اخترنا لكم

حصرَ محمد أحمد خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر» المؤثراتِ الثقافيةَ التي حدَّدت فكرَ سيد قطب بنوعين من المؤثرات:

«نوع هو الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الذي يمثله عند سيد قطب المفكران الإسلاميان: أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. أما النوع الآخر من المؤثرات فهو الفكر الذي جاءت به الحضارة الغربية، الذي يمثله عند سيد قطب المفكر الغربي ألكسيس كاريل». ثم مضى بعد ذلك يقارن بين تلقّي سيد قطب أفكارِ الندوي وتلقيه أفكارَ كاريل!

لا يصحُّ أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الصحيح أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند أو في شبه القارة الهندية أو عند مسلمي الهند.

هذا الفكر هو فكر الأصولية الإسلامية عند مسلمي الهند الذي صاغ أسسه الكلية والتفصيلية صياغة شاملة - بلا منازع - أبو الأعلى المودودي ابتداءً من أواخر عشرينات القرن الماضي. وبعد أن هاجر أبو الأعلى المودودي من حيدر آباد إلى البنجاب (1937)، وبعد أن أسس «الجماعة الإسلامية» واختير أميراً لها (1941) لم تكن هناك دولة مستقلة اسمها باكستان، فباكستان التي مناطقها في الشمال الغربي والشمال الشرقي من الهند في التاريخين السالفين كانت من أقاليم الهند. ولم تنشأ بوصفها دولة مستقلة عن الهند إلا في عام 1947.

لنأخذ بعين الاعتبار أن ذلك «الفكر الإسلامي الناشئ» عند خلف الله، تتوزعه في نشأته دولتان هما الهند وباكستان، ولننظر في قوله هذا: «وكان أبو الحسن الندوي يتحدث عن حاكمية الله، وأنها غير مستثمرة في العالم الذي كان يعيش فيه، وهو بلاد الهند التي نعلم أن أكثريتها من غير المسلمين، وأن الحكومات فيها لغير المسلمين».

الباكستان - قبل تقسيم الهند إلى الهند والباكستان - كان أکثرية سكان مناطقه من المسلمين، واستناداً إلى هذا الأمر، اقترح محمد إقبال خلال انعقاد المؤتمر السنوي لـ«حزب رابطة المسلمين» عام 1930 تحت رئاسته في خطابه بهذا المؤتمر إنشاء وطن خاص بمسلمي الهند. وتمكن «حزب رابطة المسلمين» تحت قيادة محمد علي جناح، بعد جهود حثيثة بدأت من عام 1940، من تأسيس دولة مسلمة في القارة الهندية عام 1947، تحكمها حكومة من المسلمين، هذه الدولة هي الباكستان.

ما قاله خلف الله هو تحليل تكرر قوله في الثمانينات الميلادية عند بعض المثقفين الذين يصنفون ضمن دائرة الإسلام المستنير، لكنه كان يقال إزاء المودودي وليس إزاء الندوي، ويقال حين الحديث عن خطأ سيد قطب في نقله فكرة «الحاكمية» وفكرة «الجاهلية» من المودودي وتطبيقها ما بين أواخر الخمسينات وأول الستينات الميلادية على المجتمع المصري، ذي الأكثرية المسلمة، الذي حكومته من المصريين المسلمين من ضباط الثورة.

وربما يكون الرائد في القول بهذا التحليل هو أحمد كمال أبو المجد، وذلك في مقال منشور في مجلة «العربي» بتاريخ أبريل (نيسان) 1981، كان عنوانه «4 وجوه لمأساة الشباب المسلم».

يقول في هذا المقال: «والعلامة المودودي - رحمه الله - كتب ما كتب في إطار مجتمع يسعى للتميز، وشعب مسلم يتوجه للانفصال السياسي، وتوكيد الذات في مواجهة الآخرين. أما الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فقد كتب جانباً كبيراً مما كتبه بعد معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر، ومن خلال العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».

الحق أننا لسنا أمام تحليل أو تفسير أو استكناه، بقدر ما نحن أمام تبرير وتسويغ واعتذار لتطرف المودودي وسيد قطب الديني.

بالنسبة للمودودي، تطرفه الديني تربى عليه من طفولته، ونظّر له في كتب قبل أن يطرح محمد إقبال فكرة إنشاء وطن قومي خاص بالمسلمين في شبه القارة الهندية، كان معارضاً بقوة لأن يكون لمسلمي الهند وطن خاص بهم. لأن هذا الوطن كان يراه نقيضاً للأخوة والأممية الإسلامية، فمسلمو الهند - كما كان يرى - ليسوا بحاجة إلى وطن خاص بهم، فديار الإسلام، حيث ما كانت، هي وطنهم.

يقول الرئيس الباكستاني الجنرال محمد خان عنه: «لقد لجأ إلى باكستان، ثم ما برح أن قام بحملة لنشر الدعوة الإسلامية بين الشعب الباكستاني السيئ الطالع. فلقد هال هذا السيد الوقور ما شاهده في باكستان: بلد غير إسلامي وحكومة غير إسلامية وشعب غیر إسلامي! كيف يسوغ للمسلم أن يدين بالولاء لهذه الدولة؟ وهكذا شرع يدخل في روع الناس أنهم ضالون مارقون عاجزون، لا أمل فيهم».

إن المودودي في تنظيره الإسلامي الأصولي من البداية كان يسعى إلى قيام إمبريالية دينية إسلامية أصولية تحكم العالم. وكذلك كان الندوي. واقتفاهما في هذا المسعى سيد قطب، وتبعتهم فيه طوائف من الإسلاميين.

وما قاله أبو المجد في الاعتذار لسيد قطب قاله كثيرون بعده من الإسلاميين ومن العلمانيين. ومن العلمانيين قاله صاحبنا خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر».

وسأدحض ما قاله أبو المجد في اعتذاره لسيد قطب من المقالة نفسها التي ساق فيها اعتذاره السالف له.

يقول أبو المجد: «ولعل من الكلمات التي ساعدت على التوسع في إطلاق وصف الجاهلية على المجتمعات المعاصرة ما ذهب إليه سيد قطب - رحمه الله - من أن الجاهلية ليست فترةً زمنيةً معينةً من الزمان، إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان ومكان».

أبو المجد اقتبس ما قاله سيد قطب من تفسيره للآية 33 من سورة «الأحزاب» في كتابه «في ظلال القرآن».

في المقال السابق رأينا كيف تلقى سيد قطب بإعجاب وانبهار وانقياد المعنى اللازمني واللاتاريخي لمصطلح «الجاهلية» في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب أبي الحسن الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، الذي تعرف إليه - لأول مرة - من خلال هذا الكتاب.

سید قطب في عام 1951، لم يكن يعاني «معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر»، ولم يكن يكابد «العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».

التفسير الذي تردد في الثمانينات الميلادية تارةً باقتضاب، وتارة بتوسع، يفسر فيه سمة خاصة اتسم بها الإسلام الهندي ابتداءً من القرن التاسع عشر، ولا يفسر به لا تطرف المودودي ولا تطرف الندوي الديني. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 17 شَعبان 1446 هـ - 16 فبراير 2025 م

 

لا توجد لحظة أفضل للتأمل في معنى الفن وحاجتنا إليه من لحظة غيابه الكامل عن جهاتنا الحسيّة، عندما تجلس وحيداً في صمت، لا صوت ولا صورة قريبة منك. أو عندما تكون من أولئك الذين يحرّمون على أنفسهم الاستماع إلى صوت الموسيقى لأسباب دينية فتبقى ممزقاً بين ما تعتقده واجباً وشيئاً غريزياً فيك. إنها أوضح صورة لاستحضار قيمة الفن، عندما يكون سبباً مباشراً في هذا الصراع بين الواجب والغريزة. ولربما يبكي الفرد من شدة الألم الذي يسببه التمزق الداخلي. هذا الفقدان التام للتجارب الفعلية الملموسة مع الفن يشبه أن يكون نوعاً من الموت، وبالتالي تصبح معانقة الحياة نوعاً من الذنب الذي يوجب الاستغفار.

لا حياة من دون فن، ذلك أن التجربة الفنية وتقديرها والحاجة إليها تبدو وكأنها متأصلة في جنسنا البشري، فالفن ليس شيئاً يحدث على هامش حياتنا، بل هو مقيم في صميم وجودنا.

إنه وسيلة نبرر بها وجودنا، وهنا نتذكر عبارة مارد الفلسفة هيغل «إن الروح لتتجلى في ثلاث: الفن والدين والفلسفة». أين سترى حضارة شعب ما إلا في تلك الثلاث؟ وتتفاوت الشعوب في تجلي روحها في واحد من هذه المجالي أكثر من الآخر. روح الشعب الإيطالي - على سبيل المثال - وثقافته وتاريخه وحضارته تتجلى في الفن بصورة أكبر من الفلسفة والعلم، رغم أنها بلاد غاليليو وأنها لا تخلو من الفلاسفة.

علاقة الإنسان بالفن قديمة جداً وليس من الصواب أن نحصر حياة الإنسان الأول في بحثه عن الطعام وعن الملجأ من خطر الحيوانات المفترسة. ثمة آثار وأحافير ورسوم، وأدلة مادية محسوسة ومعروفة تدل على خلاف ذلك. لقد كان الإنسان يبدع الفنون منذ فترة أطول بكثير من التاريخ المدون. ومع أن أقدم الفنون البصرية التي لا تزال باقية تعود إلى ما يقرب من أربعين ألف سنة، إلا أننا نغلّب أنه لا بد أن هناك أعمالاً أقدم لا نعرف عنها شيئاً بعد.

ولا يقتصر الفن على تحفيز العقل ومداعبة الحواس، بل من الأقرب أن ننظر إليه باعتباره جهداً فكرياً. وهنا نتذكر دعوى بعض الفلاسفة في أن واجب الفلسفة هو أن تكون خادمة للعلم التجريبي، تقدم له الأسئلة وهو يجيب عنها. هذا شطط بلا ريب، فعلاقة الفلسفة بالعلم ليست بأهم من علاقة الفلسفة بالفن. الفن ضرورة وليس شيئاً يستعمل لتمضية الوقت. هو كاشف عن الوجود هو الآخر.

الفن شيء معقد للغاية، وهو يتوقع منا أن نبذل جهداً كبيراً عندما نتعامل معه. ومع ذلك هو يساعدنا لإنجاز مهمة فهمه وتذوقه وتقديره، أعني أن العمل الفني يتحدث إلينا بمختلف اللغات، ابتداءً من اللوحات الخالدة التي تستفز العقل والحواس وتعكس في نفوسنا القبول أو النفور إلى موسيقى الجاز التي يتطلب فهمها وتقديرها ذكاءً خاصاً. مما بات معرفة عامة اليوم أن الأعمال الفنية العظيمة تحمل معها الكثير من الرسائل والمعاني، وكثيراً ما تظل هذه الرسائل باقية لقرون من الزمان. وقد تتغير مع مرور القرون والعقود، تاركة قوتها وأهميتها كما هي.

برغم إيماننا بوجود المساحات الميتافيزيقية الشاسعة التي تتمدد فيها الأعمال الفنية، فإن البداية يجب أن تكون من داخل مساحاتها المادية. لا يوجد بديل عن مادية العمل الفني، والتي تتعلق في نهاية المطاف وبشكل ثابت بحواسنا الخمس وبراعتنا التحليلية وفضولنا الفكري. من هنا تكون البداية. كما أن تقدير الفن، في أغلب الأحيان، هو تجربة جماعية. إنه يجمعنا عندما نذهب إلى السينما ونجلس متجاورين.

عندما يتناقش الناس في القضايا السياسية أو مباريات كرة القدم فقد يصلون إلى الشجار والعداوة والتقاذف بالصحون، لكن هذا لا يحدث عند النقاش حول عمل فني، بل تجد الناس في لحظات وكأن السكينة قد غشيتهم، في حالة خشوع صوفي. قد نتجادل حول قيمة هذه الأعمال وفضل عمل على عمل، لكننا متفقون على ضرورة التعبير الفني وقيمة دراسة الجماليات. ولا بأس بمثل هذه النقاشات الفنية وإن اختلفت وجهات النظر فالفن من أهم الوسائل التي نتوصل من خلالها إلى فهم بعضنا البعض. هذا الفهم لا يكون دائماً جميلاً، فالمخرج السينمائي الذي يستمتع بتصوير الدم وهو يخرج من الجسد بالصورة البطيئة، هو شخص عنيف أو يعاني من مرض نفسي ما.

لكن الأمر الإيجابي هو أن هذه الأعمال الفنية تعلمنا كيف نكون فضوليين بشأن ما هو مختلف أو غير مألوف، وفي نهاية المطاف تمهد الطريق لنا لقبوله وتقديره واحتضانه. هذا يحدث في المجتمعات السوية، أما المجتمعات الخائفة من «الآخر»، أعني التجمعات الآيديولوجية، ففي الغالب لا تتمكن من إنتاج أي أعمال فنية ثقافية ذات قيمة عليا. في حين نجد أن المجتمعات الحرة قادرة بكل سهولة على هز الآيديولوجيات المنغلقة على نفسها بالوصف والنقد.

في القرنين الماضيين احتدم النقاش حول كيفية مقارنة الفن والثقافة بالعلوم الطبيعية التجريبية وأيهما أكثر نفعاً للبشر، حيث تلعب العلوم الإنسانية دوراً أصغر حجماً على نحو متزايد، في حين جلبت العلوم إلى هذا العالم العديد من الاكتشافات والإبداعات الرائعة، إلا أنها مذنبة ومدانة عندما يتعلق الأمر بإنجازات الإنسان الأكثر شراً، الحرب النووية وتدمير الطبيعة وستون مليوناً ماتوا في الحرب العالمية الثانية لغير سبب مقنع بالجدوى.

في مقابل هذا الشر، يمكن للفن أن يصل إلى أكثر أماكن النفس البشرية ظلمة وأن يخرجها منها. إنه يفعل ذلك لمساعدتنا على الفهم والتجاوز. إنه حقاً يرفعنا ويرتفع بنا ويجعلنا أشخاصاً أفضل.

***

خالد الغنامي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 فبراير 2025 م ـ 18 شَعبان 1446 هـ

لقد لاحظ المفكر الاستراتيجي والمؤرخ الفرنسي إمانويل تود أن الديمقراطيات التعددية في الغرب انتقلت إلى نمط من «الأوليغارشيات الليبرالية» التي تتحكم فيها مجموعة من النخب التقنية والتسييرية المسيطرة، في تعارض واضح مع المنظومة الليبرالية الكلاسيكية القائمة على مبدأ السيادة الشعبية والإرادة الجماعية المشتركة. لا يتعلق الأمر فقط بالتوجه الذي يكثر الحديث عنه حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، ولا بالوضع السياسي الروسي، بل بتحول نوعي في صلب الأنظمة السياسية الغربية، له علاقة بطبيعة الثورة المعلوماتية الجديدة وحركية العولمة التقنية والاقتصادية. وتعود عبارة «أوليغارشيا» التي يكثر استخدامها في أيامنا هذه إلى المعجم السياسي اليوناني، ونلمسها في أدبيات أفلاطون وأرسطو بمعنى حكم الأقلية المهيمنة، وإن مُنحت دلالةً جديدة في الفكر السياسي الحديث من منظور المقارنة مع الديمقراطية من حيث هي حكم المجموعة المندمجة العضوية.

ومن أهم مَن بلور النظرية الجديدة للأوليغارشيا عالم السياسة الأميركي جيفري ونترس الذي أصدر كتاباً متميزاً بعنوان «الأوليغارشيا» oligarchy أثار جدلاً واسعاً في السنوات الأخيرة. وفي تعريفه لهذا المفهوم، يرجع ونترس إلى أرسطو، معتبراً أن العنصر الأساسي المحدد للأوليغارشيا هو «سياسة الدفاع عن الثروة وتحويلها إلى آلية من آليات الحكم والسلطة». علاقة النخب الأوليغارشية في الغرب بالنظام الديمقراطي معقدة وملتبسة، لكونها تسعى إلى الاستفادة من الحراك التمثيلي والانتخابي من أجل تثبيت مواقعها في هرم السلطة، لكنها في الآن نفسه تتخوف من المنطق السياسي للدولة الليبرالية من حيث هي دولة قانون ومؤسسات وتوازن سُلط. الديمقراطية في أحد وجهيها ترجمة لموازين التحكم الاجتماعي القائمة، لكنها في وجهها الآخر نظامٌ للعدالة الاجتماعية ولدمج المجموعات المهمشة والمغبونة.

لقد ضمنت الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية في الغرب الاستقرارَ الاجتماعي والسلم الأهلي، نتيجة لتحكمها في سياسات توزيع الثروة والديناميكية الاقتصادية، لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو اختلال هذه التوازنات الدقيقة بخروج الاقتصاد الفعلي عن المجال السياسي السيادي للدولة. ولهذا التحول الذي رصده ونترس ارتباطٌ مباشر بظواهر ثلاث نعتقد أنها تحتاج لوقفة تشخيص ومتابعة. الظاهرة الأولى تتعلق بتغير عميق في تركيبة المنظومة القانونية الدولية التي تعيش أزمة عميقة في مقوماتها النظرية وبنياتها المؤسسية.

وإذا كان البعض اعتبر أن كل محددات النظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية قد تبدلت كلياً، كما هو واضح من سياسات القوى الكبرى التي رجعت لمنطق القوة وتوزّع المجالات الخارجية الحيوية، فإن هذه الملاحظة الصائبة يجب أن لا تغطي على الأزمة العميقة التي عرفتها هذه المنظومة الدولية نفسها نتيجة لفشل ديناميكية التمدد العالمي لنظام الشرعية القانونية الذي تأسست عليه الديمقراطية الليبرالية الحديثة. الظاهرة الثانية تتعلق بالتحولات الجوهرية التي عرفتها الدولةُ الوطنية ذاتها في العالم الليبرالي الغربي خلال العقود الأخيرة. ومن أهم هذه التحولات انتقال التناقض الداخلي في صلب النظام السياسي إلى معايير الحكم السياسي في أبعادها الاجتماعية والقيمية، بما ينعكس في أوجه التصدع المتزايدة بين القطب المحافظ الذي أطلق عليه مؤخراً الرئيس الفرنسي ماكرون عبارة «الأممية الرجعية»، والقطب التقدمي «الليبرالي» الذي لا يزال متشبثاً بمفاهيم الحرية الذاتية المطلقة ودولة القانون المجردة. الظاهرة الثالثة هي الارتباط الجديد بين الأيديولوجيا الليبرتارية في نسختها الجديدة والنخب التقنية المعولمة التي ترفض القيود المؤسسية التقليدية على حريات التملك والإبداع والتعبير.

ولا يمكن اختزال هذا التحول في ما تحدث البعض عنه مِن تحالف غير مسبوق بين الاتجاهات المحافظة الانكفائية والأوليغارشيات المالية والتقنية، بل من الأدق النظر إلى هذا التغير من داخل المنظومة الليبرالية نفسها التي تعيش ما أشار إليه العديد من الباحثين من انفصام الاقتران الذي قام في العصور الحديثة بين مبدئي الحرية والديمقراطية. بعد المحادثة الهاتفية الأخيرة بين الرئيسين ترامب وبوتين، ذهب البعض إلى أن النظام العالمي يتجه إلى تحالف جديد بين أميركا في وجهها المحافظ الجديد، وروسيا في توجهاتها الارثوذوكسية المعلنة، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن التغيرات الجيوسياسية العالمية الراهنة تعكس أبعد من هذه التفاهمات الظرفية تركيبة جديدة للعمل السياسي في أبعاده الداخلية والدبلوماسية. ولعل المدخل الصحيح لفهم هذه التحولات هو توجيه النظر إلى الأزمة العميقة التي يعرفها منذ سنوات النظام الليبرالي العالمي، والتي لم تبدأ مع بوتين وترامب نفسيهما.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

16 فبراير 2025 23:45

 

ما أزال أتذكر ظهيرة ذلك اليوم في بداية الستينات الميلادية، حين رافقتُ والدي صغيراً إلى الشاطئ الشرقي من نهر دجلة، قريباً من بغداد، لزيارة قبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي في (سلمان باك)، حيث يرتفع طاق كسرى الباقي من طيسفون (المدائن) التي بناها الإغريق واستولى عليها الفرس. في ظلال الطاق - آنذاك - وجدنا بدوياً عراقياً يترنم بصوته على وتر ربابته، دون أن يعي أن حضارة بابل كانت بالمرصاد لهذا الطاق.

لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي الشهير، كان قد تردد على العراق، واقفاً عند تجربة سلمان وشخصيته في طريق عودة ماسينيون من العمارة القريبة من البصرة، اتهمه واليها حازم بك التركي بالتجسس، فخفره مريضاً مهدداً بالإعدام إلى بغداد على متن سفينة توقفت قريباً من «سلمان باك». هناك وجد نفسه يصغي إلى هديل حمامة محنية، سرعان ما بدد اكتئابه المكروب، ليجد في (زائر) سلمان الفارسي (الغريب) طوق نجاة مشعاً بانفراج محنته. وقد بهرته حينها مروءة الألوسيين علي ومحمود شكري، الذين تدخلوا لإطلاق سراحه ومعالجته، ليتمعن في أخلاق الضيافة العربية. وقد أصبح إثر ذلك في حالة هيجان روحي قادته إلى قراءة القرآن الكريم، بعدما تعلم مبادئ اللغة العربية، باحثاً عن أثر المسيحية في الإسلام وتماثل قيمة الزهد بين المسلمين والمسيحيين. وكان هذا دافعاً لدخوله عالم التصوف الإسلامي عبر أبي عبد الله وأبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج. الحقيقة في بحثه القصير المكثف «سلمان الفارسي وبواكيره الروحية»، التي ضمنها عبد الرحمن بدوي في كتابه التأليفي المترجم «شخصيات قلقة في الإسلام» الصادر سنة 1947. وكان ماسينيون قد جاء من القاهرة إلى بغداد بين سنتي 1907 و1908، يحفزه غاستون ماسبيرو، الخبير الآثاري الفرنسي، لاستكشاف قصر الأخيضر الساساني جنوبي كربلاء. شملت رحلة ماسينيون دراسته عن لهجات بغداد السبع، وكذلك دراستيه الرائدتين عن «خطط الكوفة» و«خطط البصرة»، التي أفاد من نتائجها البحثية المؤرخان العراقي صالح العلي والتونسي هشام جعيط، في دراسة التاريخ العربي الإسلامي في هاتين الحاضرتين العريقتين بمدرستهما في الفكر واللغة والأدب.

في طريق عودة ماسينيون من العمارة القريبة من البصرة، اتهمه واليها حازم بك التركي بالتجسس، فخفره مريضاً مهدداً بالإعدام إلى بغداد على متن سفينة توقفت قريباً من «سلمان باك». هناك وجد نفسه يصغي إلى هديل حمامة محنية، سرعان ما بدد اكتئابه المكروب، ليجد في «زائر» سلمان الفارسي «الغريب» طوق نجاة مشعاً بانفراج محنته. وقد بهرته حينها مروءة الألوسيين علي ومحمود شكري، الذين تدخلوا لإطلاق سراحه ومعالجته، ليتمعن في أخلاق الضيافة العربية. وقد أصبح إثر ذلك في حالة هيجان روحي قادته إلى قراءة القرآن الكريم، بعدما تعلم مبادئ اللغة العربية، باحثاً عن أثر المسيحية في الإسلام وتماثل قيمة الزهد بين المسلمين والمسيحيين. وكان هذا دافعاً لدخوله عالم التصوف الإسلامي عبر أبي عبد الله وأبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج.

التعرف على الإسلام والتراث

كان ماسينيون قد ولد في قرية قريبة من باريس سنة 1883. حيث كان والده الطبيب قد تحول من مزاولة الطب إلى ممارسة الرسم والنحت. نشأ في بيت متصارع بين ثقافة والده الأنوارية المناهضة لسطوة الكنيسة، وثقافة والدته اليمينية الملكية المتمسكة بالقيم المسيحية. وما إن أنهى ماسينيون مرحلة التعليم المتوسط والثانوي، حتى بدأ مرحلة التعليم الجامعي في جامعة السوربون، حاصلاً على دبلوم الدراسات العليا في الجغرافيا والتاريخ، متأثراً بأجوائها الفلسفية، مبتعداً عن التزام والدته الديني. كما حصل على دبلوم في اللغة العربية ودراسة لهجاتها من معهد اللغات الشرقية العريق. ربما كان ذلك نتيجة للتجنيد في الجيش الفرنسي المحتل للجزائر، التي زارها سنة 1904 في مهمة استخبارية تعرض خلالها لاعتداء الأهالي على مشارف الصحراء الكبرى، مما دفعه لدراسة اللغة العربية والتحدث بها. كما زار المغرب باحثاً في تجربة الحسن بن الوزان (ليون الأفريقي)، الرحالة والجغرافي الذي ألف كتاب «وصف أفريقيا»، والذي اقتيد إلى بلاط روما أسيراً، فعمده البابا ليون العاشر وقرَّبه إليه، ناقلاً إلى بلاطه تقاليد المراسم العربية وألقاب حكامها.

وقد دُعي ماسينيون سنة 1905 لحضور المؤتمر السنوي للمستشرقين في الجزائر، حيث التقى باليهودي المجري غولد تسيهر، مؤلف كتاب «العقيدة والشريعة في الإسلام»، وبالإسباني أسين بلاثيوس، الذي زاوج بين «رسالة الغفران» للمعري و«الكوميديا الإلهية» لدانتي. وهكذا بدأ ماسينيون يقترب تدريجياً من عالم الإسلام والتراث العربي. وبفضل تعرفه في شبابه إلى هنري ماسبيرو، ابن عالم الآثار غاستون ماسبيرو، الذي أوحى إليه بالتنقيب عن قصر الأخيضر الساساني في جنوب العراق، تكررت زياراته إلى القاهرة منذ سنة 1906. لاحقاً أصبح أستاذاً في الجامعة المصرية، ثم في الكوليج دو فرانس. ولم يكن كتابه «محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية»، الذي طبعه المتحف العلمي الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة، إلا ثمرة لعلاقته بماسبيرو. وقد ألقى ماسينيون هذه المحاضرات على طلبته، ممن أصبحوا دكاترة بارزين، من بينهم طه حسين وأحمد ضيف وعبد العزيز فهمي. لمسوا في أستاذهم اطلاعاً واسعاً على التراث العربي والفكر الإسلامي، وسعياً للتوفيق بينهما وبين الفكر الغربي الحديث.

ماسينيون والحلاج

كان ماسينيون يسعى بكل جهده لإطلاق مشروعه البحثي الموسوعي الضخم «آلام الحلاج»، متشرباً إيمان أمه المسيحي، وهو يغوص في أعماق الفكر الصوفي. بذل الجهد في دراسة الفكر الإسلامي، وكرَّس وقته لمعرفة التراث العربي، ليصل في النهاية إلى دعوته الإبراهيمية التي تهدف إلى التلاقي بين المسيحية والإسلام، معتبراً اللغة العربية لدى العرب طريقاً لبلوغ الكلمة الإلهية. ومن العجب أن تقوده دراسة اللغة العربية وإتقان خطها إلى معرفة السيد المسيح، مشدوداً إلى سلوك الزهد الإسلامي في ضوء الزهد المسيحي. بل إنه رأى في آلام السيد المسيح انعكاساً لآلام الحلاج، ووجد في طهر السيدة مريم العذراء طهر السيدة فاطمة الزهراء. هذه القراءات قادته إلى التأمل في القرآن الكريم، الذي وجد سوره تدور حول معجزات موسى وسحره، وطب المسيح، وبيان محمد.

وهكذا، تصور ماسينيون أن دموع هاجر هي التي فجَّرت ماء زمزم، وأن حجر إسماعيل كان بداية ولادة اللغة العربية، تمهيداً لانبعاث الإسلام بقرآنه الكريم. تركت ضيافة الألوسيين أثراً عميقاً في نفسية ماسينيون وفكره، مما جعله يجد في الصوفية الإسلامية انعكاساً لغنوصيته المسيحية. تمثل ماسينيون صلب السيد المسيح في صلب الحلاج، فكرَّس ثماني سنوات من حياته، بين عامي 1914 و1922. لتأليف عمله الموسوعي «آلام الحلاج». تناول في أطروحته، التي حصل بها على الدكتوراه من الكوليج دي فرانس، حياة الحلاج الاجتماعية والسياسية والفكرية، ودرس طواسينه الشعرية وأثره الصوفي في العديد من حواضر الشرق العربي والآسيوي.

شعرت حين وقفت أمام قبر الحلاج في منطقة العلاوي ببغداد وكأن هديل الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي

لم يستثنِ ماسينيون في دراسته أثر الحلاج في دمشق، التي زارها في مهمة استخبارية أثناء الحرب العالمية الأولى مساعداً لجورج بيكو. تواصل مع علمائها ومؤرخيها، واطَّلع على مكتباتها وبحث في مخطوطاتها عن معنى كلمة الحلاج. نقل من مخطوطة كتاب «قاموس الصناعات الشامية» لمحمد سعيد القاسمي وابنه جمال ما أشبع نهمه البحثي. عمل هناك على تنظيم المعهد الفرنسي في دمشق، مستوحياً تنظيمه من المعهد الفرنسي في القاهرة، كما انضم إلى عضوية المجمع العلمي اللغوي في دمشق سنة 1919. وأصبح عضواً مؤسساً في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1932، وهي تنظيمات مستوحاة من الأكاديمية الفرنسية المؤسسة عام 1634. كان الحلاج محور اهتمامه الفكري والأكاديمي منذ البداية وحتى النهاية.

هذا وقد وصفه صديقه اللغوي العراقي الأب أنستاس الكرملي، منذ التقيا مبكراً في بغداد، بأنه «العالم الخبير على حداثة سنه»، مشيراً إلى أنه أتم مراجعة ما يقارب ألفي مصنف في كل ما يتصل بالحلاج وأفكاره ومحنته. أما الأكاديمي العراقي مصطفى كامل الشيبي، المتخصص في الدراسات الصوفية، فطالما أشاد بجهود ماسينيون «الحلاجية»، رغم تفوق الشيبي عليه في جمع وتحقيق ديوان الحلاج سنة 1973. كنت قد قرأت ذلك بعدما سمعت عن الحلاج لأول مرة عبر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج» الصادرة سنة 1965، التي جسَّد فيها القلق الروحي والشطحات الصوفية للحلاج. وجدتُ أن صلاح عبد الصبور قد لامس أزمة نفسية وحيرة فكرية مشابهة لتلك التي كابدها ماسينيون، الذي ظل مفتوناً بالحلاج حتى النهاية، متمسكاً بالآية الكريمة التي أوصى أن تُدفن معه سنة 1962: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) الجن: 22.

ظل ماسينيون يقرأ سورة الفاتحة على الحلاج أينما حلّ. أما أنا، فعندما وقفت أمام قبره في حي العلاوي ببغداد خلال زيارتي الأخيرة إليها، شعرت وكأن هديل تلك الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي من بعيد.

***

محمد رضا نصر الله

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 1 فبراير 2025 م ـ 02 شَعبان 1446 هـ

عدَّ عرب شمال أفريقيا عاطفيّين وطفوليّين غير قادرين على التفكير

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان المعاصر لذاته إلى جانب الأسماء التقليديّة الأخرى أمثال فرويد وماركس وهايدغر ولي كوربوزييه، وفوكو. إذ برغم التقدم الهائل للعلوم النظريّة والاجتماعيّة منذ غيابه قبل خمسة وستين عاماً تقريباً، فإن بعض تطبيقات أفكاره في مجالات تصنيف شخصيّات البشر وأنماط تصرفهم اللاواعيّة وطرق تعاطيهم مع الآخرين ممن يختلفون عنهم تعدُّ الأساس النظري الذي تقوم عليه نماذج تحليلية متقدمة لا غنى عنها في عالم الأعمال وإدارة الموارد البشريّة والتحليل النفسي الأساسي في نطاق العمل، مثل أنظمة «ديسك» (DiSC)، و«إنسايت» (Insight)، و«مايرز - بريغز» (Myers-Briggs) وغيرها، وأصبحت بعض مصطلحاته في وصف الشخصيّة (مثل الانطوائي أو الانبساطي) وافرة الاستخدام حتى في الأحاديث العادية.

تعرّض يونغ مع ذلك إلى انتقادات عديدة في حياته، فكان خلافه النظريّ مع صديقه اللّدود سيغموند فرويد مبكراً بعدما اختار أن يتجاوز بداية من عام 1912 موضوعة الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) في تفسير الاضطرابات الذهانيّة مثل الفصام والشيزوفرانيا، ثم وجهت له اتهامات متناقضة تارة بمعاداة الساميّة وتبني الأفكار النازيّة، وتارة باستخدام دوره رئيساً للجمعيّة الطبية العامة للعلاج النفسي في ألمانيا لتسهيل عمل المحللين النفسيين اليهود ما تسبب لاحقاً في مصادرة كتبه في ألمانيا وأُدرج اسمه على القائمة السوداء. كما عدَّ البعض سلوكه متناقضاً، إذ فرض أثناء رئاسته لتلك الجمعية ميثاقاً يفرض على أعضائها اتخاذ موقفٍ حياديٍ فيما يتعلق بالسياسة والعقائد لدى ممارسة عملهم، لكنه تعاون في عام 1943م مع مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذي تحول لاحقاً إلى ما يعرف الآن بجهاز الاستخبارات المركزية الأميركيّة) وساعد على تقديم تحليل لشخصيات الزعماء النازيين لصالح المجهود الحربي الأميركي.

انحيازات يونغ السياسيّة سهلت تبني أعماله ونظرياته لاحقاً عبر العالم الأنجلوسكسوني، ما سمح بتجاهل جانب آخر من أفكاره يتعلّق بالملمح العنصريّ الذي حكم تقييماته للشعوب غير البيضاء، وهو أمر لا يمكن تفسيره في إطار انتماء الرجل لعصر انتشرت فيه العنصريات والفاشيات، وسيطرت على نخب ودول عديدة في الغرب، كما أنّه لا يتعلق بنص عابر هنا أو فلتة لسان هناك، أو حتى مرحلة فكريّة مرّ بها، إذ تعددت الشواهد من أعماله ومحاضراته وحتى كتاباته الشخصيّة، وفي مختلف مراحل حياته المهنيّة على نفس يبدو مستلاً بكليته من منطق العنصرية الفيكتوري، ويمتد ليكون منطلقاً ومكوناً لنظرياته في التحليل النفسي، على نحو قد يدفع المرء في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة لإلغاء الرجل وفكره بالكامل، ولكن على الأقل لإعادة تقييم مجمل تراثه كأداة للتفكير، وهو تراث طالما زعم صاحبه بأنه يأتي ضمن سياق البحث في معرفة الإنسان، الممر اللازم لكل تقدّم للنوع البشري على هذه المعمورة، على حد تعبيره.

يعترف يونغ مثلاً بأننا «اللاوعي الجمعي» نشترك جميعنا كنوع بشري في ذات النموذج الأصلي: حيث لدى كل منا بغض النظر عن لون بشرته عيون وقلب وكبد وما إلى ذلك، لكنّه يستطرد ليقول بأن ذلك لا يلغي أن بعض الأجناس تمتلك طبقة تاريخيّة كاملة في لا وعيها قد لا تمتلكها أجناس أخرى، إذ «تتوافق الطبقات المختلفة من العقل مع تاريخ الأجناس». (النص من محاضراته في معهد تافيستوك، 1935).

ما عناه يونغ هنا، كان فسره في مواضع أخرى، إذ رأى أن طبيعة وعي الغربيين المعاصر «مختلفة تماماً عن وعي البدائيين، ولكن في أعماق نفسياتنا فإن ثمة طبقة سميكة من العمليات البدائية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي لا يزال من الممكن العثور عليها في إطار الحياة اليومية للبدائيين».

إشارة يونغ للبدائيين هنا كانت ربما لقبائل «إلغوني» من الصيادين وجامعي الثمار، وكان قد اطلع على بعض نظام حياتهم إبّان زيارته في 1926 لمناطق على الحدود بين أوغندا وكينيا، على أنه سحب هذا التوصيف ذاته على عرب شمال أفريقيا أيضاً بعدما كتب انطباعاته من زيارة قام بها في 1920 لتونس والجزائر، معتبراً أنهم عاطفيّون وطفوليّون غير قادرين على التفكّر و«أقرب إلى تلك الطبقات التاريخية في أنفسنا - كغربيين - والتي تغلبنا عليها، وتركناها وراءنا»، وأن هذه «المحيطات العربيّة التي تبدو غريبة ومختلفة تماماً عنّا توقظ ذكرى ماضي ما قبل التاريخ المعروف والذي يبدو أننا نسيناه تماماً». ولعله من نافل القول إن هذه الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة امتدت من إندونيسيا إلى إسبانيا وما بينهما، في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة.

هذي النظرة العنصريّة عن العالم ليس مرتبطة بالجغرافيات (خارج الغرب) بقدر ما هي أشبه بتسلسل هرمي ثقافي يضع كل ذي بشرة ملونة في أدنى مراحل التطور الإنساني حتى لمن ولدوا وعاشوا في دول الغرب ولم يعرفوا بلاداً غيرها. إذ يعدُّ يونغ أن «الطفل يولد بدماغ محدد، ولذلك لن يعمل دماغ الطفل الإنجليزي مثل دماغ زميله الأسترالي الأسود» (محاضرات تافيستوك 1935). وهذا يعني ببساطة أنه إذا ولد طفل ينحدر من سكان أستراليا الأصليين في أوروبا، فلا فرصة له لأن يغدو متحضراً - وفق المقياس الأوروبي - بسبب محدودية دماغه! وهو كتب لاحقاً: «لا يسعني إلا أن أشعر بالتّفوق، كما يتم تذكيري في كل خطوة بطبيعتي الأوروبية»، وقبلها: «إنها ليست مجرد غطرسة أن يعتبر الإنجليز أي شخص منهم ولد في المستعمرات أقل شأناً ولو على نحو قليل رغم أن أفضل دم يسري في عروقه، إذ إن هنالك حقائق تدعم هذا الرأي».

لا يمكن الدّفاع عن أوهام يونغ هذه بأي صيغة، لا سيّما وأن معاصرين وزملاء له أدانوا علناً «مبدأ وجود تسلسلات هرميّة عرقيّة»، مثل فرانز بواس، رائد علم الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، وهاجموا مزاعمه حول السود بوصفها «تشويهاً تاماً للحقائق»، حسب قول بول رادين، مؤلف كتاب «الإنسان البدائي كفيلسوف»، كما أن نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لكل النظريات العرقية التي كانت تُعامل كعلوم، وتجاوز كثيرون ذلك المربع المقيت، لكن يونغ لم يغيّر أفكاره، وبقي عليها - كما يُقرأ في سيرته الذاتية - إلى آخر يوم في حياته.

***

 ندى حطيط

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 12 فبراير 2025 م ـ 13 شَعبان 1446 هـ

الانتحارى الذى يفجر نفسه فى عملية إرهابية أمام كمين أو فى دار عبادة أو فى محطة مترو .. إلخ يطرح علينا دائما سؤالا مؤرقا يثير دهشتنا واستغرابنا، كيف يصل غسيل الدماغ إلى مثل تلك الدرجة من التغييب والتنويم المغناطيسى ومسح الوعى ودهس الشخصية؟، فنحن نعرف بديهية أن أهم غريزة لدى الانسان هى غريزة البقاء، فكيف بتلك البساطة يفجر هذا الانتحارى نفسه بحزام ناسف مضحيا بحياته ومفضلا الموت، كل هذا فى سبيل أن يقتل مخالفا له فى الرأي!، معتقدا أنه ينفذ تعاليم الدين وأوامر الرب، هذا السؤال أجاب عنه من زاوية متفردة وفلسفية د حسن حماد عميد كلية الآداب السابق فى كتابه الجديد «القمع المقدس» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، الزاوية سيكولوجية، والفصل بعنوان الألم المقدس، وهو الألم الذى يجد تبريرا له داخل الروايات المقدسة بوصفه خلاصا، وهنا الجسد هو الذى يدفع فاتورة القمع، إن الجماهير التى تعانى الاضطهاد والقهر مسكونة كما يقول المؤلف بفكرة القربان، إنها تفتش عن كبش فداء تلتف حوله مشاعر الجموع وتجد فيه مشاعرها المكبوتة نوعا من التنفيس والتفريغ، وتعرف الجماعات أهمية هذه الفكرة، لذلك يجعلون فكرة كبش الفداء جزءا أساسيا من استراتيجيتهم، وعلى الرغم من أن فكرة كبش الفداء أو القربان البشرى قد تلاشت من تاريخ الإنسانية نتيجة لتطور الحضارة وانتقال الانسان من عصور الهمجية والبربرية إلى عصر الحداثة والمدنية، إلا أن قطاعا كبيرا من مجتمعاتنا الإسلامية لم يستطع اللحاق بالركب، ولايزال يحيا فى سياق الفكر السحرى والأسطورى، السياق الذى يتبنى خطابا قبليا يقوم على مسلمة أن انتزاع الشر من العالم يتطلب دائما دما مراقا، وبنظرة بسيطة على بعض الاحتفالات الدينية لبعض الطوائف مثلا نجد أنها تتسم بقدر كبير من المازوخية واستعذاب الألم.

يذكر المؤلف من هذه الممارسات اللطم وايذاء الجسد من خلال التطبير وضرب الرأس بآلات حادة واستخدام السلاسل لضرب الكتفين والسياط لجلد الظهر، والمشى على النار أو الزجاج، وغيرها من الممارسات التى من الممكن أن تفضى إلى الموت!، ويفسر د. حسن حماد هذه الممارسات بأنها نوع من جلد الذات، والإحساس المضنى بالذنب، بسبب خذلان الإمام ... إلى آخر القصة الكربلائية المعروفة، إلى جانب الشعور بالذنب هناك الشعور بالمظلومية التى هى الذاكرة التاريخية لآلام ومعاناة جماعة من البشر فى فترة من التاريخ، تلك المازوخية تقتات من مشاعر الخطيئة والإحساس المضنى بالذنب، والتقمص الدائم لدور الضحية، هذه المشاعر هى ما تدفع الإنسان إلى استعذاب الألم وتجعله يستمرئ العذاب، ولأن الإرهابى يدعى احتكار الحقيقة المطلقة، وهذا الادعاء هو ما يعطيه الحق فى نفى الآخر ورفضه وتكفيره تمهيدا لسحقه وتصفيته وقتله، لأن الحقيقة الدينية المطلقة واحدة لا تقبل بوجود التعدد، وإلى جانبها تصبح كل الحقائق نسبية وخاطئة وباطلة وكافرة، هذا النوع من التكفير هو ما يميز التفكير القمعى الذى يصفه المؤلف بأنه ينفى حق الاختلاف، ينفى الحق فى الخطأ، والحق فى النقد والتطور والاكتشاف، هذا التفكير التكفيرى لديه رهاب وخوف عظيم من كل ما يتجاوز حدوده المعرفية، مما يجعله يسلك سلوكا وسواسيا يسعى لإنكار الآخر عقليا ورفضه وجوديا كإنسان، هذا الفكر يجعله مسكونا بغريزة الموت، يضمر عداء وكرها لكل ما هو مختلف، الأجانب، الديانات الأخرى، المثقفون، الكتاب والمبدعون، النساء ... إلخ.

إلى جانب غريزة الموت، تلك الجماعات المغيبة مسكونة بهاجس الطهرانية لأنها تشعر فى أعماقها بأنها ملوثة ومذنبة وآثمة ومحتاجة دائما إلى كبش فداء، كلكم تذكرون ما فعله تنظيم داعش فى 2015 حين ذبح واحدا وعشرين قبطيا فى ليبيا، كان يتعامل وكأنهم أضحيات أو قرابين للأسف فى هذا المشهد المأساوى، يرددون اسم الله فى أثناء الذبح، مؤمنون وهم يريقون الدم بأن هؤلاء المذبوحين كفرة ويجب التطهر منهم!، الإرهابى الانتحارى يكافح من أجل أن يصنع من ذاته التافهة المحدودة حدثا فريدا تهتز له الدنيا ويضطرب له العالم، إنه يحاول أن يخلق شيئا من لا شىء، وهو ينتزع قيمته من خلال الفوضى والعماء، ويجاهد من أجل تسليط الفوضى على هذا الوجود، ويؤكد فاعليته عبر فعل الهدم والتدمير وإعدام الحياة، ويؤكد هذا المعنى تيرى ايجلتون حين يقول «يمكن أن يغدو موت المفجر الانتحارى حدثا أكثر أهمية من أى شيء فى حياة المنبوذين والمهمشين، وقد يصبح الحدث التاريخى الوحيد الذى يقومون به، فبعد أن مزق الانتحاريون الأطفال إلى أشلاء وأهلكوا الأبرياء، تراودهم فكرة أنهم يستطيعون أن يشعروا الآن بأنهم أحياء بنحو أكثر كثافة، إذ لا شيء فى حياتهم يمتلك أهمية قبل تركها، ويكف الموت عن كونه خسارة مجانية». يلخص د. حسن حماد مؤلف كتاب «القمع المقدس» الوضع قائلا إنه ليس أمام الإرهابى الانتحارى سوى خيارين: إما أن يفرض حقيقته المطلقة على العالم أو يبث الفوضى والعدم والموت فى هذا العالم، ولأن الحقيقة المطلقة مستحيلة، ولا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، لذلك يستسلم الإرهابى لعدوانيته المفرطة وينشر الموت والخراب والدمار فيما حوله، إن هذا الإرهابى مختل سيكولوجيا، سيكوباتى غير قابل للشفاء من فرط غسيل المخ وسحق الروح، يمتلك مركبا عجيبا، سادية مرعبة، ومازوخية منسحقة تستعذب الألم، عاشقة للدمار والخراب.

***

د. خالد منتصر

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأثنين 11 من شعبان 1446 هــ 10 فبراير 2025 السنة 149 العدد 50470

توجد العديد من الأفكار التي يوردها مفكرو علم السياسة، ولا يمكن تقبلها أو البناء عليها من قبل الجميع، لأن الكثير منها هو عبارة عن وجهات نظر يُدلي بها المفكرون، ولها علاقة مباشرة بالمجتمعات التي يعيشون فيها، أو تلك التي يقومون بالبحث في شؤونها، ولا يمكن تقبلها وإسقاطها على المجتمعات الأخرى.

ولكي يتم تقبل أو رفض وجهة نظر أو فكرة ما عادة ما يقوم علماء السياسة بوصف السلوك دون محاولة التقييم المنتظم السليم، أو البحث عن مقولات أو مبادئ أساسية كأدلة يهتدى بها. وهذه عملية عندما يتم الإقدام عليها قد تكون خاطئة أو غير مفيدة في إطار محاولة صياغة مقولات أو نظريات علمية لبنيتها، وإصدار تعميمات بناءً عليها لدراسة الظواهر التي تمر بها المجتمعات، ومنها ظاهرة شرعية السلطة السياسية في مجتمعات دول العالم النامي.

إن ما يمكن أن يصبح مقولة أو نظرية سياسية واسعة الاستخدام قابلة للتعميم على الظواهر السياسية، إذا لم يتم بناؤه بشكل صحيح يمكن أن يدمر ذاته، ويفقدها الاهتمام بها في صالح الفكر غير الناضج، مثلما يفقدها ادعاءها بفائدتها العلمية والتعميمية. لذلك، فإن فقدان التقييم السليم والنظرة الصائبة يدخل علماء السياسة المحدثون في شرك الوقوع في خطأ أن وجهات النظر الحديثة التي يبدونها تقتل وجهات النظر التي أبداها علماء السياسية التقليديون الذين سبقوهم، وبأن فلاسفة علم السياسة الجدد سيقتلون الأفكار التي أوردها فلاسفة السياسة التقليديون، وبأن علماء التاريخ السياسي حديثو العهد سيقتلون الأفكار، وما أرّخ له أسلافهم من علماء التاريخ القدماء. فهل هذا الطرح صائب؟ وفوق كل شيء هل هذا الطرح مفيد لنا في علم السياسة؟ نحن لا نميل إلى فكرة أن العلماء الجدد في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي نتعامل معها، والتي أوردنا ذكر بعض منها، كعلم السياسة والفلسفة السياسية والتاريخ السياسي والاجتماع السياسي يتعمدون قتل ما أورده أسلافهم، بل هم عادة ما يبنون عليها، ويستفيدون منها إلى أقصى قدر ممكن.

ولنأخذ مثالاً فكر ماكس فيبر عالم الاجتماع السياسي الألماني الشهير الذي لا نزال في علم السياسة نبني على ما أورده من مقولات حول الشرعية. بهذا الصدد أورد ماكس فيبر تصنيفاً ثلاثي الأبعاد لمصادر شرعية السلطة السياسية، هي: أولاً، التقاليد، وهي القبول بالحكم الناتج عن الممارسة المستمرة للسلطة السياسية، بمعنى الحكم بالوراثة.

وثانياً الكاريزما، وهذه يدخل فيها دعم واسع لشخص ما بسبب شخصيته الكارزمية القوية وديناميكية صفاته وأفكاره الشخصية. ومصطلح كاريزما يعني هِبة من الخالق، عز وجل، لشخص ما صفات تميزه عن غيره يتحلى بها هو وحده عن بقية البشر، وهي مصطلح من أصول لاتينية برز وانتشر في أول ظهور التاريخ الميلادي.

وثالثاً، وأخيراً هو المصدر العقلاني - الرشيد، وهذا يشمل القبول بحق شخص ما في الحكم أو في اتخاذ القرار استناداً إلى وصوله إلى السلطة السياسية عبر نمط من الإجراءات المحددة المعدة، وفقاً للقانون السائد كالانتخابات العامة، أو حيازة نوع من المؤهلات الاحترافية، أو ممارسة الحكم بوسائل كفوءة وفعالة وعادلة لا تمييز فيها. وهذه تمثل عوامل تحدد طاعة سياسية حقيقية وسلطة شرعية. ويلاحظ أن المصادر الثلاثة آنفة الذكر للشرعية تنطبق ليس فقط على سلطة الحكم السياسي، ولكن أيضاً على الممارسات المتعلقة بالسلطة في أية مؤسسة، وهي ليست بالضرورة أن تفرق عن بعضها بعضاً.

***

د. عبد الله جمعة الحاج - كاتب إماراتي

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 فبراير 2025

 

طلقات الكلمات، في معركة البحث عن وصفات للخروج، من ربقة التخلف والارتباك، التي تعيشها بعض البلدان في المنطقة، لها أصوات ترتفع من حين إلى آخر. مفكرون ومثقفون وصحافيون، يلهجون بكلمات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويقدّمونها على أنها الحبة السوداء السحرية، الشافية لكل ما تعانيه الشعوب من وهن وتخلف. تراجعت صرخات الشعارات، وغابت ثورات الأحلام. لكن الصخب الجدلي، لا يغيب في ألسنة تغرد بما يتزاحم في الأفواه من أطروحات ونظريات وجدل لا ينقطع. الدين كانت له مساحة واسعة وما زالت، في سوق البحث عن الرافعة السحرية، إلى أعالي النهوض والتقدم. الإسلام هو الحل. هكذا! كبسولة صغيرة تضعها بعض الأصوات الإسلامية، تحت تجويف حلمها، لتصير في قوس زمن مضغوط، أمة فوق المتفوقين والمتقدمين. صوت آخر يزغرد في أفواه من أطلقت عليهم، صفة المثقفين والمفكرين. العلمانية هي الحل، وتلك كلمة يمكن وصفها، بسائل الحروف المُعبأ في حقنة، تعطى تحت الجلد، فتفعل فعلها بعد وقت قصير. وطيس المبارزة بين الكلمات المعبأة في الأفواه، يحدوه التنابز بالقول والكتابة، وكثيراً ما كان للدم فيه حضور. المتطرفون السلفيون يطلقون على القائلين بالعلمانية، البارود الصوتي الذي قد يتحول، طلقات حية قاتلة. يصفون العلمانيين بالكفرة الملحدين أعداء الدين، في حين يرشحهم العلمانيون بغبار التهم الحارقة، فهم يجرّون الأمة إلى أزمنة كانت ثم غابت، ولا يمتلكون عقولاً لها عيون، ترى ما يرتفع في ساحات الأمم المتقدمة. الدولة وصفاتها ومكوناتها، هي الهوية الأساسية، التي يتعارك المختصمون حولها. هل تكون إسلامية شريعتها وقوانينها تقوم على الدين، أم تُؤسس وفقاً لتشريعات يسنّها الناس عبر ممثليهم، بما يستجيب للإكراهات الحياتية المتغيرة والمتجددة؟

الدولة تكوين سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، يبنيه شعب واحد مجتمع فوق أرض لها حدودها المعترف بها دولياً، وتديره حكومة يوليها الشعب أمر قيادته، وفقاً قواعد دستورية يرتضيها الجميع. الدولة الحديثة تقوم على ركائز مؤسساتية، تحقق المساواة بين الجميع. المواطنة هي القاعدة القانونية المقدسة في كيان الدولة. كل المواطنين متساوون. لا تفريق بين مواطن وآخر، على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الطبقة. سيادة القانون قوة لا تطولها مصالح الحاكم. في القرون السابقة لم تقم الدولة. كان هناك سلطة مطلقة في يد من يحكم، لا يكبحها كابح. في عهد الإمبراطوريات، كان السلاح وحده من يرسم خطوط حدود الكيانات السياسية. الدولة الحديثة تكوين وُلد في أوروبا في القرن السابع عشر، قبل اتفاقية واستفاليا لم تتخلق الدولة الحديثة، لا في أوروبا ولا في غيرها. الإمبراطوريات كانت سلطات ولم تكن دولاً. من الإمبراطورية الرومانية، إلى الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية وغيرها. في الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة، البريطانية والإسبانية والفرنسية، قامت دول في المركز، لكن مستعمراتها، كانت مساحات تمارس فوقها السلطة الاستعمارية.

اتفاقية واستفاليا الأوروبية التي تم توقيعها في 24 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1648 بمونستر واستفاليا في ألمانيا، أنهت الحرب التي استمرت 30 سنة، بين كيانات أوروبية متصارعة، وكان محركها الأكبر الصراع المذهبي الديني بين المسيحيين. تسببت تلك الحرب في موت الملايين والمجاعة والهجرة الواسعة والدمار. أهم نتائج الاتفاقية، الاعتراف بالمذهب البروتستانتي والكالفيني، إلى جانب المذهب الكاثوليكي، وقاد ذلك الاعتراف إلى إنهاء الصراع الديني، وتم الاتفاق على استرداد الممتلكات البروتستانتية التي استولى عليها الكاثوليك. حق المواطن في اختيار العقيدة التي يريدها، كان نقلة جوهرية طوت صفحة الصراع الديني الدموي. أدى ذلك إلى تراجع سلطة الكنيسة، وتدخل البابا في الشؤون السياسية، الاعتراف بسيادة الدول وتكريس مبدأ المساواة بينها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتأسيس التمثيل الدبلوماسي بين الدول، وتعيين السفراء. أسست هذه الاتفاقية لوضع قواعد الكيانات الوطنية في أوروبا الجديدة. تراجعت حقبة القرون الوسطى، التي تُرسم فيها حدود الكيانات السياسية بقوة السلاح، وجرى وضع قواعد جديدة في العلاقات بين الدول. هل أسست هذه الاتفاقية لما أُطلق عليه، الدولة العلمانية بفصل الدين عن الدولة؟ المعتقد سواء كان ديناً سماوياً، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، أو مجموعة من الحِكم والمأثورات المقدسة، مثل البوذية والكونفوشيوسية، لها فعلها القوي والدائم في عقول البشر وسلوكهم، وتشكل الهويات التي تجمع الساكنة على أرض واحدة، وتصنع الفروقات بين الأمم. لا يمكن فصل الدين عن المجتمع وحياته، ولا يغيب تأثيره عن النشاط الإنساني العام. في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، عبَّأ المرشح الرئاسي دونالد ترمب، قوة الدين في حملته الانتخابية. هاجم المثلية بقوة، وطرح وضع ضوابط للإجهاض، وركز في حملته الانتخابية على القيم المسيحية. في الولايات المتحدة يقسم الرئيس يوم تنصيبه على الإنجيل، ويؤدي الصلاة في الكنيسة قبل دخوله إلى الكونغرس في حفل التنصيب. في الصين الشعبية الشيوعية، تلاشى كتاب ماو تسي تونغ الأحمر، وعادت حِكم كونفوشيوس إلى المجتمع الصيني. بعد الحرب العالمية الثانية برزت الأحزاب الديمقراطية المسيحية في إيطاليا وهولندا وألمانيا في الحياة السياسية. كما تكونون يولّى عليكم. هناك من يذهب إلى أن هذا القول حديث شريف، وهناك من يقول إنه حكمة قيلت قديماً. الدولة تكوين إداري وطني عالٍ، يسمو على الآيديولوجيات والعقائد، لكنه لا يلغيها أو يتجاهل تأثيرها.
***
عبد الرحمن شلقم
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:
السبت - 09 شَعبان 1446 هـ - 8 فبراير 2025 م

 

حين تواجه المجتمعات البشرية أيّة مستجدات تاريخية معاصرة، تلجأ إلى حلول مستقبلية؛ أما العودة إلى الماضي بغرض إيجاد حلّ لمشاكل راهنة، فهذا قد يزيد الأمور تعقيداً.

يعتمد دعاة الماضوية بحثاً عن تشريعات تناسب الحاضر إلى إضفاء طابع مثالي على الماضي، مما قد يضفي صورة رومانسية وتبريرية على الصراعات الدامية والتناحرات على السلطة السياسية والدينية.

الحنين إلى الماضي والرغبة في استحضاره، صفة بلا أيديولوجيا محددة، فنجدها في الليبراليين الذين يشتاقون لزمن الملكية في البلاد العربية ويصورونها مدينة فاضلة، ونجدها في الاشتراكيين الذين يشتاقون لزمن تأسيس الجمهوريات ويصورونها كنموذج للعدالة المثالية، كما نجدها في أصحاب مشروع الخلافة الإسلامية سواء الكاملة أو الجزئية.

العودة إلى الماضي والرغبة في إسقاطه على الحاضر ترتبط بحالة الاشتياق لزمن لم تره الأجيال التي تشتاق إليه إلا من خلال قراءات وتصورات ذهنية قد تصيب أو تُخطئ.

كما أنّ قراءة التاريخ المتأنية لا تتم من خلال ما ورد على لسان النخبة المسيطرة على تدوين التاريخ حينها؛ بل من خلال قراءة وفهم روايات المغلوبين على أمرهم في هذه الأزمنة.

ربما لا تكون الأزمة نفسها في الماضي؛ فالماضي ابن زمانه وظروفه، بل تكمن الأزمة في استحضار الماضي والتمسك به على اعتبار أنّ تكراره صالح بكافة تفاصيله للزمان المعاصر.

هل تتجلى النظرة الماضوية في التشريعات المعاصرة؟

التطور سنّة الحياة؛ لهذا فإنّ إعادة صياغة القوانين الـُمنظمة للمجتمعات المعاصرة في حاجة مستمرة إلى التعديل، وفق معايير الحياة على الأرض المتغيرة، لا السماء الثابتة في التصورات الذهنية للمؤمنين على اختلاف عقائدهم الدينية.

لهذا لجأت عديد من بلدان العالم إلى فصل التشريعات المدنية عن النصوص الدينية، كون تلك النصوص قد شرعت في زمان ومكان لا علاقة لهما بظروف العالم المعاصر؛ ولتناسب أحوال مجموعة محدودة من البشر في مكان جغرافي بعينه، لكنّها في ذات الوقت اكتسبت قداسة بفعل الزمن والوحي.

تهدف تلك التشريعات المدنية، لا إلى الهجوم على المقدسات الدينية، لكن إلى التطور بعيداً عن حدود التأويلات الدينية التي قد تكبّل، في بعض الظروف، هذا التطور البشري.

اللجوء مثلاً لفتاوى دينية بشأن استخدام الهندسة الوراثية، أو مواكبة التطور العلمي، يعرقل مسيرة التقدم الذي لم يعد ينتظر المباركة السماوية بحسب تصورات بعض البشر.

بعد أن تنامت البشرية، لم تعد احتياجات مئات أو آلاف البشر مثل احتياجات شعوب بالملايين تعيش في واقع مختلف؛ حيث إنّ واقع البشر نسبي وليس مطلقاً، لهذا يعاد النظر في القوانين المنظمة لأحوال البشر بين الحين والآخر، تحت مسمى "التعديلات الدستورية أو القانونية"، وطالما وجدت التعديلات التشريعية، انتفت الحاجة إلى نصّ يناسب كلّ زمانٍ ومكان؛ لأنّ كلمة "التعديل" تتنافى مع فلسفة "الثابت" الذي يلائم كلّ زمان ومكان.

لذلك تمّ وضع العقلانية المعاصرة في التشريع في حالة تضاد مع الروحانيات، لكنّ العقلانية لا تتنافى مع الروحانيات والروحانيات لا تتنافى مع العقلانية، طالما يتمّ وضع كلّ منهما في إطاره، مع القدرة على التمييز بين التشريع العام والعقيدة الدينية الخاصة.

أزمة المدنية الحديثة وتجديد الخطاب الديني

لكنَّ دعوات الفصل بين التشريعات المدنية والنصوص الدينية، كحلّ لإشكاليات الواقع، واجهت تحديات عدة، لهذا شاع بين الأئمة المدافعين عن أزلية النصّ الديني شعار "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان"، وهي عبارة تمّ رصدها مجازاً في أدبيات حسن البنا (1906-1949)، مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فـنسبت إليه كونه كان يرى أنّ الإسلام عقيدة ووطن وجيش كما ورد في رسالة التعليم التي سطّرها العام 1937.

كما أكّد الشيخ يوسف القرضاوي على المقولة، من خلال كتابه "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" (1972)، وكان كتاباً بأسانيد ضعيفة، إن أخضعناه لمنهجية البحث الأكاديمي، فهو يستنبط الأحكام من الشريعة وحدها، فأصبحت الشريعة هي المصدر والـحكم في الوقت ذاته، وهي إشكالية واجهها التاريخ الإسلامي على مرّ زمانه.

رغم أنّ عبارة "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" نسبت للبنا في إطار حديثه عن شمولية الشريعة؛ أي احتواء الشريعة على كلّ التشريعات اللازمة للإنسان وتنظيم حياته في كلّ الأزمنة والأماكن والظروف، إلا أنّ أول من صكّها كان الشيخ عبد العزيز جاويش (1876- 1929) من خلال كتابه "الإسلام دين الفطرة والحرية" العام 1905.

صاغ الشيخ عبد العزيز جاويش هذه العبارة تحت مظلة الحديث عن مرونة الإسلام في التأقلم مع مستجدات الحياة، إلا أنّه عاد ليؤكد أنّ الدين لا يختلف في أصوله، وإنّما في أحكامه الفرعية، وهنا تتنافى "المرونة" مع "الثبات"؛ لهذا خرج جاويش من هذه الإشكالية بالحديث عن المرونة في الأحكام الفرعية فقط.

هكذا أصبح الهدف هو الانتصار للنصّ الجامد، وليس للإنسان الذي شرع من أجله النصّ في زمان ومكان مختلفين؛ فإنسان الحاضر ليس إنسان الماضي، وإنسان شبه الجزيرة العربية ليس ذاته الإنسان الذي يعيش في منطقة جغرافية أخرى، ونساء القبائل التي شهدت الوحي لسن مثل النساء العاملات اليوم. 

هذا الأمر أوقع المدنيّة العربية الحديثة في فخّ المصطلحات، ومن بينها مصطلح التجديد الديني، فتجديد الخطاب الديني، إن صحّ التعبير، هو شأن اجتهادي ضروري، لكنّه شأن اجتهادي لا بدّ من فصله عن شأن المواطنة؛ فالاجتهاد أمر ديني وليس وطنياً، والهدف من الاجتهاد هو تبنّي الحداثة ومقاومة الاندثار؛ لأنّ ما لا يتطور يندثر.

لكنّ الاجتهاد الفقهي، الذي يفرض تصوراته من خلال تشريع قانوني، لا يعدّ اجتهاداً، بل هو شكل من أشكال الثيوقراطية المعاصرة، حتى إن كان ذلك الاجتهاد يميل للتحرر من فتاوى ماضوية أصولية بشكل نسبي.

ربما تختلف الصياغة الدستورية في عدد من البلاد العربية، لكنّها تدور في فلك متشابه، وهو فلك ما يسمى بالديمقراطية الإسلامية، والتي تأتي فيها قيم المساواة والحريات في إطار ما يشرعه فقهاء الإسلام بتأويلاته المختلفة فقط؛ لذا فهي ديمقراطية ترتكز إلى مفهوم "دار الإسلام" لا مفهوم المواطنة الكاملة.

ودولة المواطنة ليست منوطة بإيمان المواطنين من عدمه بالنصوص الدينية، بل هي منوطة بتحقيق مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة بغضّ النظر عن النصّ الديني، أياً كان مصدره.

هل يعيب التشريعات البشرية حاجتها للتعديل؟

يرتكز دعاة التمسك بالتأويلات الفقهية إلى فلسفة مفادها أنّ "المشرع هو الله"، وينكر المدافعون عن هذه الفلسفة أيّ حقّ للإنسان في تقرير مصيره بعيداً عن الوحي.

دعاة فلسفة "المشرع هو الله" يستندون إلى قصور العقل البشري وضعفه في التشريع، ويقدمون حجتين كدليل يبرهن تلك النظرية.

الحجة الأولى: "القرآن والسنّة": مما يعود بنا إلى أزمة إثبات النصّ بالنصّ، واعتبار النص حجة مطلقة، لا تخضع لمنهجية خارج حدود النص القرآني، فيتمّ الاستناد إلى قوله تعالى: ﴿إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء: الآية 9]، و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغة﴾ [سورة البقرة: الآية 138]، كحجة على صلاحية التشريع الديني لكلّ زمان، لكنّ هاتَين الآيتين لا تثبتان العجز الإنساني في التشريع بالضرورة.

الحجة الثانية: تعتمد على قصور العقل البشري على التشريع، بسبب عجز التشريعات البشرية عن الاستمرار إلى أبد الأبدين، واحتياجها للتعديل المستمر، ويستند دعاة هذه الحجة إلى قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء: آية 28].

ويمكن دحض هذه الـحجة ليس بمحاولة إثبات أنّ التشريعات البشرية تصلح لكلّ زمان ومكان، وإنما بفهم طبيعة التشريعات البشرية القائمة على تغيّر الزمان والمكان، بالتالي حاجة التشريعات إلى تعديلات مستمرة، وهذا أمر غير معيب؛ لأنّ التطور سمة إيجابية.

احتياج التشريعات المدنية للتعديل ليس فشلاً في تشريع البشر، وإنما يعبّر عن تغيّر الظروف الحياتية وبلوغ المجتمعات درجة من الوعي بضرورة التأقلم والتطور مع مستجدات الحياة؛ لذلك فإنّ المقارنة بين التشريع المدني الخالص والتشريع المستند إلى نصّ ديني، هي مقارنة تمت على أساس غير صحيح؛ لأنّها مقارنة تتحدى البشر بالإتيان بنصّ صالح لكلّ زمان ومكان، ليضاهي النصّ القرآني أو الحديث النبوي الصحيح، إلا أنّ النص القرآني نفسه يكون مشروطاً ظرفياً وليس بالضرورة قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، والدليل على ذلك؛ تعطيل بعض النصوص الدينية لتعذر تطبيقها (مثل الحدود الواردة في القرآن بنصّ قطعي الدلالة)، ما ينفي صلاحية تطبيقها الأبدي، وكما هو الحال في تعطيل آية الجزية على غير المسلم، فلم يعد غير المسلم في حالة اختيار بين إشهار الإسلام أو دفع الجزية؛ حيث انتفت الظروف المزامنة لهذه التشريعات.

***

رباب كمال - كاتبة مصرية

عن موقع حفريات، يوم: 02/02/2025

طالعتنا صفحة ثقافة وفنون بـ«الشرق الأوسط» بتاريخ 11 يناير (كانون الثاني) 2025، بقراءة ممتعة في كتاب أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والمترجم الدكتور محمد فتحي الشنيطي، الذي يحمل عنوان «فلسفة هيوم بين الشك والاعتقاد»، والدكتور الشنيطي من المثقفين الموسوعيين الذين عُرفوا في النصف الثاني من القرن الماضي، فقد كتب في الفلسفة وعلم النفس والمنطق وغيرها من المجالات وترجم عدداً ليس بالقليل من النصوص الفلسفية من الأمهات، لكن بخسته الأيام حقه من الشهرة.

أما ديفيد هيوم فهو أحدُ عشرة كان لهم التأثير الأعظم في كل تاريخ الفلسفة، وقد كتب جايمس ستيرلنغ ذات مرة: «إن هيوم هو سياستنا، وهيوم هو تجارتنا، وهيوم هو فلسفتنا، وهيوم هو ديننا، وليس بعيداً إن قلت إن هيوم هو ذوقنا». هذا التصريح من أحد فلاسفة القرن التاسع عشر يجلّي المكانة الفريدة التي احتلها الفيلسوف الاسكوتلندي هيوم في تاريخ الفكر. ويرجع جزء من شهرته وأهميته إلى نهجه الشكوكي الجريء في التعامل مع عدد من الموضوعات الفلسفية. ففي نظرية المعرفة، شكك في المفاهيم الشائعة عن الهوية الشخصية، وزعم أنه لا توجد «ذات» دائمة تستمر بمرور الوقت؛ إذ لا نجد إلا إحساسات متتابعة لا يلزم منها وجود ذات تقف خلفها.

ورفض هيوم السببية وكان يرى أن مفاهيمنا للعلاقات السببية ترتكز على عادات التفكير، فقد اعتدنا أن نرى الشمس كل يوم وهي تشرق لكن لا يلزم أن تشرق كل يوم في المستقبل. وعادة التفكير هذه لا تقوم على إدراك القوى السببية في العالم الخارجي نفسه.

ودافع هيوم عن موقف أساتذته الشكوكيين القائل بأن العقل البشري متناقض بطبيعته، وأنه من خلال المعتقدات الطبيعية فقط يمكننا أن نتطور ونشق طريقنا في الحياة المشتركة. في فلسفة الدين كان له موقف مخاصم من الديانات والمعجزات. وعلى عكس الاعتقاد الشائع في ذلك الوقت بأن وجود الله يمكن إثباته بالحجة السببية، تقدم هيوم بانتقادات للأدلة التوحيدية. ودرس نظرية حول أصل المعتقدات الدينية الشعبية، وأسّس مثل هذه المفاهيم على علم النفس البشري بدلاً من الحجة العقلانية أو الوحي الإلهي. ويُحال الهدف الأكبر من انتقاده إلى رغبته في فصل الفلسفة عن الدين، وبالتالي السماح للفلسفة بملاحقة غاياتها دون إفراط في العقلانية.

في النظرية الأخلاقية، وقف ضد الرأي الشائع القائل بأن الدين يلعب دوراً مهماً في خلق وتعزيز القيم الأخلاقية، وكانت نظريته واحدة من أوائل النظريات الأخلاقية العلمانية البحتة، وبها رد الأخلاق إلى النتائج السارة والمفيدة التي تنتج عن أفعالنا.

لقد أدخل هيوم مصطلح «المنفعة» إلى القاموس الأخلاقي، وكانت نظريته بمثابة السلف المباشر لمذهب المنفعة العامة الذي تبناه جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل، حيث حوّل هؤلاء الفلاسفة البريطانيون مذهب اللذة الفردية عند أرسطبوس وأبيقور إلى مذهب لمنفعة الجميع. وهو مشهور بموقفه القائل بأن الالتزام الأخلاقي لا يمكن استنتاجه من الواقع، وكان من أوائل المؤيدين لنظرية الأخلاق العاطفية القائلة بأن الأحكام الأخلاقية تعبّر في الأساس عن مشاعرنا الشخصية.

وفي مضمار آخر، أبرز مساهمات مهمة في النظرية الجمالية برأيه القائل بأن هناك معياراً موحداً للذوق داخل الطبيعة البشرية.

وفي النظرية السياسية اشتهر بنقده لنظرية العقد الاجتماعي، وفي النظرية الاقتصادية عُرف بآرائه المناهضة للسياسة الاقتصادية القومية التي تهدف إلى تكثير الصادرات وتقليل الواردات في الاقتصاد. وبصفته مؤرخاً فلسفياً، دافع عن الرأي المحافظ القائل بأن الأفضل أن تدير الحكومات البريطانية ملَكية قوية.

لكي نفهم موقفه المخاصم للميتافيزيقا ينبغي أن نعلم أنه كان من أكبر المصدومين بالثورة العلمية كفيلسوف، فالفيزياء والرياضيات حققتا نجاحاً باهراً، بينما بقيت صنعة الفلسفة تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، يأتي فيلسوف فينسف ما قيل قبله محاولاً أن يشيد بناء جديداً فيأتي بعده فيلسوف آخر فينسف كل ما قال سابقه. ذلك أن الفلسفة ليست علماً بالمعنى الذي صرنا نعرفه اليوم، وليست تراكمية، ولا تتطور. هذا ما ينبغي أن يدركه كل مهتم بالفلسفة. هذه الصدمة جعلت هيوم يكتب: «إذا رأيت كتاباً في الميتافيزيقا فألقه في النار».

علينا أن ننتبه حين نقرأ لمن لا يعيش في زماننا إلى أنه قد يقصد بالمصطلحات ما لا نفهمه منها اليوم. فالميتافيزيقا لا تعني اليوم «عالم الغيب» كما كان اللاهوت يفسرها في زمانه. الميتافيزيقا هي حوض تسبح فيه كل المفاهيم المجردة المجاوزة للحس. والفيزيقا هي عالم الحس أو عالم الطبيعة وبالتالي لم تعد اليوم فلسفة، بل انخرطت كلية فيما نسميه اليوم بالعلم التجريبي الطبيعي المادي. لقد انتزع العلماء هذه المساحة من أيدي الفلاسفة.

أما الميتافيزيقا فهي كل ما سوى ذلك، هي كل ما وراء الطبيعة، وهي أيضاً ليست منعزلة عن العلم، بل العلم بدوره لا يستطيع أن يستغني عنها فقد خرج من ذات الحوض. وقد كان آينشتاين غارقاً في الميتافيزيقا ولا يتحرك من دونها في صناعة نظرياته العلمية، يتقدم بفرضية عقلية ميتافيزيقية ثم يسعى لإثباتها أو نفيها فيما بعد. تماماً مثلما فعل بنظرية الأثير الحامل للضوء وكيف تبناها ثم نسفها في عام 1905.

لم يكن هيوم عدواً للميتافيزيقا بإطلاق، بل كان عدواً للميتافيزيقا التقليدية السائدة في زمانه. وبالنسبة لأمر الدين هو قطعاً ليس بمسيحي؛ فهو ينكر المعجزات، لكنه ليس بملحد أيضاً، والأقرب أنه كان ربوبياً يؤمن بوجود الله، فقد ذكر الإله في ثلاثة مواضع من نصه الفلسفي، وفي موضع ذكر أنه لم يلقَ أحداً من الملحدين وأنه لم يكن يستسيغ ثقتهم بعقيدتهم. وهذا هو موقف الشكوكي، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

***

خالد الغنامي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 فبراير 2025 م ـ 03 شَعبان 1446 هـ

3 من كبار محرِّري الروح البشرية

دعُونا نتحدث هنا عن ثلاثة من كبار الشخصيات التي غيَّرت مجرى التاريخ البشري: الأول هو المصلح الديني الألماني الشهير مارتن لوثر الذي هز عرش البابوية وطهَّر المسيحية من كل الأدران والشوائب التي لحقت بها وشوَّهت سمعتها. والثاني هو رينيه ديكارت، أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. والثالث هو جان جاك روسو، السويسري الأصل الذي فجَّرت أفكاره الثورة الفرنسية وأصبحت كتبه إنجيلاً هادياً لها.

والآن لندخل في التفاصيل قليلاً. ماذا فعل لوثر بالضبط؟ ولكن قبل ذلك ينبغي أن نُجيب عن سؤال آخر: متى أصبح لوثر لوثراً وكيف؟ أي متى وُلد الولادة الثانية وأصبح ذلك المصلح الديني الشهير الذي أسَّس ديناً جديداً تقريباً هو: البروتستانتية؟ كان الرجل يعيش أزمة نفسية حادة جداً، بل مدمِّرة في شبابه الأول. وقد استمرت هذه الأزمة النفسية سنوات وسنوات حتى أقضَّت مضجعه وهددت وجوده ووصلت به إلى حافة الجنون. ولكن في آخر لحظة وقبل أن يحصل ما لا تُحمد عقباه حصل الانفراج الكبير. اشتدِّي أزمة تنفرجي... عندئذ قال هذه العبارة المؤثرة: «ثم حنَّ الله عليَّ»... كان مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة ببرج الكنيسة، وفجأة ينزل عليه الإلهام الصاعق فينقذه من أزمته النفسية المتفاقمة التي هدَّته هدّاً. وعندما حصل الإلهام الصاعق وحنَّ الله عليه قال عبارته الشهيرة: «والله شعرت في تلك اللحظة بأن أبواب الجنة قد فُتحت أمامي على مصراعيها». ما أجملها من لحظة، أعظم لحظة في التاريخ: لحظة اللحظات. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مارتن لوثر بطل ألمانيا ومدشن الإصلاح الديني في كل أنحاء أوروبا.

هذا هو الإلهام الصاعق بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه يتلخص في كلمة واحدة أو بالأحرى كلمتين: انعتاق الروح. إنه يعني أن الروح القلقة، الروح المتوترة، الروح المعذبة، الروح المدعوسة، الروح المحطَّمة... قد انعتقت فجأة من أغلالها وأصفادها. هذا هو الوحي بالمعنى الفلسفي أو التحليلي النفسي للكلمة. وهي تجربة روحية هائلة لا تعرفها على مدار التاريخ كله إلا نخبة النخبة أو صفوة الصفوة. ومَن يعش تلك اللحظات لا ينساها. هذا الشخص الذي كان محطماً نفسياً قبل أن ينزل عليه الإلهام الصاعق يتحول فجأة إلى قوة جبروتية لا تناقش ولا ترد. ما قبل لحظة الوحي شيء وما بعدها شيء آخر. ما قبلها كان نكرة من النكرات وما بعدها أصبح أعظم شخصية في تاريخ ألمانيا.

وأما ديكارت الذي ظهر بعده في القرن السابع عشر، فقد شهد تجربة الإلهام الصاعق أيضاً. نقصد تجربة الوحي بالمعنى الفلسفي والتحليلي النفسي للكلمة. وعلى أثرها قام بالانقلاب الكبير على أرسطو المدجَّن من الكنيسة، ودشَّن الفلسفة الحديثة وأصبح قائداً فكرياً لكل أوروبا وليس فقط لفرنسا. كتابه الشهير «مقال في المنهج» أصبح الدليل الهادي لكل الشعوب الأوروبية التي كانت حائرة ضائعة. ثم يقولون لك: ما نفع المثقفين؟ إنهم منارات الشعوب إذا كانوا من عيار ديكارت الذي وصفه هيغل مرة قائلاً: «إنه البطل المقدام للفكر». كيف حصلت قصته مع الإلهام الصاعق؟ كيف عاش ديكارت تلك التجربة الحاسمة؟ تقول الأخبار ما يلي: كان أيضاً مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة المدفأة في عز الزمهرير. في تلك الليلة الليلاء من 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1619م كان ديكارت على موعد مع القدر. فقد رأى ثلاثة أحلام مرعبة هزَّته هزاً وكادت تودي بعقله. لقد أوصلته إلى حافة الجنون. وجعلته يستيقظ مذعوراً فيرتجف ويخرج عن طوره ويصبح مثل ريشةٍ في مهبِّ الرياح. ولكن الأمور بخواتيمها كما يُقال. فقد انجلت الأعاصير عن صحو رائع وتجلت الحقيقة لفيلسوف الفرنسيين ساطعة كقرن الشمس. لقد رآها وجهاً لوجه. لقد كحَّل عينه بمرآها. وعندئذ خرَّ راكعاً ساجداً وعرف أنه وصل. عندئذ عرف أنه أصبح مكلفاً بهداية البشرية الأوروبية على طريق الحقيقة. عندئذ أصبح ديكارت الضائع الهائم على وجهه في الطرقات والدروب ذلك الفيلسوف العظيم الذي نعرفه. يقول واصفاً تلك الفترة: «كنت كمن يتقدم وحيداً في بحر من الظلمات. كنت كمن يخبط خبط عشواء. كنت كمن يمشي على خيط رفيع جداً جداً ويكاد يسقط في الهاوية في أي لحظة». ولكن العناية الإلهية التي تحكم العالم وتُطلّ عليه من فوق أنقذته. هل تعرفون ماذا فعل عندئذ؟ لقد قرر الحج إلى مقام القديسة دو لوريت التي تجسد مريم العذراء في إيطاليا. نعم، نعم، ديكارت الفيلسوف العقلاني الشهير، بل أبو العقلانية، تحول إلى حاجٍّ عاديّ يزور مزارات القديسين والقديسات ويتبرَّك بها. صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، أنتم أحرار. وذلك لأنه لم يكد يصدق أنه نجا بجلده. ينبغي العلم أن تلك الهدية التي نزلت عليه في تلك الليلة الليلاء كانت بمثابة كنز الكنوز، كانت أكبر هدية يمكن أن يحلم بها أي مثقف على وجه الأرض. إنها الحقيقة الجوهرية التي لا تعطي نفسها إلا كل مئة أو مائتي سنة للعباقرة والعظماء. عندئذ قرر ديكارت الانقلاب على كل الأفكار التقليدية التراثية التي تلقَّاها عن طفولته وعائلته وكنيسته وشيوخه... إلخ. عندئذ قرر بناء المعرفة على أسس علمية صحيحة راسخة. وعندئذ قال عبارته الخطيرة، وربما أخطر عبارة في تاريخ الفلسفة: «ولذلك قررت أن أدمِّر كل أفكاري السابقة القائمة على النقل لا العقل». فما دامت الأفكار التراثية القروسطية مهيمنة على عقولنا فلا حل ولا خلاص. وقال أيضاً عبارة أخرى ذهبت مثلاً: «ينبغي أن نصبح أسياداً على الطبيعة ومالكين لها». وهذا ما تحقق لاحقاً من خلال سيطرة الغرب على العلم والتكنولوجيا وتحقيق تفوقه على العالم كله. والفضل في كل ذلك يعود إلى ديكارت. هو الذي أعطى المفتاح والمنهج.

وأخيراً نختتم هذا الحديث بكلمة عن جان جاك روسو. هو أيضاً عرف لحظة الإلهام الصاعق الذي يحصل فجأة فيزلزلك زلزلةً. هو أيضاً عرف لحظة الانفراج الكبير بعد طول احتقان. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح قائداً للعصور الحديثة. بمعنى أن نظرياته الفلسفية عن الدين والتربية والسياسة والأخلاق أصبحت إنجيلاً هادياً للشعوب الأوروبية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. كيف حصلت تلك اللحظة؟ وأين؟ كان سائراً على الطريق الفاصل بين باريس وضاحية «فانسين» الجميلة الشهيرة. وهي الضاحية التي عشت بالقرب منها أيام زمان، أو قُلْ كنت أطلّ عليها من بعيد، من الشباك. وفجأة تجيئه اللحظة، لحظة المخاض، فينبطح أرضاً. أحسّ كأن صاعقة قد ضربته فدارت الدنيا في عينيه وداخ قبل أن يسقط مغشياً عليه تحت شجرة. وعندما استفاق من غيبوبته التي استمرت نحو نصف ساعة تلمَّس جسمه فشعر بأن قميصه أو صدره مبلل كلياً بالماء. وعندئذ عرف أنه كان يسفح الدموع دون أن يدري. لقد وصل جان جاك روسو. لقد تجلت له الحقيقة عيناً بعين. ولكن هناك أشياء أخرى رآها بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والغيبوبة. رأى آلاف الأفكار والأنوار والأضواء تنهمر عليه من كل حدب وصوب. وعن تلك اللحظة الحاسمة نتجت كل كتبه اللاحقة التي حلَّت عقدة التاريخ ونوَّرت العالم. يقول بالحرف الواحد: «بدءاً من تلك اللحظة رأيت كونا آخر، وأصبحت رجلا آخر». وبدءاً من تلك اللحظة أصبح هذا الشخص المجهول النكرة ذلك النجم الأدبي والفلسفي الشهير الذي خلَّدته كتب التاريخ تحت اسم: جان جاك روسو. يقول فيكتور هيغو: «تلك التفاهات التي كنت أكتبها قبل ولادتي». المقصود قبل ولادته الثانية عندما أصبح عبقرياً. لكن على أثر هذا الاكتشاف الخارق ماذا حصل لجان جاك روسو؟ هل صفقوا له يا ترى؟ هل مجَّدوه؟ هل رحَّبوا به؟ العكس تماماً. لقد لاحقوه من مكان إلى مكان، لقد وضعوه على حد السكين، لقد أقضُّوا مضجعه. وتحققت تلك المقولة الشهيرة: لا نبيَّ في قومه. لم يغفروا له إصراره على قول الحقيقة الجارحة ضد الأغنياء والأقوياء في فرنسا الرجعية الأصولية الظلامية. كل الأصوليات الكاثوليكية والبروتستانتية كانت تمزق كتبه عن الدين المسيحي وتحرقها. لقد احمرَّت عليه الأعين عن جد وكادوا يفتكون به لولا عفو الله. لقد زعزعوه وأرعبوه وكفَّروه وأرهقوه بالملاحقات الضارية. لقد حوَّلوا حياته إلى جحيم. على هذا النحو دخل جان جاك روسو في معمعة لا أول لها ولا آخر. ولم يعد يعرف من أين تجيئه الضربات، ولا كيف تصطرع حوله الأجهزة والمخابرات.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 فبراير 2025 م ـ 03 شَعبان 1446 هـ

لا أدري متى ابتليتُ بلوثة الورق العتيق. أدور في أسواق العاديات وأتوقف عند الرسائل القديمة والمجلات التي اصفوفرت صفحاتها. من كان يصدِّق أن أقع في سوق البراغيث في باريس (هذا هو اسمه) على عدد من مجلة مسامرات الجيب؟ لم أجادل البائع حسبما تقتضي الشطارة في هذه الأماكن، بل اختطفت المجلة ومضيت إلى بيتي سعيدة بغنيمتي.

عمر العدد ثمانون عاماً. وريقاته بلون القمح الذي ضربته الشمس. أمرُّ عليها مرور النسيم لئلا تتفتت. أقلبها باحتراس كأنني أداعب خد حفيدي. أقع على مقال بعنوان «عوفيتْ ليلى ومرضَ الطبيب»، بتوقيع زكي مبارك. يا نهار أبيض! أليس هذا ما نسمعه في الأفلام المصرية؟

وأنا أعرف الدكتور مبارك منذ كنت في الثانوية. لم نلتق لأنه توفيَ وعمري عشرة أيام. سمعت عنه من تلميذته في دار المعلمين العالية في بغداد، معلمتي الشاعرة لميعة عباس عمارة. أديب رقيق درس في الأزهر ونال الدكتوراه في الأدب العربي من الجامعة المصرية. ودكتوراه ثانية من السوربون وثالثة من معهد اللغات الشرقية في باريس. كان لقبه بين الطلاب «الدكاترة زكي مبارك».

اختلف «الدكاترة» مع الدكتور طه حسين، فكرياً وترك الجامعة. عمل في الصحافة ثم سافر للتدريس في العراق. أحيط بالتقدير الذي يستحق وقلدوه وسام الرافدين. كان له كتاب بعنوان «ليلى المريضة في العراق». عاد إلى القاهرة وواصل نشاطه ثم ذات يوم، في أوائل 1952 سقط مغشياً عليه في شارع عماد الدين. بقي غائباً عن الوعي حتى وافته المنية (المصدر ويكيبيديا). ويحدث، بعد 20 عاماً، أن أتعرف على ابنه عبد السلام زكي مبارك، زميلنا الذي جاء للعمل في بغداد، أيضاً.

و«مسامرات الجيب» مجلة راقية. كتب فيها العقاد وطه حسين والمازني والصاوي ومندور ولطفي الخولي والسباعي. وأترك المساحة المتبقية لمقاطع من مقال الدكاترة زكي مبارك:

«يسألونني هل عوفيتْ ليلى؟ والجواب حاضر. عوفيت ليلى ومرضتُ أنا. والناس مختلفون في ليلى. هل هي شخصية حقيقية أم خيالية؟ وجوابي أنه لا يوجد دخان بغير نار. فمن الجائز أن أكون عرفت ليلى في العراق، ومن الجائز أن أكون ابتكرتها. ويصحُّ أن تكون ليلى المريضة في العراق هي ليلى المريضة في الزمالك، أو ليلى المريضة في مصر الجديدة. وحياتي كلها قامت على الغراميات. وأنا أشعر بالدفء حين أعشق. وهذا العشق جعل مني ملك الشعراء وسلطان العاشقين.

هل عوفيتْ ليلى حقاً ومرضتُ أنا؟ إن الأخبار التي عندي أنها لا تزال مريضة، وأنها تنتظر طبيبها، ولكن طبيبها العليل بسبب حبِّها لم يعد يقوى على الذهاب إلى بغداد، وهي بلد الحب وبلد الجمال. وطن ينوح فيه الحمام في كل وقت بسبب قسوة الجو. زارها الأستاذ علي الجارم وسأل عن شارع العباس بن الأحنف وفيه تقيم ليلى. ولم يهتدِ إليها لأن الشارع غير موجود».

***

إنعام كجه جي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 03 شَعبان 1446 هـ - 2 فبراير 2025 م

 

المفكر السنغالي أحد فلاسفة الأنوار في الإسلام المعاصر

ربما كان سليمان بشير ديان أهم مثقف سنغالي في هذا العصر. وهو على أي حال أحد فلاسفة الإسلام المعدودين حالياً. وهو من مواليد 1955 ويحتل الآن منصب أستاذ اللغة الفرنسية والفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد كان مستشاراً خاصاً للرئيس عبدو ضيوف لعدة سنوات متتالية. وبالتالي فهو شخصية وطنية وعالمية في آن معاً. وقد اشتهر منذ أن كان قد نشر كتابه الكبير عن الشاعر والفيلسوف الباكستاني الشهير محمد إقبال بعنوان: «الإسلام والمجتمع المنفتح: القدامة والتجديد في فكر محمد إقبال». كما اشتهر بكتابه الذي صدر لاحقاً تحت اسم: «كيف يمكن أن نتفلسف في أرض الإسلام؟»، وهو يرد على الغرب الذي يتهم الإسلام بالأصولية والتطرف بأنه مخطئ ومتحيز وظالم. فالإخلاص للإسلام والتمسك به لا يعنيان إطلاقاً التطرف، بشرط أن نفهمه بشكل متنور صحيح. وذلك لأن الغرب يجهل أنه يوجد مفهومان للإسلام وليس مفهوماً واحداً: الأول وسطي عقلاني متسامح، والآخر أصولي متشدد. وهذا التمييز الأساسي هو الذي يفصل بين مثقفي التطرف والتعصب من جهة، والمثقفين الحداثيين التنويريين من جهة أخرى. حسن البنا ليس الإمام محمد عبده، وسيد قطب ليس العقاد ولا طه حسين، والقرضاوي ليس محمد أركون. وهذان المفهومان أو التفسيران الكبيران للإسلام متصارعان الآن ومتنافسان في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. بل كانا متصارعين على مدار التاريخ. الغزالي ليس ابن سينا ولا ابن رشد، وابن تيمية ليس ابن عربي ولا الفارابي ولا المعري، إلخ. نضرب على ذلك مثلاً تفسير سورة الفاتحة وبخاصة المقطع التالي: «اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فالمتطرفون في الإسلام قديماً وحديثاً فهموا أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى أو المسيحيون. ولكنَّ هذا تفسير خاطئ تماماً لأشهر سورة في القرآن الكريم. فالمغضوب عليهم والضالون هم كل أولئك الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم: أي عن خط التقى والورع والاستقامة في الفكر والعمل والسلوك. وهؤلاء قد يكونون مسلمين أيضاً لأنه يوجد مسلمون أخيار ومسلمون أشرار، مثلما يوجد يهود أخيار ويهود أشرار، أو مسيحيون أخيار ومسيحيون أشرار. وبالتالي فالتفسير الانغلاقي الطائفي للإسلام خاطئ من أساسه، وهو الذي سيؤدي إلى فشل مشروع الإخوان والخمينيين وكل المتطرفين على الرغم من شعبيتهم في الشارع حتى الآن. وذلك لأنه مضاد لحركة وفلسفة التاريخ. إنه مضاد لروح الأزمنة الحديثة وجوهرها. بل مضاد لجوهر الإسلام نفسه إذا ما فهمناه على حقيقته. ولكن المشكلة هي أنه لا يزال مهيمناً على الشارع حتى الآن ويشكل تياراً جارفاً. انظر زمجرات المتطرفين في كل مكان. انظر تسجيلاتهم النارية الهيجانية المصوَّرة التي يبثّونها على شبكات التواصل الاجتماعي والتي يهددون بها حكوماتهم وبلدانهم. ينبغي العلم أن تراثنا من أعظم التراثات الدينية للبشرية. إنه يعلِّمنا قيم الحق والعدل والقسطاس المستقيم. إنه موجَّه لخير البشرية جمعاء وهدايتها وليس فقط لخيرنا نحن المسلمين. فمتى سنفهمه ونفهم سورة الفاتحة على حقيقتها؟ متى سنخرج من تفاسير العصور الوسطى وندخل في تفاسير العصور الحديثة؟

على هذا النحو نفهم الفرق بين المفهوم الانغلاقي الطائفي للدين، والمفهوم المستنير اللاطائفي للدين ذاته. بهذا المعنى نفهم أن المسلم الحقيقي هو ذلك الذي يُخلص لجوهر الإسلام وسماحته: أي للمعاملة الحسنة ومكارم الأخلاق والانفتاح على الآخرين وعدم تحقيرهم أو تكفيرهم أو ازدراء كرامتهم الإنسانية. وهذا ما نصحنا به الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عندما قال هذه العبارة البليغة: «لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقِّر جميع الخلائق ولا تحتقر مخلوقاً ما دام الله قد صنعه». وهو ما يقوله بشكل آخر الفيلسوف السنغالي المسلم المعتز كل الاعتزاز بإسلامه: البروفسور سليمان بشير ديان.

يرى هذا المفكر أن صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي. ولكن كثرة الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت باسمه في العقود الأخيرة شوَّهت صورته في شتى أنحاء العالم. ولهذا السبب لم يعد يتجرأ أحد على الربط بين الإسلام والفلسفة، أو بين الإسلام والعقلانية، أو بين الإسلام والتسامح، أو بين الإسلام وحقوق الإنسان. لقد حوَّل المتطرفون الإسلام إلى بعبع مخيف يُرعب البشرية كلها، في حين أنه جاء رحمةً للعالمين. لهذا السبب فشل المشروع الأصولي الإخواني - الخميني، ليس لأن الغرب ضده أو العالم كله ضده... إلخ، وإنما فشل لأنه ضد حركة التاريخ. نقطة على السطر.

ثم يضيف هذا المفكر المرموق قائلاً ما معناه: لقد كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة. وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما كانت تخص أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي. كلها كانت لها مشكلات مع الفلسفة. كلها كانت تَعدّ الفلسفة مجرد خادمة ذليلة لعلم اللاهوت الديني. ولكن الفرق هو أن اليهود والمسيحيين في أوروبا تطوروا وغيَّروا نظرتهم بعد عصر التنوير الكبير في حين أن المسلمين ظلوا منغلقين داخل مفاهيم العصور الوسطى التي عفى عليها الزمن. هنا تكمن المشكلة الحقيقية. المسلمون لم يمروا حتى الآن بمرحلة الغربلة التنويرية الكبرى لتراثهم العظيم. ولكنهم أصبحوا على أبوابها!

على أي حال لم يكن من السهل على هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة التي أُقيم لها صرح شامخ في أبوظبي أن تستقبل الفلسفة الإغريقية، لسبب بسيط؛ هو أنها كانت تعد بمثابة فلسفة وثنية كافرة. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة الإغريقية تقدم نفسها على أنها حكمة بشرية وليست وحياً إلهياً نازلاً من السماء. وعلماء الإسلام والمسيحية واليهودية كانوا يتساءلون: هل يمكن أن يوجد فكر بشري يستحق الاعتبار والاحترام؟ ما قيمته بالقياس إلى الوحي الإلهي السماوي الذي نمتلكه والذي يُغنينا عن كل شيء؟ ما قيمة كلام أفلاطون وأرسطو وأبيقور بالقياس إلى كلام التوراة والإنجيل والقرآن؟ الجواب تجدونه عند ابن رشد المسلم، وعند توما الأكويني المسيحي، وعند موسى بن ميمون اليهودي العربي. قلتُ «العربي» لأنه ألَّف رائعته الفلسفية «دلالة الحائرين» باللغة العربية. وكل من أبدع بالعربية فهو عربي ثقافةً وحضارةً. كلهم أخذوا على محمل الجد نصوص الفلسفة وصالحوا بطريقة أو بأخرى بين الوحي الإلهي والفلسفة اليونانية. كلهم صالحوا بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل. وهذا هو المعنى الحرفيّ لعنوان كتاب ابن رشد الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة... وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي

ولكن هنا يطرح اعتراضٌ وجيه نفسَه: إذا كان الانفتاح على الفلسفة لم يعد يمثل أي مشكلة بالنسبة إلى اليهود أو المسيحيين الأوروبيين، فلماذا لا يزال يمثل مشكلة حقيقية وعرقلة كبرى بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين؟ الجواب هو التالي: لسبب بسيط؛ هو أن التنوير نجح في أوروبا ولم ينجح حتى الآن في العالم العربي أو الإسلامي. هنا تكمن المعضلة الحقيقية والعقبة الكأداء. نقول ذلك ونحن نعلم أن الفلسفة لا تشكِّل أي خطر على الدين. الفلسفة تُكمل الدين والدين يُكمل الفلسفة، كما قال كانط. حيث تنتهي حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان. الفلسفة تساعدنا على فهم جوهر الدين. إنها لا تشكل خطراً إلا على الفهم الظلامي والتكفيري للدين. أما الفهم المستنير المتسامح فلا خوف عليه ولا هو يحزن. كبار فلاسفة التنوير الأوروبي كانوا مؤمنين.

ثم يقول لنا هذا الفيلسوف السنغالي المسلم ما معناه: تكفير الفلسفة قديم جداً في تاريخنا، وهو يعود إلى الإمام الغزالي. وهو شخصية دينية كبرى بل يعدّ حجة الإسلام وبحق لأنه كان عالماً كبيراً متبحراً في الدين بل في الفلسفة أيضاً! على الرغم من ذلك فقد اتهم الفلاسفة بالهرطقة والزندقة والخروج عن ملة الإسلام. ولكنه في الوقت نفسه كان يتبع منهجهم الدقيق في الدراسة والبحث الذي هو مسار فلسفي أيضاً. كان يقلِّد ابن سينا ويستفيد منه ومن أفكاره كثيراً ثم بعد كل ذلك يكفّره! انظروا بهذا الصدد الكتاب القيم للباحث الجزائري البارز الدكتور عمر مرزوق: «ابن سينا أو إسلام الأنوار». أكملت قراءته للمرة الثانية مؤخراً دون أن أشبع منه. هنا يكمن وجه الغرابة والتناقض في شخصية عظيمة وإشكالية كبرى مثل شخصية الإمام الغزالي. مشكلته أنه غاص في التصوف والغيبيات أكثر مما ينبغي، ونسي الحقائق المحسوسة والماديات وقوانين الطبيعة. بل عطَّل قانون السببية الذي من دونه لا عقل ولا عقلانية. بدءاً من تلك اللحظة دخل العالم الإسلامي في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن.

أخيراً، وبه نختم: إذا كان كبار فقهاء العصور الوسطى، بل حتى ابن خلدون، قد أدانوا الفلسفة اليونانية سابقاً فما بالك بالفلسفة الأوروبية الحديثة التي تجاوزت الفلسفة اليونانية بسنوات ضوئية؟ إذا كانوا قد أدانوا أفلاطون وأرسطو، فما بالك بديكارت وسبينوزا ولايبنتز وفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وبرغسون وبول ريكور وهابرماس... إلخ؟ تفاوُت تاريخي أو هوة سحيقة يستحيل ردمها في المدى المنظور.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:29 يناير 2025 م ـ 29 رَجب 1446 هـ

 

كنت طرحت مقولة استنبطتها من السلوك الفكري في التمييز بين عقل الرجل وعقل المرأة، وهي (أن تكون المرأة شاعرةً فهذا أهون على الفحولة من أن تكون منظّرة وناقدة وصاحبة رأي وفكر)، وهذه مسألةٌ تعود لنسقيةٍ ثقافية تعتمد مقولة (العقل رجلٌ والعاطفة امرأة)، وهي مقولة ليست جائرة فحسب، بل هي خاطئة كذلك، وليس هذا مقام تبيان عوار هذه المقولة، ولكن فيما يخص المرأة المنظرة والمرأة الشاعرة، فقد جرى ثقافياً قمع الخطاب الشعري للمرأة وتقييده بشروط ضد البوح والإفصاح عن المشاعر، في حين يبوح الشاعر كيفما يشاء دون خجل ولا تردد، وقد جرى تقبل شاعرية المرأة من حيث المبدأ منذ الخنساء وما بعد، ولكن سنرى فيما يخص النظرية، فالمرأة الفيلسوفة عند اليونان تمت إزاحتها من ذاكرة المتن الثقافي، وبقيت اسماً ورقماً دون أن يسند إليها ما يكشف عن خطاب فلسفي ناتج عنها، رغم ترداد الأسماء في متون الكتب والمرويات، مما يؤكد وجود الفيلسوفات، لكن الفلاسفة الفحول هم المتصدرون للنظريات وهم صنّاع التحولات، وهذه سيرةٌ عامةٌ في الثقافات القديمة كلها، على أن مقولتي هذه جاءت في سياق الكلام عن نازك الملائكة، حيث حضرت في مبحث الريادة للشعر الحر (شعر التفعيلة)، وتساوى الحديث عنها مع الحديث عن السياب مع الجدل عن الأسبق منهما، وهو جدل في حدود الرصد التاريخي، ولكن الجدل الذي ليس علمياً ولا منهجياً هو الجدل حول نظرياتها، التي ساقتها في كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، حيث لم يقتصر الجدل عن الخلاف مع مقولاتها وهذا حق ومنهجية، ولكن شابته لغة ساخرة ومتعالية عليها لجراءتها في ابتكار قواعد لتقعيد ما كان يسمى حينذاك بالشعر الحر، وتصديها لنقد الشعراء واستخداماتهم العروضية وتجاوزاتهم، التي مالت نازك لتقييدها، وهذا موقف لا أتفق معها فيه، لكني احترمت عقلها وجهدها وقدرت اجتهادها، على عكس ما جرى من نقاد عرب كثر تهجموا عليها بلغة استعلائية وإقصائية، مما جعلني أقول مقولتي تلك، وهي ملمح من نقدي للأنساق الثقافية، وهو مشروع واسع تصديت له في خمسة كتب، أولها (المرأة واللغة)، ثم ثقافة الوهم، وآخرها (الجنوسة النسقية).

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 يناير 2025 00:58

قد يرى البعض أن الاهتمام بالنظر الفلسفي الأخلاقي القديم بالقياس إلى ما يعرفه هذا النّظر اليوم من مذاهب كثيرة، هو فضل أو جهل أو شرارة، فما الذي يمكن أن يقدّمه أرسطو لنا، بكتبه الأخلاقية على الأقل، في عصر قد يزعم بعضهم، أنّه قد جبَّ ما قبله من قول في الأخلاق؟

اهتم أرسطو بالأخلاق، وكتب فيها كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، وكتاب الأخلاق إلى أوديموس، وكتاب الأخلاق الكبرى، رغم ما يقال من شك في نسبة بعض منها إلى أرسطو.

وكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، الذي يهمنا ها هنا، هو عشر مقالات في الفضائل المحمودة: النظرية والخلقية والعقلية: الخير، الحكمة، السعادة، الشجاعة، العفة، السخاء، الكرم، الحلم، الرقة، الحياء، الإنصاف، العدل، العلم، التعقل، الروية الجيدة، الذكاء والحكم، والمحبة، والصداقة، وأهمية حياة النّظر والتّأمل.

يعالج هذا الكتاب موضوع الطّبع والإلف والعادة، وهما المعنيان اللذان يُفهمان من الجذر اليوناني لكلمة «إتيقا»، éthos بمعنى الطبع، وéthos بمعنى الإلف والعادة، والفعل الأخلاقي لا يفهم إلا من خلالهما، إذ هو يتحدد في دراسة تشكّل الطبع، من أجل الخير الأعظم الذي يسعى إليه الناس بأفعالهم، ويتواضعون عليه، وهو السّعادة. والمسألة كلها تنصب على الفضائل التي يجب على الإنسان أن يمتلكها، وأن يمكّن منها الأطفال للوصول إلى السّعادة الفردية وكذا سعادة المدينة. لأن السعادتين معاً، سعادة الفرد وسعادة المدينة لا تنفصلان.

لا يمكن فصل الفرد عن مدينته، عند أرسطو، فكمال الفرد لا يتحقق له إلا في المدينة اجتماعياً وسياسياً. إن الفرد يعيش داخل ثقافة معينة، وكل ثقافة تسعى إلى تكوين مواطنيها وفق نموذج معين، على نمط السعادة، الفردية والجماعية التي تتمثَّلها. إن الهدف هو حياة سعيدة، وهي الحياة الناجحة، لكن كيف نعيش حياة سعيدة؟

يميّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الحيوات: أولاً، حياة الفكر والتأمل، ثانياً: حياة المتعة، وأخيراً، حياة الأفعال الجميلة المنبثقة من الفضيلة، أي من الجودة. ومن خلال تحليل هذه الضروب الثلاثة من الحياة ينتصر أرسطو لحياة التأمل، دون غمطه حق الحياتين الأخريين. فالحياة الفكرية أفضل عنده، وممّا يرجح أفضلية حياة التأمل أن الإنسان ليس أفضل ما في الوجود، وأن دراسته لما هو أفضل منه يجعل منه إنساناً أفضل. لذا يدعو أرسطو إلى الاستغراق في حياة التأمل، لكن هذا الاستغراق لا يحول دونه والأخذ بأسباب السّعادة الأخرى المعروفة بالخيرات المادية، من صحة جيدة، وجمال، وحظوظ، ومن صداقة.

إن الفضائل لا توجد للإنسان بالطبع، بل هي مرتبطة بتعوّد الإنسان عليها، ولذا فإن تعويد الإنسان منذ طفولته على أفعال الخير هو ملاك الأمر كله في المدينة. وهدف كتاب الأخلاق هو بيان شروط تحقيق الحياة السعيدة، ومن خلال تكوين أفضل للطّبع نصل إلى تحقيق ذلك.

ويمكن تلخيص النظرية الأخلاقية لأرسطو في عدة جوانب أساسية: الفضيلة وسط ذهبي، والفضيلة مكتسبة، والفضيلة لها سبب بالعقل، والفضيلة ممارسة اجتماعية، والفضيلة تحقيق للغرض الأسمى السعادة.

وأخيراً، إن كتاب الأخلاق لأرسطو خزَّانٌ من الفضائل النظرية والأخلاقية والفكرية التي لاتني العصور الفكرية تغترف منها على الدّوام، ومن هنا فإن العناية بهذا الكتاب ضرورة فلسفية وأخلاقية لفهم كيف تشكّل الخطاب الأخلاقي على المجرى الصناعي من جهة، وكذا التّعلم من طرائقه التربوية ومضامينه الأخلاقية، و«كتاب الأخلاق لنيقوماخوس» هو صِنْوٌ لكتاب الخطابة الذي سنتحدث عنه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يناير 2025

أقرت منظمة «اليونسكو» مؤخراً تسجيل «مقدمة» ابن خلدون ضمن مدونة التراث الإنساني الكوني، تتويجاً لجهد قطاع واسع من المثقفين والمفكرين العرب تبنَّوا هذه الفكرة منذ أمد طويل. ورغم مرور سبعة قرون على صدور هذا الكتاب الاستثنائي، فإنه ما يزال يستثير اهتماماً واسعاً في الثقافة العربية، رأى البعض أنه العمل التأسيسي لعلم الاجتماع قبل العصور الحديثة، وهو رأي لا يمكن الركون إليه لأسباب إبستمولوجية وتاريخية ليس هنا مجال التعرض لها، في حين اعتبر المؤرخ الفرنسي إيف لاكوست أنه كان سبّاقاً إلى بلورة نظرية المادية التاريخية التي اعتمدها ماركس بعد خمسة قرون، وخصص له مفكرون معاصرون بارزون أعمالاً مهمة؛ من ساطع الحصري وطه حسين إلى محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعلي أومليل.. إلخ.

والحقيقة أن أهمية ابن خلدون تكمن في كونه قدّم نظريةً متكاملة ودقيقة حول طبيعة الدولة العربية الإسلامية الوسيطة، التي عايش انهيارها بعد تجارب شخصية يائسة في شمال أفريقيا والأندلس، قبل رحلته الأخيرة إلى القاهرة حيث توفي فقيهاً وقاضياً بعيداً عن السياسة.

لن نعالج السؤال الذي طرحه كثير من الباحثين حول علاقة «المقدمة» بكتاب «العبر» الذي هو موسوعة ابن خلدون الشاملة في التاريخ، إذ اعتبر البعض أن هذا المنهج الفلسفي الذي اكتشف ابن خلدون لم يطبقه في كتابته التاريخية، بما يعزز الشكَّ في علاقة كتاب المقدمة بالسرد التاريخي لابن خلدون الذي لا يختلف في شيء عن كتابات مَن سبقه من المؤرخين العرب.

كما أن البعض طرح إشكال المنظور القيمي العقدي في منهج ابن خلدون الذي لم يستند في كتابه لأدلة من النصوص الشرعية، بل بنى علمه حول العمران البشري على محددات وضعية واقعية. لقد اهتم العديد من علماء الإثنوغرافيا الأوروبيين بنظرية ابن خلدون في العصبية والدولة، وذهب بعضهم إلى أنها ما تزال صالحة في تفسير أحوال الاجتماع السياسي العربي المعاصر، حيث تلعب البداوة والقبيلة دوراً أساسياً في البناء السياسي والاجتماعي، رغم أن ابن خلدون لم يفكر مطلقاً في شكل الدولة السيادية المدنية الحديثة التي هي الشكل التاريخي الكوني للنظام السياسي الحالي.

ما نريد أن نبيّنه هنا هو أن نظرية ابن خلدون يمكن أن تُقرأ في مستويين: أولهما النسق السياسي العربي الوسيط، بتفسيره تشكل وتطور وانهيار الدولة، وثانيهما إشكالية السلطة والعنف والمال التي هي إشكالية فلسفية ثابتة منذ أفلاطون وأرسطو وإلى اليوم. وبخصوص المستوى الأول، لا بد من التنبيه إلى أن أهمية نظرية ابن خلدون السياسية لا تكمن في إبرازه دور العصبية في البناء السياسي المنظم في العصور الإسلامية الوسيطة، بل الأمر على عكس ذلك، إذ يتمثل غرضه في البرهنة على أن الدولة تقتضي تجاوز تناقضات العصبية وضيق البداوة من خلال وضع منظومة متماسكة تكفل السلم الأهلي والفاعلية الإنتاجية (العمران الحضري بلغة ابن خلدون).

إلا أن الدولة لا تقوم إلا على العنف الرادع، الذي اعتبر ابن خلدون أنه لا بد أن يكون مصدره خارجياً (المجموعات البدوية المتوحشة)، بما يمكن تصوره على غرار مقولة احتكار الدولة للعنف لا على أساس الموقع السيادي الحديث (الدولة كفكرة متعالية على المؤسسات الاجتماعية)، وإنما على أساس الحماية الخارجية للمنظومة المدنية القائمة على الخضوع التام للدولة من حيث هي القوة الدافعة للإنتاج والإبداع والرفاهية.

ومن المنظور الثاني، يتعين التنبيه إلى أن أطروحة ابن خلدون الفلسفية تتمثل في كونه درس العلاقة العضوية بين السياسة والاقتصاد والأمن، ليس من زاوية النظرية الليبرالية الحديثة التي أكدت منذ أدبيات آدم سميث أهمية التجارة والمصالح النفعية التبادلية في بناء مجتمع مدني نشط يكون القاعدة الصلبة للحالة السياسية المنظمة. ما يميز ابن خلدون هو التنبيه إلى أن السياسة لا يمكن أن تتخلص من العنف، وإلى أنها المسلك الضروري للنشاط الاقتصادي المنتج والفعال، على عكس الرؤية التي ترى أن الاقتصاد في أبعاده القانونية يمكن أن يعوض الفعل السياسي كما هو اعتقاد مفكري العقد الاجتماعي المحدثين.

ليس من همنا كتابة تصور جديد حول نظرية ابن خلدون في الدولة والعصبية والتاريخ، وإنما كان غرضنا منحصراً في إبراز أهمية هذه النظرية في سياقها الكوني، وإن كانت قد انطلقت من اعتبارات تاريخية خاصة بالمجتمعات العربية الإسلامية الوسيطة. ولعل هذا المنحى هو ما يبرر، وفق رأينا، قرارَ اليونسكو الصائب حول تسجيل مقدمة ابن خلدون ضِمن مدونة التراث الإنساني العالمي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 يناير 2025 23:28

 

"نعود مرة أخرى للسؤال الذى طرحناه فى مقال سابق: كيف نتجاوز أساليب النقاش القديمة، ونفتح فضاء معرفيا جديدا؛ للتعاون بين الدين والعلم والفلسفة؛ من أجل خدمة قضايا الإنسانية؟

فى البداية، يجب أن نعيد التنبيه مجددا أن الدين هو الوحى المكتوب، بينما الطبيعة هى وحى الله المرئي، القرآن هو «الكلام»المقدس، والطبيعة هى «أعمال» الله.

ولذلك فالدين هو إيمانى الذى أراهن عليه، ويعطى معنى لحياتي، بينما العلم هو الذى يكتشف الطبيعة (أعمال الله تعالى) يوما بعد يوم، ودوما ما يمنحنى اليقين بأن الطبيعة وراءها مصمم حكيم، أما الفلسفة فتفتح أمامى زوايا كبرى للنظر، وأفقا واسعا لإعمال العقل النقدي، وجعله عصيا على تقبل الأساطير والخداع المعرفى الذى يقوم به بعض الكهنة. ومن هذا المنظور،  يمكن أن يشكل الدين والعلم والفلسفة معًا مشروعًا معرفيًا متكاملًا، شرط أن يُبنى هذا التفاعل على مبادئ فلسفية جديدة تتخطى أنماط الجدل العقيم وتؤسس لتكامل حقيقي. وهذه المبادئ متعددة، سوف نتناولها تباعاً إن شاء الله تعالى.

ونذكر أول هذه المبادئ فى هذا المقال:

1- الاعتراف بالاختلاف البنيوى واحترامه: فى الماضي، كان الصراع بين بعض رجال  الدين والعلم، أشبه برياح تعصف بسفينة المعرفة، وتضع العقبات أمام التطور العلمي. وربما كان من أسباب ذلك، غياب الاعتراف بالاختلاف البنيوى بينهما، ورغبة أطراف من الفريقين فى الهيمنة على العقل البشرى وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. وكان أحد أعمق إشكاليات النقاش، بين الدين والعلم، هو سعى بعض رجال الدين إلى التوحيد القسرى بين منظومتين معرفيتين مختلفتين فى منهجيتهما. وكما سبق أن ذكرنا، فإن الدين يتأسس على الإيمان بالوحى والرؤية الكلية والقيم (الحق والخير والجمال) التى تمنح الوجود معناه، بينما ينطلق العلم من المنهج التجريبى والرياضي؛ بحثًا عن القوانين التى تحكم الظواهر الطبيعية. ولا ينبغى أن ننظر إلى هذا التمايز البنيوى بوصفه تناقضًا، بل يجب أن نعده تكاملًا يُثرى المعرفة الإنسانية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن العلاقة بين الدين والعلم، تتميز بتباينات عميقة، تنبع من اختلاف أهدافهما ومنهجيتهما؛ حيث يمثل كل منهما منهجية مختلفة لفهم العالم والوجود.

وتُعد أركان الإيمان بما بعد الطبيعة، حقائق كبرى فى مجملها، مما يمنح الدين طابعًا كليا وأزليًا يتجاوز حدود الملاحظة والتجريب. فى المقابل، يهدف العلم إلى دراسة العالم المادي، وفهم الظواهر الطبيعية، من خلال البحث المنهجى القائم على الملاحظة والتجريب والاستنباط الرياضي، وهو ما يجعل نتائجه قابلة للتطوير والتعديل مع ظهور أدلة جديدة، مما يمنحه طابعًا ديناميكيًا ومتغيرًا.

كما أن منهجية الدين تعتمد بشكل أساسى على الوحى والإيمان والتسليم؛ حيث تُعد النصوص المقدسة المصدر الأول للمعرفة بما بعد الطبيعة، والإيمان بها لا يتطلب بالضرورة أدلة مادية مباشرة، بل يقوم على قناعة داخلية راسخة بصدق النصوص ومصدرها الإلهي. ومع ذلك، فإن العديد من الأديان، خاصة تلك التى تمتلك تقاليد فلسفية غنية كالإسلام والمسيحية واليهودية، تدعو إلى استخدام العقل كوسيلة لفهم النصوص وإدراك حكمة الخالق. وفى الإسلام، على سبيل المثال، هناك نصوص كثيرة تحث على التفكير فى الكون والتدبر فى خلق الله، إلا أن العقل فى هذا السياق يعمل ضمن إطار إيمانى موجه، حيث يُستخدم لتعزيز الإيمان وليس لتحديه أو تجاوزه. هذا فى الأغلب الأعم، لكن هناك من يتخذ العقل منهجا لاستنباط عقائد الإيمان ويؤسس إيمانه على استدلالات عقلية وربما أدلة مادية غير مباشرة، مثل التصميم البديع للكون كمؤشر على وجود الله وعظمته سبحانه، فنحن لا نرى الله لكن نرى آثار قدرته جل وعلا. ومن هذا الفريق الأخير، من يعتبر أن الوعى بالإيمان متطور بتطور السقف المعرفى للإنسان، وأن مسألة الإيمان يمكن المزاوجة فيها بين العقل والحدْس، وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء.

فى المقابل، يعتمد العلم على منهجية تجريبية رياضية صارمة، تقوم على «الشك المنهجي»، كعنصر أساسى لتحفيز البحث والتحليل والاستدلال. ويبدأ البحث العلمى بصياغة فرضيات قابلة للاختبار، ثم تُجرى التجارب، لجمع البيانات وتحليلها، بغرض التحقق من صحة هذه الفرضيات. ويتميز العلم بخطواته المنهجية التى تشمل تحديد المشكلة، وصياغة الفرضيات، وإجراء التجارب، والاستنباطات الرياضية، ومراجعة النتائج، وتكرار العملية لضمان صحة النتائج ودقتها. وبعكس الدين، لا يعد العلم أى نظرية مقدسة أو مطلقة، بل يُنظر إليها دائمًا، على أنها مؤقتة، وقابلة للتطوير، أو حتى التغيير الكامل، إذا ظهرت أدلة جديدة. وهذا ما يجعل العلم قادرًا على التكيف مع المتغيرات، والاستجابة لاكتشافات جديدة، بينما يميل الدين إلى الحفاظ على التقاليد والتعاليم.

ويظهر الفرق بين المنهجيتين بوضوح، فى تعاملهما مع الشك، وطبيعة المعرفة التى يقدمانها. ففى الدين، غالبًا ما يُنظر إلى «الشك» على أنه عقبة يجب تجاوزها إلى الإيمان؛ حيث يُعد»الإيمان» قوة أساسية لفهم القضايا الروحية والغايات الكبرى للحياة. بينما فى العلم، «الشك» هو المحرك الرئيسى للتقدم؛ حيث يدفع العلماء إلى اختبار الفرضيات، وإعادة تقييم النتائج، باستمرار. وتُعد العقائد الدينية نهائية، فهى تقدم إجابات مطلقة حول القضايا الغائية الكبرى، بينما تُعد المعرفة العلمية مؤقتة وتخضع دائمًا للمراجعة والتطوير. والسؤال الفلسفى هنا: هل على الرغم من هذه الاختلافات البنيوية، يمكن أن يحدث تكامل بين الدين والعلم يقوم على الاعتراف بالاختلاف المنهجى واحترامه؟ وما إجابة القرآن الكريم على هذه الإشكالية؟ وهل إجابة القرآن الكريم قد تكون مثيرة ومبهجة؟ موعدنا المقال القادم إن شاء الله تعالى".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 12 يناير 2025:

لو تأملنا في موضوع الضحك أو النكتة، أو الفيديوهات الحيويّة التي تصلنا، لوجدنا أنها تضج بالحياة وبالشيفرات المركزة، معظم المثقفين يتجهّمون تجاه الحياة الضاحكة، ويزدحمون بالمؤتمرات والندوات. وإذا أردنا فحص موقع النكتة من الثقافة، فإنها تلتقي بشكلٍ فلسفي مع مواضيع الجمال وهي جزء من «نظرية الضحك».

وأحسب أن من لا يرى كل يومٍ مشاهد ضاحكة، فإن في حيويته الدنيوية الكثير من الخلل. إن النكتة دائماً مكثّفة بموضوع أساسي ولكنه ضمن سياقٍ ضاحك، إن النكتة هي حمولة مصغّرة من توصيف الوقائع. الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشبنهور، وبرغسون، ونيتشه، وغيرهم لهم إسهامات في إيضاح نظرية الضحك.

ربما جاء الحديث عن نظرية الضحك عرضاً كما هي الحال لدى كانط في كتابه «نقد ملَكة الحُكم»، أو حتى لدى أفلاطون، أو شبنهور، ومن قبلهم أرسطو، إذ تجيء كاستطراد داخل نظريات تتعلق بالجمال.

أما برغسون فقد ألّف كتابه «الضحك» بحثاً في دلالتها وترجمه: سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم بطريقةٍ متميزة.

بينما كيركغارد دوّن أكثر من كتاب، وعبد الفتاح إمام استعاد بحثاً بعنوان «مفهوم التهكم عند كيركغارد».

بينما شاكر عبد الحميد طرح كتابه النفيس «الفكاهة والضحك - رؤية جديدة»، وأستعيد بعض مقولاته هنا. يقول في فصل «فلاسفة الضحك»: «هناك ارتباط ما بين الفلسفة العامة للفيلسوف وبين أفكاره الخاصة بعلم الجمال (الاستطيقا) وبين أفكاره المتعلقة بالضحك، فالضحك وثيق الصلة بالإبداع والفن».

برونو يكتب أن ثمة رابطة بين البكاء والسرور. إذ يقول: «إن أشكال الضحك تأتي ممزوجة بدرجة ما من الحزن والبكاء، وإن كل بكاءٍ إنما يخفي خلفه درجة من المتعة والسرور».

بينما شبنهور رأى أن الضحك «ينشأ نتيجة افتقار للتجانس أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل أو تمثيل معرفي معين يقوم على أساس الإدراك، أي إن الضحك ببساطة هو محصّلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصوّر العقلي العام والمدرك الحسي الخاص»، و«إن سبب الضحك هو ببساطة ذلك الإدراك المفاجئ للتناقض بين تصورٍ معين، وبين المواضيع الواقعية المحددة التي تم الاعتقاد من قبل بوجود علاقة معينة بينها وبين هذا التصور».

تحدث كيركغارد عن أن التهكّم عامةً: «يحرر من أعباء الواقع المعاش والواقع الامبريقي (التجريبي) العملي، ولكن هذه الحرية تظل حرية من النوع السلبي نسبياً، لكن التهكّم له جانبه الإيجابي أيضاً الذي يقوم على أساس الاستمتاع الذي يتمثل في أن التهكم يوفر لصاحبه شكلاً من أشكال الاكتفاء بالذات، أو نوعاً من الغلوّ بالثقة في النفس».

الخلاصة؛ أن النكتة بقدر ما هي فعل علوّ من أعباء الواقع، وبقدر ما هي نقد شديد أو حيوية اجتماعية رمزية، فإنها التعبير الأكثر صدحاً والأكثر غموضاً. ثمة حالة تواطؤ اجتماعي على الضحك من مفارقة معينة تجاه صورة أو لفظة معينة. النكتة تتكثّف مع الوقائع الصاعدة، وهذا موجود عبر التاريخ وهي تبويب اجتماعي للتعبير عن رأي في واقعة معينة، ولذلك أخذها علماء الاجتماع بعين الاعتبار والتحليل والتدقيق.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 17 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م

 

طرح سؤال منذ عصر النهضة العربية هو: لماذا تقدم الآخر، وتأخر المسلمون؟ وهذا السؤال ما يزال مطروحا إلى الآن، وإن اتخذ صيغا متعددة، وكأنه قدر أزلي. إننا عندما نطرح السؤال الخاطئ، لن نظفر إلا بالجواب الخاطئ. لقد اتخذ سؤال: لماذا تأخرنا؟ صيغة مقارنة حاضر العرب بحاضر الغرب في الواقع الحالي، في الوقت الذي طرح فيه.

إن الصيغة التي طرح بها السؤال أدى إلى اعتبار التأخر متصلا بالماضي كله. وكان التعبير الذائع وصفا لواقع التأخر، هنا والآن، تحت مسمى «التأخر التاريخي» الذي ظل يردده الجميع. ويبدو لي أن هذا التوصيف يحمل مغالطة أبستيمولوجية، لأنه يسقط الحاضر على الماضي، وهو يحاول من خلال ذلك وصف «التأخر الواقعي» في الحال. وهذه المغالطة، هي بدورها وليدة مغالطة أبستيمولوجية أخرى جاءت عن طريق زعم كون التقدم الحضاري جاء مرتبطا بالعصر الحديث في الغرب، الذي ساهم في تشكيله.

إن هذا التوصيف وليد التصور الذي أسسه الغرب عن تاريخه الخاص، والذي أسقطه على تاريخ البشرية برمتها، وما التحقيب الغربي للتاريخ حسب الماركسية والوضعية وغيرهما سوى دليل على ذلك. فالنهضة الأوروبية في القرن السادس عشر بداية تاريخ جديد للبشرية بدأ فيه يتحقق التقدم. أما الحقب السابقة فليست سوى عصور التأخر (العصور الوسطى)، وبهذا أعطى الغرب لنفسه المكانة الفضلى في التاريخ، الذي بواسطتها يعطي لنفسه الحق في محاكمة التواريخ، والحكم على الشعوب الأخرى، وتبرير هيمنته عليها لنقلها من الهمجية إلى الحضارة.

شاركت في مؤتمر في موسكو السوفييتية حول السرد العربي في العصور الوسطى، وحاججت المستشرق كَوديلين حول العصر الوسيط، وقلت له إن كان هذا العصر في أوروبا عصر تأخر وظلام، فقد كان في الإسلام عصر تقدم حضاري وازدهار علمي وثقافي، ولا يمكننا إسقاط تطور تاريخ أوروبا على التاريخ الإنساني. فما كان منه سوى الاستغراب، والتعبير عن عدم الرضى.

اتخذ المثقف العربي هاتين المغالطتين أساسا لطرح مسألة التأخر والتقدم. واستوى في ذلك التقليديون والمحدثون لأن السؤال ـ المغالطة الذي طرح كان مشتركا بينهما، فذهب التقليديون إلى أن سبب التأخر يكمن في الابتعاد عن عصر النبوة والخلافة الراشدية (السلفية)، ورآه المحدثون ذلك في عدم الاستفادة من التقدم الغربي (الليبرالية). إنها الثنائية التي ما تزال محور الصراع والتجاذب بين الطرفين، والتي لا تُولّد أيا منهما سوى التبعية أو الدفاع عن التاريخ أو للغرب الحديث.

لماذا اعتبرت سؤال النهضة العربية مغلوطا وخاطئا؟ جوابي باختصار هو أن سؤال: «لماذا؟» لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التأويلات المبنية على المواقف الجاهزة، والمسبقة. وما هو مسبق وجاهز يتمثل في النظر إلى الغرب الحديث والتاريخ الإسلامي على أن كلا منهما هو النموذج الذي علينا الانطلاق منه لمواكبة التقدم، وتجاوز التأخر التاريخي. ماذا لو انطلق المثقفون العرب من سؤال مختلف عما طرح إبان الاصطدام بالغرب، الذي أدى بهم إلى المقارنة بين الذات والآخر، وعدم التركيز فقط على الذات؟ وما هو السؤال الذي كان يفترض طرحه، ولم يطرح لأسباب عديدة؟ إنه السؤال المتعلق بـ: متى تأخرنا؟ ومتى تقدم الآخر؟ إنه السؤال المتعلق بالزمن، وليس بلماذية الأشياء. ويفترض سؤال الزمن البحث والاستكشاف والقلق، لأنه ليس السؤال المؤدي إلى التأويل الجاهز والمُطمْئِن، والمبني على قناعات واصطفافات أيديولوجية.

إن سؤال لماذا يؤدي إلى رد الفعل. ورد الفعل يؤدي إلى التناقض والتجاذب الذي يفرض على الطرفين عدم التنازل، أو المساومة عما يعتقده أي طرف، والحجج الدامغة لدى الطرفين، والمادة المستدعاة للسجال لا حد لها، وهي قابلة للتجدد، والتطور مع الزمن. وهذا ما نراه إلى يوم الناس هذا، وبشكل أكثر تعقيدا مما مضى، أما سؤال الزمن فيشترط المعرفة المتأنية والدقيقة التي تؤدي إلى انتهاج مسارات مختلفة لما مورس، لأنه يدفع إلى البحث عن أسباب التقدم أو التأخر.

لا يقاس تطور الأمم والشعوب فقط بتاريخها السياسي والاقتصادي، ولكن أيضا وأساسا بتاريخها الثقافي، لا يخلو تاريخ أمة من الأمم التي لعبت دورا في التاريخ من الصراع على السلطة، والحروب، والأزمات، لكن ما ساهمت به في التاريخ الإنساني يؤول إلى ما لعبته من أدوار في تطوير المعرفة الإنسانية. ولا يكون هذا إلا بمدى ما حققته في تاريخا من تقدم حضاري وعلمي. فمتى تقدم الغرب؟ ومتى تشكلت فكرة الغرب؟ ومتى تأسست الدولة الوطنية في الغرب؟ ومتى تأخر العرب والمسلمون؟ وهل سبق لهم أن تقدموا، أم أن تاريخهم تاريخ حروب بين داحس والغبراء؟ تقدم المسلمون بسبب أخذهم بإجراءات البحث العلمي وسعيهم إلى نشر معرفة جديدة ومغايرة لما كان سائدا في أزمنتهم، وساهم الإسلام في تشكيلها من خلال القرآن الكريم، وعملوا على توسيع رقعة بلاد الإسلام، وشاركت كل الشعوب التي دخلت في الإسلام في بناء صرح حضارة ذات بعد إنساني. وكان تأخرهم بسبب الملابسات التي أدت إلى تخليهم عن مواصلة البحث والاستكشاف، وهو ما أدى بالغرب إلى الخروج من عصوره الوسطى عندما تبنى الفكر والبحث العلمي. كان لسؤال متى أن يؤدي إلى أجوبة غير التي نراها إلى اليوم. وفي هذا اليوم نجدد السؤال لننقله من صيغة الماضي إلى الحاضر، ونتساءل: لما نتأخر الآن، ويتقدم الآخرون؟

***

سعيد يقطين - كاتب مغربي

عن جريدة القدس العربي، يوم: 15/1/2025

 

أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.

***

د. فاضل ثامر

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 11 يناير 2025 م ـ 12 رَجب 1446 هـ

هناك مقاربة أخرى نضعها لكتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي) بعد قرابة نصف قرن من صدوره، من خلال استنطاق مذكرات المؤلف فهمي جدعان، والمسماة (طائر التم/حكايات جنى الخُطا والأيام 2021) وقد تجاوز الثمانين من العمر، يقول ص400: (يظهر لي أن الكتابين اللذين وضعتهما بالعربية في المدى الذي بدأت أتحرر فيه من حالة «الاستلاب الكاذب» ــ وأعنى أسس التقدم والمحنة ــ يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بوقائع حزيران والمد الإسلامي..) ثم يعترف بقوله ص404: (وأشعر بضيق شديد وأنا أدخل في دائرة الاعتراف المفضي إلى القول إنني لم أعد أتبين في التراث إلا دلالته التاريخية، ودلالته الجمالية، أما أن يكون التراث في ذاته مبدأ ماديًا فاعلًا للخروج من المأزق وأساسًا لإحداث تغيرات عميقة في وجود الأفراد والمجتمع والدولة فذاك فيما يظهر لي أمر بعيد، والارتداد إلى مشاريع مفكري التاريخ ــ من المعتزلة إلى ابن رشد ــ لن يغني عن الأمر شيئًا، والتراث الحي نفسه الذي تكلمت عنه في أكثر من موضع من كتاباتي لا يمكن أن يكون أكثر من عامل معزز للشروط الموضوعية التي تتطلب الفعل، وتحفز على القيم التي ننصبها وفق غائيات نحددها لأنفسنا اختيارًا أوليًا مطلقًا) مع اعترافه بتقدم المنتجات الفكرية (المغاربية) في زمننا الحاضر، راجع ص403، مع استرساله التعقيبي الدائم وفق (كياسته المنهجية) في محددات تحفظ له (وسطيته) ما بين قول الشيء ونقيضه إلى حد استنكاره (لمن يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول) فهل كان ينفي ذاته عندما استنكر على من عرض عليه التخلي عن فلسطينيته مقابل الجنسية الأردنية ليوافق على مضض، بينما هرول للحصول على أوراق الانتماء إلى كندا بلا تردد (راجع ص209، ص384) كل هذا عاشه ويمكن تفهمه من خلال تقلبات حياته من المخيمات إلى أرفع الجامعات علميًا في فرنسا، وعطاءً في (الكويت، قطر، سلطنة عمان...) وكانت حياة مقدرة من الجميع بالجوائز والتكريمات التي يتعطش لها ويتألم لأي مناصفة فيها (راجع ص326، ص339، ص366).

رغم كل هذه التكريمات والجوائز فقد امتلأت مذكراته بالتشكي والتبكي الضَّنك من الجميع (تقريبًا) حيث انتهيت من قراءة مذكراته وأنا أردد (إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه) ولعل من ذاق (لقمة العيش المُرَّة) في المخيمات، فلن يلومه، وسيلمس ظلال المخيمات تنوء بكلكلها على مذكرات فهمي جدعان، حتى ولو حكى فيها عن امتلاكه سيارة BMW، وما اقتناه من ماركات اللباس والإكسسوارات والعطور بشكل استعراضي غير مبرر في ثنايا الصفحات يشي بعقدة عوز أبدية، إضافة إلى ما أكسبته الظروف من (ضعف الشجاعة الفكرية) ليصبح أقرب إلى (براغماتية متدينة)، تجعلك تلاحظ في مذكراته (طائر التم) البطء الشديد والحذر في تحولاته الفكرية من (مسلم محافظ لا يستسلم لشهواته /ص217، ص238) ويترافع (عن الدين بشكل تقليدي جدًا كما يقول/ ص227) عن حياته في فرنسا أوائل الستينيات الميلادية من القرن الماضي إلى شاب (مسلم أكثر ليبرالية يشارك أنخاب الصداقة ص 239) عبر نصف قرن، ربما الذي أخر هذه التحولات هو تقاطعه النفسي مع بعض الشخصيات التي زاملها وعرفها إبان شبابه (صداقته لعبداللطيف الشيرازي الصباغ ص194، وإعجابه بحسن الترابي الملتحق آنذاك ببرنامج الدكتوراه في القانون في جامعة باريس، حيث يقول: (كان هشام أشدنا إعجابًا بالترابي/ ص202) ثم مجاورة فهمي جدعان للترابي: (كان الترابي آنذاك يقيم في الضاحية نفسها التي انتقلت أنا إليها... وقد دعانا جميعًا، أنا وهشام وكابيتانوفيتش، أكثر من مرة، لتناول الغداء أو العشاء في منزله، حيث كانت تستقبلنا زوجته السيدة إخلاص بأريحية وكرم بالغين /ص203).

أخيرًا: أعود للجولاني حيث (عاد معتذرًا) باسمه الحقيقي: أحمد الشرع، لأستعيد الكتاب الثاني الذي بدأت به الحلقة الأولى بعنوان: (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل/نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي) لنكتشف الأصالة الفكرية التي يتمتع بها كتاب محمد أركون (حتى الآن)، مما يجعل كتب (فهمي جدعان) كتب مرحلة تبحث عن جائزة لم تستدرجني لقراءتها وأنا طالب كلية الشريعة ولم تستطع الإجابة على تساؤلاتي لما فيها من (تملق) فكري للحركات الإسلامية لا يتناسب وطبيعتي، فربما غيري يراها (توفيقات مثرية وموفقة لصالح الحركات الإسلامية)، بينما كتب (محمد أركون ترجمة هاشم صالح) فتحت لي نافذة وبابا في (جدار الأصولية وزنزانتها) التي كنت أعالجها بداخلي بالانفتاح (الطفولي) على كتب علي الطنطاوي بما فيها كتابه (فتاوى)، ومنها وصلت لكتب (يوسف القرضاوي) الفقهية والأيديولوجية، ولم يحررني من هذا سوى ما وصلني من أحد الأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن على شكل (إهداء) كتاب لمحمد أركون قال: (لم أفهم ما فيه.. يحتاج إلى قارئ يمتلك الشغف والجلد.. تستحقه)، أخذته وبالنسبة لمعارفي الفقهية (التقليدية) فقد فتح ثغرة جديدة تمكنت من خلالها الولوج من عصر القرون الوسطى في (فقه العبيد والسبايا) إلى العصر الحديث في (تجريم الإتجار بالبشر) على المستوى العقلي، أما جسدي فهو ككل الناس يعيش بالضرورة في (2024).

عرفت أركون فكان نقلة فكرية، لم أتوقف عندها بقدر ما عرفت الفرق بينه وبين حسن حنفي الذي اعتذر لهاشم صالح بأنه يكتب وسط مجتمعات قتلت فرج فودة، وحاولت اغتيال نجيب محفوظ، ونفت نصر حامد أبوزيد، بينما أركون يكتب مقيمًا في باريس، وعندي أن حسن حنفي رغم ما في كتبه من (أيديولوجيا) تجامل الإسلام السياسي، إلا أنه ــ من وجهة نظري ــ من طبقة أعلى بمراحل من فهمي جدعان الأقرب للمؤرخ.

أخيرًا: لماذا الإسلام السياسي لم يستوعب (استحالة التأصيل) حتى الآن؟ ولماذا لم يسعهم ما وسع تجربة (المسيحية السياسية)؟ التي ما زالت قائمة في أوروبا (الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا/ سبق وترأسته إنجيلا ميركل)، سيعودون بقولهم: لسنا مستلبين للغرب.... إلخ، فإن حاججتهم بالواقع طالبوك بالمثالية، وإن حاججتهم بالمثالية طالبوك بالواقع، كلعبة (ديماغوجية/دهمائية) أتقنوها في كتبهم وخطبهم ما داموا باحثين عن (كرسي السلطة) أكثر من بحثهم عن (الحق) في (العدل والمساواة والكرامة والحرية) مما عرفته الحضارة الحديثة، وما زال الإسلاميون يتدارسونها كتنويعات جديدة لفقه (الحر والعبد، المسلم والذمي) مع ما في المسلم من تنويعات عجزوا عن حلها ما بين (سني شيعي) وداخلها عناوين أكثر تعقيدًا ينقصها عود ثقاب من (كبريت التراث) لتشتعل الحرائق من جديد.

فلنقرأ حتى كتب تقع (يسار) أركون لناقدين شرسين ما دامت (جديدة على تفكيرنا)، كما عند محمد المزوغي في نقده الجذري لمحمد أركون ومترجمه هاشم صالح على حد سواء في كتابه (في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح) منشورات إفريقيا الشرق، وكتابه (العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون) منشورات الجمل، فبهذا الانفتاح الفكري بلا أي تقديس لأي (مؤلف) قديم أو حديث، نصبح أقرب للمنهج العلمي، لنفيق من مفازة فكرية قتلتها المسغبة، وسلواها سرابٌ ممتد من الجولاني يمينًا إلى فهمي جدعان يسارًا.

***

مجاهد عبد المتعالي

عن جريدة الوطن السعودية، يوم:  السبت 04 يناير 2025 - 04 رجب 1446 هـ

أدركت مجتمعاتنا، بعد تجارب مريرة مع واقع الناس، أن الاهتمامات الكبرى التي شغلت الفكر الإسلامي من قبل لم تكن تبوئ المسألة الأخلاقية المكانةَ التي كان حرياً أن تحظى بها. وقصّرت الدراساتُ الإسلاميةُ منذ القديم في البحثَ في القول الأخلاقي والتّنظير له رغم قوة هذا القول وغزارة كنوزه.

حقًّا جاء القرآن الكريم خزّاناً للقيم الأخلاقية، والسّنة وشخص الرسول الكريم مثال أعلى للأخلاق الإنْسانية، وكان أن ظهر في القرن الثّاني الهجري تيار يحيي قيم الزهد باعتبارها قيماً أخلاقية تُخَسِّسُ الحياةَ في أعين الناس، ما دامت هذه الحياة قد سمّيت ب«الدّنيا»، وما دامت هذه الدّنيا ليست سوى «لعب ولهو وتفاخر وتكاثر»، حيث وجدنا المقبل على الدّنيا وكأنه شخص غير أخلاقي، والأخلاقي الوحيد هو المقبل على الآخرة، وكأن الدّنيا والآخرة كالضّرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

في هذا السّياق كتب المحاسبي أول أعماله التي دشّنت القول الفلسفي في الأخلاق، إذا اعتبرنا أن ما كتبه هو حصيلة تجربة حياتية عميقة شاركه فيها من سُمِّي «سيّد الطّائفة» أبو القاسم الجنيد. قبل أن يأتي الغزالي ويكتب مصنّفه الضّخم «إحياء علوم الدين»، فيدمج المنحى الأخلاقي في نسيج الثّقافة الإسلامية كلّها، ويصبح كتابه يُتْلى في أرباع وأحزاب، كما كان يصنع به ابن حِرْزهم دفين فاس.

وظلّت الأخلاق بهذا المعنى شديدة الصلة بطرائق القوم، وكأنها من صفات الخاصّة، وإنْ عملت بعض الزّوايا على جعلها أخلاقاً مشتركة، لكن عدم ارتباط الأخلاق بالأفق المدني جعلها سجينة الأخلاق الميتافيزيقية، إذ للدُّنيا أهميّتها أيضاً، وهي أرض العمران، ولن يكون عمران إلا بالأخلاق البانية للعمران، والمسْعدة للمجتمع البشري في تفاعله اليومي التي تتضارب فيه المصالح ويقع فيه التّنازع. ربما لهذا السّبب لم تُعْرف أخلاق احترام الاختلاف، وأخلاق احترام الحرية الشخصية، وأخلاق الاعتراف، ولم تسُدْ أخلاق الحوار والتّعليل والإقناع والصّفح، ولا أخلاق التّسامح والسّلم الاجتماعي كثيراً، رغم بوارقها وإشعاعاتها في حقب تاريخية مهمة.

كان «كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو مناسبة لتطوير النّظر الفلسفي الأخلاقي في هذه الموضوعات، وغيرها من الموضوعات التي تؤكد على قيم الضّيافة والاعتراف والحبّ والصّداقة، وهي القيم البانية للمجتمعات، وقد عرف المسلمون هذا الكتاب الفريد من نوعه في تاريخ الثّقافة الفلسفية عموماً، واستلهموه في نظرياتهم للسّعادة على الخصوص، وإن كانوا جعلوها سعادة ميتافيزيقية، ما عدا الفيلسوف الذي غرّد، على ما يبدو، خارج السّرب، واستلهم هذا الكتاب الفريد ليكتب كتاباً فريداً آخر في تاريخ الثقافة الفلسفية الإسلامية، أقصد أبو بكر ابن الصائغ، المعروف بابن باجة، وكتابه الفلسفي الطّريف، الذي وعد ابن رشد بقول شارح له، أقصد كتاب «تدبير المتوحد».

كان كتاب «تدبير المتوحد» نموذجاً لإبراز قيمة التّدبير الفكري في النّظر الأخلاقي، وهو الشّرط الأساس لتطوير النّظر الأخلاقي، لأنّ الفكر النظري، ولو في حقوله العملية، هو الفكر المنتج الوحيد على مستوى المعرفة، وعلى مستوى الوجود، وعلى مستوى القيم، وبدون فكر نظري قوي لن تكون هناك القيم البانية، تلك التي يكون أصلها ثابت ويكون فرعها في السماء.

وبما أن الإمارات قد أخذت على عاتقها، في جامعاتها ومنتدياتها بل ووزاراتها، عبء تجديد النظر الأخلاقي وجعله ركيزة أساسية في بناء الفلسفة الإسلامية عموماً، فهذا يُبشر بمستقبل علمي للأخلاق النّظرية أساساً عميقاً لأخلاق عملية بانية غير هادمة، مستقبل تصبح فيه الإمارات رائدة فلسفة أخلاقية تمتح من التراث الأخلاقي العملي الضارب في جذور الثقافة والتاريخ، مُضَمَّخًا بالإرث الفلسفي الأخلاقي الذي أبدعه العقل الفلسفي عبر العصور.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يناير 2025

 

استمعت للجولاني بصفته التي كان عليها في سنوات شبابه كما يقول، وها قد (عاد معتذراً) باسم (أحمد الشرع) لإنشاء (دولة حديثة إسلامية) في (دمشق) يتجاوز فيها جرائم داعش والقاعدة وأخطاء الإخوان المسلمين، وهنا يتنازعني صراع ما بين كتاب فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي) الصادر عام (1979) وكتاب محمد أركون (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) الصادر (1999)، مستفتحاً بكشف ذلك المزيج من الذحل والغيرة من فهمي جدعان تجاه أركون، مفاخراً بشعبيته بين الطلاب بفرنسا، مقارنة بأركون وعنجهيته واعتداده الظاهر (راجع ص315، ص321، من مذكرات جدعان باسم: طائر التم) ولعجزه عن مطاولة أركون فقد استعاض عن ذلك بحكاية حصلت معه إبان دراسته في فرنسا مستشهداً برأي عبدالرحمن بدوي في أركون ومرافقه في ذلك هاشم صالح عند لقائهما بدوي: (حين حضر هاشم صالح وجرى التعارف الأولي وبعض الأحاديث العادية سأل بدوي هاشم: ماذا تفعل هنا في باريس؟ أجاب: أتابع الدكتوراه، وأترجم.. سأله بدوي: وماذا تترجم؟ أجاب هاشم: أعنى بترجمة أعمال محمد أركون إلى العربية.. وقد ترجمت عدة كتب منها.. انتفض بدوي هائجاً مزمجراً وقال لهاشم: ماذا؟ تترجم لهذا الجاهل؟ أنت تضيع وقتك وتصرف جهودك عبثاً.. افعل شيئاً آخر يفيد الناس!) راجع ص221، ص222 من مذكرات جدعان (طائر التم)، ويبقى تأكيد أو نفي الحكاية عائداً لهاشم صالح، مع علمنا أن عبدالرحمن بدوي في شخصيته (بخل في اليد والثناء)، ورأي عبدالرحمن بدوي في (أي أحد) تشوبه شوائب خارج قراءتنا الآن، علماً أن جدعان يعترف بأهمية اشتغالات أركون على «العقل الإسلامي» (راجع ص555 من كتاب أسس التقدم....) حيث يقول: (ننظر في أحوال «العقل الإسلامي» وأنا هنا أقتبس مصطلحاً أثيراً عند محمد أركون...) يقصد مصطلح (العقل الإسلامي) كنوع من (الأمانة العلمية) المكرة عليها جدعان لاستفاضة العلم بها عن أركون.

هناك ملحوظة لعل الأستاذ القدير (علي العميم) يجيب عنها فهو صاحب الميكروسكوب الذي لا يبارى في كشف (التناص والتلاص) في الكتب والمؤلفات بين الجابري وجدعان وغيرهما، راجع سفره الضخم المهم (شيء من النقد شيء من التاريخ) إضافة إلى استشهاد فهمي جدعان بالعميم في مذكراته (طائر التم ص373 وما بعدها)، وقد أثارت انتباهي ولا أستطيع مواصلة المقال دون الإشارة إليها ثم أعود لما بدأت: فهمي جدعان أشار في كتابه الصادر 1979م ص 556 إلى أن هناك: (أنماطاً معرفية أربعة شكلت القنوات الأساسية التي جرت فيها الأفكار في الإسلام، وهي: النمط العقلي، والنمط النقلي، والنمط الكشفي أو العرفاني، والنمط الاختباري أو التجريبي...)، بينما كتاب محمد عابد الجابري صدر 1984م، فهل هناك أبحاث أو مقالات صدرت للجابري قبل عام 1979م تؤيد هذا (التناص) حيال (برهان، عرفان، بيان/الجابري) للعقل العربي، علماً أن فهمي جدعان أشار إلى الجابري في كتاب (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة) الصادر 2016، ص 24 بقوله: (الأطروحة العرقية التي وقع محمد عابد الجابري وآخرون ضحية لها، حين سلموا بطرق غير برهانية، وبتعميم مبتسر يبعث على خيبة الأمل، بأن العقل المغربي، بعقلانيته وعلميته الصريحة، قد «قطع» مع العقل المشرقي القياسي الصوفي الهرمسي اللاعقلاني..) وهنا أرى جدعان يقر ضمناً بتقسيمات الجابري للعقل العربي ويستنكر عليه (موضعتها جغرافياً) دون أن يرى فيها أي تقاطع مع ما سبق وأشار له قبل قرابة نصف قرن؟!

أعود لكتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي/1979) ولا أخفي ظنوني وأنا أقرأ الكتاب فكأنما يكتبه فهمي جدعان وفي ذهنه (النخبة الفكرية) للإسلام السياسي/ جماعة الإخوان المسلمين، حيث تجده يشير إلى كتاب علي عبدالرازق عرضاً ونقداً وتفكيكاً (صارماً)، بينما يتحلى بالنفس النقدي (الاعتذاري) عندما يصل إلى حسن البنا ومن جاء بعده من الإخوان راجع ص347 وما بعدها من كتابه (أسس التقدم...) إضافة إلى ما تكتشفه عن ضخامة الكتاب (641 صفحة) لتلاحظ مثلاً وليس حصراً نقولات تتجاوز (11) صفحة لكتابات سيد قطب راجع (ص524 وما بعدها) وقد استخدم جدعان مفردة (جماعة) بدل (مجتمع) في مبحث الخاتمة: (الإسلام والمستقبل) عندما قال ص576: (التطور المحتوم في الأحوال الوضعية المشخصة للجماعة ونظمها مما يمكن أن يتم على نحو تغير بطيء وفقاً لسنة بينة أو لعوامل كامنة في الأشياء، أو بفعل مبادرات تهيئ العقول لتقبل الأوضاع الجديدة...) ولا أخفي كراهيتي لممارسة (التقية) بثوب الأكاديمية للحيلولة دون الوقوع في (فخ التصنيف) لكن ركوب موجة المرحلة تمت بامتياز آنذاك، وصدرت عدة طبعات تالية، وحصل على جوائز تقديرية، لنراه من جديد يمارس ركمجة فكرية جديدة في كتابه (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة 2016) حيث تقرؤه ناقداً شرساً للعقلانية والحداثة كتوطئة لإقرار نوع تلفيقي جديد سماه: (الحداثة القرآنية) ثم يسترسل فيقول: (وقد أكون أقرب إلى الدقة إن سميتها بالحداثة الفرقانية، ذلك أن الوحي الإسلامي حين جاء ليكون علامة فرق وافتراق بين... ما سمي «الجاهلية» وبين «عصر الأنوار») راجع ص88 من كتاب (مرافعة للمستقبلات...)، فكأنما تخلصنا من لعبة إخوانية قديمة اسمها (أسلمة العلوم) ليخرج علينا فن جديد أعمق خطراً اسمه (أسلمة تاريخ العلوم) بإسقاطات تلفيقية تجاوزها الزمن، وهي نتيجة طبيعية تصيب كل من يقاوم (الحداثة) بأسلمتها للحفاظ على مفاهيمه الكلاسيكية وهو غارق إلى حد الأذنين في (الحداثة)، ليتفاجأ بنفسه وقد تحققت بداخله (حدثنة الإسلام) الخاص بضميره الديني، وهذا ما أظنه حصل لفهمي جدعان ممن يرى في الإسلام أداه فاعلة تمر من خلالها مرجعيته الأعلى وهي (القضية الفلسطينية)، فمع إقراره بالخلافات الفلسطينية القديمة في (هذا حسيني وهذا نشاشيبي وهذا وطني وهذا معارض) ص63 من مذكراته (طائر التم)، فإنه بالمقابل يصدر حكمه الشرعي والقانوني فيصف اثنين من كبار المفكرين السياسيين (سعودي وإماراتي) بقوله: (الليبرالي المرتد الخائن، الوغد) ص 468، إضافة إلى وصفه (لمثقف وروائي مصري بما يشبه هذا) ص 177 من مذكراته (طائر التم)، بسبب رأيهم في فلسطين المخالف لموقفه، أي إن فلسطين ــ وفق ما فهمته من مذكرات جدعان ـ تكاد تكون من أصول العقيدة الصحيحة ولاءً وبراءً؟! بينما هي قضية تخص (الوطنية الفلسطينية) ومن الحماقة سحبها على بقية العرب من مسلمين ومسيحيين، فلن يكونوا فلسطينيين مثلاً أكثر من حركة فتح في اتفاقية أوسلو 1993م، فمن يزايد على المناضل ياسر عرفات؟! فهل نلوم فهمي جدعان على مخزون الطفولة مع الشيخ مراد؟! وهل انصرافه عن حلقة الشيخ مراد سببه ما فيها من تكفير كما يقول؟ لا أظن، راجع ص 140 من مذكراته (طائر التم)، حيث إن التكفير في ظني ليس المشكلة، بل الأسلوب المكشوف هو المشكلة ولهذا تضايق من الشيخ مراد ولم يتضايق من (الانتهازي الأكبر) حسن الترابي وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة الثانية.

***

مجاهد عبد المتعالي

عن جريدة الوطن السعودية: يوم: السبت 21 ديسمبر 2024 - 20 جمادى الآخرة 1446 هـ

 

استطاعت المنظومة الأخلاقية إثبات دورها الحيوي والفعال باستمرار في تنظيم الإطار العام للديمومة السلوكية الإنسانية ككل، وخصوصاً عبر ما تقوم به من غرس لمفاهيم قيمية ومبادئ أخلاقية تتداخل مع مختلف المجالات التي يحتك بها ويتفاعل معها الإنسان في حياته.

وفي ذات الوقت فقد مثلت الفتوى تلك الأداة الفقهية الإسلامية الحيوية، التي تسمح بالتعامل مع مختلف القضايا العملية والأخلاقية، من خلال مد جسور الفهم والإيضاح بين كل من النص الديني والتطبيق العملي، والآليات التي يمكن من خلالها بلورة صورة ورسالة النص الديني بطريقة صحيحة ودقيقة بعيداً عن الإيهامات والضبابيات، وبالتالي يستطيع المسلم العيش على ضوء تعاليم الدين وليس فقط تطبيقها في مختلف سياقاته المعاصرة، وبالتالي فإن كلاً من الفقه والأخلاق يشكلان كفتي ميزان يتعين الحفاظ على التوازن فيما بينهما، حيث إن الفقه يوفر الإطار القانوني والتشريعي، بينما تمثل الأخلاق المادة الأساسية الخام التي يمكن من خلالها تطبيق تلك الأحكام وتفسير أوجه فهمها ومآلاتها.

وبتقريب الصورة أكثر على البناء الأخلاقي الإسلامي، نجد أنه يعتمد بشكل مباشر ورئيسي على مجال الفقه، وذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود المتمثل في تنظيم السلوك الإنساني بالتوازن مع المبادئ العليا للدين، مثل الرحمة والصدق والعدل.. وغيرها. وهذا إلى جانب حفظ الضرورات الخمس، مما يعني القدرة على بناء التوازن بين جانبي الحق والواجب. ومن الجدير بالذكر أن ما يوثق هذا التوازن ويجعله صيغة مقنعة ومقبولة لدى الناس هو الإدماج الواضح لكل من الجانب القانوني مع البعد الأخلاقي الذي بدوره يقوم بتعزيز السلوك الأخلاقي، وبالتالي بناء علاقات إنسانية في صياغة سليمة.

ولا يبدو أن السلاسة تطبع دائماً هذه العملية الإفتائية، وبخاصة في ظل المستحدثات الجديدة ضمن الظرفية الزمانية والمكانية وما فرضته من تحديات معاصرة متعلقة بتطور التكنولوجيا الحيوية والاقتصاد الرقمي، حيث أصبح مطلوباً من الآلة الفقهية والعقل الفقهي والأخلاق الفقهية توسيع دائرة التوازن بحيث تستطيع إيجاد تناغم متزن يحافظ على التقاليد الدينية وتلبية الاحتياجات الحديثة العصرية.

وإن تعاظم مسؤولية الفقهاء تلح على ضرورة الارتقاء بمجالات الفتوى وأدواتها بحيث تستطيع الجمع بين الفهم والتطبيق، النص الديني وقضايا الواقع المعاش، لا سيما أن الحفاظ على الديناميكية الفقهية الأخلاقية يعَد أهم المحاور التي يمكن الارتكاز عليها في إبراز المرجعية القيمية.

ومن هذا المقام يمكن الاتفاق على أهمية الدور الأخلاقي للفتوى وتوسيع نطاقه، فهي لا تقبل التقييد في تقديم الإجابات على المسائل الفقهية وحسب، وإنما توسيع دائرة الصلاحيات التي تمكن الفتوى من تطبيق وتحقيق الدور الأخلاقي المتركز فيه توجيه الفكر الأخلاقي الإنساني، والقدرة على توجيه التيارات الفكرية داخل المجتمع بحيث لا تخرج عن النطاق السلوكي المنضبط والمسؤول، والذي يحتاج الكثير من الجهد لبناء العلاقة بين السلوك ودوافعه وفهم انعكاساته وتأثيره على المجتمع المحيط، مما يمكن استثماره في خطوة لاحقة من خلال بث تجارب فقهية نموذجية ناجحة استطاعت تشجيع الأخلاق الإسلامية النابعة من التفكير النقدي الواعي للمكانة التي تحققها القيم في حياتنا، ومستقبلنا. ولذا فلا يمكن تخيل إمكانية وجود فتوى مبنية أخلاقياً وراء أي نوع من النزوع نحو التطرف القيمي والسلوكي للأفراد.

وكل هذا لا يغني عن تسليط الضوء على الشخصية المسلمة ذاتها، إذ هي بحاجة لإيجاد معادلة فقهية ذات بناء أخلاقي تمكن الأفراد من تشكيل وعي إسلامي أخلاقي قادر على تجاوز التحديات المعاصرة المتزايدة، مما ينعكس تلقائياً على المسؤولية الأخلاقية والعلمية والفكرية لمتصدّري الإفتاء، حيث يتوقع منهم مسايرة التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية، وامتلاك الأداة النقدية القادرة على تمحيص الآثار والتداعيات والانعكاسات، وحتى استشراف ما هو قادم، وبالتالي يصبح التعامل مع المسائل الأخلاقية المتصلة بمعطيات الزمن المعاصر ليس عصياً على الفهم ولا بعيداً عن التعامل المباشر والفعال في الوقت الحقيقي المطلوب.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يناير 2025

 

لم يكن مفهوم العلمانية-كما تحدثت في مقالة ماضية- مفعّلاً للتبيئة بسبب الترجمة السطحية للمعنى، نشبت سجالات طويلة لا تحصى، وبلغت ذروتها مع اشتداد التأزيم الأصولي، وأخص بالذكر ما طرحه محمد قطب المنظر الفكري للإخوان ولتياراتها المتفرعة في كتابه «واقعنا المعاصر» الذي صار الفصل المخصص حول العلمانية في الكتاب مرجعاً للمجاميع المتشددة، ولأن نقده كان مقروناً بمقولات معاجم وكتاب وفلاسفة غربيين ظنّ المناوئون أن ماقاله محمد قطب هو الحق المطلق، وتلاه عدد كبير من المنظرين الآخرين الذين لخصوا ماقاله وبسطوه ليكون بين أيدي الشباب المتحمس المتمرد.

لكن ماهو المعنى حين نقول «العلمانية»؟!

هذا السؤال يعيدني إلى فيلسوف كبير هو محمد أركون الذي طالما شكا من ضبابية مفهوم العلمانية بالترجمة إلى العربية، موضحاً أننا إذا قلنا laïcité بالفرنسية، فإن المعنى للمفهوم أكثر إشعاعاً وسطوعاً ودلالةً من ترجمته إلى العربية بـ«العلمانية»، وآية ذلك أن المفهوم علاوةً على الضلال الأيديولوجي في تفسيره وحمولة الشحن بوجه العلمانية باعتبارها تسحق الدين وحضوره بالمجال العام، فإن مناحي أخرى من الدلالات لا تتضح كفايةً بالشرح العربي. فالمفهوم لا يضع الدين مقابل الدنيوية، بل وظيفة المفهوم متعددة، ومجالات فعله أكبر من تفاسير الفصل بين الدين والدنيا، بل يحمل فضاءً من الترتيب للمجال العام لتحريره من القيود التاريخية، وجعل الحياة أكثر تشبّعاً بحضور الإنسان وازدهار واقعه، ليست وظيفة العلمانية أن تتدخل بأي تفسير ديني، ولا أن تصحح أي مفهوم عقائدي، بل تعمل على ترتيب واقعٍ أقل كارثيةً، بدليل أنه انبجس بعد عهودٍ من الحروب والنزاعات الأهلية وقصص الدماء.

وهنا أستشهد بجورج طرابيشي في كتابه «هرطقات»، حيث خصص فصلاً بعنوان «بذور العلمانية في الإسلام» وفيه يساجل لا الحجج الإسلاموية وحدها، ولا الأكاديمية الناجزة والسريعة، وإنما حتى الاستشراقية، ضارباً بذلك مثلاً برنارد لويس الذي يعتبر أن الإسلام: «أصله الجوهري اتصالي، وليس انفصالياً كما هو حال المسيحية»، وذلك بغية نفي إمكانية حدوث تطور لدى المجتمعات الإسلامية ضمن تحليل نمطي، ما عزز من استحالة وجود علمانية في الدول الإسلامية.

وعن ذلك يعلق طرابيشي، ويقول:«وجدنا مستشرقين ومختصين بالدراسات الإسلامية يسايرهم في ذلك محترفون محليون للمنافحة عن الإسلام يؤكدون بوثوقية لا تحتمل الشك أن الإسلام لم يعرف مبدأ الفصل بين الدين والسياسة كما عرفته المسيحية في التمييز الإنجيلي الشهير، وكما في توزع السلطتين الروحية والزمنية بين الباباوات والقياصرة أو الباباوات والأباطرة في عهود الإمبراطوريات المقدسة الرومانية والبيزنطية والجرمانية، ثم بين الباباوات والملوك مع انبلاج فجر الحداثة ونشوء الدولة القومية».

الخلاصة، أن غرض هذه المقالة الدعوة لإزالة لبس عمره أكثر من قرنٍ من الزمان، إذ يتم تداول تفسيرات ونتائج وأنماط حول العلمانية وعلاقات المجتمعات المسلمة معها من دون تبصر، وهذا سببه عدم التدقيق بتاريخ المفهوم وبخاصةٍ في هذا الظرف العصيب الذي يجعل من تبيئة مثل هذا المفهوم صعباً على الجماهير التي تفضّل الشعبية الخطابية على المفاهيم العلمية وأسسها وتاريخها وتطوراتها عبر العصور.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 يناير 2025

رحل المفكر البحريني البارز والصديق العزيز محمد جابر الأنصاري الأسبوع الماضي. آخر مرة التقيت به كانت قبل سنوات في بيروت، على هامش أحد مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي، وقد بدت عليه أوانها نذر الشيخوخة والمرض وإن كان ما يزال محتفظاً بروحه المرحة وعمقه الفكري الذي لا خلاف حوله.

كان الراحل نموذجاً فريداً من بين المفكرين العرب من حيث الاهتمام وطبيعة المنهج والتوجه. لم يسع إلى بناء مشروع لقراءة التراث على غرار مفكرين بارزين عاصرهم مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطيب تزيني.. رغم اهتمامه الواسع بالمسألة التراثية واطلاعه الدقيق على نصوص التقليد العربي الوسيط. لقد توجه الأنصاري إلى ما أسماه نقد الواقع العربي بدلاً من الاكتفاء بالوقوف عند البنية الفوقية للمجتمع العربي، أي التراث والفكر.

ما استوقف اهتمامَه هو ما عبّر عنه في عنوان أحد كتبه «التأزم السياسي عند العرب»، أو بعبارة أخرى مظاهر الخلل التاريخية والمجتمعية العميقة في علاقة العرب بالمسألة السياسية ماضياً وحاضراً. لم يغب تاريخ الأفكار عن منهجية الأنصاري في مقاربة الإشكالات السياسية للمجتمع العربي، بل كان من أهم قراء العلامة ابن خلدون مؤسس «علم العمران البشري» ومن أكثر مستخدمي نظريته الشهيرة في العصبية والدولة، والتي اعتبر أنها تصلح لتفسير مظاهر الخلل في نمط الاجتماع السياسي العربي القديم. بيد أن الجوانب الفكرية لم تكن لتطمس لديه المحددات الاجتماعية الجذرية، من قبيل تضارب البنيات العصبية والدولة من حيث هي كيان سياسي مستقر، وانقطاع الحياة السياسية العربية مكانياً وزمانياً، وضعف الثقافة السياسية الجامعة والائتلافية.

ورغم أن الأنصاري حافظ على انتمائه العروبي القوي، فإنه في كتابه المهم «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» فنّد الأطروحة السائدة حول المؤامرة الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة الأمة الواحدة، مبيناً الجذورَ التاريخية والموضوعية لأغلب الدول الوطنية العربية القائمة حالياً، ومطالباً الفكر القومي العربي بتجاوز طوبائية الوحدة الاندماجية العضوية الفورية التي طبعت الأيديولوجيات القومية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.

وهكذا يدعونا الأنصاري إلى غرس قيم المواطنة المدنية الحديثة التي يَعتبر أنها مقوم البناء السياسي المنشود عربياً، بما يعني مصالحة العرب مع السياسة وبناء كيانات قادرة لأول مرة على التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة، دون سلطوية قمعية مانعة لتشكل الدولة التعاقدية الحرة، وإن كانت المحطة الديمقراطية نتيجة تاريخية متأخرة للبناء السياسي الموضوعي كما تبين التجربة الأوروبية الحديثة. ولا شك في أن الأنصاري قدّم أهم قراءة للفكر السياسي العربي المعاصر في كتابه القيِّم «الفكر العربي وصراع الأضداد»، والذي عالج فيه الكتابات الأيديولوجية والفكرية العربية في العصر الحاضر من منظور الاتجاه إلى التوفيقية واللاحسم في النظر إلى القضايا الجوهرية للمجتمع العربي.

وقد استوقفني في هذا الكتاب، كما ذكرتُ مرة للمؤلف الراحل، قراءته العميقة وغير المسبوقة لمشروع ميشيل عفلق الفكري والسياسي الذي تميز ضمن كتابات القوميين العرب المعاصرين بالرصانة والجدية والاطلاع الواسع على أدبيات الفكر الغربي. وفي العنوان الفرعي الطويل الذي أعطاه الأنصاري لكتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» وردت المقولة التالية «كيف احتوت التوفيقية الصراع المحظور بين الأصولية والعلمانية والحسم المؤجل بين الإسلام والغرب.. تشخيص حالة اللاحسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة». وكما هو واضح من هذا العنوان الفرعي، فإن المؤلف يرى بأن الفكر العربي المعاصر لم يستطع حسم الجدل الذي ولّدته الثنائيات الكبرى التي استأثرت باشتغاله مثل العقل والإيمان، التراث والمعاصرة، القومية والقطرية، الرأسمالية والاشتراكية، الحرية والعدل، والشرق والغرب.. إلخ.

وعلى عكس الانطباع الأولي، لا يقف الأنصاري ضد مسلك التوفيقية الذي يراه حتمياً ولا مناص منه ولو مؤقتاً، لكنه ينتقد ما يفضي إليه هذا التوجه من العجز عن حسم القضايا الجوهرية التي يطرحها الواقع العربي. في السنوات الأخيرة غاب صوت محمد جابر الأنصاري الذي أقعده المرض وأنهكته الشيخوخة، وكم كنا بحاحة إليه في لحظات فارقة من التاريخ العربي.

لكن أفكاره الثاقبة ساهمت دون شك في قراءة واستكناه المسار الراهن للمجتمعات العربية. ونحن نودعه اليوم، نرى الحاجة ماسة إلى الاحتفاظ بروحه النقدية الملتزمة ومنهجيته الجامعة بين التشخيص الموضوعي والبناء التركيبي المفتوح على الأمل والمستقبل. رحم الله محمد جابر الأنصاري، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

***

د. السيد ولد أباه

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 5 يناير 2025 23:45

المستشرقُ والجاسوسُ البريطاني ج. هيوارث دن عرفَ حسن البنَّا وعرف «الإخوانَ المسلمين» وعرفَ سيد قطب عن قرب. عرفهم معرفةً شخصيةً مع معرفةِ قراءةٍ لكتابات سيد قطب. وعرفَ البنَّا و«الإخوان المسلمين» - إضافة إلى المعرفة الشخصية - معرفة دراسة كانا هما موضوعها.

تعدت علاقته بسيد قطب علاقة المعرفة الشخصية إلى علاقة صداقة وعلاقة مؤازرة ومساندة له، فهو - مع المستشرق ولفرد كانتويل سميث - من ربطه وربط كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وربط بعثته إلى أميركا بـ«مشروع النقطة الرابعة» الأميركي.

هیوارث دن عايش تجربة سيد قطب في مجلة «الفكر الجديد»، وكان متحمساً لها، إذ قال عن هذه المجلة: إنها «كانت تبشر بأن تكون من أكثر التجارب إثارة في العصر الحديث»!

وكان متحمساً لسيد قطب إذ قال عنه: «إن سيد قطب كاتب وناقد أديب من الدرجة الأولى»!

هذا الحماس لتجربة سيد قطب في هذه المجلة ولسيد قطب، الكاتب والناقد الأديب في طوره الفكري الجديد في هذه المجلة، سببه أنهما حققا غرض مهمته الجديدة في مصر، بعد أن انتقل من العمل مع المخابرات البريطانية إلى العمل مع المخابرات الأميركية التي كانت معنية إلى درجة قصوى ابتداء من منتصف أربعينيات القرن الماضي بمقاومة انتشار الأفكار الشيوعية في مناطق عدة من العالم. ومن هذه المناطق منطقة الشرق الأوسط التي كانت مصر فيها هي الثقل الراجح والوازن.

بحكم الصداقة بين هيوارث دن وسيد قطب، أطلع سيد قطب هيوارث دن على خبايا الصدام بينه وبين حسن البنا حول مجلة «الفكر الجديد» وعلى سببه. فأمدنا بها هيوارث دن في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة».

وصل هيوارث دن في هذا الكتاب إلى حكم على حسن البنا، بأنه لا يقبل بالمنافسة ولا يطيقها فأورد مثالين على ذلك. هذان المثالان مستمدان من «شركة الإعلانات العربية» التي أسسها البنا عام 1947.

المثال الأول، هو تفجير التنظيم السري في جماعة «الإخوان المسلمين» في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948 «شركة الإعلانات الشرقية»، وهي شركة إعلانات كبرى في مصر.

المثال الثاني، وهو المثال الذي يهمنا في هذا المقام، فلنستشهد بما قاله عنه.

قال عن هذا المثال: «استخدم حسن البنا الشركة كأداة لإجبار بعض المجلات على الخروج من السوق، فيما إذا كانت تعتبر خطراً عليه أو غير راغبة في أن يشتريها. فالمجلات في مصر لا تستطيع الوفاء بمدفوعاتها، ما لم تحصل على نصيب كافٍ من الدعم من المؤسسات التجارية من خلال الإعلانات، وخصوصاً تلك المجلات التي ليس لديها سوى رأس مال صغير، حيث كان عليها الاعتماد على مطابع أخرى لإنجاز أعمالها. وقد استخدمت تلك المناورات ضد سيد قطب محرر مجلة (الفكر الجديد)، والذي كان يكتب مقالات عن الإصلاحات الاجتماعية على أسس إسلامية. وقد اتصل ممثلو (الإخوان) بالمحرر وزملائه مرات عدة، بناء على تعليمات من حسن البنا لاستمالتهم على أساس أن عملهم هو نفس ما يريد (الإخوان) عمله بالتمام وأنه لا مجال هناك للمنافسة. وأدى رفض سيد قطب الامتثال لمطالبهم إلى مقاطعة أدت إلى عدم استطاعة بيع المجلة من خلال القنوات العادية. وفي النهاية أقفلت المجلة، وكان السبب الآخر لذلك هو العوائق التي فرضها إعلان قانون الطوارئ».

بعد أن أمدنا هيوارث دن بخبايا الصدام بينهما، وأعلمنا بسببه، علق على ما فعله البنا بسيد قطب، ساخراً، فقال: «كان حسن البنا إنساناً غيوراً، فلم يستسغ المنافسة من قبل أي إنسان في ذلك المجال؛ كان يريد أن يكون (الحبر الأعظم)، وألا يكون ثمة (مسيلمة) في مصر».

في حاشية من كتابه، قدم هيوارث دن تعريفاً بمجلة «الفكر الجديد». ومما قاله في هذا التعريف: أن سيد قطب أنشأها مع سبعة آخرين من زملائه. وأنها مجلة أسبوعية متخصصة في القضايا الاجتماعية. يذكر في سياق تعريفه بها معلومة نستنتج منها أن عمل سيد قطب وزملائه في هذه المجلة لم يقتصر على الكتابة فيها بل شمل العمل الميداني الصحافي. هذه المعلومة هي قوله: «قام سيد قطب وزملاؤه بجمع عدد من التقارير عن أوضاع معيشة مواطنيهم ونشرت مع الصور». هيوارث دن لم يذكر من أسماء زملاء سيد قطب السبعة سوى اسم واحد، وذلك في خاتمة تعريفه بالمجلة.

ففي هذه الخاتمة قال: «كان أحد زملائه محمد الغزالي قد ألّف كتابين أحدهما عنوانه (الإسلام والاتجاهات الاقتصادية - 1947)، والآخر (الإسلام والمبادئ الاشتراكية - 1948)».

وفي يقيني أن موضوعي كتابيه هذين اللذين يعتمدان على مجابهة الإسلام بالشيوعية بالقول بأن الإسلام يتضمَّن الفكرة الاشتراكية، فلا حاجة لنا بالاشتراكية العلمية التي سبقتها في الظهور من أزمان بعيدة اشتراكية الإسلام، هو السبب الذي جعله يخصه بالذكر.

في رسالته للدكتوراه في جامعة ميشيغان الأميركية «المراحل التكوينية لمسيرة سيد قطب الفكرية وصعوده كداعية إسلامي» الصادرة عن هذه الجامعة عام 1983، عدّد عدنان أيّوب مُسلّم أسماءهم، فسرد الأسماء التالية: صادق إبراهيم عرجون، محمد الغزالي، فايد العمروسي، عماد الدين عبد الحميد، محمد قطب، نجيب محفوظ، عبد المنعم شميس، عبد الحميد جودة السحّار.

وهؤلاء في العد ثمانية وليسوا سبعة!

سيد بشير أحمد كشميري في رسالته للدكتوراه «سيد قطب، الأديب العملاق والمجدد الملهم في ضوء آثاره وإنجازاته الأدبية»، اعتماداً على رسالة عدنان أيوب مسلّم الجامعية، صاروا عنده أيضاً ثمانية أسماء.

علي شلش في كتابه «التمرد على الأدب: دراسة في تجربة سيد قطب» مع أنه اعتمد على دراسة مسلّم الجامعية فإن عددهم في كتابه سبعة حين سرد أسماءهم، لأنه حذف منها اسم سعيد جودة السحار. وقد حذفه لأنه يعلم بأن مشاركاته في تلك المجلة كانت مشاركات أدبية محصورة في ركن صغير منها هو ركن الأدب (راجع كتابي علي شلش: «دليل المجلات الأدبية 1939 - 1952» و«المجلات الأدبية في مصر: تطورها ودورها»). وللحديث بقية

***

علي العميم

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 06 رَجب 1446 هـ - 5 يناير 2025 م

 

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: 1 يناير 2025 م ـ 02 رَجب 1446 هـ

 

كتاب جديد يتناول العقائد وكأنها شركات ليؤكد أن كثيراً منها سقط على مدى قرون حين عجز عن المنافسة في سوق التقوى

***

ملخص

لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية والاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو.

تطرح قواميس اللغة الإنجليزية معاني عدة لكلمة platform (المنصة)، فهي الرصيف في محطة قطارات والأحذية سميكة النعال والسياسة المعلنة لحزب ما، وتشير الكلمة في الاقتصاد إلى تنظيم يتيح تكوين العلاقات والعمل بمزيد من الفعالية، ومن أمثلة المنصات بهذا المعنى محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي وبعض تطبيقات الهواتف الذكية، وهذا هو المعنى الذي يراه بول سيبرايت منطبقاً على الدِين.

وسيبرايت البريطاني أستاذ في معهد الاقتصاد الصناعي وكلية تولوز للاقتصاد في جامعة "تولوز" الفرنسية، وقد صدر أحدث كتبه بعنوان "الاقتصاد الإلهي: كيف تتنافس الأديان على الثروة والسلطة والبشر" عن مطبعة جامعة برينستن.

يستهل الأستاذ المساعد للدراسات الإسلامية في "فولر سيميناري" شادي حامد مقالته المسهبة حول الكتاب ["فورين أفيرز"، يوليو (تموز) - أغسطس (آب) 2024] مستعرضاً مؤشرات حديثة على تراجع الدِين، فبازدياد الناس ثراء وتعليماً ابتعدوا من طلب السلوى في الدِين، وانخفضت معدلات الانضمام إلى الكنائس في أوروبا الغربية، وزعم أنصار نظرية التحديث أن الدِين يزدهر بوصفه واقياً من الفوضى، وحينما ينتظم المجتمع يتراجع حضوره.

سوق التقوى

"لكن قصة الدِين في القرن الماضي ليست قصة انحسار وإنما قصة نمو ورسوخ مطردين، وهذا ما يؤكده كتاب بول سيبرايت الجديد الذي يصر على أن "العالم يتنقل على نحو غير مشهود من قبل إلى الخضوع لحفنة أديان، من أهمها الإسلام والمسيحية اللذان يباهيان الآن بقرابة 2 مليار من أتباع الأول و1.8 مليار للثاني، مع توسعهما ونموهما وسط الشعوب سريعة النمو السكاني وبخاصة في أفريقيا".

"وخلافاً لنبوءة نظرية التحديث وتنويعاتها فلم يقض الرخاء والنمو على الدِين، ففي الصين الآن، بحسب سيبرايت، "من الممارسين النشطين للمسيحية والإسلام ما لا يقل عدداً عن أعضاء الحزب الشيوعي"، وفي الهند يلعب الدِين دوراً متنامياً في الحياة العامة، وفي الولايات المتحدة تهاوى الانتماء إلى الكنائس لأدنى من 50 في المئة عام 2020 بعد اقترابه من 70 في المئة في معظم القرن الـ 20، لكن 88 في المئة من الأميركيين، وفقاً لاستطلاع رأي عام 2023، لا يزالون يؤمنون بالإله الإنجيلي أو بقوة عليا أو قوة روحية أخرى".

يكتب سيبرايت أن من يتصورون انسحاب الدِين أمام تقدم العلم والرخاء يغفلون عن أبعاد أخرى للدِين، فهو ليس مسألة اعتقاد شخصي وحسب، ولكنه ممارسة جماعية تظهر في تجربة طقوسية مشتركة عامة، ويقول إن الأصل الإغريقي لكلمة creed (العقيدة) الإنجليزية وهو symbolon يشير إلى "آلية يتحقق بها المرء من هويته عبر المطابقة بين نصفي جسم، فكأن العقيدة تتعلق بلجوء المرء إلى سلطات صحيحة أو انتماء إلى جماعة معينة أكثر مما يتعلق بلاهوت".

"والنظر إلى الدِين بوصفه فعلاً اجتماعياً في الأساس، أي شيء يحيا بممارسته رفقة آخرين، يسمح بالابتعاد من الانشغال بجوهر المعتقد الفردي.

"الاقتصاد الإلهي" كتاب طموح يحاول أن يفكر تفكيراً اقتصادياً في شيء كثير مما يبدو بعيداً من متناول فهم العلوم الاجتماعية، إذ يذهب سيبرايت إلى أنه يمكن فهم أنجح الرسائل الدينية وأدومها في ضوء الكلفة والربح والعرض والطلب والمصلحة الذاتية المنطقية، وقد تبدو للمؤمنين في هذا النهج غلظة، فهم يرون إيمانهم شيئاً فائقاً للوصف وغير قابل للاختزال في مصطلحات مادية سقيمة، غير أن فهم سيبرايت للدِين يعيننا على تفسير سر استمرار قوته في عالم علماني".

ويذهب سيبرايت في "الاقتصاد الإلهي"، بحسب ما يكتب حامد، إلى أن الدنيوي هو أساس الروحاني في تكوين التنظيم الديني ويفكر في الأديان وكأنها شركات، فقد سقطت عقائد كثيرة على مدى القرون لعجزها عن المنافسة في سوق التقوى، ويستعين سيبرايت بآدم سميث في استكشاف كيفية استعمال الأديان كمحفزات سوقية لصياغة طبيعة الرسائل الدينية وفحواها، فلتجتذب الحركات الدينية أتباعاً لا بد من أن تكون ديناميكية ومرنة ومتقبلة للتنوع.

وينقل سيبرايت عن سميث مقارنته في القرن الـ 18 بين الوعاظ "الميثوديين" النشطين والحماسيين في معظم الأحيان، وقساوسة كنيسة إنجلترا الأميل إلى التحفظ والرزانة، فالأوائل كانوا بحاجة إلى اجتذاب جماهير جديدة ليكسبوا لقمة عيشهم، فكانوا يعظون بمزيد من الحميّة، أما الآخرون فكانوا ينعمون برواتب مضمونة ورعاية سياسية ومزايا مؤسسية فما كانوا يشعرون أنهم مرغمون على تغيير سلوكهم".

"هذه المزايا شبيهة بالدعم الذي تقدمه الحكومات لبعض شركات القطاع الخاص فتقل دوافعها إلى المخاطرة، والأديان شأن الشركات فلا بد من أن تتنافس على الزبائن، ويعني هذا في بعض الأحيان أن تؤكد جوانب تميزها، ويعني في أوقات أخرى أن تخفف من دعاواها اللاهوتية المنفرة وصولاً إلى جمهور أوسع، وفي بعض الأحيان قد تحدد القوى المادية الغاشمة النجاح أو الفشل"، إذ يكتب سيبرايت أن "أجمل الرسائل صوغاً قد تعاني غياب موارد اقتصادية تدعمها، ويصعب عليها أن تجد آذاناً مصغية وسط صخب الحياة".

لكن حامد لا يقتنع كثيراً بذلك التحليل، "ففي بداية المسيحية والإسلام، وهما بمنزلة 'وول مارت' و'أبل' في سوق الدِين اليوم، لم يكن لديهما إلا أقل القليل من الموارد، وقبل أن يكتسبا القوة كانا بلا حول ولا قوة، ويتجسد ذلك بجلاء في صلب المسيح، ولا يتعمق سيبرايت في الأسباب الدقيقة لجاذبية هذين الدينين بالذات لدى الناس دون غيرهما، لكنه يقنعنا بأن الأديان تنجح وتنتشر لأنها تقدم سلعاً يحتاج إليها الناس ويرغبون فيها، والبيانات تؤكد هذا إذ يميل المؤمنون في العادة إلى أن يكونوا أكثر من غير المؤمنين سعادة وامتلاء وارتباطاً بغيرهم من المواطنين"، ويضرب سيبرايت المثال بامرأة تدعى غريس قابلها في غانا.

توضح الكاهنة الأنغليكانية وأستاذة تاريخ الدِين بجامعة أوكسفورد جين شو في استعراضها للكتاب ["فايننشال تايمز"، 17 مايو (أيار) 2024] أن سيبرايت يفتتح "الاقتصاد الإلهي" بحكاية غريس ذات الـ 24 سنة، وهي بائعة المياه المثلجة في إشارات المرور بشوارع أكرا وتكسب من عملها دولاراً ونصف الدولار يومياً، وتقتطع 10 في المئة من هذا الدخل الزهيد، فضلاً عن تبرعات أخرى، لتقدمها إلى كنيستها البروتستنتية على رغم أن ذلك يعني أنها تستطيع دفع ثمن بعض علاج عمتها التي تعيش معها في بيت صغير داخل حي عشوائي، وتزداد صعوبة فهم ما تفعله غريس حين نعلم أن قسيسها في الكنيسة ثري متبجح الثراء يقود سيارة من طراز مرسيدس ويرتدي حزاماً ذا قفل كبير عليه علامة الدولار.

يفكر سيبرايت في تفسيرات محتملة لسلوك غريس فلا يجد إلا أن للتقوى في بعض الأحيان منافع ملموسة، "فبانتماء غريس إلى كنيسة تضم أمثالاً لها في التفكير يمكن أن تقابل رجالاً منضبطين يستيقظون في التاسعة صباح الأحد [أي يوم الإجازة]، ولديهم الاستعداد لقضاء ثلاث ساعات في الاستماع إلى عظة مطولة، ومن الواضح أن العثور على شريك جيد محتمل في الحياة وأب لأبناء لا يزالون في علم الغيب ليس بالأمر الذي يمكن تسعيره".

وعلى رغم أن هذا التفسير لدوافع الصدقة لدى غريس قد يكون مقززاً في نظر مؤمن، مهما يكن دينه، لكن المرء لا يستطيع استبعاد الاحتمال لأن الناس يبحثون في الدِين عن عشرات الأشياء المختلفة ويجدونها، بدءاً من علاقة مباشرة مع خالق الكون ونزولاً حتى العثور على عريس، بل إن بوسع من يبحث في دِين عن دفاتر حسابات وموازنات أن يجد ما يريده.

يكتب شادي حامد أن الدِين يعالج حاجة أعمق من الحاجة المادية، "فالبشر صناع معنى يسعون إلى عالم فاتن هم نتاجه أيضاً، ولا يمكن لعلمنة المجتمعات أن تلغي هذا أو تبطله، فكلما بقي الناس بحاجة إلى المعنى فستظل الأديان معيناً فريداً له، ولقد حاولت أيديولوجيات في العصر الحديث أن تحاكي الدِين في ما يقدمه من اليقين والقناعة والجماعية لكنها لم تحقق إلا نجاحاً عابراً ومعرضاً لتقلبات السياسية، إذ حاكمها الناس دائماً وفق نجاحاتها وإخفاقاتها المباشرة القريبة، بينما تنعم الأديان بميزة أصيلة فيها وهي أنها معنية بالمعنى النهائي، وذلك ما يستعصي على الأيديولوجيات العلمانية، فقد فشلت الشيوعية والفاشية على سبيل المثال فشلاً لا يمكن أن تمنى به المسيحية والإسلام".

"غير أن النجاح الأسطوري للمسيحية والإسلام في القرن الأخير لم يتحقق على حساب العلمانية بالذات، وإنما على حساب الموروثات الشعبية المحلية التي يصفها الدارسون بـ 'الأديان المتوطنة' في مختلف أرجاء العالم، وبخاصة أفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي المجتمعات متزايدة التعولم تخسر هذه الأديان المحلية ويأتي الدِينان العالميان المستقران، أي المسيحية والإسلام، فيوفران من هياكل الدعم والشعائر ما يخفف أثر التغير السريع والاضطراب الناجم عن الهجرة من الريف إلى المدن متسارعة النمو"، أي أن المسيحية والإسلام استفادا من العولمة وكانا علاجاً لها في الآن نفسه.

تجارة مع الله

يبرز حامد إشارة سيبرايت إلى أن "ارتفاع ما يعرف بوفيات اليأس في الولايات المتحدة يتركز بالقدر الأكبر لا في المناطق التي شهدت أكبر الانخفاض في الاعتقاد الديني، وإنما في مناطق الانخفاض الأكبر في الممارسة الدينية، وبعبارة أخرى لا يزال معظم الأميركيين مؤمنين لكنهم فقدوا قدرتهم على التعبير عن إيمانهم بطرق تربطهم بجماعة فيوجهون هذه القدرة وجهة أخرى وهي التحزب على وجه التحديد، ومعروف تماماً أن المسيحيين البيض يؤيدون دونالد ترمب بأعداد مختفلة النسب، لكن غير المعروف بالقدر نفسه هو أن المسيحيين غير المنتمين إلى كنائس هم الموالون له بخاصة".

ويشير شادي حامد إلى ما يسميه سيبرايت بـ "مفارقة التعلمن"، وهي أنه "حتى حينما تقل أهمية الدِين لدى الأفراد فإنه قد يظل مهماً للمجتمع الأوسع، ويبقى الدِين حاضراً في الحياة العامة في معظم أرجاء العالم لأنه يعبر عن هموم أساس وتأسيسية تحتل الصدارة وسط فوضى الصراعات السياسية".

يكتب حامد، "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين كثيراً، لكن العالم ليس كذلك اليوم، ولو أن لنا دليلاً في تحليل سيبرايت فلن يكون العالم كذلك عما قريب".

وتكتب جين شو أن نظرة سبرايت الاقتصادية للدين تجعله يرى فيه جانبي العرض والطلب، "إذ يطلب الأتباع أشياء من الأديان قد تكون مادية مثل التعليم أو الصحة أو الخدمات المالية، وقد تكون روحانية من صلوات وشعائر، وثمة جانب العرض حين يرى سيبرايت أن المنصات الدينية "تجمع بين الأفراد في علاقات منفعة متبادلة لا يستطيع أولئك الأفراد إقامتها بمفردهم".

هل هذا "العرض" هو جوهر ما يختفي وراء دفء النصوص الدينية من قبيل أن المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ أم أن هذا الدفء جزء جوهري من "العرض" لا يبقى لنا إذاً تعامينا عنه إلا جفاف الاقتصاد والسوق؟ وهل فعلاً تتصدق غريس لأنها لا تحتكم إلى المنطق؟ أم لأن الدِين غرس فيها مفهوماً لا يلتفت إليه الاقتصاد، وأعني الإيثار؟

تكتب جين شو أن "كثيراً من الأديان تجعل من معاونة الناس قيمة جوهرية، وتواجه بها ما يوصف كثيراً بالأنانية المطبوعة في نفوس البشر"، أما سيبرايت فيرى "أن بحوث علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع تبين أننا نكون أقرب إلى أنفسنا الحقة عند عطائنا للآخرين أكثر مما نكونها عند تلقينا السلبي لإحسانهم، والأديان التي تتيح لنا فرصة خدمة الآخرين تكون جذابة".

وتضيف أن "الشعائر تعزز هوية الجماعة وتخلق إحساساً بالانتماء"، ويرى سيبرايت أن "المعبد أو المسجد أو الكنيسة قد تكون منصات ناجحة للمواعدة الغرامية أو شبكات تجارية جيدة لأنها تجتذب أناساً لا ينظرون إليها هذه النظرة".

وبوسعي شخصياً، ولست على علم عميق بالإسلام، أن أجد لسيبرايت ما يدعم طروحاته، فإعلاء الممارسة الجماعية على الاعتقاد مثلاً قد يدعمه أن الإسلام يجعل صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد بـ 27 مرة، والقول إن الصدقة تشبع حاجة إنسانياً شبه غريزيو قد يدعمه أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وقوله إن الدِين أفضل من أي تطبيق زواج يدعمه القول "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" أو "اظفر بذات الدِين تربت يداك"، وهناك فوق ذلك آية مباشرة في القرآن تستعير تعبير "التجارة" مع الله، لكن لا ينبغي أن يعني هذا بالضرورة أن الإسلام، أو أي دين، مشروع اقتصادي يحركه ما يحرك المشاريع التجارية من أهداف وغايات، فلماذا لا يعني بدلاً من ذلك أن الدِين يستوعب مجمل جوانب النفس البشرية، السماوية والأرضية والروحانية والتجارية وغيرها؟ ولماذا لا يكون معناه أن الأديان التي تعني ببناء روح الفرد تحرص في الوقت نفسه أن تقيم لهذه الروح المجتمع الحاضن الذي يسهل أن تتناغم معه؟

ينهي شادي حامد مقالته عن الكتاب بقوله "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو، ولو أننا أخذنا حقاً بتحليل سيبرايت فلن يكون عالمنا على هذا النحو عما قريب".

العنوان:

The Divine Economy: How Religions Compete for Wealth, Power, and People

تأليف:

Paul Seabright

الناشر:

Princeton University Press

***

أحمد شافعي - كاتب ومترجم

عن موقع اندبندنت عربية

الاثنين 2 سبتمبر 2024 13:37

"تتردد فى داخلى ثلاثة أصوات: أحدها يحمل مصباح الحكمة الروحية الآتية من الأنبياء، والثانى يحمل عدسة المعرفة التجريبية والرياضية الآتية من العلماء، والثالث آتٍ من الحكمة الكلية للفلاسفة.

الأول هو الدين، والثانى هو العلم، والثالث هو الفلسفة. الأول يجيب عن سؤال: «لماذا نحن هنا؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟»، والثانى ينشغل بالإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكيفية: «كيف يعمل الكون؟ ما القوانين التى تحكم الطبيعة؟ وكيف يمكننا تسخيرها؟». والثالث إنما هو جسر تتساءل العقول المارة عليه: «ما طبيعة الحقيقة؟ وكيف نصل إليها؟» و»ما معنى الخير؟ وكيف نحققه فى الوجود؟». ولا شك فى أن هذه الأسئلة الغائية الكبرى: لماذا؟ وكيف؟ وما الحقيقة؟ وما الخير؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟ هى مفاتيح الوجود الإنساني.

وحين ينشغل العلم بالإجابة عن أسئلة الواقع المادي: كيف يعمل الكون؟ فإن الدين يضيء أسئلة الغاية الكبرى: لماذا خُلقنا؟ وما مصدر القيم؟ لكن الفلسفة تتساءل، عن الأصول المشتركة، بين هذه الأسئلة الثلاثة، وكيفية تداخلها فى الوعى الإنساني، والتحقق من ذلك كله. وإذا كان الدين يعتمد على الوحى الإلهي، كمصدر أساسى للمعرفة، والعلم يعتمد على التجريب والملاحظة، فإن الفلسفة تنطلق من التأمل العقلى والتجريد؛ لفهم البنية الكامنة خلف هذه المناهج المختلفة. وغاية الفلسفة هنا، ليست الإجابة الحاسمة مثل الدين، بل مساءلة وفحص المعنى نفسه؛ للتأكد من دقته وسلامته، فى حدود العقل وحده، أو هكذا ينبغى أن يكون. فالفلسفة، تنظر فى كل هذا لتفهم حدود العقل والوجود.

ونظرًا لهذا الاختلاف فى المناهج، كان النقاش الداخلى فى عقلي، بين الدين والعلم والفلسفة، دائمًا، حوارًا، ولم يكن صراعًا فى يوم من الأيام. لكن الفلسفة تدخل فى هذا الحوار لتعيد صياغة الأسئلة من جديد، فتقول: هل هناك مساحة مشتركة يمكن أن تجمع بين الدين والعلم؟ وكيف يمكن لهذه الأصوات الثلاثة أن تتكامل، دون أن تلغى إحداها الأخرى؟ تطرح الفلسفة هذا التحدي، بوصفها وسيطًا عقلانيًا، لا ينتمى إلى المطلق الدينى أو النسبى العلمي، بل تسعى – من وجهة نظري- إلى بناء جسر بين هذين العالمين، ثم تصعد لتنظر من منظور شامل إلى الوجود.

عزيزى القارئ، لك أن تتساءل: كيف تبحث عن الحقيقة؟ قد تجد نفسك منجذبًا إلى صوت الروح أو العقل الكلى الذى يقودك «حدْسًيا»، أو بلغة أبسط: «بالبصيرة» نحو النقاء الروحى فى الدين. وعلى سبيل المثال، عندما تواجه تساؤلات عميقة، عن معنى الحياة، أو الغاية من وجودك، قد تلجأ إلى القرآن لتجد فيه إجابات غائية تخاطب روحك، مثل آية: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عُبثٌا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» (المؤمنون: 115)، «الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (الملك: 2)، «وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ» (آل عمران: 191). فالقرآن يرفض العبثية، ويؤكد أن الحياة لها معنى كبير وهدف سامٍ .هنا، الدين يمنحك يقينًا وراحة، فى أن حياتك لها غاية سامية تتجاوز حدود هذا العالم، ويمكنك أن تراهن عليها.

أو ربما تأخذ طريقًا آخر، وتغوص فى البحث العلمى لفهم أسرار العالم المادي. مثلا، عندما تتأمل كيف يتكون المطر، سوف تجد أن العلم يقدم لك تفسيرًا دقيقًا يعتمد على قوانين الفيزياء: تبخر الماء من البحار، ثم تكثفه فى السحب، ثم سقوطه أمطارًا بفعل الجاذبية. العلم هنا يجيب عن سؤال «كيف» بشكل دقيق ومباشر، مما يسمح لك، ليس فقط بفهم الطبيعة، بل أيضًا بتسخيرها لمصلحة البشرية، مثل بناء السدود لتخزين المياه دون إلحاق ضرر بالآخرين ودون جور على حقوقهم التاريخية.

أما الفلسفة، فهى تأخذك إلى مستوى مختلف تمامًا؛ فهى لا تعطيك إجابة جاهزة كالدين، ولا تفسيرًا عمليًا كالعلم، بل تجعلك تسأل عن معنى هذه الإجابات نفسها. مثلًا، إذا سألت: «هل الحياة جديرة بأن نحياها؟»، أو «ما سبب وجود الشر فى العالم؟ أو «ما الذى يجعل المعرفة يقينية؟ أو «هل تفسير العلم للمطر يكفى ليجعلنى أفهم جمال السحب والمطر أو رمزيتهما فى حياتي؟»، فإنك هنا تدخل عالم الفلسفة. إنها تدعوك للتأمل فى حدود العقل: إلى أى مدى يمكننا فهم العالم؟ الفلسفة تسأل هذه الأسئلة بعمق، مثلما فعل سقراط عندما قال: «الحياة التى لا نخضعها للتأمل والتفكر لا تستحق أن تُعاش». وقد وردت هذه العبارة فى محاورة «الدفاع» (Apology) لأفلاطون. قالها سقراط فى أثناء محاكمته، عندما دافع عن فلسفته وسعيه المستمر للبحث عن الحكمة والمعرفة. فى هذا السياق، يشير سقراط إلى أن التفكر والنقد الذاتي، هما جوهر الحياة الفاضلة، وأن العيش دون ذلك يعنى العيش بلا غاية أو معنى حقيقي. بهذا، الدين يخاطب روحك وبصيرتك، والعلم يخاطب عقلك العلمى العملي، والفلسفة تجعلك تفكر فى العلاقة بين الاثنين، بل تجعلك تفكر فى كل شيء، وكيف تشكل هذه الأصوات الثلاثة فهمك للوجود بكامله.

وتأسيسا على ذلك، فإن الدين، بملامحه التى تتجاوز حدود المرئي، هو الحلم الإنسانى بالوصول يوماً ما إلى المطلق. أما العلم، بمنهجه التجريبى والرياضي، فهو الأداة التى تحسن معرفتنا بالكون ونرجو أن تجعل حياتنا أفضل. وبينهما، يختبئ السؤال الكبير: كيف يمكن للحلم أن يتعاون مع الأداة، وكيف يمكن للأداة أن تحقق الحلم؟ لن يتحقق هذا بدون تجاوز الماضى وتجاوز أساليب النقاش القديمة، وهذا ما يجب أن تقوم الفلسفة بالإجابة عنه، كمراقب ووسيط وصانع للأسئلة والتحليلات النقدية التى تكشف تداخل الأبعاد الروحية والعقلية والمادية. ومن ثم تجسير الفجوة بين الجميع".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 29 ديسمبر 2024

 

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.

***

خالد الغنامي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 21 ديسمبر 2024 م ـ 20 جمادى الآخرة 1446 هـ

يعود مصطلح النّهضة إلى العصر الحديث، وهذا التّحديد يضع سؤال النّهضة ضمن بلازما ثقافة خاصة، ونقصد انتمائه إلى ثقافة غربية لصيقة بالموروث الكنسي والمعطى التنويري من ناحية أخرى، مما يجعل تلك الثّقافة في تلك الحقبة من الزّمان تسودها قيَّمُ الثّورة على الموروث وطبيعة التّفكير، والتّمرد على كافة أشكال الاستبداد والطغيان. كان سؤال النّهضة في الغرب مشروعا نظرا للانحطاط والتّخلف الذي عاشته أوروبا منذ سقوط الرومان على حسب المفكر مونتسكيو، حيث أثمر سُؤال النّهضة عن ميلاد مشروع تّنويري نهضوي، أخرج أوروبا من سباتها الحضاري وأدخلها حقل التّاريخ بقوة، ولم يكن فلاسفة التنوير أنفسهم يحلمون به.

يفرض فهم السؤال السّالف في سياقاته الحضارية اعتبار النّهضة مجرد مرحلة من مراحل تطور الإنسان، حتى لا تتحول هي ذاتها إلى ما ضد النّهضة، كما يجب التأكيد أن الانبهار العالمي بالنّهضة الغربية ألبسها في كثير من الأحيان حُللاً أسطورية، وربطها بانتصار العقل على مخلفات الفكر الديني، بيد أن الدّارس لتاريخ النّهضة الأوروبية يكتشف أن من أدخل أوروبا إلى عالم النّهضة هو عصر المغامرة أولاً ثم أنوار العقل ثانيا، ونقصد أن الاكتشافات الجغرافية التي حدثت في القرن السّادس عشر بالخصوص من طرف البحارة البرتغاليين والإسبان هي التي فتحت عيون الغرب على العالم الكبير، إذ جعلت الاقتصاد الأوروبي يعرف ثورة عارمة.

يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط

وأعتقد شخصيا أن الرّجال الذين صنعوا النّهضة الغربية هم أولئك الرجال الذين سلكوا غمار البحار أمثال كريستوف ومجلان وفاسكو ديغاما وماركو بولو وأمريكو فيسبوتشي …، أما الفلاسفة الذين يُنسب لهم دوما الفضل في ترسيخ قواعد التّنوير وتأسيس عصر الأنوار ما كانوا ليكونوا لولا تلك النتائج العظيمة لتلك المغامرة التّاريخية التي قام بها أولئك الرجال. كانت النّهضة الإسلامية الأولى ذاتها بفعل الفتوحات الإسلامية الكبرى، فلولا الفتوحات ما كنا لنرى المُتكلمة ولا الفلاسفة ولا المُتصوفة، فالمغامرة هي التي أخرجت العرب من القوقعة الصحراوية الممتدة في سَراب الفلاة إلى المَدَنِية والعِمْران المرتبطان بشاهدية الإنسان وعالميته. وفي المقام نفسه، أعتبر أن الفكر الإصلاحي كان أكثر اقترابا من حركة التنوير بفعل الزمن، وكانت الدّعوة إلى التّنوير والتثوير أعمق مما هي عليه اليّوم، فنحن في كثير من المسائل نستحضر الطهطاوي وحمدان خوجة لنبرر الثّورة على الموروث العقيم والدّعوة للأخذ من الغرب.

يعود الغرب اليوم مجددا للثّوة على هيمنة البراديغم، فسؤال الحداثة هو ثورة على مخلفات نتائج النّهضة ذاتها، لم يعد سُؤال النّهضة في الغرب اليّوم يُثير ذلك الانبهار الذي أحدثه زمن عصر الأنوار، بل كثير من الفلاسفة اليّوم ينتقدون فلسفة التّنوير في بعدها الوجودي والميتافيزيقي، لقد خلقت في أذهان مثقفيها آلهة جديدة كالعقل والعلم، وأفسدت علاقة الإنسان مع الطبيعة حيث ربطتها بقضية الصراع. واليوم، بعد مرور أكثر من أربعة قرون يطرح الغرب سؤال الحداثة وما بعد الحداثة، فكيف نطرح في المُقابل سؤال النّهضة؟  ألا يعكس أننا نقر للغرب بأنه متقدم علينا بأربعة قرون؟ وما الغاية أن نعيد طرح مشروع النهضة ونحن في الألفية الثالثة؟

1- تدل لفظة “المشروع” في المتن الفلسفي على استراتيجية مبنية على أسس معرفية وسياسية، فالمشروع هو نزعة بنائية إحيائية ترنو نحو تحقيق تقدم وانتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة أفضل، وعليه يعكس المشروع دوما ارتباط الإرادة السياسية بالإرادة العلمية، فالنّهضة كمشروع لا يمكن أن يتجسد إلا إذا جَسد السّياسي ما يفرضه العقل والنظر.

2- يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط. والنّهضة ليست تنميةً ولا تطويرا ولا تَقَدُماً بل هي ثورةٌ شاملةٌ.

3- يُراد بالمشروع النّهضوي جملةً هو تحقيق القطيعة مع ظاهرة أفول أو سقوط الأمة أو الجماعة، ويتجسد ذلك من خلال وضع رؤية متكاملة مُسيجة بأسئلة ثورية لا بأسئلة تبريرية، ونقصد أن الأسئلة الثورية هي التي تُطرح على صيغة كيف ولما وبما….. بينما الأسئلة التّنفيرية التبريرية هي التي تأتي على شاكلة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

4- لم يعرف التّاريخ الثقافي في الفكر الإسلامي عبر مساره التّاريخي مشروعا نهضويا مؤسسا على وعي فلسفي بل جل ما قُدم هو أقرب إلى ما يُسمى “هاجس نهضة” أو “حلم نهضة” عُبر عنه في قوالب هي أشبه ما تكون بالخواطر أو الرُؤى نصطلح على تسميتها بمقولات في النّهضة. لقد فشلت الإنتليجنسيا في بناء إنسان ما بعد الانحطاط وانعكس هذا الفشل على ظهور الفرد (المستهلك) بدل الإنسان.

نحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير

5- مصطلح “مشروع نهضة” هو محاكاة للمشروع الغربي زمن التّنوير، بيد أن المشروع الغربي استند إلى شروط موضوعية أدت إلى انتصاره تكمن في وضع غايات ومقاصد للمشروع النهضوي وهي: التنوير – الحرية – المواطنة – العدالة. بينما نحن نربط سؤال النّهضة دوما بالعقيدة، وهذا في حد ذاته ضد النّهضة، فمشكلة المسلم ليس مع عقيدته بل مشكلته الأساس مع عالم الأشخاص والأفكار والأشياء كما يري مالك بن نبي.

6- ضرورة وعي سؤال النّهضة في أبعاده الزمانية والمكانية، لأن ما طرحه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا يختلف كليا عما نعيشه اليوم في القرن الحادي والعشرين، فسؤال النّهضة اليّوم لا بد أن يحمل حمولة عصره وهموم أبنائه وليس حلم الأسلاف وتصوراتهم. ومن خلال ما سبق، ندرك أننا عندما نتحدث عن شروط النّهضة في القرن الحادي والعشرين نؤكد بأننا لا زلنا نعيش اقتصاد القرن السّادس عشر، ونفكر وفق ثقافة القرن الرابع الهجري، وننظم أنفسنا وفق سياسة المماليك.

أين الخلل في مقولات النهضة الإسلامية؟ هل في محاكاة الغرب دون فهم للشروط والغايات؟ أم لغياب المرجعية الفلسفية المؤسسة للأسئلة النهضة؟ أم لأننا لم نفكر بجدية في أيقونة النّهضة وأقصد الإنسان.؟ تقتضي إشكالية الوجود والمصير في سياقات مقولات النّهضة وأسئلتها وضع فلسفة إحيائية بنائية، تُمكن الأمةَ من وضع أولى خطوات الانبعاث الحضاري، فعندما ندرس الدّورة الحضارية وفق مراحلها الثّلاث، نلاحظ أن كل مرحلة إلا ويُقابلها أنموذج إنساني يختلف عن سابقه. يُبنى المعيار الحضاري على قاعدة تاريخية، تنطلق من فكرة كلما تقدم التّاريخ الإسلامي من نقطة ميلاده (الصفر) ونقصد المدينة المنورة، كلما بدأ الإنسان الشّاهد النموذج الأروع يفقد دوره ومثاله الرائع، ويخرج من مجال التاريخ الحي ويدخل في مجال التاريخ الميت، حتى تحول بفعل التّباعد التّاريخي عن نقطة الصفر إلى كائن بدون كيانات حضارية.

كان الهاجس منذ زمن الفتنة والمحنة ثم النّكسة: كيف يتم بناء إنسان جديد يحمل بعض خصوصيات نموذج إنسان المدينة؟ وكيف يمكن إبداع نماذج إنسانية تُحقق أمل النهضة…؟ وما سمات الإنسان المستقبلي؟ ونحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير، وأغلب القادة والساسة الذين يراهنون على تغيير العالم الإسلامي من خلال العمل السياسي هم مخطئون بالضرورة، فالتغيير الحقيقي هو تغيير الإنسان الكتلة وتحويله إلى إنسان شاهد.

***

عبد القادر بوعرفة - برفيسور بجامعة وهران قسم الفلسفة

عن موقع الجزيرة نيت، يوم: 11/4/2019

 

"لا يمكن دخول الدين والعلم إلى مربع جديد، إلا بتجاوز الأيديولوجيات المغلقة الصلبة التى تحصر الحقيقة فى إطار ضيق. ويجب أن ندرك أن الدين والعلم ليسا فى منافسة، بل هما جزء من رحلة البحث البشرى المستمر عن الحقيقة والمعنى. كما يجب أيضاً إعادة تصويب الفكرة القائلة بأن التقدم العلمى يؤدى بالضرورة إلى تراجع الدين. إن المجتمعات الأكثر تقدماً علمياً ليست بالضرورة أقل تديناً، بل أحياناً تكون أكثر وعياً بالحاجة إلى الميتافيزيقيا والأخلاقيات التى يعجز العلم عن تقديمها.

وعلى مرّ العصور، كان الدين والعلم يشكلان محورين رئيسيين فى تشكيل فهم الإنسان للعالم من حوله. وكان إرث الماضى يدور داخل أربعة مربعات رئيسة: إما مربع الاتفاق، أو مربع الصراع، أو مربع الفصل بين الساحات، أو مربع التوتر واتساع مناطق الجدل.

وتجلى مربع الاتفاق فى الشرق القديم والعصر السكندرى والحضارة الإسلامية فى أغلب الأوقات، بينما نجد مربع التوتر والحوار الجدلى عند اليونان، فى حين أن مربع الصراع المباشر كان فى أوقات متعددة من مختلف العصور خاصة فى العصور الوسطى الأوروبية ومطلع العصر الحديث، وفى هذه المرحلة، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية العلم تهديداً للنصوص المقدسة والتفسيرات الدينية السائدة.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك، قضية محاكمة العالم غاليليو، الذى اصطدم مع الكنيسة، بسبب نظرياته حول عدم مركزية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بأن الأرض هى المركز. فى تلك الفترة، وُضع الفكر الدينى والعلم فى مواجهة مباشرة، حيث حاول كل طرف الدفاع عن رؤاه المطلقة.

أما مربع الفصل بين الساحات، فجاء فى القرون اللاحقة. ومع تطور العلم وتنوع مجالاته، برزت فلسفة الفصل بين الدين والعلم، حيث انفتحت الساحة أمام العلم فى الغرب ليهتم بالجوانب المادية والتجريبية والرياضية للعالم، بينما ركز الفكر الدينى على القيم الروحية والأخلاقية والطقوس والمعتقدات الغيبية. وعلى الرغم من أن هذا الفصل خفف حدة الصراع، فإنه خلق فجوة معرفية بين الجانبين. ويجب أن نعيد التذكير هنا أننا نتحدث عن الفكر الديني، وليس عن الدين نفسه فى نصوصه المقدسة، فالمشكلة كانت تحدث دوما بين بعض رجال الدين الذين يفهمون الدين بطريقة معينة ورجال العلم الذين يركزون على الوقائع التجريبية والرياضية.

وفى العقود الأخيرة، بدأت تظهر محاولات لإقامة حوار بين الدين والعلم. ومع ذلك، بقى هذا الحوار مشوبًا بالجدلية الشديدة ومحاولة إثبات أسبقية طرف على الآخر، وظل النقاش التقليدى عالقًا فى قوالب قديمة، غالبًا ما تُبنى على الطريقة الهجومية أو الدفاعية أو السعى لإثبات التفوق على الأخر.

لذا، أصبحت الحاجة ماسة لتجاوز إرث الماضى وتجاوز القوالب والمربعات القديمة إلى مربع جديد من التعاون والحوار الخلاق الذى يهدف إلى معالجة القضايا الإنسانية الملحّة، خاصة أنه فى عصرنا الحالي، توجد خطورة حقيقية على مستقبل البشرية، ويواجه الكوكب تحديات غير مسبوقة، تتطلب تضافر جميع الجهود والمعارف، من أزمة تغير المناخ إلى انتشار الأوبئة، ومن الفقر المدقع إلى مشكلات الذكاء الاصطناعي، ومن تدهور البيئة إلى تهديدات انقراض الحياة البرية.

وتأسيسا على ذلك؛ بات من الضرورى إيجاد صيغة جديدة للتعاون تجمع بين القوتين المعرفيتين: الدين والعلم؛ حيث ينبغى أن يقدّم كل منهما أدوات، ومناهج ضرورية، لفهم المشكلات والتحديات التى تواجه الإنسانية والتصدى لها بفعالية.

إن القضايا والتحديات المعاصرة ليست مجرد مشكلات تقنية أو مادية، بل هى أزمات حياة، ومعضلات قيمية وأخلاقية، تتطلب تكاملًا بين العلم والدين؛ لبناء عالم أفضل وأكثر عدلًا.

ومن منظور إنساني، لا يجب النظر إلى الدين والعلم كمتنافسين طوال الوقت، بل يتوجب تحليل تفاعلهما، عبر إطار منهجي، يتجاوز الاختزال الثنائي. فالدين، بما يقدمه من معنى كلى عميق وإطار روحى وقيمى وأخلاقي، والعلم، بما يمتلكه من أدوات تحليلية ورياضية وتجريبية، يملكان إمكانيات فريدة إذا ما تم تعاونها فى مقاربة تكاملية. وكما يُفهم من الفيلسوف الألمانى «إيمانويل كانت» فى رؤيته الأخلاقية، فإن الدين عندما يُفهم فى حدود العقل يُسهم فى توجيه الإرادة الإنسانية نحو الخير الأسمى، وهو ما يجعل التكامل بين العقل والقيم الدينية مساراً ضرورياً لمواجهة تحديات الإنسانية. ففى كتابه «الدين فى حدود العقل وحده» (Religion within the Limits of Reason Alone)، يؤكد «كانت» أن الدين يجب أن يفهم فى حدود العقل، وأن العقل بحاجة إلى الأخلاق الدينية ليحقق غاياته العملية. وقديما أكد البارزون من علماء الإسلام موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.

إن التكامل بين الدين والعلم، لا يعنى خلط الحدود بينهما، بل احترام استقلاليتهما، مع العمل على إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتعاون، خاصة أن العلم والدين يشبهان عدستين مختلفتين يمكن استخدامهما لفهم الواقع. والجمع بينهما يمنحنا رؤية أكثر اتساعًا وعمقاً.

إن التحديات التى تواجه البشرية اليوم، مثل: الحروب، والإبادة الجماعية، والتغير المناخي، والأزمات الصحية العالمية، والتفاوت الاقتصادى الشديد، والنزاعات الثقافية ـ لا يمكن مواجهتها بمنظور علمى أو دينى منفرد. فعلى سبيل المثال، يمكن للعلم أن يوفّر تقنيات مبتكرة لحل مشكلات البيئة، لكن الدين بعامة يُضفى بُعدًا أخلاقياً يحفّز الناس على حماية الأرض كأمانة إلهية. والإسلام يعد تعمير الأرض مهمة إلهية كلف الله تعإلى بها الإنسان.

والسؤال الآن: كيف يمكن تجاوز أساليب النقاش القديمة؟

هذا ما نرجو أن نجيب عليه فى المقال القادم إن شاء الله تعالى".

***

د. محمد الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 15 ديسمبر 2024:

ما يجري بالعالم من صراعات وحروب تصل إلى حد التوحش مثير للسخرية الكبرى في هذا القرن الذي كان الكل يأمل أن يكون قرناً تسوده العدالة والسلم والرخاء والازدهار.

لكن على العكس، إذ ما نراه من حروبٍ أهلية في الإقليم أمر مفجع للغاية. وتتسمّر لوهلة ثم تتساءل: ماذا يفعل هؤلاء بالعالم؟ وما قيمة ما أنتجه الإنسان من نظرياتٍ وتعريفاتٍ وتوصيفاتٍ إذا كانت الحروب والدماء تسيل كما كانت تسيل منذ الإنسان القديم، ومنذ العصور الغابرة؟!

كل هذه الخطايا التي يرتكبها الإنسان تبرهن على أن الكثير مما يجري في هذا العالم مثير للسخرية، ثمة اندفاع نحو العنصرية وانتشار للكآبة، وتفشٍ للأمراض الخطرة، ونضوب في المياه، وجفاف في المناخ، وتضخم بالسكان، وازدياد بالفقر، واحتباس في المناخ، كل تلك الكوارث ليست من صنيعة الكائنات الأخرى على الكواكب من حولنا، بل من صميم صنع الإنسان وفعله.

لهذا ربما حاول الإنسان «أنسنة» كل شيء، لكن من دون أن يؤنسن نفسه. بات الأسير الأكبر لـ «الاغتراب» عن الطبيعة التي لم يبد وفياً معها، ولم يتعامل معها بإخلاص وجدية، ولم يعر الموضوعات الأخلاقية أي اهتمام.

ثم تكتمل المأساة من خلال ما اعتبره هيدغر «الوجود الزائف»، إذ تتعمد المجاميع البشرية «التواطؤ» للغيبوبة ضمن «الوجود الزائف» ضمن «الأشياء» والجموع، و«القيل والقال» على حد وصف هيدغر أيضاً. هناك تجهيل وتواطؤ على تجريب الجهل تتبعها حال نسيان للذات والكينونة والمصير والمعنى.

جزء من الحل يكمن في التأمل أو فلسفة الأمور، فبقدر ما تحمل الفلسفة تعريفاتها الدقيقة، بقدر ما تحمل ممانعة ضد التعريف. إذ لكل فيلسوفٍ تعريفه لها، طبقاً للرؤية التي يتخذها، أو المسار الذي يسلكه، أو المنتج الذي يعمل عليه. ثمة تعريفات للفلسفات. لكن «الفلسفة» بقيت فضاءً ممتداً لا يمكنها أن تحتكر ضمن حدّ، أو توضع ضمن قصد، أو تحصر ضمن تأويلٍ أو انفجار نظري واحد.

من هنا يكون لبعض الفلاسفة أوصافهم عن الفلسفة، على النحو الذي يصف فيه نيتشه الفيلسوف بأنه «حامل المطرقة»، أو أنها السبيل نحو «السخرية»، بينما يعتبرها جيل دلوز محاربة «للغباء»، وفوكو يصف وظيفة الفيلسوف بأنه محارب من دون هوادة «للحماقة». كل تلك الشطحات أو التوصيفات الشذرية للفلسفة، أو التعميمات اللحظية لها تنبثق من لحظة الرؤية الدقيقة لما في الواقع.

الخلاصة، أن العالم بعد الحربين العالميتين، والثورة الصناعية، أصبح أكثر غربة، وبات الإنسان ضحية «الاغتراب» الكارثي على الرغم من كل فتوحات التقنية، إذ يمكنك أن تلفّ العالم بجهازك الكفي، لكنك «الغريب» بداخله بكل ما للكلمة من معنى.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 ديسمبر 2024

 

في تعليقه على الأحداث السياسية الأخيرة في فرنسا، يذهب المؤرخ الإيطالي جيوفاني أورسينا، في مقالة بصحيفة «لاستامبا» (5 ديسمبر 2024)، إلى أن الوضع الفرنسي ليس نشازاً، بل هو انعكاس لأزمة بنيوية تعاني منها الديمقراطيات النيابية الغربية. والأمر هنا يتعلق بموجة احتجاجية عارمة في الرأي العام ضد تحكم طبقة أوليغارشية مسيطرة متمحورة حول نفسها، في سياق عالمي مضطرب وغير مستقر. ومن ثم فالسؤال المطروح حالياً على الديمقراطيات الغربية هو: كيف يمكنها أن تواجه هذه الحركية الاحتجاجية الداخلية المتزايدة؟

حسب أورسينا، فإنه عادةً ما تكون ردة فعل الأنظمة الديمقراطية الغربية وفق ثلاث مراحل: تبدأ برفض وشيطنة القوى السياسية المتمردة ونعتها بالتطرف وعدم الشرعية، قبل الشعور في اللحظة الثانية بأن هذه القوى غدت مكوناً أساسياً لا يمكن تجاهله في المشهد السياسي. وفي مرحلة ثالثة تصل هذه القوى إلى السلطة منفردةً أو في إطار تحالفات مركبة. وكما يبدو، ما تزال ألمانيا في المحطة الأولى، بينما فرنسا في المرحلة الثانية، وإيطاليا دخلت عملياً في الحقبة الثالثة.

وبالنسبة لأورسينا، فإن إيطاليا في عهد رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني هي مختبر التجارب السياسية الأوروبية، وما تعرفه حالياً من تحولات نوعية في تركيبة الحكم يصلح لاختبار وتقويم الحالة السياسية في عموم الديمقراطيات الأوروبية التي تشهد موجة تمرد واسع ضد النظام الليبرالي الراديكالي.

ما يعنيه أورسينا بالنظام الليبرالي الراديكالي، حسب ما بيَّن في كتابه «ديمقراطية النرجسية» (صدر سنة 2018)، هو هذه العقيدة الفردية المنتشرة على نطاق واسع في الغرب، من حيث كونها تقوم على مركزية السوق الحرة ومدونة القانون المجرد والأخلاقية الكونية، بما يفضي إلى تقويض الفعل السياسي نفسه من حيث هو ممارسة سيادية مستقلة. ما نشهده راهناً، في ضوء ملاحظة أورسينا، هو بروز حركية محافظة جذرية في قلب الديمقراطيات الغربية لا يمكن أن نختزلها في صفة الشعبوية، وهي في عمومها مناوئة للتقليد الليبرالي من منظورين متمايزين:

- النزعة القومية المحافظة التي هي القوة الصاعدة في جل الدول الأوروبية، وقد تركزت حالياً في المجر والنمسا وألمانيا ولدى العديد من الأحزاب التي تصنَّف عادةً على أنها من اليمين المتطرف. ما يجمع هذه التشكيلات هو الرجوع إلى الأمة بصفتها أرضيةَ الهوية والمواطَنة في مواجهة نزعة ليبرالية كونية معولمة، تمنح الأولوية لحقوق الإنسان والقانون الدولي على اعتبارات السيادة الوطنية التي هي الخلفية المعيارية الحقيقية للديمقراطية. لقد أطلق رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان على هذا النمط السياسي تسميةَ «الديمقراطية غير الليبرالية»، وهي مقولة بلورها من قَبلُ المفكر السياسي الأميركي فريد زكريا للتعبير عن الانفصام المتزايد في الساحات الغربية بين الديمقراطية من حيث هي منظومة انتخابية والليبرالية بصفتها نسقاً فكرياً معيارياً.

- النزعة المحافظة ما بعد الليبرالية، والتي ظهرت بصفة خاصة في الولايات المتحدة وتركزت في الأوساط الدينية المحافظة، ويمثلها اليوم نائب الرئيس المنتخب «جي دي فايس» ووزير الخارجية المعين ماركو ربيو. ومع أن هذه النزعة برزت أصلاً في بريطانيا لدى التيار العمالي اليساري، إلا أنها انتقلت إلى اليمين الأميركي الجديد. بيد أن ما يجمع بين الاتجاهين هو الانطلاق من مرجعية الكرامة الإنسانية ومنح الأولوية للخير المشترك.

ومن المعروف أن المقولتين لهما خلفيات لاهوتية قديمة، أُعيدَ لها الاعتبارُ راهناً في إطار نقد أطروحة الحياد الليبرالي إزاء القيم العقدية الجوهرية. وأهم مصدر فكري حالي للتيار ما بعد الليبرالي الأميركي هو كتابات رجل الدين الكاثوليكي ريتشارد جون نيوهوس (المتوفى 2009)، حيث نقرأ نقداً جذرياً لمسار التحديث الليبرالي في الولايات المتحدة. وبالنسبة لنيوهوس، فقد بُني النموذج الأميركي على اختلالات خطيرة في تصور الحرية على أساس المفهوم الفردي المجرد الذي بلوره الفيلسوف جون لوك.

إن هذا التصور هو الذي كرس حيادية الدولة في المجال العمومي، وهي نظرية خاطئة لسببين رئيسيين: منع الدولة من توجيه المجتمع نحو القيم المقدسة العليا التي هي الطريق إلى الخلاص والسعادة، وتعويض الديانات التقليدية بالديانة المدنية التي لها مؤسساتها المقدسة وآلهتها المعبودة وأخلاقياتها المنشورة.

ومن هنا نقد نيوهوس لنظرية «المجال العمومي العاري» the naked public square (عنوان أحد كتبه الأساسية)، ويعني بها رفض الفصل بين الخيارات السياسية والقانونية من جهة والاعتبارات العقدية والأخلاقية التي تصدر عن مرجعية دينية مجتمعية عامة من جهة أخرى. وخلاصة الأمر، أن الديمقراطيات الغربية تشهد في الوقت الراهن صداماً فكرياً وأيديولوجياً متصاعداً بين الليبرالية والنزعة المحافظة، له خلفياته وأبعاده العميقة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 ديسمبر 2024 23:45

هل يعشق الفلاسفة؟

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

*

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 14 ديسمبر 2024 م ـ 13 جمادى الآخرة 1446 هـ

ترددت في الكثير من المساحات الفلسفية والعقلية المختصة بتطوير الموارد البشرية، والحث المكثف على انتقاء البيئة الاجتماعية، والسعي لتكوينها بعناية فائقة، حيث يتأثر الإنسان بـ«نوعية» العقول التي يحتك بها دورياً، فإما أن تشكل قدوة ملهمة وحافزة، أو تكون باباً للدخول في مساحة العبث واللاهدف، والتي بتنا نصارع تمظهراتها المتشعبة في عصر التطور الرقمي الهائل، وتصدر المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي للمشهدين الإعلامي والإعلاني.

وقد تعددت النوافذ التي تتيح للإنسان النظرَ من خلالها إلى مساحات لامتناهية من مصادر الإلهام التي تتمثل في المنصات التعليمية المتاحة عبر الإنترنت، والتي تقوم بدورها في إلهام الباحثين والمتعلمين وتمكين قدراتهم الساعية لتطوير المهارات وتوسيع المدارك وتطوير المستوى الثقافي في مختلف المجالات والاهتمامات. وهذا إلى جانب التنوع الكبير في المنصات الأكاديمية التي تمثل جسور تواصل دائم بين النتاجات البحثية والعلمية لتبادل الأفكار، وما وفرته من مشروعات رقمية تجدسها العديد من الإنجازات البشرية الرائعة التي تعد المكتبات الرقمية أحدها.

أما على صعيد الأفراد، فقد وفرت هذه الثورة التكنولوجية مساحة واسعة ومرنة يمكن من خلالها الوصول بكل سهولة إلى العديد من النماذج الملهمة التي تتميز بأسلوبها ونوعية وفرادة مستواها الفكري، حيث يمكن التواصل وتبادل الآراء والأفكار بشكل حيوي دون معوقات. وهذا بالإشارة إلى الفاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت بشكل عام. كما يضم هذا الجانب وجهاً آخر، إذ سهَّل الوصولَ، والتعرفَ على الإنتاج المعرفي الضخم للملهمين عبر التاريخ، من خلال توفير مؤلفاتهم وإنجازاتهم وتوثيقها في الفضاء الافتراضي.

ولدى تسليط الضوء بشكل مكثف على الإمكانات التي وفرها هذا العصر من أجل شحذ رحلة الإنسان المعرفية، نجد أن تأثير الإلهام يتجاوز الوظيفة الأساسية التي تتمثل في نقل المعرفة من خلال تشارك الأفكار الجديدة، وإثراء الخلفية المعرفية، حيث يقوم بدوره ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن إنتاج تفكير نوعي وإبداعي من جهة، وتشجيع الاستمرار في رحلة الاستفهام غير المقيدة والبحث في الحقول التي يؤمل منها حصاد الجدوى من جهة ثانية. وبالتالي فإن الإلهام يقوم بتوجيه الاهتمام الإنساني من المجال العام إلى المجال الخاص، مما يجعله أكثر إحاطة بالتخصصات الدقيقة. وهنا يأتي دور الإبداع والإنتاج المعرفي المختلف تماماً عن تكرار ذاته أو عرض المعلومات المستهلكة، وبخاصة أن قدرة الإنسان على استثمار مصادر الإلهام التي تحيط به تمثل جرساً لا يتوقف عن إصدار صوته الجاذب نحو المشاركة في خوض المعارف الجديدة والاكتشافات، وشحذ الفضول الإيجابي المصنف ضمن باب تطوير الفكر والارتقاء بأساليب التفكير.

ولا يمكن تجاهل الآثار والانعكاسات السلبية لما أحدثه التطور الإنساني بشكل عام، وفي الفضاء الإلكتروني وأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل خاص على ماهية الإلهام المعرفي، حيث ألقت هذه الغيمة الرقمية بظلالها على العقل الإنساني، كما أبانت عن ضرورة استيعاب المعطيات كافة التي جاءت بفعل هذا التطور، حيث إن الإلهام المعرفي يحتاج إلى منهجية منظمة واضحة، فكيف يمكن تطبيق ذلك في عصر يمتاز بجنون التطور، وديمومة الحركة، فيما يتعلق بزيادة حجم المعرفة المتوفرة، التي تجعل الطريق لتحديد مدى موثوقية ودقة المعلومات أصعب وأطول.

وإلى ذلك، فإن هذا الكم الكبير من التطورات الرقمية يفرض على أي إنسان، في رحلة إلهامه المعرفية، أن يكون متمكناً بالدرجة الأولى من قدر ليس بيسير من المعايير القيمية والأخلاقية التي تخوله دخولَ عالم التنوع الاجتماعي والثقافي العميق المؤطَّر بقيم التعارف والتسامح والاحترام وفهم ماهية التنوع الثقافي دون الوقوع في مطبات الأنا والآخر، أو الانعزال والكراهية وما إلى ذلك. كما يلزم امتلاك المهارات والمعارف اللازمة لتخطي مختلف التحديات المتعلقة بقضايا الأمن السيبراني، ومواضيع الخصوصية التي تزداد تجدداً بالتزامن مع ارتفاع وتيرة استخدام التكنولوجيا وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي.

وبتسليط الضوء على أحد أهم المجالات التي تتعطش إلى الإلهام في كل دقيقة وكل لحظة، فإن العناية بموضوع الإلهام المعرفي في البيئة التعليمية والأكاديمية يعد من أهم المواقع التي يجب التركيز عليها، وبخاصة في ظل الخلط بين مسألتَي المعرفة والفهم، مما يبين ضرورةَ إيجاد توازن بين المسألتين. فهل نستطيع توفير «ضمانة» إلهامية معرفية للأجيال القادمة في ظل هذا التدفق غير المحدود للثقافات والمعلومات والتطورات ذات الصلة؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية يوم: 11 ديسمبر 2024

كثيرًا ما تُمارس على الصّعيد المجتمعي فنون الخداع والوهم باسم الدين، لينهل التابعون من رحيق الخدَر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، مغيبين في نعيم الوهم الأبدي. لقد قامت المنظومةُ الفقهيةُ الأصوليةُ بصناعة وترسيخ ثقافةِ الوهم وترسيخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال والعاطفة، من خلال الأدبيات المفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات واليقينيات الماورائية المطلقة، وبالتالي بدأت عملية صناعة الوهم في العقل الجمعي وشغله بأمور مفرطة في السطحية ومغرقة في الجهل والتغييب، ليصبح الدينُ مجردَ كلمات تذكر عند دخول المرحاض وسماع أصوات الديكة والحمير، بشكل هيمن بغرابة على النسق القيمي والسلوكيات الخاصة.

وكالعادة، فهناك دومًا من الأحاديث ما يدعم ذلك ويؤكده، لتتحول سنن المرسلين من الدعوة لمكارم الأخلاق والسلام الإنساني والاجتماعي إلى أمور دنيوية سلوكية شديدة الخصوصية، فيروى مثلا عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قال رسول الله: "الحنّاء والتعطّر والسّواك والنّكاح من سنن المرسلين" رواه الترمذي وحسنه والإمام أحمد.

وعن الحسن قال: قال النبي: "ما أحببت من عيش الدّنيا إلا الطّيب والنَساء"، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ذكر: "ما حبّب إلى رسول الله أكثر من النساء والطيب" .

ويخصّصُ بعضُ الفقهاء أبوابًا للخضاب وفوائده، تاركين أسس العقيدة والعدالة الاجتماعية، مثل ذلك الحديث الوارد في الكافي باب الخضاب: قال النبي: "نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة درهم في سبيل الله، إن فيه أربع عشرة خصلة: يطرد الريح من الأذنين، ويجلو الغشاء من البصر، ويلين الخياشيم، ويطيب النكهة، ويشد اللثة، ويذهب بالغشيان، ويقلّ وسوسة الشيطان، وتفرح به الملائكة، ويستبشر به المؤمن، ويغيض به الكافر، وهو زينة، وهو طيب، وبراءة في قبره، ويستحي منه منكر ونكير".

وتختزلُ بعض الروايات دور الوحي في التأكيد دومًا على أهمية السواك كأمر إلهي مقدّس، وكان الأولى أن يأتي به نص صريح في الكتاب لو صدقت رواية أبي إمامة: "ما جاءني جبريل قطّ إلاّ أمرني بالسّواك حتى لقد خشيت أن أحفيَ مقدِّمَ فمي" (أي تسقطَ أسناني). ويخرج عن الدين والجماعة من لم يقص شاربه، حيث روى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا".

وبعد، فقد أُفردت أبواب للخضاب والاكتحال وغير ذلك من أمور شغلت العقل الجمعي للمسلمين، يدعمهم في ذلك رايات كثيرة، فكيف ينشغل وحي السماء بالسواك في كل مرة، ويبدو النبي كرجل لا يشغله غير خضاب ومكحلة!

وهكذا سارت محاولات التغييب على قدم وساق، وجاء العصر الأموي ليرسخ هذا التأطير من الناحية الاجتماعية وجاء الفقهاء حسب وعيهم الإدراكي والمعرفي، ليرسّخوا هذا التأطير من الناحية الفقهية، ثم استحكم تأطيرها من الناحية العقائدية والفلسفية.

ولم تكتف السلطة الاستبدادية بأن هيأت الظروف الموضوعية لانتشار التفكير الميثولوجي، بل إنها في بعض الأحيان كانت تقوم بالترويج لهذا التفكير، حيث كانت تدرك تلك القواسم المشتركة بينها وبين الخرافة، وهو رفض التفكير السببي والمنطقي، وبالتالي تدعم الميثولوجيا وجود واستمرار السلطة المستبدة، ولعل ذلك يفسر اضطهاد الطغاة للمفكرين على مر التاريخ وجنوحهم عن العلم وتحكيم سلطة العقل، وميلهم إلى انتشار الجهل والتخلف الذي يذهب بالعقول بعيدًا عن نقد السلطة والمطالبة بالعدالة والمساواة، وتتفنن الأيديولوجيات الدينية في ممارسة الخداع عبر صناعة الوهم في الخيال الجمعي لأفرادها وتغذيته بإنتاج المشهديات التخيلية المعاكسة للواقع والمنطق.

لقد بذلت السلطة قصارى جهدها في صناعة الوهم، من خلال توظيف المؤسسة الفقهية، ونسجت من أحلام البسطاء وأمنياتهم مشاريع التجهيل والتغييب، وجندت حماستهم وتطلعاتهم نحو إنتاج المزيد من الخيال والوهم المحال، لتغدو الأمة غارقة في حالة من الانتظار الدائم للخلاص على يد المجهول، ومفرطة في أوهام النوستالوجيا المترقبة دوما لقدوم البطل المخلص.

والميثولوجيا بوصفها نتاجا معرفيا جماعيا تعد انعكاسا للمكونات الفكرية والثقافية للمجتمع، لما تحتويه من بنية مركبة تتداخل فيها شتى المؤثرات من فكر وفن وتاريخ، مما يجعلها مرآة تنعكس فيها المكونات الحضارية لشعب من الشعوب، مما يفسر وجودها بشكل دائم لا ينقطع في جميع الحضارات الإنسانية؛ أي أنها تجسّد وضعًا معرفيًا أنثروبولوجيًا جعلها مرجعية ثقافية ومكونًا رئيسًا من مكونات الفكر الإنساني له القدرة على الامتداد ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، والأسطورة تمنح الإنسان القدرة على مواجهة ما يعجز عقله عن استيعابه، كما أنها توفر له خط دفاع أساسي يمنحه التوافق النفسي في مواجهة الطبيعة وقسوتها وتقلباتها. ونظرًا للامتداد والشمولية اللتين تأخذهما الأسطورة في الأيديولوجيات المختلفة - خاصة الدينية منها - اختلطت الحقائق مع تقادم الأزمان، لتصبح الأسطورة مرادفًا للواقع.

والإنسان بطبعه يميل صوب الأساطير، مثلما يميل إلى الصور التي يعتمد عليها عقله الباطن الذي يرفض دومًا التخلي عن الماضي الذي سرعان ما يلاحقه بكل صوره ورؤاه، حيث تتضافر عدة قيم نفسيّة وروحيّة في تأجيج الذاكرة دومًا صوب الماضي، وهو ما حدث مع الشعوب التي فتحها المسلمون، والتي كانت تمتلك زخمًا حضاريا تتناثر في ثناياه الحكايا الميثولوجية لتفسير الكون والحياة، فصبغت تراثها الميثولوجي بصبغة دينية تلقفتها الأيديولوجيا لتحقيق المزيد من التغييب للوعي الجمعي للرعية، لتظهر أساطير خرافية تحاكى الحكايا الهوميرية والإغريقية، في محاولة لتقديم وجبات جاهزة لعقول استراحت إلى الخرافة.

وتجسد أسطورة المسيح الدجال ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر، والذي تناولته جميع الثقافات القديمة: الفرعونية والبابلية والإغريقية، ورمز الشر هنا كائن خرافي أسطوري أعور العين، وإن اختلف الإمامان البخاري ومسلم حول موضع العين العوراء، فيقول البخاري في ذلك: عن ابن عمر أن النبي ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ...".

أما مسلم فيقول في روايته: "عن حذيفة قال: قال رسول الله: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ - كَثِيرُهُ - مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ". وهكذا اختلط الأمر بين الصحيحين، هل هو أعور العين اليسرى أم اليمنى؟

ثم تذهب الروايات إلى وصف البنية الخارقة لذلك الكائن الأسطوري المرعب: فيروي أبو داود عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله قال: "إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّال رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ". والدجال هنا يتصف بصفات إلهية خارقة حتى يغدو الفارق بينه وبين الله هو العين العوراء، فهو كما أخرج أحمد عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال: "إن الدجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة، وإنه يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". وله حمار يركبه، عَرْض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا!! كما أن معه جنة ونارًا، جنته ناره وناره جنته، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث. وروى الإمام مسلم عن حذيفة قال: "لأنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ: مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ". ويستفيض البخاري في وصف الدجال وفقا لرواية أخرى فيقول: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ"!!

وليس هناك مانعا من مواصلة المشهد الدرامي المثير، حيث يلتقيه النبي مع نفر من صحابته، فيروي أحمد عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ "إن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحة عينه طالعة ناتئة فأشفق رسول الله أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة همهم فآذنته أمه فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء فاخرج إليه‏.‏ فخرج من القطيفة فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏. ‏ثم قال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء فلبس عليه فقال‏:‏ ‏"‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏"‏‏ ‏فقال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ ثم خرج وتركه‏.‏ ثم أتاه مرة أخرى فوجده في نخل له يهمهم فآذنته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏.‏ فكان رسول الله يحب أن يسمع من كلامه شيئًا فيعلم أهو هو أم لا، قال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ قال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ فلبس عليه فخرج وتركه‏.‏ ثم جاء في الثالثة أو الرابعة ومعه أبو بكر وعمر في نفر من المهاجرين والأنصار وأنا معه، قال‏:‏ فبادر رسول الله بين أيدينا ورجا أن يسمع من كلامه شيئًا فسبقته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء، قال‏: ‏‏"‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏" قال هو‏:‏ أتشهد أنت أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ فلبس عليه، فقال رسول الله: ‏"‏يا ابن صياد إني قد خبأت لك خبيئًا" فقال‏: هو الدخ‏. ‏فقال رسول الله: ‏"‏اخسأ‏"‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ائذن لي يا رسول الله‏.‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد‏"‏‏. ‏قال‏:‏ فلم يزل رسول الله مستيقنًا أنه الدجال‏"!!

وهكذا ترك النبي شئون الدولة الجديدة وصراعه المرير مع أعدائه وسعيه المستمر لدعم جبهته الداخلية، ولم يصبح له هم سوى البحث عن الدجال، وللأسف فقد جعلت الأيديولوجيا من الأسطورة عقائد مترسخة عند عامة المسلمين تمهيدا لظهور المخلص الذي سيأتي لتحقيق العدل والمساواة بعد أن يقتل رمز الشر "الدجال" وعلى الرعية أن تصبر وتنتظر المخلص، والذي انتظرته البشرية طوال تاريخها، وتحدثت عنه كافة الأساطير، ولا فرق هنا بين حورس عند الفراعنة، وماردوخ عند السومريين، والمهدي المنتظر الذي سيصلح في أيام معدودات ما أفسده الدهر في قرون طوال.

***

بقلم: د. سامح محمد إسماعيل

عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 5 ديسمبر 2024

كلما ازدادت الضغوط على تجمعات المسلمين وخصوصا العرب منهم، بسبب التراجع، والتفكك، والانفجار، من الداخل، والتفجير من الخارج، كانت الحاجة ماسة إلى محاولات تفسير ما يحدث، فكان خطاب عبد الجواد ياسين (١٩٥٤/ ١٣٧٣) وتجربته كقاضٍ وكمنتمٍ سابق للسلفية الدينية نظريًا، وليس تنظيميًا ومحاولته الخروج من أسرِ السلفية فيما بعد.

فقد حاول خطاب عبد الجواد ياسين فعل ذلك من خلال مقولات "الدين" و"التدين" و"الديانة". والسعي للتفرقة بين جوهر الدين، الذي هو مطلق وإلهي وقادم من خارج الاجتماع ومفارق وأزلي ومؤبد، وغير قابل للتعدد ولا إلى التطور، وحَصَره ياسين في عنصرين، الأول "الإيمان بالله" - الذي هو مكوِّن فطري في الإنسان - الثاني "الأخلاق الكلية". ويفرق ياسين بين هذا المكون الجوهري "الدين"، وبين "التدين": الذي هو ممارسة الإنسان لهذا المطلق في الواقع الاجتماعي، أما "الديانة" فهي ما تجسد في التاريخ من المذاهب ومن ممارسات السلطة الدينية والسلطة الحاكمة على أنه الدين.

ويسأل عبد الجواد ياسين سؤالًا مهمًا:

هل الدين كله إلهي، أبدي مفارق، ثابت؟ أم أن منه ما هو نسبي متغير، وليد الاجتماع، والتاريخ، والسياسة؟

ويحاول ياسين التعرض للعقل الديني الذي يرى أن الدين كله مفارق كما يتعرض أيضًا للدرس الاجتماعي الحديث الذي تعامل مع الظاهرة الدينية، ومع الدين على أن مصدرهما كله من الاجتماع البشري.

حاول ياسين الإجابة على الأسئلة فقال إن الإلهي والأبدي والمفارق من الدين هما "الإيمان بالله" و"الأخلاق الكلية"، وهما الثابتان فقط منه، وأضاف أن بالدين ما هو نسبي، وما هو متغير، ومتطور، مثل التشريع. ففي الشريعة الإسلامية جاء القرآن، مُنجمًا على مدى بضع وعشرين عامًا، وحدث تطور للتشريعات، من خلال النسخ، مما يعكس الحالة الاجتماعية والاقتصادية للناس الذين خاطبهم النص وقت الوحي.

ونبَّه ياسين إلى أن تصور الدين كمفارق كله، يتصادم مع فكرة أن موضوع الدين هو الإنسان؛ الذي هو بطبعه متغير ونسبي، ويتم الاتصال به عبر نص لغوي، واللغة وسيط اجتماعي. كما أن الإنسان هو الكائن الذي يتدين بهذا الدين، أي يدركه، ويعبر عنه، ويدعو الآخرين إليه. فالإنسان هنا ككائن وكظاهرة اجتماعية؛ يفرض ذاته على النص الديني، من خلال التدين، فيصبح في بنية الدين؛ ما هو إلهي مُطلق، ثابت، وما هو اجتماعي، متدَيَن. فيه الإيمان بالله والأخلاق، من جهة وفيه ما هو متغير وغير ثابت من جهة أخرى.

وحسب التصور السابق؛ يكون القرآن متضمِّنا لنوعين من الأحكام: ما هو إلهي مُطلق ثابت، وما هو اجتماعي متدين متغير ونسبي. تعامل القدماء مع القرآن بأن كل ما ذُكر في القرآن وورد فيه فهو مطلق لأنه في النص، حتى أصبحت النصية مرادفة للإطلاقية حيث أن التشريع تطور داخل القرآن في النسخ وتضمن القرآن اجتماعيات قابلة للتطور، من خلال تنجيمه الذي استمر سنوات، ومن خلال أسباب نزوله، ومن خلال الناسخ والمنسوخ.

هكذا يصور عبد الجواد ياسين المشوار: جاء التدين من التاريخ والاجتماع، وليس من عند الله. وهو يشمل كل هذا التراث البشري، فهمًا وتطبيقًا وممارسةً. وقد صبغت هذه البنية الدين ذاته ببصماتها التي تراكمت عبر السنين، فأضافت ما يدعو إلى الكراهية والبغض التي تم تقديمها باعتبارها جزءًا من الدين.

ويجعل ياسين مرحلة التأسيس في فترة نزول الوحي على النبي أصل الدين، حيث عاد بعدها تأثير الاجتماع، فأصبحت بنية التدين تُحدِث تأثيرًا كبيرًا، سواء بتبلور الدولة كسلطة أو عبر الفتوح العسكرية، واعتمادها على ثقافة الغزو كممثلة لاجتماعيات القبيلة العربية. كما أثَّرت التعددية السكانية والثقافية في هذه الدولة الإمبراطورية على الفقه وتطوره. وكذلك أثرت مسألة الصراع على السلطة في ظهور التعددية المذهبية؛ والتعددية اللاهوتية وظهور تعددية تشريعية في الأحكام وتعددية ثقافية، وحتى على مستوى ما يسميه ياسين قانون الإيمان؛ مثل ما حدث مع التشيع، حول مفهوم الوحي والنص وولاية الإمام، واستمرار التواصل بين السماء والأرض.

وفي نظر ياسين، أصبحت البنية في تاريخ المسلمين هي: هياكل اقتصادية رعوية، واجتماعيًا قبلية. وعقليًا ساد العقل اليوناني وغلبة الأفلاطونية عليه.

غير أن هذه البنية التي استمرت لقرون، - كما يوضح عبد الجواد ياسين - تعرضت لتحد كبير مع الحداثة ومع الرأسمالية؛ حتى أصبحت المجتمعات أمام حياة أخرى.

وهنا فَرض سؤال التطور ذاته بقوة على الطرح التديني وعلى العقل الديني؛ سواء في التشريعات أو الطقوس. لكن ظلت فكرة الإيمان والأخلاق الكلية صامدة. وهذا هو سبب المشكل الذي تواجهه مجتمعاتنا، في التناقض بين حركة التدين (السلفية التقليدية) وبين الهياكل الاجتماعية، أو بعبارة أخرى: التناقض بين النظام الديني وبين النظام الاجتماعي، كما يرى ياسين، وأن أزمة الإصلاح الديني، خلال القرنين الماضيين، أنه تم من داخل النظام الديني.

يحث ياسين على إعادة النظر في المفاهيم الكلية للنظام الديني، وفي القلب منها: اللاهوت، ومفاهيم التدين والدولة، التي قامت في تاريخنا بما قامت به الكنيسة في العصور الوسطى المسيحية. أعلنت الدولة عندنا ذاتها دولة مسلمة حارسة للدين، وورثت المنظومة الفقهية هذا الدور ضمنيًا مع الدولة. ويرى أن للبنية "الأشعرية الشافعية دورًا كبيرًا في ذلك، وأن فكرة المقاصد، وفكرة المصالح، لا تكفيان لتجاوز الأزمة، وأن المذهبية - سواء الفقهية أو اللاهوتية - هي أساس المرض.

نسق خطاب عبد الجواد ياسين يدرك البعد التاريخي والشامل - بما يحمله من اجتماع وسياسة واقتصاد - في تركيبة النص الديني، وقد خطا خطوة كبيرة في تفرقته في داخل النص الديني، بين ما هو ثابت أبدي - حصره في "الإيمان بالله" كفطرة إنسانية وليس كفكرة لاهوتية؛ كما ظهرت في المذاهب وفي الأخلاق الكلية - وبين ما في الدين من متغير، نسبي؛ مثل التشريعات. وكذلك أدرك ياسين بشرية التراث وتاريخيته، وهو ما أسماه بالتدين، بل ودور هذا التدين - الذي شكّله الاجتماع والتاريخ - وصبغه للدين ذاته بصبغته. فياسين ينطلق من مفهوم لإسلام جوهري، مفارق، أبدي، ثابت ويقترب من التصورات الصوفية.

لاهوت الإسلام

يحاول عبد الجواد ياسين تفكيك المنظومة "الشافعية الأشعرية" التي سادت في التدين من داخلها. وكان قد تناول عملية التفكيك من خلال تفكيك "السلطة في الإسلام" التي تناول فيها العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. كما تناول الجزء "التشريعي/ الشافعي" في كتابه "الدين والتدين"، ويحاول تناول الجزء "اللاهوتي/ الأشعري" في كتابه "اللاهوت"، وهذا يحتاج إلى درس تفصيلي أوسع ليس مكانه هذا النص الذي هو بمثابة "مقدمة". أركز هنا على الفصل الثالث من الكتاب الذي خصصه ل "لاهوت الإسلام”1 ص281.

يحاول ياسين هنا التركيز على فكرة "هل اللاهوت الإسلامي نتاج تلاقح "عبري عربي؟"ص285، ويفعل ذلك حذرًا ومنبهًا إلى أن موقفه النقدي "موجه إلى هذا الشكل التاريخي، وليس إلى فكرة الدين في ذاته"، بل يصرح بأن موقفه "يصدر عن انحياز قبلي لقضية الإيمان"، التي يرى أن "التدين التاريخي التقليدي لم يحسن تمثيلها بمقاييس الدين المحض، مثلما أن الطرف الوضعي التقليدي لم يحسن التعاطي معها بمقاييس العلم الموضوعية" ص282.

وموقف ياسين هنا موقف المنحاز للإيمان طبقًا "للدين المحض"، الذي لم يفهمه الطرفان حق الفهم، فيما سيقدم الفهم الصحيح.

ورغم إدراك ياسين، بل وتصريحه، بأن اللاهوت في النهاية لا يمكن إدراكه إلا تصورًا، وأن كل تصور هو فعل إنساني، "تقوم مادته على تصور الذات"، مهما كان مفارقًا للعالم يظل مُحجمًا عن الخطو بأن اللاهوت مجرد تصورات إنسانية عن الغيب. فهو متحسب "لحساسيات العقل الديني التقليدية، التي لا يريد - عبد الجواد ياسين المؤمن - الدخول معها في مواجهة سجالية" ص281، ويؤكد أنه ناقدٌ وليس خصمًا.

بهذا الحذر من "السجال"/الصدام، وذلك الانحياز المسبق "للإيمان طبقًا للدين المحض2" شكلًا، تناول ياسين اللاهوت كما ينبغي أن يكون، طبقًا للدين المحض، أو اللاهوت كما تشكل في التدين التاريخي طبقًا لاجتماع إنساني. بل وتعامل ياسين شكلًا مع نصوص القرآن ومحاولات تقديم قراءة لها، خارج إطار التراث التفسيري في تاريخ التدين الإسلامي الذي لم يستطع إدراك الدين المحض وعجز التيار الوضعي الموضوعي عن إدراك الظاهرة الدينية الإبراهيمية وروحيتها.

ورغم إدراك ياسين البعد التاريخي وحرصه عليه3، فإنه يهمل الدور المركزي لتصورات اللاهوت في تشكيل الفقهي4، والدور المركزي للسياسي في تشكيل اللاهوتي وبعده الفقهي، بل والثقافي5، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة أعمق، لمعرفة سبب ذلك عند ياسين، وهل هو جزء من تجنب الصدام/ السجال فقط أم هناك عوامل أخرى؟

من المُلفت للنظر أن ياسين حين ينقل آراء عن أبي الحسن الأشعري ينقلها عن الجويني وعن ابن عساكر وليس عن الحسن مباشرة، كما في ص427 - 428) والهوامش فيها.

نقطة أخرى أن ياسين يحيل إلى نفسه وإلى مؤلفاته فيما يخص "اللاهوت الإسلامي"، ربما لأنه في النهاية يقدم قراءته هو "للدين المحض/ المطلق"، المخالفة حسب تصوره لقراءة من سبقوه، الأمر الذي يحتاج إلى تقصي من باحثينا.

وبالرغم من مركزية الشافعي في الدرس الفكري الذي يقدمه عبد الجواد ياسين لتراثنا في كتاباته السابقة فإن ياسين يشير دائما إلى ما فعله الشافعي (767/ 150 - 820/ 204)، ويعرض لنا ما فعل الشافعي، ولكنه لا يشرح لنا كيف فعله، ولماذا فعله معرفيًا، وفي هذا الكتاب الذي تناوله تحديدًا لاهوتيًا/ ثيولوجيًا، فبالرغم من أننا في ظل دراسة من المُفترض أنها "أنثروبولوجية" للاهوت من قبل عبد الجواد ياسين، فنحن نفتقد الأسس اللاهوتية التي أقام عليها الشافعي حججه وكيف وظفها ولماذا.

نقطة أخيرة في هذا السياق تحتاج إلى تقصٍ وهي نهج عبد الجواد ياسين في تأويل نصوص القرآن، حيث يطابق بين فهمه وبين دلالة القرآن بطريقة ضمنية، فيقول "نحن نرصد مفهوم التوحيد كما طرحه القرآن، لا أتكلم عن معانٍ يمكن استنباطها من النص عن طريق الاستدلال التحليلي، فهذا ما سيفعله الكلام - يعني علم الكلام - لاحقًا، ولكن أتكلم عن المعنى المباشر كما فهمه المتلقي الأول من الآيات، أي عن المعنى الظاهر الذي قصد إليه النص في سياق لحظته الثقافية" ص431.

فإذا كان الفيلسوف الألماني كانت "1724 - 1804) رابضًا بفكره تحت خطاب عبدالجواد ياسين، فإن ابن حزم الأندلسي (994 - 1064)م موجودٌ بقوة تحت تلافيف الخطاب، مما يحتاج أيضًا للفحص من باحثينا.

الجانب الآخر في نهج ياسين في قراءة نصوص القرآن، أنه يقرؤها في ضوء أحداث السيرة، ويرفض في نفس الجملة الاعتماد على "مرويات منقولة" هامش 370 ص364، في حين أن السيرة في النهاية مجرد مرويات منقولة، بل إن مرويات السيرة مبنية على القرآن أصلًا، لكن لهذا حديث آخر يطول.

عبد الجواد ياسين يريد حل مشكلة مجتمعه ومشاكل أمته، عبر نسق توحيدي جامع متجاوز للمذهبية بكل صورها، فهو مسلم وفقط، وإنسان حديث. ورغم كل إنجازه في الوعي التاريخي بالنصوص وبتجربة المسلمين في التدين وتشكيل التدين للدين، وفي تشكيل الديانة، ووعيه بالأسس اللاهوتية التي لم يتعامل معها خطاب الإصلاح الديني، وخصوصًا (الأشعرية/ الشافعية) ودورها في الحد من ثماره، وأهمية التعامل معها نقديًا. لأن الأمر يحتاج إلى تفكيك المنظومة من داخلها، كما يفعل، إلا أن الأمر ربما يحتاج إلى شيء من المواجهات/ السجالات، التي يحاول ياسين بقدر الإمكان تجنبها، أو التقليل من احتقانها، فما زال ثمنها غاليًا.

لكن - من ناحية أخرى - فإن تجنب هذا الانخراط، قد يؤدي إلى صيغة تنتهي عنده إلى تصوف فلسفي "حديث"، فخطاب ياسين يحوي داخله كل المتناقضات بجوار بعضها، مهملًا الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الذي كان في قلب تجربته هو ذاته في التمرد النظري - وإن لم يكن تنظيميًا - على المجتمع وعلى ما هو سائد من استبداد سياسي وتقليد ديني يُرَسِّخ الاستبداد السياسي ويبرر كل منهم وجود الآخر. والله أعلى وأعلم.

***

بقلم: جمال عمر

كاتب وباحث مصري، مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، عمل على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» ولديه عدة مؤلفات نذكر منها: هكذا تحدث نصر أبوزيد، «مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث»

عن مجلة تفكير - مركز دراسات تفكير، ضمن ملف حول سبعينية المفكر المصري المستشار عبد الجواد ياسين

.................................... 

هوامش

1- ستتم الإحالة في النص لرقم الصفحة من طبعة كتاب اللاهوت: انثروبولوجيا التوحيد الكتابي، عبد الجواد ياسين، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ط1، 2019. توزيع، المركز الثقافي للكتاب وللنشر والتوزيع، المغرب، الدار البيضاء.

2- ربما بالتحليل الدقيق، قد يكون الإيمان طبقا للدين المحض، هو الإيمان كما عاشه الطفل عبد الجواد ياسين في رحاب أسرته وإيمان الأم تحديدا. رغم ليبرالية الأسرة ذات الانتماء الوفدي، كان إيمانها "طبيعي" غير متكلف، يعكس الإيمان كما يتصوره ياسين ك "دين محض".

3- سواء في كتابه "السلطة في الإسلام" عن تتبع المفاهيم الكلامية عند الفرق "من رحم الوقائع والتطورات السياسية". وحتى في كتاب "اللاهوت" يدرك ذلك، ص395 وهامش 403. ورغم أنه ياسين يُرجع للدولة في الإسلام بأنها كانت الحامية للدين وقامت بما يشبه دور الكنيسة في تاريخ المسيحية، أي دور السياسي في تشكيل الديني.

4- “ في المدونة الرسمية السنية - حيث يسيطر الفقه على الكلام وحيث أدت تنظيرات الشافعي الأصولية إلي تثبيت مدرسة الحديث ذات الأفق النقلي الضيق - يظهر التشدد واضحا حيال التفكير الصوفي والفلسفي"، عبد الجواد ياسين، اللاهوت، ص407.

5- صراع دائم بين مركزية علم أصول الفقه في تشكيل العقل الذي ساد عند المسلمين، كما توجه الشيخ مصطفي عبد الرازق (1985 - 1947) وصار علي ذلك محمد عابد الجابري (1935 - 2010) وهنا كذلك عبد الجواد ياسين. في حين هناك اتجاه آخر يجعل من علم الكلام أو علم أصول الدين صاحب الدور المركزي في تشكيل الرؤى التي كونت العقل الذي ساد عند المسلمين، والدور المركزي للصراعات السياسية في تشكيل هذه الرؤى، ويمثل هذا التيار كثيرون منهم حسن حنفي (1935 - 2021) ونصر أبوزيد (1943 - 2010) وعلي مبروك (1958 – 2016).

 

 

لا يتردد الفيلسوف الفرنسي بيار هنري تافويو في كتابه الجديد «هل ما نزال نريد العيش المشترك؟»، في نعت المجتمعات الليبرالية الغربية بأنها تعيش راهناً شبح الصدام والتصدع بعد أن كانت قد اعتقدت أنها وجدت الحل الأمثل للسلم الأهلي والتعايش الجماعي.

ما تدل عليه مؤشرات الحياة السياسية في كل الدول الديمقراطية الغربية هو أن المواطن فيها لم يعد يميل إلى القوى الدينية والمجتمعية التقليدية ولا إلى الأحزاب السياسية التي تقاسمت لعدة عقود طويلة الحياة العمومية، بل أضحى أكثر ميلاً للتيارات الراديكالية اليمينية واليسارية التي تعزف على وتر الصراع والتوتر الاجتماعي أو الانعزال الفردي وكراهية الذات. ليس من الغريب في هذا السياق صعود التيارات الشعبوية التي ترفع شعار حماية الهوية في مواجهة المهاجر والغريب والمختلف في العقيدة والمنشأ، وليس من المستغرب عودة الحديث عن النقاء العرقي والأصالة الثقافية في مجتمعات شديدة التفكك والتجزؤ لم يعد من الواضح محور توحدها وتضامنها.

في مواجهة هذا المأزق الذي تحدث عنه تافويو برز جدل نظري جديد حول طبيعة المنظومة الديمقراطية في تصورها المجتمعي، هل هي تنظيم سلمي لصراع جوهري واستقطاب دائم وحي كما ترى المفكرة البلجيكية «شانتال موف»، أم هي التعبير عن التوافقات الإجرائية والقانونية الكبرى التي تحفظ في المجتمعات التعددية استقرار النظام السياسي كما ترى المدرسة الليبرالية التقليدية؟

لا مناص من الاعتراف بأن الحركات الشعبوية التي تجتاح العالم اليوم تذهب في الاتجاه الأول، إلى حد أن العمل السياسي المنتج غدا مشروطاً بهذه النغمة الصدامية الحادة التي ترى في المخالف السياسي عدواً للأمة وخطراً على المجتمع وهويته.

لا تتوقف هذه الظاهرة على حدة الخطاب السياسي والانتخابي وحده، بل تبرز في خروج حركية الاحتجاج السياسي والمدني عن موازين ومحددات القانون التنظيمي للصراع الداخلي في المجتمعات الديمقراطية، إلى حد التشكيك في المسارات الانتخابية نفسها وإلغاء القيود المؤسسية والقضائية على السلطة التنفيذية حسب توازنات السلط المستقلة، فضلاً عن عودة شبح الحرب واقعياً ورمزياً إلى قلب العالم الغربي، كما هو جلي اليوم في الحرب الأوكرانية وامتداداتها في القارة الأوروبية. قبل شهور اندلع نزاع تأويلي بين المستشار الألماني اولاف شولتز والرئيس الروسي بوتين بخصوص مقاربة كانط للسلم الدائم، مع العلم بأن المدينة التي ولد فيها كانط، وهي كونجسبرغ، أصبحت روسية ويطلق عليها اليوم كاليننغراد.

لقد اعتبر بوتين أن النزعة السلمية لدى كانط تكمن في تغليبه منطق التعايش الآمن على اعتبارات الحرب المدمرة، في حين ذهب شولتز إلى أن كانط فرّق بين السلم المشروع والعدوان غير القانوني الذي لا بد من مواجهته بالسلاح والقوة. والواقع أننا نلمس هنا جانباً من الإشكال المتجدد راهناً حول المحددات السياسية للحرب في مجتمعات انتكست فيها الآليات الضامنة للاندماج والعيش المشترك. لقد كان كانط وفياً للتقليد التنويري الليبرالي الذي وجد في الدولة السيادية الحديثة القائمة على الحرية السياسية وسلطة القانون حلاً دائماً لمعضلة الصراع الأهلي، وحلاً ممكناً لحالة الحرب الخارجية من منظور قابلية تمديد المدونة القانونية الداخلية إلى العلاقات بين الأمم والدول.

بيد أن التجربة أثبتت أن الحالة الليبرالية لا تحول دون الحروب الخارجية، في الوقت الذي بدأت تتصدع فيه مقومات السلم الداخلي في المجتمعات الديمقراطية ذاتها. وفي تفسيره لهذه الظاهرة المتجددة، بين الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن في كتابه «الحرب الأهلية بصفتها براديغما سياسيا» أن الفكر الليبرالي قام على أطروحتين مترابطتين هما: الاحتواء الاستباقي للحرب الأهلية التي هي التهديد الأخطر للدولة القومية التي تقوم شرعيتها على الخروج من «حالة الطبيعة» التي هي حسب عبارة هوبز «حرب الكل ضد الكل»، وإلغاء الشعب بصفته جمهوراً من الأفراد المستقلين الأحرار واختزاله في كتلة المواطنة التي لا قوام لها بدون الدولة المعبرة عن الجسم الاجتماعي.

لقد اعتبر أغامبن أن هذا الحل المزدوج كان هشاً ومرحلياً، وما نشهده راهناً هو العجز عن احتواء العنف الاجتماعي الداخلي الذي هو عتبة الهوية السياسية في الوقت الذي انهارت مقاربة التجسيد المؤسسي للمجتمع بانهيار الوسائط التمثيلية وعودة الفردية السيادية إلى الحقل السياسي. ذلك هو المظهر الأوضح لأزمة الشرعية السياسية في المجتمعات الليبرالية الغربية، التي يعترف بها قادة القرار والرأي في تلك البلدان، وتعكسها الاستحقاقات الانتخابية المنظمة في مختلف الدول الديمقراطية المذكورة. ولا شك أن هذه الأزمة تتمحور حول محددات ورهانات العيش المشترك التي كانت سابقاً منطلق مسارات التحديث السياسي في الغرب.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 ديسمبر 2024 23:45

الصفحة 1 من 8

في المثقف اليوم