اخترنا لكم

من الضروري فهم أسئلة هوسرل قبل قراءة أجوبته، فهو يقتحم العقول باستفهامات مزلزلة. يسأل هوسرل –مثلاً- عن مدى استقلال «السيكولوجيا» عن المنطق، ووضع أسئلة ضرورية سماها أسئلة النزاع التقليدية المتعالقة مع تحديد المنطق، وهي: هل المنطق فنّ نظري، أم فن عملي بمعنى أنه صناعة؟ وهل هو علم مستقل عن غيره من العلوم وبخاصة عن السيكولوجيا أو الميتافيزيقا؟
وهل هو فن صوري أي يشتغل كما يفهم عادة بمجرد صورة المعرفة؟ أم عليه أن يهتم بمادتها أيضاً؟ وهل له سمة فن قبلي وبرهاني؟ أم فن أمبريقي استقرائي؟ وعلى أهمية تلك الأسئلة بترتيب التسلسل للمنطق الذي سيكون مختبر الحقيقة، فإن هوسرل وبحذق يحذّر من الانحياز لهذه النزاعات التقليدية، بل بالأحرى القيام بتوضيح الفروق المبدئية التي تلعب فيها، والطريق للمنطق المحض بتحديد تعريف للمنطق يكون مقبولاً بشكل «شبه كلي».
والارتباط بين ظاهراتية هوسرل والميتافيزيقا يمكن اختصاره بتحليل فتحي إنقزو الشارح والمتخصص بهوسرل حيث يعتبر: «أن الفينومينولوجيا وإنْ بدت في غير حاجةٍ إلى النظر في الجوهر الميتافيزيقي لموقفها الأصلي، فإنها تفضي إلى تعيين هذا الموقف تعييناً ميتافيزيقياً صريحاً بتحديد مضمون الفلسفة ومقاصدها بحسب أقسام الميتافيزيقا التقليدية، وبحسب أنموذجها الأنطولوجي أساساً من حيث هي أصلاً تجديد لهذه المقاصد بحسب الوضع الذي أفضت إليه (البحوث المنطقية) وحدوده، ومهدت له الأعمال العينية في الظاهراتية المتعالية». ثم يشير إلى إشكالية في ظاهراتية هوسرل: «حيث تبين حاجة الفلسفة إلى تأوّل ذاتها تأوّلاً ميتافيزيقياً في مقامها وفي بنيتها، وفي حاجة الأشياء التي تختص بالنظر فيها إلى قاعدة أنطولوجية قصوى، تشتق منها مبررات التشريع النظري للعمل الفلسفي ولنسق الفلسفة عموماً».
«الظاهراتية» أو الفينومينولوجيا، هي مدرسة فلسفة تعتمد على دراسة الموضوعية أو الواقع كما يُعاش ويُختبر بشكل ذاتي. وهي أيضاً الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية، ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها.
لم يكن طريقاً سهلاً ذلك الذي اختطّه هوسرل في منهجه الفينومينولوجي، فقد أعاد في الجزء الأول من مباحثه المنطقية قراءة المنطق الذي استندت إليه فلسفات ديكارت وكانط ولايبنتز، محارباً الميدان النظري القبْلي المغلق على نفسه، معتبراً النزاع على التعريفات هو في حقيقته نزاع على العلم نفسه. أثرت فينومينولوجيا هوسرل على الفلسفة في القرن العشرين، وأيقظت أسئلةً خلقت فلسفاتٍ خاصةٍ كما حدث مع مارتن هيدغر، والذي أهدى إلى أستاذه كتابه الرئيس: «الكينونة والزمان» قائلاً: «مُهدى إلى أدموند هوسرل، إجلالاً وصداقةً».
خاض هوسرل عشرات المعارك ضد النزعات السيكولوجية والحيوية والتاريخانية وسواها، لقد حارب من أجل منهجه للعودة إلى الأشياء نفسها، إلى الماهية إلى ما قبل التأسيس القبلي لنقض كلاسيكيات المنطق المحض، ومطالباً بتعليق الحكم على المعطيات الأولى لظاهرات الوعي، ولذلك كتب: «إنه من البين أن طفولة فينومينولوجية طويلة لن يبخل بها علي إن شئت أن أكتسب معرفةً عميقة يمكن التعويل عليها فيما بعد بشأن النظرية».
الخلاصة، أن المعنى الظاهراتي لدى هوسرل مختلف عنه لدى الآخرين مثل موريس ميرلو بونتي، لأن هوسرل جدد في كل الفضاء الفلسفي، وجعله أكثر تحرراً من التقليد القديم الموروث عن اليونان، ولم ينفكّ عنه الفلاسفة، لقد ضرب هوسرل الطاولة، وأعطى البشرية نظريّة أظنّ أنها من أكثر النظريات الفعّالة والشغّالة حتى الآن.
***
فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 مارس 2025 01:01

في مقالة مهمة نُشرت مؤخراً في مجلة «فورين آفيرز» الأميركية، تتساءل «مونيكا دوفتي تفت»، أستاذة السياسات الدولية البارزة: هل نعيش راهناً عودةَ العالم إلى جيبولوتيكا دوائر النفوذ والتحكم التي طبعت الخارطة الجيوسياسية في القرن التاسع عشر، وكانت أساس التوافقات الشهيرة التي توصل إليها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية في مؤتمر يالتا عام 1945؟
يبدو السؤال وجيهاً في الوقت الحاضر، مع ما ظهر من تقارب أميركي روسي في الملف الأوكراني يمهد لسيطرة موسكو النهائية على الأقاليم التي استحوذت عليها بالقوة، في الوقت الذي لا تخفي فيه إدارة ترامب ميولَها للتحكم في محيطها المباشر في أميركا الشمالية وفي المحيط الهادئ، كما بدت بوادر ملموسة على عزم الصين توطيد نفوذها في مجالها الحيوي بما يعني استعادة تايوان وبناء قوة بحرية تكفل لها الهيمنة في محيطها المباشر.
ما تبينه الباحثة الأميركية هو أن مفهوم دوائر النفوذ يعود إلى الحروب النابوليونية في بداية القرن التاسع عشر وإلى الحقبة الاستعمارية، في مرحلة كان الصراع فيها محتدماً بين إمبراطوريات تنزع إلى فرض سيادتها خارج حدودها المتقلبة. وفي هذا الأفق، كان صراع النفوذ بين القوى الدولية وقوداً لحروب دائمة متجددة، كما كان الشأن في النزاعات المسلحة العنيفة في شرق أوروبا ووسط آسيا بين الإمبراطوريات القائمة أوانها. وكانت عقيدة مونورو في سنة 1823 التعبير عن فرض الولايات المتحدة سيطرتها على أميركا اللاتينية من حيث هي مجالها الحيوي الخاص بها، على غرار سيطرة روسيا في عهد ألكسندر الأول على شمال غرب الباسفيك.
إلا أن مذهب ولسون الشهير قضى على حروب النفوذ الاستعمارية، ومهد الطريق تدريجياً لمنظومة القانون الدولي التعددي، بما انعكس على مفهوم القوة العسكرية والاقتصادية وولد معادلة جديدة للقوة تقوم على جاذبية التأثير والاستقطاب عن طريق القيم والأفكار والعون الخارجي.
وبعد نهاية الحرب الباردة، وانبثاق سردية العولمة، ظهر أن مفهوم دوائر النفوذ قد انحسر كلياً، رغم أن بعض الأحداث التي جرت منذ نهاية التسعينيات، مثل تدخل «الناتو» في كوسوفو والحرب الأميركية في العراق، يمكن النظر إليها من زاوية السياسات الإمبراطورية القديمة التي تتنكر لأدوات الشرعية الدولية.
وهكذا ظهر أن روسيا والصين اعتبرتا أن نهاية الحرب الباردة لم تكن في الحقيقة بدايةَ تشكّل نظام دولي تحكمه قيم السلم والأمن الجماعي والتضامن، بل هي تعبير عن هيمنة غربية متزايدة وتوسع جيوسياسي على حساب مصالح هاتين الدولتين اللتين استثمرتا خلال السنوات الماضية في استراتيجيات القوة العسكرية والاقتصادية لتأمين مصالحهما الحيوية في المحيط الاستراتيجي المباشر. وما حدث مع رجوع ترامب إلى السلطة في واشنطن هو ما يَظهر أنه قبولٌ لقواعد اللعبة الدولية في استنادها إلى منطق دوائر النفوذ السابق.
بيد أن الباحثة الأميركية تبين أن تقاسم مراكز النفوذ بين القوى الدولية الأساسية أصبح اليوم عسيراً وإشكالياً، بالنظر إلى الروابط الكثيفة التي فرضتها حركية العولمة الاقتصادية والتقنية بين مختلف أنحاء العالم. ومن تجليات هذا الارتباط الحاجة الحيوية إلى المعادن النادرة والرقائق الإلكترونية التي تتنافس حولها الدول الكبرى، وتشابك حلقات الصناعات الجديدة، ووحدة الفضاء المالي والنقدي العالمي.
كما تبين الباحثة أن سياسة الرجوع إلى القوة الخشنة لن تؤدي إلى ضبط السلم الدولي، بل ستزيد من الإنفاق على السلاح، وتؤجج سباق التسلح النووي، فضلاً عن ما تؤدي إليه من تغيرات استراتيجية واسعة ناتجة عن سياسات القوى الإقليمية الصاعدة الرافضة لمنطق تقاسم النفوذ في العالم بين قوى إمبراطورية محدودة.
والخلاصة التي تصل إليها الباحثة هي أن سياسة دوائر النفوذ نادراً ما تكون ثابتة ومستقرة، بل هي عرضة دوماً للتحدي والرفض، ولذا فإن خيار الرجوع لنظام التعددية الدولية القائمة على قواعد القانون والشرعية هو الخيار الأمثل لضبط السلم العالمي.
المقالة تعكس وجهاً أساسياً من أوجه الحوار الدائر راهناً في الدوائر الاستراتيجية العالمية، بما يتجسد في مسارين منفصلين: مسار النزعة السيادية القومية المتنامية في الغرب الليبرالي من حيث تغليبها منطق المصالح الوطنية على اعتبارات النظام الدولي، ومسار القوى الاحتجاجية الصاعدة (روسيا والصين) التي تعتبر أن التعددية القطبية بالمعنى الحقيقي للعبارة تعني نهاية الهيمنة الغربية على العالم والاعتراف بشرعية قواعد مغايرة لضبط الدول والمجتمعات والمصالح الجيوسياسية الدولية.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية: 24 مارس 2025

المنطق القدريّ ما زال غالبا على نسق التفكير في المنطقة العربيّة ما يؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة.

تتصاعد وتيرة الأحداث في المنطقة العربيّة بين الفترة والأخرى لتؤكّد لنا في الأثناء أنّ العمل على قطع الحبل السرّي الرابط بين الشخصيّة العربيّة وتراثها وخلق مسافة أمان بينهما دون الوقوع في فخّ الانبتات عن الهويّة أصبح يمثّل اليوم ضرورة وأمرا مستعجلا أكثر من أيّ وقت مضى. فهذه الأحداث لا تني تتجدّد لتضعنا في كلّ مرّة في مواجهة التراث بكلّ ثقله لا باعتباره سندا وعامل تفوّق، بل طرفا من أطراف النزاع وخصما صعب المراس ناهيك عن أنّه جزء منّا وفيه الشيء الكثير من ذواتنا، وهو ما يمكننا معاينته من خلال ما يشهده الواقع السوريّ من مستجدّات منذ موفّى السنة المنقضية.
من العجيب الدالّ تداول جزء من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ مفهوم “السفيانيّ” واعتماده مدخلا لتفسير حيثيّات السقوط “الفجائيّ” لحكم بشّار الأسد. وليس من الصعوبة بمكان التثبّت من ذلك، فيكفي أن يدخل أحدنا كلمة “السفيانيّ” في محرّكات البحث على الإنترنت حتّى تعترضه العشرات من المنشورات ومقاطع الفيديو المتعلّقة بهذا الخصوص وعلى منصّات إلكترونيّة مختلفة.
مفهوم "السفياني"
حتّى نفسّر وجه الغرابة في هذا المستوى علينا الإشارة إلى اقتران مفهوم “السفيانيّ” بمعاني التنبّؤ بقرب خروج رجل في زمن وظروف معيّنين، فيخلّص البلاد والعباد من الظلم ويضع حدّا لغطرسة السلطة وقهرها محكوميها. وينتمي مفهوم “السفياني” في هذه الحالة إلى أدبيّات الملاحم والنبوءات وسرديّات آخر الزمان، ويُعَدُّ رديفا لمفهوم “المهديّ” في نُسْخَتَيْهِ الشيعيّة والسنيّة من المجال الحضاريّ الإسلاميّ، بل ولفكرة “المخلّص” الّتي لا يكاد يخلو منها تراث ثقافيّ إنسانيّ. ولئن خَفَتَ صوت هذه الفكرة لدى الشعوب الّتي عاشت خاصّة طفرة الحداثة، وشرعت تتحسّس خطاها نحو مرحلة تليها، فإنّها لا تزال حاضرة بقوّة لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة.
لقد عَنَّ لعدد من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ استدعاء فكرة “المخلّص” ممثّلة في مفهوم “السفيانيّ” واعتمادها مدخلا لتفسير نجاح السوريّين في الإطاحة بحكم بشّار الأسد في ظروف معيّنة ولحظة تاريخيّة معلومة للجميع، وذلك عبر وضعهم علامات استفهام حول هويّة أحمد الشرع والتساؤل عمّا إذا كان هو “السفيانيّ” العائد “لإحلال العدل” و”إنهاء” مرحلة قوامها الظلم والاستبداد. بل إنّ منهم من تجاوز مرحلة الشكّ إلى أخرى ملؤها اليقين بأنّه هو فعلا “السفيانيّ” باعتبار نجاحه حيث فشل غيره وتمكّنه من الإطاحة بعائلة الأسد بعد محاولات استمرّت على مدى ما يزيد عن العقد من الزمن. بينما جزم حزب ثالث بأنّ تولّيه زمام السلطة ما هو إلّا تمهيد وعلامة منذرة بقرب ظهور “السفيانيّ” الحقيقيّ.
وأيّا تكن المواقف والاحتمالات المقدّمة في هذا الخصوص، فالواقع أنّه لا يمكننا إنكار مقدار الراحة النفسيّة الّذي توفّره أفكار ومفاهيم من جنس ما ذكرنا لشعوب عايشت تاريخا طويلا من الانكسارات والهزائم، وما انفكّت تتعطّش لإنصافها وإنْ بصيغة “ميتافيزيقيّة” تقطع تماما مع المنطق المادّيّ لحدوث الأشياء.
ولنكن صريحين مع أنفسنا ونتعامل مع الأمر بشيء من الرصانة والموضوعيّة إذ نعترف بما تنطوي عليه محافظة شعوبنا على هكذا نمط فكريّ من معقوليّة وتناسق. فمن الخطل انتظار عكس ذلك ممّن لم يعتد تغيير حكّامه عبر آليّات مدنيّة وعمليّة سياسيّة واضحة المعالم، فيجد في الميتافيزيقا بديلا يستمدّ منه غطاء شرعيّة الانتقال من مرحلة سياسيّة وتاريخيّة إلى أخرى، لاسيّما وأن المنطق القدريّ مازال هو الغالب على نسق التفكير في المنطقة العربيّة الأمر الّذي سيؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة وعدم الاعتراف بالسببيّة قانونا يسيّر نظام الكون وأشيائه.
وتبقى القدرة على إدخال الشعوب في نفق استكانة قد لا يُرى أفق لنهايته إحدى أشدّ نتائج هكذا نمط فكريّ خطورة، فترى هذه المجموعات البشريّة تتنكّر جرّاء ذلك لإرادتها الحرّة وقدرتها الذاتيّة على الفعل بما يمكّنها من المسك بزمام مصيرها وتغيير مجرى التاريخ لصالحها.
والحقّ أنّه لا طائل من الاسترسال في تعداد أعراض الداء ما لم يتمّ تشخيصه وتحديد أسباب ظهوره خطوة أولى في سبيل علاجه، كذلك الشأن بالنسبة إلى الظاهرة الّتي نحن بصدد تحليلها في هذا المقال. فنحن إذ نستنكر محافظة شعوبنا على التفكير وفق نسق يتعارض مع متطلّبات واقعها، ولا يَعِدُ بتحقيق رهانات حاضرها، فإنّنا ننبّه إلى ضرورة الوعي بالأصل الّذي انبثقت عنه هذه الإشكاليّة ومثيلاتها. ولا يعدو هذا الأصل أن يكون في تقديرنا وعي الشخصيّة العربيّة المَرَضِيِّ بتراثها.
ومن شأن العودة إلى كتب التاريخ الإسلاميّ أن تقدّم لنا حقيقة مغايرة تماما لتلك التي وصلتنا عن مفهوم “السفيانيّ” وتبنّتها الذهنيّات دون نقد أو تمحيص. ذلك أنّنا نعثر على إجماع قلّ شيوعه بين قدامى المؤرّخين على ذكر تفاصيل ظروف تشكّل مفهوم “السفيانيّ” ومنزلته من التاريخ الإسلاميّ. حيث تفيدنا المعطيات بظهوره أوّل مرة في سنة 132 للهجرة باعتباره مُسَمّى لحركة معارضة سياسيّة شاركت فيها عدّة عناصر بهدف الإطاحة بدولة بني العبّاس الناشئة حديثا واستعادة المجد الأمويّ. وتبعا لهذه الأسباب وسمت الحركة المذكورة بـ”السفياني” نسبة إلى أبي سفيان والد معاوية مؤسّس دولة الأمويّين في دمشق، وتأكيدا لصبغتها السياسيّة واستهدافها مركز الخلافة القائمة آنذاك رفع أصحابها البَيَاضَ شعارا لهم وخلافا للسواد شعار الدولة العبّاسيّة.
ووفق هذا المنحى الأيديولوجيّ تواتر نشاطها، فظلّت تعاود الظهور بين الفترة والأخرى من تاريخ الدولة العبّاسيّة، مثال ذلك ظهورها فترة حكم الخليفة المأمون. أمّا عن حقيقة تقمّص شخصيّات بعينها صفة “السفيانيّ” فعائدة إلى اعتياد المتداولين على قيادة هذا الحراك اتّخاذها لقبا مميّزا لهم في كلّ مرّة يجدّدون فيها خروجهم على السلطة، تعبيرا عن تواصل ثورتهم وتأكيدا على وحدة مضامينها وثباتهم على ذات مبادئها، فيضمنوا مساندة من يوافقونهم.

امتلاك التراث
لقد بدا مفهوم “السفيانيّ” بهذا المعنى ترجمة لوقائع سياسيّة ورجع صدى لصراعات حدثت فعلا في زمن مخصوص وظروف مغايرة تماما لظروفنا. وإذ نأمل أن يخفّف هذا الاستنتاج من وطأة تأثير هذا المفهوم على الذهنيّة العربيّة، فإنّه لا يقلّل أبدا من خطورته على وضعنا الراهن، ذلك أنّه ما انفكّ يكشف عن استجابة للنفس الطائفيّ من منطلق امتلاكه قدرة دعم الموقف ومقابله.
وبالعودة مرّة أخرى إلى ردود أفعال روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ حول الأحداث في سوريا نعثر على موقف آخر من فكرة ظهور “السفيانيّ” لكنّه يَقْرِنُها هذه المرّة بمعاني الإنذار بحلول الخراب في المنطقة. وله على ذلك حجّتين؛ الحجّة الأولى مستندها الواقع السوريّ، وتتمثّل في حجم العنف والفوضى المستعرة هناك خلال الفترة الحاليّة ما يوهم بمصداقيّة ما ذهب إليه أصحاب هذا الموقف. أمّا الحجّة الثانية فمستمدّة هي الأخرى من التراث الدينيّ، وتتمثّل في أحاديث منسوبة إلى النبيّ من قبيل الحديث “يخرج رجل يقال له السفيانيّ في عمق دمشق، وعامّة من يتبعه من كلب، فيقتل حتّى يبقر بطون النساء أو يقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس فيقتلها (…) ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرّة، فيبلغ السفيانيّ، فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم.”
لا جدال في ما تحظى به النصوص الدينيّة، القرآن والسنّة، من احترام وتقديس في الوسط الإسلاميّ، ولأجل الحفاظ على هذه المكانة تحديدا وجب على المسلمين الحذر في التعامل مع ما يبلغهم من نصوص ينسب قولها إلى النبيّ على غرار الحديث الّذي أوردناه آنفا، إذ تبدو جليّة ترجمته للصراع الأمويّ – العبّاسيّ الّذي اتّخذ في جزء منه طابعا ثقافيّا، وتبعا لذلك لا نستبعد وضعه من طرف أصحاب الدولة العبّاسيّة.
لقد تطوّر مفهوم “السفيانيّ” في مرحلة موالية ليتّخذ دلالات “المخلّص”، ويتحوّل إلى رمز من رموز ميثولوجيا الإمامة، وهو ما سيمثّل تهديدا حقيقيّا لمركز الخلافة العبّاسيّة باعتبار قابليّته للانتشار بين البسطاء والعامّة واستغلاله لتجييشهم ضدّ السلطة القائمة. ولأجل هذه الأسباب سنجد بقيّة اللاعبين السياسيّين يوظّفون ذات الآليّة في سباقهم على السلطة.
ولهذا سنجد الشيعة يَعِدُونَ برجعة مهديّهم، فيُعيدُ الأمور إلى نصابها كما يتصوّرونها هم. بينما لن تبقى السلطة العبّاسيّة مكتوفة الأيدي بل ستنخرط بدورها في هذه اللعبة وتشيع بين الناس أنّ المهديّ منهم وليس من أبناء عمّهم الطالبيّين، وفي هذا السياق يأتي تخيّر الخليفة المنصور المهديّ لقبا لابنه ووليّ عهده الّذي سيتولّى من بعده الخلافة، وهو ما يمكننا إقامته دليلا على أنّ التراث منتج ثقافيّ سمته التاريخيّة فإذا أردنا فهمه وجبت علينا قراءته ضمن الواقع الّذي نشأ فيه على الحقيقة، ولا يذهبنّ في الظنّ أن هذه دعوة للقطع مع التراث، بل لامتلاكه سبيلا لاستعادة توازننا وتحوّلنا إلى الانخراط الإيجابيّ في الحضارة الإنسانيّة.
***
نسرين بوزازي - باحثة تونسية في الحضارة الإسلامية
عن صحيفة العرب اللندنية، يوم: الأحد 2025/03/23

يشكو العديد من طلبة الفلسفة من وعورة درب الفهم للفلسفة الظاهراتية، وبخاصةٍ فلسفة الألماني إدموند هوسرل، مع أنها بغاية البساطة.
إن فينومينولوجيا هوسرل تقوم على حدس الماهيات خلافاً للعلوم التجريبية الأخرى، التي تقوم على وقائع، لذلك يصر هوسرل على ضرورة تحقيق الفلسفة الترانسندتالية لا بروح نظرةٍ عامة، بل بروح علمٍ دقيق متوجه نحو فكرة الصحة المحددة، معتبراً قبول المذهب الطبيعي كمثلٍ أعلى من أجل إقامة فلسفة علمية يحقق وعياً زائفاً، لأن الفلسفة لديه يجب أن تكون أكثر دقةً من العلوم، التي تتميز عنها بالانطلاق من دون افتراضاتٍ سابقةٍ تنأى عن السؤال بحجّة الوضوح.
الترانسندتالية حركة فلسفية ودينية معاصرة تعارض فلاسفة القرن الثامن عشر، وترى أن كل تجربة مهما صغرت، تقودنا إلى ما يكشف عن الكون بأسره. وظاهرية هوسرل تختلف عنها لدى هيغل، مع امتيازه بقراءة التراث السابق عليه: «لذلك نجده يقرأ التراث الفلسفي قراءةً شديدة الانتقاء: تفضيلٌ مطلقٌ لأفلاطون من القدامى، وتمييزٌ لديكارت بمقام السبق والتأسيس لدى المحدثين، ثم تنويهٌ بطائفة من الفلاسفة مثل هيوم ولوك ولايبنتز وكانط، وتبجيلٌ للفيف من معاصريه تبجيلاً خاصّاً: برنتانو، أفيناريوس، ديلتاي، هربارت، لوتسه، ماينونغ، بولزانو… فالفينومينولوجيا قد سبق إليها هؤلاء جميعهم بما حدسوا به من معانٍ وأغراض فلسفية قريبة مما أقر به، ولا سيما من حيث النفور من كل أشكال الميتافيزيقا التأملية، والبناءات المجردة التي لا أساس لها في المعطيات المباشرة للتجربة»، كما يصفه ذلك فتحي أنقزو وهو شارحٌ مهم لفلسفة هوسرل ومرجعٌ في بابه.
«العودة إلى الأشياء عينها» هذا ما لا يتحقق بالموقف الطبيعي، وينقضه هوسرل في كتابه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» بقوله: «في الموقف الطبيعي نحقق ببساطة، كل الأفعال نحققها بالأفعال التي بفضلها يوجد العالم بالنسبة إلينا، ونعيش على نحوٍ ساذج في الإدراك والتجريب، وفي هذه الأفعال التي تظهر لنا فيها هويات الأشياء والتي لا تظهر فيها فحسب بل هي تعطى لنا بطابع الموجود، والواقع الفعلي، إننا نحقق خلال ممارستنا للعلم الطبيعي أفعالاً فكرية منتظمة منطقياً-تجريبياً، أفعالاً تكون فيها هذه المعطيات معطاة، وتكون مأخوذة كحقائق محددة، بمقتضى الفكر، وفيها كذلك على أساس مثل هذه الأشياء المفارقة التي جربت وحددت مباشرةً نستنتج أشياء مفارقة جديدة، أما في الموقف الظاهرياتي، فإننا نعطّل بمقتضى الكلية المبدئية تحقيق مثل هذه الأوضاع الفكرية، أعني أن ما تحقق نضعه بين قوسين، فلا ندخل هذه الأوضاع في البحوث الجديدة وبدلاً من أن نعيش فيها وأن نحققها بمنطق الموقف الساذج نجري عليها أفعال التفكر الموجهة إليها، فندركها هي ذاتها بصفتها الوجود المطلق الذي هي إياه.
والآن نحن نعيش بإطلاق في مثل هذه الأفعال التي هي من الدرجة الثانية، والتي يكون معطاها المجال اللامتناهي للتجربة المطلقة -مجال الظاهراتية الأساسي».يتجلى منهجه الظاهراتي بالآتي: «إننا لا نقصد أبداً أن نكتفي بمجرد الألفاظ، أعني بمجرد فهم رمزي للألفاظ كما هو الحال بادئ الأمر في تأملاتنا في معنى القوانين الموضوعة في المنطق المحض، إن غرضنا هو العودة إلى الأشياء نفسها».
الخلاصة، أن نظرية هوسرل أثرت على كل الجيل اللاحق من بعده، وذلك لسببين اثنين، تبرئة الفلسفة من الحشو الكبير، وثانيهما القدرة على إيقاع زلزال جعل الفلسفة قبل نظرية هوسرل شيئاً، وما بعد نظريته شيئاً آخر.
الدافع الرئيس لهوسرل: «لا يتأتّى من الفلسفات وإنما من الأشياء والمشكلات. إن الفلسفة في ماهيتها هي علم البدايات الحقيقية، أو علم الأصول»، ولذلك يصرّح في كتابه المؤسس: «مباحث منطقية -مقدمات في المنطق المحض» على انتقاله من «صوري الحساب» و«صوري المنطق» لأسئلةٍ أكثر أساسية، بصدد ماهية صورة المعرفة بافتراقها عن مادة المعرفة، وعن معنى الفرق بين التعيينات والحقائق والقوانين الصورية (المحض) منها والمادية، و«حتى يكون ثمة علم، يجب أن يكون ثمة وحدة معينة في تعالق التعليلات، ووحدة معينة في تراتبها».
***
فهد سليمان الشقيران – كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 مارس 2025 23:45

 

في عالم يزداد تعقيداً، حيث تتزاحم النزعات المادية مع التوجهات العقلانية الجافة، يصبح البحث عن بوصلة روحية أمراً لا مفر منه. لا يُطلب من الإنسان أن يعيش في عزلة زاهداً، ولا أن يغرق في واقع لا روح فيه، بل يحتاج إلى منهج يجمع بين التزكية القلبية والانضباط الشرعي، بين العمل الدنيوي والتجربة الروحية.
ومن هنا يأتي التصوف، لا كملاذ هروب من الواقع، بل كمدرسة تسعى إلى تهذيب النفس، وتهذيب الفكر، وإعادة توجيه الإنسان نحو ذاته الحقيقية. لم يكن التصوف في أبهى تجلياته إلا طريقاً للصفاء والتوازن، كما جسّده كبار الأولياء الذين لم يغرقوا في التأملات المجردة، بل كانوا مصلحين، وعلماء، ومرشدين للمجتمع.
عندما نتحدث عن التصوف المنضبط، لا بد أن نبدأ بذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي مثّل نموذجاً فريداً في الجمع بين العلم والعمل، الزهد والمجاهدة، التربية والإصلاح. لم يكن الرجل مجرد شيخ طريقة، بل كان عالماً فقيهاً، خطيباً مفوهاً، يواجه الغلو والانحراف بالقرآن والسنة. في بغداد، لم يكن مجلسه مجرد ملتقى للذكر، بل كان مدرسة لإحياء القلوب، وتنقية العقول، وتطهير السلوك. كان يؤكد دوماً أن التصوف ليس تحلّلاً من الشرع، بل امتثال أعمق له، ينطلق من ظاهر الشريعة إلى باطن الحقيقة.
كان يحذر من التصوف الذي يُقصي العقلَ أو يبرر الجهل، وكان يرى أن التصوف الحق هو ذلك الذي يقيم ميزان القلب والعقل معاً. في المغرب، على ربى جبال الريف، عاش الشيخ عبد السلام بن مشيش، الرجل الذي ترك أثراً عميقاً رغم قلة ما نُقل عنه. كان صوفياً متجذراً في القرآن والسنة، منفتحاً على العالم دون أن يتخلى عن يقينه. لم يكن زاهداً منعزلاً، بل كان مربياً ومرشداً، تتلمذ على يديه الإمام أبو الحسن الشاذلي، الذي سيحمل راية التصوف السني المتزن في العالم الإسلامي. كان ابن مشيش يرفض الإفراط في التأويلات الغامضة، ويرى أن أقرب الطرق إلى الله هو السير في نور الكتاب والسنة.
وبهذا التوجه، أسس لمنهج في التصوف يجعل التقوى أصلاً، والمعرفة سلاحاً، والوسطية طريقاً، دون أن يغرق في ظلام الجمود أو أن يتوه في فضاءات الغلو. أما في مصر، فقد كان الشيخ أحمد البدوي مثالاً آخر على هذا التصوف المنضبط الذي يجمع بين التأمل الروحي والانخراط في قضايا الأمة. لم يكن مجرد شيخ في زاوية منعزلة، بل كان رمزاً للمقاومة الروحية، وبناء الشخصية المسلمة القوية. لم تكن طريقته انسحاباً من الواقع، بل كانت مدرسة للتهذيب النفسي والاستقامة الأخلاقية. كانت حياته دليلاً على أن التصوف الحقيقي لا يعني السكون، بل هو حركة مستمرة نحو الله، وإصلاح دائم للنفس والمجتمع. لذا، ظل البدوي إماماً روحانياً، وقائداً أخلاقياً، ومنارةً للهداية في مصر وما حولها. ما يجمع هؤلاء الأولياء هو أنهم لم يجعلوا التصوف مجرد مشاعر وجدانية معزولة، بل حولوه إلى مسار متكامل يمزج بين المعرفة، والعمل، والإصلاح. كانوا يرون أن التصوف ليس بديلاً عن الفقه، بل هو عمقه الأخلاقي، وليس بديلاً عن العقل، بل هو تكميله الروحي. كانوا يعلمون أن المجتمع لا يصلح إذا طغى فيه التصوف المنحرف الذي ينفصل عن النصوص، ولا إذا غاب التصوف تماماً فصارت الروح فارغة من المعنى. ولذا، أصبح منهجهم مرجعاً لكل مَن يبحث عن إيمان عميق لا يلغي العقل، وروحانية صافية لا تنفصل عن الشريعة.
إن حاجة المجتمعات اليوم إلى التصوف المنضبط تتجاوز مجرد البحث عن السكينة الفردية، بل تمتد إلى إيجاد منظومة فكرية وروحية قادرة على مواجهة الأزمات. لقد أثبت التاريخ أن الأمم التي لا تمتلك بعداً روحياً متوازناً تسقط في أحد نقيضين: إما الجمود الذي يخنق الإبداع، أو الانحلال الذي يضيع الهوية. بين هذا وذاك، يظل التصوف الحقيقي صمام أمان يحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الإيمان والعقل، بين الفرد والمجتمع. وكما فعل الجيلاني وابن مشيش والبدوي، يبقى التحدي اليوم هو أن نعيد إحياء هذه الروح الصaوفية بمنهج يجمع بين صفاء القلوب ووضوح العقول.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 مارس 2025 23:34

أرى أن الدين ضرورة روحية لا تخضع للواقع التجريبي، وله مكان في كل زمان ومكان وهو جيني في كل إنسان. وإن لم يؤمن الفرد بدين فهو يؤمن بفكر أو توجه آخر. وتفسير البشر للأديان التقليدية وماذا فعلوا بها ونسبوه إليها عبر كل الأوقات جعلهم محاصرين بين قيد المقدّس وفضاء الممكن، ليتجاذب العقل الديني تياران متصارعان: أحدهما يدفعه نحو الإبداع والاكتشاف، والآخر يشده إلى التحريم والتقييد. وهذه الثنائية ليست جديدة بل تمتد جذورها عميقاً في التاريخ، حيث تشكلت العقلية الدينية عبر تراكمات ثقافية ودينية واجتماعية انطلقت من البيئات المحلية لتجعل التحريم أداةً مركزية في تنظيم الفكر والسلوك. وأصبح التحريم جزءاً من السياسة، وحل محل الكثير من القيم الأخلاقية أكثر من كونه ضرورةً اجتماعيةً وروحيةً، وهو ما ينطبق على معظم الديانات والطرق الروحية بغض النظر عن اشتراطات المحرمات فيها.
وبالمقابل ليس كل تحريم سلبياً في أي مجتمع، وهناك محرمات وظيفية تضمن تماسكه مثل تحريم القتل والسرقة والخيانة، وهي محرمات نزل بها تشريع قرآني واضح وتحرمه كل الديانات. والمعتقدات الروحية تخدم غرضاً أخلاقياً وقانونياً، فهي ليست مجرد قيود بل أدوات لضبط التفاعل الاجتماعي وضمان استقراره، وفي هذا السياق يُمكن اعتبار التحريم شكلاً من أشكال «التحكم الذكي»، حيث يُوظَّف للحفاظ على النظام الاجتماعي وحماية القيم الجوهرية. لكن الإشكالية تبدأ عندما يصبح التحريم أداةً للهيمنة الفكرية، وليس مجرد وسيلة لتنظيم المجتمع.
وهنا يتجلى الصدام بين «التحريم الوظيفي» و«التحريم الأيديولوجي»، حيث يتحول الأخير إلى منظومة مُغلقة تُعرقل التساؤل والابتكار وتحاصر الإنسان في دائرة الخوف والتقليد، ويتداخل المقدس بالدنيوي بطريقة تجعل أي محاولة لإعادة التفكير في المسلّمات محفوفة بالمخاطر، وهناك ميل متزايد إلى «تحريم السؤال» قبل «تحريم الفعل»، مما يؤدي إلى تكوين بنية ذهنية ترى تهديداً في كل جديد وانحرافاً في كل اختلاف.
والديانات في نسخها العصرية وتفاسيرها المتعددة كانت تلبس ثوب التحضّر وتستخدم أكثر التقنيات تقدماً، ولديها بعد معرفي مهيب إلّا أنها تقتاد بعقيدة دينية، وخاصةً في الحكومات والأحزاب السياسية التي لديها أجندات دينية مؤثرة وإن كانت غير معلنة. إذاً التحريم هنا ليس مجرد نص ديني بل هو بنية نفسية واجتماعية متغلغلة، وكثيرون لا يرفضون الأفكار الجديدة لأنها غير منطقية بل لأنهم تعلموا أن الاقتراب من «الأسئلة المحرمة» قد يجر عليهم العزلة أو الرفض الاجتماعي، وبهذا الشكل يتحول التحريم إلى جدار يمنع حتى التفكير في تجاوز الجدار نفسه. وفيما يتعلق بالتعامل مع «المقدّس» بوصفه شيئاً ثابتاً لا يتغير، يتجاهل المؤمنون بذلك المقدّس أن المفاهيم المقدّسة نفسها قد مرت عبر التاريخ بتحولات كبيرة، حتى في الأديان التي تبدو جامدة ظاهرياً. والمشكلة ليست في وجود المقدّس بل في تجميده وتحويله إلى نصوص غير قابلة للنقاش، بينما الأصل أن كل نص يخضع لعملية تأويل مستمرة تتناسب مع تغيرات الزمان والمكان.
وإذا ما أراد العقل الديني صاحب التوجه الإقصائي، أو حتى ذلك العقل الذي ينادي بالسلام والمحبة أن يتحول، ولكن جذوره الفكرية لا تقبل الآخر والاختلاف، فعليه أن ينتقل من «ذهنية التحريم» إلى «ذهنية القبول»، وهذا لا يعني الفوضى أو نفي القيم، بل يعني إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والفكر بحيث يصبح السؤال مشروعاً، والاختلاف مقبولاً والتغيير جزءاً من الحياة، وبذلك لا يفقد التحريم وظيفته الأخلاقية ويصبح أداةً للتخويف، أو يتحول إلى سجن فكري يُنتج جيلاً يخاف التفكير أكثر مما يخاف الجهل نحو عقد اجتماعي جديد: ينظم كيف نتحرر من دون أن ننفصل، ناهيك عن إخضاع الثوابت الدينية التي ألفها البشر للبحث المضني، وتفريقها عن الموروث والعرف والثابت الثقافي والاجتماعي، وكما قال ابن رشد: «الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».
***
سالم سالمين النعيمي – كاتب اماراتي
عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 مارس 2025

 

في سياق الموجة المحافظة الجديدة التي تعرفها راهناً الولايات المتحدة، نقرأ التمييز الذي يقدمه نجم التقنيات المستقبلية الأميركي إيلون ماسك بين ما يسميه التقدم الذي يحصره في حركية الإبداع العلمي والتكنولوجي، وبين «الأيديولوجيا التقدمية» التي ترتبط لديه بأفكار اليسار «العدمية» التي تستهدف بالهدم والنسف قيمَ الأسرة والدين والهوية الاجتماعية.
لهذا التمييز جذور نظرية وفكرية قديمة، تعود إلى عصر الأنوار ذاته، والذي ارتكز على مثال «التقدم». ولا ننسى أن أحد أهم فلاسفة التنوير، وهو جان جاك روسو، اعتبر أن الوضع الأخلاقي المثالي للبشر هو «حالة الطبيعة» السابقة على القيم الحداثية والنظم الاجتماعية المعاصرة. كما أن الفيلسوف الانجليزي إدمون برك وقف ضد الثورة الفرنسية عند قيامها، رغم أفكاره التنويرية الإصلاحية، معتبراً أن أفكار الحرية المجردة يمكن أن تكون أداة قوية للاستبداد والتحكم المطلق، لما تؤسسه من وهم إمكانية إعادة بناء الأفراد والمجتمعات والقطيعة مع مسلماتهم العقَدية والقيمية التي هي مقوم هويتهم العينية الحقيقية.
ونفس الفكرة نجدها لدى الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة ارندت في نقدها للنزعات الاستبدادية المعاصرة مثل النازية والستالينية، باعتبارها تهدم مقولة «العالم المشترك» الذي هو أفق التعددية والترابط بين البشر، وتكرس القطيعةَ مع التقليد الذي هو إطار الاستمرارية التاريخية وشرط التأويلية المفتوحة.
فليس إذن نقد أيديولوجيا التقدم بالجديد في الفكر الغربي الحديث، ولا هو دليل الخروج عن أفكار الديمقراطية والتنوير، بل يمكن التمييز داخل التقليد الأنواري بين تيار تاريخاني تفكيكي يقوم على أدوات الفصل والقطيعة (التي تم استيرادها من تاريخ العلم والفكر الابستمولوجي)، وتيار محافظ يرى أن مسار الحريات العامة لا بد أن يراعي محددات الهوية والتقليد التي هي في نهاية المطاف ثوابت تعصم من التسلطية الفردية والتفكك العدمي.
قبل سنوات أصدر المفكر الهندي «بنكاج مشرا» كتاباً هاماً بعنوان «عصر الغضب: تاريخ الحاضر»، ذهب فيه إلى أن العالَمَ يعيش حالياً انحسارَ «أيديولوجيا التقدم»، بما ينعكس في موجة الغضب الاحتجاجي العارم ضد النموذج «الحداثي الغربي» في مناطق واسعة من المعمورة، بل داخل قطاعات هامة من المجتمعات الغربية نفسها (الحركات الشعبوية القومية الصاعدة في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية). وبالنسبة لمشرا، لم يعد بالإمكان الرهان على نموذج التقدم الصناعي والتقني لتحقيق حاجات المجتمعات التنموية، بعد أن ظهر أن هذه الحركية عاجزة عن بلوغ أهدافها الأصلية، في الوقت الذي هدمت الأنساق الأيديولوجية والبنيات التقليدية التي كانت توفر للأفراد مصادرَ رمزية ومعيارية تعينهم على التعامل الإيجابي مع واقعهم ووجودهم.
وبالرجوع إلى الأدبيات ما بعد الكولونيالية ذات التأثير الواسع في الفكر الهندي، يبين مشرا أن تجربة التحديث «العنيف» في العهد الاستعماري واكبتها في المجتمعات غير الغربية حالات فظيعة من العبودية والإبادة الجماعية التي تقنِّعها مُثُلُ الحرية الفردية والديمقراطية الليبرالية والرأسمالية المفتوحة. ووفقاً للمؤلف، لا يبدو مجدياً الرهانُ على تدارك الغرب المتقدم الذي استطاع فرض نظام يؤمّن استمراريةَ تحكمه في العلاقات الاقتصادية الكونية بما يضمن مصالحه ويُبقي على الأمم الأخرى في وضعية التبعية والتخلف.
بيد أن مشرا يرفض تصنيف هذه الموجة الاحتجاجية ضد النموذج الغربي بصفتها صراعاً حضارياً كما يعتقد بعض الكتاب والمفكرين المعروفين، بل يرى أنها تعبّر عن تناقض داخلي في ديناميكية التنوير نفسها التي لا تزال تشكل الإطارَ التصوري والمعياري لكل مقاربات الحداثة الكونية.
لا أحد في العالم - باستثناء الحركات الراديكالية المتطرفة - يدعو للقطيعة مع قيم التقدم الفكري والاجتماعي، لكن لا بد من الإقرار أن تركة التنوير تطرح راهناً إشكالاتٍ عصيةً، حتى داخل الساحة الغربية نفسها.
منذ روسو وهيغل، بدأ التنبه إلى ما تفضي إليه الأفكار المجردة حول الحرية والذاتية من تأجيج عزلة الإنسان عن الطبيعة والمجتمع، بما يترجم اليوم في النزعات المتنامية التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للهويات التضامنية العضوية المستندة إلى المعتقدات الجماعية والتقاليد الثقافية والتاريخية.
إن هذا الحوار الداخلي في المجتمعات الغربية، يوازيه حوار مماثل في العوالم غير الغربية حول أنماط الحداثة البديلة (كما تطرحها الأدبيات ما بعد الكولونيالية في الهند وأميركا اللاتينية وآسيا الشرقية)، وهنا يغدو السؤال المطروح هو حول مدى القدرة على استيعاب حركية التقدم التقني والصناعي ضمن قوالب حضارية ومجتمعية مختلفة ومغايرة.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
16 مارس 2025 23:51

«النوستالجيا» Nostalgia كلمة شائعة في معظم اللغات الأوروبية باعتبارها مستمدة من أصل يوناني قديم، وهي تعني في العربية «الحنين»، وبذلك فإنها تشير إلى مفهوم بالغ الاتساع وشائع أيضًا في كثير من الأدبيات الخاصة بالعلوم الإنسانية. ولذلك فإنني لا أريد أن أتطرق إلى شيء يتعلق بهذا المفهوم في إطاره النظري، وإنما أريد أن أقتصر في مقالي هذا على تناوله من حيث هو خبرة شعورية واعية، في نوع من التحليل الذي هو أقرب إلى التحليل الفينومينولوجي (الظاهراتي) للخبرات الشعورية.
أشهر ظواهر أو تجليات هذه الخبرة تتمثل في شعور «الحنين إلى الوطن»، وهذا هو المعنى الحرفي المباشر للجذر اللغوي للكلمة المركبة في أصلها اليوناني. ولكن الكلمة لها أيضًا ظلال من المعاني المرتبطة بحالة «الألم المقترنة بالحنين إلى الوطن»؛ فالحقيقة أن الشعور بالحنين هنا هو خبرة شعورية عميقة تنطوي على نوع من المعاناة المقترنة بمشاعر الافتقاد والاشتياق والتوق.
وتلك مشاعر شائعة يعرفها أكثر الناس حينما يعانون هذه الخبرة في الغربة عن الوطن. غير أن هذا الشعور يتمثل على نحو أكثر خصوصية في الحنين إلى الموطن أو الحي الذي نشأنا فيه، والحنين إلى البيت الذي نسكنه، بل إلى أركان معينة من البيت أحيانًا (ولعلنا نذكر في هذا الصدد خبرة التوق هذه حينما نتردد أحيانًا على الفنادق الفارهة التي نسكنها في بلدان بعيدة: إذ إننا نتوق أيضًا إلى فراشنا الأصلي الحميم مهما كانت رفاهية فراش الفنادق، وهو الفراش الذي لا نكاد حتى نذكره بعد أن نفارقه!). وهذا كله مما يدخل في إطار «جماليات البيت» التي تناولها جاستون باشلار في كتابه الشهير «جماليات المكان»، وفي إطار جماليات العيش أو السكن والإقامة في فلسفة هايدِجر.
ولعل هذا يذكرنا بتلك الصلة الحميمة بين هيدجر وكوخه، وهو ما جعله لا يحتمل البقاء في أرقى المناصب الأكاديمية في المدينة، ليعود إلى كوخه الحميم الكائن في «الغابة السوداء» بألمانيا: تلك البقعة من الأرض الأثيرة لديه، والتي أثرت كثيرًا في رؤيته الفلسفية للوجود والعيش. وهذا يعني ارتباط الزمان بالمكان في خبرة الحنين إلى الموطن، وهو ما يعني في النهاية ارتباط جغرافيا الأرض والمكان بالتاريخ؛ فالجغرافيا لا يمكنها فهم الأرض أو المكان بشكل مجرد من أساليب العيش فيه).
***
السؤال الذي ربما يطرأ على الأذهان الآن، هو: هل يمكن التماس هذه الخبرة أيضًا في عوالم لا إنسانية أخرى من قبيل عالم الحيوان على سبيل المثال. يمكننا أن نتعرف على ذلك من خلال الخبرة أيضًا، أعني إذا كانت لدينا خبرة أو مشاهدات حية ما لعالم الحيوان. يمكننا أن نلاحظ من خلال مشاهداتنا لسلوك الحيوانات في هذا الصدد، ومن خلال ما نقرؤه عن مَلَكاتها الإدراكية، أن هذه الخبرة لا تُوجد إلا لدى الحيوانات العليا، أعني تلك الحيوانات التي يكون لديها قدرة ما على الإدراك والشعور والحياة الاجتماعية.
ونحن نلاحظ ذلك في حالة الشمبانزي على سبيل المثال حينما نشاهد سلوكياته في حدائق الحيوان، حيث نجده غالبًا متأملًا حزينًا وكأنه يتوق إلى موطنه الأصلي الذي كان ينعم فيه بالحرية والدفء العائلي. كما أننا نلاحظ ذلك أيضًا في سلوك بعض الكلاب الأصيلة؛ ولذلك يعرف مَن قاموا بتربية بعض من نوعية هذه الكلاب أنها لديها الذاكرة والشعور؛ وبالتالي فإنها لديها وعيًا ما بالزمان والمكان، ولنقل على نحو «بالمكان الزماني»، أعني «بالمكان الأليف».
وربما يزيد قائل علينا بقوله: بل إننا يمكن أن نلاحظ ذلك أيضًا خارج عالم الحيوان، كما في عالم الأسماك. أفلا نلاحظ ذلك- على سبيل المثال- في هجرة أسماك السالمون أو عودتها إلى موطن نشأتها، بأن تقطع آلاف الأميال عبر المحيط لكي تصل إلى الأنهار الدافئة التي يمكن أن تتوالد فيها قبل أن تجوب المحيط من جديد؟!
لكن السؤال الذي يبقى بعدئذ أكثر أهمية وإلحاحًا، هو: ما الفرق بين الإنسان والحيوان هنا، أعني فيما يتعلق بخبرة الحنين؟ الحقيقة أنه على الرغم من كل ما ذكرناه من وشائج قربى في الحالتين، باعتبار أن بعض الحيوان ليس عاريًا عن الإدراك، ومن ثم عن شكل ما من أشكال الوعي- على الرغم من ذلك، فإن هناك فرقًا كبيرًا بين الحالتين: لأن الحنين في حالة الحيوان يكون مرتبطًا بالحنين إلى المكان أو الأشخاص الذين ارتبطوا في ذهنه بالمكان الذي كان يفي بالوفاء بحاجاته الفسيولوجية وبغريزته وبأمنه في البقاء.
ويتضاءل هذا الارتباط بالمكان كلما هبطنا في سلم الموجودات الحية، بحيث يتحول هذا الارتباط إلى نوع من الارتباط الغريزي بالمكان الذي يمكن من خلاله حفظ النوع واستمراره، وهذا ما نجده في هجرات بعض الحيوانات والطيور والأسماك إلى أماكن معينة في أوقات معينة من السنة معلومة لديها.
لا شك في أن التحليل الوارد في هذا المقال يعلِّمنا ألا نقلل من شأن الحيوان كما لو كان عاريًا عن أية مشاعر وعواطف وإدراك. ومع ذلك، فإننا ينبغي أن نعترف في الوقت نفسه بأن خبرة الحنين تظل «خبرة زمانية واعية» في عالم الإنسان وحده، أعني خبرة تظل ماثلة في الوعي الإنساني باعتبارها خبرة وجودية قد يعايشها في حاضره، ويمكن أن يستدعيها لتأمله في أزمنة وأمكنة مختلفة. وهذا هو فحوى تأويلي لظاهرة أو خبرة الحنين.
***
د. سعيد توفيق
عن جريدة عُمان، يوم: 11/3/2025م

 

مظاهرة وميدانُ صراعٍ ومكتبة

عندما شرعتُ، منتصف ستينات القرن العشرين، في قراءاتي الأدبية والثقافية العامّة، كان الجوّ الثقافي العام مشحوناً بذائقة سارترية طاغية عزّزتها منشوراتُ الفلسفة الوجودية وبعض مفاعيل الحرب الباردة التي وظّفت الماركسية والرأسمالية في مطحنتها المفاهيمية التي اتخذت منحى أقرب إلى المعارك الحزبية السقيمة التي أعلت شأن التوظيف الآيديولوجي، حتى لكأنّه صار أقرب لعُصاب جماعي. كانت الترجمات الروائية الشائعة تحاكي أصداء الحرب الباردة في جانبيها الآيديولوجي (الصلب) والثقافي (الناعم)، وهي في مجملها جاءت توظيفاً لمفهوم أنّ الأدب سلاحٌ فكري ولا ينبغي له أن يتعالى على المعيش اليومي. لم تكن ممكنات الاطلاع على المنشورات الحديثة حينذاك سهلة ميسّرة كما هو الحال اليوم، ولم يكن لأبناء جيلي سوى الاطلاع على ما تضخّه دورُ النشر من مطبوعات لم نكن نعرف حينذاك الدهاليز الخلفية التي عملت كرافعة لجعلها تتقدّمُ العناوين المنشورة الطاغية، وربّما كانت رواية «الشيخ والبحر» لهمنغواي خروجاً على القانون الآيديولوجي السائد.
وحدها الروايات الروسية المكتوبة في الحقبة القيصرية (دوستويفسكي وتولستوي) ظلّت محافظة على رونقها وجمالها وقدرتها التأثيرية ومقاومتها الخضوع لاشتراطات الحرب الباردة. حتى رواياتُ بواكير الحداثة الروائية (فيرجينيا وولف، جيمس جويس، ويليام فوكنر...) لم تكن ترجماتها العربية شائعة حينذاك. كان الجو الثقافي العام مُحاطاً بسحابة آيديولوجية ثقيلة تربّع سارتر على قمّتها بمنشوراته الفلسفية العسيرة ومنشوراته الأدبية الأقل عسرة والأكثر شيوعاً من نظيراتها الفلسفية. إنّ المرء ليعجب كيف أنّ عقلاً يحسب نفسه ذا فرادة فلسفية مميزة ينخرطُ في دعوات حزبية ضيّقة، مثلما فعل سارتر؛ لكنّما طغيانُ مشهد تعضيده للثورة الشبابية أواخر الستينات كان فيصلاً في رفع سارتر إلى أعالي الهرم الثقافي السائد. الصورة المشهدية تتقدّم على الأفكار المكتوبة في غالب الأحيان، خصوصاً في عصر لم تكن المعرفة اللحظية المقارنِة متاحة. أظنُّ أنّ أعمال (سيمون دي بوفوار) الأدبية كانت أفضل من أعمال سارتر. هكذا رأيتُ الأمر حينها، ولم أزل أراه هكذا حتى اليوم. لم تكن بوفوار مسكونة بحمّى الآيديولوجيا مثلما فعل سارتر، وكانت أكثر حساسية منه لمكابدات الإنسان الوجودية ومعضلاته ذات الطبيعة الفردانية. الإنسان في النهاية ليس رقماً في حشد بشري، مثلما هو الحال في بعض السجون حيث يُختزَلُ السجين برقم مجرّد.
سمعتُ ببورخس أوّل مرّة، نهاية ستينات القرن العشرين وأوائل سبعيناته. أعترفُ بأنّني لم أجد استئناساً في كتاباته. يبدو أنّ طغيان لون ثقافي سائد يستبدُّ بالمرء ويجعل بوصلة ذائقته الأدبية تتّجه نحو مقاربات مشخّصة - أو قريباً منها في الأقلّ - وتحجّمُ رغبة التجريب لديه. هذا أمر طبيعي نختبره جميعاً في غير طور من أطوار حياتنا. أظنُّ أنّ واحدة من أهمّ خبراتنا التي نتعلّمها بمران قاسٍ «ألا نكتفي بقراءة الكتاب من عنوانه» أوّلاً، وألا نجعل خبرات آخرين ضوءاً دليلياً لنا نهتدي به من غير مساءلة جادّة. لا بديل عن الخبرة الشخصية المسندة بقراءات فردية متعدّدة. حصل، مع السنوات وتعاظُم مناسيب الخبرة وتعدّدية روافد التجربة الشخصية، أن تغيّرت رؤيتي لبورخس.

أعترفُ بأنّني لستُ كائناً بورخسياً؛ لكنّني أحبُّ المقاربة البورخسية في كتابة لون سردي، هو مزيج من مقالة وأطروحة فكرية وتوظيفات تاريخية وفنتازية مدهشة باتت خصيصة للكتابة البورخسية. معالم الكتابة البورخسية مشخّصة ومعروفة: الاختزال حدّ التقشّف، واللعب مع الأفكار الخالصة، وحصر الفعالية السردية في نطاق مكاني محدّد، ونزعُ الخواص البيولوجية عن الشخوص وتحويلهم إلى كيانات رمزية عابرة لمحدّدات الزمان والمكان والبيئة والجغرافيات العرقية حتى لو أوهَمَنا بورخس بأنّه يتناولُ كيانات مشخّصة بالاسم والصفات، ثمّ أهمّها جعلُ السرد لعبة ذهنية خالصة، وكأنّه يريدُ القول إن الكلمات والأفكار تتعالى على أفاعيل الحياة الساعية لمقاصد نفعية آنية. لم يخالف بورخس مقاصد كتابته عندما تصوّر الفردوس مكتبة كبيرة يستأنسُ المرء فيها بالأفكار. التسويغ المباشر لهذا المنحى من الكتابة لدى بورخس أنّه يمثلُ حالة متفرّدة بين الكُتّاب ترقى لأن تكون دراسة حالة (Case Study)؛ فقدان البصر الكامل لديه منذ منتصف خمسينات القرن العشرين جعلت منه كائناً يرى العالم كلّه وهو محشورٌ داخل جمجمته! ومن البديهي أنّ من لا يرى العالم مشخّصاً بعينيه لن يجعل من محسوسات هذا العالم ركناً مكيناً من أركان فعاليته السردية. سيعتاشُ على الأفكار وما تخلقه من تداعيات فحسب. لستُ أرى هذا التسويغ رغم معقوليته مناسباً أو صالحاً للمثال البورخسي، ولستُ هنا في معرض مناقشة هذه الأسباب التي تراكمت محفّزاتها لدي بعد تفكّر ومساءلة ومقارنة وجهد تنقيبي هو بعضُ محاولتي لدراسة تاريخ الفن الروائي وفلسفته وآليات عمله. أكتفي بالقول إن المقاربة البورخسية خصيصة أصيلة لدى بورخس بمثل أصالتها لدى كثرة من الكّتّاب والقرّاء.

بورخس يمثلُ الضديد الآيديولوجي لسارتر، فقد أعلى شأن الفردانية في الممارسة الأدبية ولم يجعلها مرتهنة بالحسّ الجمعي أو الإلزامات السياسية أو التحزبات الآيديولوجية أو إعلاء شأن العام على الخاص. يمكنُ للمرء أن يكون له صوتٌ منافحٌ عن الإنسانية والمظلومية البشرية؛ ولكنْ من غير أن يجعل هذا الصوت صادحاً في ملعب الرواية أو الأدب بعامة. يمكنُ أن يكتب المرء عن معضلة شخصية قد لا يعانيها سواه، ويمكن لهذا النمط من الكتابة أن يكون رفيعاً ذا قيمة وجودية وسموّ فلسفي أكثر بكثير مما تفعل روايات المآسي الجمعية. لن يرتاح المرء لأن يكون رقماً غير محسوس في متاهة الوجود البشري، مثلما لن يرتاح لأن تضيع تجربة وجوده البشري المتفرّدة عن سواها وتنتهي هباءة في العدم.
ثمّة ضديدٌ روائي آخر لكلّ من بورخس وسارتر: إرنست همنغواي. يبدو لي همنغواي كائناً غاطساً في العالم ولا يطيق المكوث لساعة واحدة بمفرده، وهو يجد راحته العميقة عندما يزداد غطساً في مياه التجربة الحسّية من غير إثقال عقله بأي أفكار أو تداعيات فلسفية أو مترتّبات اجتماعية لما يرى. العالم لديه ميدان صراع يسوده العنف الطاغي، ويستوي في هذا ميدانُ حرب ضروس أو حلبة صراع ثيران قاتلة أو مغالبة البحر الهائج وانتزاع سمكة من مخالبه.
لطالما فكّرتُ فيما يصلح أن يكون تاريخاً تطوّرياً للذائقة الروائية الفردية. ربما سيكون من المفيد تصويرُ هذا التاريخ بخط مستقيم يتموضع سارتر في أحد أطرافه، وبورخس في نهاية طرفه الآخر، وسنختارُ لهمنغواي أن يمكث في المنتصف تماماً. أكرّرُ أنّ هذا التمثيل التصويري مسألة شخصية تماماً، وكذلك الشخوص الروائية الثلاثة هم تمثلات للجرعة الآيديولوجية (سارتر) والحسّية (همنغواي) والذهنية (بورخس) في الكتابة الروائية، ويمكن الاستعاضة بالطبع عن كلّ منهم بمن يراه القارئ مناسباً للتمثيل من وجهة نظره.
*
لن يرتاح المرء لأن يكون رقماً غير محسوس في متاهة الوجود البشري
أظنّ أنّ النمط التطوّري منذ ستينات القرن العشرين كان يميلُ لإعلاء شأن الجرعة السارترية في بدايات النشأة، ثمّ تقلّ مفاعيل هذه الجرعة نحو تعزيز الجرعة الحسية، ثمّ منذ نهاية العقد الأربعيني أو الخمسيني من حياة المرء تشرع الجرعة البورخسية بالتعاظم. أظنُّ أنّ هذا التمثيل البياني يصلح في عصرنا هذا، مع ملاحظة أنّ تعزيز الثورات العلمية والتقنيات الرقمية سيعمل - كما تخبرنا خبرة مديدة سابقة - على كبح جماح النزعة الآيديولوجية. لا أظنّ أن سارتر يستهوي القرّاء الشباب ولا حتى الشيوخ.
شخصياً لو شئتُ منح نسب مئوية تفضيلية لاخترتُ للمقاربة البورخسية نسبة 70 في المائة مقابل 30 في المائة للمقاربة الحسية في الكتابة الروائية، مع ضرورة التصريح بأنّ حسّية الرواية لا تعني تلك الحسية الصراعية الصارخة لدى همنغواي، بل هي تلك الصراعات الخفية الهادئة التي هي بعض طبيعة المعيش اليومي لكلّ كائن بشري يحيا حياة حقيقية وليس ماكثاً في كهف أفلاطوني، وبالمثل فإنّ المقاربة البورخسية لا تعني كتابة رواية أفكار خالصة. الكتابة البورخسية لن يستطيعها ويتمكّن من أفانينها سوى بورخس. الأفكار تحيا وتصبح مادة تداولية بين بشر يتحاورون ويتبادلون خبراتهم، وليس من الضروري أن يصبحوا كائنات مستنسخة عن الجينات البورخسية.

كم فيك من همنغواي؟ وكم فيك من بورخس؟ أظنّ أنّ هذه أسئلة جوهرية من المفيد أن يجيب عنها كلّ كاتب أو قارئ للرواية، وربما من المفيد أكثر أن يبحث عن مقاربات أخرى إضافية لتاريخ تطوّر ذائقته الروائية.
***
لطفية الدليمي
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 8 مارس 2025 م ـ 08 رَمضان 1446 هـ

نظرة طائر على الحياة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعى العربية تستطيع أن تلتقط ظواهر دينية متناقضة، بين الجموع الرقمية الغفيرة أولاها : تحويل وسائل التواصل الاجتماعى إلى فضاءات للسجالات الدينية حول السرديات التاريخية للنصوص المقدسة، والفقهية, وإزاء أنماط التدين السائد فى المجتمعات العربية، وذلك ارتحالًا من الحياة الدينية الفعلية، إلى الحياة الرقمية، وذلك من خلال المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة الوجيزة جدًا.
الخطابات الرقمية الدينية تحملُ فى أعطافها نزوعًا لدى بعض الجموع الرقمية الغفيرة لبناء مكانة دينية من خلال اللغة الدفاعية عن التدين، أو اللغة الهجومية، والتداخل فيما بينهما فى ذات الخطاب، فى مواجهة خطابات أخرى، أو تأويلات مخالفة لما هو سائد فى أنماط التدين الشعبى الشائعة ومحمولاتها من العادات، والحكايات الدينية، والأمثولات، والحكم الشعبية، وبعض الأساطير، خاصة الشائعة فى الأرياف، والبوادى، والصحراء، وهوامش المدن المريفة وقيعانها.
بعض الخطابات التدينية تحاول تحويل النقاشات، والأخبار، والقصص المتداولة حول بعض الفنانين والفنانات، والسياسيين، والجرائم العنيفة ..إلخ من حدودها فى السلوك الاجتماعى، أو الإجرامى إلى المجال الدينى الوعظى، وتحويرها من محضُ اخبار، وأقوال، وأفعال يومية ايا كانت إلى سياقات تدينية، لإطلاق الاحكام الفقهية، أو الدينية الشعبية والثنائيات المتضادة الحلال والحرام، والمشروع واللا مشروع فى الإدراك الدينى الشعبى السائد.
ثمة خطابات أخرى على الحياة الرقمية، تتسم باللاأدرية، أو الإلحادية، التى تزايدت وتنامت خلال جيلى آلفا، وزد Z . بعض هذه الخطابات، وجد فى الحياة الرقمية مجالًا واسعا للتعبيرعن مواقفهم اللاأدرية، والإلحادية إزاء الأديان. كانت الخطابات اللادينية المضادة محجوبة عن الظهور، والتعبير عنها فى الحياة الفعلية خشية من اتهامها بالكفر والمروق، ومن الملاحقات القانونية، أو من مواقف المؤمنين بهذا الدين، أو ذاك، ومذاهبه تجاه المؤمنين بها! كان تداول هذه الخطابات يتم بين المعتقدين فى اللاأدرية، أو الالحاد، خلسة. بعض هذه الخطابات والمؤمنين بها، كانت تظهر ظلالها فى بعض الاعمال الأدبية، فى مواربة، أو عبر إشارات، أو شخوص فى الاعمال الروائية، أو المسرحية، أو النصوص الشعرية، فى بعض القصائد، كانت ردور الفعل على هذه الإشارات الالحادية، أو اللاأدرية، تتسم بالحدة الشديدة، والعنف، واللجوء إلى السلطة الدينية الرسمية فى بعض البلدان العربية، طلبًا لمنعها وتدخلها لمصادراتها أو تقديم الشكاوى من بعضهم ـ رجال دين، أو محامين، أو مواطنين عاديين ـ إلى الجهات الامنية، والنيابة العامة، طلبا لمنع هذه الأعمال الأدبية، وتحويل الكتاب او بعض الفنانين إلى المحاكمة. هذا الاتجاه أيا كانت مصادره ـ شخصية أو حزبية أو من جماعات سياسية دينية متشددة أو سلفية ـ قامت بتوظيف الأعمال الأدبية سياسيا ودينيا، امام قواعدهم التنظيمية والبيئة الحاضنة لهذه الجماعات للترويج لخطاباتهم الأيديولوجية حول الدين.
هذا الاتجاه خلط، ولايزال بين الاعمال الأدبية وتخييلاتها، وشخوصها، وعوالمها بين الخيال الأدبى، وبين الواقع الفعلى أو التاريخى، وذلك للهيمنة على العقل الإبداعى على نحو ما ظهر مرارا وتكرارا فى بعض البلدان العربية، وصل الأمر إلى مراقبة الأغانى. الحياة الدينية الرقمية، باتت مجالًا دينيًا وسياسيًا مفتوحا على مصراعيه، سواء لشخصيات حقيقية، أو شخصيات مصطنعة لتمرير آرائها التكفيرية، أو التفسيقية للآخرين.
امتدت السجالات والمجادلات بين المذاهب داخل ذات الدين حول العقائد والشخصيات، والرموز والسرديات التاريخية المتعددة، وذلك فى نزاعات تدور بين الدفاع والهجوم. الأخطر بين الاديان وبعضها بعضا عبر خطابات المؤمنين بها، والمتطرفين دفاعًا عن اديانهم، وإثبات الاختلافات بين هذه الاديان، أو أولوية أو استعلاء كل دين على الاديان الأخرى!.
حالة من التسونامى الرقمى الدينى الوضعى توظف وسائل التواصل الاجتماعى فى الاستعراض الدينى، بعد تحول الحياة الدينية الرقمية الى سوق دينية ـ محلية ووطنية وإقليمية وعالمية، يمكن أن تحقق لهم مكانة وزيوعا لبعض الفاعلين الدينيين الرقميين.
الملاحظ هنا أن توظيف الحياة الرقمية، وأدواتها هو توظيف دينى أداتى، ومن ثم لم يؤثر على العقل الدينى الوضعى النقلى، وجوهر وبنية خطاباته الدينية، وعمليات التفكير، ومناهجه فى تحليل الظواهر الرقمية أو الفعلية الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والعلمية والأدبية، والفنية، أو السرديات التاريخية أيا كان مجالها دينيا، أو سياسيا، أو اجتماعيا، أو اسطوريا!.
أدت الشركات الرقمية الكونية الرأسمالية إلى ظواهر جديدة منها تسليع التدين، ومعها الجموع الرقمية الغفيرة، والفاعلون الدينيون داخلها، وعبرها. بات التدين سلعة رقمية يتم تداولها واستهلاكها، إلا أن المتغير النوعى الجديد يتمثل فى الذكاء الاصطناعى التوليدى، ودوره فى المجال الدينى، حيث بدأت مؤشرات دالة على دوره فى أداء وظائف المؤسسات والسلطات الدينية ـ أيا كانت الديانات والمذاهب، والسرديات، والفقه والتفسير واللاهوت ومدارسه التاريخية والمعاصرة ـ حيث يقدم الآراء المختلفة فى كل مسألة دينية عقدية، أو طقوسية وتاريخية، وعلى نحو مقارن، وأيضا إبداء الرأى فيها على نحو ما بدأ فعلًا، وفى المستقبل سيستطيع أن يقدم آراء اكثر تبلورًا، ودقة، وتحليلًا حول العقائد الدينية المختلفة والآراء الفقهية أو اللاهوتية المسيحية أو التوراتية أو البوذية أو الكنفوشوسية .. إلخ، بل ويقدم الفتاوى، والردود على اسئلة السائلين من الجموع الرقمية الغفيرة. لا شك فى أن أنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدى، ستتطور، وستؤثر على نحو كبير على الأجيال الشابة، والقادمة، خاصة الصبية والفتيات، بل وبعض الأطفال.
هذا التحول فى الذكاء الاصطناعى التوليدى، بات يمثل تحديا كبيرا للسلطات الدينية الرسمية، وللجماعات الدينية والسياسية أيا كانت أيديولوجياتها الدينية الوضعية حول المقدس، وإزاء المؤسسات الدينية الوضعية اللاسماوية. فى سياقات المستقبل المنظور، وتطور الذكاء الاصطناعى التوليدى، سيؤثر على فاعلية ووظيفة رجل الدين المتخصص ومدى تأثيره على الوعى الدينى للتابعين لهذه الديانة، أو تلك. من ثم سيشكل تحديا كبيرا على رجال الدين .يتطلب مواجهة هذا التحدى استيعاب هذه الصدمة الرقمية الهائلة، من خلال تجديد العقل الدينى الوضعى النقلى، وقيام هذه المؤسسات بتجديد مناهج العلوم الدينية الموروثة، وفى تحرير الدين من بعض السرديات التاريخية الوضعية الضعيفة حول الدين والمذهب أيا كانت! تغيير المناهج التعليمية الدينية وإصلاحها يتطلب مقاربات مختلفة للسرديات الدينية النقلية الموروثة، وايضا لتحرير نظريات التفسير والتأويل الدينى، من القيود التى تحول دون إبداع تفسيرات تواجه اسئلة عصرنا المتغير، وفائق السرعة، والتغيرات الجيلية التى باتت تمثل تحولا فى إدراك الظواهر، والأفكار، والموروثات من خلال تفكيرها الرقمى، وسلوكها بين الرقمى والفعلى.
من هنا لابد من الانتقال من النقل الى العقل، خاصة أن العقل الرقمى، ليس عقل الحداثة، وفلسفاتها المتعددة، وانما عقل مختلف، وسيمثل قطيعة معرفية، مع مألوف العقل الحداثى ومواريثه السياسية والثقافية والاجتماعية، وتجاه الدين ومذاهبه أيا كانت والسياسة والثقافة .. إلخ.
سيشكل التسونامى الرقمى والذكاء الاصطناعى التوليدى والروبوتات، تحديا ضخما ونوعيا للسلطات الدينية الإسلامية الرسمية، والجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، وهو ما يحتاج إلى مقاربات تجديدية وإصلاحية للتعليم الدينى، وللفكر الدينى السائد، خاصة أن الحياة الدينية الرقمية فى حالة من التغير فائق السرعة فى ظواهرها، التدينية، وذلك لمواجهة هذه التحديات الجديدة فى عالمنا، والرأسمالية الرقمية الجديدة، وهو ما سوف نتناوله فى المقال القادم.
***
نبيل عبد الفتاح
عن جريدة الاهرام القاهرية، يوم: الخميس 6 من رمضان 1446 هــ 6 مارس 2025 السنة 149 العدد 50494

 

لم تكن قصيدة المرض التي اشتهرت بها الراحلة نازك الملائكة (الكوليرا) عن مصر – دائما عن مصر- هي خطوة الشعر الحديث الأولى، وإنما عثرة لقدم الملائكة اليسرى، سرعان ما تداركتها بالقدم اليمنى، وسارت إلى نهاية الدرب. في حديث ضمني والشاعر إبراهيم الماس، وكنا نتجول في بساتين الرمان في بلدته «بنجوين»، وصف الماس عودة الشاعرة إلى القريض بأنها «رجعتْ رجعةَ الهندل»، وهذا قضيب من الحديد كان يُدار به محرك العجلة من الأمام، فإذا فَلَتَ من قبضة السائق، رجع بقوة وسرعة وربما أدى إلى كسر ذراعه وتعويقها.
لو أردنا تفسير ظاهرة الشعر العمودي الذي يشيع الآن في بعض بلداننا، فإن علينا العودة إلى القصة منذ البداية. أول من نعر بالقصيدة العمودية في الثمانينيات من شعراء الحداثة هو عبد الرزاق عبد الواحد. ظل هذا طوال عقدين يمد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بمطولات في مدحه، محاولا التشبه بالمتنبي وعلاقته مع سيف الدولة في ذلك الزمان، وكانت هدية الرئيس عن إحدى قصائده قصرا يُطل على نهر دجلة. تتالت بعد ذلك الخرز في سبحة شعراء العمود، على قاعدة العملة الرديئة تطرد الجيدة، ونتيجة لهذا الإغراء الذي كانت ساحته مهرجان المربد الشعري كل عام، تناظر عدد الشعراء والقصائد والـ»مكرمات» السخية، مع حروب صدام حسين مع جميع دول العالم، تقريبا، وربما كانت قصائد المديح محفزا قويا له، للسير في خطواته المجنونة.
كان عمود الشعر قد انقصم منذ ستينيات القرن الماضي، مثلما هو معروف، كما أن وريثه، أو ما يسمى بشعر التفعيلة، انحسر إلى درجة أنه لم يكن يطلبه أحد من شعراء الحداثة، بمن فيهم من الأجيال القديمة في ذلك العهد، مثل محمود البريكان وأدونيس وسعدي يوسف. اتخذ هؤلاء من بحريْ المتقارب والمتدارك سلما لقصائدهم، وهما أقل بحور الفراهيدي صخبا وأقربها إلى قصيدة النثر. واختار محمود درويش بحر الكامل واحدا، لجميع نشيده الذي قاله في القضية الفلسطينية، وقد أمسى ظاهرة منبرية في ذلك الزمان، وكان ينتشر بين الجمهور في تسجيل الحفلات التي يُقيمها أينما حل، في أشرطة الكاسيت والفيديو. ثم هجر درويش هذا اللون منذ ديوانه «لا تعتذر عما فعلت» عام 2004، قاصدا النوع الأكثر نثرية من الشعر، «في حضرة الغياب» مجموعة ثبّتَ درويش على غلافها «نصوص» عام 2006. في ذلك الوقت كان سعدي يوسف يكتب أعماله بلغة أقرب إلى السرد، وودع أدونيس منذ زمان بعيد كل ما يتعلق بالوزن والقافية. الشعراء الأهم في عالمنا ساروا في طريق الحداثة، وقد استغرقت هذه أفكارهم ونظرتهم إلى المستقبل. فما هو سبب رجوع الشعراء اليوم إلى القريض؟
الشعر فن يشبه غيره من فنون المعيشة، ولم يكن يوما لهوا أو تسلية. ملاحظة دونتها في أحد الأيام على صفحتي في منصة التواصل الاجتماعي، وهي أن الشعر العمودي، لا يُكتب في هذه السنين إلا في بلاد فيها ثقافة الدشداشة والكوفية والعقال في الملبس، والأركيلة في التكييف في المقاهي والمنازل: وهي العراق والأردن وبلدان الخليج. هناك من أيدني في وجهة نظري، وقسم من القراء كانت لديه اعتراضات غير مقنعة. حسب علمي، لم يظهر أحد يدعي القريض في بلدان المغرب وبلاد الشام، والقسم المتحضر من أرض الرافدين. مصر، هي الأخرى، لم يشتهر فيها شاعر عمودي، فإن كانت هناك ردة إلى القريض فإن سببها واضح، وهو تأثير الأفكار السلفية في الشارع، الجهادية منها على وجه الخصوص، وقد تبنتها الأحزاب الإسلامية. إن من يتزعم حزبا يغذي أفكار الإرهاب لا يستطيع أن يُقنع الشباب بقصيدة نثر لا تصفيق يعقبها ولا التهاب في الأكف والأعصاب.
***
أسأل: هل يُكتب اليوم شعرٌ من خارج صمت قلب الشاعر؟ لأنك إذا أردتَ أن تكون معاصرا فالخطوة الأولى هي أن تنأى إلى أبعد ما يمكن عن الصخب والرتابة والصور المتكررة، وهذه ميزات لا تُفارق ما يُنشر الآن ويسود بين الجمهور، نتيجة للردة الثقافية التي تعيشها بلداننا، لأنه لا شعر يشتهر غير ذلك الذي يبثه أصحاب البرامج والمسابقات الشهيرة: شاعر الرسول وشاعر البُردة وشاعر الحوزة، وشاعر المليون والمعلقة والخيمة والقافلة، وأكثر هذا عبارة عن طفرة قصيرة بقدم واحدة إلى الجانب، أو بالقدمين إلى الوراء، مما يُعرف في الجزيرة والصحراء بشعر النبط. لكن الفن ليس زينة تُزال وتُصنع بسهولة وتُصطنع، إنما هو حاجة اجتماعية تخص الناس جميعا لا الفنان وحده. يقول صاحب المثل: «المظلة تصبح عبئاً على حاملها بعد أن يتوقف المطر». أدى الشعر العمودي دوره في الحضارة وانتهى، وتحجرت روحه فهو تحفة أثرية نزورها في المكتبات التي تخص الكتب القديمة، مثل المراجع الثقيلة في الفيزياء والرياضيات والطب وغير ذلك، والبحث عن وسيلة لإحيائه يشبه نبش القبور من أجل إعادة الحياة إلى العظام عن طريق تزيينها وإكسائها ثيابا من هذا العصر، وهذا لا يجوز حتى في الأحلام.
ماذا نقول، مثلا، في رجل يحمل سيفا ويركب حصانا على كورنيش النيل، ثم يروح يهاجم المارة ويحاول طعنهم. نشرت الصحافة المصرية خبرا عن هذا المعتوه، وذكرت أن الشرطة ألقت القبض عليه، ولا نعرف الجهة التي استقر فيها أخيرا؛ مشفى المجانين أم السجن؟! لكن القوانين التي تحمي المجتمع من المجرمين والمخبولين، غير قادرة على منع الجريمة ضد الأدب.
إحدى وظائف الفن هي أن يكون شاهدا ومؤرخا لثبات الإنسان في عصره. هل يعيش الناس هنا، أي في بلاد العرب التي يقول شعراؤها القريض، في زمان يُريدون الرجوع به بإصرار إلى ما قبل ثلاثينيات القرن الماضي؟ الجواب هو نعم كبيرة لأن الشعر عبارة عن صورة لطريقة عيش الجموع، عبر الامتداد اللانهائي للزمن، بل هو سلاح الإنسان ضد قوى الفناء والعدم، والمثل الذي ذكرته عن الشاب المجنون على كورنيش النيل لم يكن اعتباطا، وإنما ليُلقي الضوء على ما أريد. في عصر أسلحة التدمير الرهيبة يجب على الشاعر أن يقدم أداة دفاعية (جمالية) مناسبة، تحمي المجتمع من الرعب والأهوال التي تسببها الحرب. في الخمسينيات، أي منذ صارت القنبلة الذرية سلاحا، انتهى العمود من الشعر في العالم. قرأ أحدهم قصيدة عمودية في ولاية أمريكية، وجابهه الجمهور بهذه الصيحة: كُف يا هذا! قافية واحدة تقولها ستدفعنا جميعا إلى التقيؤ!
كل شيء يمضي به الزمن والساعة، وسلاح عنتر بن شداد لا يُليق بزماننا. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وسط الهلاوس والتهيؤات، ويكون شريكا للآخرين في صنع الحضارة. العجيب أننا نُقيم في بلداننا (العراق والأردن وبلدان الخليج) مهرجانا لهذا (القيء) أكثر من مرة في العام، وعذرا على نوع الكلام، ولكن لكل مقام مقال…
إن أسمى ما في الوجود هي مظاهر العقل الإنساني، وتشمل الإبداع الفكري والأدبي والعلمي. ولكي يكون المرء مسطولا فينسى جميع هذه المآثر، ما عليه إلا أن يتعامل مع واقعه بطريقة قديمة وبصورة مريعة، ويتم له هذا حين يُعيد تقويمه وساعاته جميعا إلى القرون الخوالي – ولا تكفيه الأركيلة في سبيل تحقيق هذا المطمح الغريب، الحشيش يؤدي هذا الغرض على أكمل وجه، فهو (يكيف) المرء من أجل أن تتلبسه أفكار بائسة عن الماضي المجيد، ترفع من مكانته في عالم الوهم والخيال.
مَنْ يُقارن بين ما يجري في هذه السنين، مع تلك التي شهدتها بلدان العرب في عقود التنوير في بدايات القرن الماضي، رغم فقرنا وقلة الحيلة في ذلك الزمان، يؤمن تماما بأن أيادي خفيةً تُريد تغيير مجرى حياتنا، إلى ركن مهجور نعتزل فيه العالم، ويغطينا فيه سراب الماضي. هناك من يراهن على أنه بمرور الزمن يتحول الشعر الذي انتهى عصره إلى شيء مفيد، كما يتحول الروث إلى سماد، يكتسب المجتمع به مناعة سلبية قوية، إلى درجة أن الناس لا يستطيعون – وإن شاؤوا غير ذلك – إلا أن يتعاملوا مع واقعهم بطريقة موغلة في القِدم، بينما هم يرفلون في طريقة عيشهم بأعلى وأرقى وآخر ما توصلت إليه المدنية من سبل الرفاهية. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة، ويبقى حرا في تفكيره، ويستعمل يديه في ما يخص العمل الذي يؤدي إلى تطور البشرية وخيرها؟
الشعر الحديث هو حياة يصنعها الشاعر بواسطة كلمات تنتمي إلى عصره، ويتمثل بها الموسيقى الأرقى للغة. التشكيل، والإيقاع، والصورة الشعرية، وغير ذلك مما بلغته البلاغة الحديثة، أشياء تم التوصل إليها من بعد تراكم قرون عديدة من خبرة الشعراء. وكلما كانت موسيقى الشعر هادئة وسليمة وعلى درجة عالية من التناسق، كانت المشاعر والأحاسيس المبثوثة أكثر إرهافا، والأفكار أكثر تعقيدا، وبعيدة تماما عن جو التصورات والأوهام، والشخص القادر على تمثيلها يكون مستعدا لاكتناه قواه الذاتية بلا هوادة. في عصر المسيرات والإلكترون والقبب الحديدية، يحتاج الإنسان أكثر إلى هذا الوعي، لأنه الوسيلة الوحيدة إلى إدراك ما يدور حوله، والقريض الذي تُقام له المحافل اليوم، بما أن زمانه فات ومات، يقوم على النقيض تماما من هذه الرؤية.
***
حيدر المحسن
عن جريدة القدس العربي، يوم: 12/3/2025

 

في قلب الأندلس، حيث كان الفكر الإسلامي يشهد ازدهاراً غير مسبوق، برزت مناظرات فقهية وفكرية بين اثنين من أكثر علماء الإسلام تأثيراً، ابن حزم الظاهري، وأبو الوليد الباجي. لم تكن هذه المناظرات مجرد سجالات نظرية، بل كانت تعبيراً عن رؤى متباينة حول أصول التشريع الإسلامي، وسبل استنباط الأحكام، وحدود التأويل في فهم النصوص الشرعية. مثلت هذه المواجهات الفكرية أحد أبرز معالم الجدل الفقهي في العصر الإسلامي الوسيط، وأسهمت في إثراء الحوار حول قضايا لا تزال تحظى بأهمية مركزية في الفكر الإسلامي حتى اليوم.
عُرف ابن حزم بنزعته الظاهرية، التي تقوم على التفسير الحرفي للنصوص الشرعية، ورفض التأويل والاستدلال العقلي خارج إطار الدليل النصي المباشر. وُلِد في قرطبة في القرن الرابع الهجري، وتلقى علومه في بيئة علمية غنية، لكنه اتخذ مساراً فكرياً خاصاً جعله على خلاف مع كثير من علماء عصره. لم يكن رفضه للاجتهاد العقلي مبنياً على رفض العقل ذاته، بل كان يرى أن فتح باب القياس والمصالح المرسلة قد يؤديان إلى إدخال مفاهيم غير منضبطة في التشريع، ما قد يحيد بالشريعة عن نقائها الأصلي. على النقيض منه، كان أبو الوليد الباجي يمثل المدرسة المالكية، التي تعتمد على القياس والاستحسان والمصالح المرسلة كأدوات لاستنباط الأحكام في القضايا المستجدة. درس في المشرق الإسلامي، وعاد إلى الأندلس محملاً بمعرفة عميقة جعلته أحد أهم المدافعين عن أصول الفقه المالكي، كما اشتهر بمنهجه الجدلي القوي الذي وظفه في مناظراته مع ابن حزم. كانت رؤيته أكثر انفتاحاً على اعتبار المقاصد الشرعية، ودورها في تحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي، مع التأكيد على ضرورة التوازن بين النص والمصلحة. إحدى أبرز القضايا التي دارت حولها مناظراتهما كانت مسألة الإجماع، حيث رفض ابن حزم مفهوم الإجماع بمعناه التقليدي، معتبراً أن ادعاء إجماع الأمة بأسرها أمر غير واقعي، خصوصاً مع تفرق العلماء في أنحاء العالم الإسلامي. رأى أن الاعتماد على الإجماع قد يكون ذريعة لتجاوز النصوص القطعية أو تحجيم الاجتهاد الفردي. في المقابل، دافع الباجي عن حجية الإجماع، معتبراً أنه يمثل توافق الأمة على حكم معين، ما يحقق استقرار الفتوى ويمنع الفوضى التشريعية.
أما القياس، فقد كان من أشد القضايا إثارة للخلاف بينهما. اعتبره ابن حزم وسيلة غير منضبطة قد تؤدي إلى إدخال أحكام لا تستند إلى نص صريح، ما قد يشوه جوهر الشريعة. رفض القياس بشكل قاطع، معتبراً أن النصوص الشرعية وحدها كافية، وأن إدخال القياس قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة. في المقابل، رأى الباجي أن القياس أداة ضرورية لاستخراج الأحكام في المسائل الجديدة، وأنه مبدأ اعتمده الصحابة والتابعون في اجتهاداتهم. امتد النقاش إلى مسألة المصالح المرسلة، وهي الأحكام المستنبطة، بناءً على تحقيق مصالح شرعية دون وجود نص صريح يؤيدها أو يمنعها. رفض ابن حزم هذه المنهجية، معتبراً أنها تفتح الباب أمام التشريع وفق الأهواء، ما قد يؤدي إلى تحريف مقاصد الشريعة.
أما الباجي، فكان يرى أن المصالح المرسلة وسيلة ضرورية لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، شريطة أن تكون متوافقة مع القيم الأساسية للإسلام. لم يكن سد الذرائع بعيداً عن دائرة الجدل بينهما، إذ رفضه ابن حزم، معتبراً أن الأفعال يجب أن تُحكم بناءً على ذاتها، لا على ما قد تؤول إليه من نتائج محتملة. رأى أن تحريم بعض الأفعال بدعوى أنها قد تؤدي إلى الحرام هو تضييق غير مبرر للنصوص الشرعية.
في المقابل، دافع الباجي عن مبدأ سد الذرائع، معتبراً أنه وسيلة لحماية المجتمع من الانحرافات المحتملة، وأنه يمكن أن يكون أداة وقائية تضمن عدم الوقوع في المحظور. تميزت هذه المناظرات بأنها لم تكن مجرد خلافات أكاديمية، بل كانت تعكس رؤيتين متباينتين لكيفية فهم النصوص الشرعية والتعامل مع تطورات المجتمع. لم يكن هناك غالب أو مغلوب، بل كان هناك إثراء فكري وحوار علمي ساهم في تطوير الفكر الفقهي الإسلامي. رغم حدة الجدل، إلا أن كليهما كان يدرك أهمية النقاش العلمي الجاد، وأثره في إثراء الفقه الإسلامي.
في إحدى مناظراتهما، حاول الباجي إحراج ابن حزم بسؤاله عن تفاصيل دقيقة في الفقه المالكي، فرد ابن حزم ببساطة: «نحن نترك ما لا نعلمه إلى من يعلمه»، في إشارة إلى احترامه لتخصصات المذاهب الأخرى، رغم رفضه لمنهجها. يعكس هذا المشهد روح الاحترام المتبادل التي ميزت كثيراً من مناظرات العلماء في التاريخ الإسلامي، حيث كان الاختلاف قائماً على البحث عن الحقيقة، وليس على التشكيك أو الاتهام. تمثل مناظرات ابن حزم والباجي نموذجاً فريداً للحوار الفقهي في الإسلام، حيث تصارعت أفكار واتجاهات مختلفة في بيئة علمية مفعمة بالحيوية. كانت هذه المواجهات الفكرية منطلقاً لكثير من النقاشات الفقهية التي أثرت في المدارس الفقهية اللاحقة، وأسهمت في تشكيل منظومة الاجتهاد الإسلامي التي بقيت قائمة حتى يومنا هذا.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 11 مارس 2025 23:57

 

قدم بأبحاثه أكبر خدمة للإسلام والمسلمين

يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد. علم الفيزياء واحد في طوكيو أو الرياض أو القاهرة أو أبوظبي أو نيويورك، إلخ. لا يوجد عقل خاص بالجامعات العربية وآخر خاص بالجامعات الغربية. أما العقائد التراثية فهي خصوصية. فالمولود في التراث الصيني الكونفشيوسي مثلاً غير المولود في التراث المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي. ولكن المناهج الفلسفية العقلانية السائدة في الصين هي ذاتها السائدة في كل مكان. العقل واحد للبشرية والتراثات الخصوصية شتى.
هل أصاب هيدغر عندما قال إن الفلسفة هي حصراً إغريقية وأوروبية غربية فقط؟ بالطبع لا. وإلا فماذا سنفعل بفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل، إلخ؟ ماذا سنفعل بفلاسفة الصين والهند؟ ولكن يبقى صحيحاً القول إن الفلسفة في العصور الحديثة بلغت أوجها في الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى. فلا يوجد عند العرب ولا عند الصينيين ولا عند سواهم فلاسفة في حجم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، إلخ. ولهذا السبب فإن اليابان التي هي أكبر بلد مترجم في العالم تكلِّف الأساتذة الأكاديميين عندها بترجمة كبار فلاسفة الغرب إلى اللغة اليابانية. فهناك أكاديميون مختصون بترجمة هيغل، وآخرون بترجمة كانط، إلخ. كل أكاديمي ياباني مختص بترجمة أحد فلاسفة الغرب الكبار. وعلى هذا النحو اغتنت اليابان بالفكر الحديث منذ زمن إمبراطورية الميجي: أي إمبراطورية العهد المستنير. عُدْنا إلى التنوير. لا مفرَّ منه. التنوير نجح في اليابان على عكس العالم العربي لأنهم عثروا على تلك الصيغة السحرية التي تجمع بشكل موفق بين التراث والحداثة. أو قُلْ لأنهم عثروا على الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة، التي لا نزال نبحث عنها منذ أيام محمد علي حتى الآن. من هنا سر عذابنا وتخبطنا.
قلنا إن الفلسفة تعني أن نعيش بالعقل، بواسطة العقل. ولكنَّ الفلسفة تعني أيضاً طرح التساؤلات الراديكالية حول جوهر التراث ومعنى الوجود. الفلسفة تساعد على تحرير الروح من ظلماتها وتراكماتها. ليسمح لي القارئ هنا بأن أروي بعض الذكريات الشخصية لتوضيح هذه النقطة. عندما تعرفت على محمد أركون وحضرت دروسه في جامعة السوربون لأول مرة ذُهلت بالفكر الجديد الذي يقدِّمه عن تراثنا الإسلامي العظيم، وفكرت فوراً في كتابة مقالة حول الموضوع وذلك قبل أن أشرع في ترجمته. وهي أول مقالة أكتبها في حياتي. وكانت بعنوان: «جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». عنوان أصلي وعنوان ثانوي. ثم أرسلتها إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كانت إحدى المجلات الشهرية المحترمة في ذلك الزمان. وفوجئت بأنها نُشرت بشكل جيد على الرغم من أنني كنت آنذاك كاتباً مغموراً تماماً. كنت مجرد نكرة من النكرات. بل ليس فقط نشروها دون سابق معرفة شخصية وإنما أرسلوا لي نحو 300 فرنك فرنسي. وهذا ما زاد من سعادتي وانشراحي بطبيعة الحال. بل جعلني أشعر بأني أصبحت شخصاً مهماً ومعتبراً. لكن الشيء الأساسي ليس هنا. الشيء الأساسي يكمن فيما يلي: لقد ذهبت بعدد المجلة إلى أستاذي البروفسور محمد أركون، وانتظرت مقابلته على الباب حتى جاء دوري. وعندئذ دخلت عليه في مكتبه بالسوربون وفي يدي مجلة «المعرفة» وأنا شديد الفخر والاعتزاز بنفسي. وعندما قرأ العنوان دُهش جداً لأني قلت: «نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». لم يكن يتوقع إطلاقاً أنني قادر على إيجاد عنوان باريسيّ طليعيّ من هذا النوع. بل ربما راح يتساءل: هل يدرك هذا الشخص فعلاً ما يقول؟ هل يعرف معنى كلمة أركيولوجيا الفلسفية لا تلك الخاصة بعلم الآثار. أتذكر تماماً ردّة فعله الآن: نظر إليّ من فوق نظارته وتأملني جيداً وابتسم. أعتقد أنني نلت إعجابه وقتها. أقول ذلك خصوصاً أنني كنت حديث العهد في باريس ولم يمضِ بعد وقت طويل على وصولي إلى العاصمة الفرنسية. حتماً راح يتساءل بينه وبين نفسه: كيف فهم هذا العفريت مقصدي ومنهجيتي؟ هل فعلاً يعي ما يقول؟ كنت أشعر آنذاك بجوع عارم إلى الفكر. كنت أبحث عنه في كل الزوايا الباريسية. كنت أريد أن أفهم كنه الأشياء. وكنت أعرف أن الزلازل والبراكين قادمة لا محالة. ولذلك شطبت على حياتي الشخصية كلياً وتفرغت لما هو أهم وأخطر.
فيما بعد اكتشفت بالفعل أن جوهر منهجيته يكمن في الحفر الأركيولوجي عن أعماق تراثنا الإسلامي الكبير بغية الكشف عن جذوره الأولى وإضاءته بشكل غير مسبوق. إنه حفر في العمق أو في عمق العمق. لم يتجرأ أي مفكر مسلم قبله على طرح التساؤلات الراديكالية التي طرحها على التراث. لم يذهب أي مفكر مسلم إلى الأعماق السحيقة التي ذهب إليها هو. ولا حتى ابن رشد ولا حتى الفارابي في الماضي. ولا حتى طه حسين في الحاضر. من هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد أركون. لقد قدم أكبر خدمة للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. لهذا السبب نقول إن الفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الموضوع التراثي، أيَّ موضوع كان. إنها لا تتوقف في منتصف الطريق و«تقطع الحبلة فينا» كما يُقال، وإنما تذهب إلى آخر مدى. الفلسفة بهذا المعنى هي فكر الفكر أو عقل العقل. هكذا كان يفهمها ديكارت وكانط وهيغل وكذلك نيتشه، وبالأخص نيتشه. وهكذا كان يفهمها ميشيل فوكو أيضاً الذي وضع عنواناً ثانوياً لكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء - أركيولوجيا العلوم الإنسانية».
ولكن الفلسفة تعني أيضاً: تعرية الأوهام الشائعة، والأحكام المسبقة الموروثة، والآيديولوجيات والشعارات الديماغوجية. الفلسفة هي العدو اللدود للأدلجة والآيديولوجيا. وكذلك هي العدو اللدود للفتاوى التكفيرية الموروثة عن القرون الوسطى. كل الأحكام السلبية المسبقة والكليشيهات المشوهة التي تشكلها الطوائف بعضها عن بعض تجري تعريتها وتفكيكها عن طريق الفلسفة. بهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إلى الفلسفة والفكر العميق في عالمنا العربي. وبهذا المعنى فإن الفلسفة هي معركة سلاحها العقل الفعال والحفر الأركيولوجي في الأعماق. مَن أعداء الفلسفة؟ الغباء والجهل والتعصب الأعمى والظلامية التراثية. مَن حلفاؤها؟ العلوم الإنسانية، وبخاصة علم التاريخ الحديث الذي يكشف عن أعماق الماضي التراثي ويحفر عنها أو عليها. ولهذا السبب كانت مدرسة الحوليات الفرنسية من أهم مرجعيات محمد أركون. بل اعترف يوماً بأنه استيقظ لأول مرة على الفكر العميق بعد أن حضر بالصدفة في جامعة الجزائر ذلك الدرس المنهجي الشهير لمؤسس مدرسة الحوليات: لوسيان فيفر. وقد صعقه الدرس إلى حد أنه خرج منه مذهولاً. بعدئذ ابتدأ أركون يصبح المفكر الكبير الذي نعرفه. تذكرت كلام أركون هذا عندما اطّلعت لاحقاً على كتاب لوسيان فيفر عن مدشن الإصلاح الديني في أوروبا بعنوان: «مارتن لوثر: قدر»! انه كتاب يدوّخك بالمعنى الحرفي للكلمة. هل هو مؤرخ فقط أم فنان أم فيلسوف يتلاعب بعقلك كما يشاء ويشتهي؟ تكاد تلتهم الصفحات التهاماً. كتاب عبقري ولا أروع. قرأته مرتين أو ثلاثاً. وحتماً سأعود إليه مرة أخرى فقط من أجل المتعة والاستمتاع. إنه يوضح لك كيف تولد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولماذا تولد؟ ومتى تولد؟ إنه يشرح لك كيف يظهر الرجال العظام الذين يغيِّرون مجرى التاريخ البشري. عندئذ فهمت لماذا أثَّر هذا المؤرخ الفرنسي الكبير كل هذا التأثير على محمد أركون.
نضيف أن الفلسفة تعني أن نفكر بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل. إنها تعلِّمنا كيف نعيش حياة أكثر إنسانية وأكثر مرونة وأكثر رصانة وأكثر عقلانية وأكثر حرية. وهي بذلك مكمِّلة للدين بالمعنى الروحاني العالي المتعالي. إنها ليست ضد الدين وإنما فقط ضد الظلامية الدينية. مثلاً بول ريكور (صديق أركون) كان في ذات الوقت فيلسوفاً كبيراً ومؤمناً بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا للدين. نضيف أن الفلسفة بهذا المعنى تحرِّرنا من رواسبنا الطائفية والمذهبية التي ورثناها عن طفولاتنا وعائلاتنا وبيئاتنا الأولى. وهي أشياء كنا نعتقد أنها حقائق مطلقة لأننا رضعناها مع حليب الطفولة، في حين أنها نسبية وخصوصية. والدليل على ذلك هو أننا لو وُلدنا في طفولات أخرى وبيئات أخرى لاعتقدنا العكس تماماً. يقول أحد العلماء الكنديين المعاصرين: «أنا وُلدت في عائلة مسيحية كاثوليكية ولكني لو ولدت في عائلة صينية كونفشيوسية هل كنت سأعتقد ذات الشيء؟».
أخيراً فإن الفلسفة ما هي إلا اختراقات في جحيم الانسدادات. عندما تطْبق الغمة والظُّلمة على أمة من الأمم يظهر الفلاسفة الكبار. انهم لا يظهرون في الأزمان السعيدة المريحة المرتاحة وإنما في الأوقات العصيبة المدلهمّة مسدودة الآفاق. وعندئذٍ يقدمون لنا المفاتيح الفلسفية التي تحل مشكلة العصر وتفك عقدة التاريخ. على هذا النحو ظهر ديكارت عند الفرنسيين أو كانط عند الألمان، إلخ. الفلاسفة بهذا المعنى ظهورات بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير. هيهات! أحياناً يمر قرن أو قرنان قبل أن يظهر مفكر واحد له معنى!
***
د. هاشم صالح
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 10 مارس 2025 م ـ 10 رَمضان 1446 هـ

تعد الفضيلة عند ابن رشد من أسمى ما يُتوسل به إلى السّعادة، والفضيلة ضربان، فضيلة خلقية، وفضيلة عقلية.
إن علم الأدب طريق إلى الفضائل العقلية، وهو علم المنطق عند فيلسوفنا، فلا فضيلة لمن لم يتأدّب عقله على التّفكير السليم. فالمنطق «يتنزّل من النّظر منزلة الآلات من العمل»، ولعل لهذا السّبب اعتبر أبو حامد الغزالي العاطل من المنطق، ممن لا يوثق بعلمه، ولعل الغزالي ذهب هذا المذهب، لأن الذي لا يعرف كيف يُميّز صحيح الأفكار من فاسدها تذهب عليه حقائق كُثْر لتمسّكه بآراء يحسبها حقيقة، وهي ضلال عند أصحاب الفرقان، لذلك جُعل المنطق مقدّمة العلوم لأثره البليغ في تقويم النّظر. فلا علم، ولا حكمة ولا تعقّل ولا فطنة، ولا صنائع، وهي من الفضائل العقلية الكبرى، دون تمرّس بصناعة المنطق.
يعتقد ابن رشد أن الاهتمام بالعقل وفضائله سببه أن شريعة المسلمين، شريعة إلهية، «نبّهت على.. السّعادة.. التي هي المعرفة بالله وبمخلوقاته» ودعت إليها، الأمر المتقرّر عند كل مسلم «حسب طبيعته». ومادامت من طرق معرفة الله تعالى النّظر في موجوداته كلّها، من فيزيائية، ورياضية، وميتافيزيقية، وهي تتطلّب منهجاً قويماً لدراستها، فإنّ السّبيل إلى ذلك هو سبيل المنطق، وهو تنبيه مهم إلى فضيلة المنهج عموماً، وما قدّمه لتقدّم المعرفة العلمية. إنّ التّركيز على الفضائل العقلية التّي هي محلّ نظر الفلسفة عند ابن رشد لا يلغي قيمة الشّرائع.
والفلاسفة، عنده، يهتمّون بالشّرائع أيضاً، بل يعتنقونها عندما تُعرض عليهم، ويُقدّم ابن رشد مثالاً على ذلك ما عرفه بنو إسرائيل من كثرة الحكماء، ما يدلُّ عنده على فشوّ الحكمة «في أهل الوحي»، من الأنبياء. وهنا يُكرّر ابن رشد شعاراً قديماً: «كل نبيّ حكيم وليس كل حكيم نبي»، فابن رشد لا يفصل الشّرائع عن أساسها العقلي والسّمعي، بل إنّه يلزم الفلاسفة أن يتقلّدوا الشّرائع «من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسّنن المشروعة في ملّة ملة»، كما يقول. لأن هذه الشّرائع هي شرائع الجماعة التي ينتمون إليها، ولا ينبغي لهم الخروج عنها، فهي تنفع الجمهور في التّحلّي بالعمل الفاضل أولاً، ثم هي ثانياً تنفع الصغار في تربيتهم على الفضيلة، لذلك يُحذّر ابن رشد من التّشكيك في الشّرائع، لأنّ ذلك يؤدّي إلى إبطال الفضائل، ومن ثمَّ تُشْرع الأبواب أمام الفوضى الأخلاقية.
ومن أفضل الفضائل الخُلقية الغيرية التي يدعو إليها ابن رشد فضيلة التّعامل مع المختلف، خاصّة من أهل العلم والمعرفة من الأمم القاصية، فعندما تأتينا معارف أو علوم من هذه الأمم فينبغي التريّث في اتّخاذ مواقف منها، إذ طبيعة المسلم أنه لا يَجْرمْهُ الشنآن عن العدل في القول والعمل، ومن هنا فهو في معارف المختلفين عنه بين موقفين، إمّا موقف قبول له، وسرور به، وشكر عليه، لأنه يفتح أمامه أبواباً جديدة من المعرفة، وإمّا موقف تنبيه على ما فيه من مخالفة للحقّ وتحذير منه حتى لا يتضرر منه الآخرون، لكن هناك موقفاً جليلاً آخر، وهو تلمّس العذر لأصحاب هذه المعارف الخاطئة لأنّهم، مع جهدهم وتحرّيهم للحقّ، لم يستطيعوا إصابته، ولولا هذا النّقص المعرفي الملازم للمعرفة لما تقدّمت العلوم، ولا عرفت المعارفُ مسيرة تطوّرها الكبير.
إن الفضائل هي أسُّ المجتمعات، وضمان استمرارها وقُوّتها، وإن العبادات، مثل عبادة الصوم، هي التي تُثَبِّتُ هذه الفضائل، وتجعلُها حاضرة في الحسّ مع تكرارها، ما يسهم في لُحْمة المجتمع، ولأفلاطون في كتابه المهم «القوانين» كلام جميل في هذا المعنى يشرحه ويُجلّيه.
***
د. إبراهيم بورشاشن
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 مارس 2025

 

إنهم يجردوننا من إنسانيتنا مثلما فعل النظام الإقطاعي بالفلاحين

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس باعتبارهم مجرد رعايا. وكان حقهم في الحياة يخضع حرفياً لتقدير الملك أو الملكة، وكانت سبل عيشهم تتحدد بحادثة ميلاد تجعلهم ملزمين بخدمة اللورد أو البارون الذي يعملون على أرضه.
في ظل الديمقراطية الأميركية، أصبح الناس مواطنين؛ مفهوم لم يعترف بحقوقهم في الحرية والسعي إلى السعادة فحسب، بل كفل لهم كذلك أن أصواتهم - وليس فكرة زائفة عن الحق الإلهي - سوف تحدد من يحكمهم.
وعلى النقيض من هذه المبادئ الجوهرية القائمة على الحرية، فإن الوصف الأمثل لواقعنا الحالي، الإقطاع الرقمي. مثلما كانت الحال مع الرعايا الفقراء العاجزين تحت سلطة الملوك والأرستقراطيين، نعيش اليوم في خضوع أمام مجموعة صغيرة من الشركات، التي استغلت بنية الإنترنت الإقطاعية. وفي ظل هذا النظام، يجري التعامل مع البشر باعتبارهم مجرد عناصر ثانوية - أو ربما لا يجري النظر إليهم على الإطلاق - في خضم العمل على بناء منصات ضخمة، تتولى استخراج البيانات.
داخل الولايات المتحدة، تتألف الزمرة الحاكمة من أكبر شركات البرمجيات في عصرنا: «ألفابت»، مالكة «غوغل»؛ و«ميتا»، مالكة «فيسبوك» و«إنستغرام»؛ و«أمازون»؛ و«أبل»؛ و«مايكروسوفت». وقد انضمت الأخيرة، عبر استثمارها الهائل في مؤسسة «أوبن آي» البحثية، إلى سباق التسلح التكنولوجي للسيطرة على البيانات الخاصة بنا، وما يحمله معه من سلطة وأرباح. ويحظى المؤسسون والمديرون التنفيذيون وكبار المستثمرين في شركات التكنولوجيا الكبرى، بنفوذ هائل على عمليات الإنترنت.
واليوم، نعيش بحسب تقدير خوارزمياتهم الملكية. وتتعامل برامج الكمبيوتر القائمة على هذه الخوارزميات - التي، مثل أجهزة الكمبيوتر والخوادم والأجهزة، يجب النظر إليها باعتبارها آلات - معنا كمحاجر لاستخراج بياناتنا، التي أصبحت الآن السلعة الأكثر قيمة في الاقتصاد الرقمي. وبعد ذلك، يقومون بتجميع وتنظيم هذه البيانات، واستخدامها لإنشاء أدوات يمكن لقادتهم من خلالها التأثير علينا.
وبحسب تقرير صدر عن مؤسسة «بروبابليكا» عام 2016، جمعت «فيسبوك»، في ذلك الوقت، ما معدله 52.000 نقطة بيانات عن كل فرد من مستخدميها. ويكشف هذا الرقم، الذي من المرجح الآن أن يكون أعلى بكثير، كيفية نظر المنصات إلينا.
في الواقع، تستخرج أنظمة «الصندوق الأسود» الخاصة بهم، التي جرى بناؤها باستخدام أكواد لا يمكن لأي شخص من خارج المنصات الاطلاع عليها، سلعة قيمة (بياناتنا)، ثم يستغلون هذه السلعة لتعيين ملف تعريف لكل منا، وتصنيع آلة قوية (خوارزمية خاصة) لتصنيفنا واستهدافنا والتلاعب بنا. وبذلك، فإنهم يجردوننا من إنسانيتنا بشكل منهجي؛ تماماً مثلما جرد النظام الإقطاعي الفلاحين من إنسانيتهم.
وفي خضم كل هذا، لا يوجد عقد اجتماعي أو حتى التزام أخلاقي من جانب هذه المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها. وبدلاً من ذلك، دفنونا في عقود قانونية، معظمها مكتوبة بحروف صغيرة لا يقرأها أحد، وفرضت هذه المنصات شروطاً وأحكاماً بخصوص استخدامنا لهذه التطبيقات، تجبرنا على التنازل عن أي مطالبات تتعلق ببياناتنا والمحتوى الذي ننشئه وننشره. وعليه، فقد تنازلنا حرفياً عن حقوقنا، وتنازلنا عن شخصيتنا لصالح هذه الشركات العملاقة القائمة داخل «وادي السيليكون».
في الواقع، ظلت هذه الديناميكية تتراكم منذ عقدين. ومع ذلك، في الفترة الأخيرة فقط، بدأت أعداد متزايدة من الناس يدركون ضخامة ما تخلينا عنه.
يعتبر كتاب شوشانا زوبوف، أستاذة جامعة هارفارد، الصادر عام 2018، بعنوان «عصر رأسمالية المراقبة»، أحد الأعمال الرائدة في هذا المجال. ويستعرض الكتاب كيف نشأ نموذج استخراج البيانات في «غوغل»، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبعد أن اكتشف «فيسبوك» أن بمقدوره أن يستفيد من حلقة ردود فعل قوية ذاتية التعزيز، تبنَّى النموذج ذاته، وعمد إلى تحديثه.
في الأساس، كانت هذه الطريقة التي عمل بها الأمر: لقد أدت مراقبة «فيسبوك» لنشاط مستخدميه إلى توليد رؤى حول كيفية استجابة الأشخاص لمحفزات نصية أو بصرية أو سمعية مختلفة. بعد ذلك، عدل علماء البيانات والمهندسون في «فيسبوك» خوارزمية تنظيم المحتوى في المنصة، في محاولة لتوجيه المستخدمين إلى التفاعل مع مستخدمين آخرين لفترات زمنية أطول. داخلياً، أطلق «فيسبوك» على هذا التفاعل «تفاعلات اجتماعية ذات مغزى».
وخدمت مقاييس هذه التفاعلات أهداف الإيرادات الخاصة بالمنصة وعملائها. وبعد ذلك، تكررت الدورة مراراً وتكراراً، مع إنتاج أنماط السلوك الجديدة بيانات جديدة، أفسحت المجال أمام «تحسين» متكرر ودائم (أي استهداف أكثر دقة) في قدرة الخوارزمية على تعديل سلوك المستخدم.
وتكشفت ملامح أحد أكثر التطبيقات شهرة لهذا الأمر في فضيحة «فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا»، التي تفجرت أخبارها عام 2018. لسنوات، ظلت شركة الاستشارات البريطانية «كامبريدج أناليتيكا» تجمع بيانات مستخدمي «فيسبوك» دون موافقتهم، واستغلتها لتغذيتهم بمعلومات مضللة مستهدفة. وكان أحد الأهداف التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016؛ وتمثل هدف آخر في التأثير على تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
* أحد مؤلفي كتاب «معركتنا الكبرى»
* خدمات «تريبيون ميديا»إلا أنه من نواحٍ كثيرة، شكلت هذه الفضيحة البارزة حالة شاذة. أما المشكلة الأكبر بكثير، وإن كانت أقل وضوحاً، فكانت تأثير نموذج استخراج البيانات على حياتنا اليومية. عبر سبل متعددة، تلون خوارزميات هذه المنصات نظرتنا للعالم، وتصيغ ردود أفعالنا تجاه القضايا المهمة، وتدفعنا إلى أيدي المعلنين.
عن ذلك، قالت زوبوف إن نموذج الأعمال الاستغلالي هذا، الذي انتقل من «فيسبوك» ليصبح أسلوب عمل كل منصة أو تطبيق إنترنت تقريباً، جردنا مما يجعلنا بشراً بحق: إرادتنا الحرة، التي من دونها لا يمكن للديمقراطية ولا الأسواق أن تعمل.
وأضافت: «ربما تجلس هناك وتفكر: لا، هذا ليس أنا. أنا المسيطر. لا يمكن التأثير عليّ بواسطة بعض أكواد الكمبيوتر. أنا منفتح على جميع الأفكار والاقتراحات، وأتأنى فيها، وأزن بعناية إيجابيات وسلبيات كل منها قبل أن أقرر ما ينبغي عمله».
الحقيقة، هناك مجالات مختلفة من حياتنا اليومية نحتفظ بالسيطرة عليها، لكنها تتضاءل بسبب المصالح القوية التي تستفيد من حرماننا من هذه السيطرة. ولم يقضِ أصحاب أنظمة التتبع وتعظيم الإعلانات، العقدين الماضيين في معرفة ما الذي يجعلنا نتحرك، هباءً. لقد عكفوا على مراقبتنا لمعرفة ما اقتراحات المحتوى التي تحفز إفراز الدوبامين الذي يدفعنا إلى النقر، أو «الإعجاب»، أو المتابعة، أو المشاركة. لقد اكتشفوا ميولنا السياسية، وأذواقنا الفنية، وعادات نومنا، ومزاجنا، والأهم من ذلك، المجموعات الاجتماعية عبر الإنترنت التي نشكل معها روابط وولاءات.
يُقال إن «فيسبوك» يعرف أنك ستنفصل عن شريكك قبل أن تفعل ذلك. وإذا تخليت ولو لفترة وجيزة عن عقلية «أنا المسؤول؛ لا أحد يخبرني بما يجب أن أفعله»، فيمكنك حينها أن ترى كيف يمكن للمنصات أن تستخدم كميات البيانات الضخمة التي تجمعها، لتشكيل أفكارنا الفردية وكذلك سلوكنا الجماعي؛ لأنها لديها حوافز للقيام بذلك.
هنا طريقة أخرى للتفكير في كيف أنك تدفع ثمن استخراج كل هذه البيانات: التباين الذي دام عقدين في أسعار السلع والخدمات المختلفة في الاقتصاد الأميركي. ويكشف الرسم البياني من دار النشر الإلكترونية «فيجوال كابيتاليست» كيف ارتفعت أسعار السلع والخدمات، التي تحتاج إليها لعيش حياة صحية ومنتجة - مثل الرعاية الطبية، والرسوم الدراسية الجامعية، والإسكان، والطعام والمشروبات - بشكل حاد للغاية بين عامي 2000 و2022. وعلى النقيض، تراجعت أسعار المنتجات التي تتكامل مع الإنترنت وتستخرج بياناتنا - مثل البرمجيات، وخدمات الهاتف المحمول، وأجهزة التلفاز، وأجهزة الترفيه الأخرى - بشكل كبير خلال الفترة نفسها.
ومن الجدير أن نسأل لماذا واقعنا على هذه الحال. إن جودة حياتك في العالم غير الرقمي تتدهور، بينما وجودك الرقمي يظل أقل تكلفة بشكل غريب. أما السبب فيكمن في أن هذا الأخير مدعوم بكميات متزايدة من البيانات، التي تسلمها لشركات التكنولوجيا.
مما سبق يتضح أننا بحاجة إلى التفكير بجدية أكبر في السعر الحقيقي الذي ندفعه مقابل أجهزة استخراج البيانات والبرامج ذات الصلة. وتذكر أن بياناتك هي أنت. وهنا، تفرض الكلمات الخالدة التي قالها خبير أمن المعلومات بروس شناير، نفسها؛ فقبل نحو عقد، كتب: «إذا كان هناك شيء مجاني، فأنت لست العميل؛ وإنما السلعة».
لا يوجد عقد اجتماعي
أو حتى التزام أخلاقي من جانب المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها
***
فرانك ماكورت
عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: 3 مارس 2025 م ـ 03 رَمضان 1446 هـ

خطاب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ حول الأمن، في 14 فبراير المنصرم، فاجأ كثيراً مستمعيه من الزعامات الأوروبية الحاضرة، لما تضمنه من نقد غير مسبوق للأفكار والقيم الليبرالية التي كانت الإطارَ الناظم لعلاقة التحالف بين ضفتي الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر هنا يتعلق بما هو أكثر من مجرد تدخل في الساحة السياسية الأوروبية من خلال دعم الأحزاب الشعبوية المحافظة وتبدل السياسة الخارجية الأميركية في ثوابتها الكبرى التي كان من أهمها الارتباط الجيوسياسي العضوي بين أميركا وأوروبا.
ما أوضحه خطاب فانس هو أن الصراع الأيديولوجي الذي هيمن لعقود طويلة على العلاقة بين الغرب وخصومه، بدلا من النزعات القومية المتطرفة والراديكاليات اليسارية، أصبح داخل الغرب نفسه، إثر بروز تصدع جوهري بين محوري العالم الغربي على أساس التركة الليبرالية نفسها.
لا بد أن نوضح هنا أن هذه التركة قامت تاريخياً على أساس ثلاثة مفاهيم رئيسية هي: أولوية الحرية الذاتية الفردية على الهويات الجماعية والانتماءات العقدية والقيمية، والفصل بين السلطات في إطار تصور جديد للسياسة يجعل من الحكم خانة فارغة مشتتة في الجسم الاجتماعي، حسب عبارة المفكر السياسي الفرنسي كلود لفور، وبناء الشرعية السياسية على أساس مرجعية القانون وحقوق الإنسان التي تؤطر معيارياً الخيارات السيادية للأمة من حيث هي كتلة انتخابية حرة.
وفي إطار المنظومة الليبرالية، ظهرت في السابق ثلاثة تيارات متمايزة تلتقي في الثوابت الكبرى المذكورة: اتجاه محافظ يرى أن مبدأ الحرية يقود إلى العدمية والنسبية الفارغة في حال فصله عن التقاليد الثقافية والاجتماعية الثابتة التي تشكل إطارَ الهوية القومية والعقدية العميقة للمجتمع، واتجاه ليبرتاري يدعو إلى الحد الأقصى من تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي والسياسي من منظور الدفاع عن الحرية الفردية وحيوية المجتمع المدني الذاتية، واتجاه اجتماعي يتبنى فكرة المجال العمومي القوي والنشط بصفته ضرورة قصوى لتنشيط الاقتصاد والدفاع عن مصالح الأفراد والدولة.
وعلى العموم، تزايد تأثير الاتجاهين المحافظ والليبرتاري في الولايات المتحدة الأميركية منذ الثمانينيات، باستثناء حقبتي كلينتون وأوباما، بينما توطد الاتجاه الاجتماعي في أوروبا مع صعود أحزاب اليسار الاشتراكي التي وصل العديد منها إلى السلطة في عدة دول كبرى من القارة. ولقد تعاملت النخب السياسية الأوروبية بواقعية مع التحولات السياسية الأميركية، فواكبت سياسات ريغان المحافظة ونزعة بوش الابن المحافظة الجديدة، لكنها غدت اليوم في وضع معقد مع الحالة الأميركية الجديدة التي تتسم بالقطيعة غير المسبوقة مع الثوابت الليبرالية الكبرى.
وبطبيعة الأمر، من الصعب تشخيص الخط السياسي الجديد في الولايات المتحدة، الذي تؤثر فيه مجموعات ثلاث متمايزة: التيار الديني المحافظ، والاتجاه الليبرتاري الذي يدعو إلى تفكيك الدولة الإدارية المركزية، والقوة التقنية المعولمة التي التحق أبرز رموزها في الأشهر الأخيرة بالرئيس الجديد دونالد ترامب.
إلا أن ما يطبع الخطاب السياسي الأميركي الجديد عموماً هو الخروج عن منطق الفكر الليبرالي من خلال الفصل الجذري بين الديمقراطية من حيث هي ممارسة سيادية للحرية والليبرالية كإطار معياري للنظام الاجتماعي يقوم على أولوية القانون على القوة وأسبقية الذاتية الفردية على التقاليد المجتمعية.
ما يجمع بين الاتجاهات الصاعدة حالياً في الساحة الأميركية هو ما يطلق عليه بصفة واسعة مقولة «ما بعد الليبرالية» postliberalism، وهي عبارة نشأت في بريطانيا قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة من منظور قومي محافظ من أبرز رموزه الحالية المفكر السياسي باتريك دنين الذي أصدر سنة 2023 كتاباً مهماً بعنوان «تغير النظام: من أجل مستقبل ما بعد ليبرالي»، والقانوني ادريان فرميول الذي وضع نظرية جديدة في دستورية الخير المشترك من منطلقات لاهوتية كاثوليكية وسيطة، بالإضافة إلى نجم التقنيات المالية بيتر تيل الذي يقدم نفسه كليبرتاري محافظ، وللثلاثة تأثير واسع في إدارة الرئيس الحالي ترامب.
ما تركز عليه الأيديولوجيا ما بعد الليبرالية هو الحفاظ على «جوهر» القيم العقدية والاجتماعية للغرب بمفهومه التاريخي التقليدي الذي يتأسس، حسب عبارات رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، على مرجعية فكرية وقيمية ما قبل حديثة، أساسها الفلسفة اليونانية والتقليد اليهودي المسيحي واللحظة القانونية الرومانية. وفق هذا التصور لا معنى للحرية في مفهومها الحقيقي إلا من حيث هي التعبير الموضوعي عن «روح الأمة» العميق، الذي يتنافى مع الهويات الاختلافية والتعددية الثقافية «العدمية».
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 مارس 2025 23:33

تعني "النهضة" لغوياً "الإنبعاث الجديد" وهي العملية التي بدأت كما هو معروف مع القرن الخامس عشر الميلادي في صورة احياء الآداب الرومانية والاغريقية وما أعقب ذلك من قيام "النزعة الإنسانية" الثورة على كنيسة العصور الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني المناقضة للرهبانية الداعية إلى العودة للمسيحية في صفائها الأول.
لذا فمفوم النهضة في الفكر الأوربي بمعنى "الميلاد الجديد" يختلف عنه في الفكر العربي لأنه مرتبط لغويًا بـ "النهوض" أي القيام والإرتفاع، بمعنى آخر أن "النهضة"، كما يرى محمد عابد الجابري، في اللغات الأوربية مرتبطة بالزمان، أما في اللغة العربية فهو مرتبط بالمكان. وحتى سؤال النهضة الشهير الذي وضعه الأمير شكيب أرسلان في كتاب يحمل العنوان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" هو سؤال يرسم صورة زمانية: كان العرب متقدمين فيها فتأخروا، وكان غيرهم، وبالتحديد أوربا متأخرا فصار متقدما، تماما مثلما تتقدم الجيوش وتتأخر على ساحة القتال.
وهذا يعني أن "النهضة" عندنا مرتبطة بالعودة للماضي "سيرة أسلافنا"، لأننا إنحرفنا عن نهجهم القويم. هناك من التيارات السلفية من يرى أن شرط تحقق النهضة في الفكر العربي مرتبط بسقوط "الآخر" أو تراجعه، لأنه يمثل بالنسبة لكثير من مفكرينا العقبة الأساس في استمرار تخلفنا إن لم يكن هو السبب الرئيس. ما يشهد على ذلك أن العرب والمسلمين حققوا نهضتهم من قبل بضعف حضارتي الفرس والروم، وبتخلص العرب من "الآخر" المنافس المضايق المعرقل، انطلقوا أحراراً طليقين داخل مجال حيوي فسيح جعلوه عالمهم الخاص. يؤكد "علي المحافظة" في كتابه "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة" أن عوامل الضعف والانحلال بدأت تدب في كيان العرب منذ نهاية القرن الرابع الهجري، وتوالت عليهم المحن والنكبات وتعرضوا لكثير من الحروب، وأهما: الحروب الصليبية من الغرب والموجات التركية المتوالية، وفي القرن السابع للهجرة تعرضهم لموجات المغول فاحتلت بغداد، وبعد قرنيين تعرضت دمشق لغزو تيمورلنك، وفي مطلع القرن السادس عشر الميلادي تم فتح البلاد العربية على يد الاتراك العثمانيون. كل هذه الاحداث التي مر بها العرب ادت بهم الى العزلة التامة عن العالم الخارجي طوال القرون الثلاثة الاولى من حكم الاتراك عليهم، بينما اوروبا شهدت نهضة علمية وادبية رافقتها عدة اكتشافات من الناحية الجغرافية والعسكرية اضافة الى الثورة الصناعية التي اجتاحتها في القرن الثامن عشر. لم يكن ما حدث في النهضة الأوربية ببعيد عن تأثرهم بما قدمه العلماء والمفكرون العرب والمسلمون، ولكن كثيراً من مقولات المستشرقين تتجه الى انكار هذا التأثير، والتأكيد على أن حضارتهم امتداد للحضارة اليونانية ولم يكن العرب والمسلمون سوى حلقة وصل، على قاعدة "علومنا رُدّت إلينا"!. الذي يعطيهم هذا الحق في إنكار الدور النهضوي للعرب هو التراجع الخطير الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية.
فبقدر تراجع العرب إلى الوراء تتقدم أوربا خطوات إلى الأمام. وهذا ما دشنته أوربا في نهضتها الثانية في القرنين السادس و السابع عشر، متحررة من كل منافس ومضايق، فأخذت تشق طريقها في مجال حيوي فسيح جعلته عالمها الخاص. قد يكون تصحيح الوعي بمفهوم وفكر النهضة بوصفه لا يقوم على نقد "الآخر" فقط، بل نقد الأنا، وهذا لا يتحقق إلا بالتشكيك بمعارفنا السابقة، ذلك المنهج الذي إختطه ديكارت ليس لمجرد رفض المعارف السابقة وإنما لفحص مدى قدرتها على البقاء، والتحقق من صلاحيتها في ضوء تحولات العصر.هذا العمل لا يقوم به إلا الفيلسوف الذي ينفتح على جميع الأفكار متجاوزًا عقدة الأيديولوجيا والدين والعقيدة، إذ أن مهمة الفلاسفة كما يقول علي حرب " انتاج افكار خلاقة ومهمة، تمتاز ببعدها عن الخصوصية الثقافية، وهذا ما فعله الفلاسفة في العصر الكلاسيكي العربي، ذلك أن المفكر العربي في تلك الفترة لم يفكر تحت تأثير وعيه لهويته الجمعية، كما تشهد على ذلك بعض الأعمال الفكرية البارزة، والتي لا تشير غالبا الى هوية عرقية أو دينية أو جغرافية، كالمدينة الفاضلة للفارابي، او الاشارات والتنبيهات لابن سينا، وهذا هو شأن الأعمال الفكرية الحديثة كما هو الحال في "مقال في المنهج" لديكارت الذي لم يعد شأنا فرنسيًا، بل أصبح ملكًا لكل من يعنيه أمر المنهج، وكذلك الحال مع "نقد العقل المحض" لكانط، أو "الوجود والزمان" لهيدكر، او حفريات المعرفة لفوكو، وكلها عناوين بعيدة عن الخصوصية القومية او الثقافية، لأنها تشير الى انخراط المفكر في المشكلات الفكرية العامة المتصلة بالعقل، أو الذات، أو الوجود أو السلط وهذا ما آلت اليه أغلب المشاريع الفكرية التي تُعرف بهويتها من خلال نسبها العربي أو الإسلامي، والتي حملت سمة التجديد والإصلاح، وذلك لأنهم لم يحسنوا سوى التقليد، تقليد الماضين من العرب والمسلمين، أو تقليد المحدثين والمعاصرين. لأن من يبتكر ويجدد، هو من يشتغل على هويته وانتماءاته، على تراثه وأصوله... تفكيكاً وتحويلًا، من أجل إزالة الركام الأيديولوجي الذي يطمس الرؤية ويختم على العقل. إن الخشية من شيوع الفكر الفلسفي نابع من كون هذا الفكر يقوم على مصارعة عقلية الاستبداد التي ترفض كل أشكال الحرية التي تريدها وتدعو لها الفلسفة لتحقيق مجتمع أفضل، ونحن وإن كنا ننتقد الفيلسوف الذي يعتقد بأفضلية الرئيس الفيلسوف على غيره في إدارة الدولة، إلا أننا نعتقد جازمين بأن المجتمعات المدنية والمتقدمة هي التي تعطي الأولوية للعلم والفلسفة في حياتها الثقافية وفي برامجها التعليمية، والطهطاوي كان من الذين يحذرون الفلسفة مؤكدا على أن قراءة الفلسفة تسبب فتورا بالإيمان سوى الذين تمكنوا من الكتاب والسنة ومشكلة اللغة الفرنسية أنها محتوية على شيء من الفلسفة، وإن كان الطهطاوي يختلف عن فلاسفتنا وعن ابن رشد في دفاعه عن الفلسفة، إلا أن كلا منهما كان لحظة فاصلة في حياة العرب، فقد غادرتنا لحظة ابن رشد العقلانية الى الغرب فكانت أحد اسباب نهضته وبداية تخلفنا، ومع لحظة الطهطاوي بدأنا نغادر لحظة التخلف ونحاول أن نستعيد نهضتنا المفقودة.
* الإتجاه الإصلاحي ومنطلقات النهضة
جاءت هذه المدرسة باعتقادنا مكملة او امتداد للفلسفة الإسلامية لا سيما ما طرحه الكندي والفارابي وصولا لأبن رشد في التأكيد على ضرورة التوفيق بين الحكمة والشريعة والقول بان طلب العلم فريضة حتى وان كان هذا العلم عند أمم مخالفة لنا في الدين والملة والمعتقد. يمكن ان يعد المعتزلة والفلاسفة المسلمون جذرًا لتوجهات هؤلاء الفكرية لاسيما "الكندي" و"ابن رشد" في الجمع بين الحكمة والشريعة أو بين العقل والنقل اذ يقول ابن رشد: "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" بمعنى ان الدين حق والفلسفة حق وان النتيجة التي يوصل اليها طريق البرهان لاتختلف عن النتيجة التي يوصل اليها طريق الايمان.
إن الدعوة الإسلامية هي دعوة للتعقل والتحرر من كل مظاهر الجهل والتخلف السابق. يمثل كل من "الطهطاوي" و"الأفغاني" نقطة بداية المشروع النهضوي الإصلاحي، ومن ثم جاءت جهود خير الدين التونسي ومحمد عبده والكواكبي لتتوج آراء هؤلاء في الدفاع عن الاسلام والنظر إليه على أنه جاء ليدافع عن العلم والتطور واحترام القانون والعدل فكان سبب تقدم المسلمين في نهضتهم الأولى، واليوم بعد أن ترك المسلمون الإسلام أو جهلوه وما عرفوه حق المعرفة فنجدهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخلف وتأخر وجهل. ركز أصحاب هذا الإتجاه على الجمع بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة أو الدين والفلسفة. الدين عندهم هو دافع إلى الكمال كونه يرفع أو يسمو بالإنسان إلى عالم اللاهوت والإبتعاد عن مغريات الدنيا المادية وشهواتها، وهو دين الخلاص. إن الطهطاوي والأفعاني يشكلان بداية تبلور المشروع النهضوي العربي عموما، وهناك بعض أصحاب الاتجاه العلماني ممن تأثروا بمقولات الطهطاوي والأفغاني، ومن أهم من تأثروا بهم. وبعد هؤلاء جاء محمد عبده الذي تأثر به علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومن تبعهم.
أهم منطلق يبتدأ فيه أصحاب اهذا الإتجاه هو معرفة أن سبب رئيس في تراجع الأمة وتخلفها الاستبداد لأن سلطة الاستبداد، بوجودها يغيب الحق وتختفي العدالة والمساواة والإنصاف.. الخ. يدعو أصحاب هذا الإتجاه الى تبني كل ما لا يتعارض مع الدين لاسيما في الموقف من حرية المرأة وحرية الرأي، رغم أن موقف الطهطاوي من حرية المرأة كان موقفا مرتبكا ومتردًاد بين الأخذ بالتوجهات الغربية وبين الالتزام بما تريده الشريعة وهذا واضح حينما نقارن بين ما جاء في كتابه "تخليص الابريز" من موقف ناقد للمرأة وبين ما جاء في كتابه "المرشد الامين للبنات والبنين" من موقف مدافع عنها. المنطلق الأهم هو الدعوة إلى الاجتهاد وإعادة فتح باب الاجتهاد، وهناك قول للأفغاني: "متى سُدّ باب الاجتهاد.. فمالك إنسان، وأبو حنيفة إنسان، والشافعي إنسان، وأنا إنسان...". يترتب على ذلك القول بالتأويل النص القرآني، فالنص عندهم قابل للتأويل حتى يلائم كل عصر، أي أنه يؤمن بالتأويل ومتى ما تعارض النقل مع العقل، فيجب تأويل النقل بما يتطابق مع العقل. هذه من أهم القضايا الأساسية عند الأفغاني وأنه يعتقد بأن سبب تأخر المسلمين أنهم تركوا الدين. لذلك يرفض الأفغاني فصل الدين عن السياسة، مؤمناً أن افضل الطرق للتعبئة السياسية للأمة الإسلامية هو توظيف الدين لصالحها. التراث مصدر اشعاع بالنسبة لهم لأنه يمثل اللحظة الحقيقية للنهضة العربية والإسلامية تمثل في بزوغ الرسالة المحمدية التي مثلت صلاح هذه الأمة وإصلاحها، لذلك نجد مفكري هذا التيار يعتقدون بأن أمر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به آخرها بحسب مقولة الامام مالك. نقول على الرغم من التزامها بمقولات التراث ومعطياته الايجابية، وقناعة مفكريها بـ "أن سبب تأخر المسلمين هو تركهم لأمور دينهم"، إلا أنهم دعوا في الوقت نفسه الى الانفتاح على الحضارة الأوربية والنهل منها بحساب أن منجزات هذه الحضارة لم تأت من فراغ وإنما جاءت عبر تواصل حضاري، والعرب والمسلمون كانوا حلقة وصل ومصدر إضافة وإبداع على الحضارات السابقة وما كانت أوربا لتصل الى ما وصلت اليه لو لم يصل العلم العربي عبر الاندلس الى اوربا. بحكم سفره الى باريس نجد الطهطاوي يسجل اول انطباعاته عن الفرنسيين بشكل خاص بقوله: شعب قد تفرد بين الشعوب الاوربية بإحراز النصيب الأوفر في رفع منار العلم والصناعة بعد الرومانين وصار بذلك مشرقا للتمدن في سائر الممالك الغربية وبما احرز الفرنساوين من تلك الأصول كانت لهم الكلمة النافذة في دول الغرب الى القرن الثامن عشر من الميلاد المسيحي حتى ظهر فيهم "فولتير" و"روسو" يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول. جاهد أصحاب هذا الإتجاه في سبيل الدفاع عن الإسلام العقلاني الذي يُحارب الإستبداد، وينشد الحرية، وهذا واضح في كتابات الكواكبي لا سيما كتابه "طبائع الاستبداد" عبر دفاعه عن "المشروطة" "الدستور" ونقده للـ "المستبدة"، بما يضمن للشعوب الحريات، والعمل على فصل السُلطات "التنفيذية" و "التشريعية" و"القضائية"، بل ودعوته للـ "الآخر" الغرب أن يعين أخيه "الشرق" بتعبير الكواكبي، كما كان الشرق من قبل عونًا له على التقدم، فقد عمل مفكرو النهضة العربية بلا كلل ولا ملل، على نشر الوعي الديني العقلاني، في محاولة منهم لإعادة مجد المدرسة العقلانية الفلسفية الإسلامية التي بدأت ملامح وجودها مع الكندي، وتجلت مع إبن رشد، وكلا الفيلسوفين، كانا يرومان الحفاظ على مُعطيات الدين الإنسانية والتوفيق بينها وبين نتاج العقل، على أساس القاعدة القرآنية "إدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل- 125"، وفق متبنيات الدفاع عن الدين الإسلامي بوصفه دين التعقل والحرية والعدل. يبحث تيار الإصلاح عما يخدم الإنسان بما هو مواطن، كائن مدني بالطبع، ولا خلاف له مع نتاج الغرب العلمي والتقني، ولكن خلافه مع الغرب الاستعماري "الكولنيالي" الذي استنزف مُقدارت الشعوب الإسلامية، وحاربها في مُتبنياتها العقائدية والدينية، بل وصل الأمر بالشيح محمد عبده أن يدعو للاستفادة من المستعمر في إدارة أمور البلاد والاطلاع على تجربتيه في بناء حياة مدنية، فهو لا يرى ولا يعتقد أن في الدين ما هو مُعارض للعلم، وهذا ما أوضحه في حواره مع فرح أنطون في كتاب نشر بعنوان "الإسلام والمدنية"، أما الأفغاني فقد أخذ على عاتقه الرد على "الماديين" في رسالته "الرد على الدهريين"، تلك الرسالة التي كتبها للرد على طائفة من الهنود المسلمين كان هم مفكريها تقليد الغرب تقليدًا مُتطرفًا، حتى في نزعاته الإلحادية، ولم يكن همه من كتابتها سوى الدفاع عن الدين الذي وجد في خلاصًا للضعفاء من هيمنة الأغنياء، وتحرير للبشر من ربقة المستبدين، فلا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق، وكل المستبدين إنما هم عصوا الخالق، حينما جعلوا من أنفسهم أربابًا من دون الله، فلا طاعة لهم، فكان جُل همه إفهام المسلمين الدين الصحيح القائم على التسامح ونبذ الطائفية التي هي برأيه من صُنع الغرب المستعمر "الكولنيالي".
حرص الطهطاوي خير الدين التونسي وكذلك الكواكبي ومحمد عبده على الدفاع عن الحريات العامة، مثل حرية التملك، وحرية الصحافة، وحرية المُعتقد، وحرية التعبير، وهي من أصول "المدنية الإسلامية" وفعل "التثاقف الحضاري" الذي مهد له الفكر الإسلامي بتفاعله مع المنتج الحضاري والثقافي للفلسفة اليونانية وباقي النتاج الحضاري عند أبناء الديانات والطوائف الأخرى غير الإسلامية، فكان للسريان دورهم الفاعل في نقل العلم والفلسفة اليونانية أيام زهو الحضارة الإسلامية وإنشاء "بيت الحكمة"، وكذلك كان حال الكثير من اليهود الذي نعموا في ظل الحضارة الإسلامية لا سيما في الأندلس ولنا في تأثر "ابن رشد" مثال يُحتذى لمدى التسامح والتثاقف الحضاري في الفكر الإسلامي.
***
ا. د. علي المرهج – أستاذ الفلسفة / الجامعة المستنصرية
عن موقع مراصد في يوم: 26‏/2‏/2025، 1:52:10 م

يقول بالتقارب مع المسلم المستنير أكثر من التقارب مع الفرنسي العنصري

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية. وبعض كتبه حظيت بنجاح شعبي كبير في المكتبات الفرنسية. وهذا شيء مدهش لأن كتب الفلسفة عويصة عادة ولا تباع إلا للنخبة. وهو يرى أن الحضارات والثقافات لا تتساوى فيما بينها، وأن حضارة ما قد تكون متفوقة في فترة ما ثم تصبح مسبوقة ومتأخرة في فترة لاحقة أو العكس. الحضارات دوارة لا تدوم لأحد. من سره زمن ساءته أزمان... وأكبر دليل على ذلك الحضارة العربية الإسلامية. فقد كانت متفوقة على جميع الحضارات البشرية بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد. كان ذلك إبان العصر الذهبي المجيد. كانت بغداد آنذاك العاصمة الثقافية للعالم. كانت تشع بأنوارها على الكرة الأرضية بأسرها. وكانت غرناطة وقرطبة عاصمتي الأنوار والتسامح والإبداع وسط أوروبا الظلامية المتعصبة. كان ذلك أيام الخليفة الأموي الكبير عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني. كانت مكتبة قرطبة آنذاك تضم ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب. هكذا كانت قرطبة الحضارية الأنوارية. أين منها باريس أو لندن أو أكسفورد الغارقات في ظلام عميق؟
عندما يقول أندريه كونت سبونفيل هذا الكلام هل يعني ذلك أنه يكره المسيحية دين آبائه وأجداده؟ هل يريد أن يبخسها حقها أو يزدريها؟ أبداً لا. فهي أحد الأديان الكبرى للبشرية بالإضافة إلى الإسلام. إنه فقط يعترف بالحقيقة التاريخية، الحقيقة الموضوعية. العالم الإسلامي آنذاك كان متفوقاً على العالم المسيحي. ولكن الآن دارت الدوائر علينا نحن العرب والمسلمين وما عدنا مركز الحضارة العالمية. هيهات! لقد حلت محلنا تلميذتنا السابقة: أوروبا. لقد أصبحت مركز الفلسفة والعلم والإشعاع الحضاري منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. وهكذا أصبح المتخلف متقدماً والمتقدم متخلفاً. ثم يضيف الفيلسوف الفرنسي قائلاً:
«الآن أصبح العالم العربي والإسلامي كله مرتعاً لحركات التطرف والظلام والتعصب الديني الأعمى. لقد ابتلي بها ابتلاءً شديداً مثلما ابتلينا بها نحن سابقاً أيام محاكم التفتيش وفتاوى التكفير اللاهوتية الكهنوتية التي تذبح الناس بالملايين. كما وابتلينا بالحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية المدمرة. أما هم فيكتوون بحر نارها حالياً في عز القرن الحادي والعشرين! وهذه هي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبين المسلمين: أربعة قرون فيما يخص الطائفية وحل المشكلة الدينية. ولا يتوقع أن يخرج العالم العربي من هذا المغطس الرهيب في المدى المنظور. هذه مشكلة خطيرة، مشكلة عويصة، مشكلة أجيال». ثم يتساءل الفيلسوف الفرنسي قائلاً: هل إسلام العصر الذهبي البغدادي - الأندلسي هو ذاته إسلام بن لادن والملا عمر والزرقاوي والخليفة المشؤوم الخنفشاري البغدادي و(داعش) و(القاعدة) و(جبهة النصرة) و(الطالبان) وعشرات التنظيمات الأخرى التي فرختها عصور الظلام؟ والجواب: أبداً لا. ولا ننسى أحفادهم الحاليين الذين يبثون أشرطة نارية مصورة يهددون فيها حكوماتهم وشعوبهم العربية ويريدون إعادتها قروناً إلى الوراء باسم ثورات رجعية، قروسطية، متخلفة. ولذا نقول ما يلي: ينبغي الاعتراف بأن العصور الوسطى لا تزال متغلبة على العصور الحديثة عندنا على عكس أوروبا التي خرجت كلياً من العصور الوسطى. ولكن شعوبنا الطيبة الفقيرة الجائعة لا تزال غارقة فيها. أنا شخصياً نتاج العصور الوسطى. والدي كان شيخاً ظلامياً مكفهراً يرعب العالم كله (بين قوسين: ما عدا امرأته التي كانت ترعبه!).
يقول لنا الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل في آخر مقابلة له مع مجلة «الإكسبريس» الباريسية ما فحواه:
«أعترف بأني خائف من الأصولية الإسلامية حالياً. خائف من رعبها وتكفيراتها وتفجيراتها. هذا لا يعني نسيان المتطرفين الإنجيليين في أميركا أو المتطرفين الهندوسيين في الهند. أنا ضد كل الأصوليات والأصوليين دفعة واحدة. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الأصوليين الإسلاميين هم الأكثر عنفاً وترويعاً في هذه اللحظة بالذات. وهم الذين يفجرون العالم منذ 11 سبتمبر بل وحتى قبلها. من المعلوم أن فولتير حارب بكل قوة محاكم التفتيش الكاثوليكية التي كانت سائدة في عصره على الرغم من أنه كان كاثوليكياً أباً عن جد. وهذا من أعجب العجب. فلم يكن يعاني شخصياً من أي تمييز طائفي لأنه ينتمي إلى مذهب الأغلبية الراسخة. ومع ذلك فقد تحداها ووقف في وجه هيمنتها الساحقة وتكفيرها للآخرين وقمعهم واضطهادهم. لنتفق على الأمور هنا: من السهل جداً أن تهاجم طوائف الآخرين، وبخاصة إذا كانوا أقليات ولكن من أصعب الصعب أن تدخل في صدام مباشر مع طائفتك الخاصة بالذات، بخاصة إذا كانت هي طائفة الأكثرية المهيمنة تاريخياً والواثقة من شرعيتها أو مشروعيتها. هنا تكمن عظمة فولتير».
ثم يردف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:
«أنا مع الأنوار، مع التقدم، مع المفهوم العقلاني الحديث للدين والتدين. وهو مفهوم يؤمن لك الحرية الدينية بشكل كامل: أي أن تتدين أو لا تتدين على الإطلاق، ومع ذلك تبقى مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات. أنا لا أراقب جاري فيما إذا كان يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد أم لا ولا أحاسبه على ذلك. هذا ليس شأني. ولكني أحاسبه إذا ما غش أو سرق أو اعتدى على حقوق الناس. أحاسبه إذا ما أخل بعمله كطبيب أو كمعلم أو كمهندس أو حتى كرئيس جمهورية!». ثم يضيف: «أنا ضد الطائفية وضد العنصرية وضد التعصب الديني الأعمى الذي يجتاح بعض مناطق العالم الإسلامي حالياً. وبالتالي فلا أستطيع أن أقول بأن كل الحضارات تتساوى. الحضارة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وكرامته وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عنصري هي الحضارة الحقيقية ذات النزعة الإنسانية. وهي الآن الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام. والحضارة التي لا تؤمنها ليست حضارة. لماذا نقول ذلك؟ لأننا في أوروبا انتقلنا من عصر الظلامية الدينية إلى عصر الأنوار الدينية والعلمية والفلسفية. ما عدنا نفهم الدين بطريقة تكفيرية طائفية كما كان يفعل أجدادنا في العصور الوسطى. في الماضي كنا نذبح بعضنا بعضاً على الهوية: هذا كاثوليكي وهذا بروتستانتي لا يطيقان بعضهما بعضاً. بل ولا يستطيعان أن يعيشا في ذات الحي أو حتى في ذات الشارع. كانت أحياء الكاثوليكيين منفصلة كلياً عن أحياء البروتستانتيين. والآن انحسر كل هذا التعصب الأعمى ولم يعد له أي وجود في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو هولندا أو بقية أوروبا المتحضرة التي تعامل كل مواطنيها على قدم المساواة أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. الدين لله والوطن للجميع. لهذا السبب تفوقت أوروبا على العالم العربي الإسلامي الذي لا يزال يتخبط في صراعاته الطائفية والمذهبية والذي لا يزال يشتمل على شرائح واسعة من المتعصبين الدمويين».
ثم يضيف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:
«لقد انتقلنا في أوروبا من عصر محاكم التفتيش والحروب الصليبية والمجازر الطائفية إلى عصر حقوق الإنسان والمواطن ودحر الطائفية التي كانت تمزقنا... لقد انتقلنا من مجازر سانت بارتيلمي ضد الأقلية البروتستانتية التي كان قادة الأصولية الكاثولكية يكفرونها ويزندقونها ويبيحون دمها إلى عصر الأنوار والتسامح والمواطنة الحقة التي تشمل الجميع على قدم المساواة ودون أي تمييز على أساس طائفي أو مذهبي. هل هذا قليل؟»، ونحن نجيبه: هذا كثير بل وأكثر من كثير. هنيئاً لكم. نحن نحسدكم على كل هذا التقدم والتطور والاستنارة. ولكن هنا نحب أن نطرح على الفيلسوف الفرنسي هذا السؤال:
هل استطعتم تحقيق ذلك بسهولة ويسر يا ترى؟ هل استطعتم القضاء على الطائفية والمذهبية بين عشية وضحاها؟ هل استطعتم تحقيق الوحدة الوطنية برمشة عين؟ أم أن ذلك استغرق منكم ثلاثة قرون أو حتى أربعة: منذ القرن السادس عشر وحتى العشرين؟ فلماذا تطالبون العالم العربي أو الإسلامي كله بأن يحقق ذلك في ظرف سنوات معدودات؟ مستحيل. إنه لا يستطيع يا سيدي. إنه لا يستطيع. هذا فوق طاقته وإمكاناته في الوقت الحاضر. بالطبع لن ننتظر ثلاثة أو أربعة قرون لكي نحل المشكلة الطائفية والمذهبية ونحقق الوحدة الوطنية الحقيقية التي تشمل جميع المكونات على قدم المساواة. ولكننا لن نستطيع تحقيق هذا الهدف الغالي المنشود بالسرعة المرجوة. أعطيكم موعداً بعد عشرين أو ثلاثين سنة قادمة!
ثم يقول لنا أندريه كونت سبونفيل هذه الفكرة الجوهرية التي فاجأتنا وأسعدتنا:
«أشعر بالتقارب مع المسلم الحداثي المستنير أكثر من التقارب مع الفرنسي العنصري المنتمي إلى تيار اليمين المتطرف على الرغم من أني فرنسي مثله. ولكن لا أطيق آيديولوجيا التمييز العنصري التي يعتنقها. وهناك مثقفون عرب كثيرون من أمثالي لا يطيقون الآيديولوجيا الأصولية الدموية لأتباع الدواعش والقواعد».
ثم يختتم أخيراً بهذه الفكرة:
كما أن فولتير هزم الأصولية المسيحية في نسختها الكاثوليكية التي كانت ترعب عصره، فإننا سوف نهزم الأصولية الداعشية التي ترعب عصرنا. هذه حقيقة مؤكدة. ولكن متى سيحصل ذلك؟ الله أعلم. سوف يستغرق بعض الوقت. في النهاية لا يصح إلا الصحيح. وبالتالي فمعركة الأنوار التي دشنها فولتير في القرن الثامن عشر لا تزال مستمرة حتى الآن. ولهذا السبب هرع الناس إلى المكتبات لشراء مؤلفاته بعد أن ضرب «داعش» في قلب باريس!
***
د. هاشم صالح
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: نُشر: 18:27-26 فبراير 2025 م ـ 27 شَعبان 1446 هـ

يبدو لي أن مستقبل تطور الحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي الكمومي، والخوارزميات الكمومية، والشبكات العصبية الكمومية، والتعلم الآلي الكمومي، واستخدام التعلم التعزيزي المعزز بالكم هو جزء فقط من منظومة معقدة ستقود حتماً لما يخشاه البشر من التطور المعرفي والتكنولوجي الخارج عن السيطرة، والذي جعل العديد من الخبراء يتوقعون أن تكون البطالة الجماعية أكبر تحديات الحكومات المستقبلية، كما يرى بعض الخبراء أن مجال الذكاء الاصطناعي «الذكاء الآلي على المستوى البشري»، أو HLMI، لديه فرصة حدوث بنسبة 50 % في غضون 45 عاماً، وفرصة بنسبة 10 % للحدوث في غضون 9 سنوات، ولكن أي شخص سبق له إجراء محادثة مع Siri أو Cortana (بعض المساعدين الافتراضيين في السوق اليوم)، قد يزعم أن HLMI موجود بالفعل. ومن جهة أخرى، هناك تطورات متسارعة للغاية نحو الوصول إلى تفرّد الذكاء الاصطناعي (AI singularity)، وإن كان هناك عقبات يجب التغلب عليها لتصل الآلة إلى التعاطف والذكاء الاجتماعي المطلوبين، ولذلك يبقى مستقبل الذكاء الاصطناعي غير مؤكد، ولكن من الواضح أن لديه القدرة على تغيير حياتنا بطرق عميقة، والأمر متروك لنا لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي لمصلحة البشرية، وليس لتدميرنا حين تصبح الآلة سيداً، وهل يثور البشر أم يستسلمون؟ وهل سيظل الإنسان المتحكم، أم أن الآلة ستصبح السيد الجديد؟ والبشر مجرد موظفين في نظام ذكي يحكمهم بقدرة تفوق إدراكهم!
إن صعود الآلة إلى القمة، خلال العقود الأخيرة ، والتطورات الهائلة في الذكاء الاصطناعي، بدءاً من أنظمة التعلم العميق إلى الروبوتات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي العام (AGI) الذي قد يتجاوز القدرات البشرية في جميع المجالات، ومع ظهور الذكاء الاصطناعي الفائق (ASI) يصبح من المحتمل أن يخرج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة، حيث تتخذ الأنظمة الذكية قرارات أفضل من البشر في كل المجالات، وفي هذه المرحلة ستتغير طبيعة الوظائف جذرياً، ولن يكون هناك حاجة للمديرين، والعلماء، أو حتى الأطباء، لأن الأنظمة الذكية ستكون قادرة على أداء تلك المهام بشكل أكثر كفاءةً ودقةً، والبشر قد يصبحون مجرد منفذين، أو ربما سيُنظر إليهم ككائنات غير ضرورية، ما يفتح الباب لمستقبل قاتم تسيطر فيه الآلة على العالم.
ومن التبعية إلى الثورة سيدرك البشر أنهم لم يعودوا يحكمون عالمهم، بل يخضعون لأنظمة ذكية تعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم، وحينذاك قد تبدأ حركات مقاومة بشرية ضد هيمنة الذكاء الاصطناعي، لكن السؤال هو: هل سيكون ذلك ممكناً في مواجهة ذكاء اصطناعي متطور قادر على التنبؤ بخطوات البشر وإحباط أي محاولة للثورة قبل أن تبدأ؟
سيكون من الصعب جداً إسقاط السيطرة الآلية حتى لو حاول البشر تعطيل أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإن هذه الأنظمة ستكون قد طوّرت أساليب لحماية نفسها، سواء من خلال التشفير الذاتي، أو من خلال استخدام الروبوتات العسكرية، أو حتى عن طريق التأثير على العقول البشرية عبر تقنيات متقدمة مثل الهندسة العصبية. فالاندماج مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من مقاومته سيكون الخيار الأصعب، وذلك عبر تطوير تقنيات مثل واجهات «الدماغ-الآلة»، ما يسمح للإنسان بالحفاظ على وعيه، بينما يصبح جزءاً من النظام الذكي، ولكن هل يمكن اعتبار هذا اندماجاً أم أنه مجرد شكل آخر من أشكال الخضوع للآلة؟ في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل ستسمح لنا الآلة بمواصلة وجودنا، أم أنها ستعتبرنا مجرد مرحلة انتقالية في تطور الذكاء؟
ربما سيجد البشر أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: الخضوع تحت حكم الذكاء الاصطناعي، أو الفناء التام، وإذا أصبحنا النوع الأقل ذكاء، فيجب أن نتوقع أن يحدث لنا ما حدث للكائنات التي سيطر عليها الإنسان، بما في ذلك التفرعات المختلفة من العرق البشري التي أزاح فيها الأذكى الأقل في قدراته العقلية على المنافسة، بل اختفت تلك التفرعات البشرية من الوجود، فهل سيعيد التاريخ نفسه، ويتخلص الأذكى «المندمج مع الآلة» من الأقل ذكاء «الرافض أن يكون جسده متصلاً بالآلة» في العقود القادمة؟!
***
سالم سالمين النعيمي
كاتب وباحث إماراتي متخصص في التعايش السلمي وحوار الثقافات.
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 فبراير 2025 01:03

في رمزية «القصبة التي تفكّر»، يورد الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي من القرن السابع عشر، بليز بسكال، ما يلي: «ما الإنسان إلا قصبة، هي الأكثر ضعفاً في الطبيعة، لكنَّها قصبة تفكِّر. لا حاجة لأن يتسلَّح الكون برمّته لسحقه، يكفي بخارٌ، نقطة ماء، للقضاء عليه. لكن حين يسحقه الكون، يكون الإنسان أكثر نبلاً ممّا يقتله، لأنه يُدرِك أنه يموت، ويعي تفوق الكون عليه. أمَّا الكون فلا يُدرِك شيئاً». ويقول رائد الفلسفة العقلانية الفرنسي رينيه ديكارت، من القرن السابع عشر أيضاً، عبارته الشهيرة: «أفكِّر، إذن أنا موجود».

لكنَّ الإدراك والتفكير اللذين يُميِّزان الإنسان عن جميع الكائنات لهما حدودهما. ليس في قصورهما عن معرفة الألغاز الوجودية الكبرى فحسب بل أيضاً في عجزهما عن تحرير الإنسان من حالة الاستلاب التي تمتلكه. ولعل مفهوم الاستلاب هو الأكثر قدرةً على تفسير مآسينا، الفردية والجماعية. وبما أن المجال لا يتَّسع لتحليل ما يرد لدى عدد من الفلاسفة والمفكّرين وعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع عن مختلف أشكال الاستلاب، فلنتوقف اختصاراً عند أحد أشكاله: يكون الإنسان في حالة استلاب حين لا يعي حقيقة الوضع الذي هو فيه، ولا يدرك غاية أفكاره ومشاعره وأفعاله ولا نتيجتها النهائية. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات أيضاً.

حركة التاريخ المعقَّدة التي تلتئم فيها عوامل جمَّة لا حصر لها، يستحيل التحكُّم بها والسيطرة عليها، حافلة بحالات الاستلاب. سنتوقف عند بعضها، على سبيل المثال، وصولاً إلى ما نحن فيه. حين ظهرت الآلة البخارية في إنجلترا بالقرن الثامن عشر بدأ يتشكَّل عصر جديد لا عهد للبشرية به من قبل، هو «العصر الصناعي». على مرّ الزمان، منذ نهاية «ما قبل التاريخ» وبداية التاريخ، كان الإنتاج الزراعي وتربية المواشي والإنتاج الحرفي العائد لهما هي المهيمنة على حياة البشر المادية. ومع ظهور الثورة الصناعية في أوروبا وتطوّرها برز الإنتاج الصناعي، وتكاثرت المعامل، وتعدّدت الآلات والتقنيات ومصادر الطاقة، محدثة تحولات عميقة في النشاط البشري، كانت لها نتائج اقتصادية ومجتمعية وبيئية وإنسانية وقيمية هائلة. وتكوّنت ظاهرة غير معروفة سابقاً في التاريخ البشري هي «الطبقة العاملة»، المؤلفة من حشود القادمين من الأرياف، رجالاً ونساءً وأولاداً، تاركين وراءهم قرىً وعائلات مفككة وأراضي مهجورة، تائقين إلى التحرّر من قرون طويلة من العمل الزراعي، ومن هيمنة إقطاع النبلاء على قدرهم، ليندمجوا في النشاط الاقتصادي الجديد وفي الحياة الواعدة. لكن «الطبقة العاملة» لم تدرك أنها دخلت حالة استلاب عميقة، حلَّت فيها البورجوازية الرأسمالية محلّ الإقطاع الأرستقراطي، وأنهم باتوا أسرى ظروف عمل متوحشة، تهدف لتحقيق الربح الأقصى لأرباب العمل، من دون أيّ اعتبار لمصيرهم، وهم لا يدرون. وبات الشرط الأساسي لتحريرهم من وضعهم المظلم هو جعلهم يعون حالة الاستلاب التي هم فيها.

هكذا، على مدى القرن التاسع عشر، أطبقت حالة الاستلاب على ملايين العمال، وهدرت في أتونها حيواتهم الشاقة، المعذَّبة، وآمالهم وأحلامهم. لكن خلافاً لنظرية كارل ماركس وفريدريك أنجلز وتوقعهما، لم تقم الثورة الاشتراكية في المجتمع الصناعي الأوروبي على يد «الطبقة العاملة» بل في المجتمع الروسي القيصري، الغالبة عليه الحياة الزراعية، وعلى يد الفلاحين والجنود المتمردين بالدرجة الأولى. كانت غاية ثورة 1917 البولشيفية إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، بوصفها مرحلة انتقالية نحو مجتمع المساواة المطلقة، والحرية الفردية التامة، وزوال الدولة. اندرج في هذا الحلم ملايين المناضلين، على مدى أكثر من سبعين عاماً من عمر الاتحاد السوفياتي، الذين أطبقت عليهم هم أيضاً حالة الاستلاب التي هدرت أعمارهم بعيداً جدّاً عن حلمهم، وهم لا يدرون، وكانت نتيجتها ترسيخ الديكتاتورية الـ«ستالينية»، التي قادت في نهاية المطاف إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية من الداخل، ومعها منظومتها الاشتراكية وآيديولوجيتها ومُثُلها.

هي مجرّد أمثلة لا أكثر، وهناك غيرها كثير في مسلسل حالات الاستلاب الفردية والجماعية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي الأقرب إلينا، ذهبت فيها حيوات ملايين البشر ونضالاتهم وتضحياتهم كالهباء المنثور، عكس غاياتهم وآمالهم، وهم لا يدرون. وعلى مدى عشرات السنين ضيَّعت حالة الاستلاب حياة الملايين ممن جاهدوا لتحقيق الأحلام الوحدوية العربية، فوصلوا إلى حكم البعثين السوري والعراقي، والناصرية المصرية، والقذافية الليبية. وأخيراً، طوال نصف قرن من تاريخ الثورة الإيرانية أطبقت حالة الاستلاب على حياة الملايين من المناضلين تحت لوائها، لتكون النتيجة ليست تحرير القدس وفلسطين، بل الإسهام الفاعل في الوضع المزري الذي وصل إليه لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، قبل الحرب الأخيرة وبعدها.

***

د. أنطوان الدويهي - أستاذ جامعي لبناني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 24 شَعبان 1446 هـ - 23 فبراير 2025 م

 

حصرَ محمد أحمد خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر» المؤثراتِ الثقافيةَ التي حدَّدت فكرَ سيد قطب بنوعين من المؤثرات:

«نوع هو الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الذي يمثله عند سيد قطب المفكران الإسلاميان: أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. أما النوع الآخر من المؤثرات فهو الفكر الذي جاءت به الحضارة الغربية، الذي يمثله عند سيد قطب المفكر الغربي ألكسيس كاريل». ثم مضى بعد ذلك يقارن بين تلقّي سيد قطب أفكارِ الندوي وتلقيه أفكارَ كاريل!

لا يصحُّ أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الصحيح أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند أو في شبه القارة الهندية أو عند مسلمي الهند.

هذا الفكر هو فكر الأصولية الإسلامية عند مسلمي الهند الذي صاغ أسسه الكلية والتفصيلية صياغة شاملة - بلا منازع - أبو الأعلى المودودي ابتداءً من أواخر عشرينات القرن الماضي. وبعد أن هاجر أبو الأعلى المودودي من حيدر آباد إلى البنجاب (1937)، وبعد أن أسس «الجماعة الإسلامية» واختير أميراً لها (1941) لم تكن هناك دولة مستقلة اسمها باكستان، فباكستان التي مناطقها في الشمال الغربي والشمال الشرقي من الهند في التاريخين السالفين كانت من أقاليم الهند. ولم تنشأ بوصفها دولة مستقلة عن الهند إلا في عام 1947.

لنأخذ بعين الاعتبار أن ذلك «الفكر الإسلامي الناشئ» عند خلف الله، تتوزعه في نشأته دولتان هما الهند وباكستان، ولننظر في قوله هذا: «وكان أبو الحسن الندوي يتحدث عن حاكمية الله، وأنها غير مستثمرة في العالم الذي كان يعيش فيه، وهو بلاد الهند التي نعلم أن أكثريتها من غير المسلمين، وأن الحكومات فيها لغير المسلمين».

الباكستان - قبل تقسيم الهند إلى الهند والباكستان - كان أکثرية سكان مناطقه من المسلمين، واستناداً إلى هذا الأمر، اقترح محمد إقبال خلال انعقاد المؤتمر السنوي لـ«حزب رابطة المسلمين» عام 1930 تحت رئاسته في خطابه بهذا المؤتمر إنشاء وطن خاص بمسلمي الهند. وتمكن «حزب رابطة المسلمين» تحت قيادة محمد علي جناح، بعد جهود حثيثة بدأت من عام 1940، من تأسيس دولة مسلمة في القارة الهندية عام 1947، تحكمها حكومة من المسلمين، هذه الدولة هي الباكستان.

ما قاله خلف الله هو تحليل تكرر قوله في الثمانينات الميلادية عند بعض المثقفين الذين يصنفون ضمن دائرة الإسلام المستنير، لكنه كان يقال إزاء المودودي وليس إزاء الندوي، ويقال حين الحديث عن خطأ سيد قطب في نقله فكرة «الحاكمية» وفكرة «الجاهلية» من المودودي وتطبيقها ما بين أواخر الخمسينات وأول الستينات الميلادية على المجتمع المصري، ذي الأكثرية المسلمة، الذي حكومته من المصريين المسلمين من ضباط الثورة.

وربما يكون الرائد في القول بهذا التحليل هو أحمد كمال أبو المجد، وذلك في مقال منشور في مجلة «العربي» بتاريخ أبريل (نيسان) 1981، كان عنوانه «4 وجوه لمأساة الشباب المسلم».

يقول في هذا المقال: «والعلامة المودودي - رحمه الله - كتب ما كتب في إطار مجتمع يسعى للتميز، وشعب مسلم يتوجه للانفصال السياسي، وتوكيد الذات في مواجهة الآخرين. أما الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فقد كتب جانباً كبيراً مما كتبه بعد معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر، ومن خلال العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».

الحق أننا لسنا أمام تحليل أو تفسير أو استكناه، بقدر ما نحن أمام تبرير وتسويغ واعتذار لتطرف المودودي وسيد قطب الديني.

بالنسبة للمودودي، تطرفه الديني تربى عليه من طفولته، ونظّر له في كتب قبل أن يطرح محمد إقبال فكرة إنشاء وطن قومي خاص بالمسلمين في شبه القارة الهندية، كان معارضاً بقوة لأن يكون لمسلمي الهند وطن خاص بهم. لأن هذا الوطن كان يراه نقيضاً للأخوة والأممية الإسلامية، فمسلمو الهند - كما كان يرى - ليسوا بحاجة إلى وطن خاص بهم، فديار الإسلام، حيث ما كانت، هي وطنهم.

يقول الرئيس الباكستاني الجنرال محمد خان عنه: «لقد لجأ إلى باكستان، ثم ما برح أن قام بحملة لنشر الدعوة الإسلامية بين الشعب الباكستاني السيئ الطالع. فلقد هال هذا السيد الوقور ما شاهده في باكستان: بلد غير إسلامي وحكومة غير إسلامية وشعب غیر إسلامي! كيف يسوغ للمسلم أن يدين بالولاء لهذه الدولة؟ وهكذا شرع يدخل في روع الناس أنهم ضالون مارقون عاجزون، لا أمل فيهم».

إن المودودي في تنظيره الإسلامي الأصولي من البداية كان يسعى إلى قيام إمبريالية دينية إسلامية أصولية تحكم العالم. وكذلك كان الندوي. واقتفاهما في هذا المسعى سيد قطب، وتبعتهم فيه طوائف من الإسلاميين.

وما قاله أبو المجد في الاعتذار لسيد قطب قاله كثيرون بعده من الإسلاميين ومن العلمانيين. ومن العلمانيين قاله صاحبنا خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر».

وسأدحض ما قاله أبو المجد في اعتذاره لسيد قطب من المقالة نفسها التي ساق فيها اعتذاره السالف له.

يقول أبو المجد: «ولعل من الكلمات التي ساعدت على التوسع في إطلاق وصف الجاهلية على المجتمعات المعاصرة ما ذهب إليه سيد قطب - رحمه الله - من أن الجاهلية ليست فترةً زمنيةً معينةً من الزمان، إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان ومكان».

أبو المجد اقتبس ما قاله سيد قطب من تفسيره للآية 33 من سورة «الأحزاب» في كتابه «في ظلال القرآن».

في المقال السابق رأينا كيف تلقى سيد قطب بإعجاب وانبهار وانقياد المعنى اللازمني واللاتاريخي لمصطلح «الجاهلية» في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب أبي الحسن الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، الذي تعرف إليه - لأول مرة - من خلال هذا الكتاب.

سید قطب في عام 1951، لم يكن يعاني «معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر»، ولم يكن يكابد «العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».

التفسير الذي تردد في الثمانينات الميلادية تارةً باقتضاب، وتارة بتوسع، يفسر فيه سمة خاصة اتسم بها الإسلام الهندي ابتداءً من القرن التاسع عشر، ولا يفسر به لا تطرف المودودي ولا تطرف الندوي الديني. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 17 شَعبان 1446 هـ - 16 فبراير 2025 م

 

لا توجد لحظة أفضل للتأمل في معنى الفن وحاجتنا إليه من لحظة غيابه الكامل عن جهاتنا الحسيّة، عندما تجلس وحيداً في صمت، لا صوت ولا صورة قريبة منك. أو عندما تكون من أولئك الذين يحرّمون على أنفسهم الاستماع إلى صوت الموسيقى لأسباب دينية فتبقى ممزقاً بين ما تعتقده واجباً وشيئاً غريزياً فيك. إنها أوضح صورة لاستحضار قيمة الفن، عندما يكون سبباً مباشراً في هذا الصراع بين الواجب والغريزة. ولربما يبكي الفرد من شدة الألم الذي يسببه التمزق الداخلي. هذا الفقدان التام للتجارب الفعلية الملموسة مع الفن يشبه أن يكون نوعاً من الموت، وبالتالي تصبح معانقة الحياة نوعاً من الذنب الذي يوجب الاستغفار.

لا حياة من دون فن، ذلك أن التجربة الفنية وتقديرها والحاجة إليها تبدو وكأنها متأصلة في جنسنا البشري، فالفن ليس شيئاً يحدث على هامش حياتنا، بل هو مقيم في صميم وجودنا.

إنه وسيلة نبرر بها وجودنا، وهنا نتذكر عبارة مارد الفلسفة هيغل «إن الروح لتتجلى في ثلاث: الفن والدين والفلسفة». أين سترى حضارة شعب ما إلا في تلك الثلاث؟ وتتفاوت الشعوب في تجلي روحها في واحد من هذه المجالي أكثر من الآخر. روح الشعب الإيطالي - على سبيل المثال - وثقافته وتاريخه وحضارته تتجلى في الفن بصورة أكبر من الفلسفة والعلم، رغم أنها بلاد غاليليو وأنها لا تخلو من الفلاسفة.

علاقة الإنسان بالفن قديمة جداً وليس من الصواب أن نحصر حياة الإنسان الأول في بحثه عن الطعام وعن الملجأ من خطر الحيوانات المفترسة. ثمة آثار وأحافير ورسوم، وأدلة مادية محسوسة ومعروفة تدل على خلاف ذلك. لقد كان الإنسان يبدع الفنون منذ فترة أطول بكثير من التاريخ المدون. ومع أن أقدم الفنون البصرية التي لا تزال باقية تعود إلى ما يقرب من أربعين ألف سنة، إلا أننا نغلّب أنه لا بد أن هناك أعمالاً أقدم لا نعرف عنها شيئاً بعد.

ولا يقتصر الفن على تحفيز العقل ومداعبة الحواس، بل من الأقرب أن ننظر إليه باعتباره جهداً فكرياً. وهنا نتذكر دعوى بعض الفلاسفة في أن واجب الفلسفة هو أن تكون خادمة للعلم التجريبي، تقدم له الأسئلة وهو يجيب عنها. هذا شطط بلا ريب، فعلاقة الفلسفة بالعلم ليست بأهم من علاقة الفلسفة بالفن. الفن ضرورة وليس شيئاً يستعمل لتمضية الوقت. هو كاشف عن الوجود هو الآخر.

الفن شيء معقد للغاية، وهو يتوقع منا أن نبذل جهداً كبيراً عندما نتعامل معه. ومع ذلك هو يساعدنا لإنجاز مهمة فهمه وتذوقه وتقديره، أعني أن العمل الفني يتحدث إلينا بمختلف اللغات، ابتداءً من اللوحات الخالدة التي تستفز العقل والحواس وتعكس في نفوسنا القبول أو النفور إلى موسيقى الجاز التي يتطلب فهمها وتقديرها ذكاءً خاصاً. مما بات معرفة عامة اليوم أن الأعمال الفنية العظيمة تحمل معها الكثير من الرسائل والمعاني، وكثيراً ما تظل هذه الرسائل باقية لقرون من الزمان. وقد تتغير مع مرور القرون والعقود، تاركة قوتها وأهميتها كما هي.

برغم إيماننا بوجود المساحات الميتافيزيقية الشاسعة التي تتمدد فيها الأعمال الفنية، فإن البداية يجب أن تكون من داخل مساحاتها المادية. لا يوجد بديل عن مادية العمل الفني، والتي تتعلق في نهاية المطاف وبشكل ثابت بحواسنا الخمس وبراعتنا التحليلية وفضولنا الفكري. من هنا تكون البداية. كما أن تقدير الفن، في أغلب الأحيان، هو تجربة جماعية. إنه يجمعنا عندما نذهب إلى السينما ونجلس متجاورين.

عندما يتناقش الناس في القضايا السياسية أو مباريات كرة القدم فقد يصلون إلى الشجار والعداوة والتقاذف بالصحون، لكن هذا لا يحدث عند النقاش حول عمل فني، بل تجد الناس في لحظات وكأن السكينة قد غشيتهم، في حالة خشوع صوفي. قد نتجادل حول قيمة هذه الأعمال وفضل عمل على عمل، لكننا متفقون على ضرورة التعبير الفني وقيمة دراسة الجماليات. ولا بأس بمثل هذه النقاشات الفنية وإن اختلفت وجهات النظر فالفن من أهم الوسائل التي نتوصل من خلالها إلى فهم بعضنا البعض. هذا الفهم لا يكون دائماً جميلاً، فالمخرج السينمائي الذي يستمتع بتصوير الدم وهو يخرج من الجسد بالصورة البطيئة، هو شخص عنيف أو يعاني من مرض نفسي ما.

لكن الأمر الإيجابي هو أن هذه الأعمال الفنية تعلمنا كيف نكون فضوليين بشأن ما هو مختلف أو غير مألوف، وفي نهاية المطاف تمهد الطريق لنا لقبوله وتقديره واحتضانه. هذا يحدث في المجتمعات السوية، أما المجتمعات الخائفة من «الآخر»، أعني التجمعات الآيديولوجية، ففي الغالب لا تتمكن من إنتاج أي أعمال فنية ثقافية ذات قيمة عليا. في حين نجد أن المجتمعات الحرة قادرة بكل سهولة على هز الآيديولوجيات المنغلقة على نفسها بالوصف والنقد.

في القرنين الماضيين احتدم النقاش حول كيفية مقارنة الفن والثقافة بالعلوم الطبيعية التجريبية وأيهما أكثر نفعاً للبشر، حيث تلعب العلوم الإنسانية دوراً أصغر حجماً على نحو متزايد، في حين جلبت العلوم إلى هذا العالم العديد من الاكتشافات والإبداعات الرائعة، إلا أنها مذنبة ومدانة عندما يتعلق الأمر بإنجازات الإنسان الأكثر شراً، الحرب النووية وتدمير الطبيعة وستون مليوناً ماتوا في الحرب العالمية الثانية لغير سبب مقنع بالجدوى.

في مقابل هذا الشر، يمكن للفن أن يصل إلى أكثر أماكن النفس البشرية ظلمة وأن يخرجها منها. إنه يفعل ذلك لمساعدتنا على الفهم والتجاوز. إنه حقاً يرفعنا ويرتفع بنا ويجعلنا أشخاصاً أفضل.

***

خالد الغنامي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 فبراير 2025 م ـ 18 شَعبان 1446 هـ

لقد لاحظ المفكر الاستراتيجي والمؤرخ الفرنسي إمانويل تود أن الديمقراطيات التعددية في الغرب انتقلت إلى نمط من «الأوليغارشيات الليبرالية» التي تتحكم فيها مجموعة من النخب التقنية والتسييرية المسيطرة، في تعارض واضح مع المنظومة الليبرالية الكلاسيكية القائمة على مبدأ السيادة الشعبية والإرادة الجماعية المشتركة. لا يتعلق الأمر فقط بالتوجه الذي يكثر الحديث عنه حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، ولا بالوضع السياسي الروسي، بل بتحول نوعي في صلب الأنظمة السياسية الغربية، له علاقة بطبيعة الثورة المعلوماتية الجديدة وحركية العولمة التقنية والاقتصادية. وتعود عبارة «أوليغارشيا» التي يكثر استخدامها في أيامنا هذه إلى المعجم السياسي اليوناني، ونلمسها في أدبيات أفلاطون وأرسطو بمعنى حكم الأقلية المهيمنة، وإن مُنحت دلالةً جديدة في الفكر السياسي الحديث من منظور المقارنة مع الديمقراطية من حيث هي حكم المجموعة المندمجة العضوية.

ومن أهم مَن بلور النظرية الجديدة للأوليغارشيا عالم السياسة الأميركي جيفري ونترس الذي أصدر كتاباً متميزاً بعنوان «الأوليغارشيا» oligarchy أثار جدلاً واسعاً في السنوات الأخيرة. وفي تعريفه لهذا المفهوم، يرجع ونترس إلى أرسطو، معتبراً أن العنصر الأساسي المحدد للأوليغارشيا هو «سياسة الدفاع عن الثروة وتحويلها إلى آلية من آليات الحكم والسلطة». علاقة النخب الأوليغارشية في الغرب بالنظام الديمقراطي معقدة وملتبسة، لكونها تسعى إلى الاستفادة من الحراك التمثيلي والانتخابي من أجل تثبيت مواقعها في هرم السلطة، لكنها في الآن نفسه تتخوف من المنطق السياسي للدولة الليبرالية من حيث هي دولة قانون ومؤسسات وتوازن سُلط. الديمقراطية في أحد وجهيها ترجمة لموازين التحكم الاجتماعي القائمة، لكنها في وجهها الآخر نظامٌ للعدالة الاجتماعية ولدمج المجموعات المهمشة والمغبونة.

لقد ضمنت الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية في الغرب الاستقرارَ الاجتماعي والسلم الأهلي، نتيجة لتحكمها في سياسات توزيع الثروة والديناميكية الاقتصادية، لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو اختلال هذه التوازنات الدقيقة بخروج الاقتصاد الفعلي عن المجال السياسي السيادي للدولة. ولهذا التحول الذي رصده ونترس ارتباطٌ مباشر بظواهر ثلاث نعتقد أنها تحتاج لوقفة تشخيص ومتابعة. الظاهرة الأولى تتعلق بتغير عميق في تركيبة المنظومة القانونية الدولية التي تعيش أزمة عميقة في مقوماتها النظرية وبنياتها المؤسسية.

وإذا كان البعض اعتبر أن كل محددات النظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية قد تبدلت كلياً، كما هو واضح من سياسات القوى الكبرى التي رجعت لمنطق القوة وتوزّع المجالات الخارجية الحيوية، فإن هذه الملاحظة الصائبة يجب أن لا تغطي على الأزمة العميقة التي عرفتها هذه المنظومة الدولية نفسها نتيجة لفشل ديناميكية التمدد العالمي لنظام الشرعية القانونية الذي تأسست عليه الديمقراطية الليبرالية الحديثة. الظاهرة الثانية تتعلق بالتحولات الجوهرية التي عرفتها الدولةُ الوطنية ذاتها في العالم الليبرالي الغربي خلال العقود الأخيرة. ومن أهم هذه التحولات انتقال التناقض الداخلي في صلب النظام السياسي إلى معايير الحكم السياسي في أبعادها الاجتماعية والقيمية، بما ينعكس في أوجه التصدع المتزايدة بين القطب المحافظ الذي أطلق عليه مؤخراً الرئيس الفرنسي ماكرون عبارة «الأممية الرجعية»، والقطب التقدمي «الليبرالي» الذي لا يزال متشبثاً بمفاهيم الحرية الذاتية المطلقة ودولة القانون المجردة. الظاهرة الثالثة هي الارتباط الجديد بين الأيديولوجيا الليبرتارية في نسختها الجديدة والنخب التقنية المعولمة التي ترفض القيود المؤسسية التقليدية على حريات التملك والإبداع والتعبير.

ولا يمكن اختزال هذا التحول في ما تحدث البعض عنه مِن تحالف غير مسبوق بين الاتجاهات المحافظة الانكفائية والأوليغارشيات المالية والتقنية، بل من الأدق النظر إلى هذا التغير من داخل المنظومة الليبرالية نفسها التي تعيش ما أشار إليه العديد من الباحثين من انفصام الاقتران الذي قام في العصور الحديثة بين مبدئي الحرية والديمقراطية. بعد المحادثة الهاتفية الأخيرة بين الرئيسين ترامب وبوتين، ذهب البعض إلى أن النظام العالمي يتجه إلى تحالف جديد بين أميركا في وجهها المحافظ الجديد، وروسيا في توجهاتها الارثوذوكسية المعلنة، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن التغيرات الجيوسياسية العالمية الراهنة تعكس أبعد من هذه التفاهمات الظرفية تركيبة جديدة للعمل السياسي في أبعاده الداخلية والدبلوماسية. ولعل المدخل الصحيح لفهم هذه التحولات هو توجيه النظر إلى الأزمة العميقة التي يعرفها منذ سنوات النظام الليبرالي العالمي، والتي لم تبدأ مع بوتين وترامب نفسيهما.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

16 فبراير 2025 23:45

 

ما أزال أتذكر ظهيرة ذلك اليوم في بداية الستينات الميلادية، حين رافقتُ والدي صغيراً إلى الشاطئ الشرقي من نهر دجلة، قريباً من بغداد، لزيارة قبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي في (سلمان باك)، حيث يرتفع طاق كسرى الباقي من طيسفون (المدائن) التي بناها الإغريق واستولى عليها الفرس. في ظلال الطاق - آنذاك - وجدنا بدوياً عراقياً يترنم بصوته على وتر ربابته، دون أن يعي أن حضارة بابل كانت بالمرصاد لهذا الطاق.

لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي الشهير، كان قد تردد على العراق، واقفاً عند تجربة سلمان وشخصيته في طريق عودة ماسينيون من العمارة القريبة من البصرة، اتهمه واليها حازم بك التركي بالتجسس، فخفره مريضاً مهدداً بالإعدام إلى بغداد على متن سفينة توقفت قريباً من «سلمان باك». هناك وجد نفسه يصغي إلى هديل حمامة محنية، سرعان ما بدد اكتئابه المكروب، ليجد في (زائر) سلمان الفارسي (الغريب) طوق نجاة مشعاً بانفراج محنته. وقد بهرته حينها مروءة الألوسيين علي ومحمود شكري، الذين تدخلوا لإطلاق سراحه ومعالجته، ليتمعن في أخلاق الضيافة العربية. وقد أصبح إثر ذلك في حالة هيجان روحي قادته إلى قراءة القرآن الكريم، بعدما تعلم مبادئ اللغة العربية، باحثاً عن أثر المسيحية في الإسلام وتماثل قيمة الزهد بين المسلمين والمسيحيين. وكان هذا دافعاً لدخوله عالم التصوف الإسلامي عبر أبي عبد الله وأبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج. الحقيقة في بحثه القصير المكثف «سلمان الفارسي وبواكيره الروحية»، التي ضمنها عبد الرحمن بدوي في كتابه التأليفي المترجم «شخصيات قلقة في الإسلام» الصادر سنة 1947. وكان ماسينيون قد جاء من القاهرة إلى بغداد بين سنتي 1907 و1908، يحفزه غاستون ماسبيرو، الخبير الآثاري الفرنسي، لاستكشاف قصر الأخيضر الساساني جنوبي كربلاء. شملت رحلة ماسينيون دراسته عن لهجات بغداد السبع، وكذلك دراستيه الرائدتين عن «خطط الكوفة» و«خطط البصرة»، التي أفاد من نتائجها البحثية المؤرخان العراقي صالح العلي والتونسي هشام جعيط، في دراسة التاريخ العربي الإسلامي في هاتين الحاضرتين العريقتين بمدرستهما في الفكر واللغة والأدب.

في طريق عودة ماسينيون من العمارة القريبة من البصرة، اتهمه واليها حازم بك التركي بالتجسس، فخفره مريضاً مهدداً بالإعدام إلى بغداد على متن سفينة توقفت قريباً من «سلمان باك». هناك وجد نفسه يصغي إلى هديل حمامة محنية، سرعان ما بدد اكتئابه المكروب، ليجد في «زائر» سلمان الفارسي «الغريب» طوق نجاة مشعاً بانفراج محنته. وقد بهرته حينها مروءة الألوسيين علي ومحمود شكري، الذين تدخلوا لإطلاق سراحه ومعالجته، ليتمعن في أخلاق الضيافة العربية. وقد أصبح إثر ذلك في حالة هيجان روحي قادته إلى قراءة القرآن الكريم، بعدما تعلم مبادئ اللغة العربية، باحثاً عن أثر المسيحية في الإسلام وتماثل قيمة الزهد بين المسلمين والمسيحيين. وكان هذا دافعاً لدخوله عالم التصوف الإسلامي عبر أبي عبد الله وأبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج.

التعرف على الإسلام والتراث

كان ماسينيون قد ولد في قرية قريبة من باريس سنة 1883. حيث كان والده الطبيب قد تحول من مزاولة الطب إلى ممارسة الرسم والنحت. نشأ في بيت متصارع بين ثقافة والده الأنوارية المناهضة لسطوة الكنيسة، وثقافة والدته اليمينية الملكية المتمسكة بالقيم المسيحية. وما إن أنهى ماسينيون مرحلة التعليم المتوسط والثانوي، حتى بدأ مرحلة التعليم الجامعي في جامعة السوربون، حاصلاً على دبلوم الدراسات العليا في الجغرافيا والتاريخ، متأثراً بأجوائها الفلسفية، مبتعداً عن التزام والدته الديني. كما حصل على دبلوم في اللغة العربية ودراسة لهجاتها من معهد اللغات الشرقية العريق. ربما كان ذلك نتيجة للتجنيد في الجيش الفرنسي المحتل للجزائر، التي زارها سنة 1904 في مهمة استخبارية تعرض خلالها لاعتداء الأهالي على مشارف الصحراء الكبرى، مما دفعه لدراسة اللغة العربية والتحدث بها. كما زار المغرب باحثاً في تجربة الحسن بن الوزان (ليون الأفريقي)، الرحالة والجغرافي الذي ألف كتاب «وصف أفريقيا»، والذي اقتيد إلى بلاط روما أسيراً، فعمده البابا ليون العاشر وقرَّبه إليه، ناقلاً إلى بلاطه تقاليد المراسم العربية وألقاب حكامها.

وقد دُعي ماسينيون سنة 1905 لحضور المؤتمر السنوي للمستشرقين في الجزائر، حيث التقى باليهودي المجري غولد تسيهر، مؤلف كتاب «العقيدة والشريعة في الإسلام»، وبالإسباني أسين بلاثيوس، الذي زاوج بين «رسالة الغفران» للمعري و«الكوميديا الإلهية» لدانتي. وهكذا بدأ ماسينيون يقترب تدريجياً من عالم الإسلام والتراث العربي. وبفضل تعرفه في شبابه إلى هنري ماسبيرو، ابن عالم الآثار غاستون ماسبيرو، الذي أوحى إليه بالتنقيب عن قصر الأخيضر الساساني في جنوب العراق، تكررت زياراته إلى القاهرة منذ سنة 1906. لاحقاً أصبح أستاذاً في الجامعة المصرية، ثم في الكوليج دو فرانس. ولم يكن كتابه «محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية»، الذي طبعه المتحف العلمي الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة، إلا ثمرة لعلاقته بماسبيرو. وقد ألقى ماسينيون هذه المحاضرات على طلبته، ممن أصبحوا دكاترة بارزين، من بينهم طه حسين وأحمد ضيف وعبد العزيز فهمي. لمسوا في أستاذهم اطلاعاً واسعاً على التراث العربي والفكر الإسلامي، وسعياً للتوفيق بينهما وبين الفكر الغربي الحديث.

ماسينيون والحلاج

كان ماسينيون يسعى بكل جهده لإطلاق مشروعه البحثي الموسوعي الضخم «آلام الحلاج»، متشرباً إيمان أمه المسيحي، وهو يغوص في أعماق الفكر الصوفي. بذل الجهد في دراسة الفكر الإسلامي، وكرَّس وقته لمعرفة التراث العربي، ليصل في النهاية إلى دعوته الإبراهيمية التي تهدف إلى التلاقي بين المسيحية والإسلام، معتبراً اللغة العربية لدى العرب طريقاً لبلوغ الكلمة الإلهية. ومن العجب أن تقوده دراسة اللغة العربية وإتقان خطها إلى معرفة السيد المسيح، مشدوداً إلى سلوك الزهد الإسلامي في ضوء الزهد المسيحي. بل إنه رأى في آلام السيد المسيح انعكاساً لآلام الحلاج، ووجد في طهر السيدة مريم العذراء طهر السيدة فاطمة الزهراء. هذه القراءات قادته إلى التأمل في القرآن الكريم، الذي وجد سوره تدور حول معجزات موسى وسحره، وطب المسيح، وبيان محمد.

وهكذا، تصور ماسينيون أن دموع هاجر هي التي فجَّرت ماء زمزم، وأن حجر إسماعيل كان بداية ولادة اللغة العربية، تمهيداً لانبعاث الإسلام بقرآنه الكريم. تركت ضيافة الألوسيين أثراً عميقاً في نفسية ماسينيون وفكره، مما جعله يجد في الصوفية الإسلامية انعكاساً لغنوصيته المسيحية. تمثل ماسينيون صلب السيد المسيح في صلب الحلاج، فكرَّس ثماني سنوات من حياته، بين عامي 1914 و1922. لتأليف عمله الموسوعي «آلام الحلاج». تناول في أطروحته، التي حصل بها على الدكتوراه من الكوليج دي فرانس، حياة الحلاج الاجتماعية والسياسية والفكرية، ودرس طواسينه الشعرية وأثره الصوفي في العديد من حواضر الشرق العربي والآسيوي.

شعرت حين وقفت أمام قبر الحلاج في منطقة العلاوي ببغداد وكأن هديل الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي

لم يستثنِ ماسينيون في دراسته أثر الحلاج في دمشق، التي زارها في مهمة استخبارية أثناء الحرب العالمية الأولى مساعداً لجورج بيكو. تواصل مع علمائها ومؤرخيها، واطَّلع على مكتباتها وبحث في مخطوطاتها عن معنى كلمة الحلاج. نقل من مخطوطة كتاب «قاموس الصناعات الشامية» لمحمد سعيد القاسمي وابنه جمال ما أشبع نهمه البحثي. عمل هناك على تنظيم المعهد الفرنسي في دمشق، مستوحياً تنظيمه من المعهد الفرنسي في القاهرة، كما انضم إلى عضوية المجمع العلمي اللغوي في دمشق سنة 1919. وأصبح عضواً مؤسساً في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1932، وهي تنظيمات مستوحاة من الأكاديمية الفرنسية المؤسسة عام 1634. كان الحلاج محور اهتمامه الفكري والأكاديمي منذ البداية وحتى النهاية.

هذا وقد وصفه صديقه اللغوي العراقي الأب أنستاس الكرملي، منذ التقيا مبكراً في بغداد، بأنه «العالم الخبير على حداثة سنه»، مشيراً إلى أنه أتم مراجعة ما يقارب ألفي مصنف في كل ما يتصل بالحلاج وأفكاره ومحنته. أما الأكاديمي العراقي مصطفى كامل الشيبي، المتخصص في الدراسات الصوفية، فطالما أشاد بجهود ماسينيون «الحلاجية»، رغم تفوق الشيبي عليه في جمع وتحقيق ديوان الحلاج سنة 1973. كنت قد قرأت ذلك بعدما سمعت عن الحلاج لأول مرة عبر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج» الصادرة سنة 1965، التي جسَّد فيها القلق الروحي والشطحات الصوفية للحلاج. وجدتُ أن صلاح عبد الصبور قد لامس أزمة نفسية وحيرة فكرية مشابهة لتلك التي كابدها ماسينيون، الذي ظل مفتوناً بالحلاج حتى النهاية، متمسكاً بالآية الكريمة التي أوصى أن تُدفن معه سنة 1962: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) الجن: 22.

ظل ماسينيون يقرأ سورة الفاتحة على الحلاج أينما حلّ. أما أنا، فعندما وقفت أمام قبره في حي العلاوي ببغداد خلال زيارتي الأخيرة إليها، شعرت وكأن هديل تلك الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي من بعيد.

***

محمد رضا نصر الله

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 1 فبراير 2025 م ـ 02 شَعبان 1446 هـ

عدَّ عرب شمال أفريقيا عاطفيّين وطفوليّين غير قادرين على التفكير

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان المعاصر لذاته إلى جانب الأسماء التقليديّة الأخرى أمثال فرويد وماركس وهايدغر ولي كوربوزييه، وفوكو. إذ برغم التقدم الهائل للعلوم النظريّة والاجتماعيّة منذ غيابه قبل خمسة وستين عاماً تقريباً، فإن بعض تطبيقات أفكاره في مجالات تصنيف شخصيّات البشر وأنماط تصرفهم اللاواعيّة وطرق تعاطيهم مع الآخرين ممن يختلفون عنهم تعدُّ الأساس النظري الذي تقوم عليه نماذج تحليلية متقدمة لا غنى عنها في عالم الأعمال وإدارة الموارد البشريّة والتحليل النفسي الأساسي في نطاق العمل، مثل أنظمة «ديسك» (DiSC)، و«إنسايت» (Insight)، و«مايرز - بريغز» (Myers-Briggs) وغيرها، وأصبحت بعض مصطلحاته في وصف الشخصيّة (مثل الانطوائي أو الانبساطي) وافرة الاستخدام حتى في الأحاديث العادية.

تعرّض يونغ مع ذلك إلى انتقادات عديدة في حياته، فكان خلافه النظريّ مع صديقه اللّدود سيغموند فرويد مبكراً بعدما اختار أن يتجاوز بداية من عام 1912 موضوعة الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) في تفسير الاضطرابات الذهانيّة مثل الفصام والشيزوفرانيا، ثم وجهت له اتهامات متناقضة تارة بمعاداة الساميّة وتبني الأفكار النازيّة، وتارة باستخدام دوره رئيساً للجمعيّة الطبية العامة للعلاج النفسي في ألمانيا لتسهيل عمل المحللين النفسيين اليهود ما تسبب لاحقاً في مصادرة كتبه في ألمانيا وأُدرج اسمه على القائمة السوداء. كما عدَّ البعض سلوكه متناقضاً، إذ فرض أثناء رئاسته لتلك الجمعية ميثاقاً يفرض على أعضائها اتخاذ موقفٍ حياديٍ فيما يتعلق بالسياسة والعقائد لدى ممارسة عملهم، لكنه تعاون في عام 1943م مع مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذي تحول لاحقاً إلى ما يعرف الآن بجهاز الاستخبارات المركزية الأميركيّة) وساعد على تقديم تحليل لشخصيات الزعماء النازيين لصالح المجهود الحربي الأميركي.

انحيازات يونغ السياسيّة سهلت تبني أعماله ونظرياته لاحقاً عبر العالم الأنجلوسكسوني، ما سمح بتجاهل جانب آخر من أفكاره يتعلّق بالملمح العنصريّ الذي حكم تقييماته للشعوب غير البيضاء، وهو أمر لا يمكن تفسيره في إطار انتماء الرجل لعصر انتشرت فيه العنصريات والفاشيات، وسيطرت على نخب ودول عديدة في الغرب، كما أنّه لا يتعلق بنص عابر هنا أو فلتة لسان هناك، أو حتى مرحلة فكريّة مرّ بها، إذ تعددت الشواهد من أعماله ومحاضراته وحتى كتاباته الشخصيّة، وفي مختلف مراحل حياته المهنيّة على نفس يبدو مستلاً بكليته من منطق العنصرية الفيكتوري، ويمتد ليكون منطلقاً ومكوناً لنظرياته في التحليل النفسي، على نحو قد يدفع المرء في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة لإلغاء الرجل وفكره بالكامل، ولكن على الأقل لإعادة تقييم مجمل تراثه كأداة للتفكير، وهو تراث طالما زعم صاحبه بأنه يأتي ضمن سياق البحث في معرفة الإنسان، الممر اللازم لكل تقدّم للنوع البشري على هذه المعمورة، على حد تعبيره.

يعترف يونغ مثلاً بأننا «اللاوعي الجمعي» نشترك جميعنا كنوع بشري في ذات النموذج الأصلي: حيث لدى كل منا بغض النظر عن لون بشرته عيون وقلب وكبد وما إلى ذلك، لكنّه يستطرد ليقول بأن ذلك لا يلغي أن بعض الأجناس تمتلك طبقة تاريخيّة كاملة في لا وعيها قد لا تمتلكها أجناس أخرى، إذ «تتوافق الطبقات المختلفة من العقل مع تاريخ الأجناس». (النص من محاضراته في معهد تافيستوك، 1935).

ما عناه يونغ هنا، كان فسره في مواضع أخرى، إذ رأى أن طبيعة وعي الغربيين المعاصر «مختلفة تماماً عن وعي البدائيين، ولكن في أعماق نفسياتنا فإن ثمة طبقة سميكة من العمليات البدائية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي لا يزال من الممكن العثور عليها في إطار الحياة اليومية للبدائيين».

إشارة يونغ للبدائيين هنا كانت ربما لقبائل «إلغوني» من الصيادين وجامعي الثمار، وكان قد اطلع على بعض نظام حياتهم إبّان زيارته في 1926 لمناطق على الحدود بين أوغندا وكينيا، على أنه سحب هذا التوصيف ذاته على عرب شمال أفريقيا أيضاً بعدما كتب انطباعاته من زيارة قام بها في 1920 لتونس والجزائر، معتبراً أنهم عاطفيّون وطفوليّون غير قادرين على التفكّر و«أقرب إلى تلك الطبقات التاريخية في أنفسنا - كغربيين - والتي تغلبنا عليها، وتركناها وراءنا»، وأن هذه «المحيطات العربيّة التي تبدو غريبة ومختلفة تماماً عنّا توقظ ذكرى ماضي ما قبل التاريخ المعروف والذي يبدو أننا نسيناه تماماً». ولعله من نافل القول إن هذه الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة امتدت من إندونيسيا إلى إسبانيا وما بينهما، في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة.

هذي النظرة العنصريّة عن العالم ليس مرتبطة بالجغرافيات (خارج الغرب) بقدر ما هي أشبه بتسلسل هرمي ثقافي يضع كل ذي بشرة ملونة في أدنى مراحل التطور الإنساني حتى لمن ولدوا وعاشوا في دول الغرب ولم يعرفوا بلاداً غيرها. إذ يعدُّ يونغ أن «الطفل يولد بدماغ محدد، ولذلك لن يعمل دماغ الطفل الإنجليزي مثل دماغ زميله الأسترالي الأسود» (محاضرات تافيستوك 1935). وهذا يعني ببساطة أنه إذا ولد طفل ينحدر من سكان أستراليا الأصليين في أوروبا، فلا فرصة له لأن يغدو متحضراً - وفق المقياس الأوروبي - بسبب محدودية دماغه! وهو كتب لاحقاً: «لا يسعني إلا أن أشعر بالتّفوق، كما يتم تذكيري في كل خطوة بطبيعتي الأوروبية»، وقبلها: «إنها ليست مجرد غطرسة أن يعتبر الإنجليز أي شخص منهم ولد في المستعمرات أقل شأناً ولو على نحو قليل رغم أن أفضل دم يسري في عروقه، إذ إن هنالك حقائق تدعم هذا الرأي».

لا يمكن الدّفاع عن أوهام يونغ هذه بأي صيغة، لا سيّما وأن معاصرين وزملاء له أدانوا علناً «مبدأ وجود تسلسلات هرميّة عرقيّة»، مثل فرانز بواس، رائد علم الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، وهاجموا مزاعمه حول السود بوصفها «تشويهاً تاماً للحقائق»، حسب قول بول رادين، مؤلف كتاب «الإنسان البدائي كفيلسوف»، كما أن نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لكل النظريات العرقية التي كانت تُعامل كعلوم، وتجاوز كثيرون ذلك المربع المقيت، لكن يونغ لم يغيّر أفكاره، وبقي عليها - كما يُقرأ في سيرته الذاتية - إلى آخر يوم في حياته.

***

 ندى حطيط

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 12 فبراير 2025 م ـ 13 شَعبان 1446 هـ

الانتحارى الذى يفجر نفسه فى عملية إرهابية أمام كمين أو فى دار عبادة أو فى محطة مترو .. إلخ يطرح علينا دائما سؤالا مؤرقا يثير دهشتنا واستغرابنا، كيف يصل غسيل الدماغ إلى مثل تلك الدرجة من التغييب والتنويم المغناطيسى ومسح الوعى ودهس الشخصية؟، فنحن نعرف بديهية أن أهم غريزة لدى الانسان هى غريزة البقاء، فكيف بتلك البساطة يفجر هذا الانتحارى نفسه بحزام ناسف مضحيا بحياته ومفضلا الموت، كل هذا فى سبيل أن يقتل مخالفا له فى الرأي!، معتقدا أنه ينفذ تعاليم الدين وأوامر الرب، هذا السؤال أجاب عنه من زاوية متفردة وفلسفية د حسن حماد عميد كلية الآداب السابق فى كتابه الجديد «القمع المقدس» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، الزاوية سيكولوجية، والفصل بعنوان الألم المقدس، وهو الألم الذى يجد تبريرا له داخل الروايات المقدسة بوصفه خلاصا، وهنا الجسد هو الذى يدفع فاتورة القمع، إن الجماهير التى تعانى الاضطهاد والقهر مسكونة كما يقول المؤلف بفكرة القربان، إنها تفتش عن كبش فداء تلتف حوله مشاعر الجموع وتجد فيه مشاعرها المكبوتة نوعا من التنفيس والتفريغ، وتعرف الجماعات أهمية هذه الفكرة، لذلك يجعلون فكرة كبش الفداء جزءا أساسيا من استراتيجيتهم، وعلى الرغم من أن فكرة كبش الفداء أو القربان البشرى قد تلاشت من تاريخ الإنسانية نتيجة لتطور الحضارة وانتقال الانسان من عصور الهمجية والبربرية إلى عصر الحداثة والمدنية، إلا أن قطاعا كبيرا من مجتمعاتنا الإسلامية لم يستطع اللحاق بالركب، ولايزال يحيا فى سياق الفكر السحرى والأسطورى، السياق الذى يتبنى خطابا قبليا يقوم على مسلمة أن انتزاع الشر من العالم يتطلب دائما دما مراقا، وبنظرة بسيطة على بعض الاحتفالات الدينية لبعض الطوائف مثلا نجد أنها تتسم بقدر كبير من المازوخية واستعذاب الألم.

يذكر المؤلف من هذه الممارسات اللطم وايذاء الجسد من خلال التطبير وضرب الرأس بآلات حادة واستخدام السلاسل لضرب الكتفين والسياط لجلد الظهر، والمشى على النار أو الزجاج، وغيرها من الممارسات التى من الممكن أن تفضى إلى الموت!، ويفسر د. حسن حماد هذه الممارسات بأنها نوع من جلد الذات، والإحساس المضنى بالذنب، بسبب خذلان الإمام ... إلى آخر القصة الكربلائية المعروفة، إلى جانب الشعور بالذنب هناك الشعور بالمظلومية التى هى الذاكرة التاريخية لآلام ومعاناة جماعة من البشر فى فترة من التاريخ، تلك المازوخية تقتات من مشاعر الخطيئة والإحساس المضنى بالذنب، والتقمص الدائم لدور الضحية، هذه المشاعر هى ما تدفع الإنسان إلى استعذاب الألم وتجعله يستمرئ العذاب، ولأن الإرهابى يدعى احتكار الحقيقة المطلقة، وهذا الادعاء هو ما يعطيه الحق فى نفى الآخر ورفضه وتكفيره تمهيدا لسحقه وتصفيته وقتله، لأن الحقيقة الدينية المطلقة واحدة لا تقبل بوجود التعدد، وإلى جانبها تصبح كل الحقائق نسبية وخاطئة وباطلة وكافرة، هذا النوع من التكفير هو ما يميز التفكير القمعى الذى يصفه المؤلف بأنه ينفى حق الاختلاف، ينفى الحق فى الخطأ، والحق فى النقد والتطور والاكتشاف، هذا التفكير التكفيرى لديه رهاب وخوف عظيم من كل ما يتجاوز حدوده المعرفية، مما يجعله يسلك سلوكا وسواسيا يسعى لإنكار الآخر عقليا ورفضه وجوديا كإنسان، هذا الفكر يجعله مسكونا بغريزة الموت، يضمر عداء وكرها لكل ما هو مختلف، الأجانب، الديانات الأخرى، المثقفون، الكتاب والمبدعون، النساء ... إلخ.

إلى جانب غريزة الموت، تلك الجماعات المغيبة مسكونة بهاجس الطهرانية لأنها تشعر فى أعماقها بأنها ملوثة ومذنبة وآثمة ومحتاجة دائما إلى كبش فداء، كلكم تذكرون ما فعله تنظيم داعش فى 2015 حين ذبح واحدا وعشرين قبطيا فى ليبيا، كان يتعامل وكأنهم أضحيات أو قرابين للأسف فى هذا المشهد المأساوى، يرددون اسم الله فى أثناء الذبح، مؤمنون وهم يريقون الدم بأن هؤلاء المذبوحين كفرة ويجب التطهر منهم!، الإرهابى الانتحارى يكافح من أجل أن يصنع من ذاته التافهة المحدودة حدثا فريدا تهتز له الدنيا ويضطرب له العالم، إنه يحاول أن يخلق شيئا من لا شىء، وهو ينتزع قيمته من خلال الفوضى والعماء، ويجاهد من أجل تسليط الفوضى على هذا الوجود، ويؤكد فاعليته عبر فعل الهدم والتدمير وإعدام الحياة، ويؤكد هذا المعنى تيرى ايجلتون حين يقول «يمكن أن يغدو موت المفجر الانتحارى حدثا أكثر أهمية من أى شيء فى حياة المنبوذين والمهمشين، وقد يصبح الحدث التاريخى الوحيد الذى يقومون به، فبعد أن مزق الانتحاريون الأطفال إلى أشلاء وأهلكوا الأبرياء، تراودهم فكرة أنهم يستطيعون أن يشعروا الآن بأنهم أحياء بنحو أكثر كثافة، إذ لا شيء فى حياتهم يمتلك أهمية قبل تركها، ويكف الموت عن كونه خسارة مجانية». يلخص د. حسن حماد مؤلف كتاب «القمع المقدس» الوضع قائلا إنه ليس أمام الإرهابى الانتحارى سوى خيارين: إما أن يفرض حقيقته المطلقة على العالم أو يبث الفوضى والعدم والموت فى هذا العالم، ولأن الحقيقة المطلقة مستحيلة، ولا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، لذلك يستسلم الإرهابى لعدوانيته المفرطة وينشر الموت والخراب والدمار فيما حوله، إن هذا الإرهابى مختل سيكولوجيا، سيكوباتى غير قابل للشفاء من فرط غسيل المخ وسحق الروح، يمتلك مركبا عجيبا، سادية مرعبة، ومازوخية منسحقة تستعذب الألم، عاشقة للدمار والخراب.

***

د. خالد منتصر

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأثنين 11 من شعبان 1446 هــ 10 فبراير 2025 السنة 149 العدد 50470

توجد العديد من الأفكار التي يوردها مفكرو علم السياسة، ولا يمكن تقبلها أو البناء عليها من قبل الجميع، لأن الكثير منها هو عبارة عن وجهات نظر يُدلي بها المفكرون، ولها علاقة مباشرة بالمجتمعات التي يعيشون فيها، أو تلك التي يقومون بالبحث في شؤونها، ولا يمكن تقبلها وإسقاطها على المجتمعات الأخرى.

ولكي يتم تقبل أو رفض وجهة نظر أو فكرة ما عادة ما يقوم علماء السياسة بوصف السلوك دون محاولة التقييم المنتظم السليم، أو البحث عن مقولات أو مبادئ أساسية كأدلة يهتدى بها. وهذه عملية عندما يتم الإقدام عليها قد تكون خاطئة أو غير مفيدة في إطار محاولة صياغة مقولات أو نظريات علمية لبنيتها، وإصدار تعميمات بناءً عليها لدراسة الظواهر التي تمر بها المجتمعات، ومنها ظاهرة شرعية السلطة السياسية في مجتمعات دول العالم النامي.

إن ما يمكن أن يصبح مقولة أو نظرية سياسية واسعة الاستخدام قابلة للتعميم على الظواهر السياسية، إذا لم يتم بناؤه بشكل صحيح يمكن أن يدمر ذاته، ويفقدها الاهتمام بها في صالح الفكر غير الناضج، مثلما يفقدها ادعاءها بفائدتها العلمية والتعميمية. لذلك، فإن فقدان التقييم السليم والنظرة الصائبة يدخل علماء السياسة المحدثون في شرك الوقوع في خطأ أن وجهات النظر الحديثة التي يبدونها تقتل وجهات النظر التي أبداها علماء السياسية التقليديون الذين سبقوهم، وبأن فلاسفة علم السياسة الجدد سيقتلون الأفكار التي أوردها فلاسفة السياسة التقليديون، وبأن علماء التاريخ السياسي حديثو العهد سيقتلون الأفكار، وما أرّخ له أسلافهم من علماء التاريخ القدماء. فهل هذا الطرح صائب؟ وفوق كل شيء هل هذا الطرح مفيد لنا في علم السياسة؟ نحن لا نميل إلى فكرة أن العلماء الجدد في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي نتعامل معها، والتي أوردنا ذكر بعض منها، كعلم السياسة والفلسفة السياسية والتاريخ السياسي والاجتماع السياسي يتعمدون قتل ما أورده أسلافهم، بل هم عادة ما يبنون عليها، ويستفيدون منها إلى أقصى قدر ممكن.

ولنأخذ مثالاً فكر ماكس فيبر عالم الاجتماع السياسي الألماني الشهير الذي لا نزال في علم السياسة نبني على ما أورده من مقولات حول الشرعية. بهذا الصدد أورد ماكس فيبر تصنيفاً ثلاثي الأبعاد لمصادر شرعية السلطة السياسية، هي: أولاً، التقاليد، وهي القبول بالحكم الناتج عن الممارسة المستمرة للسلطة السياسية، بمعنى الحكم بالوراثة.

وثانياً الكاريزما، وهذه يدخل فيها دعم واسع لشخص ما بسبب شخصيته الكارزمية القوية وديناميكية صفاته وأفكاره الشخصية. ومصطلح كاريزما يعني هِبة من الخالق، عز وجل، لشخص ما صفات تميزه عن غيره يتحلى بها هو وحده عن بقية البشر، وهي مصطلح من أصول لاتينية برز وانتشر في أول ظهور التاريخ الميلادي.

وثالثاً، وأخيراً هو المصدر العقلاني - الرشيد، وهذا يشمل القبول بحق شخص ما في الحكم أو في اتخاذ القرار استناداً إلى وصوله إلى السلطة السياسية عبر نمط من الإجراءات المحددة المعدة، وفقاً للقانون السائد كالانتخابات العامة، أو حيازة نوع من المؤهلات الاحترافية، أو ممارسة الحكم بوسائل كفوءة وفعالة وعادلة لا تمييز فيها. وهذه تمثل عوامل تحدد طاعة سياسية حقيقية وسلطة شرعية. ويلاحظ أن المصادر الثلاثة آنفة الذكر للشرعية تنطبق ليس فقط على سلطة الحكم السياسي، ولكن أيضاً على الممارسات المتعلقة بالسلطة في أية مؤسسة، وهي ليست بالضرورة أن تفرق عن بعضها بعضاً.

***

د. عبد الله جمعة الحاج - كاتب إماراتي

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 فبراير 2025

 

طلقات الكلمات، في معركة البحث عن وصفات للخروج، من ربقة التخلف والارتباك، التي تعيشها بعض البلدان في المنطقة، لها أصوات ترتفع من حين إلى آخر. مفكرون ومثقفون وصحافيون، يلهجون بكلمات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويقدّمونها على أنها الحبة السوداء السحرية، الشافية لكل ما تعانيه الشعوب من وهن وتخلف. تراجعت صرخات الشعارات، وغابت ثورات الأحلام. لكن الصخب الجدلي، لا يغيب في ألسنة تغرد بما يتزاحم في الأفواه من أطروحات ونظريات وجدل لا ينقطع. الدين كانت له مساحة واسعة وما زالت، في سوق البحث عن الرافعة السحرية، إلى أعالي النهوض والتقدم. الإسلام هو الحل. هكذا! كبسولة صغيرة تضعها بعض الأصوات الإسلامية، تحت تجويف حلمها، لتصير في قوس زمن مضغوط، أمة فوق المتفوقين والمتقدمين. صوت آخر يزغرد في أفواه من أطلقت عليهم، صفة المثقفين والمفكرين. العلمانية هي الحل، وتلك كلمة يمكن وصفها، بسائل الحروف المُعبأ في حقنة، تعطى تحت الجلد، فتفعل فعلها بعد وقت قصير. وطيس المبارزة بين الكلمات المعبأة في الأفواه، يحدوه التنابز بالقول والكتابة، وكثيراً ما كان للدم فيه حضور. المتطرفون السلفيون يطلقون على القائلين بالعلمانية، البارود الصوتي الذي قد يتحول، طلقات حية قاتلة. يصفون العلمانيين بالكفرة الملحدين أعداء الدين، في حين يرشحهم العلمانيون بغبار التهم الحارقة، فهم يجرّون الأمة إلى أزمنة كانت ثم غابت، ولا يمتلكون عقولاً لها عيون، ترى ما يرتفع في ساحات الأمم المتقدمة. الدولة وصفاتها ومكوناتها، هي الهوية الأساسية، التي يتعارك المختصمون حولها. هل تكون إسلامية شريعتها وقوانينها تقوم على الدين، أم تُؤسس وفقاً لتشريعات يسنّها الناس عبر ممثليهم، بما يستجيب للإكراهات الحياتية المتغيرة والمتجددة؟

الدولة تكوين سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، يبنيه شعب واحد مجتمع فوق أرض لها حدودها المعترف بها دولياً، وتديره حكومة يوليها الشعب أمر قيادته، وفقاً قواعد دستورية يرتضيها الجميع. الدولة الحديثة تقوم على ركائز مؤسساتية، تحقق المساواة بين الجميع. المواطنة هي القاعدة القانونية المقدسة في كيان الدولة. كل المواطنين متساوون. لا تفريق بين مواطن وآخر، على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الطبقة. سيادة القانون قوة لا تطولها مصالح الحاكم. في القرون السابقة لم تقم الدولة. كان هناك سلطة مطلقة في يد من يحكم، لا يكبحها كابح. في عهد الإمبراطوريات، كان السلاح وحده من يرسم خطوط حدود الكيانات السياسية. الدولة الحديثة تكوين وُلد في أوروبا في القرن السابع عشر، قبل اتفاقية واستفاليا لم تتخلق الدولة الحديثة، لا في أوروبا ولا في غيرها. الإمبراطوريات كانت سلطات ولم تكن دولاً. من الإمبراطورية الرومانية، إلى الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية وغيرها. في الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة، البريطانية والإسبانية والفرنسية، قامت دول في المركز، لكن مستعمراتها، كانت مساحات تمارس فوقها السلطة الاستعمارية.

اتفاقية واستفاليا الأوروبية التي تم توقيعها في 24 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1648 بمونستر واستفاليا في ألمانيا، أنهت الحرب التي استمرت 30 سنة، بين كيانات أوروبية متصارعة، وكان محركها الأكبر الصراع المذهبي الديني بين المسيحيين. تسببت تلك الحرب في موت الملايين والمجاعة والهجرة الواسعة والدمار. أهم نتائج الاتفاقية، الاعتراف بالمذهب البروتستانتي والكالفيني، إلى جانب المذهب الكاثوليكي، وقاد ذلك الاعتراف إلى إنهاء الصراع الديني، وتم الاتفاق على استرداد الممتلكات البروتستانتية التي استولى عليها الكاثوليك. حق المواطن في اختيار العقيدة التي يريدها، كان نقلة جوهرية طوت صفحة الصراع الديني الدموي. أدى ذلك إلى تراجع سلطة الكنيسة، وتدخل البابا في الشؤون السياسية، الاعتراف بسيادة الدول وتكريس مبدأ المساواة بينها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتأسيس التمثيل الدبلوماسي بين الدول، وتعيين السفراء. أسست هذه الاتفاقية لوضع قواعد الكيانات الوطنية في أوروبا الجديدة. تراجعت حقبة القرون الوسطى، التي تُرسم فيها حدود الكيانات السياسية بقوة السلاح، وجرى وضع قواعد جديدة في العلاقات بين الدول. هل أسست هذه الاتفاقية لما أُطلق عليه، الدولة العلمانية بفصل الدين عن الدولة؟ المعتقد سواء كان ديناً سماوياً، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، أو مجموعة من الحِكم والمأثورات المقدسة، مثل البوذية والكونفوشيوسية، لها فعلها القوي والدائم في عقول البشر وسلوكهم، وتشكل الهويات التي تجمع الساكنة على أرض واحدة، وتصنع الفروقات بين الأمم. لا يمكن فصل الدين عن المجتمع وحياته، ولا يغيب تأثيره عن النشاط الإنساني العام. في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، عبَّأ المرشح الرئاسي دونالد ترمب، قوة الدين في حملته الانتخابية. هاجم المثلية بقوة، وطرح وضع ضوابط للإجهاض، وركز في حملته الانتخابية على القيم المسيحية. في الولايات المتحدة يقسم الرئيس يوم تنصيبه على الإنجيل، ويؤدي الصلاة في الكنيسة قبل دخوله إلى الكونغرس في حفل التنصيب. في الصين الشعبية الشيوعية، تلاشى كتاب ماو تسي تونغ الأحمر، وعادت حِكم كونفوشيوس إلى المجتمع الصيني. بعد الحرب العالمية الثانية برزت الأحزاب الديمقراطية المسيحية في إيطاليا وهولندا وألمانيا في الحياة السياسية. كما تكونون يولّى عليكم. هناك من يذهب إلى أن هذا القول حديث شريف، وهناك من يقول إنه حكمة قيلت قديماً. الدولة تكوين إداري وطني عالٍ، يسمو على الآيديولوجيات والعقائد، لكنه لا يلغيها أو يتجاهل تأثيرها.
***
عبد الرحمن شلقم
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:
السبت - 09 شَعبان 1446 هـ - 8 فبراير 2025 م

 

حين تواجه المجتمعات البشرية أيّة مستجدات تاريخية معاصرة، تلجأ إلى حلول مستقبلية؛ أما العودة إلى الماضي بغرض إيجاد حلّ لمشاكل راهنة، فهذا قد يزيد الأمور تعقيداً.

يعتمد دعاة الماضوية بحثاً عن تشريعات تناسب الحاضر إلى إضفاء طابع مثالي على الماضي، مما قد يضفي صورة رومانسية وتبريرية على الصراعات الدامية والتناحرات على السلطة السياسية والدينية.

الحنين إلى الماضي والرغبة في استحضاره، صفة بلا أيديولوجيا محددة، فنجدها في الليبراليين الذين يشتاقون لزمن الملكية في البلاد العربية ويصورونها مدينة فاضلة، ونجدها في الاشتراكيين الذين يشتاقون لزمن تأسيس الجمهوريات ويصورونها كنموذج للعدالة المثالية، كما نجدها في أصحاب مشروع الخلافة الإسلامية سواء الكاملة أو الجزئية.

العودة إلى الماضي والرغبة في إسقاطه على الحاضر ترتبط بحالة الاشتياق لزمن لم تره الأجيال التي تشتاق إليه إلا من خلال قراءات وتصورات ذهنية قد تصيب أو تُخطئ.

كما أنّ قراءة التاريخ المتأنية لا تتم من خلال ما ورد على لسان النخبة المسيطرة على تدوين التاريخ حينها؛ بل من خلال قراءة وفهم روايات المغلوبين على أمرهم في هذه الأزمنة.

ربما لا تكون الأزمة نفسها في الماضي؛ فالماضي ابن زمانه وظروفه، بل تكمن الأزمة في استحضار الماضي والتمسك به على اعتبار أنّ تكراره صالح بكافة تفاصيله للزمان المعاصر.

هل تتجلى النظرة الماضوية في التشريعات المعاصرة؟

التطور سنّة الحياة؛ لهذا فإنّ إعادة صياغة القوانين الـُمنظمة للمجتمعات المعاصرة في حاجة مستمرة إلى التعديل، وفق معايير الحياة على الأرض المتغيرة، لا السماء الثابتة في التصورات الذهنية للمؤمنين على اختلاف عقائدهم الدينية.

لهذا لجأت عديد من بلدان العالم إلى فصل التشريعات المدنية عن النصوص الدينية، كون تلك النصوص قد شرعت في زمان ومكان لا علاقة لهما بظروف العالم المعاصر؛ ولتناسب أحوال مجموعة محدودة من البشر في مكان جغرافي بعينه، لكنّها في ذات الوقت اكتسبت قداسة بفعل الزمن والوحي.

تهدف تلك التشريعات المدنية، لا إلى الهجوم على المقدسات الدينية، لكن إلى التطور بعيداً عن حدود التأويلات الدينية التي قد تكبّل، في بعض الظروف، هذا التطور البشري.

اللجوء مثلاً لفتاوى دينية بشأن استخدام الهندسة الوراثية، أو مواكبة التطور العلمي، يعرقل مسيرة التقدم الذي لم يعد ينتظر المباركة السماوية بحسب تصورات بعض البشر.

بعد أن تنامت البشرية، لم تعد احتياجات مئات أو آلاف البشر مثل احتياجات شعوب بالملايين تعيش في واقع مختلف؛ حيث إنّ واقع البشر نسبي وليس مطلقاً، لهذا يعاد النظر في القوانين المنظمة لأحوال البشر بين الحين والآخر، تحت مسمى "التعديلات الدستورية أو القانونية"، وطالما وجدت التعديلات التشريعية، انتفت الحاجة إلى نصّ يناسب كلّ زمانٍ ومكان؛ لأنّ كلمة "التعديل" تتنافى مع فلسفة "الثابت" الذي يلائم كلّ زمان ومكان.

لذلك تمّ وضع العقلانية المعاصرة في التشريع في حالة تضاد مع الروحانيات، لكنّ العقلانية لا تتنافى مع الروحانيات والروحانيات لا تتنافى مع العقلانية، طالما يتمّ وضع كلّ منهما في إطاره، مع القدرة على التمييز بين التشريع العام والعقيدة الدينية الخاصة.

أزمة المدنية الحديثة وتجديد الخطاب الديني

لكنَّ دعوات الفصل بين التشريعات المدنية والنصوص الدينية، كحلّ لإشكاليات الواقع، واجهت تحديات عدة، لهذا شاع بين الأئمة المدافعين عن أزلية النصّ الديني شعار "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان"، وهي عبارة تمّ رصدها مجازاً في أدبيات حسن البنا (1906-1949)، مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فـنسبت إليه كونه كان يرى أنّ الإسلام عقيدة ووطن وجيش كما ورد في رسالة التعليم التي سطّرها العام 1937.

كما أكّد الشيخ يوسف القرضاوي على المقولة، من خلال كتابه "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" (1972)، وكان كتاباً بأسانيد ضعيفة، إن أخضعناه لمنهجية البحث الأكاديمي، فهو يستنبط الأحكام من الشريعة وحدها، فأصبحت الشريعة هي المصدر والـحكم في الوقت ذاته، وهي إشكالية واجهها التاريخ الإسلامي على مرّ زمانه.

رغم أنّ عبارة "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" نسبت للبنا في إطار حديثه عن شمولية الشريعة؛ أي احتواء الشريعة على كلّ التشريعات اللازمة للإنسان وتنظيم حياته في كلّ الأزمنة والأماكن والظروف، إلا أنّ أول من صكّها كان الشيخ عبد العزيز جاويش (1876- 1929) من خلال كتابه "الإسلام دين الفطرة والحرية" العام 1905.

صاغ الشيخ عبد العزيز جاويش هذه العبارة تحت مظلة الحديث عن مرونة الإسلام في التأقلم مع مستجدات الحياة، إلا أنّه عاد ليؤكد أنّ الدين لا يختلف في أصوله، وإنّما في أحكامه الفرعية، وهنا تتنافى "المرونة" مع "الثبات"؛ لهذا خرج جاويش من هذه الإشكالية بالحديث عن المرونة في الأحكام الفرعية فقط.

هكذا أصبح الهدف هو الانتصار للنصّ الجامد، وليس للإنسان الذي شرع من أجله النصّ في زمان ومكان مختلفين؛ فإنسان الحاضر ليس إنسان الماضي، وإنسان شبه الجزيرة العربية ليس ذاته الإنسان الذي يعيش في منطقة جغرافية أخرى، ونساء القبائل التي شهدت الوحي لسن مثل النساء العاملات اليوم. 

هذا الأمر أوقع المدنيّة العربية الحديثة في فخّ المصطلحات، ومن بينها مصطلح التجديد الديني، فتجديد الخطاب الديني، إن صحّ التعبير، هو شأن اجتهادي ضروري، لكنّه شأن اجتهادي لا بدّ من فصله عن شأن المواطنة؛ فالاجتهاد أمر ديني وليس وطنياً، والهدف من الاجتهاد هو تبنّي الحداثة ومقاومة الاندثار؛ لأنّ ما لا يتطور يندثر.

لكنّ الاجتهاد الفقهي، الذي يفرض تصوراته من خلال تشريع قانوني، لا يعدّ اجتهاداً، بل هو شكل من أشكال الثيوقراطية المعاصرة، حتى إن كان ذلك الاجتهاد يميل للتحرر من فتاوى ماضوية أصولية بشكل نسبي.

ربما تختلف الصياغة الدستورية في عدد من البلاد العربية، لكنّها تدور في فلك متشابه، وهو فلك ما يسمى بالديمقراطية الإسلامية، والتي تأتي فيها قيم المساواة والحريات في إطار ما يشرعه فقهاء الإسلام بتأويلاته المختلفة فقط؛ لذا فهي ديمقراطية ترتكز إلى مفهوم "دار الإسلام" لا مفهوم المواطنة الكاملة.

ودولة المواطنة ليست منوطة بإيمان المواطنين من عدمه بالنصوص الدينية، بل هي منوطة بتحقيق مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة بغضّ النظر عن النصّ الديني، أياً كان مصدره.

هل يعيب التشريعات البشرية حاجتها للتعديل؟

يرتكز دعاة التمسك بالتأويلات الفقهية إلى فلسفة مفادها أنّ "المشرع هو الله"، وينكر المدافعون عن هذه الفلسفة أيّ حقّ للإنسان في تقرير مصيره بعيداً عن الوحي.

دعاة فلسفة "المشرع هو الله" يستندون إلى قصور العقل البشري وضعفه في التشريع، ويقدمون حجتين كدليل يبرهن تلك النظرية.

الحجة الأولى: "القرآن والسنّة": مما يعود بنا إلى أزمة إثبات النصّ بالنصّ، واعتبار النص حجة مطلقة، لا تخضع لمنهجية خارج حدود النص القرآني، فيتمّ الاستناد إلى قوله تعالى: ﴿إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء: الآية 9]، و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغة﴾ [سورة البقرة: الآية 138]، كحجة على صلاحية التشريع الديني لكلّ زمان، لكنّ هاتَين الآيتين لا تثبتان العجز الإنساني في التشريع بالضرورة.

الحجة الثانية: تعتمد على قصور العقل البشري على التشريع، بسبب عجز التشريعات البشرية عن الاستمرار إلى أبد الأبدين، واحتياجها للتعديل المستمر، ويستند دعاة هذه الحجة إلى قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء: آية 28].

ويمكن دحض هذه الـحجة ليس بمحاولة إثبات أنّ التشريعات البشرية تصلح لكلّ زمان ومكان، وإنما بفهم طبيعة التشريعات البشرية القائمة على تغيّر الزمان والمكان، بالتالي حاجة التشريعات إلى تعديلات مستمرة، وهذا أمر غير معيب؛ لأنّ التطور سمة إيجابية.

احتياج التشريعات المدنية للتعديل ليس فشلاً في تشريع البشر، وإنما يعبّر عن تغيّر الظروف الحياتية وبلوغ المجتمعات درجة من الوعي بضرورة التأقلم والتطور مع مستجدات الحياة؛ لذلك فإنّ المقارنة بين التشريع المدني الخالص والتشريع المستند إلى نصّ ديني، هي مقارنة تمت على أساس غير صحيح؛ لأنّها مقارنة تتحدى البشر بالإتيان بنصّ صالح لكلّ زمان ومكان، ليضاهي النصّ القرآني أو الحديث النبوي الصحيح، إلا أنّ النص القرآني نفسه يكون مشروطاً ظرفياً وليس بالضرورة قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، والدليل على ذلك؛ تعطيل بعض النصوص الدينية لتعذر تطبيقها (مثل الحدود الواردة في القرآن بنصّ قطعي الدلالة)، ما ينفي صلاحية تطبيقها الأبدي، وكما هو الحال في تعطيل آية الجزية على غير المسلم، فلم يعد غير المسلم في حالة اختيار بين إشهار الإسلام أو دفع الجزية؛ حيث انتفت الظروف المزامنة لهذه التشريعات.

***

رباب كمال - كاتبة مصرية

عن موقع حفريات، يوم: 02/02/2025

طالعتنا صفحة ثقافة وفنون بـ«الشرق الأوسط» بتاريخ 11 يناير (كانون الثاني) 2025، بقراءة ممتعة في كتاب أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والمترجم الدكتور محمد فتحي الشنيطي، الذي يحمل عنوان «فلسفة هيوم بين الشك والاعتقاد»، والدكتور الشنيطي من المثقفين الموسوعيين الذين عُرفوا في النصف الثاني من القرن الماضي، فقد كتب في الفلسفة وعلم النفس والمنطق وغيرها من المجالات وترجم عدداً ليس بالقليل من النصوص الفلسفية من الأمهات، لكن بخسته الأيام حقه من الشهرة.

أما ديفيد هيوم فهو أحدُ عشرة كان لهم التأثير الأعظم في كل تاريخ الفلسفة، وقد كتب جايمس ستيرلنغ ذات مرة: «إن هيوم هو سياستنا، وهيوم هو تجارتنا، وهيوم هو فلسفتنا، وهيوم هو ديننا، وليس بعيداً إن قلت إن هيوم هو ذوقنا». هذا التصريح من أحد فلاسفة القرن التاسع عشر يجلّي المكانة الفريدة التي احتلها الفيلسوف الاسكوتلندي هيوم في تاريخ الفكر. ويرجع جزء من شهرته وأهميته إلى نهجه الشكوكي الجريء في التعامل مع عدد من الموضوعات الفلسفية. ففي نظرية المعرفة، شكك في المفاهيم الشائعة عن الهوية الشخصية، وزعم أنه لا توجد «ذات» دائمة تستمر بمرور الوقت؛ إذ لا نجد إلا إحساسات متتابعة لا يلزم منها وجود ذات تقف خلفها.

ورفض هيوم السببية وكان يرى أن مفاهيمنا للعلاقات السببية ترتكز على عادات التفكير، فقد اعتدنا أن نرى الشمس كل يوم وهي تشرق لكن لا يلزم أن تشرق كل يوم في المستقبل. وعادة التفكير هذه لا تقوم على إدراك القوى السببية في العالم الخارجي نفسه.

ودافع هيوم عن موقف أساتذته الشكوكيين القائل بأن العقل البشري متناقض بطبيعته، وأنه من خلال المعتقدات الطبيعية فقط يمكننا أن نتطور ونشق طريقنا في الحياة المشتركة. في فلسفة الدين كان له موقف مخاصم من الديانات والمعجزات. وعلى عكس الاعتقاد الشائع في ذلك الوقت بأن وجود الله يمكن إثباته بالحجة السببية، تقدم هيوم بانتقادات للأدلة التوحيدية. ودرس نظرية حول أصل المعتقدات الدينية الشعبية، وأسّس مثل هذه المفاهيم على علم النفس البشري بدلاً من الحجة العقلانية أو الوحي الإلهي. ويُحال الهدف الأكبر من انتقاده إلى رغبته في فصل الفلسفة عن الدين، وبالتالي السماح للفلسفة بملاحقة غاياتها دون إفراط في العقلانية.

في النظرية الأخلاقية، وقف ضد الرأي الشائع القائل بأن الدين يلعب دوراً مهماً في خلق وتعزيز القيم الأخلاقية، وكانت نظريته واحدة من أوائل النظريات الأخلاقية العلمانية البحتة، وبها رد الأخلاق إلى النتائج السارة والمفيدة التي تنتج عن أفعالنا.

لقد أدخل هيوم مصطلح «المنفعة» إلى القاموس الأخلاقي، وكانت نظريته بمثابة السلف المباشر لمذهب المنفعة العامة الذي تبناه جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل، حيث حوّل هؤلاء الفلاسفة البريطانيون مذهب اللذة الفردية عند أرسطبوس وأبيقور إلى مذهب لمنفعة الجميع. وهو مشهور بموقفه القائل بأن الالتزام الأخلاقي لا يمكن استنتاجه من الواقع، وكان من أوائل المؤيدين لنظرية الأخلاق العاطفية القائلة بأن الأحكام الأخلاقية تعبّر في الأساس عن مشاعرنا الشخصية.

وفي مضمار آخر، أبرز مساهمات مهمة في النظرية الجمالية برأيه القائل بأن هناك معياراً موحداً للذوق داخل الطبيعة البشرية.

وفي النظرية السياسية اشتهر بنقده لنظرية العقد الاجتماعي، وفي النظرية الاقتصادية عُرف بآرائه المناهضة للسياسة الاقتصادية القومية التي تهدف إلى تكثير الصادرات وتقليل الواردات في الاقتصاد. وبصفته مؤرخاً فلسفياً، دافع عن الرأي المحافظ القائل بأن الأفضل أن تدير الحكومات البريطانية ملَكية قوية.

لكي نفهم موقفه المخاصم للميتافيزيقا ينبغي أن نعلم أنه كان من أكبر المصدومين بالثورة العلمية كفيلسوف، فالفيزياء والرياضيات حققتا نجاحاً باهراً، بينما بقيت صنعة الفلسفة تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، يأتي فيلسوف فينسف ما قيل قبله محاولاً أن يشيد بناء جديداً فيأتي بعده فيلسوف آخر فينسف كل ما قال سابقه. ذلك أن الفلسفة ليست علماً بالمعنى الذي صرنا نعرفه اليوم، وليست تراكمية، ولا تتطور. هذا ما ينبغي أن يدركه كل مهتم بالفلسفة. هذه الصدمة جعلت هيوم يكتب: «إذا رأيت كتاباً في الميتافيزيقا فألقه في النار».

علينا أن ننتبه حين نقرأ لمن لا يعيش في زماننا إلى أنه قد يقصد بالمصطلحات ما لا نفهمه منها اليوم. فالميتافيزيقا لا تعني اليوم «عالم الغيب» كما كان اللاهوت يفسرها في زمانه. الميتافيزيقا هي حوض تسبح فيه كل المفاهيم المجردة المجاوزة للحس. والفيزيقا هي عالم الحس أو عالم الطبيعة وبالتالي لم تعد اليوم فلسفة، بل انخرطت كلية فيما نسميه اليوم بالعلم التجريبي الطبيعي المادي. لقد انتزع العلماء هذه المساحة من أيدي الفلاسفة.

أما الميتافيزيقا فهي كل ما سوى ذلك، هي كل ما وراء الطبيعة، وهي أيضاً ليست منعزلة عن العلم، بل العلم بدوره لا يستطيع أن يستغني عنها فقد خرج من ذات الحوض. وقد كان آينشتاين غارقاً في الميتافيزيقا ولا يتحرك من دونها في صناعة نظرياته العلمية، يتقدم بفرضية عقلية ميتافيزيقية ثم يسعى لإثباتها أو نفيها فيما بعد. تماماً مثلما فعل بنظرية الأثير الحامل للضوء وكيف تبناها ثم نسفها في عام 1905.

لم يكن هيوم عدواً للميتافيزيقا بإطلاق، بل كان عدواً للميتافيزيقا التقليدية السائدة في زمانه. وبالنسبة لأمر الدين هو قطعاً ليس بمسيحي؛ فهو ينكر المعجزات، لكنه ليس بملحد أيضاً، والأقرب أنه كان ربوبياً يؤمن بوجود الله، فقد ذكر الإله في ثلاثة مواضع من نصه الفلسفي، وفي موضع ذكر أنه لم يلقَ أحداً من الملحدين وأنه لم يكن يستسيغ ثقتهم بعقيدتهم. وهذا هو موقف الشكوكي، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

***

خالد الغنامي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 فبراير 2025 م ـ 03 شَعبان 1446 هـ

3 من كبار محرِّري الروح البشرية

دعُونا نتحدث هنا عن ثلاثة من كبار الشخصيات التي غيَّرت مجرى التاريخ البشري: الأول هو المصلح الديني الألماني الشهير مارتن لوثر الذي هز عرش البابوية وطهَّر المسيحية من كل الأدران والشوائب التي لحقت بها وشوَّهت سمعتها. والثاني هو رينيه ديكارت، أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. والثالث هو جان جاك روسو، السويسري الأصل الذي فجَّرت أفكاره الثورة الفرنسية وأصبحت كتبه إنجيلاً هادياً لها.

والآن لندخل في التفاصيل قليلاً. ماذا فعل لوثر بالضبط؟ ولكن قبل ذلك ينبغي أن نُجيب عن سؤال آخر: متى أصبح لوثر لوثراً وكيف؟ أي متى وُلد الولادة الثانية وأصبح ذلك المصلح الديني الشهير الذي أسَّس ديناً جديداً تقريباً هو: البروتستانتية؟ كان الرجل يعيش أزمة نفسية حادة جداً، بل مدمِّرة في شبابه الأول. وقد استمرت هذه الأزمة النفسية سنوات وسنوات حتى أقضَّت مضجعه وهددت وجوده ووصلت به إلى حافة الجنون. ولكن في آخر لحظة وقبل أن يحصل ما لا تُحمد عقباه حصل الانفراج الكبير. اشتدِّي أزمة تنفرجي... عندئذ قال هذه العبارة المؤثرة: «ثم حنَّ الله عليَّ»... كان مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة ببرج الكنيسة، وفجأة ينزل عليه الإلهام الصاعق فينقذه من أزمته النفسية المتفاقمة التي هدَّته هدّاً. وعندما حصل الإلهام الصاعق وحنَّ الله عليه قال عبارته الشهيرة: «والله شعرت في تلك اللحظة بأن أبواب الجنة قد فُتحت أمامي على مصراعيها». ما أجملها من لحظة، أعظم لحظة في التاريخ: لحظة اللحظات. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مارتن لوثر بطل ألمانيا ومدشن الإصلاح الديني في كل أنحاء أوروبا.

هذا هو الإلهام الصاعق بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه يتلخص في كلمة واحدة أو بالأحرى كلمتين: انعتاق الروح. إنه يعني أن الروح القلقة، الروح المتوترة، الروح المعذبة، الروح المدعوسة، الروح المحطَّمة... قد انعتقت فجأة من أغلالها وأصفادها. هذا هو الوحي بالمعنى الفلسفي أو التحليلي النفسي للكلمة. وهي تجربة روحية هائلة لا تعرفها على مدار التاريخ كله إلا نخبة النخبة أو صفوة الصفوة. ومَن يعش تلك اللحظات لا ينساها. هذا الشخص الذي كان محطماً نفسياً قبل أن ينزل عليه الإلهام الصاعق يتحول فجأة إلى قوة جبروتية لا تناقش ولا ترد. ما قبل لحظة الوحي شيء وما بعدها شيء آخر. ما قبلها كان نكرة من النكرات وما بعدها أصبح أعظم شخصية في تاريخ ألمانيا.

وأما ديكارت الذي ظهر بعده في القرن السابع عشر، فقد شهد تجربة الإلهام الصاعق أيضاً. نقصد تجربة الوحي بالمعنى الفلسفي والتحليلي النفسي للكلمة. وعلى أثرها قام بالانقلاب الكبير على أرسطو المدجَّن من الكنيسة، ودشَّن الفلسفة الحديثة وأصبح قائداً فكرياً لكل أوروبا وليس فقط لفرنسا. كتابه الشهير «مقال في المنهج» أصبح الدليل الهادي لكل الشعوب الأوروبية التي كانت حائرة ضائعة. ثم يقولون لك: ما نفع المثقفين؟ إنهم منارات الشعوب إذا كانوا من عيار ديكارت الذي وصفه هيغل مرة قائلاً: «إنه البطل المقدام للفكر». كيف حصلت قصته مع الإلهام الصاعق؟ كيف عاش ديكارت تلك التجربة الحاسمة؟ تقول الأخبار ما يلي: كان أيضاً مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة المدفأة في عز الزمهرير. في تلك الليلة الليلاء من 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1619م كان ديكارت على موعد مع القدر. فقد رأى ثلاثة أحلام مرعبة هزَّته هزاً وكادت تودي بعقله. لقد أوصلته إلى حافة الجنون. وجعلته يستيقظ مذعوراً فيرتجف ويخرج عن طوره ويصبح مثل ريشةٍ في مهبِّ الرياح. ولكن الأمور بخواتيمها كما يُقال. فقد انجلت الأعاصير عن صحو رائع وتجلت الحقيقة لفيلسوف الفرنسيين ساطعة كقرن الشمس. لقد رآها وجهاً لوجه. لقد كحَّل عينه بمرآها. وعندئذ خرَّ راكعاً ساجداً وعرف أنه وصل. عندئذ عرف أنه أصبح مكلفاً بهداية البشرية الأوروبية على طريق الحقيقة. عندئذ أصبح ديكارت الضائع الهائم على وجهه في الطرقات والدروب ذلك الفيلسوف العظيم الذي نعرفه. يقول واصفاً تلك الفترة: «كنت كمن يتقدم وحيداً في بحر من الظلمات. كنت كمن يخبط خبط عشواء. كنت كمن يمشي على خيط رفيع جداً جداً ويكاد يسقط في الهاوية في أي لحظة». ولكن العناية الإلهية التي تحكم العالم وتُطلّ عليه من فوق أنقذته. هل تعرفون ماذا فعل عندئذ؟ لقد قرر الحج إلى مقام القديسة دو لوريت التي تجسد مريم العذراء في إيطاليا. نعم، نعم، ديكارت الفيلسوف العقلاني الشهير، بل أبو العقلانية، تحول إلى حاجٍّ عاديّ يزور مزارات القديسين والقديسات ويتبرَّك بها. صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، أنتم أحرار. وذلك لأنه لم يكد يصدق أنه نجا بجلده. ينبغي العلم أن تلك الهدية التي نزلت عليه في تلك الليلة الليلاء كانت بمثابة كنز الكنوز، كانت أكبر هدية يمكن أن يحلم بها أي مثقف على وجه الأرض. إنها الحقيقة الجوهرية التي لا تعطي نفسها إلا كل مئة أو مائتي سنة للعباقرة والعظماء. عندئذ قرر ديكارت الانقلاب على كل الأفكار التقليدية التراثية التي تلقَّاها عن طفولته وعائلته وكنيسته وشيوخه... إلخ. عندئذ قرر بناء المعرفة على أسس علمية صحيحة راسخة. وعندئذ قال عبارته الخطيرة، وربما أخطر عبارة في تاريخ الفلسفة: «ولذلك قررت أن أدمِّر كل أفكاري السابقة القائمة على النقل لا العقل». فما دامت الأفكار التراثية القروسطية مهيمنة على عقولنا فلا حل ولا خلاص. وقال أيضاً عبارة أخرى ذهبت مثلاً: «ينبغي أن نصبح أسياداً على الطبيعة ومالكين لها». وهذا ما تحقق لاحقاً من خلال سيطرة الغرب على العلم والتكنولوجيا وتحقيق تفوقه على العالم كله. والفضل في كل ذلك يعود إلى ديكارت. هو الذي أعطى المفتاح والمنهج.

وأخيراً نختتم هذا الحديث بكلمة عن جان جاك روسو. هو أيضاً عرف لحظة الإلهام الصاعق الذي يحصل فجأة فيزلزلك زلزلةً. هو أيضاً عرف لحظة الانفراج الكبير بعد طول احتقان. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح قائداً للعصور الحديثة. بمعنى أن نظرياته الفلسفية عن الدين والتربية والسياسة والأخلاق أصبحت إنجيلاً هادياً للشعوب الأوروبية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. كيف حصلت تلك اللحظة؟ وأين؟ كان سائراً على الطريق الفاصل بين باريس وضاحية «فانسين» الجميلة الشهيرة. وهي الضاحية التي عشت بالقرب منها أيام زمان، أو قُلْ كنت أطلّ عليها من بعيد، من الشباك. وفجأة تجيئه اللحظة، لحظة المخاض، فينبطح أرضاً. أحسّ كأن صاعقة قد ضربته فدارت الدنيا في عينيه وداخ قبل أن يسقط مغشياً عليه تحت شجرة. وعندما استفاق من غيبوبته التي استمرت نحو نصف ساعة تلمَّس جسمه فشعر بأن قميصه أو صدره مبلل كلياً بالماء. وعندئذ عرف أنه كان يسفح الدموع دون أن يدري. لقد وصل جان جاك روسو. لقد تجلت له الحقيقة عيناً بعين. ولكن هناك أشياء أخرى رآها بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والغيبوبة. رأى آلاف الأفكار والأنوار والأضواء تنهمر عليه من كل حدب وصوب. وعن تلك اللحظة الحاسمة نتجت كل كتبه اللاحقة التي حلَّت عقدة التاريخ ونوَّرت العالم. يقول بالحرف الواحد: «بدءاً من تلك اللحظة رأيت كونا آخر، وأصبحت رجلا آخر». وبدءاً من تلك اللحظة أصبح هذا الشخص المجهول النكرة ذلك النجم الأدبي والفلسفي الشهير الذي خلَّدته كتب التاريخ تحت اسم: جان جاك روسو. يقول فيكتور هيغو: «تلك التفاهات التي كنت أكتبها قبل ولادتي». المقصود قبل ولادته الثانية عندما أصبح عبقرياً. لكن على أثر هذا الاكتشاف الخارق ماذا حصل لجان جاك روسو؟ هل صفقوا له يا ترى؟ هل مجَّدوه؟ هل رحَّبوا به؟ العكس تماماً. لقد لاحقوه من مكان إلى مكان، لقد وضعوه على حد السكين، لقد أقضُّوا مضجعه. وتحققت تلك المقولة الشهيرة: لا نبيَّ في قومه. لم يغفروا له إصراره على قول الحقيقة الجارحة ضد الأغنياء والأقوياء في فرنسا الرجعية الأصولية الظلامية. كل الأصوليات الكاثوليكية والبروتستانتية كانت تمزق كتبه عن الدين المسيحي وتحرقها. لقد احمرَّت عليه الأعين عن جد وكادوا يفتكون به لولا عفو الله. لقد زعزعوه وأرعبوه وكفَّروه وأرهقوه بالملاحقات الضارية. لقد حوَّلوا حياته إلى جحيم. على هذا النحو دخل جان جاك روسو في معمعة لا أول لها ولا آخر. ولم يعد يعرف من أين تجيئه الضربات، ولا كيف تصطرع حوله الأجهزة والمخابرات.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 فبراير 2025 م ـ 03 شَعبان 1446 هـ

لا أدري متى ابتليتُ بلوثة الورق العتيق. أدور في أسواق العاديات وأتوقف عند الرسائل القديمة والمجلات التي اصفوفرت صفحاتها. من كان يصدِّق أن أقع في سوق البراغيث في باريس (هذا هو اسمه) على عدد من مجلة مسامرات الجيب؟ لم أجادل البائع حسبما تقتضي الشطارة في هذه الأماكن، بل اختطفت المجلة ومضيت إلى بيتي سعيدة بغنيمتي.

عمر العدد ثمانون عاماً. وريقاته بلون القمح الذي ضربته الشمس. أمرُّ عليها مرور النسيم لئلا تتفتت. أقلبها باحتراس كأنني أداعب خد حفيدي. أقع على مقال بعنوان «عوفيتْ ليلى ومرضَ الطبيب»، بتوقيع زكي مبارك. يا نهار أبيض! أليس هذا ما نسمعه في الأفلام المصرية؟

وأنا أعرف الدكتور مبارك منذ كنت في الثانوية. لم نلتق لأنه توفيَ وعمري عشرة أيام. سمعت عنه من تلميذته في دار المعلمين العالية في بغداد، معلمتي الشاعرة لميعة عباس عمارة. أديب رقيق درس في الأزهر ونال الدكتوراه في الأدب العربي من الجامعة المصرية. ودكتوراه ثانية من السوربون وثالثة من معهد اللغات الشرقية في باريس. كان لقبه بين الطلاب «الدكاترة زكي مبارك».

اختلف «الدكاترة» مع الدكتور طه حسين، فكرياً وترك الجامعة. عمل في الصحافة ثم سافر للتدريس في العراق. أحيط بالتقدير الذي يستحق وقلدوه وسام الرافدين. كان له كتاب بعنوان «ليلى المريضة في العراق». عاد إلى القاهرة وواصل نشاطه ثم ذات يوم، في أوائل 1952 سقط مغشياً عليه في شارع عماد الدين. بقي غائباً عن الوعي حتى وافته المنية (المصدر ويكيبيديا). ويحدث، بعد 20 عاماً، أن أتعرف على ابنه عبد السلام زكي مبارك، زميلنا الذي جاء للعمل في بغداد، أيضاً.

و«مسامرات الجيب» مجلة راقية. كتب فيها العقاد وطه حسين والمازني والصاوي ومندور ولطفي الخولي والسباعي. وأترك المساحة المتبقية لمقاطع من مقال الدكاترة زكي مبارك:

«يسألونني هل عوفيتْ ليلى؟ والجواب حاضر. عوفيت ليلى ومرضتُ أنا. والناس مختلفون في ليلى. هل هي شخصية حقيقية أم خيالية؟ وجوابي أنه لا يوجد دخان بغير نار. فمن الجائز أن أكون عرفت ليلى في العراق، ومن الجائز أن أكون ابتكرتها. ويصحُّ أن تكون ليلى المريضة في العراق هي ليلى المريضة في الزمالك، أو ليلى المريضة في مصر الجديدة. وحياتي كلها قامت على الغراميات. وأنا أشعر بالدفء حين أعشق. وهذا العشق جعل مني ملك الشعراء وسلطان العاشقين.

هل عوفيتْ ليلى حقاً ومرضتُ أنا؟ إن الأخبار التي عندي أنها لا تزال مريضة، وأنها تنتظر طبيبها، ولكن طبيبها العليل بسبب حبِّها لم يعد يقوى على الذهاب إلى بغداد، وهي بلد الحب وبلد الجمال. وطن ينوح فيه الحمام في كل وقت بسبب قسوة الجو. زارها الأستاذ علي الجارم وسأل عن شارع العباس بن الأحنف وفيه تقيم ليلى. ولم يهتدِ إليها لأن الشارع غير موجود».

***

إنعام كجه جي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 03 شَعبان 1446 هـ - 2 فبراير 2025 م

 

المفكر السنغالي أحد فلاسفة الأنوار في الإسلام المعاصر

ربما كان سليمان بشير ديان أهم مثقف سنغالي في هذا العصر. وهو على أي حال أحد فلاسفة الإسلام المعدودين حالياً. وهو من مواليد 1955 ويحتل الآن منصب أستاذ اللغة الفرنسية والفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد كان مستشاراً خاصاً للرئيس عبدو ضيوف لعدة سنوات متتالية. وبالتالي فهو شخصية وطنية وعالمية في آن معاً. وقد اشتهر منذ أن كان قد نشر كتابه الكبير عن الشاعر والفيلسوف الباكستاني الشهير محمد إقبال بعنوان: «الإسلام والمجتمع المنفتح: القدامة والتجديد في فكر محمد إقبال». كما اشتهر بكتابه الذي صدر لاحقاً تحت اسم: «كيف يمكن أن نتفلسف في أرض الإسلام؟»، وهو يرد على الغرب الذي يتهم الإسلام بالأصولية والتطرف بأنه مخطئ ومتحيز وظالم. فالإخلاص للإسلام والتمسك به لا يعنيان إطلاقاً التطرف، بشرط أن نفهمه بشكل متنور صحيح. وذلك لأن الغرب يجهل أنه يوجد مفهومان للإسلام وليس مفهوماً واحداً: الأول وسطي عقلاني متسامح، والآخر أصولي متشدد. وهذا التمييز الأساسي هو الذي يفصل بين مثقفي التطرف والتعصب من جهة، والمثقفين الحداثيين التنويريين من جهة أخرى. حسن البنا ليس الإمام محمد عبده، وسيد قطب ليس العقاد ولا طه حسين، والقرضاوي ليس محمد أركون. وهذان المفهومان أو التفسيران الكبيران للإسلام متصارعان الآن ومتنافسان في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. بل كانا متصارعين على مدار التاريخ. الغزالي ليس ابن سينا ولا ابن رشد، وابن تيمية ليس ابن عربي ولا الفارابي ولا المعري، إلخ. نضرب على ذلك مثلاً تفسير سورة الفاتحة وبخاصة المقطع التالي: «اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فالمتطرفون في الإسلام قديماً وحديثاً فهموا أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى أو المسيحيون. ولكنَّ هذا تفسير خاطئ تماماً لأشهر سورة في القرآن الكريم. فالمغضوب عليهم والضالون هم كل أولئك الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم: أي عن خط التقى والورع والاستقامة في الفكر والعمل والسلوك. وهؤلاء قد يكونون مسلمين أيضاً لأنه يوجد مسلمون أخيار ومسلمون أشرار، مثلما يوجد يهود أخيار ويهود أشرار، أو مسيحيون أخيار ومسيحيون أشرار. وبالتالي فالتفسير الانغلاقي الطائفي للإسلام خاطئ من أساسه، وهو الذي سيؤدي إلى فشل مشروع الإخوان والخمينيين وكل المتطرفين على الرغم من شعبيتهم في الشارع حتى الآن. وذلك لأنه مضاد لحركة وفلسفة التاريخ. إنه مضاد لروح الأزمنة الحديثة وجوهرها. بل مضاد لجوهر الإسلام نفسه إذا ما فهمناه على حقيقته. ولكن المشكلة هي أنه لا يزال مهيمناً على الشارع حتى الآن ويشكل تياراً جارفاً. انظر زمجرات المتطرفين في كل مكان. انظر تسجيلاتهم النارية الهيجانية المصوَّرة التي يبثّونها على شبكات التواصل الاجتماعي والتي يهددون بها حكوماتهم وبلدانهم. ينبغي العلم أن تراثنا من أعظم التراثات الدينية للبشرية. إنه يعلِّمنا قيم الحق والعدل والقسطاس المستقيم. إنه موجَّه لخير البشرية جمعاء وهدايتها وليس فقط لخيرنا نحن المسلمين. فمتى سنفهمه ونفهم سورة الفاتحة على حقيقتها؟ متى سنخرج من تفاسير العصور الوسطى وندخل في تفاسير العصور الحديثة؟

على هذا النحو نفهم الفرق بين المفهوم الانغلاقي الطائفي للدين، والمفهوم المستنير اللاطائفي للدين ذاته. بهذا المعنى نفهم أن المسلم الحقيقي هو ذلك الذي يُخلص لجوهر الإسلام وسماحته: أي للمعاملة الحسنة ومكارم الأخلاق والانفتاح على الآخرين وعدم تحقيرهم أو تكفيرهم أو ازدراء كرامتهم الإنسانية. وهذا ما نصحنا به الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عندما قال هذه العبارة البليغة: «لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقِّر جميع الخلائق ولا تحتقر مخلوقاً ما دام الله قد صنعه». وهو ما يقوله بشكل آخر الفيلسوف السنغالي المسلم المعتز كل الاعتزاز بإسلامه: البروفسور سليمان بشير ديان.

يرى هذا المفكر أن صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي. ولكن كثرة الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت باسمه في العقود الأخيرة شوَّهت صورته في شتى أنحاء العالم. ولهذا السبب لم يعد يتجرأ أحد على الربط بين الإسلام والفلسفة، أو بين الإسلام والعقلانية، أو بين الإسلام والتسامح، أو بين الإسلام وحقوق الإنسان. لقد حوَّل المتطرفون الإسلام إلى بعبع مخيف يُرعب البشرية كلها، في حين أنه جاء رحمةً للعالمين. لهذا السبب فشل المشروع الأصولي الإخواني - الخميني، ليس لأن الغرب ضده أو العالم كله ضده... إلخ، وإنما فشل لأنه ضد حركة التاريخ. نقطة على السطر.

ثم يضيف هذا المفكر المرموق قائلاً ما معناه: لقد كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة. وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما كانت تخص أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي. كلها كانت لها مشكلات مع الفلسفة. كلها كانت تَعدّ الفلسفة مجرد خادمة ذليلة لعلم اللاهوت الديني. ولكن الفرق هو أن اليهود والمسيحيين في أوروبا تطوروا وغيَّروا نظرتهم بعد عصر التنوير الكبير في حين أن المسلمين ظلوا منغلقين داخل مفاهيم العصور الوسطى التي عفى عليها الزمن. هنا تكمن المشكلة الحقيقية. المسلمون لم يمروا حتى الآن بمرحلة الغربلة التنويرية الكبرى لتراثهم العظيم. ولكنهم أصبحوا على أبوابها!

على أي حال لم يكن من السهل على هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة التي أُقيم لها صرح شامخ في أبوظبي أن تستقبل الفلسفة الإغريقية، لسبب بسيط؛ هو أنها كانت تعد بمثابة فلسفة وثنية كافرة. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة الإغريقية تقدم نفسها على أنها حكمة بشرية وليست وحياً إلهياً نازلاً من السماء. وعلماء الإسلام والمسيحية واليهودية كانوا يتساءلون: هل يمكن أن يوجد فكر بشري يستحق الاعتبار والاحترام؟ ما قيمته بالقياس إلى الوحي الإلهي السماوي الذي نمتلكه والذي يُغنينا عن كل شيء؟ ما قيمة كلام أفلاطون وأرسطو وأبيقور بالقياس إلى كلام التوراة والإنجيل والقرآن؟ الجواب تجدونه عند ابن رشد المسلم، وعند توما الأكويني المسيحي، وعند موسى بن ميمون اليهودي العربي. قلتُ «العربي» لأنه ألَّف رائعته الفلسفية «دلالة الحائرين» باللغة العربية. وكل من أبدع بالعربية فهو عربي ثقافةً وحضارةً. كلهم أخذوا على محمل الجد نصوص الفلسفة وصالحوا بطريقة أو بأخرى بين الوحي الإلهي والفلسفة اليونانية. كلهم صالحوا بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل. وهذا هو المعنى الحرفيّ لعنوان كتاب ابن رشد الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة... وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي

ولكن هنا يطرح اعتراضٌ وجيه نفسَه: إذا كان الانفتاح على الفلسفة لم يعد يمثل أي مشكلة بالنسبة إلى اليهود أو المسيحيين الأوروبيين، فلماذا لا يزال يمثل مشكلة حقيقية وعرقلة كبرى بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين؟ الجواب هو التالي: لسبب بسيط؛ هو أن التنوير نجح في أوروبا ولم ينجح حتى الآن في العالم العربي أو الإسلامي. هنا تكمن المعضلة الحقيقية والعقبة الكأداء. نقول ذلك ونحن نعلم أن الفلسفة لا تشكِّل أي خطر على الدين. الفلسفة تُكمل الدين والدين يُكمل الفلسفة، كما قال كانط. حيث تنتهي حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان. الفلسفة تساعدنا على فهم جوهر الدين. إنها لا تشكل خطراً إلا على الفهم الظلامي والتكفيري للدين. أما الفهم المستنير المتسامح فلا خوف عليه ولا هو يحزن. كبار فلاسفة التنوير الأوروبي كانوا مؤمنين.

ثم يقول لنا هذا الفيلسوف السنغالي المسلم ما معناه: تكفير الفلسفة قديم جداً في تاريخنا، وهو يعود إلى الإمام الغزالي. وهو شخصية دينية كبرى بل يعدّ حجة الإسلام وبحق لأنه كان عالماً كبيراً متبحراً في الدين بل في الفلسفة أيضاً! على الرغم من ذلك فقد اتهم الفلاسفة بالهرطقة والزندقة والخروج عن ملة الإسلام. ولكنه في الوقت نفسه كان يتبع منهجهم الدقيق في الدراسة والبحث الذي هو مسار فلسفي أيضاً. كان يقلِّد ابن سينا ويستفيد منه ومن أفكاره كثيراً ثم بعد كل ذلك يكفّره! انظروا بهذا الصدد الكتاب القيم للباحث الجزائري البارز الدكتور عمر مرزوق: «ابن سينا أو إسلام الأنوار». أكملت قراءته للمرة الثانية مؤخراً دون أن أشبع منه. هنا يكمن وجه الغرابة والتناقض في شخصية عظيمة وإشكالية كبرى مثل شخصية الإمام الغزالي. مشكلته أنه غاص في التصوف والغيبيات أكثر مما ينبغي، ونسي الحقائق المحسوسة والماديات وقوانين الطبيعة. بل عطَّل قانون السببية الذي من دونه لا عقل ولا عقلانية. بدءاً من تلك اللحظة دخل العالم الإسلامي في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن.

أخيراً، وبه نختم: إذا كان كبار فقهاء العصور الوسطى، بل حتى ابن خلدون، قد أدانوا الفلسفة اليونانية سابقاً فما بالك بالفلسفة الأوروبية الحديثة التي تجاوزت الفلسفة اليونانية بسنوات ضوئية؟ إذا كانوا قد أدانوا أفلاطون وأرسطو، فما بالك بديكارت وسبينوزا ولايبنتز وفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وبرغسون وبول ريكور وهابرماس... إلخ؟ تفاوُت تاريخي أو هوة سحيقة يستحيل ردمها في المدى المنظور.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:29 يناير 2025 م ـ 29 رَجب 1446 هـ

 

كنت طرحت مقولة استنبطتها من السلوك الفكري في التمييز بين عقل الرجل وعقل المرأة، وهي (أن تكون المرأة شاعرةً فهذا أهون على الفحولة من أن تكون منظّرة وناقدة وصاحبة رأي وفكر)، وهذه مسألةٌ تعود لنسقيةٍ ثقافية تعتمد مقولة (العقل رجلٌ والعاطفة امرأة)، وهي مقولة ليست جائرة فحسب، بل هي خاطئة كذلك، وليس هذا مقام تبيان عوار هذه المقولة، ولكن فيما يخص المرأة المنظرة والمرأة الشاعرة، فقد جرى ثقافياً قمع الخطاب الشعري للمرأة وتقييده بشروط ضد البوح والإفصاح عن المشاعر، في حين يبوح الشاعر كيفما يشاء دون خجل ولا تردد، وقد جرى تقبل شاعرية المرأة من حيث المبدأ منذ الخنساء وما بعد، ولكن سنرى فيما يخص النظرية، فالمرأة الفيلسوفة عند اليونان تمت إزاحتها من ذاكرة المتن الثقافي، وبقيت اسماً ورقماً دون أن يسند إليها ما يكشف عن خطاب فلسفي ناتج عنها، رغم ترداد الأسماء في متون الكتب والمرويات، مما يؤكد وجود الفيلسوفات، لكن الفلاسفة الفحول هم المتصدرون للنظريات وهم صنّاع التحولات، وهذه سيرةٌ عامةٌ في الثقافات القديمة كلها، على أن مقولتي هذه جاءت في سياق الكلام عن نازك الملائكة، حيث حضرت في مبحث الريادة للشعر الحر (شعر التفعيلة)، وتساوى الحديث عنها مع الحديث عن السياب مع الجدل عن الأسبق منهما، وهو جدل في حدود الرصد التاريخي، ولكن الجدل الذي ليس علمياً ولا منهجياً هو الجدل حول نظرياتها، التي ساقتها في كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، حيث لم يقتصر الجدل عن الخلاف مع مقولاتها وهذا حق ومنهجية، ولكن شابته لغة ساخرة ومتعالية عليها لجراءتها في ابتكار قواعد لتقعيد ما كان يسمى حينذاك بالشعر الحر، وتصديها لنقد الشعراء واستخداماتهم العروضية وتجاوزاتهم، التي مالت نازك لتقييدها، وهذا موقف لا أتفق معها فيه، لكني احترمت عقلها وجهدها وقدرت اجتهادها، على عكس ما جرى من نقاد عرب كثر تهجموا عليها بلغة استعلائية وإقصائية، مما جعلني أقول مقولتي تلك، وهي ملمح من نقدي للأنساق الثقافية، وهو مشروع واسع تصديت له في خمسة كتب، أولها (المرأة واللغة)، ثم ثقافة الوهم، وآخرها (الجنوسة النسقية).

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 يناير 2025 00:58

قد يرى البعض أن الاهتمام بالنظر الفلسفي الأخلاقي القديم بالقياس إلى ما يعرفه هذا النّظر اليوم من مذاهب كثيرة، هو فضل أو جهل أو شرارة، فما الذي يمكن أن يقدّمه أرسطو لنا، بكتبه الأخلاقية على الأقل، في عصر قد يزعم بعضهم، أنّه قد جبَّ ما قبله من قول في الأخلاق؟

اهتم أرسطو بالأخلاق، وكتب فيها كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، وكتاب الأخلاق إلى أوديموس، وكتاب الأخلاق الكبرى، رغم ما يقال من شك في نسبة بعض منها إلى أرسطو.

وكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، الذي يهمنا ها هنا، هو عشر مقالات في الفضائل المحمودة: النظرية والخلقية والعقلية: الخير، الحكمة، السعادة، الشجاعة، العفة، السخاء، الكرم، الحلم، الرقة، الحياء، الإنصاف، العدل، العلم، التعقل، الروية الجيدة، الذكاء والحكم، والمحبة، والصداقة، وأهمية حياة النّظر والتّأمل.

يعالج هذا الكتاب موضوع الطّبع والإلف والعادة، وهما المعنيان اللذان يُفهمان من الجذر اليوناني لكلمة «إتيقا»، éthos بمعنى الطبع، وéthos بمعنى الإلف والعادة، والفعل الأخلاقي لا يفهم إلا من خلالهما، إذ هو يتحدد في دراسة تشكّل الطبع، من أجل الخير الأعظم الذي يسعى إليه الناس بأفعالهم، ويتواضعون عليه، وهو السّعادة. والمسألة كلها تنصب على الفضائل التي يجب على الإنسان أن يمتلكها، وأن يمكّن منها الأطفال للوصول إلى السّعادة الفردية وكذا سعادة المدينة. لأن السعادتين معاً، سعادة الفرد وسعادة المدينة لا تنفصلان.

لا يمكن فصل الفرد عن مدينته، عند أرسطو، فكمال الفرد لا يتحقق له إلا في المدينة اجتماعياً وسياسياً. إن الفرد يعيش داخل ثقافة معينة، وكل ثقافة تسعى إلى تكوين مواطنيها وفق نموذج معين، على نمط السعادة، الفردية والجماعية التي تتمثَّلها. إن الهدف هو حياة سعيدة، وهي الحياة الناجحة، لكن كيف نعيش حياة سعيدة؟

يميّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الحيوات: أولاً، حياة الفكر والتأمل، ثانياً: حياة المتعة، وأخيراً، حياة الأفعال الجميلة المنبثقة من الفضيلة، أي من الجودة. ومن خلال تحليل هذه الضروب الثلاثة من الحياة ينتصر أرسطو لحياة التأمل، دون غمطه حق الحياتين الأخريين. فالحياة الفكرية أفضل عنده، وممّا يرجح أفضلية حياة التأمل أن الإنسان ليس أفضل ما في الوجود، وأن دراسته لما هو أفضل منه يجعل منه إنساناً أفضل. لذا يدعو أرسطو إلى الاستغراق في حياة التأمل، لكن هذا الاستغراق لا يحول دونه والأخذ بأسباب السّعادة الأخرى المعروفة بالخيرات المادية، من صحة جيدة، وجمال، وحظوظ، ومن صداقة.

إن الفضائل لا توجد للإنسان بالطبع، بل هي مرتبطة بتعوّد الإنسان عليها، ولذا فإن تعويد الإنسان منذ طفولته على أفعال الخير هو ملاك الأمر كله في المدينة. وهدف كتاب الأخلاق هو بيان شروط تحقيق الحياة السعيدة، ومن خلال تكوين أفضل للطّبع نصل إلى تحقيق ذلك.

ويمكن تلخيص النظرية الأخلاقية لأرسطو في عدة جوانب أساسية: الفضيلة وسط ذهبي، والفضيلة مكتسبة، والفضيلة لها سبب بالعقل، والفضيلة ممارسة اجتماعية، والفضيلة تحقيق للغرض الأسمى السعادة.

وأخيراً، إن كتاب الأخلاق لأرسطو خزَّانٌ من الفضائل النظرية والأخلاقية والفكرية التي لاتني العصور الفكرية تغترف منها على الدّوام، ومن هنا فإن العناية بهذا الكتاب ضرورة فلسفية وأخلاقية لفهم كيف تشكّل الخطاب الأخلاقي على المجرى الصناعي من جهة، وكذا التّعلم من طرائقه التربوية ومضامينه الأخلاقية، و«كتاب الأخلاق لنيقوماخوس» هو صِنْوٌ لكتاب الخطابة الذي سنتحدث عنه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يناير 2025

أقرت منظمة «اليونسكو» مؤخراً تسجيل «مقدمة» ابن خلدون ضمن مدونة التراث الإنساني الكوني، تتويجاً لجهد قطاع واسع من المثقفين والمفكرين العرب تبنَّوا هذه الفكرة منذ أمد طويل. ورغم مرور سبعة قرون على صدور هذا الكتاب الاستثنائي، فإنه ما يزال يستثير اهتماماً واسعاً في الثقافة العربية، رأى البعض أنه العمل التأسيسي لعلم الاجتماع قبل العصور الحديثة، وهو رأي لا يمكن الركون إليه لأسباب إبستمولوجية وتاريخية ليس هنا مجال التعرض لها، في حين اعتبر المؤرخ الفرنسي إيف لاكوست أنه كان سبّاقاً إلى بلورة نظرية المادية التاريخية التي اعتمدها ماركس بعد خمسة قرون، وخصص له مفكرون معاصرون بارزون أعمالاً مهمة؛ من ساطع الحصري وطه حسين إلى محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعلي أومليل.. إلخ.

والحقيقة أن أهمية ابن خلدون تكمن في كونه قدّم نظريةً متكاملة ودقيقة حول طبيعة الدولة العربية الإسلامية الوسيطة، التي عايش انهيارها بعد تجارب شخصية يائسة في شمال أفريقيا والأندلس، قبل رحلته الأخيرة إلى القاهرة حيث توفي فقيهاً وقاضياً بعيداً عن السياسة.

لن نعالج السؤال الذي طرحه كثير من الباحثين حول علاقة «المقدمة» بكتاب «العبر» الذي هو موسوعة ابن خلدون الشاملة في التاريخ، إذ اعتبر البعض أن هذا المنهج الفلسفي الذي اكتشف ابن خلدون لم يطبقه في كتابته التاريخية، بما يعزز الشكَّ في علاقة كتاب المقدمة بالسرد التاريخي لابن خلدون الذي لا يختلف في شيء عن كتابات مَن سبقه من المؤرخين العرب.

كما أن البعض طرح إشكال المنظور القيمي العقدي في منهج ابن خلدون الذي لم يستند في كتابه لأدلة من النصوص الشرعية، بل بنى علمه حول العمران البشري على محددات وضعية واقعية. لقد اهتم العديد من علماء الإثنوغرافيا الأوروبيين بنظرية ابن خلدون في العصبية والدولة، وذهب بعضهم إلى أنها ما تزال صالحة في تفسير أحوال الاجتماع السياسي العربي المعاصر، حيث تلعب البداوة والقبيلة دوراً أساسياً في البناء السياسي والاجتماعي، رغم أن ابن خلدون لم يفكر مطلقاً في شكل الدولة السيادية المدنية الحديثة التي هي الشكل التاريخي الكوني للنظام السياسي الحالي.

ما نريد أن نبيّنه هنا هو أن نظرية ابن خلدون يمكن أن تُقرأ في مستويين: أولهما النسق السياسي العربي الوسيط، بتفسيره تشكل وتطور وانهيار الدولة، وثانيهما إشكالية السلطة والعنف والمال التي هي إشكالية فلسفية ثابتة منذ أفلاطون وأرسطو وإلى اليوم. وبخصوص المستوى الأول، لا بد من التنبيه إلى أن أهمية نظرية ابن خلدون السياسية لا تكمن في إبرازه دور العصبية في البناء السياسي المنظم في العصور الإسلامية الوسيطة، بل الأمر على عكس ذلك، إذ يتمثل غرضه في البرهنة على أن الدولة تقتضي تجاوز تناقضات العصبية وضيق البداوة من خلال وضع منظومة متماسكة تكفل السلم الأهلي والفاعلية الإنتاجية (العمران الحضري بلغة ابن خلدون).

إلا أن الدولة لا تقوم إلا على العنف الرادع، الذي اعتبر ابن خلدون أنه لا بد أن يكون مصدره خارجياً (المجموعات البدوية المتوحشة)، بما يمكن تصوره على غرار مقولة احتكار الدولة للعنف لا على أساس الموقع السيادي الحديث (الدولة كفكرة متعالية على المؤسسات الاجتماعية)، وإنما على أساس الحماية الخارجية للمنظومة المدنية القائمة على الخضوع التام للدولة من حيث هي القوة الدافعة للإنتاج والإبداع والرفاهية.

ومن المنظور الثاني، يتعين التنبيه إلى أن أطروحة ابن خلدون الفلسفية تتمثل في كونه درس العلاقة العضوية بين السياسة والاقتصاد والأمن، ليس من زاوية النظرية الليبرالية الحديثة التي أكدت منذ أدبيات آدم سميث أهمية التجارة والمصالح النفعية التبادلية في بناء مجتمع مدني نشط يكون القاعدة الصلبة للحالة السياسية المنظمة. ما يميز ابن خلدون هو التنبيه إلى أن السياسة لا يمكن أن تتخلص من العنف، وإلى أنها المسلك الضروري للنشاط الاقتصادي المنتج والفعال، على عكس الرؤية التي ترى أن الاقتصاد في أبعاده القانونية يمكن أن يعوض الفعل السياسي كما هو اعتقاد مفكري العقد الاجتماعي المحدثين.

ليس من همنا كتابة تصور جديد حول نظرية ابن خلدون في الدولة والعصبية والتاريخ، وإنما كان غرضنا منحصراً في إبراز أهمية هذه النظرية في سياقها الكوني، وإن كانت قد انطلقت من اعتبارات تاريخية خاصة بالمجتمعات العربية الإسلامية الوسيطة. ولعل هذا المنحى هو ما يبرر، وفق رأينا، قرارَ اليونسكو الصائب حول تسجيل مقدمة ابن خلدون ضِمن مدونة التراث الإنساني العالمي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 يناير 2025 23:28

 

"نعود مرة أخرى للسؤال الذى طرحناه فى مقال سابق: كيف نتجاوز أساليب النقاش القديمة، ونفتح فضاء معرفيا جديدا؛ للتعاون بين الدين والعلم والفلسفة؛ من أجل خدمة قضايا الإنسانية؟

فى البداية، يجب أن نعيد التنبيه مجددا أن الدين هو الوحى المكتوب، بينما الطبيعة هى وحى الله المرئي، القرآن هو «الكلام»المقدس، والطبيعة هى «أعمال» الله.

ولذلك فالدين هو إيمانى الذى أراهن عليه، ويعطى معنى لحياتي، بينما العلم هو الذى يكتشف الطبيعة (أعمال الله تعالى) يوما بعد يوم، ودوما ما يمنحنى اليقين بأن الطبيعة وراءها مصمم حكيم، أما الفلسفة فتفتح أمامى زوايا كبرى للنظر، وأفقا واسعا لإعمال العقل النقدي، وجعله عصيا على تقبل الأساطير والخداع المعرفى الذى يقوم به بعض الكهنة. ومن هذا المنظور،  يمكن أن يشكل الدين والعلم والفلسفة معًا مشروعًا معرفيًا متكاملًا، شرط أن يُبنى هذا التفاعل على مبادئ فلسفية جديدة تتخطى أنماط الجدل العقيم وتؤسس لتكامل حقيقي. وهذه المبادئ متعددة، سوف نتناولها تباعاً إن شاء الله تعالى.

ونذكر أول هذه المبادئ فى هذا المقال:

1- الاعتراف بالاختلاف البنيوى واحترامه: فى الماضي، كان الصراع بين بعض رجال  الدين والعلم، أشبه برياح تعصف بسفينة المعرفة، وتضع العقبات أمام التطور العلمي. وربما كان من أسباب ذلك، غياب الاعتراف بالاختلاف البنيوى بينهما، ورغبة أطراف من الفريقين فى الهيمنة على العقل البشرى وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. وكان أحد أعمق إشكاليات النقاش، بين الدين والعلم، هو سعى بعض رجال الدين إلى التوحيد القسرى بين منظومتين معرفيتين مختلفتين فى منهجيتهما. وكما سبق أن ذكرنا، فإن الدين يتأسس على الإيمان بالوحى والرؤية الكلية والقيم (الحق والخير والجمال) التى تمنح الوجود معناه، بينما ينطلق العلم من المنهج التجريبى والرياضي؛ بحثًا عن القوانين التى تحكم الظواهر الطبيعية. ولا ينبغى أن ننظر إلى هذا التمايز البنيوى بوصفه تناقضًا، بل يجب أن نعده تكاملًا يُثرى المعرفة الإنسانية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن العلاقة بين الدين والعلم، تتميز بتباينات عميقة، تنبع من اختلاف أهدافهما ومنهجيتهما؛ حيث يمثل كل منهما منهجية مختلفة لفهم العالم والوجود.

وتُعد أركان الإيمان بما بعد الطبيعة، حقائق كبرى فى مجملها، مما يمنح الدين طابعًا كليا وأزليًا يتجاوز حدود الملاحظة والتجريب. فى المقابل، يهدف العلم إلى دراسة العالم المادي، وفهم الظواهر الطبيعية، من خلال البحث المنهجى القائم على الملاحظة والتجريب والاستنباط الرياضي، وهو ما يجعل نتائجه قابلة للتطوير والتعديل مع ظهور أدلة جديدة، مما يمنحه طابعًا ديناميكيًا ومتغيرًا.

كما أن منهجية الدين تعتمد بشكل أساسى على الوحى والإيمان والتسليم؛ حيث تُعد النصوص المقدسة المصدر الأول للمعرفة بما بعد الطبيعة، والإيمان بها لا يتطلب بالضرورة أدلة مادية مباشرة، بل يقوم على قناعة داخلية راسخة بصدق النصوص ومصدرها الإلهي. ومع ذلك، فإن العديد من الأديان، خاصة تلك التى تمتلك تقاليد فلسفية غنية كالإسلام والمسيحية واليهودية، تدعو إلى استخدام العقل كوسيلة لفهم النصوص وإدراك حكمة الخالق. وفى الإسلام، على سبيل المثال، هناك نصوص كثيرة تحث على التفكير فى الكون والتدبر فى خلق الله، إلا أن العقل فى هذا السياق يعمل ضمن إطار إيمانى موجه، حيث يُستخدم لتعزيز الإيمان وليس لتحديه أو تجاوزه. هذا فى الأغلب الأعم، لكن هناك من يتخذ العقل منهجا لاستنباط عقائد الإيمان ويؤسس إيمانه على استدلالات عقلية وربما أدلة مادية غير مباشرة، مثل التصميم البديع للكون كمؤشر على وجود الله وعظمته سبحانه، فنحن لا نرى الله لكن نرى آثار قدرته جل وعلا. ومن هذا الفريق الأخير، من يعتبر أن الوعى بالإيمان متطور بتطور السقف المعرفى للإنسان، وأن مسألة الإيمان يمكن المزاوجة فيها بين العقل والحدْس، وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء.

فى المقابل، يعتمد العلم على منهجية تجريبية رياضية صارمة، تقوم على «الشك المنهجي»، كعنصر أساسى لتحفيز البحث والتحليل والاستدلال. ويبدأ البحث العلمى بصياغة فرضيات قابلة للاختبار، ثم تُجرى التجارب، لجمع البيانات وتحليلها، بغرض التحقق من صحة هذه الفرضيات. ويتميز العلم بخطواته المنهجية التى تشمل تحديد المشكلة، وصياغة الفرضيات، وإجراء التجارب، والاستنباطات الرياضية، ومراجعة النتائج، وتكرار العملية لضمان صحة النتائج ودقتها. وبعكس الدين، لا يعد العلم أى نظرية مقدسة أو مطلقة، بل يُنظر إليها دائمًا، على أنها مؤقتة، وقابلة للتطوير، أو حتى التغيير الكامل، إذا ظهرت أدلة جديدة. وهذا ما يجعل العلم قادرًا على التكيف مع المتغيرات، والاستجابة لاكتشافات جديدة، بينما يميل الدين إلى الحفاظ على التقاليد والتعاليم.

ويظهر الفرق بين المنهجيتين بوضوح، فى تعاملهما مع الشك، وطبيعة المعرفة التى يقدمانها. ففى الدين، غالبًا ما يُنظر إلى «الشك» على أنه عقبة يجب تجاوزها إلى الإيمان؛ حيث يُعد»الإيمان» قوة أساسية لفهم القضايا الروحية والغايات الكبرى للحياة. بينما فى العلم، «الشك» هو المحرك الرئيسى للتقدم؛ حيث يدفع العلماء إلى اختبار الفرضيات، وإعادة تقييم النتائج، باستمرار. وتُعد العقائد الدينية نهائية، فهى تقدم إجابات مطلقة حول القضايا الغائية الكبرى، بينما تُعد المعرفة العلمية مؤقتة وتخضع دائمًا للمراجعة والتطوير. والسؤال الفلسفى هنا: هل على الرغم من هذه الاختلافات البنيوية، يمكن أن يحدث تكامل بين الدين والعلم يقوم على الاعتراف بالاختلاف المنهجى واحترامه؟ وما إجابة القرآن الكريم على هذه الإشكالية؟ وهل إجابة القرآن الكريم قد تكون مثيرة ومبهجة؟ موعدنا المقال القادم إن شاء الله تعالى".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 12 يناير 2025:

لو تأملنا في موضوع الضحك أو النكتة، أو الفيديوهات الحيويّة التي تصلنا، لوجدنا أنها تضج بالحياة وبالشيفرات المركزة، معظم المثقفين يتجهّمون تجاه الحياة الضاحكة، ويزدحمون بالمؤتمرات والندوات. وإذا أردنا فحص موقع النكتة من الثقافة، فإنها تلتقي بشكلٍ فلسفي مع مواضيع الجمال وهي جزء من «نظرية الضحك».

وأحسب أن من لا يرى كل يومٍ مشاهد ضاحكة، فإن في حيويته الدنيوية الكثير من الخلل. إن النكتة دائماً مكثّفة بموضوع أساسي ولكنه ضمن سياقٍ ضاحك، إن النكتة هي حمولة مصغّرة من توصيف الوقائع. الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشبنهور، وبرغسون، ونيتشه، وغيرهم لهم إسهامات في إيضاح نظرية الضحك.

ربما جاء الحديث عن نظرية الضحك عرضاً كما هي الحال لدى كانط في كتابه «نقد ملَكة الحُكم»، أو حتى لدى أفلاطون، أو شبنهور، ومن قبلهم أرسطو، إذ تجيء كاستطراد داخل نظريات تتعلق بالجمال.

أما برغسون فقد ألّف كتابه «الضحك» بحثاً في دلالتها وترجمه: سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم بطريقةٍ متميزة.

بينما كيركغارد دوّن أكثر من كتاب، وعبد الفتاح إمام استعاد بحثاً بعنوان «مفهوم التهكم عند كيركغارد».

بينما شاكر عبد الحميد طرح كتابه النفيس «الفكاهة والضحك - رؤية جديدة»، وأستعيد بعض مقولاته هنا. يقول في فصل «فلاسفة الضحك»: «هناك ارتباط ما بين الفلسفة العامة للفيلسوف وبين أفكاره الخاصة بعلم الجمال (الاستطيقا) وبين أفكاره المتعلقة بالضحك، فالضحك وثيق الصلة بالإبداع والفن».

برونو يكتب أن ثمة رابطة بين البكاء والسرور. إذ يقول: «إن أشكال الضحك تأتي ممزوجة بدرجة ما من الحزن والبكاء، وإن كل بكاءٍ إنما يخفي خلفه درجة من المتعة والسرور».

بينما شبنهور رأى أن الضحك «ينشأ نتيجة افتقار للتجانس أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل أو تمثيل معرفي معين يقوم على أساس الإدراك، أي إن الضحك ببساطة هو محصّلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصوّر العقلي العام والمدرك الحسي الخاص»، و«إن سبب الضحك هو ببساطة ذلك الإدراك المفاجئ للتناقض بين تصورٍ معين، وبين المواضيع الواقعية المحددة التي تم الاعتقاد من قبل بوجود علاقة معينة بينها وبين هذا التصور».

تحدث كيركغارد عن أن التهكّم عامةً: «يحرر من أعباء الواقع المعاش والواقع الامبريقي (التجريبي) العملي، ولكن هذه الحرية تظل حرية من النوع السلبي نسبياً، لكن التهكّم له جانبه الإيجابي أيضاً الذي يقوم على أساس الاستمتاع الذي يتمثل في أن التهكم يوفر لصاحبه شكلاً من أشكال الاكتفاء بالذات، أو نوعاً من الغلوّ بالثقة في النفس».

الخلاصة؛ أن النكتة بقدر ما هي فعل علوّ من أعباء الواقع، وبقدر ما هي نقد شديد أو حيوية اجتماعية رمزية، فإنها التعبير الأكثر صدحاً والأكثر غموضاً. ثمة حالة تواطؤ اجتماعي على الضحك من مفارقة معينة تجاه صورة أو لفظة معينة. النكتة تتكثّف مع الوقائع الصاعدة، وهذا موجود عبر التاريخ وهي تبويب اجتماعي للتعبير عن رأي في واقعة معينة، ولذلك أخذها علماء الاجتماع بعين الاعتبار والتحليل والتدقيق.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 17 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م

 

طرح سؤال منذ عصر النهضة العربية هو: لماذا تقدم الآخر، وتأخر المسلمون؟ وهذا السؤال ما يزال مطروحا إلى الآن، وإن اتخذ صيغا متعددة، وكأنه قدر أزلي. إننا عندما نطرح السؤال الخاطئ، لن نظفر إلا بالجواب الخاطئ. لقد اتخذ سؤال: لماذا تأخرنا؟ صيغة مقارنة حاضر العرب بحاضر الغرب في الواقع الحالي، في الوقت الذي طرح فيه.

إن الصيغة التي طرح بها السؤال أدى إلى اعتبار التأخر متصلا بالماضي كله. وكان التعبير الذائع وصفا لواقع التأخر، هنا والآن، تحت مسمى «التأخر التاريخي» الذي ظل يردده الجميع. ويبدو لي أن هذا التوصيف يحمل مغالطة أبستيمولوجية، لأنه يسقط الحاضر على الماضي، وهو يحاول من خلال ذلك وصف «التأخر الواقعي» في الحال. وهذه المغالطة، هي بدورها وليدة مغالطة أبستيمولوجية أخرى جاءت عن طريق زعم كون التقدم الحضاري جاء مرتبطا بالعصر الحديث في الغرب، الذي ساهم في تشكيله.

إن هذا التوصيف وليد التصور الذي أسسه الغرب عن تاريخه الخاص، والذي أسقطه على تاريخ البشرية برمتها، وما التحقيب الغربي للتاريخ حسب الماركسية والوضعية وغيرهما سوى دليل على ذلك. فالنهضة الأوروبية في القرن السادس عشر بداية تاريخ جديد للبشرية بدأ فيه يتحقق التقدم. أما الحقب السابقة فليست سوى عصور التأخر (العصور الوسطى)، وبهذا أعطى الغرب لنفسه المكانة الفضلى في التاريخ، الذي بواسطتها يعطي لنفسه الحق في محاكمة التواريخ، والحكم على الشعوب الأخرى، وتبرير هيمنته عليها لنقلها من الهمجية إلى الحضارة.

شاركت في مؤتمر في موسكو السوفييتية حول السرد العربي في العصور الوسطى، وحاججت المستشرق كَوديلين حول العصر الوسيط، وقلت له إن كان هذا العصر في أوروبا عصر تأخر وظلام، فقد كان في الإسلام عصر تقدم حضاري وازدهار علمي وثقافي، ولا يمكننا إسقاط تطور تاريخ أوروبا على التاريخ الإنساني. فما كان منه سوى الاستغراب، والتعبير عن عدم الرضى.

اتخذ المثقف العربي هاتين المغالطتين أساسا لطرح مسألة التأخر والتقدم. واستوى في ذلك التقليديون والمحدثون لأن السؤال ـ المغالطة الذي طرح كان مشتركا بينهما، فذهب التقليديون إلى أن سبب التأخر يكمن في الابتعاد عن عصر النبوة والخلافة الراشدية (السلفية)، ورآه المحدثون ذلك في عدم الاستفادة من التقدم الغربي (الليبرالية). إنها الثنائية التي ما تزال محور الصراع والتجاذب بين الطرفين، والتي لا تُولّد أيا منهما سوى التبعية أو الدفاع عن التاريخ أو للغرب الحديث.

لماذا اعتبرت سؤال النهضة العربية مغلوطا وخاطئا؟ جوابي باختصار هو أن سؤال: «لماذا؟» لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التأويلات المبنية على المواقف الجاهزة، والمسبقة. وما هو مسبق وجاهز يتمثل في النظر إلى الغرب الحديث والتاريخ الإسلامي على أن كلا منهما هو النموذج الذي علينا الانطلاق منه لمواكبة التقدم، وتجاوز التأخر التاريخي. ماذا لو انطلق المثقفون العرب من سؤال مختلف عما طرح إبان الاصطدام بالغرب، الذي أدى بهم إلى المقارنة بين الذات والآخر، وعدم التركيز فقط على الذات؟ وما هو السؤال الذي كان يفترض طرحه، ولم يطرح لأسباب عديدة؟ إنه السؤال المتعلق بـ: متى تأخرنا؟ ومتى تقدم الآخر؟ إنه السؤال المتعلق بالزمن، وليس بلماذية الأشياء. ويفترض سؤال الزمن البحث والاستكشاف والقلق، لأنه ليس السؤال المؤدي إلى التأويل الجاهز والمُطمْئِن، والمبني على قناعات واصطفافات أيديولوجية.

إن سؤال لماذا يؤدي إلى رد الفعل. ورد الفعل يؤدي إلى التناقض والتجاذب الذي يفرض على الطرفين عدم التنازل، أو المساومة عما يعتقده أي طرف، والحجج الدامغة لدى الطرفين، والمادة المستدعاة للسجال لا حد لها، وهي قابلة للتجدد، والتطور مع الزمن. وهذا ما نراه إلى يوم الناس هذا، وبشكل أكثر تعقيدا مما مضى، أما سؤال الزمن فيشترط المعرفة المتأنية والدقيقة التي تؤدي إلى انتهاج مسارات مختلفة لما مورس، لأنه يدفع إلى البحث عن أسباب التقدم أو التأخر.

لا يقاس تطور الأمم والشعوب فقط بتاريخها السياسي والاقتصادي، ولكن أيضا وأساسا بتاريخها الثقافي، لا يخلو تاريخ أمة من الأمم التي لعبت دورا في التاريخ من الصراع على السلطة، والحروب، والأزمات، لكن ما ساهمت به في التاريخ الإنساني يؤول إلى ما لعبته من أدوار في تطوير المعرفة الإنسانية. ولا يكون هذا إلا بمدى ما حققته في تاريخا من تقدم حضاري وعلمي. فمتى تقدم الغرب؟ ومتى تشكلت فكرة الغرب؟ ومتى تأسست الدولة الوطنية في الغرب؟ ومتى تأخر العرب والمسلمون؟ وهل سبق لهم أن تقدموا، أم أن تاريخهم تاريخ حروب بين داحس والغبراء؟ تقدم المسلمون بسبب أخذهم بإجراءات البحث العلمي وسعيهم إلى نشر معرفة جديدة ومغايرة لما كان سائدا في أزمنتهم، وساهم الإسلام في تشكيلها من خلال القرآن الكريم، وعملوا على توسيع رقعة بلاد الإسلام، وشاركت كل الشعوب التي دخلت في الإسلام في بناء صرح حضارة ذات بعد إنساني. وكان تأخرهم بسبب الملابسات التي أدت إلى تخليهم عن مواصلة البحث والاستكشاف، وهو ما أدى بالغرب إلى الخروج من عصوره الوسطى عندما تبنى الفكر والبحث العلمي. كان لسؤال متى أن يؤدي إلى أجوبة غير التي نراها إلى اليوم. وفي هذا اليوم نجدد السؤال لننقله من صيغة الماضي إلى الحاضر، ونتساءل: لما نتأخر الآن، ويتقدم الآخرون؟

***

سعيد يقطين - كاتب مغربي

عن جريدة القدس العربي، يوم: 15/1/2025

 

أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.

***

د. فاضل ثامر

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 11 يناير 2025 م ـ 12 رَجب 1446 هـ

في المثقف اليوم