأسيس وعيه النظري وترجمته إلى منظومة مصطلحية تجعل القارئ نفسه باحثاً من حيث يتزود القارئ بأدوات منهجية تمكنه من ممارسة نقد النقد، حيث سيكون في مُكنه أن يقيس تأسيسات المؤلف مع نتائجه التي تمثل مقولاته مبنيةً على مقدماته، وهذه دربةٌ ذهنية يجترحها المؤلف لنفسه أولاً بحيث يسير وفق خط ذهني يركز رؤيته ويغري قارئه للمشاركة في تحمل وعثاء الطريق مثلما يعلن الطيار عن مطبات هوائية فيطلب من الركاب العودة لمقاعدهم وربط الأحزمة.

وهذا هو المجاز الثقافي لمفهوم المنهجية، أي أنها عهدٌ وتعهد بين طرف وأطراف، وهو طرف واحد بعقلية يبرهن عليها الكتاب أو يكشفها، بينما الأطراف ليست محددة ومن ثم فهي غير مكشوفة، ولهذا نجد الاختلافات حول أي مؤلف منهجي، لأن العقول بمطلقها ليست منضبطةً منهجياً وبعضها لا يتحمل المنهجية ويؤثر الحرية والانسيابية الفكرية، وهذه صفة تشيع بين عموم القراء الذين يميلون للمتعة أكثر من ميلهم للجدلية تبعاً للدربة الطويلة على القراءات المؤسسية التي تغلب على التعليم بعامة، مما يجعل وظيفة الكتاب هي الحصول على النجاح في حين أن الكتب غير المدرسية لا تضمن النجاح بل تفتح أبواب الشغب الذهني، وتتعمد ذلك في كثير من الأحيان.

ورغم أن المنهج في أصله هو انضباط وضبط ذهني لكنه يؤول دوماً لجدلية تحتمها المقارنة بين المقدمات والنتائج وهذه جدلية تغري بمواجهة مقولات المؤلف وتحولها من نظام القبول والتسليم إلى فضاء الاختلاف وتنوع الرؤى، وهذا ما جعل الجابري واحداً من أكثر الباحثين العرب جدليةً (طبعاً بعد طه حسين)، والخلاف معه وحوله يفوق كل فرص التوافق عليه، وهذه مزية من المزايا النادرة التي تقع في عالم المعرفة، ومن بلغها من أهل الفكر فهو الاسم الذي يظل موضع خصام دائم كما هو ظن المتنبي في نفسه وشعره، وهو الظن الذي تحقق عملياً مذ أصبح مغروساً في تموجات قوله (ويسهر الخلق جرّاها ويختصم)، ومن هنا فإن جملة الجابري «نحن والتراث» تحولت بحق لتكون الجدلية التي رسمها هو بنفسه ولنفسه وظل ويظل الجابري واحداً من مجموعة الجدل الأهم عربياً.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 17 فبراير 2024 00:48

فرنسوا نودلمان في كتابه «عبقرية الكذب»

لم يكن التصدي لآفة الكذب الشائنة هو ما استوقفني في كتاب فرنسوا نودلمان «عبقرية الكذب»؛ لأن الكثيرين من علماء النفس والاجتماع والأخلاق قد تصدوا لهذه الفكرة بالدرس والتحليل والتمحيص، بل إسناد صفة العبقرية إلى واحدة من السلوكيات البشرية التي طالما وضعتها الشرائع السماوية والأرضية في خانة الصفات السلبية والمرذولة. إضافة إلى أن عبارة «هل كذب كبار الفلاسفة؟»، التي ألحقها المؤلف بالعنوان، قد حفزتني على قراءة الكتاب، لا بدافع الفضول وحده، بل بهدف الوقوف على ما خفي من سلوكيات النخب المبدعة التي يُفترض بها أن تكون مثالاً يُحتذى في النزاهة والصدق، وأن تقدم لقرائها ومتابعيها القدوة والنموذج الأعلى في الصدق والنزاهة والانسجام مع النفس.

أما حرص المؤلف على وضع العنوان الفرعي للكتاب في صيغة الاستفهام، فأقل ما يقال فيه إنه طريقته الحاذقة في تشويق القارئ، وفي طرح الموضوع المُتصدى له كإشكالية بحتة قابلة للدحض أو الإثبات، بما يعفيه من تهمة الافتئات والتعسف في إطلاق الأحكام المسبقة والقاطعة. ومع أن نودلمان يؤكد في تقديمه لكتابه، أنه لا يهدف إلى التشهير بأحد من الذين وضعهم على مشرح النقد والمساءلة، ولا إلى إدانة الكذب بوصفه عملاً غير أخلاقي، فإنه لا يألو جهداً في فضح التناقضات القائمة بين المبادئ والقيم التي يدعي الفلاسفة اعتناقها، وبين ممارساتهم الفعلية على أرض الواقع.

وإذ يحرص نودلمان على أن يكون لكتابه الأثر الصادم في نفوس القراء، لا يتناول بمبضع النقد مفكري الظلال ولا الهامشيين من الفلاسفة، بل أولئك الذين شكلوا خلال القرون الثلاثة المنصرمة، الجزء الأهم من ثقافة الغرب المعاصر وسلوكياته ووعيه الجمعي، بدءاً من جان جاك روسو وكيركغارد ونيتشه ووصولاً إلى ميشال فوكو ورولان بارت وسارتر وسيمون دي بوفوار وآخرين.

وفي تناوله لجان جاك روسو يعد المؤلف أن صاحب «العقد الاجتماعي»، الذي نقش على خاتمه عبارة «نذرَ حياته في خدمة الحقيقة»، لم يكن في سلوكه الحياتي النموذج الأمثل للقيم التي نظّر لها ودعا إلى اعتناقها. فالرجل الذي آلى على نفسه اعتناق الصدق والجرأة في تعرية الذات، والذي عد اليوم الذي جمعه بزوجته تيريز لوفاسور تاريخاً لولادته الفعلية ككائن أخلاقي، هو نفسه الرجل الذي تخلى عن أطفاله الخمسة ليضعهم في دار حكومي لتربية الأطفال الأيتام والمُتَخلى عنهم من قبل آبائهم وأمهاتهم. وقد عد نودلمان أن الأسباب التي قدمها روسو لتبرير فعلته تلك، ومن بينها هشاشة ظرفه الاجتماعي وعدم أهلية زوجته تيريز لتربية الأطفال، لم تكن سوى نوع من الذرائع غير المقنعة التي لفقها صاحب «الاعترافات» لكي يتمكن من ذر الرماد في عيون معاصريه. كما عد المؤلف لجوء روسو إلى محاكمة نفسه في كتابه «روسو يحاكم جان جاك»، لم يكن سوى نوع من الفولكلور المضلل، الذي قصد منه تقديم نفسه إلى العالم بوصفه شهيد الحقيقة وقربانها الأيقوني.

ولم تكن تجربة سورين كيركغارد لتختلف كثيراً عن تجربة روسو، من حيث الشروخ الفاصلة بين المفاهيم النظرية، وبين تطبيقاتها على الأرض. على أن كيركغارد نفسه لم ينكر ما وُجّه إليه من تهم الازدواجية والانقلاب على النفس. ولأن الحياة عنده لا تؤتى من زاوية واحدة، فهو يلجأ إلى الكتابة بعدد من الأسماء المستعارة، التي تسمح له بالتلطي خلف تلك الأسماء والتنصل من طروحاتها ورؤيتها للحياة. وإذ يعترف الفيلسوف الدنماركي الوجودي بأنه يكتب عكس ما يعيش، يقر بأن أكثر نصوصه إباحية كانت تحضره في لحظات الزهد، وبأن كتابه «يوميات زير نساء» قد تم تأليفه في أروقة أحد الأديرة، أثناء انغماسه في تجربة روحية عميقة. كما أن الفيلسوف المنافح عن فضائل الزواج، لم يكتف بالإحجام عن الدخول في المؤسسة الزوجية، بل فسخ خطوبته دون سابق إنذار مع حبيبته ريجين أولسن، التي لم تجد ما تستعين به على آلامها، سوى الزواج من منافس كيركغارد اللدود فريدريك شليغل.

وفي سياق نظريته الافتراضية حول ازدواجية الفلاسفة ونفاقهم، يرى نودلمان في علاقة سيمون دي بوفوار الغرامية مع الكاتب الأميركي نيلسون ألغرين، البرهان الأكثر وضوحاً على الفجوة العميقة القائمة بين منظومتها الفكرية النظرية وبين سلوكها الفعلي. فسيمون دي بوفوار التي تطلق عبارتها الشهيرة «المرأة لا تولد امرأة بل تصير كذلك»، تلح في الوقت ذاته على تفكيك السياقات الاجتماعية التقليدية التي تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل، منيطة بها جميع المهام المنزلية والعائلية والجسدية التي تحولها إلى خادمة ومربية وأداة للمتعة والإنجاب. ولا تكفّ صاحبة «الجنس الآخر» عن تذكير المرأة بأنها مساوية للرجل وندٌّ له، أو حثها على الإعلاء من شأن نفسها بالقول «أن تكوني امرأة في نظر أحد الرجال، وأن تشعري بالوجود من خلاله، وألا تدركي معنى للحياة إلا من أجله، فهذا كله يتنافى مع مشروع المرأة المستقلة». لكن دي بوفوار إذ تقع في غرام ألغرين، لا تجد حرجاً في نسف مقولاتها تلك من أساسها، وفي إعلان إمحائها الكامل إزاء رجلها المعشوق، ولا تتحرج من القول له: «أشعر بأنني جزء منك، وأنني ضفدعتك الصغيرة العاشقة، وأنا أتقبل راضية تبعيتي لك، طالما أنني أحبك». كما لا تتورع الفيلسوفة المناهضة لانفراد المرأة بأعمال السخرة المنزلية، عن المزيد من الخضوع وتقديم التنازلات، فتكتب لألغرين: «آه يا عزيزي نلسون. سوف أكون لطيفة وعاقلة، وسوف تراني أنظف المنزل، وأُعدّ لك جميع أنواع الطعام».

وإذ يقف نودلمان ملياً إزاء شخصية سارتر ذات الحضور الكاريزمي والأثر البالغ على معاصريه، فإنه يركز على الشروخ العميقة التي حكمت سلوكيات الفيلسوف الفرنسي الأشهر، سواء من حيث علاقاته العاطفية ذات النمط الشهواني الاستحواذي، أو من حيث التناقض التام بين فلسفته الوجودية التي تتحدث بلغة الأنا وترفع الحرية الفردية إلى رتبة المقدس، وبين دعوته اللاحقة إلى الالتزام، حيث سارتر الذي يدسّ أناه الفردية في ضمير الـ«نحن» الجمعي، لم يكفّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عن التحدث باسم الآخرين، وكأنه «يريد الحلول مكانهم، سواء أكان ذلك بحسن نية أم بإساءة استخدام اللغة».

على أن وجاهة أفكار نودلمان وذكاءه الحاد في التقاط التناقض الفصامي القائم بين تنظيرات الفلاسفة وسلوكياتهم، لا يعفيان القارئ من ملاحظة خلطه، المتعمد على الأرجح، بين المفاهيم والمصطلحات، بحيث إن ما عده كذباً، قد يكون جزءاً من الطبيعة الملتبسة لعلاقة اللغة بالواقع. فالأولى تقوم على التصور المثالي للعالم، واختبار الحيوات المتخيلة، كما يقول فلوبير، فيما تتصل الثانية بالممكن والمتاح والمعيش. كما أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان، والمبدع على نحو خاص، ليس دوغما واحدة ونهائية، بل يمكن له أن يتغير مع الزمن وأن ينقلب على مقولاته وأفكاره السابقة. ومع أن نقده لازدواجية سيمون دي بوفوار يعكس بذكاء لافت واحدة من زوايا الحقيقة، إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من كتبت «الجنس الآخر» وسواه، هي دي بوفوار المفكرة والمناضلة في مجال الحرية والعدالة والمساواة بين الجنسين، فيما أن من أحبت ألغرين، هي دي بوفوار الأنثى ذات العاطفة المتقدة التي استيقظ جسدها من سباته.

لا أعرف إذا ما كان فرنسوا نودلمان قد اطلع على المقولة العربية الشهيرة «أعذب الشعر أكذبه»، أو قرأ القرآن الكريم، قبل أن يشرع في تأليف كتابه المثير والإشكالي. 

لا أعرف أخيراً إذا ما كان فرنسوا نودلمان قد اطلع على المقولة العربية الشهيرة «أعذب الشعر أكذبه»، أو قرأ القرآن الكريم، قبل أن يشرع في تأليف كتابه المثير والإشكالي. وسواء كانت الإجابة بالسلب أو الإيجاب، فإن نعت الآية الكريمة للشعراء بأنهم «في كل وادٍ يهيمون»، وأنهم «يقولون ما لا يفعلون»، هو عين ما نعت به نودلمان فلاسفة الغرب الذين تناولهم بالدراسة. ومن غرائب المصادفات أن يعمد هانس أنتنسبرغر إلى تأكيد المقولة التي تربط بين الكتابة والكذب. ففي قصيدة له بعنوان «مزيد من الأسباب بأن الشعراء يكذبون»، يعمد الشاعر الألماني إلى دعم فرضيته بما يلزمها من البراهين والقرائن، ومن بينها «أن اللحظة التي تُلفظ فيها كلمة السعادة، ليست اللحظة السعيدة أبداً، وأن الميت عطشاً لا ينبس ببنت شفة، وأن الكلمات تصل متأخرة جداً أو مبكرة جداً، وأن مَن يتحدث هو شخص آخر على الدوام، فيما يلوذ بالصمت الشخص الذي يدور حوله الحديث!».

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 27 فبراير 2024 م ـ 16 شَعبان 1445

تاريخنا البشري ليس نتاجاً حتمياً لسلسلة سببية من الأفعال العقلانية

كثيراً ما نميلُ إلى التفكّر الحثيث في تاريخنا البشري والطبيعي، ووضعه موضع الاستنطاق والمساءلة. يبدو أنّ المساءلة الشائعة لهذه التواريخ ستجعلنا ننتهي إلى ما يمكن تسميتها «سرديات كبرى (Grand Narratives)»: عصر التنوير والإصلاح الديني الأوروبي، ونشوء الحربين العالميتين الأولى والثانية، مثلاً، يمثلان سردية كبرى في تاريخنا البشري، مثلما أنّ نشوء الإنسان العاقل (Homo Sapiens) يمثل سردية كبرى في تاريخنا الطبيعي، وانبثاق الحضارة الصناعية بأطوارها المختلفة (بخارية، وكهرباء، ومحرك الاحتراق الداخلي...) يمثل سردية كبرى في تاريخنا التقني. تتشارك هذه السرديات الكبرى في خصائص مميزة: إنها أفعال كبيرة، حتمية محكومة بسلسلة سببية خطية صارمة؛ عقلانية. لعلّ مواريث عصر النهضة الأوروبية (الثورة الفيزيائية النيوتنية بالتحديد) هي السبب الأعظم الذي ساهم في التأطير المفاهيمي لهذه التواريخ ووضعها في هذا السياق النسقي الذي جاء مع «عصر الحداثة»، ثمّ مع حلول حقبة «ما بعد الحداثة» نُسِفت هذه السرديات الكبرى ولم تعُدْ تحتلُّ مواضعها المركزية السابقة في الفكر البشري. نحنُ في العادة نميلُ إلى التماهي مع سياق السرديات الكبرى؛ لما تنطوي عليه من حتمية وعقلانية وعناصر كبرى من الفعل تتفق مع رغبتنا البشرية في إضفاء الخصيصة العلمية الصارمة على أفعالنا التاريخية. السرديات الكبرى بكلّ أناقتها المفاهيمية وصِلاتها السببية الخطية توفّرُ علينا عناء البحث عمّا هو كامنٌ تحت السطح المباشر والمرئي للأحداث؛ لكنّ تراكماً من الوقائع في العالم المادي دفعنا دفعاً إلى مراجعة هذه السرديات الكبرى مراجعة شاملة.

يمكن عَدّ «نظرية الفوضى (Chaos Theory)» بداية خطّ الشروع في هذه المراجعة التاريخية الجذرية. «نظرية الفوضى» في أصلها هي محاولة علمية تُرينا كيف تتعامل النظم المعقدة بحساسية كبرى مع التغيرات الصغيرة التي تطرأ عليها. بعبارة أخرى: الأفعال الصدفوية الصغيرة (Flukes) يمكن أن تنشأ عنها تأثيرات كبيرة في النظم المادية (الفيزيائية). نحنُ في العادة لا نحبّذُ مدّ هذه الرؤية على النظم البيولوجية (الكائنات الحية) لاعتقادنا بأنها تخضع لمؤثرات أخرى؛ لكنّ التحليل الدقيق سيكشف لنا خطل هذه الرؤية. هذا ما يعتقده ويؤكّد عليه البروفسور براين كلاس (Brian Klaas) أستاذ «التاريخ العالمي (Global History)» في «الكلية الجامعة» بلندن، وقد عرض أفكاره في أحدث كتبه المنشور في يناير (كانون ثاني) 2024 بعنوان:

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة».

يبدأ كلاس كتابه بمقدّمة مسهبة يكتب فيها عن الأفعال الصدفوية والعشوائية التي رافقت تشكّل تاريخنا البشري المعروف بموضوعاته الكبرى، ثمّ يقدّمُ شرحاً مكثفاً لحالة معاصرة - ليست بعيدة عنا – عندما تمّ القرار على إلقاء القنابل النووية على اليابان. هذه الحالة هي أقربُ إلى «دراسة الحالة (Case Study)» المعروفة في حقل الأدبيات الطبية، حيث تكون حالةٌ ما نموذجية دالة على حالات كثيرة؛ لذا سيكون من المفيد عرضُ تفاصيل قرار إلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.

عندما تقرّر قصف اليابان نووياً في مايو (أيار) عام 1945 عقب نهاية الحرب على الجبهة الألمانية؛ اختير «بنك أهداف» من المدن اليابانية التالية: كيوتو، هيروشيما، كوكورا، نيغاتا، ثمّ أضيفت ناغازاكي خياراً إضافياً. هذا ما اعتمدته لجنة من كبار جنرالات الحرب الأميركيين؛ لكن عندما عُرضت القائمة على وزير الحرب هنري ستيمسون (Stemson) رفض بشدّة وَضْعَ كيوتو على قائمة الأهداف، متعللاً بأنّها مدينة تضمُّ كثيراً من كبار الطبقة المثقفة (الأنتلجنسيا) اليابانية الذين سيكون من المفيد التعامل معهم بعد نهاية الحرب مع اليابان. تكشّفت حقيقة الأمر لاحقاً: كان ستيمسون وزوجته قد أمضيا شهر عسلهما في فندق بمدينة كيوتو قبل تسعة عشر عاماً (عام 1926 بالتحديد)، وقد ساء ستيمسون أن يرى مظاهر الحزن على وجه زوجته عندما علمت بأنّ هذه المدينة ستؤول إلى محرقة نووية عمّا قريب، فعزم على إخراج المدينة من قائمة الأهداف المرشّحة للقصف النووي. جاهد الجنرالات الأميركان لحثّه على قصف مدينة كيوتو لأنها مركز لتجمّع صناعي مهم فضلاً عن أنها عقدة المواصلات اليابانية؛ لكنّ ستيمسون رفض بحزم. ماذا كانت النتيجة؟ دفع أهل هيروشيما ثمن النوستالجيا المؤلمة التي حرّكت عواطف زوجة وزير الحرب الأميركي.

حدث أمرٌ مشابه بعض الشيء عند قصف ناغازاكي... كانت مدينة ناغازاكي هي المرشّحة للقصف؛ تليها مدينة كوكورا؛ لكنّ تجمعاً كثيفاً من الغيوم دفع طاقم الطائرة القاصفة للعدول عن قصف ناغازاكي واختيار الهدف الثاني على لائحة القصف. استدارت الطائرة متوجهة نحو كوكورا؛ لكنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة لمح في اللحظة الأخيرة فتحة بين الغيوم بانت منها مدينة ناغازاكي؛ فأشار إلى قائد الطائرة بالعودة إلى المسار السابق وتنفيذ خطة القصف الأصلية، وهكذا حُرق أبناء ناغازاكي في الوقت الذي بقي فيه أهل كوكورا سالمين. ذهب هذا المثل تعبيراً عن كلّ ذي حظ عظيم؛ فيوصفُ بأنّ له حظاً عظيماً في الحياة مثل «حظّ كوكورا».

المثال الموصوف أعلاه يمثّلُ حالة نموذجية لأفعال صدفوية صغيرة صنعت تاريخاً كبيراً، وقد انطوت على كلّ الخصائص الجوهرية لهذه الأفعال من حيث إنها:

1- أفعال صدفوية صغيرة: لعلّ قضاء شهر عسل يمثلُ حدثاً كبيراً في تاريخ الأزواج؛ لكنه لا يعدّ حدثاً مؤثراً في تشكيل تاريخنا البشري. ماذا لو قرّر ستيمسون وزوجته قضاء شهر عسلهما في مدينة غير كيوتو؟ وماذا لو أنّ عضو الطاقم المسؤول عن توجيه القنبلة قرّر صرف النظر عن وجود فتحة في الغيوم تكفي لتحديد مدينة ناغازاكي بصرياً ومن ثمّ قصفها بالقنبلة النووية؟

2- غير محكومة بسببية صارمة: قانون السببية الخطية لا يبدو أنه يعمل في مثال القصف النووي الياباني. كانت طوكيو العاصمة - مثلاً - شبه محطمة بتأثير القصف الجوي الأميركي التقليدي بقنابل حارقة، وقد بدا القصف النووي على اليابان أقرب لاستعراض قوة أميركية موجّه إلى الحلفاء الآخرين وليس دفعاً لليابان للتوقيع على وثيقة الاستسلام غير المشروط.

3- لا عقلانية: نحنُ - لو تُركنا لحالنا ومخيلتنا الخصبة - فسنميلُ لتوقّع أنّ انتقاء الأهداف اليابانية جاء بعد مناقشات مستفيضة اتّسمت بعقلانية صارمة ومفرطة، خصوصاً أنّ الأميركان كانوا بصدد تجريب سلاح نوعي جديد ذي قدرة تدميرية ساحقة. هذا حدث بالفعل، وكانت العقلانية هي الحاكمة لمباحثات اللجنة المكلّفة انتقاء الأهداف؛ لكنّ القرار الأخير كان بمؤثرات غير عقلانية (نوستالجيا في مثال كيوتو، وتشكّل عشوائي للغيوم في مثال كوكورا).

بعد المقدمة المسهبة للكتاب، يتناول المؤلف موضوعات تؤكّدُ عناوينها أصل أطروحته. نقرأ في هذه العناوين: «تغييرُ أي شيء يغيّرُ كلّ شيء»، و«لا يحدث أيّ شيء بسبب محتّم»، و«لماذا تشوّه أدمغتنا الواقع؟»، و«السرب البشري»، و«قواعد هيراقليطس»، و«الحيوان الذي يروي الحكايات»، و«لكلّ منا تأثير الفراشة الخاص به»، و«عن الساعات والتقاويم»، و«معادلات الإمبراطور الجديدة»، و«هل يمكن للأمور أن تحدث بطريقة أخرى؟»... عناوين مثيرة من غير شك، وتُغري بقراءة الكتاب.

كلُّ كتابٍ يخالف السرديات الكبرى السائدة له سحره الخاص وإغواؤه الفكري الجاذب. أظنُّ أنّ السحر والإغواء لن يخفتا أو ينقطعا لدى القارئ الذي يقرأ أيّ فصل من فصول كتاب كلاس.

«الأفعال العشوائية الصغيرة: الصدفة... الفوضى... ولماذا أيّ شيء نفعله له أهميته المؤثرة»

Fluke: Chance, Chaos, and Why Everything We Do Matters

المؤلف: براين كلاس

الناشر:

«Scribner Book Company»

2024

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 21 فبراير 2024 م ـ 10 شَعبان 1445

 

تكتسب فلسفته قيمة إضافيّة عند إنسان الرأسمالية المتأخرة

«نيتشه قريب للقراءة، لكن الوصول إلى مغازيه أمر من الصعب بمكان». بهذه الجملة يقدّم البروفسور فيرنر ستيغماير كتابه الأحدث عن الفيلسوف الألماني المثير أبداً للجدل فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، الذي نُقِل إلى اللغة الإنجليزية بترجمة من الدكتور رينهارد جي مولر، وصدر بداية بنسخة إلكترونيّة ثمّ مطبوعة عن دار النشر التابعة لوقفيّة «فاونديشن فور أورينتيشن فيلوسوفي» في الولايات المتحدة الأميركيّة بعنوان «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه». An Orientation to the Philosophy of Friedrich Nietzsche قد يفترض المرء، ونحن على مشارف الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، أن كل ما يمكن أن يُكتب عن فكر نيتشه قد نُشِر بالفعل، وأن فلسفته مهما كانت مفصليّة في مرحلة سابقة من التاريخ، فإن الزّمن تجاوزها، ولم تعد سوى جزء من سياق تتبع تطور الفكر الفلسفي الذي يقوم به الأكاديميون من قاطني الأبراج العاجيّة ليس إلا. لكن الواقع أن نصوصه ما زالت آسرة وقادرة على إثارة الجدل؛ سواء في أسلوب عرضها الفريد أو فيما تتضمنه من ثراء الأفكار، رغم أنّ كثيراً مما تحمله من المعاني صادم وغريب، بحيث يصعب على المرء أن يتقبله، أو حتى يستند إليه لتكوين مفهوم نظري متكامل عن العالم.

إن طروحات نيتشه تثير الحنق ربّما أكثر مما تقدّم ما يريح، وهي كذلك تماماً كما أرادها صاحب «هكذا تحدّث زرادشت»، و«كيف تتفلسف حاملاً مطرقة». لقد أقدم عامداً متعمداً على حرث الفضاء الفلسفي بأكمله من جديد، مقوضاً في طريقه جبالاً من مفاهيم طالما اعتصم الناس بها، بمن فيهم الفلاسفة والمثقفون، لمئات، بل آلاف السنين: الحقيقة، والعقل، والمنطق، والعلم، والأخلاق، والدين، والقانون، والدولة، والجوهر، والموضوع، والسبب، والنتيجة، والوعي، والإرادة والحرية، والحفاظ على الذات، والتقدم، وما إلى ذلك، دون أدنى محاولة لتقديم ولو حفنة صغيرة من يقين جديد، أو منظومة نظرية متكاملة بديلة.

بتحرر وصرامة يواجه نيتشه جمهوره بحقيقة الحياة البشريّة، فيشرّحها كما هي، دون ألوان أو رتوش، كواقع لا يمكن إنكاره، ولكن لا يمكن مع ذلك تحديده، وتتعذر معه محاولات إصلاحه. ولذلك ففلسفته تتعايش مع المفارقات وتتقبلها، وتتسبب لقارئها بالارتباك، حتى وإن قصد صاحبها التوجيه.

إننا ندرك اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن تأطيراً نظريّاً لوجهة ممارسة العيش في هذا العالم أمر لم يعد ممكناً بالاعتماد على منظومات يقينيّات كبرى متوارثة، ما لم يتجاوز المرء الحياة ذاتها، ويتبنى موقفاً (فلسفيّاً) متعالياً منها، عبر عبارات نقيّة لكنّها خارج سياق الواقع المجرّد.

على أن نيتشه يذهب (وفق ما يقول البروفسور ستيغماير) إلى أن الفلسفة تأتي من داخل الذات. فالبشر، ومنهم فلاسفتهم، ما هم في الخلاصة إلا كائنات حيّة لها احتياجات ومتطلبات، وتواجه تحديات وصراعات تشكِّل أفكارهم عن العالم بشكل لا إرادي، ولذلك فإن المرء يأتي بتصورات نابعة من تجربته الحياتية في ظل ظروف عيش معينة، ما يجعل من توجهه الفلسفي نتاج حاجة ذاتيّة، وتكون نظريته بالضرورة، سواء أكان إنساناً عادياً أو فيلسوفاً، كشفاً عن شخصيته الفريدة المتفردة.3951 نيتشه للقرن 21

وبناء على هذا التصوّر، فإن أي نظرية فلسفيّة عند نيتشه لن تكون صحيحة أو خاطئة، بقدر ما هي أعراض ألم ذاتي يريد شخص ما التغلب عليه. ومن نقطة الانطلاق هذه شكَّك نيتشه خلال حياته بكل شيء دون إبداء أي تحفّظ، وافترض أن التّفلسف مرجعه ومصدره دائماً شخص المتفلسف نفسه، بآفاقه ووجهات نظره وتوجهاته، التي عبرها فقط يمكنه استكشاف فلسفات الآخرين؛ ما يجعل إمكان وجود نظام فلسفي عالمي مجرّد تأمل مهلهل ومبالَغ به، فتنهار التفسيرات القائمة على المذاهب العقائدية، وتفقد الموضوعيّة الفلسفيّة المفترضة قيمتها لمصلحة وجهات النّظر الشخصيّة المحض.

ولذلك يذهب البروفسور ستيغماير إلى التنبيه إلى أن الاشتباك بكتابات نيتشه، لا سيّما نصوصه من الشّذرات، لا يمكن معها التوصّل إلى موقف نهائي يمكن الاستناد إليه في عملية اختيار توجُّه محدَّد نحو العلاقة بالحياة والعالم، وإنما يمكن للقارئ أن يستعين بمعول الهدم النيتشوي بقدر ما يشاء، بحسب رغباته واحتياجاته وآلامه، وهكذا عندما يوغل في أي من كتبه سيتسنى له أن يحدد إلى أي مقدار من نيتشه يمكنه تحمّله، وإلى أي مدى يستطيع عليه صبراً، في مواجهة عدم ثقته ضد كل يقين مطلق. والحق أنّ أغلبيتنا الساحقة ستصل معه إلى نقطة الفراق، حيث يحتاج البشر الضعفاء في النتيجة إلى شيء نهائي، وثابت، وسرمدي، للتمسُّك به، بعض سلوى الميتافيزيقا، وإن لم تظهر بشكل صريح أو منهجي، وتسربلت بثياب الدين، أو الأخلاق، أو السياسة، أو العلم، أو المنطق، أو حتى في مجرد الانغماس في اليومي والعابر مما يتطلبه كسب العيش والتعامل مع الآخرين.

إن فلسفة نيتشه، بخلاف مَن سبقه أو لحق به من المفكرين العظماء، تمرين مستمرّ على محاولة تبني توجُّه بشأن علاقتنا بالحياة والآخرين والعالم دون ميتافيزيقيا، وأداة تفلسف لممارسة نقد ذاتي راديكالي لمجمل تجربة الفكر البشري، وهذان، يقول البروفسور ستيغماير، يوسعان بشكل أو آخر مساحات اختيار مسار التوجه في الحياة، وهو أمر محرر دون شك لم يسبق إليه بهذه الصرامة والوضوح أي من الفلاسفة الكبار، لكنّه أمر مخيف أيضاً.

من هنا تكتسب فلسفة نيتشه قيمة إضافيّة لها عند إنسان الرأسمالية المتأخرة في القرن الحادي والعشرين، بعدما تناثرت صيغ الأفكار العالميّة الكبرى كِسَفاً، وتسارعت وتيرة التغيير المستمر على نحو غير مسبوق حتى لم يعد بمقدور جيل واحد أن يتوقع من الجيل التالي له أن يستوعب صيغ العيش التي اعتاد وتأقلم عليها وعدَّها مسلَّمات، وإطارات وعي جمعي مشترك.

ولعله يمكن الزّعم بأن «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه» قد يكون أفضل تمهيد يمكن لقارئ معاصر أن يستعين به، إن هو قرر عبور بحر الفكر النيتشوي العاصف، وذلك بحكم ترفّع مؤلفه، البروفسور ستيغماير، عن تعجرف المتخصصين وفذلكة الخبراء، وقرب مترجمه البروفسور مولر من مزاج الفلسفة الألمانية والمناخ الفلسفي الأميركي في آن، فيقدّم ممراً يشق بحر الكتابات الأكاديمية الكثيرة في استكشاف تجربة نيتشه، لا بوصفها مشروعاً فلسفياً وإنما كنتاج مفكر يأتي من خارج التصنيفات الفلسفيّة والمذهبيّة المعتادة، وذلك من خلال استقراء المصادر التي شكّلت أفكاره، بما في ذلك تقلبات حياته ومزاجه، ومصاعبه الصحيّة، والمعارف الذين التقاهم، وقراءاته، ونماذج الكتابة الفلسفية التي جرّبها، وتوقعاته وأشواقه، و«المهمة» التي نذر نفسه لها، وخطوط التوجيه الذاتية التي تعامل بها، ومنهجيته النقدية في تناول التوجهات والنظم الفكرية المستندة إلى أوهام الميتافيزيقا، ومغامراته في «إعادة تقييم جميع القيم»، ودوافع استعداده الدائم لمساءلة كل عقيدة توافقت عليها مجموعة من البشر، متصدياً في الوقت ذاته للمحاولات الضحلة لتعليب المنهج النيتشوي في مفاهيم ونظم فكريّة تسهِّل إساءة تفسيرها، مثل فكرة الإنسان الأعلى (أوبرمنش)، وإرادة السلطة - ما دفع كثيرين إلى تبنى صورة نيتشه كنبيٍّ ملهم للفكر النازي - وكما ذلك التكرار المملّ على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطع مجتزأة مما وضعه نيتشه على لسان زرادشت، ما يخلّ بما أراد التعبير عنه.

وتتميز النسخة الإنجليزية من الكتاب بحاشية إضافية لا تتوفر في الأصل الألماني تتوجه قصداً إلى القراء في العالم الأنغلوساكسوني حول كيفية دراسة نيتشه اليوم، بالاستفادة بأبعد من نصوصه المنشورة، وذلك من خلال استقراء مراحل وعتبات تطور توجهاته الفكرية، كما تفهم؛ لا من النصوص المعروفة فحسب، بل وأيضاً من دفاتر ملاحظاته الشخصيّة التي نُشرت ونُقحت بعد أكثر من قرن على وفاته، وأمكن منها معرفة المزيد عن فلسفته، وكذلك، وهو ربما الأهم، عن طريقته بالتفلسف.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 فبراير 2024 م ـ 08 شَعبان 1445

 

ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق... والموجة الأصولية ستنحسر عاجلاً أو آجلاً، نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث

تقول لنا كتب التاريخ ما فحواه: في أواسط القرن الثامن الميلادي، حصل شجار داخلي كبير أدى إلى زعزعة العالم العربي. فقد تغلَّب العباسيون على الأمويين، واستولوا على السلطة بعد أن أعملوا المجازر فيهم. كل العائلة الأموية أُبيدت عن بكرة أبيها. ولم يبقَ منهم إلا شخص واحد نجا من الموت وهرب إلى آخر الدنيا: هو عبد الرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش. وهذا الشخص الواحد المذعور الهارب استطاع أن يؤسس إمبراطورية جديدة في الأندلس! من يصدق ذلك؟ معجزة حقيقية. على أي حال، هكذا انتقلنا من عهد السلالة الأموية التي استمرت قرناً تقريباً إلى عهد السلالة العباسية التي استمرت خمسة قرون. وقد بلغت فيها الحضارة العربية الإسلامية أوجها؛ بلغت ذروة العظمة والمجد. عندئذ انتقل مركز الإسلام والعروبة من سوريا إلى العراق، ومن دمشق إلى بغداد. وعندئذ أشرق العصر الذهبي بأنواره على العالم.

ينبغي العلم بأن الصراع بين العباسيين والأمويين دار حول مفهوم الإسلام الصحيح: أي صحيح الدين. كل طرف كان يتهم الطرف الآخر بالانحراف عنه، وعن نهج العقيدة القويمة المستقيمة، وذلك لكي يزيحه عن السلطة ويحل محله. والواقع أن العباسيين استخدموا هذا الأسلوب في الدعاية و«البروباغندا» لكي يسفِّهوا الأمويين ويشوِّهوا صورتهم. وقد نجحوا في ذلك كل النجاح. فقد أشاعوا عنهم أنهم انحرفوا عن نهج القرآن والشريعة، وأنهم منافقون، فاسدون، ماجنون، لا أثر للإيمان في قلوبهم. ونجحت الإشاعة وانتشرت في كافة الأمصار الإسلامية، الشيء الذي أدى إلى سحق الأمويين عام 750م وحلول العباسيين محلهم على رأس الإمبراطورية العربية الإسلامية. وهذا ما يدعوه المؤرخون «الثورة العباسية».

وهذا يعني أنك لا تستطيع أن تسقط أي نظام بالقوة «الخام» -إذا جاز التعبير- أو بالقوة المحضة فقط. وإنما ينبغي أن تسقط مشروعيته الإلهية أو الدينية أولاً. الآن نقول: مشروعيته الآيديولوجية أو السياسية. انظر الصراع الجاري حالياً بين التيارات الظلامية للإسلام السياسي، وبين تيار الإسلام المستنير الصاعد بكل قوة على الرغم من كل شيء. صحيح أنه لا يزال أقلية قليلة، ولكن حركة التاريخ تمشي في اتجاهه، والمستقبل له حتماً.

متى سنكف عن فهم الإسلام على أساس أنه تكفير وحرب وضرب وتفجيرات وطائفيات مشتعلة؟ متى سندرك أنه يوجد فهم آخر للإسلام: فهم حضاري وأخلاقي وروحاني عظيم. لأن «الربيع العربي» لم يدرك ذلك؛ فشل فشلاً ذريعاً. (أفتح هنا قوساً وأقول بأن سكوت معظم المثقفين العرب عن المجازر المخزية التي ارتكبها الأصوليون خلال العشرين أو الثلاثين سنة الماضية في الداخل والخارج، وكذلك اغتيال المثقفين والصحافيين في الجزائر وسواها، هو أكبر دليل على مدى تخلف الثقافة العربية؛ ليس فكرياً فقط، وإنما أخلاقياً وإنسانياً أيضاً. ولهذا السبب لا توجد لنا أي مصداقية ولا أي احترام على المستوى العالمي).

كنوز التراث أو ذخائر العرب

بين عامي 750 و1100م، كان جميع العلماء إما عرباً، وإما فُرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغيين في الأندلس وشمال أفريقيا، وإما يهوداً، أو مسيحيين، أو مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة تجمع بينهم جميعاً، ألا وهي: أنهم كلهم كانوا يفكرون ويكتبون باللغة العربية. صحيح أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأم عندما يعودون إلى بيوتهم وعائلاتهم وأطفالهم، ولكن لغة العلم والفلسفة والمناقشات الفكرية الكبرى المحتدمة كانت تتم باللغة العربية. ولهذا السبب جرى استخدام تعبير «الحضارة العربية» وتفضيله على تعبير «الحضارة الإسلامية». لماذا؟ لأن كثيراً من العلماء آنذاك ما كانوا مسلمين؛ بل إن معظم المترجمين الكبار كانوا عرباً مسيحيين. ولكن كانوا كلهم يتقنون العربية ويؤلفون كتبهم الأساسية بها.

كانت اللغة العربية آنذاك لغة الحضارة العالمية. لهذا السبب نقول بأن مستقبل اللغة العربية أمامها لا خلفها، ولكن بشرط واحد: ألا وهو تبسيط قواعدها ونحوها وصرفها وصياغاتها التعبيرية. ثم بشرط تخلي المثقفين العرب عن ظاهرة التفاصح والتقعر. كنا ننتظر منهم تطوير اللغة العربية وتسهيلها، فإذا بهم يعقِّدونها أكثر فأكثر بنوع من الشطارة البهلوانية المزعجة والمقلقة فعلاً. ثم بشرط نقل كل العلوم والفلسفات الحديثة إليها. ثم بشرط اشتقاق آلاف المصطلحات الجديدة المقابلة للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية، بغية مواكبة روح العلم والعصر واستدراك ما فات. كل يوم ينبغي أن نبتكر مصطلحاً جديداً في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أيضاً. ثم بشرط حرية الإبداع والابتكار. ثم بشرط نقد الأصولية الظلامية وتفكيكها من جذورها، من أساسات أساساتها. وهذا هو الشرط الأساسي لتدشين حركة التنوير العربي القادم. على هذا النحو يمكن أن يعود العصر الذهبي مرة أخرى.

هذا وقد أبدع علماء الإسلام في كافة المجالات بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد (بين قوسين: أخشى ما أخشاه أن يصحح لي أحدهم تعبير «في كافة المجالات» فيصبح «في المجالات كافة»! يكاد يجن جنوني. هذا هو التقعر والتفاصح اللغوي بعينه. هذا التقعر المتفاصح سوف يلجم اللغة العربية، ويمنعها من التطور والانطلاق، وربما قتلها أو خنقها في نهاية المطاف. ومن الحب ما قتل. ومن الحب ما خنق. وهذه المعركة الكبرى كانت هي أيضاً معركة جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وبقية الرواد النهضويين. متى ستقترب اللغة العربية من لغة الحياة؟ هذا هو السؤال. متى سنردم الفجوة الحاصلة، والهائلة، بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية؛ بدلاً من أن نوسعها ونفاقمها ونصبح أضحوكة للأمم والشعوب؟).

انتصار عصر الانحطاط

نعود إلى صلب الموضوع، ونقول: ولكن هذا العصر الذهبي كان قصيراً مع الأسف الشديد؛ لأنه لم يستمر أكثر من ثلاثة أو أربعة قرون في بغداد العباسية أولاً، ثم في قرطبة الأموية ثانياً. بعدئذ ابتدأ عصر الانحطاط الطويل الذي لم نقم منه إلا بعد سقوط السلطنة العثمانية عام 1918. وهي السلطنة التي هيمنت على مقدرات العالم العربي من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وفي تلك القرون الظلامية الأربعة لم يواكب المسلمون الحركة العلمية والفلسفية إطلاقاً؛ بل ولم يسمعوا بها. بل كانوا يغطون في نوم عميق عندما كانت أوروبا تنهض وتصنع العلوم والحضارات والمعجزات. وهكذا انعكست الآية؛ في تلك القرون الأربعة ظهر كل علماء وفلاسفة أوروبا الكبار، من أمثال: كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، ونيوتن، وكانط، وهيغل، وعشرات آخرين؛ ولكن هل سمع بهم قادة السلطنة العثمانية وشيوخها الكبار؟ أبداً، لا. لم يسمعوا بهم، ولم يترجموا لهم كتاباً واحداً، ما عدا كتاباً واحداً في الطب؛ لأن السلطان كان مصاباً بمرض جنسي. وهذا يعني أن عصر الانحطاط استمر مدة ستة أو سبعة قرون؛ أي منذ القرن الثاني عشر، تاريخ سحق المعتزلة والفلاسفة وانطفاء أنوار قرطبة بعد أنوار بغداد، وحتى القرن التاسع عشر، تاريخ انطلاقة النهضة العربية في مصر وبلاد الشام، على يد: محمد علي، والطهطاوي، وبطرس البستاني، ويعقوب صروف، وشبلي شميل، والأفغاني، والكواكبي، وعشرات النهضويين الآخرين.

أخيراً، هكذا نلاحظ أن عصر الانحطاط والظلام هو الأكثر استمرارية ورسوخاً في تاريخنا. من هنا صعوبة الاستيقاظ والنهوض. كلما حاولنا النهوض انتكسنا وعدنا إلى الوراء. هناك قوى هائلة تشدنا دائماً إلى الخلف. من هنا صعوبة التخلص من الحركات الظلامية التي تهيمن علينا الآن. فالعصر الذهبي الأول لم يستمر أكثر من بضعة قرون في بغداد وقرطبة. والعصر الذهبي الثاني لم يستمر أكثر من قرن ونصف قرن: وأعني به عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى عام 1970. بعدئذ صعدت الموجة الأصولية بقوة وعنفوان هائل، وتسلَّمت زمام الأمور منذ خمسين سنة وحتى الآن؛ بل وحتى قبل ذلك. يمكن القول بأن حركة «الإخوان المسلمين» التي تأسست عام 1928 هي التي قصمت ظلنهضة العربية التي كانت صاعدة بقوة من خلال التفاعل مع أفضل ما أعطته أوروبا. وهي التي أرعبت العلماء والمثقفين في شتى الأقطار. انظر محاولة اغتيال عباس محمود العقاد الفاشلة لحسن الحظ.

والآن، نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث: أي عصر التنوير العربي الذي ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق. فهذه الموجة الأصولية سوف تنحسر عاجلاً أو آجلاً، وسوف يحل الإسلام المستنير محل الفكر الإسلامي الظلامي المهيمن علينا حالياً. ولكن ذلك لن يتم قبل أن تحصل معركة كسر عظم مع الأصوليات السوداء المزمجرة. لن يتم قبل أن ننخرط في معركة فكرية شرسة جداً مع ذاتنا التراثية العميقة. وهي معركة ظل المثقفون العرب يتحاشونها خوفاً من الاشتباك معها. ولكن في نهاية المطاف لا بد مما ليس منه بد.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 19 فبراير 2024 م ـ 08 شَعبان 1445 هـ

لا شك في أن الصديق فتحي نقزو، أستاذ الفلسفة في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، قد أحسن إذ أصدر مؤخراً الترجمة العربية للكتاب الأخير للفيلسوف الألماني الأشهر كانط «صراع الكليات». في هذا الكتاب الذي نادراً ما حظي بالاهتمام المستحق، يتناول كانط العلاقة المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون (بالإضافة إلى الطب الذي ينتمي للكليات العليا).

لا يهمنا تلخيص هذا الكتاب الذي اعتبره البعض «الوصية السياسية» لكانط، وقد احتفى فيه بوضوح بالثورة الفرنسية، كما تضمن دفاعاً مستميتاً عن حرية التفكير والتعبير في مواجهة الجمود والتعصب.ما يهمنا من منظور كانط هو تناول هذه العلاقة الإشكالية المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون في سياقنا العربي الإسلامي، حيث يتم في الغالب الفصل بين هذه الأنظمة الخطابية المتمايزة.

وبغض النظر عن تحديد هل يمكن اعتبار علم الكلام الإسلامي لاهوتاً والفقه قانوناً، تتعين الإشارة إلى الروابط الكثيفة في تاريخنا الثقافي بين هذين المجالين وبين الفلسفة التي لم تكن في غالب الأحيان خطاباً جامداً يترجم النص اليوناني ويعلق عليه. ما نريد أن نبينه هو أن الاهتمام الفلسفي لم ينشأ في السياق الإسلامي الوسيط، كما يظن البعض عادةً، كمجرد استيراد لمدونة نظرية جاهزة ومكتملة، سواء من أجل تناول المسائل العَقَدية التي أثارت اهتمام المتكلمين، أو من أجل التبشير بأخلاق الاعتدال والسعادة التي شغلت الأدباء والكتاب في الحقبة الوسيطة.

في هذا السياق، تتعين الإشارة إلى أن الجوانب الميتافيزيقية من الفلسفة اليونانية لم تكن هي محور اهتمام فلاسفة الإسلام، كما يظهر من الكتابات الفلسفية المبكرة (الكندي وأبوبكر الرازي وثابت ابن قرة)، بل إن تركيزهم كان على الطبيعيات والأخلاقيات. بيد أن الطبيعيات لا تعني هنا الكوسمولوجيا الأرسطية، مِن صور وجواهر وأجسام فلكية، بل هي مظهر لـ«مجرى الخير في الوجود» حسب اصطلاحات ابن سينا، وهي إذن داخلة في المنحى الأخلاقي بدلالته الواسعة. عندما طرح الفارابي سؤال غياب مفهوم للوجود في اللغة العربية، كان يدرك أن نمط التفكير الفلسفي في الإسلام لا يتم عن طريق المنظور الأنطولوجي، بل من خلال المقاربة الأخلاقية العملية التي تتم من خلال مسارين هما: التدبير المدني للعيش المشترك والتشريع السلوكي وفق ضوابط وأحكام ملزمة وضرورية. ومن هنا أدرك كبار قراء الفارابي، من نوع ليو شتراوس ومحسن مهدي، مركزيةَ المسألة الأخلاقية القانونية (الشرائع والنواميس) في المنهج الفلسفي الذي أطلق عليه الفارابي نفسه تسمية «السياسة المدنية». وعلى عكس التصور السائد، لم يكن علم الكلام (الذي هو البديل الإسلامي عن اللاهوت باعتبار غياب منظومة مقننة تتناول مضامين وتفاصيل الاعتقاد الإيماني) بعيداً عن الفلسفة ولا عن التشريع القانوني.

لقد لاحظ المستشرق الألماني «جوزف فان أس» أن نظام الاعتقاد في الإسلام يقوم على الممارسة والتطبيق لا الاستكناه العقلي للمضمون الباطني للإيمان، بما يعني أن الاعتقاد بصفته نطقاً باللسان وتعبداً بالشرائع من باب الفقه والعمل. أما الفقه نفسه فلا يمكن اعتباره نسقاً قانونياً حتى في جوانب التشريع والمعاملات، بل هو من حيث أحكامه المتعلقة بالأفراد والمجموعة داخل في صلب الأخلاق بمنظورها الشامل. الأخلاق هنا بطبيعة الحال ليست أخلاق الواجب أو الأوامر العقلية الكونية بالمعنى الكانطي الحديث، بل هي مقاصد للعمل وموجهات للعمل وضوابط للفعل. ما نستخلص من هذه الملاحظات هو أن محددات الفلسفة في السياق الإسلامي الوسيط كانت بالأساس أخلاقية لا ميتافيزيقية، تدور حول الأوامر والالتزامات الإنسانية الكونية، لا المنظور الكلي الوجودي الذي تدور حوله الفلسفة اليونانية.

وفي إعادة بناء ميتافيزيقا أرسطو التي اضطلع بها ابن سينا في إلاهياته، نجد أنه أدخل تصورين جديدين على هذه الفلسفة، وهما: نسف أطروحة تلازم الوجود والماهية وما يترتب على هذا النسف من تفريق جوهري بين الكليات الذهنية والأعيان الفردية، وتقويض مسلمة أحادية العالم بالتمييز بين الوجود الضروري والوجود الممكن وما ينتج عن هذا القول من تعددية العوالم التي تبناها الكثير من مفكري الكلام والفلسفة. الفلسفة تصبح إذن ضمن هذا التصور ممارسة أخلاقية شرعية تهدف إلى إبلاغ الإنسان أعلى درجات الفضيلة والسعادة، وليست تأملا في جواهر الوجود وكلياته أو تكيفاً مع نظام الكون المطلق. ومن هنا نخلص إلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والكلام والفقه في السياق الإسلامي، بما يعني غياب صراع الكليات العليا والسفلى بالمعنى الكانطي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 فبراير 2024 23:45

الأدبي غير العلمي وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي

غالبا ما ينظر الباحثون في قضية الاستشراق نظرتهم في أصعب المسائل وأشدها إرباكاً، ذلك بأن هذه القضية تتعلق مباشرة بإشكالية الهوية الذاتية الجماعية التي يعتصم بها أبناء المجتمعات العربية، وفي يقينهم أنها تقيهم انحرافات الانحلال الحضاري، والضياع الثقافي، والوهن السياسي. لذلك آثر معظم أهل الاختصاص أن يغلقوا على الاستشراق في محنة التنازع بين ضربين من التطرف: فإما أن يغالي الاستشراق في رسم الآخر الشرقي على صورة الذات الغربية، وهذا ما يحصل في أغلب الأحيان، وإما أن يكتفي برسم الذات الغربية على صورة الآخر الشرقي، من بعد أن يهيم المستشرق بسحر الشرق وعجائبه. لا بد، والحال هذه، من البحث عن الحل الوسطي الذي ينتقد الاستشراق من غير أن يكفره، ويمدحه من غير أن يمجده.

أعتقد أن أفضل السبل يقتضي الشروع في ثلاث خطوات منهجية أساسية: ينبغي للمرء أولاً أن يتفحص الخلفيات الثقافية والسياسية التي دفعت بعلماء الغرب إلى الاعتناء بالشرق العربي على تنوع منبسطاته الجغرافية وتباين تجلياته الحضارية، ويجب عليه ثانياً أن يميز تمييزاً حصيفاً بين منابت الاستشراق وأصنافه؛ إذ إن الاستشراق مذاهب وتيارات وتوجهات؛ ويتعين عليه ثالثاً أن يتحرى الآثار السلبية والإيجابية التي خلفها الاستشراق في وعي المجتمعات الشرقية، لا سيما العربية منها، ويستقصي الأبعاد التفاعلية التثاقفية التي استولدها التقابس الحضاري بين الغرب والشرق.

أبدأ أولاً بالخلفيات الثقافية والسياسية. من الواضح أن أزمة الاستشراق تقترن بأسباب سياسية ومعرفية. إذا اكتفى المرء بالأسباب السياسية، اتضح له أن عوامل الفساد المعرفي في بعض الاجتهادات الاستشراقية ترتبط بالخلفيات الثقافية التي ينتسب إليها المستشرق، وبالتصورات الآيديولوجية التي يبايعها، وبالأنظومات والهيئات السياسية التي تدعم مشروعه الاستشراقي وتموله. أما إذا تناول المرء الأسباب المعرفية، فإن البحث يضحي أشد استنهاضاً للعقل المستنير؛ إذ يحثنا على استجلاء العوامل المعرفية المحضة التي تجعلنا نرتاب من عملية الاستشراق في مقتضياتها المعرفية. ذلك بأن فهم الشرق العربي فهماً غربياً يختلف عن فهم الشرق العربي فهماً شرقياً عربياً. من جراء الاختلاف الخطير في الأنظومات الثقافية السائدة في الغرب وفي الشرق العربي، يستحيل على المستشرق أن يدرك خصوصية الفرادة الذاتية التي ينطوي عليها تراث الآخر.

أمضي ثانياً إلى التمييز الضروري بين منابت الاستشراق وأصنافه. يعلم الجميع أن البلدان الأوروبية التي توسعت توسع الاستعمار، ومنها على سبيل المثال بريطانيا وفرنسا وروسيا، ناصرت استشراقاً خاضعاً في بعض الأحيان لمصالح السياسات الخارجية الاستعمارية. أما البلدان الأوروبية التي لم تختبر إرادة الاستعمار في أقصى اندفاعاتها التوسعية، ومنها على سبيل المثال ألمانيا غير النازية والنمسا وهولندا، فإن استشراق علمائها استطاع أن ينعتق من خلفيات المصالح التوسعية، فاتسمت مبادراته الفردية بالوداعة المعرفية والانفتاح الرضي والرغبة الصريحة في التعلم والاستمتاع بإنجازات الحضارة العربية وفتوحاتها الثقافية وأمثولاتها الروحية. لا ريب في أن مثل هذا التصنيف لا يعني أن جميع الاجتهادات الاستشراقية المقترنة بمشيئة البلدان الاستعمارية كانت انحيازية تضليلية مؤذية، وأن الاجتهادات الأخرى كانت كلها موضوعية منزهة هادية. أعتقد أن في الاستشراق الثقافي المحض بعضاً من النزعة الاستعمارية الدفينة، وفي الاستشراق الاستعماري الصريح بعضاً من الحكمة المعرفية الحميدة.

زدْ على ذلك أن الاستشراق الأدبي غير الاستشراق العلمي، وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي. ذكرت هذه الأصناف لأبين أن استشراق الأدباء الأوروبيين، لا سيما الرحالة من أمثال الرحالة البريطاني سير ويليام جونز (1746 - 1794) صاحب البحث الشهير في الشعر الشرقي ومترجم المعلقات العربية السبع، والفرنسي أنطوان - سيلڤستر دساسي (1758 - 1838) صاحب الأبحاث التاريخية في فقه اللغة العربية ومترجم نصوص فريد الدين العطار، والألماني المختص بالأدب العربي المسيحي غيورغ غراف (1875 - 1955)، ساهم مساهمة جليلة في استكشاف كنوز الأدب العربي القديم.

من الضروري في هذا السياق أن أخص الاستشراق الألماني بذكر طيب؛ إذ انفرد بميله الأكاديمي الصِّرف ورغبته الصادقة في الانعتاق من سطوة السلطان السياسي. صحيح أنه من العلوم الدخيلة في ألمانيا، ولكنه ما عتّم أن اندمج في النظام البحثي الجامعي الألماني، وقد آزرته العوامل السياسية المتعلقة بانكفاء المقاطعات الألمانية وإعراضها عن التوسع الاستعماري الجامح. فاكتفى المستشرقون الألمان بفضيلة البحث العلمي المحض، ولو أن الجيل الرومانسي من الاستشراق الألماني عاد فاستثمر لاحقاً الأبحاث المنجزة في توطيد التصورات القومية الجرمانية. بفضل جهود المستشرق الألماني هاينريش فلايشر (1801 - 1888) الذي اعتنى بتحقيق نصوص أبي الفداء والزمخشري والقاضي البيضاوي، تأسست في مدينة لايبتسيش عام 1845 الجمعية المشرقية الألمانية، وغايتها احتضان الاستشراق الألماني في إطار المؤسسة البحثية المستقلة.

أما ما اتصف به الاستشراق الألماني فالاجتهاد في تطوير فقه اللغة المقارن، والاستناد إلى خلاصاته من أجل تعزيز الأبحاث المتعلقة بطبائع الأعراق والأقوام والسلالات. ترسخ هذا التوجه بالاستناد إلى أعمال الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646 - 1716) الذي كان يولي اللسانيات مقام الصدارة؛ إذ كان مقتنعاً بأن الكلمات التي تختزنها معاجم الشعوب تكشف لنا عن هوية هذه الأقوام وأصلها وصلات القربى المنعقدة بينها وترحالاتها المتعاقبة. فضلاً عن ذلك، اتصف الاستشراق الألماني بالاعتناء الدقيق بدراسة اللغات القديمة، لاسيما السنسكريتية والسومرية، وذلك بخلاف الاستشراق الفرنسي أو الإنجليزي الذي كان شديد الميْل إلى تناول مسائل السياسة والتجارة والإدارة في الشرق.

أختم ثالثاً باستجلاء الآثار التي وَلّدها الاستشراق، على تباين وجهيه السياسي والثقافي، في الوعي العربي الحديث والمعاصر. إذا أردنا أن ننصف الظاهرة الاستشراقية العالمية هذه، سارعنا إلى التذكير بأن التأثير كان متبادلاً، أي ناشطاً في الاتجاهين. ذلك بأن المجتمعات العربية أدركت بفضل الاستشراق مقدار الغنى الحضاري الذي يختزنه تاريخها الأثيل، وقد اكتنفته ظلال الجهل منذ انطفاء شعلة التألق الحضاري العربي في القرن الثالث عشر حتى اتقادها مجدداً في عصر النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر. لا بد من امتداح الجهود الجبارة التي بذلها أهل الاستشراق الأوروبيون من أجل الكشف عن وثائق الوعي الثقافي العربي التي كان غبار الدهر يلفها في مكتبات العواصم العربية والغربية. أعرف أن هذا الجهد خضع في بعض الأحيان لتأويلات الوعي الحضاري الغربي. فكانت التسمية غربية، والمنهجية غربية، وكذلك طريقة التفكير وردود الفعل والأحكام والخلاصات.

ولكن كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكف عن انتمائه الغربي، وأن يُجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟ الحقيقة أن الاستشراق فعل ثقافي خطير يُغني الذات حين تنظر في مرآة الآخر، يستفزها باختلافاته واستنهاضاته. لا يمكننا على الإطلاق أن نحرر الاستشراق من سحر الشرق، ولو أن أثر هذا السحر تجلى على وجوه شتى. لا ينجو المستشرق باستشراقه من شمس هذا الشرق ووهجها الحراق. فإذا به يرتد إما إلى ذاته يعيد النظر فيها، وإما إلى الشرق فيعتنق الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو المسيحية الشرقية كما فعل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 - 1962).

كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكفّ عن انتمائه الغربي وأن يجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟

أعتقد أن أزمة الاستشراق انبعثت حين انحرف المستشرقون في الحكم على قضيتين خطيرتين: مقام الإسلام في الوعي الحضاري الكوني، وصدارة الخصوصية الحضارية الأوروبية. يعلم الجميع أن بعض المستشرقين شيّعوا صورة قاتمة عن الدين الإسلامي، وقد استندوا إلى تأويلات قرآنية مجتزأة مبتورة. فأطلقوا الأحكام الظالمة المتعلقة بهوية الإسلام وتقويم مساره التاريخي ووظيفته الحضارية، فاختلط الاستشراق بمشكلات الحوار الديني اللاهوتي العسير المرْكَب. كذلك عمد بعضهم الآخر إلى البرهان على تفوق الحضارة الغربية الأوروبية، وفي مستندهم بعض الوقائع التي تدل على تفوق في المعرفة والعلم والاقتصاد.

أسوق مثالاً على عملية تسويغ التفوق الغربي، أستخرجه من اجتهادات بعض المستشرقين الرومانسيين الألمان الساعين إلى استثمار الأبحاث اللغوية المقارنة من أجل مناصرة الخصوصية الأوروبية. حاول رائد الرومانسية الألمانية مجدد النقد الأدبي فريدريش شليغل (1772 - 1829) أن يستند إلى أبحاثه اللسانية في نحو اللغة السنسكريتية لكي يبرهن في كتابه (في لغة أهل الهند وحكمتهم) أن السنسكريتية والفارسية من جهة، واليونانية والألمانية من جهة ثانية، لغات تشترك في خصائص لسانية أساسية لا تشترك فيها اللغات السامية والصينية والأمريكية والأفريقية. من جرّاء هذه المقارنة، خلص إلى إثبات وحدة الأقوام الأوروبية المنبثقة كلها من قوم أصلي افترض أنه عاش في الهند القديمة الممتدة بين منطقتي كشمير والتيبت وتكلم باللغة السنسكريتية. ومن ثم، استند شليغل إلى قاعدة الوحدة اللغوية المفترضة لكي يعارض الأقوام الهندو-أوروبية بالأقوام الأخرى، لا سيما السامية منها، ويستنتج أن اللغات التي يستخدمها غير الأوروبيين أدنى مرتبة في جماليتها التعبيرية.

خلاصة القول، إن الاستشراق اجتهاد ثقافي يفصح عن طبيعة الذات المستشرقة قبل أن يكشف عن خصائص الشرق المنشود. واجب العقل المستنير أن يستثمر أبحاث الاستشراق من أجل إدراك خصوصية كل شعب على حدة، وفرادة شخصيته التاريخية، وقيمة مساهمته الحضارية.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: نُشر: 17 فبراير 2024 م ـ 06 شَعبان 1445 هـ

 

بين كتاب خير الدين التونسي عام 1867 بعنوان «أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك»، وكتاب المفكر الإيراني جلال آل أحمد: «الإصابة بالغرب»، زُهاء المائة عام. خير الدين التونسي يقول إنّ «المدنية» الأوروبية بمثابة «السيل الذي لا يمكن دفعه» إلاّ بالانخراط فيه، أو يجرفنا السيل. بينما يرى جلال آل أحمد أنّ الغرب مرضٌ أُصبنا به، ويجب الخروج منه أو عليه أو يكون الهلاك!

وفي عام 1974، وبتأثير تجربة القرن أيضاً، انعقد مؤتمرٌ بالكويت عنوانه «أزمة الحضارة العربية»، حضره كبار المفكرين العرب، وتوصل إلى تشخيص معاكسٍ لتشخيص جلال آل أحمد: لا دخول في الحداثة والثقافة المعاصرة إلا بالقطيعة مع الموروث! وبين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي ما بقي مفكر أو كاتب عربي إلا واقترح مشروعاً شاسعاً لإلغاء تأثير الموروث في العقليات والنفسيات أو تأويل الموروث تأويلاً راديكالياً يلغي تأثيراته السلبية!

وبعد مقالة صمويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات»، بـ«مجلة الشؤون الخارجية الأميركية» عام 1993، انتقل النقاش للدفاع عن الإسلام من جهة أو إدانة عدوانية الغرب من جهة ثانية. ولا حاجة لمتابعة وقائع المحاولات والجدالات بعد حدث عام 2001، وإغارة «القاعدة» على الولايات المتحدة، واندلاع الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي أو السني؛ فقد تغلّبت في الكتابات ظواهر ومظاهر التغالب والغلبة بين حوار الحضارات وتآلفها أو صراعها، وقد حاولتُ وقتها (2004) القيام ببعض المتابعات النقدية في كتابي: «الصراع على الإسلام».

وليس بسبب الحرب على غزة، لكن الكتابات ما عادت بعيدة من ذلك اليوم، بسبب التحزب الغربي لإسرائيل، صعد تيار العداء للغرب ونظام العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تيارٌ جذري أو راديكالي يقول أنصاره من المفكرين والأنثروبولوجيين في الغرب وعندنا إنّ مشكلات الحضارة العالمية (الغربية) ليست علّتها على وجه التحديد في تيارات اليمين هناك، بل وفي الأصول «التنويرية» لتلك الحضارة التي تستبطن أفكار وسياسات التمييز وإلغاء الآخر، رغم ظواهرها الليبرالية والإنسانية التي تُظهر «الدولة الحديثة» تبنّيها لها زوراً وبهتاناً!

والواقع أنّ هذا النقض للتنوير، وبالتالي للدولة الحديثة، بدأه فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني المعروف. وترك تأثيراته على معظم فلاسفة القرن العشرين. ثم صار غرام فلاسفة فرنسا الجدد ومفكري ما بعد الحداثة الذين اشتهرت في أوساطهم مقولة «القطيعة» ليس مع الموروث الإسلامي بالطبع، بل مع الموروث الحداثي الأوروبي والغرب بعامة. ولذلك، وكما سلك فلاسفة ما بعد الحداثة بالغرب تجاه حضارتهم، سلك المفكرون العرب تجاه موروثنا في مسألة القطيعة، من دون أن يقولوا لنا شيئاً عن الحداثة الحديثة التي يريدون منا التنكر لموروثنا من أجل التمكن من الدخول فيها؛ إذ معظم هؤلاء كانوا من اليساريين ونقاد التفكير البورجوازي الغربي وقد أذهل العديدين منهم سقوط الاتحاد السوفياتي، ولاذَ بعضهم بالنهوض الصيني من دون أن يقولوا الكثير عن ميزات رأسمالية الدولة الصينية على الرأسمالية الأُخرى، ربما باستثناء إخراج رأسمالية الدولة الصينية لمئات الملايين من الفقر. بيد أنّ كاتباً عربياً (وليس هندياً على أي حال) لاحظ أنّ النهوض الاقتصادي الهندي أخرج أيضاً مئات الملايين من الفقر رغم النموذج المختلف عن النموذج الصيني!

ولنعد إلى التيار الآخر الفكري والاستراتيجي الذي يتقدم في السنوات الأخيرة، في الرؤية السوداوية للغرب وحداثته أو دولته الحديثة. تبلور هذا التيار تأسيساً على كتاب إدوارد سعيد: «الاستشراق» (1978)، والمستشرقون فئة اختصت بدراسة الحضارة الإسلامية فخانت قيم التنوير، بما أظهرته من تمييز واستنسابية وخدمة عملية الاستعمار، وظلت هذه الرؤى مؤثرة في ثقافات ما بعد الاستعمار. ومن أطروحة إدوارد سعيد (التي اتخذت من القضية الفلسطينية - سعيد فلسطيني الأصل - أمثلة حاضرة لها) تطورت دراسات التابع (Subaltern)، وعلى أيدي مفكرين من أميركا اللاتينية والهند، لتُدين الثقافة التي أنتجها وخلّدها الاستعمار تجاه الثقافات الأُخرى، وظلّت مرتبطة بأصلها الأصيل حتى اليوم في الأفكار والاستراتيجيات والمؤسسات. ومن دراسات ومقولات ومقتضيات ثقافة التابع لدى الغرب، تكونت الرؤية السوداوية للغرب وحضارته؛ فإدوارد سعيد عَدّ الاستشراق خيانة للقيم والرؤى التنويرية والإنسانية، أما تطورات دراسات التابع فترى أنّ سعيداً كان واهماً، وتعاني رؤيته من قصورٍ شديد، لأنّ قيم التنوير بالذات هي أصل الداء، والحبل السري لمؤامرة الدولة الغربية الحديثة التي يسودها الإحساس بالتفوق في العالم وعليه! فقيم الحرية والعدالة والسلام ووحدة الإنسانية التي تحمل الدولة الغربية رايتها لا تنقضها في الواقع سياسات الكيل بمكيالين فقط تجاه الآخر غير الغربي في النظام الدولي الذي صنعه وسيطر الغرب الأميركي والأوروبي فيه؛ بل إنّ هذه القيم والمقولات بحدّ ذاتها مقصور معناها وتأثيرها على الغرب ودولته ولا تتعداه.

ولا يزال الإسلاميون يستفيدون من هذا النقض للحضارة الغربية ودولتها الحديثة، وفي ظنهم أنّ ذلك شاهد على ما يقولونه منذ سبعين عاماً وأكثر عن مؤامرة الغرب على الإسلام وحضارته. وقد انقسموا إلى تيارين: التيار الذي يتهم السياسات الدولية بالكيل بمكيالين، والتيار الأكثر راديكالية الذي يستند لنقد الحضارة ونقضها لدى تياراتٍ في الغرب للمصير إلى الحلّ الإسلامي البديل لكل ما أنتجه «التقدم» الغربي المدَّعى. ولا تجوز الاستهانة بهذه النقود والنقوض؛ فقد قرأت لشبانٍ متفائلين بعودة الفلسفة للتفكير والتدريس بوصفها تنمّي التفكير النقدي، قرأت لهم مقالاتٍ تعد نقائض مفكري ما بعد الحداثة مثالاً ينبغي احتذاؤه!

ليس في العالم اليوم غير حضارة واحدة، وبداخلها وعلى حواشيها تياراتٌ كثيرة، كلّها نقدية بدرجاتٍ متفاوتة، لكنها وإن أظهرت خيبة من «القرن الأميركي»، تعمل من داخل تلك الحضارة. ويصبح إنجازها النقدي مشاركاً في صناعة الجديد بقدر ما يظل أميناً للقيم الإنسانية الكبرى التي ينبغي إحقاقها ولا يصحُّ التنكر لها. إنّ الأمل الذي لا شفاء منه يتمثل في القدرة على المشاركة في حضارة العالم والتأثير فيها من خلال القيم الإنسانية العالمية المشتركة. أما التمرد الطليق السراح بأي حجة كانت فيضعنا في خضمّ زوابع ودوامات لا مخرج منها غير اليأس العاجز أو إنتاج تيارات تخريبية عانينا منها كثيراً ولا نزال.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط للندنية، يوم: 16/2/2024م

 

الحب كتضافر خلاق بين عنصري الماء والتراب

واءمته الأساطير والكتب المقدسة والفنون مع الخصوبة وتفتح الحياة

لم يكن الفلاسفة والباحثون ليجافوا الحقيقة في شيء، حين رأوا في التجليات المختلفة للحب ما يختزل العناصر الأربعة للوجود، الماء والتراب والنار والهواء. وإذا كان الربط بين الحب والنار يتصل إلى حد بعيد بمجتمعات الرعي والصيد، حيث واءم باشلار بين النار المتولدة عن احتكاك الأجساد، وبين النار الطاهية للطرائد ونباتات الأرض، فإن الربط بين الحب وبين عنصري الماء والتراب بدا محصلةً طبيعيةً لنشوء المجتمعات الزراعية المستقرة، في وادي النيل وبلاد الرافدين، ومجتمعات أخرى مماثلة. وقد بدت النقوش والمنحوتات والنصوص المبكرة التي تركتها وراءها شعوب الشرق القديمة، كالسومريين والبابليين والكنعانيين، بمثابة تعبير رمزي عن مفهوم الحب في الشرق القديم، أو عن «طقوس الجنس المقدس»، وفق تعبير صموئيل كريمر. فقد ذهب كريمر إلى القول بأن الاقتران بإلهة الخصب «إنانا» كان الهدف الأول لملوك سومر، الذين كانوا يتوقون إلى مضاعفة المحاصيل ودفع الزرع إلى النمو.

ووفق الأساطير القديمة لم تكن «إنانا» متحمسة للاقتران بـ«ديموزي»، بل كانت تؤثر بحماس العيش في كنف الفلاح الذي يطعمها الثمار. إلا أن إصرار أخيها «أوتو»، إله الشمس، على زواجها من صديقه الراعي، فضلاً عن رغبة الفلاح المسالم في الانسحاب من المواجهة تجنباً للعنف الدموي، هما اللذان أخذا الأمور نحو نهاية مغايرة. ومن يتتبع النصوص القديمة المنسوبة إلى شعراء سومر، ممن نظموا القصائد والأهازيج احتفاءً بالزواج الإلهي، لا بد أن يلحظ التناظر الرمزي بين طقسي الحب والخصب، حيث صورة الرجل الماء، أو الزارع، تقابلها صورة المرأة التراب والأرض الولود. وهكذا تهتف «إنانا» بـ«ديموزي»:

يا زوجي

المخزن الكبير والإصطبل المبارك

أنا إنانا، سوف أحافظ عليه من أجلك

سوف أحرس «بيت الحياة» الذي لك

ومكان العجائب المشع في البلاد

وأغلب الظن أن قصة إنانا وديموزي كانت الأسطورة المؤسسة لثنائيات العشق المماثلة التي ابتكرتها مخيلات الشعوب القديمة من حاجتها إلى الخصب والنماء، فتقمصت إنانا أسماء عشتار وعشتروت وفينوس وأفروديت وإيزيس، فيما تقمص ديموزي أسماء تموز وأدونيس وأوزيريس، الذي رأى جيرار دو نيرفال في انبعاثه من الموت ما وثّق صلة المصريين بالماء العذب، وبنهرهم العظيم على وجه الخصوص. وقد بدا واضحاً أن موت تموز مقتولاً بأنياب الخنزير البري، ومن ثم تمكُّن عشتار، بعد نزولها إلى العالم السفلي، من إقناع الآلهة بإحيائه لشهور ستة من السنة، هو المعادل الرمزي لانطفاء الحياة في فصلي الخريف والشتاء، وعودتها في الربيع والصيف محملةً بأشهى الثمار والمواسم. وإذ يذهب جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» إلى القول بأن اسم تموز البابلي يعني الابن الحق للمياه العميقة، يرى في المراثي البابلية التي أعقبت موته، تأكيداً لهذا المعنى، حيث يتحول رثاؤه إلى رثاء للطبيعة نفسها، كما في هذه الأبيات:

طرفاه في الجنينة لم يسقها الماء

ولم تزهر بالنور قمتها في الحقول

صفصافةٌ تمزقت جذورها

فلم تسعد بالمياه الجارية

وقد توقف فريدريك هيغل ملياً عند الطبيعة الجسدية البحتة للعلاقة بين العاشقين في العصور القديمة. وإذ ينفي وجود الحب الرومانسي عند القدماء، يبرهن على صحة فرضيته بشعر سافو الذي «يُظهر الغليان الشهواني للدماء الفائرة»، وبتماثيل فينوس التي «ينقصها التعبير عن الإحساس الداخلي». على أن ذلك لا يعني خلو العلاقات القديمة من البعد العاطفي والروحي، بل يعني تعذر الفصل بين ما هو جسدي وما هو روحي في المجتمعات الزراعية الأولى، حيث الحاجة ماسة إلى التناسل وحفظ النوع، وحيث يأخذ الحب أبعاداً عملية ووظيفية، تماماً كما هو حال الشعر والفن في الأزمنة الأولى. والواقع أن بين الأساطير الإغريقية ما يكشف عن إعلاء لا متناهٍ للحب الروحي، وعن ربط وثيق بين الحب وانعكاساته الإبداعية، كما في أسطورة أورفيوس، الذي حوّل عشقه لأوريدبس إلى موسيقى فاتنة تدفع الكائنات برمتها إلى الانتشاء.

كما تكشف قصيدة «نشيد الأناشيد» المنسوبة إلى النبي سليمان، التي يرجح البعض أن العبرانيين استقوا مناخاتها وأسلوبها من النصوص السومرية القديمة أثناء مرحلة السبي البابلي، عن تحول دراماتيكي في طبيعة الحب لدى الأقدمين، حيث الوله العاطفي والروحي هو الوجه الآخر للشغف الجسدي الشهواني. وإذ يقر أنسي الحاج بالتباس هوية النشيد وتعدد مصادره، يشير في تقديمه له إلى طبيعته المسرحية المركبة، التي تعكسها الأصوات الثلاثة للعاشق والعاشقة والجوقة، لافتاً بالمقابل إلى تبادلٍ للأدوار بين الرجل والمرأة، «فسليمان هو الخصب، وخليلته هي الخصب أيضاً. كلاهما الذكر والأنثى، وإله الخصب وعبده، والسجال شهوة إلى الوصول والذوبان في الآخر». وبهذا يمكن للرجل أن ينشد:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها والكروم أزهرتْ

ويمكن للمرأة أن ترنّم:

أنا لحبيبي وأشواقه إلي

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الصحراء

وننظر هل أفرخ الكرْم وهل نوّر الرمان

وهناك أبذل لك حبي

ولم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث، عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة، حيث تكاد العلاقة بين الطرفين تنحصر برابطة الزواج الشرعي التي يكون التناسل وحفظ النوع غايتها الأهم. ففي الجانب الذي يربط الحب بالخصب، ليس ثمة من فارق كبير بين الآية القرآنية «نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم»، وبين النصوص السومرية التي تؤكد على الربط بين الفعل الجنسي وحراثة الأرض. وهو ما استمرت تردداته اللاحقة في الشعر العربي، حيث تردّ امرأة أبي حمزة الضبي، الذي لامها على عدم إنجاب البنين، بالقول:

ما لأبي حمزةَ لا يأتينا يظلُّ في البيت الذي يلينا

غضبان أنْ لا نلد البنينا تالله ما ذاك في أيدينا

ونحن كالزرع لزارعينا نُنبت ما قد زرعوهُ فينا

ولم تغب ثنائية عشتار وتموز عن بال الشعراء العرب المحدثين، بل استطاعت صورة الأخير عائداً من الموت، أن تحتل موقع القلب من الحداثة الشعرية العربية. وعن المعادلة المزدوجة للخصوبة تقول فدوى طوقان:

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام سرّ الخصب واحدْ

ومع ذلك فإن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. إذ ثمة في الشعر العربي تبدّل في المعادلة، بحيث تكتسب المرأة بفعل الترحل الدائم والجغرافيا الرملية الملتهبة، ملامح الماء وأدواره ومزاياه، وينقلب الرجل إلى صحراء من العطش والخوف والتيه. وهو ما يفسر استهلال الشعراء الجاهليين لقصائدهم بذكر المرأة، بوصفها رمزاً للجمال والطمأنينة والحدب، سواء كانت زوجة أو ابنةً أو أختاً أو حبيبةً.

وقد يجد الوجه المائي للأنوثة تجلياته المثلى في تجارب الحب العذري على نحو خاص. فإذ يغيب البعد الجسدي والتناسلي عن مسرح العشق، وتنحصر العلاقة ببعض الملامسات، تنتفي الصورة النمطية للرجل المطر الذي يخصب المرأة الأرض، لتصبح الأنثى المعشوقة هي الماء الذي يعصم الرجل من الذبول. وهو ما يجد ترجمته الأبلغ في قول المجنون، أو أبي صخر الهذلي في رواية أخرى:

تكاد يدي تندى إذا ما لمستُها

وينبت في أطرافها الورق الخضرُ

ولا يحتاج ابن الأعرابي إلى ملامسة حبيبته، بل يكتفي بالإنصات إلى صوتها وحلاوة حديثها لكي يتخفف من قحط سنواته المزمن، فيقول:

وحديثها كالقَطْر يسمعه

راعي سنينَ تتابعتْ جدبا

أما جميل بن معمر فيجد في ريق حبيبته المترع بالعذوبة، ما يرد عنه غائلة الوحشة والعطش الدهري، فيهتف ببثينة:

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني

أظلّ إذا لم ألقَ وجهكِ صاديا

لم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة

على أن العلاقة بين الحب والماء لم تأخذ الدلالة نفسها لدى أمم الأرض المختلفة. فإذا كانت حاجة الشعوب التي تسكن الصحارى ومناطق الجنوب إلى الخصب، هي التي تقف وراء صورة الآخر منعكسة في الماء المعشوق، فإن الماء في الغرب ومناطق الشمال لا يكتسب الدلالة نفسها، لأن الشعوب هناك لا تعاني من ندرة المطر، بل من هطوله الدائم ووفرته المفرطة. ومع ذلك فإن الماء الذي يفقد سحره، كوجهٍ محلومٍ به، أو كمنقذ من العطش المحسوس، لن يكف عن اختراع وظائفه الأخرى على أرض الواقع، أو في مخيلات الشعراء والفنانين. فهو يملك أن يسيل بلا انقطاع كدموع منهمرة من مآقي العشاق المتباعدة مسالكهم. وهو، جارياً في ساقية أو نهر، يتحول إلى عدّاد لذاكرة العشاق مترع بالحنين وترجيعات الماضي. وهو، ساكناً في بحيرة أو بئر أو مياه راكدة، يوفر للمكتفين بعشق أنفسهم فرصة أن يروا في مراياه جمالهم النرجسي، حتى لو قادهم ذلك إلى الانتحار، أو الغوص غير الإرادي في لججه المهلكة. وهو بالمقابل الماء المغذي، الذي يبحث العشاق من خلاله عن الرجع الحليبي للأمومة الكونية، أو ذلك الذي يختزل كل ما يتوق القلب إلى بلوغه، ويرى فيه بول إيلوار «الماء الهادئ الشفاف في سكونه، والذي ينساب مثل جلد بالغ النعومة، ولا أحد يستطيع أن يجرحه».

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 30 يناير 2024 م ـ 18 رَجب 1445 هـ

لم يعد الدارسون عموماً اليوم يحصرون مفهوم الفلسفة الإسلامية في الإرث النظري والعملي الذي ورثه الفلاسفة المسلمون عن اليونان، وقرؤوه قراءات مرتبطة بهمومهم النظرية والعملية والثقافية، بل أصبح الاتجاه هو توسيع مجال هذا المفهوم ليضم التصوف وعلم الكلام والعلوم كما مثّلها الخوارزمي وابن الهيثم والرازي وغيرهم، بل إن بعض الدارسين المعاصرين لا يرون غضاضة في توسيع «ما صدق» الفلسفة الإسلامية لأكثر ليضم كل ما هو «إنساني مستوعب في العقل»، حيث تعتبر أن الفلسفة ما دامت يونانية، فحيثما دخلت إلى ثقافة أخرى، فإن الناتج لا يكون فلسفة يونانية، بل يكون «الفلسفي بحسب الثقافة المستقبلة»، ولابد من «تقصّي هذا الفلسفي وإرهاف السمع إلى صوته مختلطاً بعديد الأصوات الأخرى، واستخراجه واسترداده لينظر فيه المشتغلون بالفلسفة»، ومن هنا يصبح الأدب التخييلي جزءاً من فضاء الفلسفة، بل يجب التماس الفلسفة في الشعر الجاهلي، وكذا شعر أبي العلاء والمتنبي، دون إغفال هذه الطائفة التي «لا تحسب عادة على أهل العقل من أمثال ابن قتيبة وابن أبي الدّنيا وابن حبان، وبخاصة ما صنفوه في الأخلاق والعقل والفضيلة والإنسان الفاضل»، وكذا الانتباه إلى«أنظار اللغويين والنحاة حين يبحثون في الدلالة وعلاقات الكلمات بالأشياء». ويدعو لين غودمان، ممثل هذا الاتجاه، إلى التماس الحكمة في مقامات بديع الزمان الهمذاني باعتبارها«مقامات تأملية عنوانها الكبير التهكم».

إن أصحاب هذا الاتجاه على وعي بأن هذا الفلسفي هو نوع من «الفلسفة بالمعنى الضعيف»، لذا تجده يلتفت إلى ما يسميه «الفلسفة بالمعنى القوي»، لكن دون إقامة أي تراتبية تفضيلية بينهما، مع دعوة إلى أخذ فلاسفة الإسلام المعروفين مأخذ الجد. ومع ذلك فقد اختلف الدارسون في نعت هذه الفلسفة؛ فبعضهم يرى تسميتها بالفلسفة العربية أو الفلسفة العربية الإسلامية متنكّبا عن تسميتها بالفلسفة الإسلامية، على أساس أنها «استعارت المفاهيم والمصطلحات العربية التي تم نحتها وصياغتها باللغة العربية حصراً، وذلك لاستيعاب الفكر الفلسفي اليوناني في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية»، وبعضهم يميل إلى التمييز بين ما سماه «فلسفة الإسلام»، ويقصد بها علم الكلام باعتباره علماً إسلامياً أصيلاً عنده، وبين الفلسفة الإسلامية، ويقصد بها الأنظار المتأثرة بفلسفة اليونان، وتخص الفلاسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا.

لكن الفلسفة الإسلامية عانت دائماً من نقيصتين؛ موقف سلبي تراوح بين حضاراتنا الإسلامية التي كانت تمج التفلسف عموماً وتقدح في أهلها، وبين الحضارة الغربية التي بادر مستشرقوها إلى التهوين من شأن الفلسفة الإسلامية باعتبارها وجهاً من وجوه الفلسفة اليونانية ليس غير. موقف أيديولوجي زجّ بالفلسفة الإسلامية في إطار الصراع الإيديولوجي وأخرجها من إطارها العلمي.

والموقفان معاً جاهلان بالفلسفة الإسلامية وبقضاياها وبإسهامها في النهضة الحضارية. إن البحث في مكانة الفلسفة الإسلامية يقتضي البحث في مكانتها في تاريخ الفلسفة ومكانتها في تاريخ الفكر الإسلامي أيضاً، فالفلسفة الإسلامية جزء أساس من تاريخ الفلسفة، وعلومها هي جزء أساس من تاريخ العلوم، فقط يجب العمل على تحقيق النّصوص الفلسفية وترجمتها إلى اللغات الحية لتصبح متاحة للقارئ العربي، وتبرز مساهمة المسلمين في التاريخ الفلسفي والعلمي الكوني في مختلف فروع المعرفة، وكذا حجم التأثير الفلسفي الإسلامي في الحضارة الأوروبية. وقد أصبحت أطروحة «رينان» التي تعتبر الفلسفة الإسلامية مجرد ترجمة للفلسفة اليونانية تقاوَم بأبحاث تبرز تفاعل الفلسفة الإسلامية المبدع مع التّراث اليوناني القديم، وإسهامها في تطوير كثير من فروع العلوم الفلسفية.

***

د. إبراهيم بورشاشن

8 فبراير 2024 23:30

إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة

غالباً ما نسأل أنفسنا على مشارف العام الجديد عن مآلات الزمن المقبِل علينا. يَطرح الأفراد على وجدانهم أسئلة التغيير الكيانيّ المنشود والتهذيب الأخلاقيّ المستحَبّ، في حين تستفسر الأمَم عن مسار التاريخ العالميّ المقترن بتطوّر العلاقات بين الحضارات، بين المجتمعات، بين الدوَل. أمّا النظر الفلسفيّ فيتأمّل في ارتقاء الوعي الإنسانيّ وانتقاله من طورٍ إلى آخر، سواء في النضج المتراكم أو في الانحلال المتفاقم. أخطرُ الاستفسارات تتناول مصير الإنسانيّة على تعاقب الأزمنة والعصور. فهل ساهمت المكتسبات العلميّة الجليلة والفتوحات التقنيّة المذهلة، لا سيّما في نطاق الذكاء الاصطناعيّ الذي وسم إنجازات العام المنصرم، في تعزيز قيمة الإنسان الكيانيّة وتوطيد كرامته الذاتيّة وترسيخ مقامه الفريد في الكون؟

في صميم الاستفسار الفلسفيّ الخطير هذا ينغرس الشكُّ في قدرة الإنسان على تغيير طبيعته المجبولة على تساكن الملائكيّة الراقية والبهيميّة المنحطّة. لا أعتقد أنّ تطوّر المعارف العلميّة يمكنه أن يبدّل في بنية التنازع الوجدانيّ الذي فُطِر عليه الكائنُ الإنسانيُّ. جلُّ ما في الأمر أنّنا أصبحنا نمتلك المفاهيم الدقيقة لكي نصف أحوال الاضطراب في التاريخ الإنسانيّ، ونُتقن استخدام الآلات المتطوّرة لكي نحلّل بنية المادّة في الإنسان، وفي الطبيعة، وفي الكون الأرحب. غير أنّ اتّساع المعجم اللفظيّ في الآداب والفنون والفلسفة، واختراع الآلات التكنولوجيّة الخارقة في العلوم التجريبيّة التطبيقيّة، لا يُفضيان إلى ولادةِ إنسانٍ جديدٍ، حتّى لو التحمت بخلايا جسده التحاماً كيانيّاً وثيقاً الأعضاءُ الاصطناعيّةُ المقوِّية، والشرائحُ الإلكترونيّة المتفوّقة، والأجهزةُ المعلوماتيّةُ المتنامية.

إذا ثبت أنّ البشريّة أضحت اليوم قادرةً على تحليل أسباب الانحلال الأخلاقيّ الفرديّ والجماعيّ، على نحو ما رسم مسارَه التصاعديّ عالمُ التاريخ والاجتماع والاقتصاد الفيلسوفُ التونسيُّ ابن خلدون (1332-1406)، فإنّ معرفة الأسباب النظريّة لا تؤهّل الوعي الإنسانيّ لتجاوز محنة الانعطاب الكيانيّ. نعرف اليوم أنّ الأمَم تنشأ وتنمو وتزدهر، ولا تلبث أن تضعف وتخبو وتتقهقر وتنحطّ وتنحلّ وتتلاشى وتَفنى. بيد أنّ ناموس التطوّر الطبيعيّ هذا لا ينطبق على حضارةٍ من الحضارات، أو أمّةٍ من الأمَم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، بل قد يصيب البشريّة قاطبةً. إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ، فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة برمّتها، على نحو ما أومأ إليه الأديب اللبنانيّ-الفرنسيّ أمين معلوف (1949-....) الذي ما برح يحثّ الجميع على التحاور العقلانيّ البنّاء المستند إلى الاعتراف الصريح بالقيمة الاستثنائيّة الفريدة اللصيقة بتراثِ كلِّ حضارةٍ على حدة.

حسنًا يفعل العلماءُ حين يُرسلون إلى الفضاء الأعلى أسطواناتٍ إلكترونيّةً صلبةً شديدةَ المنعة الذاتيّة يستودعونها مجموعَ الإنتاج الثقافيّ العالميّ المتراكم منذ تفتّح الوعي الإنسانيّ. الظنُّ أنّ تفاقم العنف الحضاريّ واضطراب النظام البيئيّ وفساد العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة قد يُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى انقراض الجنس البشريّ في الهيئة الكلاسّيكيّة المألوفة التي نعرفها حتّى اليوم. ربّما تستطيع بعض مختبرات العلوم الفيزيائيّة وشركات الشحن الفضائيّ أن تضمن لكوكبةٍ من الكائنات البشريّة المتطوّعة شروطَ الحياة المستديمة على سطح القمر أو المرّيخ. حينئذٍ لا تملك البشريّة الباقية في الأرض إلّا أن تعاين انحلالها الحتميّ الآتي.

أعرف أنّ مثل التصوّر الأُخرويّ النشوريّ القياميّ هذا ما فتئ مقتصراً على خيالات الأدباء وصنّاع الأفلام السينمائيّة. بيد أنّ علامات الأزمنة المعاصرة في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا تُنبئ بانفراجاتٍ حضاريّةٍ واعدة. من المحتمل أن يظلّ التاريخ سائراً في دوران تكراريٍّ مطّردٍ من غير أن يُفضي إلى خاتمةٍ واضحةِ المعالم. في هذه الحال لا نملك إلّا أن نشاهد الناس في كلّ عامٍ جديدٍ يواظبون على الإفصاح عن نيّات التصالح والتغافر والتسالم، ولكن من غير أن يقرنوا مقاصدهم وأقوالهم بأفعال الإصلاح البنيويّ. لذلك ينبغي البحث عن العوامل الدفينة التي تحرّك التاريخ في اتّجاه الفساد والظلم والاضطراب والاحتراب. أفتكون غريزة الشرّ الناشبة في أعماق الطبيعة الإنسانيّة عاملاً حاسماً في إفساد المعيّة الحضاريّة؟ أم إنّ اختلال التوازن الجيوسياسيّ وتضارب المصالح الاقتصاديّة واستفحال الادّعاءات الآيديولوجيّة الاستعلائيّة الإقصائيّة عواملُ بنيويّةٌ أساسيّةٌ تؤثّر تأثيراً بالغاً في افتعال النزاعات والحروب؟

أعتقد أنّ التسويغَين الفرديّ والجماعيّ هذَين مرتبطان أوثقَ الارتباط، إذ إنّ الأفراد الصالحين المستنيرين المستمسكين بالفضائل الأخلاقيّة الرفيعة يمكنهم، من موقع مسؤوليّاتهم الإداريّة الخطيرة، أن يتدبّروا أعتى المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والآيديولوجيّة استعصاءً، وأن يلتئموا في محفل عالميّ تشاوريّ لكي يتباحثوا في أرقى الحلول عدلاً وإنصافاً. غير أنّ التهذيب الأخلاقيّ الروحيّ لم يَعد ينفع في منتديات التشاور العالميّة. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ العقل الإنسانيّ المعاصر المبنيّ على الفاعليّة الإجرائيّة والأداتيّة المنفعيّة أمسى عاجزاً عن إرشاد الأفراد إلى مسالك الصلاح. غالباً ما أشعر أنّ أهل السياسة والاقتصاد النافذين في المحافل الكونيّة يعانون انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة في معترك مباحثاتهم السياسيّة والاقتصاديّة المصيريّة الخطيرة.

أهل السياسة والاقتصاد النافذون في المحافل الكونيّة يعانون غالباً انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة

وعليه، ينبغي النظر في مسار العقل الإنسانيّ المعاصر وإرشاده إلى مبادئ الصلاح الأخلاقيّ العليا. إذا أردنا أن تتغيّر أوضاع المسكونة، كان علينا أن نتدبّر حركة العقل الذي غالباً ما يخون مبادئه الأخلاقيّة في ميدان الفعل التاريخيّ. كان الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) يُصرّ على مكر العقل في التاريخ، واليقين الفلسفيّ الأرسخ عنده أنّ ضروب الفساد التي تعتري البشريّة إنّما هي حيَلٌ يبتدعها العقل الكونيّ حتّى ينضبط المسارُ الجدليُّ كلُّه في نظام التعقلن الروحيّ الأشمل المتجلّي في نهاية الأزمنة. من غرائب التفاؤل الأونطولوجيّ الهيغليّ هذا أن تنطوي حروب الناس المتناسلة على مقاصد التطهّر الأخلاقيّ الذي يُعِدّ البشريّة لأزوف زمن الروح المطلق.

يبقى السؤال الخطير الذي يؤرّق وعينا: هل ستستمرّ البشريّة على هذه الحال عاماً بعد عام؟ أم إنّ التاريخ سيُفرج قريباً عن مشهديّةٍ ختاميّةٍ مأسَويّةٍ تُفني الحياة على الأرض وتدفع بالفرقة الناجية إلى أعالي الفضاء الكونيّ؟ كلّ شيء ممكنٌ في قرائن الاحتدام الآيديولوجيّ الغضبيّ الالتهاميّ المستشري. ولكن هل نقبل أن يُقضى على الناس الطيّبين من ذوي الإرادات الصالحة وأن يؤخذوا بجريرة أهل الظلام والظلم والعنف والإجرام؟ لكي يتحرّر الناس من اجتراريّة الكلام التشاؤميّ هذا، ينبغي أن يتنادَوا ويتضامنوا ويتعاونوا من أجل استنقاذ مبادئ العقل النظريّ والعمليّ السويّة، وتهذيب الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإرشاده إلى قيَم الكرامة والمساواة والحرّيّة والأخوّة والعدل. ذلك بأنّ الإنسانيّة المعاصرة لا تستحقّ الحياة في الأرض إذا ما أمعنت في ضلالها الآيديولوجيّ وانحلالها الأخلاقيّ.

ما معنى الحياة الإنسانيّة إذا انعدمت فيها مثلُ القيَم الأخلاقيّة الروحيّة الرفيعة هذه؟ أمّا الشرط الضروريّ الذي يمكّن المجتمعات المعاصرة من ترميم الرجاء الإنسيّ المتصدّع، فالتربية الرشيدة التي تصون عقلَ الأفراد في كلّ مجتمع على حدة، فتُحرّره من أوهام المخيِّلة المريحة، وقد أوجزها الفيلسوف الإنجليزيّ فرانسيس بيكون (1561-1626) في الأصنام الأربعة: صنم القبيلة أو المجتمعيّة الإكراهيّة القاهرة، وصنم الكهف أو المثاليّة الانعزاليّة، وصنم السوق أو الأفكار المتداولة الرائجة، وصنم المسرح أو الإيمان الأعمى المقيَّد بنماذج الماضي السلفيّة العقيمة. أعتقد أنّ العقل الفرديّ الذي ينعتق من هذه الأصنام يستطيع أن يساهم مساهمةً فاعلةً حاسمةً في إطار مجتمعه حتّى يحرّر الناس من محنة الفساد والظلم والاحتراب. حينئذٍ يصيب الرقيُّ العقليُّ الأخلاقيُّ هذا منتدياتِ القرار السياسيّ العالميّة. لا سبيل إلى خلاص الأرض إلّا بانعتاق العقل الفرديّ من سلاسل الجهل. بيد أنّ هذا الانعتاق مسؤوليّةٌ تربويّةٌ جليلةٌ في المقام الأوّل.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: نُشر: 6 فبراير 2024 م ـ 25 رَجب 1445 هـ

نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية (11 يناير 2024) ملفاً موسعاً حول تأثير الذكاء الاصطناعي على النظام الديمقراطي الحاضر، في أفق الانتخابات التي سيعرفها هذه السنة أكثر من نصف بلدان العالم، بما فيها الهند والولايات المتحدة الأميركية وإندونيسيا والمكسيك. ما تبيِّنه الصحيفة هو تنامي الخوف من التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أصبح بمقدوره التلاعب بأصوات الناخبين والقضاء على شرعية المنافسة التعددية التي هي معيار الأنظمة الديمقراطية.

ووفق معهد أوكسفورد للإنترنت، فقد تعرّض أكثر من ثمانين دولة في العالم، خلال سنة 2020، لموجات خطيرة من حملات التزييف الإعلامي عن طريق وسائل الاتصال العمومية، مما يسمح بالتشكيك في صدقية ونجاعة الحريات السياسية والإعلامية في هذه البلدان.

ومن هذه البلدان الولايات المتحدة نفسها، رائدة الحكامة الديمقراطية في العالم. لقد تحدث كثيرون عن العلاقة التلازمية بين صعود الأنظمة الشعبوية المتطرفة في الديمقراطيات الغربية وبين نمط الاتصال الإلكتروني الراهن الذي قضى على المفهوم الوصفي والتمثلي للحقيقة، إلى حد أن مصطلحات جديدة دخلت منظومة المفاهيم الاجتماعية من قبيل «ما بعد الحقيقة» و«الحقائق المخترعة» أو «الحقائق البديلة».

ومع أن الإشكال له جوانبه الجديدة الظاهرة (الثورة المعلوماتية الحالية)، فإن له جذوره البعيدة؛ ولا ننسى أن الخطاب الفلسفي نشأ مع أفلاطون من أجل تصفية الكلام وتنقيته من سحر البلاغة وقوة الوهم (صراع الفيلسوف والسوفسطائي). بيد أن الفلسفة نفسها، وإن كانت استراتيجية توضيح وإجلاء وتمييز، اضطرت في السياق الوسيط إلى استخدام آليات الإشارة والتعبير الرمزي التي اعتبرها الفيلسوفُ الألماني ليو شتراوس نمطَ البناء الفلسفي في عصور التنوير الكلاسيكي الذي فرض عليه أن يكون باطنياً ونخبوياً.

إلا أن حقبة التنوير قامت على ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل» الذي يعني نقل الحقيقة إلى المجال المشترك، وتحويلها إلى رهان كوني يتحدد بالفاعلية البرهانية المفتوحة والمتاحة لعموم الناس. ومن هنا العلاقة الوثيقة بين الديمقراطية من حيث هي مسار نقاشي وتمثيلي عمومي وبين المسؤولية المعرفية والأخلاقية عن الوصول إلى الحقيقة ونشرها.

وما نعيشه راهناً هو الانفصال المتزايد بين الحقيقة والتداول العمومي، هذا الانفصال الذي يتخذ وجهين خطيرين؛ أولهما غياب المرجعيات الموضوعية والوسائط التحققية في الخبر المتداول عن طريق التقنيات الاتصالية، بما يعني انعدام كل الوسائل الممكنة لضبط الحقائق الفعلية وتمييزها عن الأخبار الزائفة.. وثانيهما الانفصام المتزايد بين الحوامل التقنية والمادة المضمونية التي تنتفي أهميتُها في المفعول التواصلي القائم على تقاسم المشاعر والانطباعات لا على تبادل المعارف والعلوم الدقيقة. وهكذا لم يعد التمييز الأصلي بين «الحقيقي» و«الوهمي» مطروحاً، مما يترتب عليه تحول إبستومولوجي هائل في مستوى الوعي والتصور والإدراك.

لقد تساءلت مرة الفيلسوفة الألمانية الأميركية «حنة أرندت»: ماذا يبقى من النظام الديمقراطي إذا انتفى مطلب الحقيقة، أي إدراك «الوقائع الفعلية»؟ وما الذي يميز عندئذ النظام الديمقراطي عن التجارب الاستبدادية التي تتركز على التلاعب بعقول الناس وتزييف الحقائق المقدمة لهم؟

وكانت إجابة حنة أرندت إشكالية، لكون الديمقراطية تقتضي من وجه آخر القولَ بالتعددية الشرعية للأفكار والآراء المختلفة، مما يعني عملياً الإيمان بغياب حقيقة موضوعية ومطلقة وأحادية، على عكس ما تدعيه الأنظمة السلطوية من مرجعية علمية يقينية لنماذجها الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن الديمقراطيات وإن كانت تتبنى أخلاقيات التسامح والتعددية الفكرية، فهي في الوقت نفسه تنطلق من النجاعة البرهانية للمقولات والآراء الخاضعة للتحقق الاستدلالي العمومي.

ومن ثم فإن الفرضية الاحتمالية الإبستومولوجية ليست عائقاً دون التوافقات العمومية الموزونة الضامنة لصلابة واستقرار النظام السياسي. في كتابها «هشاشة الحقيقي»، توضح الفيلسوفة الفرنسية مريام رفلولت دالونس أن المشكل الذي تطرحه مقولة «ما بعد الحقيقة» لا يتعلق فقط بنمط الإعلام أو الممارسة السياسية، بل يتمثل في تدمير الإمكانات الفعلية لبناء «عالم مشترك»، أي فضاء جامع بين أفراد يحتكمون إلى حقائق موضوعية فعلية مجردة، في ما وراء الحقائق العقلية الخاصة بالعلماء التي لم تعد منذ عصر عالم الفيزياء الشهير غاليليه مدار أحكام عمومية حرة.

عندما يتم التنكر للحقائق الفعلية الموضوعية وتصبح هذه الوقائع مجرد آراء وانطباعات، لا يبقى معنى للسياسة بمفهومها الحديث من حيث هي ممارسة اجتماعية مدنية تهدف إلى إقامة عالم مشترك يستوعب أنماط الوعي المتعددة والحرة.. أو بعبارة أخرى، فإنه عندما تنتفي الحقيقة تنتفي معها الحرية، ومن هنا فداحة الخطب وحدة الخطر.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 فبراير 2024 23:45

 

لا بد من تحرير مصطلح المواطن العالمي، وهذه فكرة طرحها برتراند راسل مميزاً بها الفيلسوف عن سائر المواطنين، وقد نقدت هذه الفكرة في كتابي «مآلات الفلسفة» لأنها فكرة غير إنسانية بما أنها تميز بين العقول والقدرات وهي تعود تأسيساً لأفكار أفلاطون بأن العقل يحكم، وهي الفكرة التي عارضها ديفيد هيوم وقال إن العاطفة هي التي تحكم وليس العقل، غير أن الذي أراه هو أننا نمر بمرحلة ثقافية لم يشهدها أي من الثلاثة، وهي مرحلة سقوط النخبة وبروز الشعبي -وليس الشعبوي- فالشعبي يعني الجماهير بصيغتها العريضة بينما الشعبوي هو مصطلح عنصري وطبقي ويقوم على شيطنة المختلف. أما الشعبي فهو الإنسان الحديث الذي تعلم العمل مع الوسائل الحديثة وأصبح هو «المتلقي» حسب نظريات التلقي، ومن ثم فهو الحاكم الذوقي والعقلي على أي مادة منتجة سواء كانت على جهاز «آيباد» أو في نظرية أو في الفلسفة، وبالضرورة هو الحكم وقوته أقوى من أي قوة أخرى بما أنه يملك حرية مطلقة في رفض المنتوج، وإن خضع أحياناً لسلطة الدعاية وقوة التأثيرات الإعلامية.

ولكن وبما أن وسائل التأثير تعددت فإن تعددها أدى لتفتتها وبمجرد سماع أو مشاهدة واحدة فإن مقارنتها بأخريات ستنافسها على تغير حال الاستقبال، ومن ثم أصبح فضاء الاستقبال مكتظاً بالمتنافسين مما يجعل المتلقي أمام الشيء ونقيضه، وهنا فهو لم يعد خالي الذهن ولم يعد تحت هيمنة قولٍ واحد ومتسلطٍ واحد، ولقد تعددت قوى التأثير ومن ثم تعددت فرص التمييز بين المتنافسين، وهذا هو المواطن الحديث الذي يختلف عن المواطن المثالي كما عند راسل.

والعقل لم يعد يحكم بوصفه عقلاً كلياً مطلقاً بل تعددت العقول كما تعددت الوسائل، حتى اللاجئ والمهاجر لم يعد غريب الوجه واليد واللسان كما كانت حال المتنبي في خراسان بل وصل لسدة القيادة الأمامية، وفي انتخابات حزب «المحافظين» الأخيرة في بريطانيا تنافس على القيادة خمسة مهاجرين، وواحد منهم أصبح رئيس الوزراء في بريطانيا، وهذا أمر لم يكن ليحدث فيما مضى بأن يتمكن مهاجر فرد ليس معه جيش ولا قوة غازية من أن يحكم بلداً له خبرة قرون في نظريات الحكم، لقد تغيرت مفاهيم المواطنة لتعني بالضرورة التعددية الثقافية، وهذا ما تحاول الشعبوية التصدي له والقضاء عليه.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 3 فبراير 2024 01:33

شهدت أوروبا الحديثة نوعيْن من التنوير، أحدهما يحاول التوفيق بين الدين والحداثة، والآخر كان يعمل على إنهاء الدين لأجل الحداثة.

المؤرخ الثقافي البريطاني «جوناثان إسرائيل» أستاذ التاريخ في جامعة برنستون ألف كتاباً مهماً، يتحدث فيه عن وجود نوعيْن من التنوير في أوروبا: التنوير المعتدل والتنوير المتطرف.

في عرضِه المميّز للكتاب، يوضح الكاتب هاشم صالح الفارق أنّ التنوير المعتدل يبرز في أعمال فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، في القرن الثامن عشر. حيث كان التنوير المعتدل يسعى إلى تفاهمات وبناء جسور مع الدين ومع الطبقة الأرستقراطية الأوروبية. فقد تحاشى كل من مونتسكيو وديفيد هيوم النقد المباشر للدين، وقدموا تفاهمات مع الموروثات بدلاً من القطيعة معها.

وأما التنوير المتطرف فيمثلّه بالأساس الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا أحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر، والذي أسس للقطيعة بين العقل والدين، ورفض أعمال الفلاسفة الآخرين في التوفيق بينهما، ودعا إلى الشك في كل طرح، وتحطيم كل شيء.

بغضّ النظر عن الاتهام بالإلحاد لبعض هؤلاء، ونفي الإلحاد من قبل آخرين، فإن الطريقيْن كانا مختلفيْن تماماً، طريقٌ يبحث عن توافق بين الروح والجسد، بين العقل والنقل.. وطريقٌ آخر يرى الإيمان بالعقل وحده، والعلم وحده، وإزاحة أو إلغاء كل ما عداهما.

لقد شهد العالم العربي الصراع بين الطريقيْن هو الآخر، وقد كان فلاسفة الإسلام وعلى رأسهم ابن رشد ممّن قاموا بمحاولات التوفيق بين الإسلام والعقل.

ولمّا عاد العالم العربي إلى الحداثة من جديد قبل نحو مائتي عام، وهي الحداثة التي قادها حاكم مصر القوي محمد على باشا، وشهدتْ أجيالها المختلفة نجوماً كباراً في كل المجالات، شكلّوا حداثة عاقلة وتنويراً معتدلاً، وكان ذلك التنوير مؤهلاً لانطلاقة كبرى تنافس الغرب، الذي سبق أن أخذ من الحداثة عند المسلمين في زمن الصعود، وسعى المسلمون لاستعادتها في زمن الانحدار.

ولقد كانت إسلاميات طه حسين وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، وكذلك إسهامات زكي نجيب محمود وحسن حنفي.. نماذج لذلك التوافق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الليبرالية والدين.

شهدت الحداثة العربية تراجعاً بطيئاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تراجعاً كبيراً في عقد السبعينيات وما بعده، حيث طغى وجود جماعات الإسلام السياسي، وقام متطرفو هذه الجماعات بتقديم رموزهم ومؤسسي تنظيماتهم باعتبارهم روّاد التجديد الديني، والمنظرين المناسبين لهذه المرحلة!

كان صعود جماعات «الإسلام السياسي» الخطر الأول على الحداثة، لكن صعود التنوير المتطرف بالمقابل جاء ليمثل الخطر الثاني عليها.

أراد التنويريون المتطرفون عمل قطيعة تامة مع الدين والتراث، والنظر باستعلاء وازدراء لتاريخ ضخم يمتدّ أربعة عشر قرناً، ويضم في مراحله المتعاقبة فلاسفة وعلماء ومفكرين.. كانوا لعدة قرون قادة الفكر الإنساني في العالم.

إنّ التنوير المتطرف خطرٌ لا يقل عن الجماعات المتطرفة، فالمتطرفون جميعاً يقبعون في قاع سلّةٍ واحدةٍ.

لا مستقبل للعالم الإسلامي من دون العقل والإيمان، الدين والعلم.. المسجد والحداثة، ولا مستقبل من دون هزيمة المتطرفين من الجانبيْن.. هزيمة المتطرفين الإسلاميين وهزيمة المتطرفين التنويريين.

***

أحمد المسلماني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 فبراير 2024

 

فضاء الفلسفة الناصع يمكنه أن يولّد المزيد من الأسئلة الحيوية، وبخاصةٍ ونحن نعيش ضمن حومة من الأحداث المفصلية الكبرى، والتحديات الأخلاقية، والصراعات السياسية. المعنى الرئيسي للفلسفة هي السؤال، ولا يمكن فصل أي فلسفةٍ عن سؤالها، إذ الفلسفة تعمل على أسئلة كاتبها، وعلى وعي متلقيها، هذا هو الترابط المؤسس لأي موضوع فلسفي مطروح.

لذلك يعتبر «لويس ألتوسير» في كتابه المهم «تأهيل الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة» أن: «أي فلسفةً تريد أن تعرف نفسها حقّاً، بصدق، وتعرف المكان الذي تشغله في عالَم الفلسفة، وما يميّزها تخصيصاً عن سواها من الفلسفات، على هذه الفلسفة أن بالالتفاف الكبير حول تاريخ الفلسفة، وأن تُقدِم على أفعال قريبة وبعيدة، وأكثرها بُعداً عنها، كي تتمكّن من الرجوع إلى المنزل محمّلة بالمقارنات، ومن اكتشاف ما يجعل معرفتَها بنفسها أفضل قليلاً. كلّ الفلسفات الكبرى تقوم بهذا الالتفاف الكبير: كانط راح يبحث، لدى أفلاطون البعيد ولدى ديكارت القريب، عمّا يتعرّف به إلى نفسه. وماركس راح يبحث في نهاية العالَم، لدى أرسطو، ولدى الأقرب، لكن الأبعد أيضاً، لدى هيغل، عمّا يُعرِّف به نفسه. سنقوم بالتالي، نحن أيضاً، بهذا الالتفاف الكبير. سنقوم به مستعينين بالفلاسفة الأقرب والأبعد. لكنّنا سنقوم في الوقت نفسه بالتفاف كبير آخر: مبتعدين عن فلسفة الفلاسفة، كي نحلّل ممارسات الناس الملموسة».

وأعود إلى توصيف «جيل دلوز» أيضاً في تحديده لوظيفة الفلسفة والذي كتبتُ عنه فصلاً ضمن كتاب:«أعلام من الطراز الرفيع» يصر على أن تاريخ الفلسفة ليس نظاماً تأملياً بوجه خاص، إنه بالأحرى مثل فن «البورتريه» في الفن التشكيلي. «دلوز» احتقر الأساتذة الذين يدفعون ثمن رحلاتهم بالكلمات وبالتجارب، والندوات والمحاضرات، ونفى أن يكون مثقفاً لأن المثقفين يتحدثون في كل شيء، ولهم رأي في كل شيء، مذكراً بوظيفة الفلسفة - بحسب رأي صديقه «فوكو» ومن قبله «نيتشه» - «إن مهمة الفلسفة محاربة الحماقة».

وفي حوار معه قال: «نحن نقترب من الوقت الذي سوف يكون من المستحيل علينا أن نكتب كتاباً فلسفياً بالطريقة نفسها التي كتبت بها الكتب الفلسفية السابقة». بل رأى أن وظيفة الفلسفة ومبادئها الإغريقية يجب أن تفحص وتفتت وتضبط بتهمة وضع «ترسيمة» للمناهج والخطوط التي تسير بها، ويعد «دلوز» المفهوم «لا أهمية له منقطعاً عما يمفْهمه، لا يجهز كله، ينخرط في تكوين ذاته عبر تكوينه لغيره، ليس ثمة وحدة سكونية للمفهوم، أقصى ما يمكنه أن يفعله مع أشياء العالم، وأشياء الفكر، هو أن يجعل الشيء لا يأتي إلا ومعه نظامه، لأن نظام الشيء هو شيء أيضاً».

الخلاصة أن وظيفة الفلسفة مبنيّة على سؤالها، إذ لكل فلسفة أسئلتها الخاصة. فالفلسفة فضاء ممتد خالٍ من المضامين، وبطرح السؤال تتكوّن الفلسفات وتتخلّق، وعليه فإن التأهيل الحقيقي لأي مشروعٍ فلسفي كامن في التشجيع على السؤال، والاستفادة من حيوية العقل البشري الجبّار الذي يمكّن الإنسان دوماً من طرح الأسئلة الجديدة التي تشجع من فعالية المجال الفلسفي في سبيل تطوّر قوّة الإجابة أو محاولة الإجابة على السؤال.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 30 يناير 2024

توفي مؤخراً الفيلسوف الأرجنتيني المكسيكي ذو الأصول الأوروبية «أنريك دوسل»، أحد أهم فلاسفة نقد الكولونيالية ودعاة أخلاقيات التحرر التي تشكّل المحور الفلسفي في الفكر اللاتيني الأميركي.

ما نلمسه لدى دوسل هو المزج بين الفلسفات التفكيكية في نقدها للذاتية والوعي والتاريخانية والنظريات ما بعد الاستعمارية في أميركا الجنوبية التي سلكت نقد المركزية الغربية من حيث سردية الحداثة الكونية. ولا تبدو الرابطة بديهية بين الاتجاهين، ففلسفات ما بعد الحداثة في نسختها الغربية هي نتاج وأثر السيرورة الفلسفية الاجتماعية الغربية نفسها، في حين أن النظريات النقدية للكولونيالية تندرج في نطاق البحث عن حداثات وكونيات بديلة خارج هيمنة النماذج الفكرية والتاريخية الغربية.

ومع ذلك لا يمكن الفصل بين المسارين، بل إن التيار ما بعد الكولونيالي يتغذى أساساً من الأفكار التفكيكية التي قوضت المرتكزات المرجعية للحداثة الأوروبية، إلى حد أنه أصبح من المشروع التساؤل عن مدى أصالة وطرافة نقد المركزية الغربية في الأطروحات والمقاربات الجنوبية التي ترفع شعار القطيعة مع الهيمنة الغربية. في سياقنا العربي الإسلامي، برز التيار النقدي للغرب في كتاب المفكر الإيراني جلال آل أحمد (المتوفى سنة 1969) «نزعة التغريب» الذي اعتبر فيه الثقافة الغربية «وباء» يستهدف الروح والعقل ويؤدي إلى الاغتراب والاستلاب.

ولقد تأثر في هذا الكتاب بأفكار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في نقده للتقانة وثقافة الاستهلاك وطغيان العلم كرؤية للوجود والعالم. ومع أن النظرية التفكيكية دخلت مبكراً في الحقل الثقافي العربي، فإنها ظلت أساساً حبيسة الدراسات النقدية واللسانية، ولم تتأسس عليها أطروحة نقدية للمركزية الغربية في أبعادها الفلسفية والتاريخية. ونلمس هنا فرقاً كبيراً مع الفكر الإفريقي الذي ساهم مساهمة هامة في النظرية النقدية للكولونيالية منذ فرانتز فانون في الستينيات إلى أشيل بمبة وفلوين صار في الوقت الراهن. ما نعنيه بنقد الكولونيالية ليس النقد الأيديولوجي السائد في الأدبيات العربية المعاصرة، بل أوجه الحفر والنظر في سيرورة الكونية الحداثية الأوروبية في مقوماتها الفلسفية والمجتمعية والتاريخية. لقد تم هذا التوجه في الفكر الأفريقي واللاتيني الأميركي من خلال أسئلة ثلاثة كبرى: أولاً، هل يمكن التفكير في نمط من الحداثة خارج نموذج الوعي الذاتي بما يقوم عليه من مرجعية مغلقة على الهوية التأملية والإرادة المطلقة؟ لقد بينت الأبحاث التأريخية للفلسفة أن هذا النموذج له خلفياته اللاهوتية الخاصة بالعصر اللاتيني الوسيط ولا يشكل قطيعة فكرية كونية، بل إن اتجاهات فلسفية كثيرة معاصرة تسعى إلى تجاوزه وتعتبر أنه براديغم عقيم وفقير. بيد أن هذا النموذج هو الذي كرس في الآن نفسه قيم الحرية والإرادة الفاعلة والمسؤولية الشخصية التي هي مرتكزات الحداثة السياسية.. فكيف يمكن استيعاب هذه القيم خارج نموذج الوعي؟ ثانياً، كيف يمكن بلورة مقاربة تاريخية بديلة عن نزعة التقدم الغائي التي طبعت الفكر الأوروبي الحديث في تمديده لمسار المجتمعات الغربية بصفته قانون تطور البشرية الكوني؟

ما نلمسه لدى الفيلسوف المشهور هيغل هو بناء فلسفة لتاريخ الإنسانية تنطلق من محطات الوعي (الأوروبي) من الكونية المجردة إلى الذاتية الواعية انتهاءً بالدولة الشمولية المطلقة التي هي مرحلة اكتمال التاريخ وغاية التحرر الإنساني في قمته المطلقة. لقد وجهت النظريات الجديدة ضربة قاصمة لهذا النموذج التاريخاني، وأفسحت المجال أمام قراءات بديلة لتاريخية المجتمعات غير الغربية، خصوصاً في علاقاتها بشكل الدولة المركزية والديناميكيات الأهلية، بما يدعم النظرية ما بعد الكولونيالية.

ثالثاً: كيف يمكن التفكير في علاقة مختلفة عن مسار الحداثة الأوروبية بين الدين والمجال المدني، باعتبار أن مسار العلمنة القانونية والاجتماعية شكّل حسب عبارة عالم الاجتماع الأميركي «بيتر بيرغر» استثناءً أوروبياً خالصاً. في المجتمعات الهندية واللاتينية الأميركية، بل في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، يشكل الدين محور الهوية الاجتماعية وأرضية القيم المدنية المشتركة. ومن ثم فإن استغلاله الأيديولوجي هو في نهاية المطاف نمط من نزع القداسة عنه وتحويله إلى محور تصادمي في المجتمع بدل أن يكون عامل التحام وتضامن كما هو الواقع في التجربة التاريخية الإسلامية قبل نشوء الحركات المتطرفة والمأدلجة.

في أميركا الجنوبية ظهر تيار «لاهوت التحرر» الذي هو أحد تجليات الفكر ما بعد الكولونيالي، وفي أفريقيا جنوب الصحراء بلور عدد من الفلاسفة أطروحة «الأخلاقيات المقدسة الحيوية» مرتكزاً للسلم المدني والأهلي. أما الفكر العربي فما يزال غريباً عن هذه الاتجاهات والآراء.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 يناير 2024 23:30

تحدث ابن جني عن شجاعة العربية ووصف بعض سمات التصريف الأسلوبي فيها ومثّل له بقوله «اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف»، وما هو أهم من أمثلة ابن جني التي ليست أمثلةً حصريةً هي فكرته عن شجاعة اللغة العربية وسر ذلك يأتي من مهارات لغتنا في تصريف الكلام وتحويله بين أساليب تعبيرية لا تقف عند حد، وهذا هو سر العربية ومتى ما سلبنا عنها سرها فستفقد شجاعتها، وهذا الذي يفعله حراس اللغة من أنصاف النحويين وأنصاف اللغويين الذين ابتكروا قاعدة «قلْ ولا تقلْ» ونصبوا أنفسهم على أبواب الألسنة ليتحكموا بها وبذهنيات الإبداع والإنشاء فيشترطوا لصحة أي تعبير أن يكون قد قيل قبلنا بلسان شخص ما، وشرطُه وتأهيله الوحيد أن يكون ذاك الشخص المرجعي قد مات قبلنا بقرون!

ولهذا شاع في ثقافتنا سؤال غبي فرضته عقلية حراس اللغة، وهو سؤال يتجه دوماً ضد أي تعبير جديد بأن نسأل: هل هو قول فصيح؟ ومعنى فصيح هنا هو: هل ورد هذا التعبير عند سلفنا أم لا، فإن تبرع أحد النحاة وقال إن بيتاً ما ورد عن أعرابي مر في سوق المربد في البصرة قبل خمسة عشر قرناً وترنم ببيت من الرجز قال فيه تلك الكلمة فهنا ستسجل العبارة فصيحةً! أما إن جاء طه حسين مثلاً وكتب في كتابه «الأيام» صيغاً لغويةً مستجدة ومن مبتكرات مهارة طه اللغوية والذهنية فسينبري له نحوي تعيس ويصدر كتاباً يكشف فيه مئتي خطأ لغوي وأسلوبي على طه حسين في كتاب «الأيام».

وكذلك مرت فترة كانت إحدى الإذاعات العربية تذيع حلقات أسبوعية بعنوان «قل ولا تقل»، لم يترك فيها مقدم البرنامج تعبيراً صحفياً أو تعبيراً حديثاً إلا وقاسه على مقاييس أقوام ماتوا قبلنا بقرون ولم يروا ما رأينا ولم يعيشوا زمننا، ولكنّ البرنامج الإذاعي اشترط لبلاغتنا الحديثة أن تعيش زمناً مضى وتتلبّس بثوب وذهنية ذاك الماضي، فإن لم نفعل فسنكون غير فصحاء وربما غير عرب وإنما مستعربة، ثم شاعت هذه الفتنة الثقافية في الصحف وأفرد لها باب تحت هذا العنوان «قل ولا تقل» ترصد مجاميعَ من الصيغ والأسلوبيات الحديثة لتصفها بعدم الفصاحة وتقترح غيرها بدائل لها، وهذا إرث ثقافي توارثه تلامذة صنعوا سياجاً سلطوياً يلاحقون به الألسنة كي يحبسها في ثلاجات الموتى. وويحك يا ابن جني إذ تظن بنا شجاعة كشجاعة لغتنا ونحن هنا جبناء أمام كلماتنا نتوسل لأنفسنا عذراً من نحوي شبه جاهل كي يأذن لكلماتنا بأن تمر دون شطبة قلم تعيد نسخ كلماتنا وفق علمه المحدود بمحفوظاته من الألفية النحوية ومن شواهد النحاة التي كان كثير منها مزوراً ليكون على قياس دعاويهم النحوية.

وتلك حال لغتنا العربية ما بين شجاعتها وجبن حراسها.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 27 يناير 2024

ثقافة المجتمع العراقي قائمة على التنوع المفيد والمثري، وهي تنعكس في سلوك العراقيين وطباعهم على نحو واضح وملحوظ. كان المجتمع العراقي، بعربه وكرده وجميع طوائفه ومذاهبه ومكوناته.. متعايشاً ومنسجماً مع ذاته قبل العام 2003، لكن بعد ذلك أُصيب في توازناته الناظمة لانسجامه وتعايشه التاريخي، فتفرّق العراقيون طرائق قِدداً.

وكان المؤرخ وعالم الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي (1935- 1995)، الذي تبنى النظريات الاجتماعية التنويرية وجمع بين رجاحة الفكر وبساطة الأسلوب، قد وصف شخصية المجتمع العراقي أحسن توصيف، وشخّص أدواءَها الفكرية والأخلاقية على نحو شديد الدقة، فحرّك الساكنَ بنقده الحاد لهذا المجتمع، لاسيما حين حلل نمط الشخصية العراقية وأسلوبها في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، الصادر في عام 1965، إذ وصف هذه الشخصية قائلاً إنها تختلف عن أي شخصية أخرى في العالم.

لقد رأى الوردي أن العراقي متطرف في كل شيء، في شجاعته وعدمها، في كرمه وبخله، في وطنيته وفي تخليه عنها، في تديّنه ومجونه.. كما أنه عاطفي جداً، لكنه عنيف إلى حد الدموية.. وهكذا دواليك. أو باختصار شديد، إنه شخصيات في شخصية واحدة!وفي هذا الصدد يقول الوردي في نقد لا يخلو من حدة ومبالغة: «المجتمع العراقي يعاني ازدواجيةً بشكل مركّز ومتغلغل في الأعماق، فالعراقي كثير الهيام بالمُثل العليا في خطاباته وكتاباته، لكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عنها»!

الشعب العراقي حين يفوز منتخبه الوطني على الخصم في لعبة رياضية، يملأ الساحات والمدن والشوارع بأفراحه ويتوحد بكل مناطقه ومحافظاته وقومياته ودياناته ومنابعه وأطيافه.. ويلتف صفاً واحداً خلف منتخبه الرياضي، يؤازره بشدة، داخل العراق وخارجه، فيبدع في التشجيع، سواء بالأناشيد الوطنية، أو الأهازيج الشعبية، أو العبارات الرياضية المشجعة.. ويتحول الاحتفال إلى كرنفال تؤديه فرقة وطنية واحدة بألوان الطيف العراقي، تحت العلم العراقي الواحد، وبصوت موحد لتشجيع منتخبهم المتأهل، الذي يضم لاعبين من مختلف القوميات والطوائف والمناطق.

وفي هذا السياق فقد قابلتُ ذات مرة، قبل عدة أعوام من الآن، أحدَ المقاتلين السابقين في البيشمركة، وكان عمره يتجاوز الثمانين، وأخبرني قائلاً: كنا نقاتل ضد الجيش العراقي بضراوة في جبال كردستان العراق، لكن حين يلعب المنتخب العراقي مع منتخب دولة أخرى كنا نتوقف عن القتال ونتفرغ لمشاهدة المنتخب العراقي، وحين يفوز نطلق الأعيرة النارية في الهواء، فرحاً وابتهاجاً بالفوز، ثم نعود للقتال بلا هوادة! العراقيون في السياسة متفرقون ومتخاصمون، في الداخل والخارج، حول معظم القضايا الوطنية والأمور السياسية والطائفية، ولا يزال بلدهم يعاني المحاصصةَ الطائفيةَ، والشحنَ المذهبي والنعرات القبلية.. حتى إنهم إلى الآن لم يفلحوا في انتخاب رئيس للبرلمان بعد إبطال عضوية رئيسه.

ولو التف العراقيون حول مؤسساتهم الوطنية، كما يلتفون حول مدرب فريقهم ولاعبيه.. فسيتحدون على مسار بلدهم ونهجه، بعيداً عن الخلافات القومية والطائفية والمذهبية الطارئة التي تفرّق الأوطانَ وتفتك بها!

***

د. علي القحيص - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 26 يناير 2024 23:54

الإنسان الحديث إنسان مُزَعْزَع لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء

بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي يعيش بينهما يشهد عادة كثيراً من التمزقات النفسية والانهيارات الداخلية. إنه جيل الاحتراق والعبور. عنيت جيلنا الحالي، أو جيل الكتاب الفرنسيين قبل 200 سنة. وهذه التمزقات والانهيارات النفسية هي التي عبّر عنها شاتوبريان بكل وضوح عندما قال: «لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين. وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت، وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة والذي لن أراه بأم عيني».

هذا تصوير من أنجح ما يكون لعملية النقلة أو القطيعة التي تُمزقنا نحن الآن... ينبغي العلم بأن شاتوبريان ولد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الفرنسية، ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة 1768 - 1848 (80 سنة). وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي ولد فيه وترعرع في أحضانه. من يستطيع أن ينسى طفولته وشبابه الأول؟ وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي، في معظمه. هذا في حين أن العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، فلسفياً، مضاداً للدين عموماً أو قل للأصولية الدينية لكي نكون أكثر دقة. فالحداثة التنويرية لم تكن ضد الدين في المطلق، وإنما ضد التصور الانغلاقي القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلاً جديداً للدين المسيحي هو التأويل الليبرالي اللاطائفي الذي شاع وانتصر لاحقاً في كل البلدان الأوروبية المتقدمة. ولكن ذلك لم يتم دون مخاض عسير وصراعات هائجة. وهذا المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن الآن في العالم العربي والإسلامي. وبالتالي فالمسافة الفكرية التي تفصل بيننا وبين الأوروبيين هي 200 سنة على الأقل فيما يخص المسألة الدينية. ما عاشوه وعانوه قبل 200 سنة من حزازات وطوائف ومذاهب وصراعات وحروب أهلية وتمزقات، نعيشه نحن ونعانيه الآن. لذلك قلت وأقول إن الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي، بمعنى أننا متعاصرون زمنياً، ولكننا لسنا متعاصرين معرفياً ولا فلسفياً ولا سيكولوجياً. بيننا وبينهم يوجد تفاوت تاريخي كبير. وينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حالياً ولكي نستطيع أن نقيم علاقة صحيحة مع الفكر الأوروبي ومع أنفسنا أيضاً... ما أجمل أن تغطس مع شاتوبريان في كتابه الخالد «مذكرات ما وراء القبر»، هناك حيث يرتفع بالنثر الأدبي الفرنسي إلى أعلى عليين أو ينخفض به إلى أسفل سافلين! ليس في كل يوم يظهر كاتب كبير...

مهما يكن من أمر، فإن الإنسان الكلاسيكي كان قد انتهى في عصر الرومنطيقية وشاتوبريان. ونقصد به الإنسان الكامل، الخالد، الثابت، الذي لا يتغير ولا يتبدل. إنه إنسان القناعات المؤكدة واليقينيات الراسخة. إنه إنسان القيم الواثقة ذات الطمأنينة الكاملة التي لا تشوبها شائبة. وأما الإنسان الحديث فهو إنسان مُزَعْزَع، مترجرج، قلق، لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء. فالعالم القديم انهار أو كاد، واليقينيات الكبرى التي كان يركن إليها الإنسان القديم انهارت معه. لهذا السبب راح الشاعر الرومنطيقي يشعر بالهلع والجزع أمام العالم الجديد الذي ينفتح أمامه. لهذا السبب راح يلجأ إلى البكاء والنحيب والعويل. وهكذا امتلأ شعره بتلك البحة الغنائية الحزينة، أو النزعة العاطفيّة الفياضة والمؤثرة. لنستمع إلى أحد كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين ألفريد دوموسيه يتحدث عن تلك الفترة:

«وا أسفاه! لقد انتهى الدين. انتهى كل شيء. وغيوم السماء تتساقط مطراً. ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من الغيب، ولا قطعتين من الخشب تشكلان صليب الأمان بالنسبة لنا. وأما نجم المستقبل فلما يكد يبزغ بعد. إنه لا يستطيع الخروج من رحم الأفق. وإنما يظل مغلّفاً بالغيوم. وكالشمس الشتائية يتبدَّى لنا أحمر كالدم المراق عام 1793 (إشارة إلى الثورة الفرنسية). لم يعد هناك حب، ولا مجد. يا له من ظلام سميك، سميك، يطبق على وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد للعالم سوف نكون قد متنا...».

بمعنى آخر؛ نحن جيل القطيعة، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت والولادة في آن معا. نحن جيل التمزق بين جيلين. سوف نشهد موت العالم القديم حتى النخاع دون أن يتاح لنا أن نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد... هذا هو قدرنا ومصيرنا... نحن جيل التضحية والفداء. والعالم الجديد لن ينبثق إلا على أنقاضنا. لا أعرف لماذا أتذكر الآن تلك الأبيات الجميلة لخليل حاوي...

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

هل تنبأ خليل حاوي بتلك القطيعة الإجبارية التي ستفرض نفسها علينا إذا ما أردنا الانتقال من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار، أو من عصر العبودية إلى عصر الحرية؟ على الأقل فإنه أحس بخطورة المسألة ورعبها، وربما لهذا السبب انتحر... فما بالك لو أنه عاش وشهد ما يحصل في غزة حالياً؟ كان قد انتحر 10 مرات... ولكنه - وهنا تكمن شهامته - قبل بأن يكون الضحية وخشبة الخلاص للأجيال القادمة. قال ما معناه؛ ليمشوا على أضلعي، ليدوسوا على جسدي، ليتخذوه جسراً تحت أقدامهم ونعالهم، إذا كان ذلك سيساعدهم على العبور إلى الضفة الأخرى؛ ضفة الإنقاذ والخلاص. ولكن ما كان ينبغي عليه أن ينتحر لأنه فقد بذلك إمكانية التحول إلى قدوة عليا، إلى منارة، للأجيال القادمة. الانتحار ليس حلاً. الانتحار هزيمة غير مقبولة أياً تكن خشونة الواقع. الانتحار خور، جبن. الانتحار عيب بل عار. الانتحار لا يليق بالرجال. المتنبي لم ينتحر وإنما سقط مضرجاً بدمائه! هذه ميتة حقيقية، ميتة عزّ وشرف لا تليق إلا بأعظم شاعر عربي. ولكنه ليس الوحيد. معظم العباقرة الكبار سقطوا بطريقة أو بأخرى تحت ضربات القدر. سقراط، ديكارت، سبينوزا، جان جاك روسو، جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي. نعم. نعم. لقد قتلت الأخيرين السلطنة العثمانية البائدة بالسم الزعاف (العملية سهلة وبسيطة جداً، فنجان قهوة فقط!). هذه السلطنة التي يحن إليها البعض حالياً ويريد إعادتها مجدداً. ولكن الشعب التركي الكبير والمستنير لن يقبل بالعودة إلى الوراء. يقول لنا الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير؛ لقد درست حياة مثقفي فرنسا على مدار 400 سنة فوجدت أنهم كانوا جميعاً مهددين. ولا واحد منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا ملاحقين من قبل الأصولية والأصوليين، الظلامية والظلاميين. لماذا؟ لأنهم خرجوا على كهنة الماضي الذين تقدسهم الجماهير وفتحوا ثغرة في جدار التاريخ المسدود. لأنهم حاولوا - ونجحوا! - في فك الاستعصاء التاريخي. لأنهم دشنوا القارات البكر للفكر، هذه القارات التي لا تخطر على البال. فكان جزاؤهم الاغتيالات والملاحقات. ولكن نيتشه نبهنا منذ زمن طويل إلى هذه الحقيقة؛ كل فكر لا يقف على حافة الخطر لا يساوي قشرة بصلة. الفكر والخطر صنوان! وفولتير، أستاذ نيتشه، نبهنا إلى حقيقة أخرى؛ وهي أن الذين يزرعون بذور التنوير غير الذين يحصدون. قال؛ لن أرى بأم عيني نتائج فكري ومؤلفاتي، وهذا لا يزعجني أبداً أبداً. على العكس، أشعر بالسعادة القصوى لأن الأجيال القادمة هي التي ستقطف الثمار. وقد قطفتها. فلولا جهوده وجهود سواه من فلاسفة الأنوار لما تحررت فرنسا من تلك العصبيات الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية التي مزقتها طويلاً ودمرت وحدتها الوطنية.

ولكن بعد أن تحررت الأجيال الفرنسية من الأصولية والطائفية ما عاد مفهوماً استمرار معاداة الدين والقيم الروحية كما يفعل ميشيل أونفري بكل حماقة وتهور في فرنسا حالياً. لماذا يثقب هذا الشخص أبواباً مفتوحة؟ لطالما طرحت على نفسي هذا السؤال وأنا أقرأ كتبه الشيقة والمبدعة في قسم منها. هل فعلاً أن الأصولية المسيحية هي التي تهدد فرنسا حالياً أم الإباحية الجنسية المنفلتة كلياً من عقالها؟ ولذلك أقول؛ لا مصلحة للمثقفين العرب في تقليد التيار الإلحادي المادي الشذوذي المطلق السائد في الغرب حالياً. بل نحذر منه كل التحذير. فنحن ليست مشكلتنا مع الدين وسموه وتعاليه وإنما مع الظلامية الدينية. نحن مشكلتنا مع الطائفية التي تمزقنا وتمنع تشكيل الوحدة الوطنية العزيزة الغالية فيما بيننا. أقول ذلك وأنا أتذكر عبارة جبران خليل جبران الرائعة؛ ويلٌ لأمة كثرت فيها الطوائف وقل فيها الدين!

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 21 يناير 2024 م ـ 09 رَجب 1445 هـ

«هزيمة الغرب»، عنوان الكتاب الأخير للمؤرخ وعالم الإنتروبولوجيا الفرنسي المشهور «أمانويل تود»، وقد أثار فورَ صدوره هذه الأيام جدلا واسعاً متشعباً. الكتاب هو خلاصة قراءة «تود» للنظام الدولي الجديد من زاوية الحرب الأوكرانية الممتدة منذ سنتين. وعلى عكس المقاربات السائدة، يرى «تود» أن روسيا في طور الانتصار على حلف شمال الأطلسي الذي هو في حقيقته حلف جديد يتمحور حول مثلث «لندن- فرسوفيا- كييف»، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في هذه الحرب لأسباب موضوعية جوهرية. وفي مقدمة هذه الأسباب ما أطلق عليه تود «العدمية الناتجة عن انهيار البروتستانتية»، وهو هنا يستعيد أطروحة ماكس فيبر الشهيرة في ربطه بين الإصلاح البروتستانتي ونشأة الرأسمالية الحديثة. لقد شكل العالَم البروتستانتي (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا والدول الاسنكدنافية) محورَ الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية، نتيجةً لعوامل ثقافية أساسية من بينها انتشار الكتابة والتعلم، وأخلاقيات العمل، والانضباط المهني والمسلكيات الصارمة. بيد أن هذه القيم التي استمرت مدة طويلة في شكل قوالب ثقافية رغم تراجع الممارسة الدينية، قد انحسرت كلياً اليوم بما يفسر، حسب المؤلف، التقهقرَ الصناعي في هذه البلدان وانهيار النظم التعليمية فيها ودمار الأسرة وتخلخل آليات الانضباط الاجتماعي المرتبطة بها. وقد ظهرت هذه الثغرات خلال جائحة كورونا، وبرزت في الحرب الأوكرانية الحالية عندما بدا جلياً للعيان أن الصناعة العسكرية الأميركية عاجزة عن توفير حاجيات جيش كييف، بما ينذر بنصر روسي قريب في النزاع القائم، رغم الوعود الغربية. وفي هذا السياق، يرفض تود النظرَ إلى الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية كما لو أنه حرب استعمارية تقليدية، بالنظر إلى الوشائج العضوية بين منطقتي القرم ودونباس مع روسيا، كما يرفض اعتبارها حرباً بين الديمقراطية والاستبداد أو صداماً بين ما يسميه «الأوليغارشيات الليبرالية» و«الديمقراطية التسلطية». ما تعنيه هذه العبارات هو أن الديمقراطية التمثيلية في الغرب انهارت كلياً، وما أصبح سائداً في المجتمعات الغربية هو تحكم قوى بيروقراطية متنفذة لا تعبّر عن الجسم السياسي السيادي وإن كانت معايير الحرية السياسية متوفرة، بينما يتمتع النظام الحاكم في روسيا بشرعية حقيقية وقبول شعبي لا شك فيهما وإن كانت مساحة الحرية العمومية محدودة. الخلاصة التي يصل إليها المؤلف هو أن التوازنات المستقبلية للنظام الدولي ستتمثل في قيام حلف روسي ألماني له جذره الجيوسياسية والإنتروبولوجية العميقة، وانكفاء العالم البروتستانتي المتمحور حول الولايات المتحدة الأميركية على نفسه، وبروز الجنوب كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب. ليس من همنا هنا تقويم أطروحة أمانويل تود، الذي عرف بحسه الاستراتيجي الثاقب، وهو الذي توقع عام 1976 تفكك الاتحاد السوفييتي انطلاقاً مِن نظريته في الأنساق القرابية والأسرية. ما نريد أن نضيفه هو أن أهمية أطروحة تود تتمثل في استخدامه العواملَ الثقافيةَ في رصد المعطيات الجيوسياسية، بدلا من نموذج صراع القوة المهيمن على الدراسات الاستراتيجية. بيد أن من ميزات عمل تود هو أنه تجنَّب مقاربةَ صدام الثقافات التي تبلورت في الأدبيات الأميركية وفي خطاب المجموعات اليمينية الراديكالية في أوروبا، وهي في عمومها تعاني من أوهام التحديد الغائم وغير التاريخي للهويات الثقافية المشتركة بالنظر إليها كأنساق اجتماعية جامدة بدل اعتبارها منظومات رمزية تتكيف مع التحولات والتغيرات التاريخية والمجتمعية المستمرة. ولقد اتهم تود بأنه يدافع عن الموقف الروسي ويناصر بوتين في حربه ضد أوكرانيا، وسخر البعض من توقعاته ومن إعلانه هزيمة الغرب. ولئن كان من المبرر منهجياً ومعيارياً التشكك في تقويمه السلبي للأداء الغربي في الحرب الأوكرانية الحالية وتنبئه بهزيمة الغرب وانتصار روسيا، إلا أنه نجح دون ريب في توجيه النظر إلى مكمن الضعف والهشاشة في السياسات الاستراتيجية للقوى الغربية التي تعاني من مصاعب جمة في ضبط توازنات العالم الراهن. لقد كتب كثيرون من قبل تود عن «نهاية الهيمنة الغربية»، وعبّر الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون عن هذا الوضع بعبارة «نهاية المركزية الغربية»، بعد قرون أربعة من السيطرة الأحادية على العالم. يقول تود في كتابه الأخير: لقد غدا من الصعب على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، لكن عليه أن يفكر جيداً في ماذا يمكن أن يقدم للبشرية راهناً، بعد أن انحسرت قيمه المرجعية ولم يعد نظامه السياسي المجتمعي فاعلاً ولا ناجعاً في سياقه الأصلي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 يناير 2024 23:45

من زمان (1992) دخل أستاذنا الراحل حسن حنفي على إشكالياتنا مع الغرب عندما أصدر كتابه «الاستغراب» في مقابلة كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» (1978) وكنا نمزح معه عندما يكون مزاجه حسناً فنقول له: «لقد أردتَ بكتابك الضخم منافسة إدوارد سعيد لكنك لم تنجح!»، والحق أنّ حسن حنفي يمكن اعتباره متخصصاً في الفكر الغربي، فقد بدأ حياته الفكرية في الستينات بترجمة كتاب سبينوزا في الدين والسياسة مع دراسةٍ ضافيةٍ أفدنا منها جميعاً متخصصين وغير متخصصين في الفلسفة الغربية وفي علاقات الدين بالدولة. وما دعا إليه حنفي تحقق جزءٌ كبيرٌ منه؛ إذ بيننا اليوم عشرات المتخصصين في الفكر الغربي وفي الفلسفة الغربية وفي السياسات الغربية. والداعي إلى إثارة موضوع الغرب والعلاقة به من جديد الحملات الهائلة المعاصرة من جانب المثقفين والسياسيين والإعلاميين العرب على سياسات الغرب وأصوله الفكرية والتي بلغت الذروة في الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة، والتي مضت إلى ما هو أبعد من السياسيات إلى الفكريات والحضاريات كما سبق قوله. وعلّة ذلك موقف الغرب من سياسيين ومفكرين من الحرب، وليس الموقف السياسي وحسب، بل والموقف الفكري الذي يتجاوز القضية الفلسطينية إلى العرب والإسلام.

لقد دفعني ذلك، وبخاصةٍ أنني خضتُ مع الخائفين إلى إعادة قراءة كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد. والطريف أنني قرأت خاتمةً للكتاب كتبها إدوارد سعيد (1994) ينكر فيها الانطباع السائد أنه كان معادياً للغرب وهو لم يكن كذلك ولم يفكر فيه عندما وضع كتابه (1975-1976)! في كثير من الأحيان يستقلُّ النصُّ عن كاتبه وأطروحة «موت المؤلّف» صارت شهيرةً في الأدبيات الفرنسية. وبهذا المعنى، فإنّ استظهار إدوارد سعيد المتأخر (ونحن نأخذه مأخذ الجد) ليس دقيقاً على الأقلّ من حيث التأثير. فبعد كتابات النقد ما بعد الاستعماري، والتي بدأت قبل إدوارد سعيد (لدى طلال أسد مثلاً)، تطورت دراسات التابع (subaltern) وليس لدى العرب، بل لدى الهنود وفي أميركا اللاتينية. وهي تمضي أبعد من سعيد بكثير ولنتأمل كتابي وائل حلاّق الأخيرين: «الدولة المستحيلة»، و«قصور الاستشراق».

لا يستطيع مثقفو الشعوب التي كانت مستعمَرة نسيان ذلك الزمان القاتم، زمان السيل الذي لا يمكن دفعه (حسب خير الدين التونسي)، أو زمان الإصابة بالغرب (حسب الكاتب الإيراني: جلال آل أحمد). بيد أنّ الأمر لم يقتصر على ذلك الزمان؛ فحضارة الغرب هي التي صنعت نظام العالم، ونظام العيش فيه حتى اليوم. إدوارد سعيد يقول في خاتمة كتابه المتأخرة: إنّ ثقافة الاستشراق لا تزال سائدة وإن تغيرت صِيغُها وأشكالُها ووسائلها، مع ملاحظة أنّ القوة لا تزال تلعب دوراً رئيسياً فيها، وللقوة أيضاً أشكالٌ ووسائل وأدواتٌ لا تتناهى.

ما حاول أحدٌ الخروج على الشروط الفكرية والثقافية للغرب المهيمن (حسب تشارلز تايلور) غير المهاتما غاندي. وقد نجح في سياسة اللاعنف بالخروج من الاستعمار البريطاني. لكنّ الهند انقسمت، والهنود والصينيون وأُمم أخرى عديدة، يحاولون منذ عقود منافسة التفوق الغربي بتفوقٍ مُماثل، ولا يفكرون جدياً في الخروج على نظام العالم (الغربي) ولا الخروج على نظام العيش الذي صنعه وعاش وعيَّشنا في جوانبه ومفترقاته. فهناك مجالان للمقاربة أو المجاولة: جانب النظام العام للعالم في ظواهره ومظاهره - وجانب الثقافة وطرائق التفكير. والجانب الثاني هذا هو الذي لا يزال المفكرون الثائرون يجربون الخاطرات والمشروعات التغييرية في نطاقه وسياقاته. وقد أمكن بهذه المحاولات المستمرة منذ خمسة عقودٍ إنجاز عالمٍ نقدي من معالمه مدرسة فرنكفورت، وكتابات إدوارد سعيد، والإمبراطورية لنيغري وهارت وكتابات تشومسكي، وكل دعاة المذهب الإنساني.

ولماذا نطوف بعيداً؟ فقد قرأت قبل شهورٍ للناقد والمفكر السعودي سعد البازعي صاحب «معالم الحداثة» كتابه الآخر «المكوِّن اليهودي في الحضارة الغربية». ومن دون مضيّ في التفاصيل، فإنّ البازعي ذكر مجموعةً من المفكرين والفلاسفة والعلماء اليهود الذين أسهموا في صنع الحضارة الغربية الحديثة وبخاصةٍ منذ القرن السابع عشر وحتى زمنٍ قريب. وهكذا، فقد ساعدوهم في إنجاز مشروعهم الصهيوني للدولة، وقد اعتبروا ذلك المشروع دائماً إنجازاً لهم بالمعنيين الفكري والعملي. فالرئيس الأميركي بايدن ليس أول زعيمٍ غربي يعتبر نفسه صهيونياً، بل أحسَّ بهذا الإحساس مئاتٌ غيره منذ القرن التاسع عشر. بل هناك من يزعم أنّ نابليون بونابرت في مطلع القرن التاسع عشر كان يريد أيضاً إقامة دولةٍ يهوديةٍ أو لليهود في فلسطين. فالدولة اليهودية في فلسطين هي جزءٌ من التفوق الغربي والإنجاز الغربي. وبالطبع هناك مفكرون يهود اليوم يعتبرون أنّ المشروع الصهيوني أضاع روحه (لا أدري ماذا كانت روحه قبل الفساد!) مثل ساحاق وفنكلشتاين وتشومسكي، بل ويطالب جدعون ليفي الولايات المتحدة بالتدخل لإنقاذ إسرائيل التي أضاعت روحها بالحروب العنيفة والمستمرة على الفلسطينيين والعرب!

فهل تكون قضيتنا مع إسرائيل جزءاً من قضيتنا وقضية العالم الإنساني مع الغرب المهيمن؟

ما كان هارت (شريك نيغري في كتاب الإمبراطورية) يعتبر ذلك صحيحاً. وهو يرى أنّ التفرقة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا كانت وطأتها أعظم وأفدح على الغرب بشقه الأوروبي على الأقلّ. لكنّ الغرب عندما وجد أنّ نظام التفرقة العنصرية ما عاد احتماله ممكناً، فإنه تخلّى عنه، رغم إصرار تشرشل هو وآخرين على إمكان استمراره. ولذلك؛ فإنّ الغرب المهيمن إذا شعر بأنّ العبء الإسرائيلي ما عاد احتماله ممكناً فإنه من أجل هيمنته بالذات سيتخلّى عنه. إسرائيل تتحول إلى كيانٍ ديني يعلو فيه صوت المتعصبين العنيفين، ولا أحد يستطيع تحمل أهوال الحروب الدينية سواء أكانت في ميانمار أو إسرائيل. لننظر كيف قاتل الجميع ضد «داعش» التنظيم الديني العنيف. مشكلة إسرائيل المستعصية ليست مشكلة الغرب وحده، بل هي مشكلة العرب أيضاً الذين برزت لديهم الحركات الأصولية والأصالية. مشكلة إسرائيل تنتمي إلى زمن الاستعمار الذي يجب أن يزول، والذي يؤخر زواله ظهور أنظمةٍ وتنظيمات مماثلة في الشرق الأوسط. وعندما نعتبر التحدي الإسرائيلي جزءاً من تحدي شباب العالم للحضارة الغربية، فإنّ ذلك يزيد من عمر الدولة العبرية؛ لأنّ الغرب ليس موشكاً على الزوال!

كان الكاتب اللبناني الراحل جوزف سماحة (مثل فنكلشتاين اليوم) يعتبر أنه لا حلَّ للمشكلة الإسرائيلية إلاّ الحلّ العربي(!).

ولنعُد إلى مشكلة العرب والعالم المتعَب مع الغرب. منذ الحرب الأولى، وعزّ الاستعمار الأوروبي، ما عادت أوروبا تستطيع الدفاع عن نفسها إلاّ بالجيوش الأميركية. وبعد قرابة القرن تجد أوروبا نفسها تحت وطأة الخوف من روسيا. أما الأميركيون فهم منقسمون، ولا ينبغي التقليل من شأن التيار الانعزالي في قلب أميركا. لكن لو فرضنا أنّ أميركا لسببٍ أو لآخر ما أمكن لها الدفاع عن الغرب الأوروبي الواقع في أصل حضارة العالم الحديث، فهل يعني ذلك أنّ هناك عالماً حضارياً جديداً على وشك التحول إلى بديل؟ أم أنّ الذي سوف يسود هو فوضى الحروب والسلاح والنوويات؟ فالذي ينبغي الخشية منه هو الكلام الكثير الذي يردده الاستراتيجيون الأميركيون وغيرهم عن: عالم ما بعد أميركا!

يتحدث المؤرخون عن الدورات الحضارية، ويتحدث استراتيجيون عن موجة العولمة الثالثة، لكن هل سيتغير نظام العالم أو تتغير حضارته لو أن الصين هي التي سوف تمسك بالزمام؟ لا أحد يريد «الإصابة» بالصين بعد «الإصابة بالغرب»!.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 07 رَجب 1445 هـ - 19 يناير 2024 م

ننطلق هاهنا من فرضية تُرجع القيم في أساسها إلى الحس الفطري في الإنسان الذي يسعى إلى التمييز بين الحسن والقبح، والذي يجعله الاطمئنانُ يرجح كفة الحسن على كفة القبح. فالبرّ، ليس سوى ما اطمأننت النفس إليه. ومن هذا المنبع الطّبيعي الأولي خرجت القيم الكبرى التي أسهمت في لحم الإنسان بأخيه الإنسان من أجل تحقيق العيش المشترك. ومن هنا يمكن اعتبار القيم العليا الشروط القَبْلية لقيام الفعل الأخلاقي، إذ لولا ها ما ميّز الإنسانُ بين الحسن والقبح ليختار التخلّق بأحدهما دون الآخر. ومن هنا وَلَّد التفاعلُ بين القيم الكونية والشّروط الاجتماعية لكل مجتمع ضروباً من قيم أصبحت سائدة في ذلك المجتمع، وأصبحت تستمد منها أخلاق أفراده، مثل القيم الثلاث المعلنة للثّورة الفرنسية: الحرية --المساواة – الأخوة. والقيم الثلاث المعلنة لدولة الإمارات: التسامح والسّلم والتضامن.

إن المبادئ الأخلاقية المطلقة يمكن أن تتغير من سياق إلى آخر. ومن هنا تتميَّز الأخلاق بطبيعة مفارقة، فهي من جهة تستمد وجودها من منظومة القيم الفطرية المجردة عن الزمان والمكان، وهي من جهة أخرى شديد الصّلة بالمجتمعات وأشكال التربية السائدة فيها، كما أنها شديدة الارتباط بالأطر النظرية سواء كانت فلسفية أو علمية، مما يمسّ الأخلاق بتغييرات تتفاوت عمقاً وجدّة. وفي تقدرينا فإن التّجدّد الأخلاقي لا يكون إلا ضرباً من تنزيل محلي للقيم الكونية، تتجدد الأخلاق كما يتجدّدُ البناء، فهي تبنى وتصنع انطلاقاً من النّموذج القبلي للقيم العليا الأولية.

يوحي الحديث الصحيح عن النبي الكريم الذي يقول فيه: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» [البخاري: الأدب المفرد/273]، بفكرة إمكان تجدد الأخلاق من جهتين:

أولاً جهة إكمال الأخلاق بالقوة وبالفعل معاً، وهذا مثّله العصر النّبوي الذي جدّد الأخلاق العربية ونفخ فيها روح كمالها البشري، ولعل أبرز مثال على ذلك ما كان يعرفه العرب من نصرة أخيهم ظالماً أو مظلوماً، فردّد الرسول الألفاظ نفسها، ولكن بمعنى أخلاقي جديد، فجعل نُصرة الأخ الظّالم بِحجْزِه عن الظّلم وكفّه عنه [البخاري: كتاب المظالم والغصب/2338]. ولعل «حلف الفضول»، الذي حضره الرسول قبل البعثة وأسهم فيه، وكان دائماً يَذكُرُه بخير وقد استوى بشراً نبيئاً، كان يجسِّدُ معنى عميقاً جدّده الرسولُ في قلوب أتباعه.

ثانياً: جهة التجدّد النّظري لهذه الأخلاق المكتملة بالقوّة والفعل، في ظل قيم إنسانية عليا أصلها في الفطرة وفرعها في العقل، وأغصانها في الحس والعاطفة والحدس. وقد أسهمت العلوم بعامة، والفلسفة بخاصة، في هذا التّجديد، مثال ذلك ما أعلنه سام هارس في كتابه «المشهد الأخلاقي» الذي نشره عام 2010 من «أنّ العلمَ التجريبي قادرٌ على الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية»، فدافع في كتابه على التّسليم بضرورة الحكم الأخلاقي المطلق، وقد وجد لذلك مصدراً في «العلم التجريبي»، حيث اعتبر الصّلاح المعيشي، بمعنى السّلامة من الآفات، هو المعيار الأخلاقي المطلق، فمعيار الأخلاق هو ما يترك من آثار في الأفعال، وفي صلاح معاش النّاس. فحسنُ الفعل عنده يكون بقدر ما يجلب من المصالح العاجلة، بخلاف السّوء الذي ينافر الطبع ويكون نقصاً.

نعم، تتجدّدُ الأخلاق، لكنّ تجدّدها هو تجدّد تمام وكمال، تجدُّدٌ يظل مرتبطاً بالأصول العليا والقيم المثلى التي تعارفت عليها البشريةُ قبل أن يُدَاخلَهَا هذا التغيير الذي نعرفه اليوم في كثير من البلاد، والذي يوشك أن يبدّل طبيعة الإنسان وفطرته الأولى.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية،يوم: 12 يناير 2024

 

يُتداول باستمرار موضوع نهاية الحداثة. وهذا التصعيد بأحاديث النهايات له خطّة صحيحة حين نتعامل مع الحداثة بوصفها جزءاً من تاريخ ماوصلت إليه البشرية وبالتالي تصلّب تاريخها وتحدد، ولمقولة نهايتها جانب خاطئ لأن الحداثة حين نأخذها بالمعنى البسيط متجددة وقائمة. لذلك يصرّ الفيلسوف المعمّر «يورغن هابرماس» على أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، بل ويعدّ «مابعد الحداثة» مشروعاً نقدياً للحداثة وليس مروقاً عنها. الحداثة بمفهومها البسيط متشعبة ومتوفرة، إنها تحديث متواصل، فكل انتقال في الفنون والسينما والأدب هو تحديث، وبالتالي فإن الحداثة شريكة في هذا المنجز، لكن حين نتعامل معها بحقبتها التاريخية المحددة فإن مقولة نهايتها قابلة للنقاش.

من قبل ترجم أستاذنا الراحل محمد سبيلا بحث «بودريار» عن «الحداثة» وهو من البحوث المهمة، وقد تطرّق فيه إلى أفكار كثيرة، منها أن الحداثة ليست مفهوماً سوسيولوجيا، ولا مفهوماً سياسياً، وليست بالتمام مفهوماً تاريخياً، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية. فمقابل التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الأخيرة تفرض الحداثة نفسها على أنها شيء واحد متجانس، يشع عالمياً انطلاقاً من الغرب.، ومع ذلك فهي تظل مدلولاً ملتبساً يشير إلى تطور تاريخي وإلى تغير في الذهنية.

ويعتبرها معطى متشابكاً تتلاحم فيه الأسطورة بالواقع، واقع يتميز في كل المجالات، دولة عصرية، تقنية عصرية، موسيقى ورسم وعادات وأفكار عصرية، على هيئة مقولة عامة وضرورة ثقافية. ومن حيث إنها نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فهي تتحقق على مستوى العادات وطرائق العيش، وأنماط الحياة اليومية، وقد تبلغ أحياناً صورة كاريكاتورية في النزعة التحديثية (Modernisme)، وبما أنها متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمن والمكان، فهي ليست ثابتة ولا تقبل الإحالة عليها إلا من حيث هي منظومة من القيم، وأسطورة.

وآية ذلك كما يعبّر بودريار أن تاريخ لفظ حديث أقدم من تاريخ مصطلح «الحداثة». ففي كل سياق ثقافي يتعاقب كل من القديم والحديث تعاقباً ذا دلالة. لكن مع ذلك لا توجد الحداثة، في كل مكان باعتبارها بنية تاريخية وجدالية تعبر عن التغير والأزمة. وهذه الأخيرة لا يمكن مشاهدتها إلا في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر، ولا تأخذ معناها الكامل إلا ابتداء من القرن التاسع عشر.

الخلاصة أن الحداثة لها جانب معقّد ذو اشتباك تاريخي لها بداية ونهاية، ولها جانب بسيط مما يعني استمراريتها، بدليل أن كل المشاريع التنموية العالمية، والأفكار الكبرى على مستويات تطوير نظريات الأدب والسياسة والدولة ذات بعد حداثي بمعنىً أو بآخر، إن الحداثة قد تكون ماتت على مستوى تاريخها المرتبط بأحداث سياسية ودينية، ولكنها بالمفهوم الفلسفي فعّالة وتؤتي أكلها إلى اليوم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 يناير 2024

لا يمكننا في العالم العربي أن نتجاوز حقيقة أن أحد أعمق مشكلاتنا في القدرة التي يتم فيها توجيه المجاميع الشعبوية من المنابر الدينية، وحتى عبر منصات الإعلام، هذه مشكلة علينا الإقرار بوجودها، فهي متلازمة متصلة عبر عقود ممتدة لم تنفك ولن تنفك إلا بمواجهتها، وفيما يعتبر الخطاب الديني من أبرز العناصر التي تشكل الهوية الثقافية في العالم العربي فمع ذلك، يشهد هذا الخطاب في بعض الأحيان استخداماً ملتوياً لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية، ما يؤدي إلى توجيه عقول الشعوب العربية في اتجاهات محددة، وفي الوقت نفسه، ينتج عنه استخفاف يهدد التنوع الفكري، ويقوض الحريات الفردية.

تعود جذور توظيف الخطاب الديني إلى فترات تاريخية عديدة، حيث استُخدم الدين وسيلة لتوحيد المجتمع، وتحقيق أهداف سياسية في عصور مضت، كان الخطاب الديني يُلهم الناس ويوجههم نحو الخير، لكن مع تغير الظروف وتعقيدات الحياة السياسية، بدأ يتحول إلى أداة لتحقيق مصالح قلة من الحكّام، ولذلك فإن الخطاب الديني يمتلك سلطة خاصة تمكنه من التأثير على العقول والسلوكيات الفردية والجماعية، وفي بعض الأحيان يتسلح القادة السياسيون بالدين، لتبرير قراراتهم وتوجيه التفاعلات الاجتماعية والسياسية. هذا يعزز تماسك السلطة، وفرض الرأي السائد دون مراعاة لتنوع الآراء.

ومكمن الخطر أن يتسلل الخطاب الديني إلى نظام التربية والثقافة، حيث يُشكل مصدراً لتشكيل قيم المجتمع، يُبرز وينمّي الدين تقاليد وعادات، ولكن يمكن أن يكون هذا التأثير إيجابياً أو سلبياً باعتماد السياق والتفاعلات الاجتماعية. ظهر الاستغلال السياسي للخطاب الديني كتكتيك فعّال في تحقيق أهداف سياسية، يتجلى ذلك في توظيف المفاهيم الدينية للتأثير في القرارات وتوجيه التصورات الشعبية، مما يفتح الباب أمام انتقادات حول استغلال العقائد الدينية لأغراض شخصية، عارض التوظيف السياسي للخطاب الديني في بعض الأحيان مع مفاهيم حقوق الإنسان. يمكن أن يؤدي التحكم في الرأي العام باستخدام الدين إلى انتهاك حقوق الإنسان، مثل حرية التعبير والدين والمعتقد.

تظل قضية توظيف الخطاب الديني في توجيه عقول الشعوب العربية محورية في فهم تحولات المجتمعات العربية. يجدر بالمجتمع العربي أن يدرك تأثيرات هذا التوظيف على التنوع الفكري، وضرورة الحفاظ على الحقوق الفردية والجماعية، لضمان تطوره المستدام وتقدمه الشامل، مع ذلك لابد من استيعاب حقيقة أن مبادرات الدول الوطنية التنويرية لم تستطع أن تغير الكثير في ظل انتشار وسائل التواصل، وكذلك توظيف بعض وسائل الإعلام في الانتهازية واستغلال العواطف الشعبية.

تثبت الحوادث في المنطقة وحتى العالم أن الخطاب «الإسلاموي» وفي معيته اليساري العربي هو آفة، تستثمر جماعات الإسلام السياسي في عقول قطيع من الاتباع الذين عطلوا أدمغتهم.

لا يمكننا أبداً ممارسة إنكار أنه لا يوجد مستثمرون يستفيدون من هذا الخطاب وقيادة المجتمعات نحو أزمات متوالية، وفي هذا الإطار على الدول الوطنية كل المسؤولية بأن تعمل على معالجة موضوعية لهذه المشكلة تنطلق من تجديد الخطاب الديني فهذا هو المدخل للتصحيح، أن تبقى المجتمعات العربية معرضة لموجات خطاب الكراهية التي تهز أركان الدول الوطنية العربية.

فلول «الربيع العربي» هم ذاتهم من عادوا وسيعودون يهاجمون أوطانهم فغايتهم «دولة الخلافة» الوهمية. التنوع الثقافي يعززه المحتوى التعليمي القائم على المعرفة والتنوير، واحترام الحقوق لكل الأديان والمذاهب والقوميّات.

التنوع رافد من روافد القوة المستدامة في عصر تتقدم فيه الأمم بأدوات المعرفة، وليس بمعاول الجهل المتمترسة وراء جدران الأزمات، والتي تظهر في كل مرّة لتؤدي مهمة استثمارها في عقول القطيع دون محاسبة وعقاب، وقد قيل في المثل «من آمن العقاب أساء الأدب» ومن آمن العقاب أساء للأوطان.

***

هاني سالم مسهور - كاتب يمني

31 ديسمبر 2023

لم يتردد الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي في القول إنه يريد إزاحة الأقلية السياسية المحترفة التي اعتبر أنها «أفسدت» بلاده وقادتها إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. مثل كل الزعماء الشعبويين الذين صعدوا في الحقل السياسي خلال السنوات الأخيرة، يركز ميلي هجومَه على النخب المهيمنة على الإدارة ومؤسسات الدولة العمومية، ويرى أنها غدت معزولةً في الشارع المحبَط والغاضب الذي يلتف حول قادته القريبين منه، على حد قوله.

ولا يتعلق الأمر فقط بالديمقراطيات الناشئة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ففي كل الديمقراطيات العريقة تتجاوز القاعدةُ الانتخابية للحركات الشعبوية ثلثَ السكان وفي أغلبها أصبحت هي القوة السياسية الأولى. ليس من همِّنا هنا تفسير هذه الظاهرة التي يمكن، وبسهولة، ربطها بأزمات العولمة الاقتصادية والتقنية، وانهيار ثنائية اليمين واليسار التي أطَّرت لمدة قرنين الحياةَ السياسية، وتنامي تأثير وحضور شبكات التواصل الاجتماعي.. بل ما يهمنا هنا هو تأثير المعادلة المذكورة على سلطة وحضور النخب الفكرية والبيروقراطية التي قادت في السابق عمليةَ بناء الدول وتحديث المجتمعات.

وعلى الرغم من النقد الجذري الذي وجّهته المدرسة الماركسية لمفهوم «الأنتلجنسيا» من حيث هي طبقة برجوازية صغيرة متحالفة مع القوة الرأسمالية المهيمنة، فإن الأنظمة الديمقراطية في الغرب حكمتها دوماً النخب المؤثرة والفاعلة التي تداولت على السلطة عبر الآليات الانتخابية التعددية. لقد طرح كثير من علماء السياسة والاجتماع سؤال العلاقة الإشكالية بين الشرعية الشعبية التي تفترض نفاذ القاعدة الجماهيرية العريضة للسلطة مباشرةً باعتبارها متحكّمة في الرهان الانتخابي، وبين سلطة النخب المستفيدة عملياً من المسار التمثيلي الانتخابي رغم كونها أقلية محظية ضيقة. وإذا كانت الديمقراطيات الحديثة تتميز بالحركية التداولية المفتوحة، حيث لا تكون السلطة حكراً على فرد معين أو مجموعة بعينها، فإنها تتأسس في الوقت نفسه على ما سماه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالتمايز الاجتماعي أي التخصص الوظيفي في مجتمعات معقدة تديرها العقلانية البيروقراطية. وفي هذه الحالة، ليس ثمة اختلاف كبير بين طبيعة القيادات السياسية وطريقة توجهاتها. فحتى أحزاب اليسار الاشتراكي التي كانت قريبة من الأيديولوجيا الماركسية، بعدما وصلت للسلطة في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين انتهجت نفس أساليب الحكم والتسيير التي كانت تعتبر خاصة باليمين الليبرالي. وبعد نهاية الحرب الباردة، توطد هذا التوجه، وبرزت أطروحات عديدة حول عودة الأفلاطونية السياسية، أي حكم الخبير العالِم القادر وحده على ضبط وإدارة الملفات الاقتصادية والفنية المتخصصة التي تتجاوز التصدعات السياسية.

ولا شك في أن الموجة الشعبوية القوية الحالية هي في عمقها ردة فعل احتجاجية على هذه الأطروحة، ومحاولة حثيثة لإعادة الاعتبار للمفهوم الصدامي السيادي للسياسة، لكن من الواضح أنها تواجه مقاومةً حادةً مِن النخب الفكرية والبيروقراطية، التي وإن كانت تراجعت انتخابياً في السنوات الأخيرة فإنها قادرة على إفشال أي نظام حكم يقصيها ويحاربها.

وهكذا ندرك كيف فشلت إجمالا الحكومات الشعبوية في إدارة الملفات التي تبنتها مثل مشاكل البطالة والقوة الشرائية والاندماج الاجتماعي.. مما حدا بها إلى التحول نحو قضايا زائفة مثل خطر الهجرة والتعددية الثقافية والهوية القومية المهددة.

لقد حدث التحول نفسه في العالم العربي في سياق بما سمي «الربيع العربي»، عندما وصلت للسلطة حكومات شعبوية ترفع الشعار الديني الاحتجاجي وتوجه هجومها الجذري للنخب الفكرية البيروقراطية المتحالفة مع الأنظمة السابقة. لكن ما حدث هو أن هذه الحكومات فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الملفات الاجتماعية وفي تسيير السياسات العمومية.. نتيجةً للمواجهة المحتدمة مع النخب الإدارية والثقافية والمالية التي كان بيدها القرار والنفوذ.

في تونس خلال عهد سيطرة حركة «النهضة» وحلفائها، قالت لي شخصية مرموقة من القيادات البيروقراطية المعروفة: «بعد أن حملنا الوافدون الجدد مسؤوليةَ كل مشاكل البلاد وأقصونا من كل مراكز القرار والتأثير، رجعوا يطلبون دعمنا ومساعدتنا مكتشفين أن الدول تدار بالخبراء الفنيين الأكفاء وليس بباعة الكلام الذين تطرب لهم الجماهير لفترة محدودة قبل أن تتخلى عنهم عندما تدرك عجزهم ومثاليتهم الفارغة».

كان أفلاطون مؤسس الفلسفة على وعي بهذه الحقيقة، معتبِراً أن طريق السياسة هو الخطابة والجاذبية العاطفية، كما في الأنظمة الديمقراطية، لكن فن القرار يقتضي العلم والمعرفة والتقدير الموضوعي الجاد. وما نشهده اليوم هو انقلاب السياسة على العلم الذي ستكون له آثار مدمرة على إدارة الدول وتسيير المجتمعات.

*** 

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 يناير 2024

في أربعينيات القرن الماضي ظهر مصطلح (الشعر الحر)، ليفتح حركة شعرية ثارت على عمود الشعر العربي، وعلى فحولية القصيدة، وانفتحت أبواب الجدل على شعراء وشاعرات هذه القصيدة، وثارت ثائرة المحافظين ضدها بمثل ما تجادل حولها غير المحافظين، ودخل العروضيون على مائدة الجدل، وظلت حيوية المصطلح شديدة القوة وعريضة التمدد والانتشار لدرجة شملت كل صاحب قلم وصاحب ذائقة شعرية، وامتد ذلك لثلاثة عقود عامرة وثرية بالجدالات والنقاشات.

غير أن مصطلحاً عروضياً طل برأسه من وسط الجموع، واخترق صفوف النقاشات وهو مصطلح (شعر التفعيلة )، وهو مصطلح صحيح من حيث حاله العلمية ودقة تعبيره في وصف القصيدة ذات الوزن غير العمودي. وحقيقة فهي قصيدة تعتمد التفعيلة، وتستن لها طريقاً خارج شروط البحور المقننة بأعداد محددة ومنضبطة من التفاعيل.

ولكن السؤال المعرفي هو عن التخلي عن مصطلح الشعر الحر، وسنرى أن كلمة (الحر) هي مربط الفرس، وهي العلة التي خلقت مصادمة تثير الحساسية الأكاديمية ضد مشكلة الحرية، بما أنها تعني التمرد على الشرط العلمي المنضبط، فالعروض كعلم تمكن من احتلال التصور الأكاديمي للشعر، ومسألة الخروج عن هذا التصور تحت معنى الحرية سيكون مثيراً ومهدداً للعقلية القواعدية التي تعبد القاعدة، وتعارض الاستثناء أو الثورة على المستقر، وهذا أدى عملياً إلى انسحاب مصطلح الشعر الحر تدريجاً إلى أن اختفى تماماً، ولم يعد أحد يستخدم هذا المصطلح، وحل محله مصطلح شعر التفعيلة، وهذه هزيمة ثقافية لمعنى الحرية، وانتصار للمعنى العروضي، وقد تقبل الكل هذه التسمية حتى معارضو هذا النوع من الشعر إذ تراضوا فيما بينهم بمصطلح قصيدة التفعيلة مكتفين بهذا النصر الذي يضمن لهم سلطة المعنى العروضي ونفي الخروج عنه وكأنها عملية استحواذ ذهني، وهذه واحدة من الألاعيب الذهنية المحافظة التي تقاوم الجديد، وتظل تقاومه إلى أن تنهكه وتستولي على زمامه، حيث ابتكرت طرقاً لاحتوائه، وإعادته لبيت الطاعة من مصطلح يحمل معاني التمرد والانعتاق إلى مصطلح يفرض القيد العروضي، أي أن النص شكلٌ وجسد، ولم يعد روحاً متقدة بحس الحرية.

وصحيح أن مصطلح الشعر الحر يلتبس مع مصطلح «وايتمان»، الذي يعني الشعر المنثور، وهو الشعر الذي رفضه «تي.إس. إليوت»، ولكنه عربياً استخدم ليعني القصيدة التي تعتمد وزناً يقوم على التفاعيل وليس على نظام البحر الخليلي.

والغريب أن مصطلح الشعر الحر لم يستخدم لقصيدة النثر، ولا للشعر المنثور مع أنه يتسق مع مصطلح «وايتمان»، وآثر جماعة قصيدة النثر استخدام المصطلح الفرنسي، وبالتالي فإن مصطلح الشعر الحر عافه قومٌ، وعف عنه قومٌ آخرون، وكأن مصطلح حرية الشعر مخيفٌ، أوكأن الشاعر يتسلح بمصطلح يحمي حماه، وينظم ضربات قلبه ضد معنى الحرية الشعرية.

***

د. عبدالله الغذامي -كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم 29/12/2023

 

في المثقف اليوم