اخترنا لكم

"نعود مرة أخرى للسؤال الذى طرحناه فى مقال سابق: كيف نتجاوز أساليب النقاش القديمة، ونفتح فضاء معرفيا جديدا؛ للتعاون بين الدين والعلم والفلسفة؛ من أجل خدمة قضايا الإنسانية؟

فى البداية، يجب أن نعيد التنبيه مجددا أن الدين هو الوحى المكتوب، بينما الطبيعة هى وحى الله المرئي، القرآن هو «الكلام»المقدس، والطبيعة هى «أعمال» الله.

ولذلك فالدين هو إيمانى الذى أراهن عليه، ويعطى معنى لحياتي، بينما العلم هو الذى يكتشف الطبيعة (أعمال الله تعالى) يوما بعد يوم، ودوما ما يمنحنى اليقين بأن الطبيعة وراءها مصمم حكيم، أما الفلسفة فتفتح أمامى زوايا كبرى للنظر، وأفقا واسعا لإعمال العقل النقدي، وجعله عصيا على تقبل الأساطير والخداع المعرفى الذى يقوم به بعض الكهنة. ومن هذا المنظور،  يمكن أن يشكل الدين والعلم والفلسفة معًا مشروعًا معرفيًا متكاملًا، شرط أن يُبنى هذا التفاعل على مبادئ فلسفية جديدة تتخطى أنماط الجدل العقيم وتؤسس لتكامل حقيقي. وهذه المبادئ متعددة، سوف نتناولها تباعاً إن شاء الله تعالى.

ونذكر أول هذه المبادئ فى هذا المقال:

1- الاعتراف بالاختلاف البنيوى واحترامه: فى الماضي، كان الصراع بين بعض رجال  الدين والعلم، أشبه برياح تعصف بسفينة المعرفة، وتضع العقبات أمام التطور العلمي. وربما كان من أسباب ذلك، غياب الاعتراف بالاختلاف البنيوى بينهما، ورغبة أطراف من الفريقين فى الهيمنة على العقل البشرى وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. وكان أحد أعمق إشكاليات النقاش، بين الدين والعلم، هو سعى بعض رجال الدين إلى التوحيد القسرى بين منظومتين معرفيتين مختلفتين فى منهجيتهما. وكما سبق أن ذكرنا، فإن الدين يتأسس على الإيمان بالوحى والرؤية الكلية والقيم (الحق والخير والجمال) التى تمنح الوجود معناه، بينما ينطلق العلم من المنهج التجريبى والرياضي؛ بحثًا عن القوانين التى تحكم الظواهر الطبيعية. ولا ينبغى أن ننظر إلى هذا التمايز البنيوى بوصفه تناقضًا، بل يجب أن نعده تكاملًا يُثرى المعرفة الإنسانية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن العلاقة بين الدين والعلم، تتميز بتباينات عميقة، تنبع من اختلاف أهدافهما ومنهجيتهما؛ حيث يمثل كل منهما منهجية مختلفة لفهم العالم والوجود.

وتُعد أركان الإيمان بما بعد الطبيعة، حقائق كبرى فى مجملها، مما يمنح الدين طابعًا كليا وأزليًا يتجاوز حدود الملاحظة والتجريب. فى المقابل، يهدف العلم إلى دراسة العالم المادي، وفهم الظواهر الطبيعية، من خلال البحث المنهجى القائم على الملاحظة والتجريب والاستنباط الرياضي، وهو ما يجعل نتائجه قابلة للتطوير والتعديل مع ظهور أدلة جديدة، مما يمنحه طابعًا ديناميكيًا ومتغيرًا.

كما أن منهجية الدين تعتمد بشكل أساسى على الوحى والإيمان والتسليم؛ حيث تُعد النصوص المقدسة المصدر الأول للمعرفة بما بعد الطبيعة، والإيمان بها لا يتطلب بالضرورة أدلة مادية مباشرة، بل يقوم على قناعة داخلية راسخة بصدق النصوص ومصدرها الإلهي. ومع ذلك، فإن العديد من الأديان، خاصة تلك التى تمتلك تقاليد فلسفية غنية كالإسلام والمسيحية واليهودية، تدعو إلى استخدام العقل كوسيلة لفهم النصوص وإدراك حكمة الخالق. وفى الإسلام، على سبيل المثال، هناك نصوص كثيرة تحث على التفكير فى الكون والتدبر فى خلق الله، إلا أن العقل فى هذا السياق يعمل ضمن إطار إيمانى موجه، حيث يُستخدم لتعزيز الإيمان وليس لتحديه أو تجاوزه. هذا فى الأغلب الأعم، لكن هناك من يتخذ العقل منهجا لاستنباط عقائد الإيمان ويؤسس إيمانه على استدلالات عقلية وربما أدلة مادية غير مباشرة، مثل التصميم البديع للكون كمؤشر على وجود الله وعظمته سبحانه، فنحن لا نرى الله لكن نرى آثار قدرته جل وعلا. ومن هذا الفريق الأخير، من يعتبر أن الوعى بالإيمان متطور بتطور السقف المعرفى للإنسان، وأن مسألة الإيمان يمكن المزاوجة فيها بين العقل والحدْس، وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء.

فى المقابل، يعتمد العلم على منهجية تجريبية رياضية صارمة، تقوم على «الشك المنهجي»، كعنصر أساسى لتحفيز البحث والتحليل والاستدلال. ويبدأ البحث العلمى بصياغة فرضيات قابلة للاختبار، ثم تُجرى التجارب، لجمع البيانات وتحليلها، بغرض التحقق من صحة هذه الفرضيات. ويتميز العلم بخطواته المنهجية التى تشمل تحديد المشكلة، وصياغة الفرضيات، وإجراء التجارب، والاستنباطات الرياضية، ومراجعة النتائج، وتكرار العملية لضمان صحة النتائج ودقتها. وبعكس الدين، لا يعد العلم أى نظرية مقدسة أو مطلقة، بل يُنظر إليها دائمًا، على أنها مؤقتة، وقابلة للتطوير، أو حتى التغيير الكامل، إذا ظهرت أدلة جديدة. وهذا ما يجعل العلم قادرًا على التكيف مع المتغيرات، والاستجابة لاكتشافات جديدة، بينما يميل الدين إلى الحفاظ على التقاليد والتعاليم.

ويظهر الفرق بين المنهجيتين بوضوح، فى تعاملهما مع الشك، وطبيعة المعرفة التى يقدمانها. ففى الدين، غالبًا ما يُنظر إلى «الشك» على أنه عقبة يجب تجاوزها إلى الإيمان؛ حيث يُعد»الإيمان» قوة أساسية لفهم القضايا الروحية والغايات الكبرى للحياة. بينما فى العلم، «الشك» هو المحرك الرئيسى للتقدم؛ حيث يدفع العلماء إلى اختبار الفرضيات، وإعادة تقييم النتائج، باستمرار. وتُعد العقائد الدينية نهائية، فهى تقدم إجابات مطلقة حول القضايا الغائية الكبرى، بينما تُعد المعرفة العلمية مؤقتة وتخضع دائمًا للمراجعة والتطوير. والسؤال الفلسفى هنا: هل على الرغم من هذه الاختلافات البنيوية، يمكن أن يحدث تكامل بين الدين والعلم يقوم على الاعتراف بالاختلاف المنهجى واحترامه؟ وما إجابة القرآن الكريم على هذه الإشكالية؟ وهل إجابة القرآن الكريم قد تكون مثيرة ومبهجة؟ موعدنا المقال القادم إن شاء الله تعالى".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 12 يناير 2025:

لو تأملنا في موضوع الضحك أو النكتة، أو الفيديوهات الحيويّة التي تصلنا، لوجدنا أنها تضج بالحياة وبالشيفرات المركزة، معظم المثقفين يتجهّمون تجاه الحياة الضاحكة، ويزدحمون بالمؤتمرات والندوات. وإذا أردنا فحص موقع النكتة من الثقافة، فإنها تلتقي بشكلٍ فلسفي مع مواضيع الجمال وهي جزء من «نظرية الضحك».

وأحسب أن من لا يرى كل يومٍ مشاهد ضاحكة، فإن في حيويته الدنيوية الكثير من الخلل. إن النكتة دائماً مكثّفة بموضوع أساسي ولكنه ضمن سياقٍ ضاحك، إن النكتة هي حمولة مصغّرة من توصيف الوقائع. الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشبنهور، وبرغسون، ونيتشه، وغيرهم لهم إسهامات في إيضاح نظرية الضحك.

ربما جاء الحديث عن نظرية الضحك عرضاً كما هي الحال لدى كانط في كتابه «نقد ملَكة الحُكم»، أو حتى لدى أفلاطون، أو شبنهور، ومن قبلهم أرسطو، إذ تجيء كاستطراد داخل نظريات تتعلق بالجمال.

أما برغسون فقد ألّف كتابه «الضحك» بحثاً في دلالتها وترجمه: سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم بطريقةٍ متميزة.

بينما كيركغارد دوّن أكثر من كتاب، وعبد الفتاح إمام استعاد بحثاً بعنوان «مفهوم التهكم عند كيركغارد».

بينما شاكر عبد الحميد طرح كتابه النفيس «الفكاهة والضحك - رؤية جديدة»، وأستعيد بعض مقولاته هنا. يقول في فصل «فلاسفة الضحك»: «هناك ارتباط ما بين الفلسفة العامة للفيلسوف وبين أفكاره الخاصة بعلم الجمال (الاستطيقا) وبين أفكاره المتعلقة بالضحك، فالضحك وثيق الصلة بالإبداع والفن».

برونو يكتب أن ثمة رابطة بين البكاء والسرور. إذ يقول: «إن أشكال الضحك تأتي ممزوجة بدرجة ما من الحزن والبكاء، وإن كل بكاءٍ إنما يخفي خلفه درجة من المتعة والسرور».

بينما شبنهور رأى أن الضحك «ينشأ نتيجة افتقار للتجانس أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل أو تمثيل معرفي معين يقوم على أساس الإدراك، أي إن الضحك ببساطة هو محصّلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصوّر العقلي العام والمدرك الحسي الخاص»، و«إن سبب الضحك هو ببساطة ذلك الإدراك المفاجئ للتناقض بين تصورٍ معين، وبين المواضيع الواقعية المحددة التي تم الاعتقاد من قبل بوجود علاقة معينة بينها وبين هذا التصور».

تحدث كيركغارد عن أن التهكّم عامةً: «يحرر من أعباء الواقع المعاش والواقع الامبريقي (التجريبي) العملي، ولكن هذه الحرية تظل حرية من النوع السلبي نسبياً، لكن التهكّم له جانبه الإيجابي أيضاً الذي يقوم على أساس الاستمتاع الذي يتمثل في أن التهكم يوفر لصاحبه شكلاً من أشكال الاكتفاء بالذات، أو نوعاً من الغلوّ بالثقة في النفس».

الخلاصة؛ أن النكتة بقدر ما هي فعل علوّ من أعباء الواقع، وبقدر ما هي نقد شديد أو حيوية اجتماعية رمزية، فإنها التعبير الأكثر صدحاً والأكثر غموضاً. ثمة حالة تواطؤ اجتماعي على الضحك من مفارقة معينة تجاه صورة أو لفظة معينة. النكتة تتكثّف مع الوقائع الصاعدة، وهذا موجود عبر التاريخ وهي تبويب اجتماعي للتعبير عن رأي في واقعة معينة، ولذلك أخذها علماء الاجتماع بعين الاعتبار والتحليل والتدقيق.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 17 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م

 

طرح سؤال منذ عصر النهضة العربية هو: لماذا تقدم الآخر، وتأخر المسلمون؟ وهذا السؤال ما يزال مطروحا إلى الآن، وإن اتخذ صيغا متعددة، وكأنه قدر أزلي. إننا عندما نطرح السؤال الخاطئ، لن نظفر إلا بالجواب الخاطئ. لقد اتخذ سؤال: لماذا تأخرنا؟ صيغة مقارنة حاضر العرب بحاضر الغرب في الواقع الحالي، في الوقت الذي طرح فيه.

إن الصيغة التي طرح بها السؤال أدى إلى اعتبار التأخر متصلا بالماضي كله. وكان التعبير الذائع وصفا لواقع التأخر، هنا والآن، تحت مسمى «التأخر التاريخي» الذي ظل يردده الجميع. ويبدو لي أن هذا التوصيف يحمل مغالطة أبستيمولوجية، لأنه يسقط الحاضر على الماضي، وهو يحاول من خلال ذلك وصف «التأخر الواقعي» في الحال. وهذه المغالطة، هي بدورها وليدة مغالطة أبستيمولوجية أخرى جاءت عن طريق زعم كون التقدم الحضاري جاء مرتبطا بالعصر الحديث في الغرب، الذي ساهم في تشكيله.

إن هذا التوصيف وليد التصور الذي أسسه الغرب عن تاريخه الخاص، والذي أسقطه على تاريخ البشرية برمتها، وما التحقيب الغربي للتاريخ حسب الماركسية والوضعية وغيرهما سوى دليل على ذلك. فالنهضة الأوروبية في القرن السادس عشر بداية تاريخ جديد للبشرية بدأ فيه يتحقق التقدم. أما الحقب السابقة فليست سوى عصور التأخر (العصور الوسطى)، وبهذا أعطى الغرب لنفسه المكانة الفضلى في التاريخ، الذي بواسطتها يعطي لنفسه الحق في محاكمة التواريخ، والحكم على الشعوب الأخرى، وتبرير هيمنته عليها لنقلها من الهمجية إلى الحضارة.

شاركت في مؤتمر في موسكو السوفييتية حول السرد العربي في العصور الوسطى، وحاججت المستشرق كَوديلين حول العصر الوسيط، وقلت له إن كان هذا العصر في أوروبا عصر تأخر وظلام، فقد كان في الإسلام عصر تقدم حضاري وازدهار علمي وثقافي، ولا يمكننا إسقاط تطور تاريخ أوروبا على التاريخ الإنساني. فما كان منه سوى الاستغراب، والتعبير عن عدم الرضى.

اتخذ المثقف العربي هاتين المغالطتين أساسا لطرح مسألة التأخر والتقدم. واستوى في ذلك التقليديون والمحدثون لأن السؤال ـ المغالطة الذي طرح كان مشتركا بينهما، فذهب التقليديون إلى أن سبب التأخر يكمن في الابتعاد عن عصر النبوة والخلافة الراشدية (السلفية)، ورآه المحدثون ذلك في عدم الاستفادة من التقدم الغربي (الليبرالية). إنها الثنائية التي ما تزال محور الصراع والتجاذب بين الطرفين، والتي لا تُولّد أيا منهما سوى التبعية أو الدفاع عن التاريخ أو للغرب الحديث.

لماذا اعتبرت سؤال النهضة العربية مغلوطا وخاطئا؟ جوابي باختصار هو أن سؤال: «لماذا؟» لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التأويلات المبنية على المواقف الجاهزة، والمسبقة. وما هو مسبق وجاهز يتمثل في النظر إلى الغرب الحديث والتاريخ الإسلامي على أن كلا منهما هو النموذج الذي علينا الانطلاق منه لمواكبة التقدم، وتجاوز التأخر التاريخي. ماذا لو انطلق المثقفون العرب من سؤال مختلف عما طرح إبان الاصطدام بالغرب، الذي أدى بهم إلى المقارنة بين الذات والآخر، وعدم التركيز فقط على الذات؟ وما هو السؤال الذي كان يفترض طرحه، ولم يطرح لأسباب عديدة؟ إنه السؤال المتعلق بـ: متى تأخرنا؟ ومتى تقدم الآخر؟ إنه السؤال المتعلق بالزمن، وليس بلماذية الأشياء. ويفترض سؤال الزمن البحث والاستكشاف والقلق، لأنه ليس السؤال المؤدي إلى التأويل الجاهز والمُطمْئِن، والمبني على قناعات واصطفافات أيديولوجية.

إن سؤال لماذا يؤدي إلى رد الفعل. ورد الفعل يؤدي إلى التناقض والتجاذب الذي يفرض على الطرفين عدم التنازل، أو المساومة عما يعتقده أي طرف، والحجج الدامغة لدى الطرفين، والمادة المستدعاة للسجال لا حد لها، وهي قابلة للتجدد، والتطور مع الزمن. وهذا ما نراه إلى يوم الناس هذا، وبشكل أكثر تعقيدا مما مضى، أما سؤال الزمن فيشترط المعرفة المتأنية والدقيقة التي تؤدي إلى انتهاج مسارات مختلفة لما مورس، لأنه يدفع إلى البحث عن أسباب التقدم أو التأخر.

لا يقاس تطور الأمم والشعوب فقط بتاريخها السياسي والاقتصادي، ولكن أيضا وأساسا بتاريخها الثقافي، لا يخلو تاريخ أمة من الأمم التي لعبت دورا في التاريخ من الصراع على السلطة، والحروب، والأزمات، لكن ما ساهمت به في التاريخ الإنساني يؤول إلى ما لعبته من أدوار في تطوير المعرفة الإنسانية. ولا يكون هذا إلا بمدى ما حققته في تاريخا من تقدم حضاري وعلمي. فمتى تقدم الغرب؟ ومتى تشكلت فكرة الغرب؟ ومتى تأسست الدولة الوطنية في الغرب؟ ومتى تأخر العرب والمسلمون؟ وهل سبق لهم أن تقدموا، أم أن تاريخهم تاريخ حروب بين داحس والغبراء؟ تقدم المسلمون بسبب أخذهم بإجراءات البحث العلمي وسعيهم إلى نشر معرفة جديدة ومغايرة لما كان سائدا في أزمنتهم، وساهم الإسلام في تشكيلها من خلال القرآن الكريم، وعملوا على توسيع رقعة بلاد الإسلام، وشاركت كل الشعوب التي دخلت في الإسلام في بناء صرح حضارة ذات بعد إنساني. وكان تأخرهم بسبب الملابسات التي أدت إلى تخليهم عن مواصلة البحث والاستكشاف، وهو ما أدى بالغرب إلى الخروج من عصوره الوسطى عندما تبنى الفكر والبحث العلمي. كان لسؤال متى أن يؤدي إلى أجوبة غير التي نراها إلى اليوم. وفي هذا اليوم نجدد السؤال لننقله من صيغة الماضي إلى الحاضر، ونتساءل: لما نتأخر الآن، ويتقدم الآخرون؟

***

سعيد يقطين - كاتب مغربي

عن جريدة القدس العربي، يوم: 15/1/2025

 

أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.

***

د. فاضل ثامر

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 11 يناير 2025 م ـ 12 رَجب 1446 هـ

هناك مقاربة أخرى نضعها لكتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي) بعد قرابة نصف قرن من صدوره، من خلال استنطاق مذكرات المؤلف فهمي جدعان، والمسماة (طائر التم/حكايات جنى الخُطا والأيام 2021) وقد تجاوز الثمانين من العمر، يقول ص400: (يظهر لي أن الكتابين اللذين وضعتهما بالعربية في المدى الذي بدأت أتحرر فيه من حالة «الاستلاب الكاذب» ــ وأعنى أسس التقدم والمحنة ــ يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بوقائع حزيران والمد الإسلامي..) ثم يعترف بقوله ص404: (وأشعر بضيق شديد وأنا أدخل في دائرة الاعتراف المفضي إلى القول إنني لم أعد أتبين في التراث إلا دلالته التاريخية، ودلالته الجمالية، أما أن يكون التراث في ذاته مبدأ ماديًا فاعلًا للخروج من المأزق وأساسًا لإحداث تغيرات عميقة في وجود الأفراد والمجتمع والدولة فذاك فيما يظهر لي أمر بعيد، والارتداد إلى مشاريع مفكري التاريخ ــ من المعتزلة إلى ابن رشد ــ لن يغني عن الأمر شيئًا، والتراث الحي نفسه الذي تكلمت عنه في أكثر من موضع من كتاباتي لا يمكن أن يكون أكثر من عامل معزز للشروط الموضوعية التي تتطلب الفعل، وتحفز على القيم التي ننصبها وفق غائيات نحددها لأنفسنا اختيارًا أوليًا مطلقًا) مع اعترافه بتقدم المنتجات الفكرية (المغاربية) في زمننا الحاضر، راجع ص403، مع استرساله التعقيبي الدائم وفق (كياسته المنهجية) في محددات تحفظ له (وسطيته) ما بين قول الشيء ونقيضه إلى حد استنكاره (لمن يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول) فهل كان ينفي ذاته عندما استنكر على من عرض عليه التخلي عن فلسطينيته مقابل الجنسية الأردنية ليوافق على مضض، بينما هرول للحصول على أوراق الانتماء إلى كندا بلا تردد (راجع ص209، ص384) كل هذا عاشه ويمكن تفهمه من خلال تقلبات حياته من المخيمات إلى أرفع الجامعات علميًا في فرنسا، وعطاءً في (الكويت، قطر، سلطنة عمان...) وكانت حياة مقدرة من الجميع بالجوائز والتكريمات التي يتعطش لها ويتألم لأي مناصفة فيها (راجع ص326، ص339، ص366).

رغم كل هذه التكريمات والجوائز فقد امتلأت مذكراته بالتشكي والتبكي الضَّنك من الجميع (تقريبًا) حيث انتهيت من قراءة مذكراته وأنا أردد (إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه) ولعل من ذاق (لقمة العيش المُرَّة) في المخيمات، فلن يلومه، وسيلمس ظلال المخيمات تنوء بكلكلها على مذكرات فهمي جدعان، حتى ولو حكى فيها عن امتلاكه سيارة BMW، وما اقتناه من ماركات اللباس والإكسسوارات والعطور بشكل استعراضي غير مبرر في ثنايا الصفحات يشي بعقدة عوز أبدية، إضافة إلى ما أكسبته الظروف من (ضعف الشجاعة الفكرية) ليصبح أقرب إلى (براغماتية متدينة)، تجعلك تلاحظ في مذكراته (طائر التم) البطء الشديد والحذر في تحولاته الفكرية من (مسلم محافظ لا يستسلم لشهواته /ص217، ص238) ويترافع (عن الدين بشكل تقليدي جدًا كما يقول/ ص227) عن حياته في فرنسا أوائل الستينيات الميلادية من القرن الماضي إلى شاب (مسلم أكثر ليبرالية يشارك أنخاب الصداقة ص 239) عبر نصف قرن، ربما الذي أخر هذه التحولات هو تقاطعه النفسي مع بعض الشخصيات التي زاملها وعرفها إبان شبابه (صداقته لعبداللطيف الشيرازي الصباغ ص194، وإعجابه بحسن الترابي الملتحق آنذاك ببرنامج الدكتوراه في القانون في جامعة باريس، حيث يقول: (كان هشام أشدنا إعجابًا بالترابي/ ص202) ثم مجاورة فهمي جدعان للترابي: (كان الترابي آنذاك يقيم في الضاحية نفسها التي انتقلت أنا إليها... وقد دعانا جميعًا، أنا وهشام وكابيتانوفيتش، أكثر من مرة، لتناول الغداء أو العشاء في منزله، حيث كانت تستقبلنا زوجته السيدة إخلاص بأريحية وكرم بالغين /ص203).

أخيرًا: أعود للجولاني حيث (عاد معتذرًا) باسمه الحقيقي: أحمد الشرع، لأستعيد الكتاب الثاني الذي بدأت به الحلقة الأولى بعنوان: (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل/نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي) لنكتشف الأصالة الفكرية التي يتمتع بها كتاب محمد أركون (حتى الآن)، مما يجعل كتب (فهمي جدعان) كتب مرحلة تبحث عن جائزة لم تستدرجني لقراءتها وأنا طالب كلية الشريعة ولم تستطع الإجابة على تساؤلاتي لما فيها من (تملق) فكري للحركات الإسلامية لا يتناسب وطبيعتي، فربما غيري يراها (توفيقات مثرية وموفقة لصالح الحركات الإسلامية)، بينما كتب (محمد أركون ترجمة هاشم صالح) فتحت لي نافذة وبابا في (جدار الأصولية وزنزانتها) التي كنت أعالجها بداخلي بالانفتاح (الطفولي) على كتب علي الطنطاوي بما فيها كتابه (فتاوى)، ومنها وصلت لكتب (يوسف القرضاوي) الفقهية والأيديولوجية، ولم يحررني من هذا سوى ما وصلني من أحد الأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن على شكل (إهداء) كتاب لمحمد أركون قال: (لم أفهم ما فيه.. يحتاج إلى قارئ يمتلك الشغف والجلد.. تستحقه)، أخذته وبالنسبة لمعارفي الفقهية (التقليدية) فقد فتح ثغرة جديدة تمكنت من خلالها الولوج من عصر القرون الوسطى في (فقه العبيد والسبايا) إلى العصر الحديث في (تجريم الإتجار بالبشر) على المستوى العقلي، أما جسدي فهو ككل الناس يعيش بالضرورة في (2024).

عرفت أركون فكان نقلة فكرية، لم أتوقف عندها بقدر ما عرفت الفرق بينه وبين حسن حنفي الذي اعتذر لهاشم صالح بأنه يكتب وسط مجتمعات قتلت فرج فودة، وحاولت اغتيال نجيب محفوظ، ونفت نصر حامد أبوزيد، بينما أركون يكتب مقيمًا في باريس، وعندي أن حسن حنفي رغم ما في كتبه من (أيديولوجيا) تجامل الإسلام السياسي، إلا أنه ــ من وجهة نظري ــ من طبقة أعلى بمراحل من فهمي جدعان الأقرب للمؤرخ.

أخيرًا: لماذا الإسلام السياسي لم يستوعب (استحالة التأصيل) حتى الآن؟ ولماذا لم يسعهم ما وسع تجربة (المسيحية السياسية)؟ التي ما زالت قائمة في أوروبا (الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا/ سبق وترأسته إنجيلا ميركل)، سيعودون بقولهم: لسنا مستلبين للغرب.... إلخ، فإن حاججتهم بالواقع طالبوك بالمثالية، وإن حاججتهم بالمثالية طالبوك بالواقع، كلعبة (ديماغوجية/دهمائية) أتقنوها في كتبهم وخطبهم ما داموا باحثين عن (كرسي السلطة) أكثر من بحثهم عن (الحق) في (العدل والمساواة والكرامة والحرية) مما عرفته الحضارة الحديثة، وما زال الإسلاميون يتدارسونها كتنويعات جديدة لفقه (الحر والعبد، المسلم والذمي) مع ما في المسلم من تنويعات عجزوا عن حلها ما بين (سني شيعي) وداخلها عناوين أكثر تعقيدًا ينقصها عود ثقاب من (كبريت التراث) لتشتعل الحرائق من جديد.

فلنقرأ حتى كتب تقع (يسار) أركون لناقدين شرسين ما دامت (جديدة على تفكيرنا)، كما عند محمد المزوغي في نقده الجذري لمحمد أركون ومترجمه هاشم صالح على حد سواء في كتابه (في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح) منشورات إفريقيا الشرق، وكتابه (العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون) منشورات الجمل، فبهذا الانفتاح الفكري بلا أي تقديس لأي (مؤلف) قديم أو حديث، نصبح أقرب للمنهج العلمي، لنفيق من مفازة فكرية قتلتها المسغبة، وسلواها سرابٌ ممتد من الجولاني يمينًا إلى فهمي جدعان يسارًا.

***

مجاهد عبد المتعالي

عن جريدة الوطن السعودية، يوم:  السبت 04 يناير 2025 - 04 رجب 1446 هـ

أدركت مجتمعاتنا، بعد تجارب مريرة مع واقع الناس، أن الاهتمامات الكبرى التي شغلت الفكر الإسلامي من قبل لم تكن تبوئ المسألة الأخلاقية المكانةَ التي كان حرياً أن تحظى بها. وقصّرت الدراساتُ الإسلاميةُ منذ القديم في البحثَ في القول الأخلاقي والتّنظير له رغم قوة هذا القول وغزارة كنوزه.

حقًّا جاء القرآن الكريم خزّاناً للقيم الأخلاقية، والسّنة وشخص الرسول الكريم مثال أعلى للأخلاق الإنْسانية، وكان أن ظهر في القرن الثّاني الهجري تيار يحيي قيم الزهد باعتبارها قيماً أخلاقية تُخَسِّسُ الحياةَ في أعين الناس، ما دامت هذه الحياة قد سمّيت ب«الدّنيا»، وما دامت هذه الدّنيا ليست سوى «لعب ولهو وتفاخر وتكاثر»، حيث وجدنا المقبل على الدّنيا وكأنه شخص غير أخلاقي، والأخلاقي الوحيد هو المقبل على الآخرة، وكأن الدّنيا والآخرة كالضّرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

في هذا السّياق كتب المحاسبي أول أعماله التي دشّنت القول الفلسفي في الأخلاق، إذا اعتبرنا أن ما كتبه هو حصيلة تجربة حياتية عميقة شاركه فيها من سُمِّي «سيّد الطّائفة» أبو القاسم الجنيد. قبل أن يأتي الغزالي ويكتب مصنّفه الضّخم «إحياء علوم الدين»، فيدمج المنحى الأخلاقي في نسيج الثّقافة الإسلامية كلّها، ويصبح كتابه يُتْلى في أرباع وأحزاب، كما كان يصنع به ابن حِرْزهم دفين فاس.

وظلّت الأخلاق بهذا المعنى شديدة الصلة بطرائق القوم، وكأنها من صفات الخاصّة، وإنْ عملت بعض الزّوايا على جعلها أخلاقاً مشتركة، لكن عدم ارتباط الأخلاق بالأفق المدني جعلها سجينة الأخلاق الميتافيزيقية، إذ للدُّنيا أهميّتها أيضاً، وهي أرض العمران، ولن يكون عمران إلا بالأخلاق البانية للعمران، والمسْعدة للمجتمع البشري في تفاعله اليومي التي تتضارب فيه المصالح ويقع فيه التّنازع. ربما لهذا السّبب لم تُعْرف أخلاق احترام الاختلاف، وأخلاق احترام الحرية الشخصية، وأخلاق الاعتراف، ولم تسُدْ أخلاق الحوار والتّعليل والإقناع والصّفح، ولا أخلاق التّسامح والسّلم الاجتماعي كثيراً، رغم بوارقها وإشعاعاتها في حقب تاريخية مهمة.

كان «كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو مناسبة لتطوير النّظر الفلسفي الأخلاقي في هذه الموضوعات، وغيرها من الموضوعات التي تؤكد على قيم الضّيافة والاعتراف والحبّ والصّداقة، وهي القيم البانية للمجتمعات، وقد عرف المسلمون هذا الكتاب الفريد من نوعه في تاريخ الثّقافة الفلسفية عموماً، واستلهموه في نظرياتهم للسّعادة على الخصوص، وإن كانوا جعلوها سعادة ميتافيزيقية، ما عدا الفيلسوف الذي غرّد، على ما يبدو، خارج السّرب، واستلهم هذا الكتاب الفريد ليكتب كتاباً فريداً آخر في تاريخ الثقافة الفلسفية الإسلامية، أقصد أبو بكر ابن الصائغ، المعروف بابن باجة، وكتابه الفلسفي الطّريف، الذي وعد ابن رشد بقول شارح له، أقصد كتاب «تدبير المتوحد».

كان كتاب «تدبير المتوحد» نموذجاً لإبراز قيمة التّدبير الفكري في النّظر الأخلاقي، وهو الشّرط الأساس لتطوير النّظر الأخلاقي، لأنّ الفكر النظري، ولو في حقوله العملية، هو الفكر المنتج الوحيد على مستوى المعرفة، وعلى مستوى الوجود، وعلى مستوى القيم، وبدون فكر نظري قوي لن تكون هناك القيم البانية، تلك التي يكون أصلها ثابت ويكون فرعها في السماء.

وبما أن الإمارات قد أخذت على عاتقها، في جامعاتها ومنتدياتها بل ووزاراتها، عبء تجديد النظر الأخلاقي وجعله ركيزة أساسية في بناء الفلسفة الإسلامية عموماً، فهذا يُبشر بمستقبل علمي للأخلاق النّظرية أساساً عميقاً لأخلاق عملية بانية غير هادمة، مستقبل تصبح فيه الإمارات رائدة فلسفة أخلاقية تمتح من التراث الأخلاقي العملي الضارب في جذور الثقافة والتاريخ، مُضَمَّخًا بالإرث الفلسفي الأخلاقي الذي أبدعه العقل الفلسفي عبر العصور.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يناير 2025

 

استمعت للجولاني بصفته التي كان عليها في سنوات شبابه كما يقول، وها قد (عاد معتذراً) باسم (أحمد الشرع) لإنشاء (دولة حديثة إسلامية) في (دمشق) يتجاوز فيها جرائم داعش والقاعدة وأخطاء الإخوان المسلمين، وهنا يتنازعني صراع ما بين كتاب فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي) الصادر عام (1979) وكتاب محمد أركون (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) الصادر (1999)، مستفتحاً بكشف ذلك المزيج من الذحل والغيرة من فهمي جدعان تجاه أركون، مفاخراً بشعبيته بين الطلاب بفرنسا، مقارنة بأركون وعنجهيته واعتداده الظاهر (راجع ص315، ص321، من مذكرات جدعان باسم: طائر التم) ولعجزه عن مطاولة أركون فقد استعاض عن ذلك بحكاية حصلت معه إبان دراسته في فرنسا مستشهداً برأي عبدالرحمن بدوي في أركون ومرافقه في ذلك هاشم صالح عند لقائهما بدوي: (حين حضر هاشم صالح وجرى التعارف الأولي وبعض الأحاديث العادية سأل بدوي هاشم: ماذا تفعل هنا في باريس؟ أجاب: أتابع الدكتوراه، وأترجم.. سأله بدوي: وماذا تترجم؟ أجاب هاشم: أعنى بترجمة أعمال محمد أركون إلى العربية.. وقد ترجمت عدة كتب منها.. انتفض بدوي هائجاً مزمجراً وقال لهاشم: ماذا؟ تترجم لهذا الجاهل؟ أنت تضيع وقتك وتصرف جهودك عبثاً.. افعل شيئاً آخر يفيد الناس!) راجع ص221، ص222 من مذكرات جدعان (طائر التم)، ويبقى تأكيد أو نفي الحكاية عائداً لهاشم صالح، مع علمنا أن عبدالرحمن بدوي في شخصيته (بخل في اليد والثناء)، ورأي عبدالرحمن بدوي في (أي أحد) تشوبه شوائب خارج قراءتنا الآن، علماً أن جدعان يعترف بأهمية اشتغالات أركون على «العقل الإسلامي» (راجع ص555 من كتاب أسس التقدم....) حيث يقول: (ننظر في أحوال «العقل الإسلامي» وأنا هنا أقتبس مصطلحاً أثيراً عند محمد أركون...) يقصد مصطلح (العقل الإسلامي) كنوع من (الأمانة العلمية) المكرة عليها جدعان لاستفاضة العلم بها عن أركون.

هناك ملحوظة لعل الأستاذ القدير (علي العميم) يجيب عنها فهو صاحب الميكروسكوب الذي لا يبارى في كشف (التناص والتلاص) في الكتب والمؤلفات بين الجابري وجدعان وغيرهما، راجع سفره الضخم المهم (شيء من النقد شيء من التاريخ) إضافة إلى استشهاد فهمي جدعان بالعميم في مذكراته (طائر التم ص373 وما بعدها)، وقد أثارت انتباهي ولا أستطيع مواصلة المقال دون الإشارة إليها ثم أعود لما بدأت: فهمي جدعان أشار في كتابه الصادر 1979م ص 556 إلى أن هناك: (أنماطاً معرفية أربعة شكلت القنوات الأساسية التي جرت فيها الأفكار في الإسلام، وهي: النمط العقلي، والنمط النقلي، والنمط الكشفي أو العرفاني، والنمط الاختباري أو التجريبي...)، بينما كتاب محمد عابد الجابري صدر 1984م، فهل هناك أبحاث أو مقالات صدرت للجابري قبل عام 1979م تؤيد هذا (التناص) حيال (برهان، عرفان، بيان/الجابري) للعقل العربي، علماً أن فهمي جدعان أشار إلى الجابري في كتاب (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة) الصادر 2016، ص 24 بقوله: (الأطروحة العرقية التي وقع محمد عابد الجابري وآخرون ضحية لها، حين سلموا بطرق غير برهانية، وبتعميم مبتسر يبعث على خيبة الأمل، بأن العقل المغربي، بعقلانيته وعلميته الصريحة، قد «قطع» مع العقل المشرقي القياسي الصوفي الهرمسي اللاعقلاني..) وهنا أرى جدعان يقر ضمناً بتقسيمات الجابري للعقل العربي ويستنكر عليه (موضعتها جغرافياً) دون أن يرى فيها أي تقاطع مع ما سبق وأشار له قبل قرابة نصف قرن؟!

أعود لكتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي/1979) ولا أخفي ظنوني وأنا أقرأ الكتاب فكأنما يكتبه فهمي جدعان وفي ذهنه (النخبة الفكرية) للإسلام السياسي/ جماعة الإخوان المسلمين، حيث تجده يشير إلى كتاب علي عبدالرازق عرضاً ونقداً وتفكيكاً (صارماً)، بينما يتحلى بالنفس النقدي (الاعتذاري) عندما يصل إلى حسن البنا ومن جاء بعده من الإخوان راجع ص347 وما بعدها من كتابه (أسس التقدم...) إضافة إلى ما تكتشفه عن ضخامة الكتاب (641 صفحة) لتلاحظ مثلاً وليس حصراً نقولات تتجاوز (11) صفحة لكتابات سيد قطب راجع (ص524 وما بعدها) وقد استخدم جدعان مفردة (جماعة) بدل (مجتمع) في مبحث الخاتمة: (الإسلام والمستقبل) عندما قال ص576: (التطور المحتوم في الأحوال الوضعية المشخصة للجماعة ونظمها مما يمكن أن يتم على نحو تغير بطيء وفقاً لسنة بينة أو لعوامل كامنة في الأشياء، أو بفعل مبادرات تهيئ العقول لتقبل الأوضاع الجديدة...) ولا أخفي كراهيتي لممارسة (التقية) بثوب الأكاديمية للحيلولة دون الوقوع في (فخ التصنيف) لكن ركوب موجة المرحلة تمت بامتياز آنذاك، وصدرت عدة طبعات تالية، وحصل على جوائز تقديرية، لنراه من جديد يمارس ركمجة فكرية جديدة في كتابه (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة 2016) حيث تقرؤه ناقداً شرساً للعقلانية والحداثة كتوطئة لإقرار نوع تلفيقي جديد سماه: (الحداثة القرآنية) ثم يسترسل فيقول: (وقد أكون أقرب إلى الدقة إن سميتها بالحداثة الفرقانية، ذلك أن الوحي الإسلامي حين جاء ليكون علامة فرق وافتراق بين... ما سمي «الجاهلية» وبين «عصر الأنوار») راجع ص88 من كتاب (مرافعة للمستقبلات...)، فكأنما تخلصنا من لعبة إخوانية قديمة اسمها (أسلمة العلوم) ليخرج علينا فن جديد أعمق خطراً اسمه (أسلمة تاريخ العلوم) بإسقاطات تلفيقية تجاوزها الزمن، وهي نتيجة طبيعية تصيب كل من يقاوم (الحداثة) بأسلمتها للحفاظ على مفاهيمه الكلاسيكية وهو غارق إلى حد الأذنين في (الحداثة)، ليتفاجأ بنفسه وقد تحققت بداخله (حدثنة الإسلام) الخاص بضميره الديني، وهذا ما أظنه حصل لفهمي جدعان ممن يرى في الإسلام أداه فاعلة تمر من خلالها مرجعيته الأعلى وهي (القضية الفلسطينية)، فمع إقراره بالخلافات الفلسطينية القديمة في (هذا حسيني وهذا نشاشيبي وهذا وطني وهذا معارض) ص63 من مذكراته (طائر التم)، فإنه بالمقابل يصدر حكمه الشرعي والقانوني فيصف اثنين من كبار المفكرين السياسيين (سعودي وإماراتي) بقوله: (الليبرالي المرتد الخائن، الوغد) ص 468، إضافة إلى وصفه (لمثقف وروائي مصري بما يشبه هذا) ص 177 من مذكراته (طائر التم)، بسبب رأيهم في فلسطين المخالف لموقفه، أي إن فلسطين ــ وفق ما فهمته من مذكرات جدعان ـ تكاد تكون من أصول العقيدة الصحيحة ولاءً وبراءً؟! بينما هي قضية تخص (الوطنية الفلسطينية) ومن الحماقة سحبها على بقية العرب من مسلمين ومسيحيين، فلن يكونوا فلسطينيين مثلاً أكثر من حركة فتح في اتفاقية أوسلو 1993م، فمن يزايد على المناضل ياسر عرفات؟! فهل نلوم فهمي جدعان على مخزون الطفولة مع الشيخ مراد؟! وهل انصرافه عن حلقة الشيخ مراد سببه ما فيها من تكفير كما يقول؟ لا أظن، راجع ص 140 من مذكراته (طائر التم)، حيث إن التكفير في ظني ليس المشكلة، بل الأسلوب المكشوف هو المشكلة ولهذا تضايق من الشيخ مراد ولم يتضايق من (الانتهازي الأكبر) حسن الترابي وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة الثانية.

***

مجاهد عبد المتعالي

عن جريدة الوطن السعودية: يوم: السبت 21 ديسمبر 2024 - 20 جمادى الآخرة 1446 هـ

 

استطاعت المنظومة الأخلاقية إثبات دورها الحيوي والفعال باستمرار في تنظيم الإطار العام للديمومة السلوكية الإنسانية ككل، وخصوصاً عبر ما تقوم به من غرس لمفاهيم قيمية ومبادئ أخلاقية تتداخل مع مختلف المجالات التي يحتك بها ويتفاعل معها الإنسان في حياته.

وفي ذات الوقت فقد مثلت الفتوى تلك الأداة الفقهية الإسلامية الحيوية، التي تسمح بالتعامل مع مختلف القضايا العملية والأخلاقية، من خلال مد جسور الفهم والإيضاح بين كل من النص الديني والتطبيق العملي، والآليات التي يمكن من خلالها بلورة صورة ورسالة النص الديني بطريقة صحيحة ودقيقة بعيداً عن الإيهامات والضبابيات، وبالتالي يستطيع المسلم العيش على ضوء تعاليم الدين وليس فقط تطبيقها في مختلف سياقاته المعاصرة، وبالتالي فإن كلاً من الفقه والأخلاق يشكلان كفتي ميزان يتعين الحفاظ على التوازن فيما بينهما، حيث إن الفقه يوفر الإطار القانوني والتشريعي، بينما تمثل الأخلاق المادة الأساسية الخام التي يمكن من خلالها تطبيق تلك الأحكام وتفسير أوجه فهمها ومآلاتها.

وبتقريب الصورة أكثر على البناء الأخلاقي الإسلامي، نجد أنه يعتمد بشكل مباشر ورئيسي على مجال الفقه، وذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود المتمثل في تنظيم السلوك الإنساني بالتوازن مع المبادئ العليا للدين، مثل الرحمة والصدق والعدل.. وغيرها. وهذا إلى جانب حفظ الضرورات الخمس، مما يعني القدرة على بناء التوازن بين جانبي الحق والواجب. ومن الجدير بالذكر أن ما يوثق هذا التوازن ويجعله صيغة مقنعة ومقبولة لدى الناس هو الإدماج الواضح لكل من الجانب القانوني مع البعد الأخلاقي الذي بدوره يقوم بتعزيز السلوك الأخلاقي، وبالتالي بناء علاقات إنسانية في صياغة سليمة.

ولا يبدو أن السلاسة تطبع دائماً هذه العملية الإفتائية، وبخاصة في ظل المستحدثات الجديدة ضمن الظرفية الزمانية والمكانية وما فرضته من تحديات معاصرة متعلقة بتطور التكنولوجيا الحيوية والاقتصاد الرقمي، حيث أصبح مطلوباً من الآلة الفقهية والعقل الفقهي والأخلاق الفقهية توسيع دائرة التوازن بحيث تستطيع إيجاد تناغم متزن يحافظ على التقاليد الدينية وتلبية الاحتياجات الحديثة العصرية.

وإن تعاظم مسؤولية الفقهاء تلح على ضرورة الارتقاء بمجالات الفتوى وأدواتها بحيث تستطيع الجمع بين الفهم والتطبيق، النص الديني وقضايا الواقع المعاش، لا سيما أن الحفاظ على الديناميكية الفقهية الأخلاقية يعَد أهم المحاور التي يمكن الارتكاز عليها في إبراز المرجعية القيمية.

ومن هذا المقام يمكن الاتفاق على أهمية الدور الأخلاقي للفتوى وتوسيع نطاقه، فهي لا تقبل التقييد في تقديم الإجابات على المسائل الفقهية وحسب، وإنما توسيع دائرة الصلاحيات التي تمكن الفتوى من تطبيق وتحقيق الدور الأخلاقي المتركز فيه توجيه الفكر الأخلاقي الإنساني، والقدرة على توجيه التيارات الفكرية داخل المجتمع بحيث لا تخرج عن النطاق السلوكي المنضبط والمسؤول، والذي يحتاج الكثير من الجهد لبناء العلاقة بين السلوك ودوافعه وفهم انعكاساته وتأثيره على المجتمع المحيط، مما يمكن استثماره في خطوة لاحقة من خلال بث تجارب فقهية نموذجية ناجحة استطاعت تشجيع الأخلاق الإسلامية النابعة من التفكير النقدي الواعي للمكانة التي تحققها القيم في حياتنا، ومستقبلنا. ولذا فلا يمكن تخيل إمكانية وجود فتوى مبنية أخلاقياً وراء أي نوع من النزوع نحو التطرف القيمي والسلوكي للأفراد.

وكل هذا لا يغني عن تسليط الضوء على الشخصية المسلمة ذاتها، إذ هي بحاجة لإيجاد معادلة فقهية ذات بناء أخلاقي تمكن الأفراد من تشكيل وعي إسلامي أخلاقي قادر على تجاوز التحديات المعاصرة المتزايدة، مما ينعكس تلقائياً على المسؤولية الأخلاقية والعلمية والفكرية لمتصدّري الإفتاء، حيث يتوقع منهم مسايرة التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية، وامتلاك الأداة النقدية القادرة على تمحيص الآثار والتداعيات والانعكاسات، وحتى استشراف ما هو قادم، وبالتالي يصبح التعامل مع المسائل الأخلاقية المتصلة بمعطيات الزمن المعاصر ليس عصياً على الفهم ولا بعيداً عن التعامل المباشر والفعال في الوقت الحقيقي المطلوب.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يناير 2025

 

لم يكن مفهوم العلمانية-كما تحدثت في مقالة ماضية- مفعّلاً للتبيئة بسبب الترجمة السطحية للمعنى، نشبت سجالات طويلة لا تحصى، وبلغت ذروتها مع اشتداد التأزيم الأصولي، وأخص بالذكر ما طرحه محمد قطب المنظر الفكري للإخوان ولتياراتها المتفرعة في كتابه «واقعنا المعاصر» الذي صار الفصل المخصص حول العلمانية في الكتاب مرجعاً للمجاميع المتشددة، ولأن نقده كان مقروناً بمقولات معاجم وكتاب وفلاسفة غربيين ظنّ المناوئون أن ماقاله محمد قطب هو الحق المطلق، وتلاه عدد كبير من المنظرين الآخرين الذين لخصوا ماقاله وبسطوه ليكون بين أيدي الشباب المتحمس المتمرد.

لكن ماهو المعنى حين نقول «العلمانية»؟!

هذا السؤال يعيدني إلى فيلسوف كبير هو محمد أركون الذي طالما شكا من ضبابية مفهوم العلمانية بالترجمة إلى العربية، موضحاً أننا إذا قلنا laïcité بالفرنسية، فإن المعنى للمفهوم أكثر إشعاعاً وسطوعاً ودلالةً من ترجمته إلى العربية بـ«العلمانية»، وآية ذلك أن المفهوم علاوةً على الضلال الأيديولوجي في تفسيره وحمولة الشحن بوجه العلمانية باعتبارها تسحق الدين وحضوره بالمجال العام، فإن مناحي أخرى من الدلالات لا تتضح كفايةً بالشرح العربي. فالمفهوم لا يضع الدين مقابل الدنيوية، بل وظيفة المفهوم متعددة، ومجالات فعله أكبر من تفاسير الفصل بين الدين والدنيا، بل يحمل فضاءً من الترتيب للمجال العام لتحريره من القيود التاريخية، وجعل الحياة أكثر تشبّعاً بحضور الإنسان وازدهار واقعه، ليست وظيفة العلمانية أن تتدخل بأي تفسير ديني، ولا أن تصحح أي مفهوم عقائدي، بل تعمل على ترتيب واقعٍ أقل كارثيةً، بدليل أنه انبجس بعد عهودٍ من الحروب والنزاعات الأهلية وقصص الدماء.

وهنا أستشهد بجورج طرابيشي في كتابه «هرطقات»، حيث خصص فصلاً بعنوان «بذور العلمانية في الإسلام» وفيه يساجل لا الحجج الإسلاموية وحدها، ولا الأكاديمية الناجزة والسريعة، وإنما حتى الاستشراقية، ضارباً بذلك مثلاً برنارد لويس الذي يعتبر أن الإسلام: «أصله الجوهري اتصالي، وليس انفصالياً كما هو حال المسيحية»، وذلك بغية نفي إمكانية حدوث تطور لدى المجتمعات الإسلامية ضمن تحليل نمطي، ما عزز من استحالة وجود علمانية في الدول الإسلامية.

وعن ذلك يعلق طرابيشي، ويقول:«وجدنا مستشرقين ومختصين بالدراسات الإسلامية يسايرهم في ذلك محترفون محليون للمنافحة عن الإسلام يؤكدون بوثوقية لا تحتمل الشك أن الإسلام لم يعرف مبدأ الفصل بين الدين والسياسة كما عرفته المسيحية في التمييز الإنجيلي الشهير، وكما في توزع السلطتين الروحية والزمنية بين الباباوات والقياصرة أو الباباوات والأباطرة في عهود الإمبراطوريات المقدسة الرومانية والبيزنطية والجرمانية، ثم بين الباباوات والملوك مع انبلاج فجر الحداثة ونشوء الدولة القومية».

الخلاصة، أن غرض هذه المقالة الدعوة لإزالة لبس عمره أكثر من قرنٍ من الزمان، إذ يتم تداول تفسيرات ونتائج وأنماط حول العلمانية وعلاقات المجتمعات المسلمة معها من دون تبصر، وهذا سببه عدم التدقيق بتاريخ المفهوم وبخاصةٍ في هذا الظرف العصيب الذي يجعل من تبيئة مثل هذا المفهوم صعباً على الجماهير التي تفضّل الشعبية الخطابية على المفاهيم العلمية وأسسها وتاريخها وتطوراتها عبر العصور.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 يناير 2025

رحل المفكر البحريني البارز والصديق العزيز محمد جابر الأنصاري الأسبوع الماضي. آخر مرة التقيت به كانت قبل سنوات في بيروت، على هامش أحد مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي، وقد بدت عليه أوانها نذر الشيخوخة والمرض وإن كان ما يزال محتفظاً بروحه المرحة وعمقه الفكري الذي لا خلاف حوله.

كان الراحل نموذجاً فريداً من بين المفكرين العرب من حيث الاهتمام وطبيعة المنهج والتوجه. لم يسع إلى بناء مشروع لقراءة التراث على غرار مفكرين بارزين عاصرهم مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطيب تزيني.. رغم اهتمامه الواسع بالمسألة التراثية واطلاعه الدقيق على نصوص التقليد العربي الوسيط. لقد توجه الأنصاري إلى ما أسماه نقد الواقع العربي بدلاً من الاكتفاء بالوقوف عند البنية الفوقية للمجتمع العربي، أي التراث والفكر.

ما استوقف اهتمامَه هو ما عبّر عنه في عنوان أحد كتبه «التأزم السياسي عند العرب»، أو بعبارة أخرى مظاهر الخلل التاريخية والمجتمعية العميقة في علاقة العرب بالمسألة السياسية ماضياً وحاضراً. لم يغب تاريخ الأفكار عن منهجية الأنصاري في مقاربة الإشكالات السياسية للمجتمع العربي، بل كان من أهم قراء العلامة ابن خلدون مؤسس «علم العمران البشري» ومن أكثر مستخدمي نظريته الشهيرة في العصبية والدولة، والتي اعتبر أنها تصلح لتفسير مظاهر الخلل في نمط الاجتماع السياسي العربي القديم. بيد أن الجوانب الفكرية لم تكن لتطمس لديه المحددات الاجتماعية الجذرية، من قبيل تضارب البنيات العصبية والدولة من حيث هي كيان سياسي مستقر، وانقطاع الحياة السياسية العربية مكانياً وزمانياً، وضعف الثقافة السياسية الجامعة والائتلافية.

ورغم أن الأنصاري حافظ على انتمائه العروبي القوي، فإنه في كتابه المهم «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» فنّد الأطروحة السائدة حول المؤامرة الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة الأمة الواحدة، مبيناً الجذورَ التاريخية والموضوعية لأغلب الدول الوطنية العربية القائمة حالياً، ومطالباً الفكر القومي العربي بتجاوز طوبائية الوحدة الاندماجية العضوية الفورية التي طبعت الأيديولوجيات القومية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.

وهكذا يدعونا الأنصاري إلى غرس قيم المواطنة المدنية الحديثة التي يَعتبر أنها مقوم البناء السياسي المنشود عربياً، بما يعني مصالحة العرب مع السياسة وبناء كيانات قادرة لأول مرة على التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة، دون سلطوية قمعية مانعة لتشكل الدولة التعاقدية الحرة، وإن كانت المحطة الديمقراطية نتيجة تاريخية متأخرة للبناء السياسي الموضوعي كما تبين التجربة الأوروبية الحديثة. ولا شك في أن الأنصاري قدّم أهم قراءة للفكر السياسي العربي المعاصر في كتابه القيِّم «الفكر العربي وصراع الأضداد»، والذي عالج فيه الكتابات الأيديولوجية والفكرية العربية في العصر الحاضر من منظور الاتجاه إلى التوفيقية واللاحسم في النظر إلى القضايا الجوهرية للمجتمع العربي.

وقد استوقفني في هذا الكتاب، كما ذكرتُ مرة للمؤلف الراحل، قراءته العميقة وغير المسبوقة لمشروع ميشيل عفلق الفكري والسياسي الذي تميز ضمن كتابات القوميين العرب المعاصرين بالرصانة والجدية والاطلاع الواسع على أدبيات الفكر الغربي. وفي العنوان الفرعي الطويل الذي أعطاه الأنصاري لكتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» وردت المقولة التالية «كيف احتوت التوفيقية الصراع المحظور بين الأصولية والعلمانية والحسم المؤجل بين الإسلام والغرب.. تشخيص حالة اللاحسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة». وكما هو واضح من هذا العنوان الفرعي، فإن المؤلف يرى بأن الفكر العربي المعاصر لم يستطع حسم الجدل الذي ولّدته الثنائيات الكبرى التي استأثرت باشتغاله مثل العقل والإيمان، التراث والمعاصرة، القومية والقطرية، الرأسمالية والاشتراكية، الحرية والعدل، والشرق والغرب.. إلخ.

وعلى عكس الانطباع الأولي، لا يقف الأنصاري ضد مسلك التوفيقية الذي يراه حتمياً ولا مناص منه ولو مؤقتاً، لكنه ينتقد ما يفضي إليه هذا التوجه من العجز عن حسم القضايا الجوهرية التي يطرحها الواقع العربي. في السنوات الأخيرة غاب صوت محمد جابر الأنصاري الذي أقعده المرض وأنهكته الشيخوخة، وكم كنا بحاحة إليه في لحظات فارقة من التاريخ العربي.

لكن أفكاره الثاقبة ساهمت دون شك في قراءة واستكناه المسار الراهن للمجتمعات العربية. ونحن نودعه اليوم، نرى الحاجة ماسة إلى الاحتفاظ بروحه النقدية الملتزمة ومنهجيته الجامعة بين التشخيص الموضوعي والبناء التركيبي المفتوح على الأمل والمستقبل. رحم الله محمد جابر الأنصاري، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

***

د. السيد ولد أباه

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 5 يناير 2025 23:45

المستشرقُ والجاسوسُ البريطاني ج. هيوارث دن عرفَ حسن البنَّا وعرف «الإخوانَ المسلمين» وعرفَ سيد قطب عن قرب. عرفهم معرفةً شخصيةً مع معرفةِ قراءةٍ لكتابات سيد قطب. وعرفَ البنَّا و«الإخوان المسلمين» - إضافة إلى المعرفة الشخصية - معرفة دراسة كانا هما موضوعها.

تعدت علاقته بسيد قطب علاقة المعرفة الشخصية إلى علاقة صداقة وعلاقة مؤازرة ومساندة له، فهو - مع المستشرق ولفرد كانتويل سميث - من ربطه وربط كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وربط بعثته إلى أميركا بـ«مشروع النقطة الرابعة» الأميركي.

هیوارث دن عايش تجربة سيد قطب في مجلة «الفكر الجديد»، وكان متحمساً لها، إذ قال عن هذه المجلة: إنها «كانت تبشر بأن تكون من أكثر التجارب إثارة في العصر الحديث»!

وكان متحمساً لسيد قطب إذ قال عنه: «إن سيد قطب كاتب وناقد أديب من الدرجة الأولى»!

هذا الحماس لتجربة سيد قطب في هذه المجلة ولسيد قطب، الكاتب والناقد الأديب في طوره الفكري الجديد في هذه المجلة، سببه أنهما حققا غرض مهمته الجديدة في مصر، بعد أن انتقل من العمل مع المخابرات البريطانية إلى العمل مع المخابرات الأميركية التي كانت معنية إلى درجة قصوى ابتداء من منتصف أربعينيات القرن الماضي بمقاومة انتشار الأفكار الشيوعية في مناطق عدة من العالم. ومن هذه المناطق منطقة الشرق الأوسط التي كانت مصر فيها هي الثقل الراجح والوازن.

بحكم الصداقة بين هيوارث دن وسيد قطب، أطلع سيد قطب هيوارث دن على خبايا الصدام بينه وبين حسن البنا حول مجلة «الفكر الجديد» وعلى سببه. فأمدنا بها هيوارث دن في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة».

وصل هيوارث دن في هذا الكتاب إلى حكم على حسن البنا، بأنه لا يقبل بالمنافسة ولا يطيقها فأورد مثالين على ذلك. هذان المثالان مستمدان من «شركة الإعلانات العربية» التي أسسها البنا عام 1947.

المثال الأول، هو تفجير التنظيم السري في جماعة «الإخوان المسلمين» في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948 «شركة الإعلانات الشرقية»، وهي شركة إعلانات كبرى في مصر.

المثال الثاني، وهو المثال الذي يهمنا في هذا المقام، فلنستشهد بما قاله عنه.

قال عن هذا المثال: «استخدم حسن البنا الشركة كأداة لإجبار بعض المجلات على الخروج من السوق، فيما إذا كانت تعتبر خطراً عليه أو غير راغبة في أن يشتريها. فالمجلات في مصر لا تستطيع الوفاء بمدفوعاتها، ما لم تحصل على نصيب كافٍ من الدعم من المؤسسات التجارية من خلال الإعلانات، وخصوصاً تلك المجلات التي ليس لديها سوى رأس مال صغير، حيث كان عليها الاعتماد على مطابع أخرى لإنجاز أعمالها. وقد استخدمت تلك المناورات ضد سيد قطب محرر مجلة (الفكر الجديد)، والذي كان يكتب مقالات عن الإصلاحات الاجتماعية على أسس إسلامية. وقد اتصل ممثلو (الإخوان) بالمحرر وزملائه مرات عدة، بناء على تعليمات من حسن البنا لاستمالتهم على أساس أن عملهم هو نفس ما يريد (الإخوان) عمله بالتمام وأنه لا مجال هناك للمنافسة. وأدى رفض سيد قطب الامتثال لمطالبهم إلى مقاطعة أدت إلى عدم استطاعة بيع المجلة من خلال القنوات العادية. وفي النهاية أقفلت المجلة، وكان السبب الآخر لذلك هو العوائق التي فرضها إعلان قانون الطوارئ».

بعد أن أمدنا هيوارث دن بخبايا الصدام بينهما، وأعلمنا بسببه، علق على ما فعله البنا بسيد قطب، ساخراً، فقال: «كان حسن البنا إنساناً غيوراً، فلم يستسغ المنافسة من قبل أي إنسان في ذلك المجال؛ كان يريد أن يكون (الحبر الأعظم)، وألا يكون ثمة (مسيلمة) في مصر».

في حاشية من كتابه، قدم هيوارث دن تعريفاً بمجلة «الفكر الجديد». ومما قاله في هذا التعريف: أن سيد قطب أنشأها مع سبعة آخرين من زملائه. وأنها مجلة أسبوعية متخصصة في القضايا الاجتماعية. يذكر في سياق تعريفه بها معلومة نستنتج منها أن عمل سيد قطب وزملائه في هذه المجلة لم يقتصر على الكتابة فيها بل شمل العمل الميداني الصحافي. هذه المعلومة هي قوله: «قام سيد قطب وزملاؤه بجمع عدد من التقارير عن أوضاع معيشة مواطنيهم ونشرت مع الصور». هيوارث دن لم يذكر من أسماء زملاء سيد قطب السبعة سوى اسم واحد، وذلك في خاتمة تعريفه بالمجلة.

ففي هذه الخاتمة قال: «كان أحد زملائه محمد الغزالي قد ألّف كتابين أحدهما عنوانه (الإسلام والاتجاهات الاقتصادية - 1947)، والآخر (الإسلام والمبادئ الاشتراكية - 1948)».

وفي يقيني أن موضوعي كتابيه هذين اللذين يعتمدان على مجابهة الإسلام بالشيوعية بالقول بأن الإسلام يتضمَّن الفكرة الاشتراكية، فلا حاجة لنا بالاشتراكية العلمية التي سبقتها في الظهور من أزمان بعيدة اشتراكية الإسلام، هو السبب الذي جعله يخصه بالذكر.

في رسالته للدكتوراه في جامعة ميشيغان الأميركية «المراحل التكوينية لمسيرة سيد قطب الفكرية وصعوده كداعية إسلامي» الصادرة عن هذه الجامعة عام 1983، عدّد عدنان أيّوب مُسلّم أسماءهم، فسرد الأسماء التالية: صادق إبراهيم عرجون، محمد الغزالي، فايد العمروسي، عماد الدين عبد الحميد، محمد قطب، نجيب محفوظ، عبد المنعم شميس، عبد الحميد جودة السحّار.

وهؤلاء في العد ثمانية وليسوا سبعة!

سيد بشير أحمد كشميري في رسالته للدكتوراه «سيد قطب، الأديب العملاق والمجدد الملهم في ضوء آثاره وإنجازاته الأدبية»، اعتماداً على رسالة عدنان أيوب مسلّم الجامعية، صاروا عنده أيضاً ثمانية أسماء.

علي شلش في كتابه «التمرد على الأدب: دراسة في تجربة سيد قطب» مع أنه اعتمد على دراسة مسلّم الجامعية فإن عددهم في كتابه سبعة حين سرد أسماءهم، لأنه حذف منها اسم سعيد جودة السحار. وقد حذفه لأنه يعلم بأن مشاركاته في تلك المجلة كانت مشاركات أدبية محصورة في ركن صغير منها هو ركن الأدب (راجع كتابي علي شلش: «دليل المجلات الأدبية 1939 - 1952» و«المجلات الأدبية في مصر: تطورها ودورها»). وللحديث بقية

***

علي العميم

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 06 رَجب 1446 هـ - 5 يناير 2025 م

 

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: 1 يناير 2025 م ـ 02 رَجب 1446 هـ

 

كتاب جديد يتناول العقائد وكأنها شركات ليؤكد أن كثيراً منها سقط على مدى قرون حين عجز عن المنافسة في سوق التقوى

***

ملخص

لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية والاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو.

تطرح قواميس اللغة الإنجليزية معاني عدة لكلمة platform (المنصة)، فهي الرصيف في محطة قطارات والأحذية سميكة النعال والسياسة المعلنة لحزب ما، وتشير الكلمة في الاقتصاد إلى تنظيم يتيح تكوين العلاقات والعمل بمزيد من الفعالية، ومن أمثلة المنصات بهذا المعنى محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي وبعض تطبيقات الهواتف الذكية، وهذا هو المعنى الذي يراه بول سيبرايت منطبقاً على الدِين.

وسيبرايت البريطاني أستاذ في معهد الاقتصاد الصناعي وكلية تولوز للاقتصاد في جامعة "تولوز" الفرنسية، وقد صدر أحدث كتبه بعنوان "الاقتصاد الإلهي: كيف تتنافس الأديان على الثروة والسلطة والبشر" عن مطبعة جامعة برينستن.

يستهل الأستاذ المساعد للدراسات الإسلامية في "فولر سيميناري" شادي حامد مقالته المسهبة حول الكتاب ["فورين أفيرز"، يوليو (تموز) - أغسطس (آب) 2024] مستعرضاً مؤشرات حديثة على تراجع الدِين، فبازدياد الناس ثراء وتعليماً ابتعدوا من طلب السلوى في الدِين، وانخفضت معدلات الانضمام إلى الكنائس في أوروبا الغربية، وزعم أنصار نظرية التحديث أن الدِين يزدهر بوصفه واقياً من الفوضى، وحينما ينتظم المجتمع يتراجع حضوره.

سوق التقوى

"لكن قصة الدِين في القرن الماضي ليست قصة انحسار وإنما قصة نمو ورسوخ مطردين، وهذا ما يؤكده كتاب بول سيبرايت الجديد الذي يصر على أن "العالم يتنقل على نحو غير مشهود من قبل إلى الخضوع لحفنة أديان، من أهمها الإسلام والمسيحية اللذان يباهيان الآن بقرابة 2 مليار من أتباع الأول و1.8 مليار للثاني، مع توسعهما ونموهما وسط الشعوب سريعة النمو السكاني وبخاصة في أفريقيا".

"وخلافاً لنبوءة نظرية التحديث وتنويعاتها فلم يقض الرخاء والنمو على الدِين، ففي الصين الآن، بحسب سيبرايت، "من الممارسين النشطين للمسيحية والإسلام ما لا يقل عدداً عن أعضاء الحزب الشيوعي"، وفي الهند يلعب الدِين دوراً متنامياً في الحياة العامة، وفي الولايات المتحدة تهاوى الانتماء إلى الكنائس لأدنى من 50 في المئة عام 2020 بعد اقترابه من 70 في المئة في معظم القرن الـ 20، لكن 88 في المئة من الأميركيين، وفقاً لاستطلاع رأي عام 2023، لا يزالون يؤمنون بالإله الإنجيلي أو بقوة عليا أو قوة روحية أخرى".

يكتب سيبرايت أن من يتصورون انسحاب الدِين أمام تقدم العلم والرخاء يغفلون عن أبعاد أخرى للدِين، فهو ليس مسألة اعتقاد شخصي وحسب، ولكنه ممارسة جماعية تظهر في تجربة طقوسية مشتركة عامة، ويقول إن الأصل الإغريقي لكلمة creed (العقيدة) الإنجليزية وهو symbolon يشير إلى "آلية يتحقق بها المرء من هويته عبر المطابقة بين نصفي جسم، فكأن العقيدة تتعلق بلجوء المرء إلى سلطات صحيحة أو انتماء إلى جماعة معينة أكثر مما يتعلق بلاهوت".

"والنظر إلى الدِين بوصفه فعلاً اجتماعياً في الأساس، أي شيء يحيا بممارسته رفقة آخرين، يسمح بالابتعاد من الانشغال بجوهر المعتقد الفردي.

"الاقتصاد الإلهي" كتاب طموح يحاول أن يفكر تفكيراً اقتصادياً في شيء كثير مما يبدو بعيداً من متناول فهم العلوم الاجتماعية، إذ يذهب سيبرايت إلى أنه يمكن فهم أنجح الرسائل الدينية وأدومها في ضوء الكلفة والربح والعرض والطلب والمصلحة الذاتية المنطقية، وقد تبدو للمؤمنين في هذا النهج غلظة، فهم يرون إيمانهم شيئاً فائقاً للوصف وغير قابل للاختزال في مصطلحات مادية سقيمة، غير أن فهم سيبرايت للدِين يعيننا على تفسير سر استمرار قوته في عالم علماني".

ويذهب سيبرايت في "الاقتصاد الإلهي"، بحسب ما يكتب حامد، إلى أن الدنيوي هو أساس الروحاني في تكوين التنظيم الديني ويفكر في الأديان وكأنها شركات، فقد سقطت عقائد كثيرة على مدى القرون لعجزها عن المنافسة في سوق التقوى، ويستعين سيبرايت بآدم سميث في استكشاف كيفية استعمال الأديان كمحفزات سوقية لصياغة طبيعة الرسائل الدينية وفحواها، فلتجتذب الحركات الدينية أتباعاً لا بد من أن تكون ديناميكية ومرنة ومتقبلة للتنوع.

وينقل سيبرايت عن سميث مقارنته في القرن الـ 18 بين الوعاظ "الميثوديين" النشطين والحماسيين في معظم الأحيان، وقساوسة كنيسة إنجلترا الأميل إلى التحفظ والرزانة، فالأوائل كانوا بحاجة إلى اجتذاب جماهير جديدة ليكسبوا لقمة عيشهم، فكانوا يعظون بمزيد من الحميّة، أما الآخرون فكانوا ينعمون برواتب مضمونة ورعاية سياسية ومزايا مؤسسية فما كانوا يشعرون أنهم مرغمون على تغيير سلوكهم".

"هذه المزايا شبيهة بالدعم الذي تقدمه الحكومات لبعض شركات القطاع الخاص فتقل دوافعها إلى المخاطرة، والأديان شأن الشركات فلا بد من أن تتنافس على الزبائن، ويعني هذا في بعض الأحيان أن تؤكد جوانب تميزها، ويعني في أوقات أخرى أن تخفف من دعاواها اللاهوتية المنفرة وصولاً إلى جمهور أوسع، وفي بعض الأحيان قد تحدد القوى المادية الغاشمة النجاح أو الفشل"، إذ يكتب سيبرايت أن "أجمل الرسائل صوغاً قد تعاني غياب موارد اقتصادية تدعمها، ويصعب عليها أن تجد آذاناً مصغية وسط صخب الحياة".

لكن حامد لا يقتنع كثيراً بذلك التحليل، "ففي بداية المسيحية والإسلام، وهما بمنزلة 'وول مارت' و'أبل' في سوق الدِين اليوم، لم يكن لديهما إلا أقل القليل من الموارد، وقبل أن يكتسبا القوة كانا بلا حول ولا قوة، ويتجسد ذلك بجلاء في صلب المسيح، ولا يتعمق سيبرايت في الأسباب الدقيقة لجاذبية هذين الدينين بالذات لدى الناس دون غيرهما، لكنه يقنعنا بأن الأديان تنجح وتنتشر لأنها تقدم سلعاً يحتاج إليها الناس ويرغبون فيها، والبيانات تؤكد هذا إذ يميل المؤمنون في العادة إلى أن يكونوا أكثر من غير المؤمنين سعادة وامتلاء وارتباطاً بغيرهم من المواطنين"، ويضرب سيبرايت المثال بامرأة تدعى غريس قابلها في غانا.

توضح الكاهنة الأنغليكانية وأستاذة تاريخ الدِين بجامعة أوكسفورد جين شو في استعراضها للكتاب ["فايننشال تايمز"، 17 مايو (أيار) 2024] أن سيبرايت يفتتح "الاقتصاد الإلهي" بحكاية غريس ذات الـ 24 سنة، وهي بائعة المياه المثلجة في إشارات المرور بشوارع أكرا وتكسب من عملها دولاراً ونصف الدولار يومياً، وتقتطع 10 في المئة من هذا الدخل الزهيد، فضلاً عن تبرعات أخرى، لتقدمها إلى كنيستها البروتستنتية على رغم أن ذلك يعني أنها تستطيع دفع ثمن بعض علاج عمتها التي تعيش معها في بيت صغير داخل حي عشوائي، وتزداد صعوبة فهم ما تفعله غريس حين نعلم أن قسيسها في الكنيسة ثري متبجح الثراء يقود سيارة من طراز مرسيدس ويرتدي حزاماً ذا قفل كبير عليه علامة الدولار.

يفكر سيبرايت في تفسيرات محتملة لسلوك غريس فلا يجد إلا أن للتقوى في بعض الأحيان منافع ملموسة، "فبانتماء غريس إلى كنيسة تضم أمثالاً لها في التفكير يمكن أن تقابل رجالاً منضبطين يستيقظون في التاسعة صباح الأحد [أي يوم الإجازة]، ولديهم الاستعداد لقضاء ثلاث ساعات في الاستماع إلى عظة مطولة، ومن الواضح أن العثور على شريك جيد محتمل في الحياة وأب لأبناء لا يزالون في علم الغيب ليس بالأمر الذي يمكن تسعيره".

وعلى رغم أن هذا التفسير لدوافع الصدقة لدى غريس قد يكون مقززاً في نظر مؤمن، مهما يكن دينه، لكن المرء لا يستطيع استبعاد الاحتمال لأن الناس يبحثون في الدِين عن عشرات الأشياء المختلفة ويجدونها، بدءاً من علاقة مباشرة مع خالق الكون ونزولاً حتى العثور على عريس، بل إن بوسع من يبحث في دِين عن دفاتر حسابات وموازنات أن يجد ما يريده.

يكتب شادي حامد أن الدِين يعالج حاجة أعمق من الحاجة المادية، "فالبشر صناع معنى يسعون إلى عالم فاتن هم نتاجه أيضاً، ولا يمكن لعلمنة المجتمعات أن تلغي هذا أو تبطله، فكلما بقي الناس بحاجة إلى المعنى فستظل الأديان معيناً فريداً له، ولقد حاولت أيديولوجيات في العصر الحديث أن تحاكي الدِين في ما يقدمه من اليقين والقناعة والجماعية لكنها لم تحقق إلا نجاحاً عابراً ومعرضاً لتقلبات السياسية، إذ حاكمها الناس دائماً وفق نجاحاتها وإخفاقاتها المباشرة القريبة، بينما تنعم الأديان بميزة أصيلة فيها وهي أنها معنية بالمعنى النهائي، وذلك ما يستعصي على الأيديولوجيات العلمانية، فقد فشلت الشيوعية والفاشية على سبيل المثال فشلاً لا يمكن أن تمنى به المسيحية والإسلام".

"غير أن النجاح الأسطوري للمسيحية والإسلام في القرن الأخير لم يتحقق على حساب العلمانية بالذات، وإنما على حساب الموروثات الشعبية المحلية التي يصفها الدارسون بـ 'الأديان المتوطنة' في مختلف أرجاء العالم، وبخاصة أفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي المجتمعات متزايدة التعولم تخسر هذه الأديان المحلية ويأتي الدِينان العالميان المستقران، أي المسيحية والإسلام، فيوفران من هياكل الدعم والشعائر ما يخفف أثر التغير السريع والاضطراب الناجم عن الهجرة من الريف إلى المدن متسارعة النمو"، أي أن المسيحية والإسلام استفادا من العولمة وكانا علاجاً لها في الآن نفسه.

تجارة مع الله

يبرز حامد إشارة سيبرايت إلى أن "ارتفاع ما يعرف بوفيات اليأس في الولايات المتحدة يتركز بالقدر الأكبر لا في المناطق التي شهدت أكبر الانخفاض في الاعتقاد الديني، وإنما في مناطق الانخفاض الأكبر في الممارسة الدينية، وبعبارة أخرى لا يزال معظم الأميركيين مؤمنين لكنهم فقدوا قدرتهم على التعبير عن إيمانهم بطرق تربطهم بجماعة فيوجهون هذه القدرة وجهة أخرى وهي التحزب على وجه التحديد، ومعروف تماماً أن المسيحيين البيض يؤيدون دونالد ترمب بأعداد مختفلة النسب، لكن غير المعروف بالقدر نفسه هو أن المسيحيين غير المنتمين إلى كنائس هم الموالون له بخاصة".

ويشير شادي حامد إلى ما يسميه سيبرايت بـ "مفارقة التعلمن"، وهي أنه "حتى حينما تقل أهمية الدِين لدى الأفراد فإنه قد يظل مهماً للمجتمع الأوسع، ويبقى الدِين حاضراً في الحياة العامة في معظم أرجاء العالم لأنه يعبر عن هموم أساس وتأسيسية تحتل الصدارة وسط فوضى الصراعات السياسية".

يكتب حامد، "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين كثيراً، لكن العالم ليس كذلك اليوم، ولو أن لنا دليلاً في تحليل سيبرايت فلن يكون العالم كذلك عما قريب".

وتكتب جين شو أن نظرة سبرايت الاقتصادية للدين تجعله يرى فيه جانبي العرض والطلب، "إذ يطلب الأتباع أشياء من الأديان قد تكون مادية مثل التعليم أو الصحة أو الخدمات المالية، وقد تكون روحانية من صلوات وشعائر، وثمة جانب العرض حين يرى سيبرايت أن المنصات الدينية "تجمع بين الأفراد في علاقات منفعة متبادلة لا يستطيع أولئك الأفراد إقامتها بمفردهم".

هل هذا "العرض" هو جوهر ما يختفي وراء دفء النصوص الدينية من قبيل أن المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ أم أن هذا الدفء جزء جوهري من "العرض" لا يبقى لنا إذاً تعامينا عنه إلا جفاف الاقتصاد والسوق؟ وهل فعلاً تتصدق غريس لأنها لا تحتكم إلى المنطق؟ أم لأن الدِين غرس فيها مفهوماً لا يلتفت إليه الاقتصاد، وأعني الإيثار؟

تكتب جين شو أن "كثيراً من الأديان تجعل من معاونة الناس قيمة جوهرية، وتواجه بها ما يوصف كثيراً بالأنانية المطبوعة في نفوس البشر"، أما سيبرايت فيرى "أن بحوث علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع تبين أننا نكون أقرب إلى أنفسنا الحقة عند عطائنا للآخرين أكثر مما نكونها عند تلقينا السلبي لإحسانهم، والأديان التي تتيح لنا فرصة خدمة الآخرين تكون جذابة".

وتضيف أن "الشعائر تعزز هوية الجماعة وتخلق إحساساً بالانتماء"، ويرى سيبرايت أن "المعبد أو المسجد أو الكنيسة قد تكون منصات ناجحة للمواعدة الغرامية أو شبكات تجارية جيدة لأنها تجتذب أناساً لا ينظرون إليها هذه النظرة".

وبوسعي شخصياً، ولست على علم عميق بالإسلام، أن أجد لسيبرايت ما يدعم طروحاته، فإعلاء الممارسة الجماعية على الاعتقاد مثلاً قد يدعمه أن الإسلام يجعل صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد بـ 27 مرة، والقول إن الصدقة تشبع حاجة إنسانياً شبه غريزيو قد يدعمه أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وقوله إن الدِين أفضل من أي تطبيق زواج يدعمه القول "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" أو "اظفر بذات الدِين تربت يداك"، وهناك فوق ذلك آية مباشرة في القرآن تستعير تعبير "التجارة" مع الله، لكن لا ينبغي أن يعني هذا بالضرورة أن الإسلام، أو أي دين، مشروع اقتصادي يحركه ما يحرك المشاريع التجارية من أهداف وغايات، فلماذا لا يعني بدلاً من ذلك أن الدِين يستوعب مجمل جوانب النفس البشرية، السماوية والأرضية والروحانية والتجارية وغيرها؟ ولماذا لا يكون معناه أن الأديان التي تعني ببناء روح الفرد تحرص في الوقت نفسه أن تقيم لهذه الروح المجتمع الحاضن الذي يسهل أن تتناغم معه؟

ينهي شادي حامد مقالته عن الكتاب بقوله "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو، ولو أننا أخذنا حقاً بتحليل سيبرايت فلن يكون عالمنا على هذا النحو عما قريب".

العنوان:

The Divine Economy: How Religions Compete for Wealth, Power, and People

تأليف:

Paul Seabright

الناشر:

Princeton University Press

***

أحمد شافعي - كاتب ومترجم

عن موقع اندبندنت عربية

الاثنين 2 سبتمبر 2024 13:37

"تتردد فى داخلى ثلاثة أصوات: أحدها يحمل مصباح الحكمة الروحية الآتية من الأنبياء، والثانى يحمل عدسة المعرفة التجريبية والرياضية الآتية من العلماء، والثالث آتٍ من الحكمة الكلية للفلاسفة.

الأول هو الدين، والثانى هو العلم، والثالث هو الفلسفة. الأول يجيب عن سؤال: «لماذا نحن هنا؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟»، والثانى ينشغل بالإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكيفية: «كيف يعمل الكون؟ ما القوانين التى تحكم الطبيعة؟ وكيف يمكننا تسخيرها؟». والثالث إنما هو جسر تتساءل العقول المارة عليه: «ما طبيعة الحقيقة؟ وكيف نصل إليها؟» و»ما معنى الخير؟ وكيف نحققه فى الوجود؟». ولا شك فى أن هذه الأسئلة الغائية الكبرى: لماذا؟ وكيف؟ وما الحقيقة؟ وما الخير؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟ هى مفاتيح الوجود الإنساني.

وحين ينشغل العلم بالإجابة عن أسئلة الواقع المادي: كيف يعمل الكون؟ فإن الدين يضيء أسئلة الغاية الكبرى: لماذا خُلقنا؟ وما مصدر القيم؟ لكن الفلسفة تتساءل، عن الأصول المشتركة، بين هذه الأسئلة الثلاثة، وكيفية تداخلها فى الوعى الإنساني، والتحقق من ذلك كله. وإذا كان الدين يعتمد على الوحى الإلهي، كمصدر أساسى للمعرفة، والعلم يعتمد على التجريب والملاحظة، فإن الفلسفة تنطلق من التأمل العقلى والتجريد؛ لفهم البنية الكامنة خلف هذه المناهج المختلفة. وغاية الفلسفة هنا، ليست الإجابة الحاسمة مثل الدين، بل مساءلة وفحص المعنى نفسه؛ للتأكد من دقته وسلامته، فى حدود العقل وحده، أو هكذا ينبغى أن يكون. فالفلسفة، تنظر فى كل هذا لتفهم حدود العقل والوجود.

ونظرًا لهذا الاختلاف فى المناهج، كان النقاش الداخلى فى عقلي، بين الدين والعلم والفلسفة، دائمًا، حوارًا، ولم يكن صراعًا فى يوم من الأيام. لكن الفلسفة تدخل فى هذا الحوار لتعيد صياغة الأسئلة من جديد، فتقول: هل هناك مساحة مشتركة يمكن أن تجمع بين الدين والعلم؟ وكيف يمكن لهذه الأصوات الثلاثة أن تتكامل، دون أن تلغى إحداها الأخرى؟ تطرح الفلسفة هذا التحدي، بوصفها وسيطًا عقلانيًا، لا ينتمى إلى المطلق الدينى أو النسبى العلمي، بل تسعى – من وجهة نظري- إلى بناء جسر بين هذين العالمين، ثم تصعد لتنظر من منظور شامل إلى الوجود.

عزيزى القارئ، لك أن تتساءل: كيف تبحث عن الحقيقة؟ قد تجد نفسك منجذبًا إلى صوت الروح أو العقل الكلى الذى يقودك «حدْسًيا»، أو بلغة أبسط: «بالبصيرة» نحو النقاء الروحى فى الدين. وعلى سبيل المثال، عندما تواجه تساؤلات عميقة، عن معنى الحياة، أو الغاية من وجودك، قد تلجأ إلى القرآن لتجد فيه إجابات غائية تخاطب روحك، مثل آية: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عُبثٌا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» (المؤمنون: 115)، «الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (الملك: 2)، «وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ» (آل عمران: 191). فالقرآن يرفض العبثية، ويؤكد أن الحياة لها معنى كبير وهدف سامٍ .هنا، الدين يمنحك يقينًا وراحة، فى أن حياتك لها غاية سامية تتجاوز حدود هذا العالم، ويمكنك أن تراهن عليها.

أو ربما تأخذ طريقًا آخر، وتغوص فى البحث العلمى لفهم أسرار العالم المادي. مثلا، عندما تتأمل كيف يتكون المطر، سوف تجد أن العلم يقدم لك تفسيرًا دقيقًا يعتمد على قوانين الفيزياء: تبخر الماء من البحار، ثم تكثفه فى السحب، ثم سقوطه أمطارًا بفعل الجاذبية. العلم هنا يجيب عن سؤال «كيف» بشكل دقيق ومباشر، مما يسمح لك، ليس فقط بفهم الطبيعة، بل أيضًا بتسخيرها لمصلحة البشرية، مثل بناء السدود لتخزين المياه دون إلحاق ضرر بالآخرين ودون جور على حقوقهم التاريخية.

أما الفلسفة، فهى تأخذك إلى مستوى مختلف تمامًا؛ فهى لا تعطيك إجابة جاهزة كالدين، ولا تفسيرًا عمليًا كالعلم، بل تجعلك تسأل عن معنى هذه الإجابات نفسها. مثلًا، إذا سألت: «هل الحياة جديرة بأن نحياها؟»، أو «ما سبب وجود الشر فى العالم؟ أو «ما الذى يجعل المعرفة يقينية؟ أو «هل تفسير العلم للمطر يكفى ليجعلنى أفهم جمال السحب والمطر أو رمزيتهما فى حياتي؟»، فإنك هنا تدخل عالم الفلسفة. إنها تدعوك للتأمل فى حدود العقل: إلى أى مدى يمكننا فهم العالم؟ الفلسفة تسأل هذه الأسئلة بعمق، مثلما فعل سقراط عندما قال: «الحياة التى لا نخضعها للتأمل والتفكر لا تستحق أن تُعاش». وقد وردت هذه العبارة فى محاورة «الدفاع» (Apology) لأفلاطون. قالها سقراط فى أثناء محاكمته، عندما دافع عن فلسفته وسعيه المستمر للبحث عن الحكمة والمعرفة. فى هذا السياق، يشير سقراط إلى أن التفكر والنقد الذاتي، هما جوهر الحياة الفاضلة، وأن العيش دون ذلك يعنى العيش بلا غاية أو معنى حقيقي. بهذا، الدين يخاطب روحك وبصيرتك، والعلم يخاطب عقلك العلمى العملي، والفلسفة تجعلك تفكر فى العلاقة بين الاثنين، بل تجعلك تفكر فى كل شيء، وكيف تشكل هذه الأصوات الثلاثة فهمك للوجود بكامله.

وتأسيسا على ذلك، فإن الدين، بملامحه التى تتجاوز حدود المرئي، هو الحلم الإنسانى بالوصول يوماً ما إلى المطلق. أما العلم، بمنهجه التجريبى والرياضي، فهو الأداة التى تحسن معرفتنا بالكون ونرجو أن تجعل حياتنا أفضل. وبينهما، يختبئ السؤال الكبير: كيف يمكن للحلم أن يتعاون مع الأداة، وكيف يمكن للأداة أن تحقق الحلم؟ لن يتحقق هذا بدون تجاوز الماضى وتجاوز أساليب النقاش القديمة، وهذا ما يجب أن تقوم الفلسفة بالإجابة عنه، كمراقب ووسيط وصانع للأسئلة والتحليلات النقدية التى تكشف تداخل الأبعاد الروحية والعقلية والمادية. ومن ثم تجسير الفجوة بين الجميع".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 29 ديسمبر 2024

 

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.

***

خالد الغنامي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 21 ديسمبر 2024 م ـ 20 جمادى الآخرة 1446 هـ

يعود مصطلح النّهضة إلى العصر الحديث، وهذا التّحديد يضع سؤال النّهضة ضمن بلازما ثقافة خاصة، ونقصد انتمائه إلى ثقافة غربية لصيقة بالموروث الكنسي والمعطى التنويري من ناحية أخرى، مما يجعل تلك الثّقافة في تلك الحقبة من الزّمان تسودها قيَّمُ الثّورة على الموروث وطبيعة التّفكير، والتّمرد على كافة أشكال الاستبداد والطغيان. كان سؤال النّهضة في الغرب مشروعا نظرا للانحطاط والتّخلف الذي عاشته أوروبا منذ سقوط الرومان على حسب المفكر مونتسكيو، حيث أثمر سُؤال النّهضة عن ميلاد مشروع تّنويري نهضوي، أخرج أوروبا من سباتها الحضاري وأدخلها حقل التّاريخ بقوة، ولم يكن فلاسفة التنوير أنفسهم يحلمون به.

يفرض فهم السؤال السّالف في سياقاته الحضارية اعتبار النّهضة مجرد مرحلة من مراحل تطور الإنسان، حتى لا تتحول هي ذاتها إلى ما ضد النّهضة، كما يجب التأكيد أن الانبهار العالمي بالنّهضة الغربية ألبسها في كثير من الأحيان حُللاً أسطورية، وربطها بانتصار العقل على مخلفات الفكر الديني، بيد أن الدّارس لتاريخ النّهضة الأوروبية يكتشف أن من أدخل أوروبا إلى عالم النّهضة هو عصر المغامرة أولاً ثم أنوار العقل ثانيا، ونقصد أن الاكتشافات الجغرافية التي حدثت في القرن السّادس عشر بالخصوص من طرف البحارة البرتغاليين والإسبان هي التي فتحت عيون الغرب على العالم الكبير، إذ جعلت الاقتصاد الأوروبي يعرف ثورة عارمة.

يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط

وأعتقد شخصيا أن الرّجال الذين صنعوا النّهضة الغربية هم أولئك الرجال الذين سلكوا غمار البحار أمثال كريستوف ومجلان وفاسكو ديغاما وماركو بولو وأمريكو فيسبوتشي …، أما الفلاسفة الذين يُنسب لهم دوما الفضل في ترسيخ قواعد التّنوير وتأسيس عصر الأنوار ما كانوا ليكونوا لولا تلك النتائج العظيمة لتلك المغامرة التّاريخية التي قام بها أولئك الرجال. كانت النّهضة الإسلامية الأولى ذاتها بفعل الفتوحات الإسلامية الكبرى، فلولا الفتوحات ما كنا لنرى المُتكلمة ولا الفلاسفة ولا المُتصوفة، فالمغامرة هي التي أخرجت العرب من القوقعة الصحراوية الممتدة في سَراب الفلاة إلى المَدَنِية والعِمْران المرتبطان بشاهدية الإنسان وعالميته. وفي المقام نفسه، أعتبر أن الفكر الإصلاحي كان أكثر اقترابا من حركة التنوير بفعل الزمن، وكانت الدّعوة إلى التّنوير والتثوير أعمق مما هي عليه اليّوم، فنحن في كثير من المسائل نستحضر الطهطاوي وحمدان خوجة لنبرر الثّورة على الموروث العقيم والدّعوة للأخذ من الغرب.

يعود الغرب اليوم مجددا للثّوة على هيمنة البراديغم، فسؤال الحداثة هو ثورة على مخلفات نتائج النّهضة ذاتها، لم يعد سُؤال النّهضة في الغرب اليّوم يُثير ذلك الانبهار الذي أحدثه زمن عصر الأنوار، بل كثير من الفلاسفة اليّوم ينتقدون فلسفة التّنوير في بعدها الوجودي والميتافيزيقي، لقد خلقت في أذهان مثقفيها آلهة جديدة كالعقل والعلم، وأفسدت علاقة الإنسان مع الطبيعة حيث ربطتها بقضية الصراع. واليوم، بعد مرور أكثر من أربعة قرون يطرح الغرب سؤال الحداثة وما بعد الحداثة، فكيف نطرح في المُقابل سؤال النّهضة؟  ألا يعكس أننا نقر للغرب بأنه متقدم علينا بأربعة قرون؟ وما الغاية أن نعيد طرح مشروع النهضة ونحن في الألفية الثالثة؟

1- تدل لفظة “المشروع” في المتن الفلسفي على استراتيجية مبنية على أسس معرفية وسياسية، فالمشروع هو نزعة بنائية إحيائية ترنو نحو تحقيق تقدم وانتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة أفضل، وعليه يعكس المشروع دوما ارتباط الإرادة السياسية بالإرادة العلمية، فالنّهضة كمشروع لا يمكن أن يتجسد إلا إذا جَسد السّياسي ما يفرضه العقل والنظر.

2- يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط. والنّهضة ليست تنميةً ولا تطويرا ولا تَقَدُماً بل هي ثورةٌ شاملةٌ.

3- يُراد بالمشروع النّهضوي جملةً هو تحقيق القطيعة مع ظاهرة أفول أو سقوط الأمة أو الجماعة، ويتجسد ذلك من خلال وضع رؤية متكاملة مُسيجة بأسئلة ثورية لا بأسئلة تبريرية، ونقصد أن الأسئلة الثورية هي التي تُطرح على صيغة كيف ولما وبما….. بينما الأسئلة التّنفيرية التبريرية هي التي تأتي على شاكلة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

4- لم يعرف التّاريخ الثقافي في الفكر الإسلامي عبر مساره التّاريخي مشروعا نهضويا مؤسسا على وعي فلسفي بل جل ما قُدم هو أقرب إلى ما يُسمى “هاجس نهضة” أو “حلم نهضة” عُبر عنه في قوالب هي أشبه ما تكون بالخواطر أو الرُؤى نصطلح على تسميتها بمقولات في النّهضة. لقد فشلت الإنتليجنسيا في بناء إنسان ما بعد الانحطاط وانعكس هذا الفشل على ظهور الفرد (المستهلك) بدل الإنسان.

نحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير

5- مصطلح “مشروع نهضة” هو محاكاة للمشروع الغربي زمن التّنوير، بيد أن المشروع الغربي استند إلى شروط موضوعية أدت إلى انتصاره تكمن في وضع غايات ومقاصد للمشروع النهضوي وهي: التنوير – الحرية – المواطنة – العدالة. بينما نحن نربط سؤال النّهضة دوما بالعقيدة، وهذا في حد ذاته ضد النّهضة، فمشكلة المسلم ليس مع عقيدته بل مشكلته الأساس مع عالم الأشخاص والأفكار والأشياء كما يري مالك بن نبي.

6- ضرورة وعي سؤال النّهضة في أبعاده الزمانية والمكانية، لأن ما طرحه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا يختلف كليا عما نعيشه اليوم في القرن الحادي والعشرين، فسؤال النّهضة اليّوم لا بد أن يحمل حمولة عصره وهموم أبنائه وليس حلم الأسلاف وتصوراتهم. ومن خلال ما سبق، ندرك أننا عندما نتحدث عن شروط النّهضة في القرن الحادي والعشرين نؤكد بأننا لا زلنا نعيش اقتصاد القرن السّادس عشر، ونفكر وفق ثقافة القرن الرابع الهجري، وننظم أنفسنا وفق سياسة المماليك.

أين الخلل في مقولات النهضة الإسلامية؟ هل في محاكاة الغرب دون فهم للشروط والغايات؟ أم لغياب المرجعية الفلسفية المؤسسة للأسئلة النهضة؟ أم لأننا لم نفكر بجدية في أيقونة النّهضة وأقصد الإنسان.؟ تقتضي إشكالية الوجود والمصير في سياقات مقولات النّهضة وأسئلتها وضع فلسفة إحيائية بنائية، تُمكن الأمةَ من وضع أولى خطوات الانبعاث الحضاري، فعندما ندرس الدّورة الحضارية وفق مراحلها الثّلاث، نلاحظ أن كل مرحلة إلا ويُقابلها أنموذج إنساني يختلف عن سابقه. يُبنى المعيار الحضاري على قاعدة تاريخية، تنطلق من فكرة كلما تقدم التّاريخ الإسلامي من نقطة ميلاده (الصفر) ونقصد المدينة المنورة، كلما بدأ الإنسان الشّاهد النموذج الأروع يفقد دوره ومثاله الرائع، ويخرج من مجال التاريخ الحي ويدخل في مجال التاريخ الميت، حتى تحول بفعل التّباعد التّاريخي عن نقطة الصفر إلى كائن بدون كيانات حضارية.

كان الهاجس منذ زمن الفتنة والمحنة ثم النّكسة: كيف يتم بناء إنسان جديد يحمل بعض خصوصيات نموذج إنسان المدينة؟ وكيف يمكن إبداع نماذج إنسانية تُحقق أمل النهضة…؟ وما سمات الإنسان المستقبلي؟ ونحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير، وأغلب القادة والساسة الذين يراهنون على تغيير العالم الإسلامي من خلال العمل السياسي هم مخطئون بالضرورة، فالتغيير الحقيقي هو تغيير الإنسان الكتلة وتحويله إلى إنسان شاهد.

***

عبد القادر بوعرفة - برفيسور بجامعة وهران قسم الفلسفة

عن موقع الجزيرة نيت، يوم: 11/4/2019

 

"لا يمكن دخول الدين والعلم إلى مربع جديد، إلا بتجاوز الأيديولوجيات المغلقة الصلبة التى تحصر الحقيقة فى إطار ضيق. ويجب أن ندرك أن الدين والعلم ليسا فى منافسة، بل هما جزء من رحلة البحث البشرى المستمر عن الحقيقة والمعنى. كما يجب أيضاً إعادة تصويب الفكرة القائلة بأن التقدم العلمى يؤدى بالضرورة إلى تراجع الدين. إن المجتمعات الأكثر تقدماً علمياً ليست بالضرورة أقل تديناً، بل أحياناً تكون أكثر وعياً بالحاجة إلى الميتافيزيقيا والأخلاقيات التى يعجز العلم عن تقديمها.

وعلى مرّ العصور، كان الدين والعلم يشكلان محورين رئيسيين فى تشكيل فهم الإنسان للعالم من حوله. وكان إرث الماضى يدور داخل أربعة مربعات رئيسة: إما مربع الاتفاق، أو مربع الصراع، أو مربع الفصل بين الساحات، أو مربع التوتر واتساع مناطق الجدل.

وتجلى مربع الاتفاق فى الشرق القديم والعصر السكندرى والحضارة الإسلامية فى أغلب الأوقات، بينما نجد مربع التوتر والحوار الجدلى عند اليونان، فى حين أن مربع الصراع المباشر كان فى أوقات متعددة من مختلف العصور خاصة فى العصور الوسطى الأوروبية ومطلع العصر الحديث، وفى هذه المرحلة، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية العلم تهديداً للنصوص المقدسة والتفسيرات الدينية السائدة.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك، قضية محاكمة العالم غاليليو، الذى اصطدم مع الكنيسة، بسبب نظرياته حول عدم مركزية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بأن الأرض هى المركز. فى تلك الفترة، وُضع الفكر الدينى والعلم فى مواجهة مباشرة، حيث حاول كل طرف الدفاع عن رؤاه المطلقة.

أما مربع الفصل بين الساحات، فجاء فى القرون اللاحقة. ومع تطور العلم وتنوع مجالاته، برزت فلسفة الفصل بين الدين والعلم، حيث انفتحت الساحة أمام العلم فى الغرب ليهتم بالجوانب المادية والتجريبية والرياضية للعالم، بينما ركز الفكر الدينى على القيم الروحية والأخلاقية والطقوس والمعتقدات الغيبية. وعلى الرغم من أن هذا الفصل خفف حدة الصراع، فإنه خلق فجوة معرفية بين الجانبين. ويجب أن نعيد التذكير هنا أننا نتحدث عن الفكر الديني، وليس عن الدين نفسه فى نصوصه المقدسة، فالمشكلة كانت تحدث دوما بين بعض رجال الدين الذين يفهمون الدين بطريقة معينة ورجال العلم الذين يركزون على الوقائع التجريبية والرياضية.

وفى العقود الأخيرة، بدأت تظهر محاولات لإقامة حوار بين الدين والعلم. ومع ذلك، بقى هذا الحوار مشوبًا بالجدلية الشديدة ومحاولة إثبات أسبقية طرف على الآخر، وظل النقاش التقليدى عالقًا فى قوالب قديمة، غالبًا ما تُبنى على الطريقة الهجومية أو الدفاعية أو السعى لإثبات التفوق على الأخر.

لذا، أصبحت الحاجة ماسة لتجاوز إرث الماضى وتجاوز القوالب والمربعات القديمة إلى مربع جديد من التعاون والحوار الخلاق الذى يهدف إلى معالجة القضايا الإنسانية الملحّة، خاصة أنه فى عصرنا الحالي، توجد خطورة حقيقية على مستقبل البشرية، ويواجه الكوكب تحديات غير مسبوقة، تتطلب تضافر جميع الجهود والمعارف، من أزمة تغير المناخ إلى انتشار الأوبئة، ومن الفقر المدقع إلى مشكلات الذكاء الاصطناعي، ومن تدهور البيئة إلى تهديدات انقراض الحياة البرية.

وتأسيسا على ذلك؛ بات من الضرورى إيجاد صيغة جديدة للتعاون تجمع بين القوتين المعرفيتين: الدين والعلم؛ حيث ينبغى أن يقدّم كل منهما أدوات، ومناهج ضرورية، لفهم المشكلات والتحديات التى تواجه الإنسانية والتصدى لها بفعالية.

إن القضايا والتحديات المعاصرة ليست مجرد مشكلات تقنية أو مادية، بل هى أزمات حياة، ومعضلات قيمية وأخلاقية، تتطلب تكاملًا بين العلم والدين؛ لبناء عالم أفضل وأكثر عدلًا.

ومن منظور إنساني، لا يجب النظر إلى الدين والعلم كمتنافسين طوال الوقت، بل يتوجب تحليل تفاعلهما، عبر إطار منهجي، يتجاوز الاختزال الثنائي. فالدين، بما يقدمه من معنى كلى عميق وإطار روحى وقيمى وأخلاقي، والعلم، بما يمتلكه من أدوات تحليلية ورياضية وتجريبية، يملكان إمكانيات فريدة إذا ما تم تعاونها فى مقاربة تكاملية. وكما يُفهم من الفيلسوف الألمانى «إيمانويل كانت» فى رؤيته الأخلاقية، فإن الدين عندما يُفهم فى حدود العقل يُسهم فى توجيه الإرادة الإنسانية نحو الخير الأسمى، وهو ما يجعل التكامل بين العقل والقيم الدينية مساراً ضرورياً لمواجهة تحديات الإنسانية. ففى كتابه «الدين فى حدود العقل وحده» (Religion within the Limits of Reason Alone)، يؤكد «كانت» أن الدين يجب أن يفهم فى حدود العقل، وأن العقل بحاجة إلى الأخلاق الدينية ليحقق غاياته العملية. وقديما أكد البارزون من علماء الإسلام موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.

إن التكامل بين الدين والعلم، لا يعنى خلط الحدود بينهما، بل احترام استقلاليتهما، مع العمل على إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتعاون، خاصة أن العلم والدين يشبهان عدستين مختلفتين يمكن استخدامهما لفهم الواقع. والجمع بينهما يمنحنا رؤية أكثر اتساعًا وعمقاً.

إن التحديات التى تواجه البشرية اليوم، مثل: الحروب، والإبادة الجماعية، والتغير المناخي، والأزمات الصحية العالمية، والتفاوت الاقتصادى الشديد، والنزاعات الثقافية ـ لا يمكن مواجهتها بمنظور علمى أو دينى منفرد. فعلى سبيل المثال، يمكن للعلم أن يوفّر تقنيات مبتكرة لحل مشكلات البيئة، لكن الدين بعامة يُضفى بُعدًا أخلاقياً يحفّز الناس على حماية الأرض كأمانة إلهية. والإسلام يعد تعمير الأرض مهمة إلهية كلف الله تعإلى بها الإنسان.

والسؤال الآن: كيف يمكن تجاوز أساليب النقاش القديمة؟

هذا ما نرجو أن نجيب عليه فى المقال القادم إن شاء الله تعالى".

***

د. محمد الخشت

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 15 ديسمبر 2024:

ما يجري بالعالم من صراعات وحروب تصل إلى حد التوحش مثير للسخرية الكبرى في هذا القرن الذي كان الكل يأمل أن يكون قرناً تسوده العدالة والسلم والرخاء والازدهار.

لكن على العكس، إذ ما نراه من حروبٍ أهلية في الإقليم أمر مفجع للغاية. وتتسمّر لوهلة ثم تتساءل: ماذا يفعل هؤلاء بالعالم؟ وما قيمة ما أنتجه الإنسان من نظرياتٍ وتعريفاتٍ وتوصيفاتٍ إذا كانت الحروب والدماء تسيل كما كانت تسيل منذ الإنسان القديم، ومنذ العصور الغابرة؟!

كل هذه الخطايا التي يرتكبها الإنسان تبرهن على أن الكثير مما يجري في هذا العالم مثير للسخرية، ثمة اندفاع نحو العنصرية وانتشار للكآبة، وتفشٍ للأمراض الخطرة، ونضوب في المياه، وجفاف في المناخ، وتضخم بالسكان، وازدياد بالفقر، واحتباس في المناخ، كل تلك الكوارث ليست من صنيعة الكائنات الأخرى على الكواكب من حولنا، بل من صميم صنع الإنسان وفعله.

لهذا ربما حاول الإنسان «أنسنة» كل شيء، لكن من دون أن يؤنسن نفسه. بات الأسير الأكبر لـ «الاغتراب» عن الطبيعة التي لم يبد وفياً معها، ولم يتعامل معها بإخلاص وجدية، ولم يعر الموضوعات الأخلاقية أي اهتمام.

ثم تكتمل المأساة من خلال ما اعتبره هيدغر «الوجود الزائف»، إذ تتعمد المجاميع البشرية «التواطؤ» للغيبوبة ضمن «الوجود الزائف» ضمن «الأشياء» والجموع، و«القيل والقال» على حد وصف هيدغر أيضاً. هناك تجهيل وتواطؤ على تجريب الجهل تتبعها حال نسيان للذات والكينونة والمصير والمعنى.

جزء من الحل يكمن في التأمل أو فلسفة الأمور، فبقدر ما تحمل الفلسفة تعريفاتها الدقيقة، بقدر ما تحمل ممانعة ضد التعريف. إذ لكل فيلسوفٍ تعريفه لها، طبقاً للرؤية التي يتخذها، أو المسار الذي يسلكه، أو المنتج الذي يعمل عليه. ثمة تعريفات للفلسفات. لكن «الفلسفة» بقيت فضاءً ممتداً لا يمكنها أن تحتكر ضمن حدّ، أو توضع ضمن قصد، أو تحصر ضمن تأويلٍ أو انفجار نظري واحد.

من هنا يكون لبعض الفلاسفة أوصافهم عن الفلسفة، على النحو الذي يصف فيه نيتشه الفيلسوف بأنه «حامل المطرقة»، أو أنها السبيل نحو «السخرية»، بينما يعتبرها جيل دلوز محاربة «للغباء»، وفوكو يصف وظيفة الفيلسوف بأنه محارب من دون هوادة «للحماقة». كل تلك الشطحات أو التوصيفات الشذرية للفلسفة، أو التعميمات اللحظية لها تنبثق من لحظة الرؤية الدقيقة لما في الواقع.

الخلاصة، أن العالم بعد الحربين العالميتين، والثورة الصناعية، أصبح أكثر غربة، وبات الإنسان ضحية «الاغتراب» الكارثي على الرغم من كل فتوحات التقنية، إذ يمكنك أن تلفّ العالم بجهازك الكفي، لكنك «الغريب» بداخله بكل ما للكلمة من معنى.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 ديسمبر 2024

 

في تعليقه على الأحداث السياسية الأخيرة في فرنسا، يذهب المؤرخ الإيطالي جيوفاني أورسينا، في مقالة بصحيفة «لاستامبا» (5 ديسمبر 2024)، إلى أن الوضع الفرنسي ليس نشازاً، بل هو انعكاس لأزمة بنيوية تعاني منها الديمقراطيات النيابية الغربية. والأمر هنا يتعلق بموجة احتجاجية عارمة في الرأي العام ضد تحكم طبقة أوليغارشية مسيطرة متمحورة حول نفسها، في سياق عالمي مضطرب وغير مستقر. ومن ثم فالسؤال المطروح حالياً على الديمقراطيات الغربية هو: كيف يمكنها أن تواجه هذه الحركية الاحتجاجية الداخلية المتزايدة؟

حسب أورسينا، فإنه عادةً ما تكون ردة فعل الأنظمة الديمقراطية الغربية وفق ثلاث مراحل: تبدأ برفض وشيطنة القوى السياسية المتمردة ونعتها بالتطرف وعدم الشرعية، قبل الشعور في اللحظة الثانية بأن هذه القوى غدت مكوناً أساسياً لا يمكن تجاهله في المشهد السياسي. وفي مرحلة ثالثة تصل هذه القوى إلى السلطة منفردةً أو في إطار تحالفات مركبة. وكما يبدو، ما تزال ألمانيا في المحطة الأولى، بينما فرنسا في المرحلة الثانية، وإيطاليا دخلت عملياً في الحقبة الثالثة.

وبالنسبة لأورسينا، فإن إيطاليا في عهد رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني هي مختبر التجارب السياسية الأوروبية، وما تعرفه حالياً من تحولات نوعية في تركيبة الحكم يصلح لاختبار وتقويم الحالة السياسية في عموم الديمقراطيات الأوروبية التي تشهد موجة تمرد واسع ضد النظام الليبرالي الراديكالي.

ما يعنيه أورسينا بالنظام الليبرالي الراديكالي، حسب ما بيَّن في كتابه «ديمقراطية النرجسية» (صدر سنة 2018)، هو هذه العقيدة الفردية المنتشرة على نطاق واسع في الغرب، من حيث كونها تقوم على مركزية السوق الحرة ومدونة القانون المجرد والأخلاقية الكونية، بما يفضي إلى تقويض الفعل السياسي نفسه من حيث هو ممارسة سيادية مستقلة. ما نشهده راهناً، في ضوء ملاحظة أورسينا، هو بروز حركية محافظة جذرية في قلب الديمقراطيات الغربية لا يمكن أن نختزلها في صفة الشعبوية، وهي في عمومها مناوئة للتقليد الليبرالي من منظورين متمايزين:

- النزعة القومية المحافظة التي هي القوة الصاعدة في جل الدول الأوروبية، وقد تركزت حالياً في المجر والنمسا وألمانيا ولدى العديد من الأحزاب التي تصنَّف عادةً على أنها من اليمين المتطرف. ما يجمع هذه التشكيلات هو الرجوع إلى الأمة بصفتها أرضيةَ الهوية والمواطَنة في مواجهة نزعة ليبرالية كونية معولمة، تمنح الأولوية لحقوق الإنسان والقانون الدولي على اعتبارات السيادة الوطنية التي هي الخلفية المعيارية الحقيقية للديمقراطية. لقد أطلق رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان على هذا النمط السياسي تسميةَ «الديمقراطية غير الليبرالية»، وهي مقولة بلورها من قَبلُ المفكر السياسي الأميركي فريد زكريا للتعبير عن الانفصام المتزايد في الساحات الغربية بين الديمقراطية من حيث هي منظومة انتخابية والليبرالية بصفتها نسقاً فكرياً معيارياً.

- النزعة المحافظة ما بعد الليبرالية، والتي ظهرت بصفة خاصة في الولايات المتحدة وتركزت في الأوساط الدينية المحافظة، ويمثلها اليوم نائب الرئيس المنتخب «جي دي فايس» ووزير الخارجية المعين ماركو ربيو. ومع أن هذه النزعة برزت أصلاً في بريطانيا لدى التيار العمالي اليساري، إلا أنها انتقلت إلى اليمين الأميركي الجديد. بيد أن ما يجمع بين الاتجاهين هو الانطلاق من مرجعية الكرامة الإنسانية ومنح الأولوية للخير المشترك.

ومن المعروف أن المقولتين لهما خلفيات لاهوتية قديمة، أُعيدَ لها الاعتبارُ راهناً في إطار نقد أطروحة الحياد الليبرالي إزاء القيم العقدية الجوهرية. وأهم مصدر فكري حالي للتيار ما بعد الليبرالي الأميركي هو كتابات رجل الدين الكاثوليكي ريتشارد جون نيوهوس (المتوفى 2009)، حيث نقرأ نقداً جذرياً لمسار التحديث الليبرالي في الولايات المتحدة. وبالنسبة لنيوهوس، فقد بُني النموذج الأميركي على اختلالات خطيرة في تصور الحرية على أساس المفهوم الفردي المجرد الذي بلوره الفيلسوف جون لوك.

إن هذا التصور هو الذي كرس حيادية الدولة في المجال العمومي، وهي نظرية خاطئة لسببين رئيسيين: منع الدولة من توجيه المجتمع نحو القيم المقدسة العليا التي هي الطريق إلى الخلاص والسعادة، وتعويض الديانات التقليدية بالديانة المدنية التي لها مؤسساتها المقدسة وآلهتها المعبودة وأخلاقياتها المنشورة.

ومن هنا نقد نيوهوس لنظرية «المجال العمومي العاري» the naked public square (عنوان أحد كتبه الأساسية)، ويعني بها رفض الفصل بين الخيارات السياسية والقانونية من جهة والاعتبارات العقدية والأخلاقية التي تصدر عن مرجعية دينية مجتمعية عامة من جهة أخرى. وخلاصة الأمر، أن الديمقراطيات الغربية تشهد في الوقت الراهن صداماً فكرياً وأيديولوجياً متصاعداً بين الليبرالية والنزعة المحافظة، له خلفياته وأبعاده العميقة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 ديسمبر 2024 23:45

هل يعشق الفلاسفة؟

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

*

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 14 ديسمبر 2024 م ـ 13 جمادى الآخرة 1446 هـ

ترددت في الكثير من المساحات الفلسفية والعقلية المختصة بتطوير الموارد البشرية، والحث المكثف على انتقاء البيئة الاجتماعية، والسعي لتكوينها بعناية فائقة، حيث يتأثر الإنسان بـ«نوعية» العقول التي يحتك بها دورياً، فإما أن تشكل قدوة ملهمة وحافزة، أو تكون باباً للدخول في مساحة العبث واللاهدف، والتي بتنا نصارع تمظهراتها المتشعبة في عصر التطور الرقمي الهائل، وتصدر المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي للمشهدين الإعلامي والإعلاني.

وقد تعددت النوافذ التي تتيح للإنسان النظرَ من خلالها إلى مساحات لامتناهية من مصادر الإلهام التي تتمثل في المنصات التعليمية المتاحة عبر الإنترنت، والتي تقوم بدورها في إلهام الباحثين والمتعلمين وتمكين قدراتهم الساعية لتطوير المهارات وتوسيع المدارك وتطوير المستوى الثقافي في مختلف المجالات والاهتمامات. وهذا إلى جانب التنوع الكبير في المنصات الأكاديمية التي تمثل جسور تواصل دائم بين النتاجات البحثية والعلمية لتبادل الأفكار، وما وفرته من مشروعات رقمية تجدسها العديد من الإنجازات البشرية الرائعة التي تعد المكتبات الرقمية أحدها.

أما على صعيد الأفراد، فقد وفرت هذه الثورة التكنولوجية مساحة واسعة ومرنة يمكن من خلالها الوصول بكل سهولة إلى العديد من النماذج الملهمة التي تتميز بأسلوبها ونوعية وفرادة مستواها الفكري، حيث يمكن التواصل وتبادل الآراء والأفكار بشكل حيوي دون معوقات. وهذا بالإشارة إلى الفاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت بشكل عام. كما يضم هذا الجانب وجهاً آخر، إذ سهَّل الوصولَ، والتعرفَ على الإنتاج المعرفي الضخم للملهمين عبر التاريخ، من خلال توفير مؤلفاتهم وإنجازاتهم وتوثيقها في الفضاء الافتراضي.

ولدى تسليط الضوء بشكل مكثف على الإمكانات التي وفرها هذا العصر من أجل شحذ رحلة الإنسان المعرفية، نجد أن تأثير الإلهام يتجاوز الوظيفة الأساسية التي تتمثل في نقل المعرفة من خلال تشارك الأفكار الجديدة، وإثراء الخلفية المعرفية، حيث يقوم بدوره ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن إنتاج تفكير نوعي وإبداعي من جهة، وتشجيع الاستمرار في رحلة الاستفهام غير المقيدة والبحث في الحقول التي يؤمل منها حصاد الجدوى من جهة ثانية. وبالتالي فإن الإلهام يقوم بتوجيه الاهتمام الإنساني من المجال العام إلى المجال الخاص، مما يجعله أكثر إحاطة بالتخصصات الدقيقة. وهنا يأتي دور الإبداع والإنتاج المعرفي المختلف تماماً عن تكرار ذاته أو عرض المعلومات المستهلكة، وبخاصة أن قدرة الإنسان على استثمار مصادر الإلهام التي تحيط به تمثل جرساً لا يتوقف عن إصدار صوته الجاذب نحو المشاركة في خوض المعارف الجديدة والاكتشافات، وشحذ الفضول الإيجابي المصنف ضمن باب تطوير الفكر والارتقاء بأساليب التفكير.

ولا يمكن تجاهل الآثار والانعكاسات السلبية لما أحدثه التطور الإنساني بشكل عام، وفي الفضاء الإلكتروني وأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل خاص على ماهية الإلهام المعرفي، حيث ألقت هذه الغيمة الرقمية بظلالها على العقل الإنساني، كما أبانت عن ضرورة استيعاب المعطيات كافة التي جاءت بفعل هذا التطور، حيث إن الإلهام المعرفي يحتاج إلى منهجية منظمة واضحة، فكيف يمكن تطبيق ذلك في عصر يمتاز بجنون التطور، وديمومة الحركة، فيما يتعلق بزيادة حجم المعرفة المتوفرة، التي تجعل الطريق لتحديد مدى موثوقية ودقة المعلومات أصعب وأطول.

وإلى ذلك، فإن هذا الكم الكبير من التطورات الرقمية يفرض على أي إنسان، في رحلة إلهامه المعرفية، أن يكون متمكناً بالدرجة الأولى من قدر ليس بيسير من المعايير القيمية والأخلاقية التي تخوله دخولَ عالم التنوع الاجتماعي والثقافي العميق المؤطَّر بقيم التعارف والتسامح والاحترام وفهم ماهية التنوع الثقافي دون الوقوع في مطبات الأنا والآخر، أو الانعزال والكراهية وما إلى ذلك. كما يلزم امتلاك المهارات والمعارف اللازمة لتخطي مختلف التحديات المتعلقة بقضايا الأمن السيبراني، ومواضيع الخصوصية التي تزداد تجدداً بالتزامن مع ارتفاع وتيرة استخدام التكنولوجيا وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي.

وبتسليط الضوء على أحد أهم المجالات التي تتعطش إلى الإلهام في كل دقيقة وكل لحظة، فإن العناية بموضوع الإلهام المعرفي في البيئة التعليمية والأكاديمية يعد من أهم المواقع التي يجب التركيز عليها، وبخاصة في ظل الخلط بين مسألتَي المعرفة والفهم، مما يبين ضرورةَ إيجاد توازن بين المسألتين. فهل نستطيع توفير «ضمانة» إلهامية معرفية للأجيال القادمة في ظل هذا التدفق غير المحدود للثقافات والمعلومات والتطورات ذات الصلة؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية يوم: 11 ديسمبر 2024

كثيرًا ما تُمارس على الصّعيد المجتمعي فنون الخداع والوهم باسم الدين، لينهل التابعون من رحيق الخدَر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، مغيبين في نعيم الوهم الأبدي. لقد قامت المنظومةُ الفقهيةُ الأصوليةُ بصناعة وترسيخ ثقافةِ الوهم وترسيخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال والعاطفة، من خلال الأدبيات المفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات واليقينيات الماورائية المطلقة، وبالتالي بدأت عملية صناعة الوهم في العقل الجمعي وشغله بأمور مفرطة في السطحية ومغرقة في الجهل والتغييب، ليصبح الدينُ مجردَ كلمات تذكر عند دخول المرحاض وسماع أصوات الديكة والحمير، بشكل هيمن بغرابة على النسق القيمي والسلوكيات الخاصة.

وكالعادة، فهناك دومًا من الأحاديث ما يدعم ذلك ويؤكده، لتتحول سنن المرسلين من الدعوة لمكارم الأخلاق والسلام الإنساني والاجتماعي إلى أمور دنيوية سلوكية شديدة الخصوصية، فيروى مثلا عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قال رسول الله: "الحنّاء والتعطّر والسّواك والنّكاح من سنن المرسلين" رواه الترمذي وحسنه والإمام أحمد.

وعن الحسن قال: قال النبي: "ما أحببت من عيش الدّنيا إلا الطّيب والنَساء"، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ذكر: "ما حبّب إلى رسول الله أكثر من النساء والطيب" .

ويخصّصُ بعضُ الفقهاء أبوابًا للخضاب وفوائده، تاركين أسس العقيدة والعدالة الاجتماعية، مثل ذلك الحديث الوارد في الكافي باب الخضاب: قال النبي: "نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة درهم في سبيل الله، إن فيه أربع عشرة خصلة: يطرد الريح من الأذنين، ويجلو الغشاء من البصر، ويلين الخياشيم، ويطيب النكهة، ويشد اللثة، ويذهب بالغشيان، ويقلّ وسوسة الشيطان، وتفرح به الملائكة، ويستبشر به المؤمن، ويغيض به الكافر، وهو زينة، وهو طيب، وبراءة في قبره، ويستحي منه منكر ونكير".

وتختزلُ بعض الروايات دور الوحي في التأكيد دومًا على أهمية السواك كأمر إلهي مقدّس، وكان الأولى أن يأتي به نص صريح في الكتاب لو صدقت رواية أبي إمامة: "ما جاءني جبريل قطّ إلاّ أمرني بالسّواك حتى لقد خشيت أن أحفيَ مقدِّمَ فمي" (أي تسقطَ أسناني). ويخرج عن الدين والجماعة من لم يقص شاربه، حيث روى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا".

وبعد، فقد أُفردت أبواب للخضاب والاكتحال وغير ذلك من أمور شغلت العقل الجمعي للمسلمين، يدعمهم في ذلك رايات كثيرة، فكيف ينشغل وحي السماء بالسواك في كل مرة، ويبدو النبي كرجل لا يشغله غير خضاب ومكحلة!

وهكذا سارت محاولات التغييب على قدم وساق، وجاء العصر الأموي ليرسخ هذا التأطير من الناحية الاجتماعية وجاء الفقهاء حسب وعيهم الإدراكي والمعرفي، ليرسّخوا هذا التأطير من الناحية الفقهية، ثم استحكم تأطيرها من الناحية العقائدية والفلسفية.

ولم تكتف السلطة الاستبدادية بأن هيأت الظروف الموضوعية لانتشار التفكير الميثولوجي، بل إنها في بعض الأحيان كانت تقوم بالترويج لهذا التفكير، حيث كانت تدرك تلك القواسم المشتركة بينها وبين الخرافة، وهو رفض التفكير السببي والمنطقي، وبالتالي تدعم الميثولوجيا وجود واستمرار السلطة المستبدة، ولعل ذلك يفسر اضطهاد الطغاة للمفكرين على مر التاريخ وجنوحهم عن العلم وتحكيم سلطة العقل، وميلهم إلى انتشار الجهل والتخلف الذي يذهب بالعقول بعيدًا عن نقد السلطة والمطالبة بالعدالة والمساواة، وتتفنن الأيديولوجيات الدينية في ممارسة الخداع عبر صناعة الوهم في الخيال الجمعي لأفرادها وتغذيته بإنتاج المشهديات التخيلية المعاكسة للواقع والمنطق.

لقد بذلت السلطة قصارى جهدها في صناعة الوهم، من خلال توظيف المؤسسة الفقهية، ونسجت من أحلام البسطاء وأمنياتهم مشاريع التجهيل والتغييب، وجندت حماستهم وتطلعاتهم نحو إنتاج المزيد من الخيال والوهم المحال، لتغدو الأمة غارقة في حالة من الانتظار الدائم للخلاص على يد المجهول، ومفرطة في أوهام النوستالوجيا المترقبة دوما لقدوم البطل المخلص.

والميثولوجيا بوصفها نتاجا معرفيا جماعيا تعد انعكاسا للمكونات الفكرية والثقافية للمجتمع، لما تحتويه من بنية مركبة تتداخل فيها شتى المؤثرات من فكر وفن وتاريخ، مما يجعلها مرآة تنعكس فيها المكونات الحضارية لشعب من الشعوب، مما يفسر وجودها بشكل دائم لا ينقطع في جميع الحضارات الإنسانية؛ أي أنها تجسّد وضعًا معرفيًا أنثروبولوجيًا جعلها مرجعية ثقافية ومكونًا رئيسًا من مكونات الفكر الإنساني له القدرة على الامتداد ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، والأسطورة تمنح الإنسان القدرة على مواجهة ما يعجز عقله عن استيعابه، كما أنها توفر له خط دفاع أساسي يمنحه التوافق النفسي في مواجهة الطبيعة وقسوتها وتقلباتها. ونظرًا للامتداد والشمولية اللتين تأخذهما الأسطورة في الأيديولوجيات المختلفة - خاصة الدينية منها - اختلطت الحقائق مع تقادم الأزمان، لتصبح الأسطورة مرادفًا للواقع.

والإنسان بطبعه يميل صوب الأساطير، مثلما يميل إلى الصور التي يعتمد عليها عقله الباطن الذي يرفض دومًا التخلي عن الماضي الذي سرعان ما يلاحقه بكل صوره ورؤاه، حيث تتضافر عدة قيم نفسيّة وروحيّة في تأجيج الذاكرة دومًا صوب الماضي، وهو ما حدث مع الشعوب التي فتحها المسلمون، والتي كانت تمتلك زخمًا حضاريا تتناثر في ثناياه الحكايا الميثولوجية لتفسير الكون والحياة، فصبغت تراثها الميثولوجي بصبغة دينية تلقفتها الأيديولوجيا لتحقيق المزيد من التغييب للوعي الجمعي للرعية، لتظهر أساطير خرافية تحاكى الحكايا الهوميرية والإغريقية، في محاولة لتقديم وجبات جاهزة لعقول استراحت إلى الخرافة.

وتجسد أسطورة المسيح الدجال ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر، والذي تناولته جميع الثقافات القديمة: الفرعونية والبابلية والإغريقية، ورمز الشر هنا كائن خرافي أسطوري أعور العين، وإن اختلف الإمامان البخاري ومسلم حول موضع العين العوراء، فيقول البخاري في ذلك: عن ابن عمر أن النبي ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ...".

أما مسلم فيقول في روايته: "عن حذيفة قال: قال رسول الله: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ - كَثِيرُهُ - مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ". وهكذا اختلط الأمر بين الصحيحين، هل هو أعور العين اليسرى أم اليمنى؟

ثم تذهب الروايات إلى وصف البنية الخارقة لذلك الكائن الأسطوري المرعب: فيروي أبو داود عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله قال: "إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّال رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ". والدجال هنا يتصف بصفات إلهية خارقة حتى يغدو الفارق بينه وبين الله هو العين العوراء، فهو كما أخرج أحمد عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال: "إن الدجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة، وإنه يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". وله حمار يركبه، عَرْض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا!! كما أن معه جنة ونارًا، جنته ناره وناره جنته، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث. وروى الإمام مسلم عن حذيفة قال: "لأنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ: مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ". ويستفيض البخاري في وصف الدجال وفقا لرواية أخرى فيقول: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ"!!

وليس هناك مانعا من مواصلة المشهد الدرامي المثير، حيث يلتقيه النبي مع نفر من صحابته، فيروي أحمد عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ "إن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحة عينه طالعة ناتئة فأشفق رسول الله أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة همهم فآذنته أمه فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء فاخرج إليه‏.‏ فخرج من القطيفة فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏. ‏ثم قال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء فلبس عليه فقال‏:‏ ‏"‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏"‏‏ ‏فقال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ ثم خرج وتركه‏.‏ ثم أتاه مرة أخرى فوجده في نخل له يهمهم فآذنته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏.‏ فكان رسول الله يحب أن يسمع من كلامه شيئًا فيعلم أهو هو أم لا، قال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ قال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ فلبس عليه فخرج وتركه‏.‏ ثم جاء في الثالثة أو الرابعة ومعه أبو بكر وعمر في نفر من المهاجرين والأنصار وأنا معه، قال‏:‏ فبادر رسول الله بين أيدينا ورجا أن يسمع من كلامه شيئًا فسبقته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء، قال‏: ‏‏"‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏" قال هو‏:‏ أتشهد أنت أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏"‏آمنت بالله ورسله‏"‏‏.‏ فلبس عليه، فقال رسول الله: ‏"‏يا ابن صياد إني قد خبأت لك خبيئًا" فقال‏: هو الدخ‏. ‏فقال رسول الله: ‏"‏اخسأ‏"‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ائذن لي يا رسول الله‏.‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد‏"‏‏. ‏قال‏:‏ فلم يزل رسول الله مستيقنًا أنه الدجال‏"!!

وهكذا ترك النبي شئون الدولة الجديدة وصراعه المرير مع أعدائه وسعيه المستمر لدعم جبهته الداخلية، ولم يصبح له هم سوى البحث عن الدجال، وللأسف فقد جعلت الأيديولوجيا من الأسطورة عقائد مترسخة عند عامة المسلمين تمهيدا لظهور المخلص الذي سيأتي لتحقيق العدل والمساواة بعد أن يقتل رمز الشر "الدجال" وعلى الرعية أن تصبر وتنتظر المخلص، والذي انتظرته البشرية طوال تاريخها، وتحدثت عنه كافة الأساطير، ولا فرق هنا بين حورس عند الفراعنة، وماردوخ عند السومريين، والمهدي المنتظر الذي سيصلح في أيام معدودات ما أفسده الدهر في قرون طوال.

***

بقلم: د. سامح محمد إسماعيل

عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 5 ديسمبر 2024

كلما ازدادت الضغوط على تجمعات المسلمين وخصوصا العرب منهم، بسبب التراجع، والتفكك، والانفجار، من الداخل، والتفجير من الخارج، كانت الحاجة ماسة إلى محاولات تفسير ما يحدث، فكان خطاب عبد الجواد ياسين (١٩٥٤/ ١٣٧٣) وتجربته كقاضٍ وكمنتمٍ سابق للسلفية الدينية نظريًا، وليس تنظيميًا ومحاولته الخروج من أسرِ السلفية فيما بعد.

فقد حاول خطاب عبد الجواد ياسين فعل ذلك من خلال مقولات "الدين" و"التدين" و"الديانة". والسعي للتفرقة بين جوهر الدين، الذي هو مطلق وإلهي وقادم من خارج الاجتماع ومفارق وأزلي ومؤبد، وغير قابل للتعدد ولا إلى التطور، وحَصَره ياسين في عنصرين، الأول "الإيمان بالله" - الذي هو مكوِّن فطري في الإنسان - الثاني "الأخلاق الكلية". ويفرق ياسين بين هذا المكون الجوهري "الدين"، وبين "التدين": الذي هو ممارسة الإنسان لهذا المطلق في الواقع الاجتماعي، أما "الديانة" فهي ما تجسد في التاريخ من المذاهب ومن ممارسات السلطة الدينية والسلطة الحاكمة على أنه الدين.

ويسأل عبد الجواد ياسين سؤالًا مهمًا:

هل الدين كله إلهي، أبدي مفارق، ثابت؟ أم أن منه ما هو نسبي متغير، وليد الاجتماع، والتاريخ، والسياسة؟

ويحاول ياسين التعرض للعقل الديني الذي يرى أن الدين كله مفارق كما يتعرض أيضًا للدرس الاجتماعي الحديث الذي تعامل مع الظاهرة الدينية، ومع الدين على أن مصدرهما كله من الاجتماع البشري.

حاول ياسين الإجابة على الأسئلة فقال إن الإلهي والأبدي والمفارق من الدين هما "الإيمان بالله" و"الأخلاق الكلية"، وهما الثابتان فقط منه، وأضاف أن بالدين ما هو نسبي، وما هو متغير، ومتطور، مثل التشريع. ففي الشريعة الإسلامية جاء القرآن، مُنجمًا على مدى بضع وعشرين عامًا، وحدث تطور للتشريعات، من خلال النسخ، مما يعكس الحالة الاجتماعية والاقتصادية للناس الذين خاطبهم النص وقت الوحي.

ونبَّه ياسين إلى أن تصور الدين كمفارق كله، يتصادم مع فكرة أن موضوع الدين هو الإنسان؛ الذي هو بطبعه متغير ونسبي، ويتم الاتصال به عبر نص لغوي، واللغة وسيط اجتماعي. كما أن الإنسان هو الكائن الذي يتدين بهذا الدين، أي يدركه، ويعبر عنه، ويدعو الآخرين إليه. فالإنسان هنا ككائن وكظاهرة اجتماعية؛ يفرض ذاته على النص الديني، من خلال التدين، فيصبح في بنية الدين؛ ما هو إلهي مُطلق، ثابت، وما هو اجتماعي، متدَيَن. فيه الإيمان بالله والأخلاق، من جهة وفيه ما هو متغير وغير ثابت من جهة أخرى.

وحسب التصور السابق؛ يكون القرآن متضمِّنا لنوعين من الأحكام: ما هو إلهي مُطلق ثابت، وما هو اجتماعي متدين متغير ونسبي. تعامل القدماء مع القرآن بأن كل ما ذُكر في القرآن وورد فيه فهو مطلق لأنه في النص، حتى أصبحت النصية مرادفة للإطلاقية حيث أن التشريع تطور داخل القرآن في النسخ وتضمن القرآن اجتماعيات قابلة للتطور، من خلال تنجيمه الذي استمر سنوات، ومن خلال أسباب نزوله، ومن خلال الناسخ والمنسوخ.

هكذا يصور عبد الجواد ياسين المشوار: جاء التدين من التاريخ والاجتماع، وليس من عند الله. وهو يشمل كل هذا التراث البشري، فهمًا وتطبيقًا وممارسةً. وقد صبغت هذه البنية الدين ذاته ببصماتها التي تراكمت عبر السنين، فأضافت ما يدعو إلى الكراهية والبغض التي تم تقديمها باعتبارها جزءًا من الدين.

ويجعل ياسين مرحلة التأسيس في فترة نزول الوحي على النبي أصل الدين، حيث عاد بعدها تأثير الاجتماع، فأصبحت بنية التدين تُحدِث تأثيرًا كبيرًا، سواء بتبلور الدولة كسلطة أو عبر الفتوح العسكرية، واعتمادها على ثقافة الغزو كممثلة لاجتماعيات القبيلة العربية. كما أثَّرت التعددية السكانية والثقافية في هذه الدولة الإمبراطورية على الفقه وتطوره. وكذلك أثرت مسألة الصراع على السلطة في ظهور التعددية المذهبية؛ والتعددية اللاهوتية وظهور تعددية تشريعية في الأحكام وتعددية ثقافية، وحتى على مستوى ما يسميه ياسين قانون الإيمان؛ مثل ما حدث مع التشيع، حول مفهوم الوحي والنص وولاية الإمام، واستمرار التواصل بين السماء والأرض.

وفي نظر ياسين، أصبحت البنية في تاريخ المسلمين هي: هياكل اقتصادية رعوية، واجتماعيًا قبلية. وعقليًا ساد العقل اليوناني وغلبة الأفلاطونية عليه.

غير أن هذه البنية التي استمرت لقرون، - كما يوضح عبد الجواد ياسين - تعرضت لتحد كبير مع الحداثة ومع الرأسمالية؛ حتى أصبحت المجتمعات أمام حياة أخرى.

وهنا فَرض سؤال التطور ذاته بقوة على الطرح التديني وعلى العقل الديني؛ سواء في التشريعات أو الطقوس. لكن ظلت فكرة الإيمان والأخلاق الكلية صامدة. وهذا هو سبب المشكل الذي تواجهه مجتمعاتنا، في التناقض بين حركة التدين (السلفية التقليدية) وبين الهياكل الاجتماعية، أو بعبارة أخرى: التناقض بين النظام الديني وبين النظام الاجتماعي، كما يرى ياسين، وأن أزمة الإصلاح الديني، خلال القرنين الماضيين، أنه تم من داخل النظام الديني.

يحث ياسين على إعادة النظر في المفاهيم الكلية للنظام الديني، وفي القلب منها: اللاهوت، ومفاهيم التدين والدولة، التي قامت في تاريخنا بما قامت به الكنيسة في العصور الوسطى المسيحية. أعلنت الدولة عندنا ذاتها دولة مسلمة حارسة للدين، وورثت المنظومة الفقهية هذا الدور ضمنيًا مع الدولة. ويرى أن للبنية "الأشعرية الشافعية دورًا كبيرًا في ذلك، وأن فكرة المقاصد، وفكرة المصالح، لا تكفيان لتجاوز الأزمة، وأن المذهبية - سواء الفقهية أو اللاهوتية - هي أساس المرض.

نسق خطاب عبد الجواد ياسين يدرك البعد التاريخي والشامل - بما يحمله من اجتماع وسياسة واقتصاد - في تركيبة النص الديني، وقد خطا خطوة كبيرة في تفرقته في داخل النص الديني، بين ما هو ثابت أبدي - حصره في "الإيمان بالله" كفطرة إنسانية وليس كفكرة لاهوتية؛ كما ظهرت في المذاهب وفي الأخلاق الكلية - وبين ما في الدين من متغير، نسبي؛ مثل التشريعات. وكذلك أدرك ياسين بشرية التراث وتاريخيته، وهو ما أسماه بالتدين، بل ودور هذا التدين - الذي شكّله الاجتماع والتاريخ - وصبغه للدين ذاته بصبغته. فياسين ينطلق من مفهوم لإسلام جوهري، مفارق، أبدي، ثابت ويقترب من التصورات الصوفية.

لاهوت الإسلام

يحاول عبد الجواد ياسين تفكيك المنظومة "الشافعية الأشعرية" التي سادت في التدين من داخلها. وكان قد تناول عملية التفكيك من خلال تفكيك "السلطة في الإسلام" التي تناول فيها العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. كما تناول الجزء "التشريعي/ الشافعي" في كتابه "الدين والتدين"، ويحاول تناول الجزء "اللاهوتي/ الأشعري" في كتابه "اللاهوت"، وهذا يحتاج إلى درس تفصيلي أوسع ليس مكانه هذا النص الذي هو بمثابة "مقدمة". أركز هنا على الفصل الثالث من الكتاب الذي خصصه ل "لاهوت الإسلام”1 ص281.

يحاول ياسين هنا التركيز على فكرة "هل اللاهوت الإسلامي نتاج تلاقح "عبري عربي؟"ص285، ويفعل ذلك حذرًا ومنبهًا إلى أن موقفه النقدي "موجه إلى هذا الشكل التاريخي، وليس إلى فكرة الدين في ذاته"، بل يصرح بأن موقفه "يصدر عن انحياز قبلي لقضية الإيمان"، التي يرى أن "التدين التاريخي التقليدي لم يحسن تمثيلها بمقاييس الدين المحض، مثلما أن الطرف الوضعي التقليدي لم يحسن التعاطي معها بمقاييس العلم الموضوعية" ص282.

وموقف ياسين هنا موقف المنحاز للإيمان طبقًا "للدين المحض"، الذي لم يفهمه الطرفان حق الفهم، فيما سيقدم الفهم الصحيح.

ورغم إدراك ياسين، بل وتصريحه، بأن اللاهوت في النهاية لا يمكن إدراكه إلا تصورًا، وأن كل تصور هو فعل إنساني، "تقوم مادته على تصور الذات"، مهما كان مفارقًا للعالم يظل مُحجمًا عن الخطو بأن اللاهوت مجرد تصورات إنسانية عن الغيب. فهو متحسب "لحساسيات العقل الديني التقليدية، التي لا يريد - عبد الجواد ياسين المؤمن - الدخول معها في مواجهة سجالية" ص281، ويؤكد أنه ناقدٌ وليس خصمًا.

بهذا الحذر من "السجال"/الصدام، وذلك الانحياز المسبق "للإيمان طبقًا للدين المحض2" شكلًا، تناول ياسين اللاهوت كما ينبغي أن يكون، طبقًا للدين المحض، أو اللاهوت كما تشكل في التدين التاريخي طبقًا لاجتماع إنساني. بل وتعامل ياسين شكلًا مع نصوص القرآن ومحاولات تقديم قراءة لها، خارج إطار التراث التفسيري في تاريخ التدين الإسلامي الذي لم يستطع إدراك الدين المحض وعجز التيار الوضعي الموضوعي عن إدراك الظاهرة الدينية الإبراهيمية وروحيتها.

ورغم إدراك ياسين البعد التاريخي وحرصه عليه3، فإنه يهمل الدور المركزي لتصورات اللاهوت في تشكيل الفقهي4، والدور المركزي للسياسي في تشكيل اللاهوتي وبعده الفقهي، بل والثقافي5، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة أعمق، لمعرفة سبب ذلك عند ياسين، وهل هو جزء من تجنب الصدام/ السجال فقط أم هناك عوامل أخرى؟

من المُلفت للنظر أن ياسين حين ينقل آراء عن أبي الحسن الأشعري ينقلها عن الجويني وعن ابن عساكر وليس عن الحسن مباشرة، كما في ص427 - 428) والهوامش فيها.

نقطة أخرى أن ياسين يحيل إلى نفسه وإلى مؤلفاته فيما يخص "اللاهوت الإسلامي"، ربما لأنه في النهاية يقدم قراءته هو "للدين المحض/ المطلق"، المخالفة حسب تصوره لقراءة من سبقوه، الأمر الذي يحتاج إلى تقصي من باحثينا.

وبالرغم من مركزية الشافعي في الدرس الفكري الذي يقدمه عبد الجواد ياسين لتراثنا في كتاباته السابقة فإن ياسين يشير دائما إلى ما فعله الشافعي (767/ 150 - 820/ 204)، ويعرض لنا ما فعل الشافعي، ولكنه لا يشرح لنا كيف فعله، ولماذا فعله معرفيًا، وفي هذا الكتاب الذي تناوله تحديدًا لاهوتيًا/ ثيولوجيًا، فبالرغم من أننا في ظل دراسة من المُفترض أنها "أنثروبولوجية" للاهوت من قبل عبد الجواد ياسين، فنحن نفتقد الأسس اللاهوتية التي أقام عليها الشافعي حججه وكيف وظفها ولماذا.

نقطة أخيرة في هذا السياق تحتاج إلى تقصٍ وهي نهج عبد الجواد ياسين في تأويل نصوص القرآن، حيث يطابق بين فهمه وبين دلالة القرآن بطريقة ضمنية، فيقول "نحن نرصد مفهوم التوحيد كما طرحه القرآن، لا أتكلم عن معانٍ يمكن استنباطها من النص عن طريق الاستدلال التحليلي، فهذا ما سيفعله الكلام - يعني علم الكلام - لاحقًا، ولكن أتكلم عن المعنى المباشر كما فهمه المتلقي الأول من الآيات، أي عن المعنى الظاهر الذي قصد إليه النص في سياق لحظته الثقافية" ص431.

فإذا كان الفيلسوف الألماني كانت "1724 - 1804) رابضًا بفكره تحت خطاب عبدالجواد ياسين، فإن ابن حزم الأندلسي (994 - 1064)م موجودٌ بقوة تحت تلافيف الخطاب، مما يحتاج أيضًا للفحص من باحثينا.

الجانب الآخر في نهج ياسين في قراءة نصوص القرآن، أنه يقرؤها في ضوء أحداث السيرة، ويرفض في نفس الجملة الاعتماد على "مرويات منقولة" هامش 370 ص364، في حين أن السيرة في النهاية مجرد مرويات منقولة، بل إن مرويات السيرة مبنية على القرآن أصلًا، لكن لهذا حديث آخر يطول.

عبد الجواد ياسين يريد حل مشكلة مجتمعه ومشاكل أمته، عبر نسق توحيدي جامع متجاوز للمذهبية بكل صورها، فهو مسلم وفقط، وإنسان حديث. ورغم كل إنجازه في الوعي التاريخي بالنصوص وبتجربة المسلمين في التدين وتشكيل التدين للدين، وفي تشكيل الديانة، ووعيه بالأسس اللاهوتية التي لم يتعامل معها خطاب الإصلاح الديني، وخصوصًا (الأشعرية/ الشافعية) ودورها في الحد من ثماره، وأهمية التعامل معها نقديًا. لأن الأمر يحتاج إلى تفكيك المنظومة من داخلها، كما يفعل، إلا أن الأمر ربما يحتاج إلى شيء من المواجهات/ السجالات، التي يحاول ياسين بقدر الإمكان تجنبها، أو التقليل من احتقانها، فما زال ثمنها غاليًا.

لكن - من ناحية أخرى - فإن تجنب هذا الانخراط، قد يؤدي إلى صيغة تنتهي عنده إلى تصوف فلسفي "حديث"، فخطاب ياسين يحوي داخله كل المتناقضات بجوار بعضها، مهملًا الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الذي كان في قلب تجربته هو ذاته في التمرد النظري - وإن لم يكن تنظيميًا - على المجتمع وعلى ما هو سائد من استبداد سياسي وتقليد ديني يُرَسِّخ الاستبداد السياسي ويبرر كل منهم وجود الآخر. والله أعلى وأعلم.

***

بقلم: جمال عمر

كاتب وباحث مصري، مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، عمل على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» ولديه عدة مؤلفات نذكر منها: هكذا تحدث نصر أبوزيد، «مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث»

عن مجلة تفكير - مركز دراسات تفكير، ضمن ملف حول سبعينية المفكر المصري المستشار عبد الجواد ياسين

.................................... 

هوامش

1- ستتم الإحالة في النص لرقم الصفحة من طبعة كتاب اللاهوت: انثروبولوجيا التوحيد الكتابي، عبد الجواد ياسين، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ط1، 2019. توزيع، المركز الثقافي للكتاب وللنشر والتوزيع، المغرب، الدار البيضاء.

2- ربما بالتحليل الدقيق، قد يكون الإيمان طبقا للدين المحض، هو الإيمان كما عاشه الطفل عبد الجواد ياسين في رحاب أسرته وإيمان الأم تحديدا. رغم ليبرالية الأسرة ذات الانتماء الوفدي، كان إيمانها "طبيعي" غير متكلف، يعكس الإيمان كما يتصوره ياسين ك "دين محض".

3- سواء في كتابه "السلطة في الإسلام" عن تتبع المفاهيم الكلامية عند الفرق "من رحم الوقائع والتطورات السياسية". وحتى في كتاب "اللاهوت" يدرك ذلك، ص395 وهامش 403. ورغم أنه ياسين يُرجع للدولة في الإسلام بأنها كانت الحامية للدين وقامت بما يشبه دور الكنيسة في تاريخ المسيحية، أي دور السياسي في تشكيل الديني.

4- “ في المدونة الرسمية السنية - حيث يسيطر الفقه على الكلام وحيث أدت تنظيرات الشافعي الأصولية إلي تثبيت مدرسة الحديث ذات الأفق النقلي الضيق - يظهر التشدد واضحا حيال التفكير الصوفي والفلسفي"، عبد الجواد ياسين، اللاهوت، ص407.

5- صراع دائم بين مركزية علم أصول الفقه في تشكيل العقل الذي ساد عند المسلمين، كما توجه الشيخ مصطفي عبد الرازق (1985 - 1947) وصار علي ذلك محمد عابد الجابري (1935 - 2010) وهنا كذلك عبد الجواد ياسين. في حين هناك اتجاه آخر يجعل من علم الكلام أو علم أصول الدين صاحب الدور المركزي في تشكيل الرؤى التي كونت العقل الذي ساد عند المسلمين، والدور المركزي للصراعات السياسية في تشكيل هذه الرؤى، ويمثل هذا التيار كثيرون منهم حسن حنفي (1935 - 2021) ونصر أبوزيد (1943 - 2010) وعلي مبروك (1958 – 2016).

 

 

لا يتردد الفيلسوف الفرنسي بيار هنري تافويو في كتابه الجديد «هل ما نزال نريد العيش المشترك؟»، في نعت المجتمعات الليبرالية الغربية بأنها تعيش راهناً شبح الصدام والتصدع بعد أن كانت قد اعتقدت أنها وجدت الحل الأمثل للسلم الأهلي والتعايش الجماعي.

ما تدل عليه مؤشرات الحياة السياسية في كل الدول الديمقراطية الغربية هو أن المواطن فيها لم يعد يميل إلى القوى الدينية والمجتمعية التقليدية ولا إلى الأحزاب السياسية التي تقاسمت لعدة عقود طويلة الحياة العمومية، بل أضحى أكثر ميلاً للتيارات الراديكالية اليمينية واليسارية التي تعزف على وتر الصراع والتوتر الاجتماعي أو الانعزال الفردي وكراهية الذات. ليس من الغريب في هذا السياق صعود التيارات الشعبوية التي ترفع شعار حماية الهوية في مواجهة المهاجر والغريب والمختلف في العقيدة والمنشأ، وليس من المستغرب عودة الحديث عن النقاء العرقي والأصالة الثقافية في مجتمعات شديدة التفكك والتجزؤ لم يعد من الواضح محور توحدها وتضامنها.

في مواجهة هذا المأزق الذي تحدث عنه تافويو برز جدل نظري جديد حول طبيعة المنظومة الديمقراطية في تصورها المجتمعي، هل هي تنظيم سلمي لصراع جوهري واستقطاب دائم وحي كما ترى المفكرة البلجيكية «شانتال موف»، أم هي التعبير عن التوافقات الإجرائية والقانونية الكبرى التي تحفظ في المجتمعات التعددية استقرار النظام السياسي كما ترى المدرسة الليبرالية التقليدية؟

لا مناص من الاعتراف بأن الحركات الشعبوية التي تجتاح العالم اليوم تذهب في الاتجاه الأول، إلى حد أن العمل السياسي المنتج غدا مشروطاً بهذه النغمة الصدامية الحادة التي ترى في المخالف السياسي عدواً للأمة وخطراً على المجتمع وهويته.

لا تتوقف هذه الظاهرة على حدة الخطاب السياسي والانتخابي وحده، بل تبرز في خروج حركية الاحتجاج السياسي والمدني عن موازين ومحددات القانون التنظيمي للصراع الداخلي في المجتمعات الديمقراطية، إلى حد التشكيك في المسارات الانتخابية نفسها وإلغاء القيود المؤسسية والقضائية على السلطة التنفيذية حسب توازنات السلط المستقلة، فضلاً عن عودة شبح الحرب واقعياً ورمزياً إلى قلب العالم الغربي، كما هو جلي اليوم في الحرب الأوكرانية وامتداداتها في القارة الأوروبية. قبل شهور اندلع نزاع تأويلي بين المستشار الألماني اولاف شولتز والرئيس الروسي بوتين بخصوص مقاربة كانط للسلم الدائم، مع العلم بأن المدينة التي ولد فيها كانط، وهي كونجسبرغ، أصبحت روسية ويطلق عليها اليوم كاليننغراد.

لقد اعتبر بوتين أن النزعة السلمية لدى كانط تكمن في تغليبه منطق التعايش الآمن على اعتبارات الحرب المدمرة، في حين ذهب شولتز إلى أن كانط فرّق بين السلم المشروع والعدوان غير القانوني الذي لا بد من مواجهته بالسلاح والقوة. والواقع أننا نلمس هنا جانباً من الإشكال المتجدد راهناً حول المحددات السياسية للحرب في مجتمعات انتكست فيها الآليات الضامنة للاندماج والعيش المشترك. لقد كان كانط وفياً للتقليد التنويري الليبرالي الذي وجد في الدولة السيادية الحديثة القائمة على الحرية السياسية وسلطة القانون حلاً دائماً لمعضلة الصراع الأهلي، وحلاً ممكناً لحالة الحرب الخارجية من منظور قابلية تمديد المدونة القانونية الداخلية إلى العلاقات بين الأمم والدول.

بيد أن التجربة أثبتت أن الحالة الليبرالية لا تحول دون الحروب الخارجية، في الوقت الذي بدأت تتصدع فيه مقومات السلم الداخلي في المجتمعات الديمقراطية ذاتها. وفي تفسيره لهذه الظاهرة المتجددة، بين الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن في كتابه «الحرب الأهلية بصفتها براديغما سياسيا» أن الفكر الليبرالي قام على أطروحتين مترابطتين هما: الاحتواء الاستباقي للحرب الأهلية التي هي التهديد الأخطر للدولة القومية التي تقوم شرعيتها على الخروج من «حالة الطبيعة» التي هي حسب عبارة هوبز «حرب الكل ضد الكل»، وإلغاء الشعب بصفته جمهوراً من الأفراد المستقلين الأحرار واختزاله في كتلة المواطنة التي لا قوام لها بدون الدولة المعبرة عن الجسم الاجتماعي.

لقد اعتبر أغامبن أن هذا الحل المزدوج كان هشاً ومرحلياً، وما نشهده راهناً هو العجز عن احتواء العنف الاجتماعي الداخلي الذي هو عتبة الهوية السياسية في الوقت الذي انهارت مقاربة التجسيد المؤسسي للمجتمع بانهيار الوسائط التمثيلية وعودة الفردية السيادية إلى الحقل السياسي. ذلك هو المظهر الأوضح لأزمة الشرعية السياسية في المجتمعات الليبرالية الغربية، التي يعترف بها قادة القرار والرأي في تلك البلدان، وتعكسها الاستحقاقات الانتخابية المنظمة في مختلف الدول الديمقراطية المذكورة. ولا شك أن هذه الأزمة تتمحور حول محددات ورهانات العيش المشترك التي كانت سابقاً منطلق مسارات التحديث السياسي في الغرب.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 ديسمبر 2024 23:45

نحو جماليات ديكولونيالية

تمثّل الجماليات الديكولونيالية منعرجا فلسفيا حاسما في تاريخ فلسفة الفنّ المعاصرة منذ بداية القرن الحالي. ولقد قامت هذه الجماليات عموما على رهان تحرير الخطاب الجمالي من وهم الكونية الغربية التي بنت عليها أوروبا مسار الحداثة وقيمها المعرفية والأنطولوجية والتأويلية. وذلك من أجل إرساء عالم متعدّد الكونيات والجماليات وأشكال الإحساس وتجارب المعنى. ولقد ظهرت هذه الجماليات إثر منعرج فكريّ أسّس له والتر منيولو انطلاقا من أطروحة «العصيان المعرفي» الذي يراهن على نزع الاستعمار عن المعرفة وعن الوجود وعن الجامعة وعن الجماليات. وهو أمر يقتضي النضال من أجل تحرير الحواسّ والأحاسيس المعتقلة من طرف الحداثة الغربية في جانبها المظلم أي الكولونيالي. كيف يمكن تخيّل عوالم فيم أبعد من الرأسمالية والشيوعية، وكيف يمكن اختراع درب ثالث منه تنبثق ذاكرات منسية وانفعالات مشطوبة ومهملة من طرف التاريخ الوحيد للكونية أي التاريخ الغربي الذي أنتج الإمبريالية والاستعمار العالمي؟ كيف بوسعنا إعادة اختراع الهويات التي تمّ إنكارها أو الدفع بها إلى دائرة الصمت من طرف الجماليات الكولونيالية الحديثة؟

في مفهوم الديكولونيالية

ظهرت الديكولونيالية كضرب جديد من الفلسفة المغايرة لمركزية اللوغوس الغربي، منذ تسعينيات القرن الماضي بخاصّة مع فلاسفة من أمريكا اللاتينية ومن الهند ومن إفريقيا. بحيث ينتمي أقطابها إلى جغرافيا «جنوب الحداثة» بعامّة أولئك الذين يقطنون بعقولهم ومخيالهم خارج الغرب الأوروبي الاستعماري. (فرانز فانون، إيمي سيزار، والتر منيولو، انريك ديسال، لوي مارتيناس، ألانا لوكوورد، بادرو بابلو غوماز..) يتعلّق الأمر بجملة من التحوّلات الجغرافية الابستمية كما يذهب إلى ذلك زيزاك. ويمكن الحديث عن جملة من قواعد المنهج الديكولونيالي التي تمّ إحصاؤها كما يلي: أوّلا تملّك التقليد الأوروبي النقدي وتعميقه. ثانيا: اعتماد الفلسفة الأوروبية النقدية في تأسيس الديكولونيالية (ماركس، نيتشه، فرويد...). ثالثا: إعادة تأويل النظريات الفلسفية الأوروبية النقدية منها (الاختلاف والغيرية..) وتبيئتها ضمن المصطلح المحلّي للثقافات من خارج أوروبا. رابعا: تخريب الخطاب الغربي الكولونيالي وبعثرة مفاهيمه في نوع من العصيان المعرفي. خامسا: تنشيط المحلّي الثقافي والإبداعي من داخل ذاكرة أو تقليد أو جغرافيا معرفية..

في حوار معه منشور على الأنترنت، يعرّف بادرو بابلو غوماز الديكولونيالية بوصفها «طريقة في تنضيد النظام العالمي» مميّزا بين ثلاثة أنماط من تنضيد هذا النظام وهي على التوالي: إعادة التغريب، نزع الطابع الغربي، والديكولونيالية. ويبسط مميّزات كلّ واحد منها بحيث تسعى الأولى إلى المحافظة على سلطة الغرب في التحكّم بالعالم، (المركزية الأوروبية والاقتصاد الليبيرالي). أمّا الثانية فهي تقيم معركة مع الغرب بخصوص السيطرة على العالم، من أجل عالم متعدّد الأقطاب غير مركزي وغير أوروبي، لكنه عالم رأسمالي. وبالنسبة لإعادة ترميم اليسار فإنّ ذلك إنّما يتمّ في أفق نقد للرأسمالية، لكنّه يبقى متسامحا إزاء المركزية الأوروبية. أمّا الطريق الثالثة فهي الديكولونيالية، بما هي تسعى إلى نقد المركزيّة الأوروبية القائمة على الرأسمالية والليبيرالية الجديدة، وعلى التمييز العنصري الإبستمولوجي وكل ادعاءات الحداثة الكولونيالية. لذلك تقترح الديكولونيالية فتح آفاق جماعية ممكنة غير رأسمالية وغير كولونيالية.

ليست الديكولونيالية كما يعرّفها بابلو غوماز شيوعية ولا رأسمالية إنّما هي تصميم طريق ثالثة من أجل رسم منعرج فكريّ مغاير وضرب من «الانقلاب الراديكالي» تصبح فيه المؤسسات في خدمة الحياة بدلا عن خدمة رأس المال. وانطلاقا من توصيف والتر منيولو القائل بأنّ «الكولونيالية هي الوجه المظلم من الحداثة»، يميّز بادرو بابلو غوماز بين الكولونيالية وما بعد الكولونيالية والديكولونيالية. فإذا كانت الكولونيالية هي سلطة شعب أو أمّة على أمّة أخرى، فإنّ ما بعد الكولونيالية هي نقد لهذه السلطة الاستعمارية، أمّا الديكولونيالية فهي اقتدار معرفي وجمالي وسياسي على كشف الأبعاد العميقة لكولونيالية هذه السلطة. وهو ما تنجزه «الديكولونيالية الجمالية» بوصفها لا تكتفي بنقد النظريات الجمالية القائمة على الميز العنصري والهيمنة الذكورية والمركزية الأوروبية، بل هي تسعى إلى فهم آليات هذه النظريات الجمالية الكولونيالية التي تميّز بين الفن وما ليس بفنّ، وفق ترتيب أنطولوجي ينزع الإنسانيّة عن الجماعة الجمالية التي توجد في جغرافيا ثقافية خارج الذائقة الغربية.

كيف يمكن للجماليات الديكولونيالية أن تحرّر المحسوس:

لقد ظهر مفهوم الاستطيقا الديكولونيالية لأوّل مرّة سنة 2003 من طرف الفنان الكولمبي أدولفو ألبان ألشينت، وتمّت استعادة المفهوم من طرف والتر منيولو الذي كتب عنه سنة 2009 وتمّ نشر مقاله سنة 2010 إثر فعاليات ورشة فنّية تمّ فيها عرض جملة من الأعمال الفنّية لفنّانين غير غربيين. ولقد تمّ تأويل هذه الممارسات الفنّية بوصفها أعمالا جماعية تقترح تحرير المحسوس والأحاسيس والاعتراف بهويات إبداعية غير غربية مضادّة للتيّارات الإمبريالية للعولمة، في أفق جمالي ديكولونيالي لاكتشاف أنماط جديدة في التفكير بالأمكنة وبالفنون وبالبويطيقا. وهنا تنبثق مسارات تحرير المحسوس على أرضية جغرافيا ديكولونيالية أفريقية. وذلك يتجلى في عالم عابر للحداثة الأوروبية وفي أفق إعادة تنضيد لنتائج خمس مائة سنة من الكولونيالية، وهو عالم تحوّل إبداعي وأفكار مستقلّة وحريات ديكولونيالية في كلّ مجالات الحياة.

إنّ ما يحدث تحت راية هذا التحوّل الإبداعي هو ضرب من «الثورة الكوكبيّة في المعرفة والإحساس»، وفق عبارات بيان الاستطيقا الديكولونيالية. بحيث تمظهرت داخل الممارسات الفنّية غير الغربية المرئية والمسموعة والمكتوبة العديد من الهويات العابرة للأمم، تعدّد رائع للقدرات الإبداعية الإنسانية تطمح إلى تملّك الاختلاف وتأكيده بدلا من مجرّد الاحتفال البرجوازي به. لقد التحقت الاستطيقا الديكولونيالية بتحرير المحسوس المعتقل من طرف الحداثة الأوروبية في جانبها الأكثر ظلمة أي الكولونيالية على حدّ توصيف لوالتر منيولو.

إنّ الاستطيقا الديكولونيالية هي بهذا الاعتبار «الجنوب المعولم»، وشعارها «نحن هنا لأنّكم كنتم هناك». إنّها مشروع جمالي يهدف إلى مواجهة عالم مثقل بالسلع والمعلومات التي تستعمر الحياة وتعتقل القدرات الحيوية الإبداعية والخيالية بتحويلها البشر إلى كائنات استهلاكية والعالم إلى سوق مطلقة مثيرة للغثيان. ومن أجل ذلك تقترح الديكولونيالية الاستطيقية تحرير المحسوس من خلال المراهنة على القضايا التالية:

- أوّلا: لا يتعلّق الأمر بنموذج واحد للكونية الإنسانية بل بكونيّات وعوالم وصياغات متعددة للحقيقة والسرديات والمسارات والذاكرات.

- ثانيا: إنّ السؤال الديكولونيالي إنّما يكمن في ما يلي: «كيف نستعيد إنسانيّتنا بعد أن تمّ السطو عليها أو إقصاؤها أو إدماجها، من طرف الغرب الاستعماري؟». وحينما نقول «إنسانيّتنا فنحن نقصد قدرتنا على اختراع نمط الإنسانية الممكن لنا» أي بدائل ابستمولوجية وإبداعية مغايرة. والمقصود بذلك: كيف ننصت ثانية إلى الأصوات التي اعتقدنا أنّها صمتت أو تمّ إسكاتها ؟ كيف نأخذ الكلمة مرّة أخرى في باحة الإنسانية الحالية؟ وتبعا لذلك فإنّ ما تراهن عليه الاستطيقا الديكولونيالية هو ضرورة الانفتاح على أنماط متعدّدة من الكينونة أي على كينونات وممارسات حيوية وروحية وإبداعية مغايرة. يقول واتر منيولو: «لقد حوّلنا أوروبّا إلى مجال تحليل بدلا عن مزوّد للمصادر الثقافية والابستمولوجية».

يشير علينا بابلو غوماز بتعريف للاستطيقا الديكولونيالية قائلا إنّها لا تتمثّل في استطيقا واحدة بل في جماليات متعدّدة»..وذلك من أجل تصميم فضاء جمالي يحافظ على الاختلافات والحوارات بين الاستطيقات المختلفة من أجل تخطي الكولونيالية المعولمة. لكن هذه الجماليات الديكولونيالية لا يمكنها ألاّ تأخذ بعين الاعتبار الفلسفات الأوروبية التي مهّدت لظهور جماليات الاختلاف والغيرية.. يكتب غوماز في هذا السياق ما يلي: «لذلك يأخذ الموقف الديكولونيالي بعين الاعتبار النقد الذي يوجّهه اليسار للرأسمالية ونقده الداخلي للاستطيقا، إنّ دافعه في ذلك لم يكن فقط مضادّة الرأسمالية».

تمثّل الديكولونيالية الجمالية ضربا من العصيان الجمالي للاستطيقا الغربية المعولمة، تلك التي تنزّل الفنّ الغربي في أقصى نقطة من سلّم الإبداع. ويتمثّل هذا العصيان الجمالي في توقيع جملة من أشكال مقاومة الحداثة الاستطيقية الغربية يمكن تجميعها في الأفكار التالية: أوّلا: اعتبار الاستطيقا موضعا نظريا مركزيا من كولونيالية الوجود والطبيعة، بوصفها استعمارا لمنطقة المحسوس.

- ثانيا: إعادة النظر في التمييز الاستطيقي الغربي بين الفن وما ليس فنّا، وذلك من أجل الإنصات لأولئك الذين تمّ تصنيفهم خارج دائرة الكولونيالية الجمالية بوصفهم لا يملكون ذائقة كونية أو غير قادرين على إنتاج فنّ وفق المعايير الغربية. لكنّ هذا لا يعني ضرورة إدماجهم داخل دائرة الاستطيقا الكولونيالية.

- ثالثا: ليست الديكولونيالية الجمالية موقفا كلّيانا نظريا مماثلا للاستطيقا الكلّيانية، إنّما هي موقف أنطولوجي يقوم على تعدّد البدائل وتعدّد صياغات الحقيقة. لذلك لا تقوم هذه الاستطيقا على التجديد كمعيار جمالي للإبداع لأنّ التجديد مقياس كولونيالي بامتياز بوصفه يتوافق مع مطلب السوق الرأسمالية.

- رابعا: إنّ الاستطيقا الديكولونيالية مطالبة أيضا بتحرير الذاكرة من الاستعمار في مجال الفنّ من أجل إعادة تنضيد «الجغرافيا السياسية للمحسوس» وذلك في أفق الاعتراف بتعدّد الجماليات والجغرافيات الإبداعية. وهذا يعني تحديدا التحوّل الابستمي من تاريخ غربي للفنّ إلى تاريخ عالمي للفنون. وهو تاريخ يفترض بالضرورة أنّ لكل الثقافات مسارات مختلفة للعالم المحسوس وتنضيدات رمزية خصوصية. وفي هذا السياق يصرّح غوماز «أنّه ضمن هذا التاريخ العالمي للفنون، لن يكون الفنّ غير فصل ولن يكون مركز السردية أو موضوعها الوحيد». وإنّ هذا التاريخ العالمي للفنون هو الذي سيحرّر الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا من الكولونيالية الغربية للوجود والمعرفة. حينئذ فقط يجد «المحلّي» مكانته الأساسية من أجل اللقاء بممارسات وذاكرات محليّة تهيّئ أفقا عالميّا لأزمنة مختلفة عابرة للحداثات وللجغرافيات.

لكن هل يمكن الخروج من الاستطيقا الكولونيالية ؟ وهل يمكن أن نخترع مقاييس جمالية خارج ترسانة النظريات الغربية ؟ يجيب غوماز بأنّ الاستطيقا الديكولونيالية لا تشتغل وحيدة على عصيان الخطّة الكولونيالية، بل هي تشتغل في الوقت نفسه الذي تعمل فيه مشاريع أخرى معرفية ووجودية من أجل التحرّر من السلطة الكولونيالية. ولأنّ كولونيالية السلطة قد تحوّلت إلى ذاكرة عمرها أكثر من 5 قرون، فبوسعنا مواصلة زعزعة نظام الهيمنة والتحكّم الكولونيالي، وذلك في أفق الإيمان بأنّ الكولونيالية ستصل إلى نهايتها أيضا. وبالرغم من أنّ الكولونيالية لا تزال مستمرّة، يمكننا دوما التحرّر منها حتى وهي تواصل ممارسة سلطتها علينا. إنّ الديكولونيالية مشروع طويل النفس يهدف إلى إنجاز فضاءات أفقية للترجمة والتعاون واللقاء بالآخر والإبداع الجمالي من أجل إعادة وجود وجغرافيا سياسية واستطيقية مغايرة.

لكن أيّ معنى للفنون الديكولونيالية؟

يتعلّق الأمر بمشروع عالمي عابر للحداثة، متعدّد الكونيات، متعدّد الأقطاب وغير غربي وغير رأسمالي. وذلك يعني أنّ الفنّ الديكولونيالي هو فنّ مترحّل علامته الأساسية شكل من الترحال وقدرة على اللقاء بالثقافات الأخرى وإتيقا الترجمة. ليست الديكولونيالية الجمالية بهذا المعنى دعوة إلى شكل من الأصولية الثقافية إنّما هي تنخرط ضمن إعادة كتابة للتاريخ العالمي بنقد المركزية الأوروبية كما يقرّ الفيلسوف والمؤرّخ المكسيسكي من أصل أرجنتيني إنريك دوسال الذي يدعو إلى «حداثة عابرة» في أفق مشروع تحرير إتيقي عالمي. يتعلّق الأمر بالبحث عن «قصّة أخرى» أو «سردية ثالثة» غير شيوعية وغير رأسمالية. وفي هذه القصّة ينبغي على الغرب نفسه تغيير سرديته حول نفسه بوصفه مطالبا بالانخراط في أفق ما بعد كولونيالي. أي هو مطالب بتغيير سلوكاته ومقاييسه الجمالية على نحو مضادّ جذريّا لسلوكاته ومعاييره ومساراته الاستعمارية. وذلك يتطلّب رسم «تاريخ أفقي للفنون» بحسب مفهوم لمؤرّخ الفنون البولوني بياتر بيوترويسكي.

تحرير المحسوس في ضوء المقاربة الديكولونية:

في أيّ معنى نحن مطالبون اليوم بتحرير المحسوس؟ أي ممّ نحرّر حواسّنا ومشاعرنا ومخيالنا؟ نحن في حرج ميتافيزيقي ازاء هذا السؤال. وذلك أنّنا نحتاج اليوم أوّلا إلى تحرير المحسوس بتأهيله واختراعه وتنشيطه بوصفه اختلافا ثقافيا نؤكّد به نمطا من الكينونة غير الغربية ونمطا من الجمالية غير الكولونيالية ونمطا من الكونية غير الأوروبية. لكنّنا نحتاج ثانيا إلى تحرير المحسوس أي الحياة الإبداعية والروحية والثقافية من كلّ نزعة أصولية أو هووية. فالتحرّر من الكولونيالية بوصفها الوجه المظلم من الحداثة الغربية لا يعني التحرّر من الغرب. ثمّة فرق شديد بين الغرب الاستعماري والنقد الفلسفي الأوروبي لكلّ أشكال استعمار الشعوب والعقول واستعبادها، واحتكار مجال الحياة بيد الهيمنة الرأسمالية وعولمة السلع. وبالتالي ليس الغرب فقط هو ما ينبغي أن نواجه هيمنته الثقافية على مشاعرنا وعقولنا وأجسادنا، بل الشرق أيضا بدياناته في وجهها المظلم أيضا الأصوليات بأشكالها. فتحرير المحسوس الديكولونيالي ليس دعوة إلى معاداة الغرب ولا هو عودة حنينيّة أصولية إلى شرق الإمبراطوريات والهيمنة البطريكيّة والمركزيات الدينية أو اللغوية.

خاتمة:

1) إنّ مهمّة تحرير المحسوس من وجهة نظر نزع الاستعمار الغربي الجمالي عنه، لا ينبغي أن يتضمّن إذن أيّة كراهية للغرب؛ لأنّ الكراهيّة هي العدو اللدود للفلسفة ولأي شكل من الإبداع. إنّما يقتضي فقط اعتبار الجماليات الغربية مجرّد فصل في تاريخ أنماط الكينونة في العالم.

2) إنّ تحرير المحسوس يعني فسح المجال أمام التجارب الفنية في جغرافيتنا الخاصة للتعبير عن نفسها بوصفها نماذج إبداعية مختلفة عن نماذج المركزية الأوروبية. لسنا مطالبين أن نحاكي بيكاسو كي نصبح رسّامين. أو أن نكتب مثل كافكا كي نصير روائيين. أو أن نمثّل شكسبير على مسارحنا كي نوصف بالمسرحيين. نحن مطالبين فقط بالانبثاق والتدفق ككائنات حيّة داخل مسارات حيويّة. إنّ تحرير المحسوس هو اللقاء بالأحداث الفنّية التي تحدث في جغرافيّتنا دون أن تحتاج إلى أيّة مباركة غربية أو شرقيّة.

3) علينا إذن أن نحرّر النزعة الديكولونيالية نفسها من كلّ أشكال سوء الفهم العالقة بها. في معنى أنّ تأكيد اختلاف تجارب المعنى في ديارنا، لا يعني تحوّل اختلافنا إلى تعلّة إرهابية لكراهيّة الغرب تحت راية هووية. «ليس الغرب عدوّا مطلقا لنا بل هو مجرّد جار ميتافيزيقي» وفق تعبير لفتحي المسكيني، وفق ديكولونيالية النوابت التي تنبت من لدن نفسها ضدّ منطق الإمبراطورية في كل مكان. وهو بيان ديكولونيالي يقول فيه المسكيني «أنّنا لسنا مطالبين بمعاداة الغرب بل بفرض اقتراح إيجابي عليه بوصفنا أندادا ثقافيين له».

4) وعليه فإنّ «العصيان المعرفي» للغرب حينما يتحوّل إلى ذريعة أصولية، سيسقط الديكولونيالية في قبضة الإرهاب الذي لا يؤسس لغير الخراب. وتبعا لذلك لا تكفي معاداة الحداثة كي يكون المرء ديكولونياليا.

5) إنّ المعنى الإنجازي الوحيد لجماليات ديكولونيالية يكمن في الاشتغال على الجغرافيا الإبداعية التي ننتمي إليها. وحده تثمين المسارات الفنّية للجماعة الثقافية التي تنتمي إليها على نحو إبداعي وحيويّ وسياسيّ كفيل بتحرير المحسوس من وجهة نظر ديكولونيالية.

***

د. أمّ الزين بنشيخة المسكيني

عن جريدة عُمان العُمانية، يوم: 30 أغسطس 2023

 

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.

***

ندى حطيط

عن جريدة الشرط الأوسط، يوم: 27 نوفمبر 2024 م ـ 26 جمادي الأول 1446

 

كاتب وفيزيائي وفيلسوف يسعون إلى معرفة الطبيعة النهائية للواقع

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: 4 ديسمبر 2024 م ـ 03 جمادى الآخرة 1446 هـ

الصورة المرئية هي أفضل وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية مهما كانت صعبة، لقد كتبت من قبل عن الفنانين الذين استخدموا السينما - أو التلفزيون - لتبسيط أفكار «الوجودية» أو «الرواقية»، وأظن أن الصورة ليست محصورة بأنواع معينة من الفلسفات، بل بإمكانها تقريب أي فلسفة ولو كانت فلسفة هيغل نفسه.

في تحفة ريدلي سكوت الأخيرة «المُجالد 2» هناك عدة فلسفات تتحدث وتتنافس، ولعله مما يزيد استمتاعنا بالفيلم أن نتعرف على تلك الفلسفات، عندما تنقل الشخصية الرئيسة مقولة: «إذا كنا في الوجود فإن الموت لن يكون موجوداً، وإذا جاء فعلاً فإننا لن نكون في الوجود»، وبالتالي فلا حاجة إلى الخوف منه لأننا لن نلتقي به أبداً، فأحدنا سيكون حاضراً والآخر سيكون غائباً. هذه المقولة لأبيقور، ونحن نعلم أن أبيقور أحد الفلاسفة الرئيسيين في العصر الهلنستي، الذي امتد على مدى ثلاثة قرون بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، وأرسطو في عام 322 قبل الميلاد.

يبدو أننا عثرنا على مقولة أبيقورية في بيئة رواقية، فالفيلم بجزئيه يسبح في بحر «الرواقية».

لطالما كان أبيقور عرضة لسوء الفهم، خصوصاً عند الحديث عن مذهب اللذة ونظريته في السعادة. يتضح هذا عندما ندقق في مذهبه، فالسعادة عنده هي العيش في سلام بعيداً عن الألم، وطعامه الخبز والماء، في حياة زهد تشبه حياة المتصوفة. كل ما يُنسب إلى أبيقور مما يدعو إلى العبّ من الملذات هو في الحقيقة من كلام أرسطبوس، تلميذ سقراط. ذلك الفيلسوف المنسي الذي كان يعيش المتعة فعلاً في حياته نديماً للملوك، ولا يكترث بأي علم لا يزيد من استمتاعنا بالحياة، ويقرر أن الحكيم لا يقلق ولا يكترث بالأمور التافهة.

وقد ارتفعت أسهم نسخة أرسطبوس المنقحة (أبيقور) في العصر الروماني لتكون إحدى ثلاث فلسفات مهيمنة في تلك الفترة. الثانية هي «الرواقية»، والثالثة هي «الشكوكية». بينما تراجعت كل الفلسفات الأخرى لتبقى في دائرة اهتمام النخبة فقط، لأن الإنسان العامي لم يعد مشغولاً بالوجود والفلك ومراقبة الكواكب ودراسة الحيوان، بقدر ما هو مشغول بالتخلص من الخوف والألم والجوع في أزمنة مضطربة.

كان الصراع بين «الأبيقورية» و«الرواقية» شديداً، فلا تسلك واحدة طريقاً أو تتبنى رأياً حتى تسلك الأخرى طريقاً غيره. و«الشكوكيون» يرفضون الجميع، وإن كان عداؤهم أشد للرواقيين. إلا أن الجميع متفقون على أن الفلسفة ليست لعباً، بل هي فن يهدف إلى تحقيق الشفاء الروحي، قبل أي غاية أخرى. ولا شك أن المسيحية كانت تنافسهن في الخفاء، حتى جاء نصرها الكبير عندما عُمد قسطنطين مسيحياً في القرن الرابع وأصبحت دين الإمبراطورية الرسمي بعد قرون من الاضطهاد.

«المجالد 2» لا ينطلق من العصر الهلنستي، بل بعده، من عصر الإمبراطورية الرومانية الذي ابتدأ سنة 27 قبل ميلاد المسيح. لقد حُسمت الحروب الأهلية والصراعات السياسية بانتصار أوكتافيان على ماركوس أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم في عام 31 قبل الميلاد، والغزو اللاحق لمملكة البطالمة في مصر. في عام 27 قبل الميلاد، منح مجلس الشيوخ الروماني أوكتافيان سلطة عسكرية شاملة، مما يعني توليه العرش كأول إمبراطور روماني.

وعاش الناس في أول قرنين من عمر الإمبراطورية فترة من الاستقرار والازدهار غير المسبوقين تعرف باسم «السلام الروماني»، ومن ضمن الأباطرة الذين حكموا كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي دعا للفلسفة الرواقية. يحاول الفيلم تصويره على أنه جمهوري أوصى بالحكم من بعده لمجلس الشيوخ. بينما الأقرب للصحة أن شيئاً من هذا لم يحدث، وأنه أوصى بالحكم من بعده لولده كومودوس، وأنه قد نكّل بالمسيحيين أشد تنكيل.

مع القرب بين الفلسفتين إلا أننا نلحظ بينهما اختلافاً. ففي «الأبيقورية» تتحقق السعادة بالسعي وراء المتعة الذي يُفهم على أنه غياب الألم والقلق، وتدافع عن الملذات البسيطة والصداقة، والفكر باعتباره مفتاح حياة الرضا. بينما ترى «الرواقية» أن السعادة تكمن في الفضيلة والعيش وفق الطبيعة والعقل، وتنمية السلام الداخلي بغض النظر عن الظروف الخارجية، ولا يعطون الأولوية للمتعة. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أن الفضيلة، ويعنون بها الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، هي الخير الحقيقي الوحيد، وأن الملذات الخارجية ليست ضرورية لحياة جيدة.

إدارة العواطف وفهمها ضرورية عند «الأبيقورية» لأنها يمكن أن تؤدي إلى الألم والاضطراب. ولذا تشجع على تنمية المشاعر الإيجابية متوسلة بالصداقة والتأمل الفلسفي. بينما تدعو «الرواقية» إلى السيطرة على العواطف ولا تدعو إلى ابتداع مشاعر إيجابية، بل تدعو إلى قبول ما هو كائن. المشاعر السلبية تنشأ من الأحكام الخاطئة، ولذا يجب على المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ على الاتزان وقبول ما لا يمكن تغييره.

وتؤمن «الأبيقورية» بمادية الكون، متأثرة بالمذهب الذري. يعتقدون أن كل شيء مصنوع من ذرات، وأن الآلهة لا تتدخل في شؤون الإنسان. بينما يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني منظم تحكمه سببية إلهية (لوغوس). إنهم يرون أن الكون مترابط ويؤكدون على أهمية قبول الفرد لمصيره كجزء من خطة عقلانية أكبر.

التركيز الأخلاقي في «الأبيقورية» يقوم على تكثير المتعة وتقليل الألم. ويتضمن ذلك دراسة متأنية لنتائج الأفعال على رفاهية الفرد ورفاهية المجتمع. فيما يقوم التركيز الرواقي على العيش الفاضل وقيام الفرد بدوره في المجتمع، وبالتصرف وفقاً للعقل والفضيلة، بغض النظر عن النتائج، هل هي سعيدة أم لا، وإن أدّت إلى حرمان الأم من ابنها.

***

خالد الغنامي

عن جريدة الشرق الأوسط، يوم: 2 ديسمبر 2024 م ـ 01 جمادى الآخرة 1446 هـ

كثيراً ما يعتقد أن قاعدة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تتشكل أساساً من المجتمع المحافظ والنزعة القومية المسيحية، في حين يهمل دور الوسائط الإلكترونية الكبرى التي انحازت رموزُها الكبرى، مثل إيلون ماسك، لمرشح الحزب الجمهوري الفائز. وفي هذا السياق كتبت «فلانتين فور» في صحيفة «لوموند» الفرنسية (15 نوفمبر) دراسة مطولة عن ما سمته «اليمين التكنو أميركي» الذي أخذ السلطة في الولايات المتحدة.

في هذه الدراسة تتحدث «فور» عن أثرياء سيلكون فالاي الذين دعموا بقوة ترامب في الاستحقاقات الأخيرة، لا من منظور نفعي برغماتي محض، وإنما انطلاقاً من نزعة أيديولوجية جديدة تجمع بين الطوبائيات الليبرتالينية والقيم المحافظة. لقد كان جل رجال أعمال التقنيات الجديدة من أنصار الحزب الديمقراطي، لكنهم على غرار ماسك انتقلوا بحماسة إلى الصف الآخر، واعتمدوا خطاب ترامب المناوئ للهجرة الخارجية والأفكار الهوياتية التفكيكية. «فور» تستشهد هنا بالمؤرخة ميا كاندل التي ترى أن «اليمين التكنولوجي» أصبح في الولايات المتحدة مركز السلطة، وغدا له تأثير قوي في بلاد يشكل فيها المال عصب الحرب الانتخابية. صحيح أن جل رجال أعمال التقنيات الجديدة، مثل بيل غيت (مؤسس «ميكروسفت») ولورين جوبس (أرملة مخترع «آبل»)، دعموا المرشحة «الديمقراطية» كاملا هاريس، لكن القلة التي وقفت مع ترامب كان لها نفاذ مباشر إلى المجال العمومي الاتصالي، وقد تمكنت بالفعل من إعادة تشكيله وضبطه وفق أهداف جديدة ملتزمة بالقضايا التي يتبناها اليمين الأميركي المحافظ.

لقد كان عالم التقنيات الجديدة بعيداً عن السياسة، وكان همه بناء مجال مفتوح من دون حدود ولا قواعد، يكون بديلاً عن عجز الساسة وفشل الدول، وفق رؤية ليبرتالية مناوئة لتدخل السلطات العمومية في الفضاء الاتصالي الذي كان يؤمل أن يقضي على التصدعات الأيديولوجية والسياسية، ويكرس أفقاً جديداً من الحرية والرفاهية. لقد كان هذا المنحى متناغماً مع الأفكار التقدمية اليسارية المدافعة عن «العولمة السعيدة». بيد أن طبيعة الثورة التقنية الجديدة تغيرت من خلال ظواهر غير مسبوقة مثل التشاركية في النقل والسكن وانبثاق مواقع التواصل الاجتماعي وما يرتبط بها من مخاطر الجريمة السبرنتيقية والتزوير الإلكتروني.

وهكذا غدا الاتجاه الليبرالي التقدمي ميالاً إلى ضبط ورقابة التقنيات الاتصالية الجديدة، خصوصاً بعد جائحة كورونا وتنامي دور الذكاء الاصطناعي في المعارف والممارسات الجماعية. ومن هنا ندرك كيف تحول قطاع التقنيات الجديدة من اليسار التقدمي إلى اليمين المحافظ، احتجاجاً على سياسات الرئيس بايدن وإدارته في الرقابة على الوسائط التكنولوجية في جوانبها الإعلامية والمالية (العملات الرقمية). وبالنسبة لرموز سيلكون فالاي، يجب أن يتطور التقدم التكنولوجي دون قيود مهما كانت آثاره السلبية على المجتمع، ومن هنا الحملة على الدولة المركزية وتدخلها «غير المشروع» في البحث العلمي والإبداع التقني.

لقد بدأت تبرز شيئاً فشيئاً أيديولوجية اليمين التقني الجديد من خلال مدونات وكتب ومواد مسموعة ومرئية تدافع عن قيم السلطة القوية والتحكم القهري والتفاوت الاجتماعي الاستحقاقي، وترى أن المال يجب أن يصرف في تطوير التقنيات المتجددة لا في التمييز الإيجابي أو الحد من الفوارق الطبقية.

وفق هذه الرؤية التي نلمسها بقوة لدى «بيتر ثيال»، مؤسس شبكة «باي بول» المتخصصة في الدفع الإلكتروني (في كتابيه أسطورة التنوع، والتربية على الليبرتالية)، لا يمكن الرهان على السياسة الانتخابية من أجل إصلاح المجتمع، لأن الشعب ليس جديراً بالثقة في القرارات الكبرى.

البديل الذي يقترح ثيال هو تكثيف الحرية الفردية في مجالات حيوية لا يمكن للسياسة أن تكون فاعلة فيها، مثل الشبكات الإلكترونية والفضاء والمحيطات، وتمديد أساليب التسيير التقني إلى المجال السياسي نفسه. ومن المعروف أن نائب الرئيس الجديد، جي دي فانس، قريب من هذا التيار وله علاقة وثيقة بثيال. وحسب تقرير لصحيفة «دي زايت» الألمانية (13 نوفمبر)، نجح فانس في تحوير الخطاب السياسي للحزب الجمهوري بنقله من النضال من أجل حرية التجارة والتبادل العالمي غير المقيد، إلى حرية الإبداع التكنولوجي ولجم تدخل الدولة في القطاعات الإنتاجية الحيوية وإنهاء دورها الاجتماعي الذي كان متمحوراً حول سياسات التمييز الإيجابي والعدالة التعويضية.

ما نخلص إليه من عرض المقالتين السابقتين، هو أننا نلمس مع الصفحة الجديدة من الترامبية بروزَ مقاربة أيديولوجية لدى النخبة التقنية تجمع بين مطالب الإبداع العلمي والتقني غير المقيد والقيم القومية المحافظة التي تعني في العمق رفض المنطق التنويري الملتزم للسياسة، أي الرهان عليها في توجيه المجتمع وصياغة أفكاره، وتقليصها في هدف حماية النسيج الوطني وصيانته من الشوائب الخارجية والمثل التغييرية الراديكالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 ديسمبر 2024 23:45

 

من أقوال رينيه ديكارت «العقل أعدل قسمة بين الناس» تعبير قلما يغيب عن أسماعنا. في نقاش عابر، حول موضوع ما، قد يطلقه ساخر أو غاضب، عندما لا يروق له ما يسمعه. «بلا فلسفة أو من غير فلسفة»، يعني بها قائلها، دعنا من الهراء، والكلام الذي لا يسمن، ولا يغني ولا يفيد. هكذا هي الفلسفة، عند بعض العامة. الفلسفة منذ بدايتها، أنتجت أعداءها. نضج الفكر الإنساني مبكراً في مدينة أثينا الإغريقية.

كان العقل قوة ضاربة، قارعت قوة السلاح والعنف والحرب. مع طاحونة الزمن، غاب سلاح إسبرطة، وبقي سلاح عقل أثينا يحرّك قوة تفكير البشر. إلى يومنا هذا، نحن نعيش بين إسبرطة وأثينا. أرسطو عقلُ وسؤال، فكَّر وقرأ وكتب. كل ما في الوجود في زمانه، كان حروف أسئلة تزدحم في رأسه. أُعدم سقراط بتهمة التطاول على جبال الأولمب. في كل خطوة، أو قفزة في رحاب الزمان، تتوالد أسئلة ساخنة، لا تبرد أبداً. كل فعل إنساني، هو من مواليد العقل، أي نتاج تفكير، وكل تفكير هو إبداع فلسفي. الأوروبيون والمسلمون العرب، انفتحوا مبكراً على الفلسفة الإغريقية. الكنيسة الكاثوليكية، أعلنت مبكراً الحرب على الفلسفة. تمسك رجال الدين بما جاء في النصوص، وحرَّموا كل اجتهاد فكري في تحولات الحياة. في أواخر العصور الوسطى ارتفعت الأصوات الصادحة بالفلسفة. توما الأكويني أطلق فهمه للعلاقة بين السماء والأرض، بأفكار من داخل الدين، وهو القسيس الكبير، الذي درس أفكار أرسطو وابن رشد. عند العرب أشرقت شمس الفلسفة مبكراً، وكان أبو يوسف يعقوب الكندي، تعبيراً عن مرحلة مهمة في التطور الفكري العربي، لكنه وُوجه بحرب، وصلت إلى حد تكفيره. عشرات الفلاسفة في أوروبا والبلاد العربية، كانوا هدفاً لضربات رجال الدين. أبو الوليد بن رشد، الفقيه والقاضي والفيلسوف، شارح أفلاطون، كان الإضافة الكبيرة إلى العقل الإنساني.

لاحقه الفقهاء المسلمون في الأندلس، وحُرقت كتبه، في حين انشدّ له المفكرون في أوروبا، وكان إضاءة فارقة في بداية عصر النهضة. العشرات من الفلاسفة والمفكرين، دفعوا حياتهم في معارك الفلسفة. وإلى يومنا هذا لم تتوقف هذه المعارك، في البلاد العربية، في حين تجاوزت أوروبا، هذه الحلقة المظلمة. الفلسفة هي القوة التي قدحت عبقرية العقل البشري. لم تتحقق نهضة في أي أمة، من دون زخم فلسفي، يفتح أبواب التطور في جميع الميادين، العلمية والسياسية والاجتماعية والقانونية. بعد اختراع المطبعة في نصف القرن الخامس عشر في ألمانيا، انتشر التعليم في أوروبا. القسيس مارتن لوثر، جمع بين العلم الديني والتاريخ والفلسفة، وثار على كنيسة روما الكاثوليكية، وترجم الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية.

بدأ زمن جديد بعقل جديد. بدأت مسيرة يحرّكها العقل، وتحدوها الفلسفة. برز في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مئات الفلاسفة والمفكرين، وانتصروا على هيمنة الكنيسة، وانطلقت الثورة في علم الفلك والطبيعة والطب والاقتصاد والسياسة والإدارة، وفتحت الأبواب للثورة الصناعية الكبرى، وتراجعت السطوة الديكتاتورية، وانكبّ الفلاسفة والمفكرون على إنتاج قوانين في السياسة والإدارة والاقتصاد. تخلقت دنيا جديدة بإنسان جديد.

قرون طويلة غطى فيها الظلام البلاد العربية والإسلامية، وتغولت محاكم التفتيش على العقول. المطبعة التي اُختُرعت سنة 1445 حُرّمت إلى سنة 1717 في كل البلاد الإسلامية، تحت الحكم العثماني. في تلك القرون المغلقة عربياً وإسلامياً، عبرت أوروبا إلى عصور جديدة.

منذ بداية القرن التاسع عشر، سقطت أغلب البلدان العربية، في قبضة الاستعمار، وغاب التعليم والتفكير والفلسفة، ساد الخطاب الفقهي الموروث، في مجتمعات غاصت في وحل الأمية. أصوات قليلة غامرت بطرح أفكار تنفتح على العصر الجديد، لكن قلما وجدت مستمعاً لها، بل لوحق بعضها وكُفّر.

في السنوات الأخيرة، حدثت هبَّة فلسفية في المنطقة العربية. العمل الموسوعي الضخم، للمفكر المغربي محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي»، فكَّك فيه ما اعتبره مكونات العقل العربي وهي، البيان والعرفان والبرهان. دار حول هذا العمل الضخم، نقاش واسع. المفكر جورج طرابيشي، قضى سنوات طويلة في دراسة ما أنجزه الجابري، ونشر كتاباً بعنوان «نقد نقد العقل العربي». فنَّد فيه بعض ما ذهب إليه الجابري. فلسفة النقد شكَّلت حيوية فكرية في أوروبا وأميركا. مدرسة فرنكفورت أسسها نخبة من المفكرين والفلاسفة، ولعبت دوراً تحديثياً في الثقافة والحياة الغربية.

المفكر المغربي عبد الله العروي، كتب سلسلة طويلة من الكتب عن المفاهيم. بحث فيها جملة من الموضوعات التي تحرك الفكر والحياة. شكَّلت أعماله إضافة مهمة إلى تحفيز التفكير في الفضاء العربي. محمد أركون، قام بمراجعات أكاديمية، للتراث الفكري العربي - الإسلامي. لم يتوقف الجهد الفلسفي، وشهد زماننا بروز قامات فكرية وفلسفية أضافت الكثير، منهم عبد الرحمن بدوي، وهشام جعيط، ومراد وهبة، وزكي نجيب محمود ورجب بودبوس، وغيرهم. المشكلة المزمنة عندنا، أن هذه الأعمال الكبيرة، لم تتنزل إلى العامة، وما زالت عبارة، «بلا فلسفة»، تفعل فعلها في رؤوس الكثيرين. ولا يزال زناد الجهل والتخلف والإرهاب، يقدح من دون توقف.

***

عبد الرحمن شلقم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 29 جمادي الأول 1446 هـ - 30 نوفمبر 2024 م

 

حَدَث واحد في حياة الفرد قد يُغَيِّر اتجاهه إذا كان يملك القابلية فيخرج من التحديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع وعلى سبيل المثال فإن هوارد قاردنر في السبعينات درَس علم النفس في جامعة هارفارد وكان الاتجاه السلوكي والتحليل النفسي يسودان مجال الدراسة وكان هذان الاتجاهان يسيطران على الجو الأكاديمي بأكمله ….

كان السلوكيون يركزون على تجليات السلوك ولا يهتمون بالعقل ولا بالدماغ لأن السلوك في نظرهم هو وحده القابل للقياس فالسلوكيون تجريبيون بشكل مُفْرط أما التحليل النفسي فكان غارقًا في المفاهيم الفرويدية أما الدماغ الذي هو جهاز العقل فلم يكن ينال اهتمامًا من كلا الاتجاهين ……

وبعد سنوات من حصول جاردنر على الدكتوراه في علم النفس ظل يحس بأن التعليم في أمريكا وفي كل العالم يعاني من قصور بنيوي يجعل نتائج التعليم مخيبة ولا تتلاءم مع الآمال المعقودة عليه وما يُبذَل فيه من وقت ومال وطاقة وانشغال فالخريجون بعد كل المراحل التعليمية لا يتعلمون حُسن التفكير الذي يجب أن يكون محور الاهتمام ولا يملكون المهارات المعرفية التي تتطلبها الأعمال والحياة ولكنه لم يكن يعرف طبيعة الخلل ولا مصدره .

وفي أحد الأيام استمع إلى محاضرة علمية عن ظواهر الدماغ وقابلياته العظيمة المفتوحة وعن الآفات التي تصيبه وما ينتج عن ذلك من اضطرابات وحالات غريبة وعجيبة فقَدَحَتْ هذه المحاضرة زناد عقله فاشتعلت فيه الرغبة العميقة في التعمق في مجال الدماغ والعقل أما المحاضر فهو عالم الأعصاب نورمان جيشويند …..

محاضرة واحدة قلبت حياة جاردنر وغيَّرت عقله وبدَّلت اتجاهه وبتغيُّره غيَّر الاتجاه الأكاديمي بأكمله فقد انبرى يتحدث عن العلاقة البنيوية بين العقل والدماغ وكان يواصل النقد الحاد لما هو سائد في جامعة هارفاد وغيرها من الجامعات فأحدث ذلك تغيُّرًا عميقا في موقف الجامعة فكلفته جامعة هارفارد بأن يرأس فريقًا من الباحثين لتحديد نوع الخلل وكيفية معالجته ……

واستمر الفريق يعمل برئاسة وإدارة وتوجيه وقيادة قاردنر واستغرق العمل عشر سنوات من أجل الاحاطة بهذا الموضوع المعقد وانتهى العمل بإصدار الكتاب الشهير الذي حرره قادرنر وكان بعنوان (أُطُر العقل: نظرية الذكاءات المتعددة) وقد ترجَمَه الدكتور محمد الجيوسي …..

صدر الكتاب عام ١٩٨٣ فأحدث استجابات واسعة وعميقة جعلت قاردنر مشهورًا ليس فقط في أمريكا وإنما في كل العالم وتمت ترجمة الكتاب لمختلف اللغات ودُعي قاردنر لإلقاء محاضرات في مختلف الجامعات في العالم ومُنِح العديد من الدكتوراه الفخرية من عدد كبير من الجامعات في مختلف الأقطار ……

ثم أصدر عددًا من الكتب من أهمها كتاب (تغيير العقل) وقد ترجمته الدكتورة معصومة أحمد. وله كتاب آخر بعنوان (خمسة عقول من أجل المستقبل) وقد ترجمته هلا الخطيب……

***

ابراهيم البليهي

عن جريدة المدى البغدادية، يوم: الخميس، 28 نوفمبر

 

أصبح الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

الوعي: مقدمة

Consciousness: An Introduction

المؤلّفتان:

Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر:

Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية: نُشر: 19:03-20 نوفمبر 2024 م ـ 19 جمادي الأول 1446 هـ

الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة عندنا فقط

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 24 نوفمبر 2024 م ـ 23 جمادي الأول 1446 هـ

من أقوال فريدريك هيغيل أن «الفكرة التي تزوجت في هذا الزمن، ستكون أرملة في الزمن القادم». فالزمن يتحرك، لكنه لا يغيب. قضيتان أو أمران، شكَّلا حلقات مهمة في مسيرة الفكر الإنساني. العقل والزمن. الفلاسفة صنعوا القوة المضافة الدائمة إلى قدرات الإنسان. العقل حقل الحياة، تزرع فيه بذور الفكر، وسماده المعرفة المتجددة، وماؤه الحرية. تنبت سنابل العصور المتحركة في حقول كل زمن، وتجود الأشجار بثمارها المختلفة. للزمن فصوله، ولكل فصل محاصيله، فلا يُزرع القمح في الصيف. للفكر غربال ينتخله. يسقط منه ما طحنته السنون، ويدفن في حفر الماضي. تنبت في حقول العقل بذور فكر جديدة، تسقى بماء آخر، ينبع من آبار زمن جديد.

منذ قرن مضى، طرح المفكر شكيب أرسلان، سؤالاً ناقوسياً لم تسكته السنون الطوال، لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟ تعددت الإجابات، لكن السؤال لم يصمت، وظل يطوف في قبة سماء دنيانا. في خيمة يستدير فيها بخور التخلف ويرتفع، يزداد الهيام به، ويموج بين الشهيق والزفير في زمن يدور حول ذاته. لا أظن أن هناك ما يمنعنا من طرح سؤال، قد يطرح عقولنا أرضاً، وهو كم عدد العلماء العرب الحاصلين على جوائز نوبل في مختلف العلوم؟ وما هي الأدوية التي تُصنع في الدول العربية، وما هو حجمها؟ ناهيك من صناعة الطائرات والسيارات، وحتى الملابس.

في كل يوم يبدع لنا مَن يوصفون، بالعلماء عشرات الممنوعات والمحرمات. البسوا ولا تلبسوا، قولوا ولا تقولوا، افعلوا ولا تفعلوا، اسمعوا ولا تسمعوا، انظروا ولا تنظروا. لماذا يا سادتنا العلماء، ليس بينكم من يحرّض الشباب على القراءة والبحث العلمي، ومن يقرأ مناهج التعليم ويدعو إلى اشتباكها مع دفق العصر الجديد! علماؤنا الحقيقيون، يفرُّون إلى دول تتجدد فيها أضواء الأنوار، يعلمون ويبحثون ويخترعون، في حين يهاجر من يصفون أنفسهم «بالعلماء» في أوطاننا، يهاجرون إلى حفر أزمنة أرامل، ويجرّون لها أجيالنا الوليدة، ويفتون لهم بما يهديهم إلى غيبوبة الجهل والتخلف والعنف والإرهاب. المرأة هي الميدان، الذي لا ينقشع غبار معاركه العظيمة، التي يخوضها علماؤنا. هي مجمع العورات الذي تلاحقه اللعنات المزمنة. السؤال الذي يفتح الأبواب لعشرات الأسئلة، هل سأل علماؤنا، عن عدد النساء اللاتي حصلن على جائزة نوبل، في مختلف المجالات؟ لقد فازت 16 امرأة بالجائزة للسلام، و14 امرأة في مجال الأدب، و12 امرأة في الطب وعلم وظائف الأعضاء، واثنتان في مجال الفيزياء. هذه القامات العظيمة التي وهبت للإنسانية، علماً دفع بها إلى زمن جديد، تراجعت فيه الأمراض، وانتصر عليها الطب، وتعملقت فيه القدرات العقلية للإنسان، ما زال «علماؤنا» يتصارعون على معضلة شعر رأسها، ولون ملابسها، وطبقة صوتها، إلخ!

أرتال الأفكار الأرامل، لم يعد لها وجود في دنيا الفكر الحي، وفي عالم الحرية المبدع الخلاق. أما في حفرة الجمود، حيث الركض إلى الوراء، فذاك الرتل الأعمى الأبكم، يزداد طولاً مع كل ظلمة ليل. يرشُّ في عقول الغافلين، رماد الجهل.

رتل الظلام الطويل، لا يرى حتى في حفر الزمن الأرمل، ما فيه من بريق ضوء. مقولة، الأصل في الأشياء الإباحة، يهيل عليها علماء الظلام رمادهم؛ لأن في هذه القاعدة أو المقولة، ما يفتح أبواب الفكر والتجديد. معركة قديمة تتجدد، وهي تحريم الموسيقى. يتبارى «العلماء» في مضمار تحريمها، وفيهم من ينهل من علم أبو حامد الغزالي، ويصفه بحجة الإسلام، لكن هؤلاء لا يستعيدون مقولة الغزالي في الموسيقى. حيث قال: «من لم يحركه الربيعُ وأزهارُه، والعودُ وأوتارُه، فهو فاسد المزاج، وليس له علاج». هل يقبل هؤلاء بحكم شيخهم الغزالي عليهم؟، فقد وصفهم بالفاسدين، الذين ليس لهم علاج. ليت من يحرّم الموسيقى، يتعب نفسه قليلاً، ويقرأ مدى تأثير الموسيقار الألماني العظيم، ريتشارد فاغنر على الفلاسفة والمفكرين والأدباء الكبار، سواء في عصره، أو بعد عصره. لقد حرَّكت موسيقى هذا الفنان الكبير، إبداعات وفكر وعلم، الروائي تولستوي، والفيلسوف نيتشه، والعالم آينشتاين وغيرهم. الموسيقى لغة الروح المبدعة. تبدع الوصل بين ما في النفس الإنسانية من انفعالات، وما تنقشه أنغام الدنيا، على خطوات الحياة البشرية.

لكي نكون في هذا الضجيج الإنساني المبدع، علينا أن نبدأ من جديد RESTART. نغادر حفرة الرماد العميقة المظلمة، ونرى أضواء الدنيا بعيون لا رمد ينخرها. نزرع بذورنا الجديدة في حقول العقل الخصبة، في فصول السنة الموسمية. نتعلم ممن سبقنا إلى زمن وُلد من رحم عصر، لم نكن فيه بعقولنا.

قال الراحلون القدامى: «من تمنطق فقد تزندق»، والعصر يقول اليوم، من لم يتمنطق، فقد تخندق في حفر الظلام البهيم.

***

عبد الرحمن شلقم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 22 جمادي الأول 1446 هـ - 23 نوفمبر 2024 م

 

"لا شك أننا نعيش فى عصر رقمي، تتسارع فيه التطورات التكنولوجية، بوتيرة غير مسبوقة، ولعل من أبرز التحديات التى نواجهها، تلك التى تتعلق بالتفاعل بين التكنولوجيا الرقمية والإيمان. وسوف أسلط الضوء فى مقالتين على التحديات والفرص والرهانات التى يجب أن نراهن عليها؛ لكى يجدد الإيمان من نفسه، كما جدد الدين من نفسه مع كل نبى جاء بعد نبي، ومع كل عالم ومفكر أراد أن يجدد إيمانه ليستمر حيا قويا، لنصل إلى رؤية مستقبلية حول هذا الموضوع. وهى الرؤية التى طرحتها أمام قيادات دينية عالمية فى المؤتمر الدولى «الإيمان فى عالم متغير» الذى عقدته رابطة العالم الإسلامى والرابطة المحمدية للعلماء فى المغرب تحت الرعاية الملكية.

وفى البداية، أود تأكيد أن الإيمان ليس مجرد شعور داخلى فى القلب معزول عن الواقع الخارجي، بل هو علاقة مركبة ومتشابكة ومعقدة بين القلب والعقل، وبين التجربة الشخصية والواقع الخارجي؛ حيث تتداخل فيها العقائد والمعتقدات، مع السياق الاجتماعى والثقافى والعلمي، بل يتداخل الإيمان مع متغيرات الحياة اليومية.

أولا ــ التحديات: فى عصر التكنولوجيا، نجد أن الإيمان يواجه تحديات جديدة. ومن هذه التحديات، أن التكنولوجيا الرقمية، قد تعيد تشكيل «مفهوم الجماعة الدينية»، وقد تفككت المجتمعات الدينية التقليدية. فقد كانت المجتمعات الدينية، فى الماضي، تتجمع فى أماكن مقدسة كالمساجد والكنائس والمعابد، لكن اليوم، تميل المجتمعات إلى التحول إلى «فضاءات افتراضية». هذا قد يؤدى إلى تآكل العلاقات الاجتماعية الواقعية داخل هذه المجتمعات ويضعف روح الجماعة التى كانت تمثل دعامة أساسية فى الإيمان.

على جانب آخر، نجد تداعيات ما نتج عن التكنولوجيات التواصلية من سيادة عمليات التسطيح الروحى وتراجع العمق الثقافي، فعلى الرغم من وفرة المعلومات الدينية على الإنترنت، فإن هناك تحديًا فى مدى عمق هذه المعلومات ومدى موثوقيتها، خاصة أن الانتشار الواسع للمعلومات الدينية السطحية أو المغلوطة، قد يؤدى إلى تشويه المفاهيم الدينية، ونشر الشكوك حول العقائد، وفى أحيان أخر قد يؤدى إلى انتشار التطرف أو زيادة الانقسامات والصراعات الدينية.

وإذا ذهبنا إلى الذكاء الاصطناعى والهندسة الجينية، نجد أن التكنولوجيا، تثير تساؤلات أخلاقية ودينية عميقة. هل يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل بعض جوانب الإيمان؟ هل يجب علينا قبول جميع التكنولوجيات المتقدمة إذا كانت تتعارض مع مبادئنا الأخلاقية والدينية؟ هذا التحدى يطرح أسئلة حول حدود التكنولوجيا وما إذا كانت الإنسانية مستعدة للتعامل مع نتائجها العميقة. ومن المفارقات والتحديات، التى تطرحها التكنولوجيا فى علاقتها مع الايمان، أنه على الرغم من أن التكنولوجيا تربط بين الناس فى الفضاءات الالكترونية، غير أنها قد تؤدى إلى العزلة النفسية والروحية عن الذات والعزلة الاجتماعية عن الآخرين، يقول كارل يونغ Carl Jung: «كلما تقدمت التكنولوجيا، زاد عزل الإنسان عن فهم ذاته». ومن أبرز التحديات التى يطرحها التقدم التكنولوجي، تآكل القيم التقليدية، حيث تشهد المجتمعات تغيرات سريعة فى القيم، ويا ليتها تغيرات نحو أخلاق التقدم، بل هى تغيرات نحو تحلل القيم الإنسانية العليا.

ثانيا ــ الرهانات والفرص: والسؤال هو: ما الرهانات والفرص المرتبطة بالتكنولوجيا، وكيف يمكن أن يدعم التقدم التكنولوجى الإيمان، ويدعم الإيمان التقدم العلمى بعامة؟

من وجهة نظري، أن التكنولوجيا التواصلية عملة لها وجهان، ويتوقف تأثيرها على طبيعة المتعامل معها؛ فهى قد تدفع البعض للانفتاح والحوار والتسامح والإيمان بالتنوع والتعددية، وقد تدفع آخرين لمزيد من التعصب ضد الآخرين، ويعتمد ذلك على طريقة وكيفية استخدام الناس لهذه التكنولوجيا، وعلى القيم والمعتقدات التى يحملونها من قبل.

لكن مما لا شك فيه أن التكنولوجيا كأداة توفر إمكانات واسعة لتعميق التجربة الإيمانية ونشر المعرفة الدينية بطرق مبتكرة، مما يمكن أن يسهم فى تعزيز الإيمان وارتباط الأفراد بالمجموعات الدينية، وشواهد ذلك على النحو التالي: لقد أتاحت التكنولوجيا، منصات رقمية، تسهل التواصل بين المجتمعات والأفراد حول العالم، وتعطى فرصة لتعزيز التفاعل والانفتاح بين الأديان، حيث أصبح بإمكان الأديان المختلفة التفاعل مع بعضها بعضًا بطرق لم تكن ممكنة من قبل. هذه البيئة الرقمية تفتح المجال لكى يعرف الجميعُ الجميعَ. وإذا نضجت القلوب والعقول، فقد يؤدى هذا إلى حوار فعال بين الأديان، وحوار بين التيارات والمذاهب فى داخل كل دين، كما يفتح المجال للتبادل الثقافى والفكري، مما يسهم فى تعزيز الفهم المتبادل وتقبل الآخر. لكن من أسف تحولت هذه الميزة التكنولوجية كأداة إلى فرصة جديدة للمتطرفين لبث سمومهم. ومن حسن القدر، أن التكنولوجيا وسعت فرص إمكانية الوصول إلى مصادر المعرفة الدينية، ويمكن اليوم، عبر الإنترنت، لأى شخص، الوصول إلى مكتبات ضخمة من الكتب الدينية، والشروحات، والمحاضرات المرئية والمسموعة. ويمنح هذا الوصول السهل للمعرفة الدينية الأفراد الفرصة لتعميق فهمهم لدينهم أو لاكتشاف أديان أخرى. ويمكن لعلماء الدين الوصول إلى رؤى جديدة أو اكتشاف علاقات لم تكن واضحة من قبل، مما يسهم فى تطوير الدراسات الدينية والفلسفية.

وقد ساهمت التكنولوجيا فى تجاوز الحواجز الجغرافية والزمنية فى التعليم الديني، مما يعزز التجربة الإيمانية للفرد. كما يساعد فى بناء مجتمعات دينية رقمية وتبادل الأفكار والتجارب الروحية. ومن خلال التفاعل الذكى مع الأسئلة الدينية، يمكن تطوير تطبيقات أو برامج مساعدة ذكية تتيح للأفراد طرح الأسئلة حول الدين والإيمان والحصول على إجابات مدعومة من مصادر موثوقة، مما يساعدهم فى تجاوز الشكوك وتعميق الإيمان. من جهة أخرى، يتيح التقدم التكنولوجى بناء مجتمعات دينية رقمية من خلال التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى وإنشاء مجموعات وصفحات دينية تسمح لأفراد المجتمع بمشاركة الأفكار والخبرات الروحية، وتبادل الدعم والإرشاد. وتمكن هذه المساحات الافتراضية، الأفراد من التواصل مع المؤمنين الآخرين حول العالم، مما يسهم فى تقوية الإيمان الذاتى بالله تعالى كمدبر أعظم لا يمكن تصور معنى للحياة بدونه. سبحانه لا نحصى ثناء عليه".

عن صحيفة الأهرام المصرية، يوم: 3/11/2024

***

 (2)

"هل التقدم التكنولوجي الرقمي لصالح الإيمان أم الإلحاد؟

لا يؤدي التقدم التكنولوجي بالضرورة إلى الإلحاد أو الإيمان، وإنما يفتح المجال لتنوع أكبر في التوجهات الفكرية والدينية. إن التكنولوجيا تمنح الناس "وسائل" و"أدوات" جديدة للاستكشاف والتفكير، مما قد يقود البعض إلى تعزيز إيمانهم، بينما قد يدفع البعض الآخر للتشكك أو تبني مواقف غير دينية، وعلى سبيل المثال، بالنسبة للبعض، يمكن أن يكون التقدم في العلوم دليلا على وجود قوة إلهية عليا مدبرة، بينما قد يرى أخرون في هذا التقدم، لا سيما مع التفسير الميكانيكي للكون، تعبيرًا عن عدم الاحتياج لقوة عليا مدبرة.

وبالتالي، يمكن القول إن التقدم التكنولوجي له تأثيرات معقدة ومتعددة الأبعاد على الإيمان والإلحاد، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة حسب السياق الثقافي والاجتماعي للفرد.

لقد أثبتت علوم الأحياء أن البقاء للأصلح، والأصلح هو الأكثر قدرة على التكيف، ومن ثم فإن التحديات التي تضعها التكنولوجية أمام الإيمان، تدعونا إلى وجوب النظر والتأمل في طرق التكيف مع عالم يتغير باستمرار، تدعونا لتجديد أمر الدين في كل عصر طبقا للنبوءة الحكيمة من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حتى وإن استلزم الأمر "تأسيس عصر ديني جديد" كما قلنا في كتاب لنا بهذا العنوان.

 إن العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى، على حد تعبير ألبرت أينشتاين في مقال له بعنوان "العلم والدين Science and Religion"، إن العلم دون قيم دينية يصبح أعرجًا، حيث يفتقر العلم إلى المعنى الشامل للوجود والتوجيه الأخلاقي، بينما يكون الفكر الديني (وليس الدين نفسه من وجهة نظري) بدون العلم أعمى؛ لأنه قد يفتقد القدرة على مواجهة حقائق الطبيعة. وهنا يجب ان يتحلى علماء الدين بقدر كبير من المرونة والقدرة على التكيف مع وقائع وحقائق الطبيعة التي يكتشفها العلم.

ومهما تقدمت التكنولوجيا؛ لكن الحقيقة الإيمانية لا يمكن الهروب منها. إن التكنولوجيا تفتح أبوابًا جديدة، ولكنها لا تلغي الحاجة إلى الإيمان، كما يقول سورين كيركغارد. ومن هنا فإنه يجب على العلماء احترام دور الدين في تقديم المعنى والقيم، كما ينبغي على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح الحقائق الطبيعية والكونية. وقد وقع صاحب كتاب "قوانين الله أم قوانين الطبيعة؟"، في مغالطة ضخمة عندما ظن أن علينا الاختيار بين بديلين: قوانين الطبيعة أو قوانين الله، ظنا منه أنهما مختلفتان ومتعارضتان. وهذا فهم غريب؛ لأن قوانين الطبيعة هي قوانين الله، والله تعالى هو الذي جعل الطبيعة تسير وفقا لهذه القوانين: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، أي بقانون. وقوانين الطبيعة ذاتها دليل على وجوة قوة عليا مدبرة. ولا يجب أن نظن أن العلم الذي يكتشف قوانين الطبيعة، في مواجهة الله، بل إن العلم هو محاولة لاكتشاف طريقة عمل الله في الطبيعة. ولهذا قلنا إنه يجب على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح حقائق الطبيعة. 

إن الإيمان يحتاج في هذا العصر إلى التكيف مع العلم، دون أن يفقد جوهره، ودون أن يدخل في صراع مع العلم. وهذا قد يتطلب تجديدًا في كيفية تفسير النصوص الدينية، حتى يمكن للإيمان أن يبقى حيًا ويتفاعل مع الواقع الحالي ومع تطور العلوم دون أن يتخلى عن جوهره. وما العلوم إلا اكتشاف لأعمال الله في الطبيعة. وهذا دور العلم وليس دور الدين؛ فالعلم دوره البحث عن العلل القريبة، والدين دوره تقديم المعنى الكلي البعيد، والعلة النهائية القصوى. 

وفي الوقت الذي يواجه فيه الإيمان تحديات كبيرة تتعلق بمتطلبات العصر الحديث، فإنه يمتلك القدرة على التكيف وتقديم إجابات جديدة للتساؤلات الوجودية العميقة، مما يجعله ضروريًا حتى في هذا الزمن المتغير، بشرط تطوير نظم التعليم الديني لكي تخرج من عصر المتون والحواشي إلى عصر العلوم الإنسانية والاجتماعية.

إذن، من الضروري أن يتبنى علماء وفلاسفة الدين رؤى تتيح للإيمان أن يكون ديناميكيًا ومرنًا، قادرًا على تقديم الدعم والإلهام في عالم دائم التغير. إن التمسك بالتراث وحده، دون التفاعل مع العصر، قد يُضعف من قدرة الإيمان على تلبية احتياجات المؤمنين المتجددة، ويجعل الخطاب الديني يبدو غير قادر على مواجهة التحديات الجديدة. في المقابل، فإن التجديد الحكيم والمتوازن يتيح للإيمان أن يكون أكثر قدرة على مواصلة الحياة في العصور الجديدة.

هكذا يبقى التفاعل بين الإيمان والتكنولوجيا متعدد الأبعاد، مما يضعنا أمام مفترق طرق، إما التعاون والتعايش والتسامح تجاه الاختلافات بين المسارين، وإما الصراع الذي سوف يخسر فيه الجميع. ويستوجب منا ذلك إعادة النظر في كيفية فهمنا للإيمان في ضوء التكنولوجيا.

إننا نعيش في عالم رقمي سريع التغير، وأصبح أكثر سرعة بعد انتشار الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن نضيع وسط تلك المتغيرات العنيفة إذا لم يكن لنا مرتكز نرسو عليه كلما أبحرنا في هذا البحر المتلاطم بالحقائق والأكاذيب معا. وهنا يُعدّ الإيمان بمثابة مرسى يمكن أن تمنح الأفراد الاستقرار والمعنى".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام، الأحد 17 نوفمبر 2024:

قلْ لي كيفَ تعيش أقلْ لك من أنت. تخطرُ العبارةُ على البال حين ترى الآلافَ من علب الشوكولاته مصفوفةً على الرفوف في متاجر باريس، استعداداً لأعياد الميلاد قبل شهر من موعدها. وهي ملونة حسب المذاق: بالحليب الدسم لأصحاب الشراهة، أو سوداء لذوي الحمية الغذائية ومرضى السكريّ. سادة أو بالفستق والزبيب. مستوردة مادتها الخام من ساحل العاج أو غانا أو إندونيسيا. تنفق فرنسا نحو 4 مليارات يورو على استيراد 400 ألف طن منها في العام الواحد.

في هذه البلاد نادٍ لعشاق الشوكولاته، يجتمع أعضاؤه مرتين في الشهر لكي يتذوقوا أحدث المنتجات من هذه المادة التي تأتي من وراء البحار. ويستهلك الفرنسي ما معدله 8 كيلوغرامات منها في العام. فإذا كان ممن يستهلكون أكثر من ذلك، أي ما زاد على كيلوغرام واحد في اليوم، فإنه يستحق لقب «شوكولوتومان». وهي مفردة موجودة في المعجم لوصف الشخص المدمن على هذه الحلوى.

هناك في فرنسا من يبحث في القمامة عن كسرة خبز جافة، وهناك من يفطر على الكرواسون المدهون بالزبدة والعسل، ويتغدّى كبدة البط، ويتعشى شرائح سمك السالمون والكاڤيار، ويحلّي بعد العشاء بكعكة الشوكولاته. وفي بلاد العالم كلها ترى الفقير والغني. لكنك لا تتصوّر أن ترى في بلد حقوق الإنسان طالبات جامعيات يمارسن الدعارة لحين الفوز بالشهادة والحصول على عمل. وفي كل بلاد العالم هناك أسواق للثياب المستعملة لكنك لا تصدّق عينيك حين ترى في باريس العشرات منها، حتى في الأحياء الراقية. وقد تزايدت مواقع بيع وشراء تلك الثياب على الشبكة حتى حصل بعضها على شهرة تفوق شهرة المتاجر الفخمة.

غلاء معيشة في العالم كله؟ نعم. وقد يكون وارداً في الدول الفقيرة لكنك تعجب حين تسمع في الأخبار أن نسبة كبيرة من الفرنسيين يقضون الشتاء متدثرين بالبطانيات في بيوتهم بسبب ارتفاع ثمن الغاز والكهرباء. وبلغة الأرقام فإن 74 في المائة يقللون من استخدام وسائل التدفئة لأن الفاتورة باهظة.

تزداد لغة الأرقام قتامة حين تعرف أن 737 مشرداً مات في فرنسا خلال العام الماضي، أي في الحدائق العامة أو على الأرصفة، بسبب البرد. يتناول غالبيتهم كحولاً رخيصاً لكيلا يتجمدوا في العراء. هناك أماكن إيواء تفتحها الدولة في الشتاء لكنها لا تستوعب سوى نسبة قليلة من مئات آلاف المشردين الذين لا يجدون سقفاً. وقد لا يكون الحال أفضل في دول أوروبية مجاورة، أو حتى في الولايات المتحدة واليابان. وها هو ولي عهد بريطانيا الأمير وليام يقرر أن يجعل من توفير المأوى هدفاً رئيسياً له.

أتذكّر أغنية شجيّة ذات لحن حزين، من المألوف الجزائري، تقول كلماتها: «وين نباتو إذا طاح الليل... وين نباتو يا للّي أمان».

***

إنعام كجه جي - صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 16 جمادي الأول 1446 هـ - 17 نوفمبر 2024

 

في اليوم العالمي للتسامح

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.

***

خالد الغنامي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 نوفمبر 2024 م ـ 18 جمادي الأول 1446 هـ

بعد فوز الرئيس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كتب المفكر ذائع الصيت «فرنسيس فوكوياما» مقالاً مطولاً بعنوان «ماذا يعنيه صعود ترامب بالنسبة لأميركا» («فايننشيال تايمز»، 8 نوفمبر)، يمكن اعتباره نكوصاً صريحاً عن أطروحته الشهيرة حول نهاية التاريخ وما يترتب عليها من انتصار حتمي للنظام الليبرالي عالمياً.

في المقال المذكور، يذهب فوكوياما إلى أن أهمية انتصار ترامب والحزب الجمهوري لا تكمن فقط في التحولات الاستراتيجية المنظورة اتجاه قضايا الساعة الملتهبة، بل تعني في عمقها رفض الناخبين الأميركيين القاطع لليبرالية وما تقوم عليه من تصور للمجتمع الحر. لما وصل ترامب إلى السلطة في عام 2016 اعتبر الكثيرون أنه حالة استثنائية سرعان ما تنتهي وتعود الولايات المتحدة إلى ثوابتها الطبيعية، وقد عزز نجاح خلفه بايدن في الانتخابات التالية هذا الانطباع، لكن أصبح من الجلي اليوم أن بايدن هو الاستثناء وليس ترامب الذي يعبِّر عن تحول جذري في المجتمع الأميركي.

لقد قامت الليبرالية الكلاسيكية - حسب فوكوياما - على احترام الكرامة الإنسانية المتساوية عن طريق دولة قانون تحمي الحقوق وتحد من تدخل الدولة في حرية الأفراد. إلا أن الخمسين عاماً الأخيرة شهدت نمطين من الانحراف داخل النموذج الليبرالي، هما: انبثاق «الليبرالية الجديدة» التي تغلِّب منطقَ السوق على واجب حماية الأفراد من مساوئ الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط، بما نجم عنه انهيار الطبقة العاملة وانتقال الثورة الصناعية إلى آسيا وأصقاع أخرى من العالم النامي، وانبثاق السياسات الهوياتية التي تبرز اليوم في موجة «اليقظة» (woke)، بما انعكس في تراجع الاهتمام بالشغيلة وتركيز النظر على الفئات الجندرية والعرقية والمهاجرين.

وهكذا لم تعد سلطة الدولة تستخدم في إقامة العدالة غير المتحيزة، وإنما في التمييز الإيجابي لصالح هذه المجموعات الخصوصية. وفي الأثناء، تحولت أسواق العمل إلى نمط من الاقتصاد المعلوماتي، بما استفادت منه النساء اللواتي سيطرن على مسالك الشغل الإلكتروني وعززن موقعهن الاجتماعي. وهكذا نجم عن هذه التحولات تبدل جوهري في القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، فانفصلت الحركة العمالية عن أحزاب اليسار التي غدت تتشكل أساساً من السياسيين المحترفين والإطارات المدينية العليا، وأصبحت هذه الحركة داعمة لليمين المحافظ. وفي أوروبا على سبيل المثال، تحوّلت القاعدة العمالية إلى أحزاب اليمين المتشدد كما هو الشأن في فرنسا وإيطاليا.

وفي تحليله لهذه الظاهرة، يذهب فوكوياما إلى أن هذه المجموعات تمردت على نظام للتبادل الحر يقضي على وسائل العيش الأدنى، في الوقت الذي يخلق فيه طبقةً من الأغنياء المترفين، كما نزعت ثقتَها من الأحزاب التقدمية التي يبدو أن تركيزها أصبح على المهاجرين وقضايا البيئة وليس على حقوق ومطالب الشغيلة. ما جرى مؤخراً في الولايات المتحدة هو مصداق هذا التحول، حيث استفاد ترامب من دعم الناخبين البيض من الطبقة العاملة، وقد التحق بهم الناخبون السود واللاتينيون خصوصاً من الذكور، بما يعني أولويةَ الطبقة الاجتماعية على الأصول العرقية أو الإثنية.

إلا أن الأهم من ذلك كله، هو تخلي الناخبين الأميركيين عن النظام الليبرالي محلياً ودولياً، سواء تعلق الأمر بالليبرالية الجديدة وموجة اليقظة أو بالليبرالية الكلاسيكية التي هاجمها الرئيس المنتخب بوضوح. لا بد من تصديق ترامب عندما يتعهد بوضع حد لنظام السوق الحرة من خلال التشريعات الحمائية وكبح الهجرة الخارجية المرتبطة تاريخياً بحيوية النظام الاقتصادي الأميركي. كما أن كل المؤشرات تدل على أنه سيتعرض للفصل بين السلطات، بما سيحدِث تحولاً عميقاً في النسق المؤسسي الأميركي.

وعلى الساحة الخارجية، سيعمل ترامب على إنهاء الشراكة الأمنية والاستراتيجية الخاصة مع أوروبا، وقد يتقارب مع روسيا على حساب المصالح الأوكرانية، بما يحدث تحولاً كبيراً في طبيعة المنظومة الليبرالية العالمية، أي تحالف الديمقراطيات الغربية. تلك هي الخلاصات التي يصل إليها فوكوياما في تحليله لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

وكما هو واضح، فقد تخلى صاحبُنا عن مقاربته السابقة في استكناه مسار الليبرالية العالمية، وظهر له أن ديناميكية العولمة بقدر ما دفعت وحدة السوق وتحرير التجارة ولّدت إشكالياتٍ مجتمعيةً جديدةً أصبحت اليوم هي الإطار المحدِّد للحركية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية. وليست لحظة ترامب سوى التعبير عن هذا التحول النوعي الذي لم ينتبه إليه كثيرون في البداية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 نوفمبر 2024 23:37

اختلف النّاس في الحياة وتنازعوا في الإقبال والإعراض عنها، فلا هُمْ ثبتوا لها على طبيعة واحدة، ولا هم أقبلوا عليها بطريقة واحدة، فمنهم من يحرص على الحياة، ومنهم من يحرص على حياة، ومنهم من يعمل جهده للخروج من الحياة، وبين هذا وهذا تبرز هذه الوضعية القلقة الوجودية التي يعيشها هذا الكائن الإنساني المحدود في الْهُنَا.

عرّف أرسطو الحياة بأنها عند الحيوان القدرة على الإحساس، وعند الإنسان القدرة على الإحساس والفكر، وفي القرآن الكريم أن طبيعة الإنسان مجبولة على حبّ الحياة، شلالا متدفقاً يخرج مما يستمتع به الإنسان من شهوات يستمرئها، من أشخاص وجودية، إحساسات ومشاعر أفكارا. واعتبر أرسطو الشعور بالحياة من بين اللّذات السّارة بذاتها، لأن الحياة بطبعها أمر جيد، والشعور بأن المرء يملك ما هو جيد هو شيء في حد ذاته لذيذ.

إن الحياة مطلوبة للجميع، لكن أي حياة؟ ميز الفلاسفة قديماً بين أنواع ثلاثة من الحياة، حياة اللذة، وحياة الكرامة، وحياة الفكر، فمن النّاس من يجد حياته في الاستمتاع باللّذات الجسمانية المختلفة، معتبراً أن الوجود قصير، واغتنامه اللذائذ هو الطريق الأنسب لحياة مفعمة بمشاعر قوية سارة تجعل الحياة ذات معنى. ومن النّاس من يعتقد أن الحياة في البحث عن مكانة بين الناس، تجعله يشعر بالافتخار أنه مطلوب ومرغوب فيه، وهذه الكرامة عند أرسطو يجدها المرء في الخيرات المادية التي يجمعها وتبوؤُه المكانة العليا عند الناس، وقد يجدها البعض في ترك الحياة ذاتها والتضحية بها من أجل الوطن، كما يصنع الجنود، وفي ذلك سرور عنده عظيم.

ومن النّاس من يذهب إلى أن الحياة في التّأمل في أحوال الدنيا وفي القضايا الشائكة التي يمور بها الوجود، فهناك تجد الحياة كمالها، فالحياة لا تكتمل إلا عند كمال الفكر، والفكر لا يكمل إلا في حياته بالتأمل ومطالعة الكتب والحوار بين الفضلاء والإقامة في المراكز العلمية، وهذا دَيْدن قادة الفكر عبر العصور وعند جميع الأمم. لكن الغريب، أن بعض الناس، يتبرمون من الحياة، إما لعلة نفسية، تجعل الملل الرفيق في كل حركة، كما يعرف ذلك مرضى الأرونيكسي، مما يجعلهم لا يطيقون الحياة فيجهدون في الخروج منها.

وإمّا لعلة جسمية نفسية، وأخيراً رأينا الخروج التراجيدي من الحياة لأكبر ممثل سينمائي في القرن العشرين في فرنسا، ألان دولون، بعد أن تكالبت عليه العلل، وقد عاش حياة، كما صرح بنفسه، لم يشته فيها شيئاً إلا أتاه، ولمّا لم يعد يجد في حياته ما يغريه بالبقاء فيها، اختار الموت الرحيم. وكثير من الناس أصبحوا يختارون هذا الموت، وكأن الحياة لم تعد خيراً بذاتها وإنما هي خير بأعراضها، فإذا ذهبت أعراضها ذهبت. وقد أصبح وباء الاكتئاب يحصد الأرواح بشكل مهول، وهو مرض يفسد النظر إلى الحياة، فيريها قاتمة وهي مبهجة، ويرى ذوقها مراً، وهو في ذاته لذيذ.

إن الحياة في ذاتها أمر لذيذ وحسن، وإنَّ بحث الناس عن إكسير الخلود لأكبر دليل على ذلك، وقديماً أوتي آدم عليه السلام من قبل نزعة الخلود: {قال ما نهاكما ربكما عن تلك الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} الأعراف:20، وملحمة جلجامش مغامرة في البحث عن الخلود، وهي تُعبِّر عن الأشواق العميقة للإنسان للبقاء الأبدي.

لكن لما أدرك الإنسان أن الحياة تتسلل من بين يديه خلسة وأنه لا محالة فاقدها، شرع في التصالح مع الموت، فكانت الفلسفة، كإبداع إنساني كبير، بلسم الجرح الكبير، الجرح الذي لا شفاء منه، جرح الخروج المحتَّم من الحياة.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 نوفمبر 2024 00:22

«المدينة على الجبل» تعبير إنجيلي ورمزي لمدينة البراءة والطهر. وقد استعار العبارة المهاجرون الأوائل الذين غادروا أوروبا إبان صراعاتها الدينية إلى بيئة الخلاص في براري أميركا وسهوبها العذراء. وعبر القرون استُخدم التعبير بمعنيين مختلفين فالمحافظون (حتى قبل الأحزاب السياسية) رأوا تفردها بمنأى عن أنظار العالم وشروره. والليبراليون اعتبروها صاحبة رسالةٍ للهداية ونشر أنوار الحرية على مدى العالم.
ماذا يمثّل الرئيس دونالد ترمب في ضوء الرمز الإنجيلي، وبأي تفسير أو تأويل؟ الرجل غير معروفٍ بالتدين، لكن معظم المتدينين الإنجيليين معه، بل أضيفت إليهم كتلة معتبرةٌ من الكاثوليك هذه المرة على وجه الخصوص. ويصرّ المراقبون على أنّ الأميركيين يقع الاقتصاد وتكاليف المعيشة في أولويات اهتمامهم، وهم يأملون أن تتحسن أوضاعهم في الفترة الثانية للرئيس ترمب. بيد أنّ هذا الحدث البارز له سياقٌ عامٌّ منذ عهد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي. وقد كانت لدى ريغان تصورات دينية بشأن نهايات العالم. وليس نهايات الاتحاد السوفياتي أو إمبراطورية الشر فقط! ومرةً أخرى لا يبدو أن لدى ترمب الدنيوي جداً أيَّ تصوراتٍ ماورائية، لكنّ المتدينين وفئات أخرى ربما يحمّلونه همومهم الدينية وليس المعيشية وحسب. فلا ينبغي أن ننسى قضايا ومشكلات الأُسرة والجنوسة وتبديل الجنس والإجهاض، وترمب يشاركهم وبوضوح في نصرة هذه القيم المحافظة.
مضت عقود على حملات اليمين واليسار على قيم وترتيبات التنوير الأوروبي والأميركي، والتي قام عليها نظام العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وشاع لدى الفلاسفة الفرنسيين (والأميركيين) الجدد اعتبار أنّ تلك المبادئ والقيم كانت حافلةً بوجوه القصور وشكلت تغطيةً لزمن الاستعمار من زمن الليبرالية واقتصاد السوق بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتبشير بالانتصار النهائي للديموقراطيات في زمن العولمة ووسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي. فقد رأى فيها هؤلاء ومنذ إدوارد سعيد وتيار التابع والمحافظين الجدد والإنجيليين الجدد مصيراً بائساً لإنسانية الإنسان وغربته ودمار البيئة والحروب العبثية التي اندفعت باتجاهها الولايات المتحدة وخصومها في روسيا والصين. ثم ما لبث أن التحق بهؤلاء جميعاً كبار مفكري الاقتصاد بعد الأزمة العقارية في الولايات المتحدة التي صارت عالمية (2008 - 2009).
إيمانويل تود وآخرون تحدثوا عن انهيار الغرب. ومن ضمن هؤلاء مفكرو النظام الأميركي أو القرن الأميركي مثل ستغلتز وجوزف ناي وميرشهايمر وحتى فريد زكريا. وهؤلاء يقيسون حالة العالم على حالة الولايات المتحدة التي يسودها انقسام داخلي عميق، وتمردات على سيطرتها في أنحاء العالم، وقد واجهت أميركا - مفارقةً آيديولوجيا القوة الناعمة - التحديات المستجدة بالحروب واستخدام القوة أو التهديد بها. وقد كان المعهود أن يعقب الحرب القصيرة أو الطويلة سلامٌ مؤقتٌ أو طويل، أمّا العقدان الأخيران فيشيران إلى أن الحروب الأميركية بدعوى إحلال الديمقراطية أو بناء دول الاستقرار، يعقبها اضطرابٌ هائلٌ وانتشار الميليشيات، أو نزاعات كسر العظم مثلما يحدث في حرب أوكرانيا وحروب إسرائيل والتوتر من حول تايوان وبحر الصين، والميليشيات المتطرفة في غرب أفريقيا، وهي دول لا تختلف فيها الجيوش كثيراً عن ميليشيات الفوضى والعنف!
فهل صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة تعاني أزمةً تشبه أزمات الإمبراطوريات في نهاياتها؟ هذه الظواهر المثيرة للخوف ما اقتصرت على أميركا أو أنها لم تبدأ فيها، بل بدأت في أوروبا بمناطقها الثلاث الرئيسية. فاليوم تسود في القارة العجوز صاحبة تراث التنوير حكومات يمينية تتنكر لتلك القيم، ولمفهوم وممارسات «الرأسمالية الاجتماعية»، ولمفهوم: المجتمع المفتوح، والعداء للمهاجرين.
وهكذا، فإنّ ظواهر تقدُّم اليمين في أميركا وكندا وأستراليا، وإن اختلفت درجاتها، تشير إلى ظواهر عامة تسود العالم الغربي، وتؤْذِن بمتغيرات الأزمنة انطلاقاً من الغرب الذي صنع حاضر العالم في الحقبتين: حقبة الحرب الباردة، وحقبة زمن الهيمنة القصير العمر. كل المثقفين والإعلاميين الأميركيين ارتاعوا من ظاهرة ترمب وانتصاره ولأنّ القرن العشرين، والعقود الأولى للقرن الحادي والعشرين الذي صنع خلاله وخلالها الأميركيون وحلفاؤهم نظام العالم، ونظام العيش فيه؛ فإنّ المنتظر وقد داخَلَ الاختلالُ نظام العالم، أن تتطور أمور عدة، أهمها تعدد مراكز القوة، وازدياد الصراعات على الموارد وعلى المجالات الاستراتيجية، وبالتالي ازدياد النزاعات.
«المدينة على الجبل» التي فقدت السيطرة لا السطوة، وفقدت الوهج فإنها ما عادت تستطيع التفرد ولا الانعزال، ولا فرض نفسها على الآخرين بالقوة القاهرة. لكنّ ترمب يبقى رمزاً من رموز المرحلة الجديدة، رغم ذعر المثقفين والإعلاميين. وكما يقول ابن خلدون في نهايات فصول مقدمته إنّ لله في خلقه شؤوناً!
***
د. رضوان السيد
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15/11/2024م

 

في المثقف اليوم