(1)
في شبابِه، كانَ الاقتصاديُّ والكاتبُ توماس سويل ماركسياً. وعلَى الرغم من أنَّه دَرَسَ على يدِ المفكرِ الاقتصاديّ ملتون فريدمان، أحدِ أكبرِ المدافعين عن الرأسماليةِ والتجارة الحرة، فإنّه لم يتخلَّ عن رؤيته الماركسية للاقتصاد والحياة. في وقت لاحق، وبعد أن عملَ في الحكومة لفترة، تحوّل هذا الإيمان العميق بماركس إلى تفكير حر. كفر بالماركسية واعتنق الرأسمالية. أصبح من أكبر دعاة الحرية التجارية، وعدواً للاشتراكية والسياسات الاقتصادية الشعبوية. سويل ليس عقلاً اقتصادياً فقط، بل مفكر واسع المعرفة، وصاحب حسّ ساخر وشخصية صريحة. لديه القدرة على جعلك ترى الأشياءَ من زوايا أخرى. وكتابه «الثروة والفقر والسياسة» يُعدّ مثالاً واضحاً على مزيج المعرفة والبصيرة.
يقول سويل، في كتابه، إنه من الخطأ أن نسألَ عن الفقر ولماذا يوجد الفقراء، لأنّ الفقر هو الحالة الأصلية للإنسان عبر التاريخ. فطوال ملايين السنين كان الفقر هو الوضعَ الطبيعي، وكانت الحياة قائمة على الكفاف. لذا، فالسؤال الأصح هو: كيف ظهرتِ الثروة؟ ما الذي حدث وجعل جماعةً معينة تتجاوز الفقر واقتصاد البقاء اليومي إلى اقتصاد الفائض والإنتاج والتجارة؟
من هنا يشرح سويل فكرته الرئيسية بأن الثروة ليست المالَ ولا الموارد الطبيعية، بل المعرفة المتراكمة. معرفة تتجلَّى في عادات العمل والأخلاق، وتتحول إلى شكل من أشكال الوعي الجمعي. يقول سويل إن الثروات الطبيعية قد تكون نعمة أو نقمة، لكن الثروة الحقيقية ليست المال، بل القدرة على إنتاجه باستمرار.
قديماً، كان العالم كله غارقاً في الفقر. البشرية كانت تعيش في مستوى متقارب من الحرمان في الشرق والغرب والشمال والجنوب. لا يوجد عالم متقدم وآخر متخلف؛ الكل في الفقر سواء. لم تتفوّق جينات عرق على آخر، وإنما البيئات التي سمحت بتراكم المعرفة ونقلها من جيل إلى آخر هي التي خلقت التفاوت بين جماعات غنية وفقيرة، وبين دول قوية وضعيفة.
يتحدّث سويل عن دور الجغرافيا والمناخ والموارد، لكنّه لا يقصد أن البيئة تقرر القدر، بل إنها تصنع الفرص كما تفرض القيود. المناطق التي تملك أراضي قابلة للري تطوّر في الغالب الزراعة، وهذا يعني الاستقرار. في مثل هذه البيئات، تنشأ ثقافة تقسيم العمل، وتظهر الحرف المختلفة، وتتشكّل الطبقات الاجتماعية، وتُولد المؤسسات والدولة. أما المناطق التي تعتمد على الرعي أو الصيد أو التنقل الدائم فلا تسمح بتراكم الثروة ولا ببناء المؤسسات ولا بقيام الدولة. ومع مرور الزمن، يتّسع الفارق بين المجتمعين. فالمجتمع المستقر قادر على التعلم ومراكمة المعرفة، أمَّا المجتمع المتنقل فيبدأ من الصفر مع كل جيل.
ساعدت الجغرافيا أوروبا الشمالية، بفضل أنهارها الصالحة للملاحة، على ازدهار التجارة والتواصل، في حين أدّت الأنهار المتقطعة والغابات الكثيفة في أفريقيا إلى عزل المجتمعات بعضها عن بعض. هناك أيضاً الفروق الجغرافية بين أميركا الشمالية والجنوبية: الأولى تمتلك أنهاراً قصيرة لكنها منتظمة، مما ساعد على نشوء المواني والمدن المستقرة، أما الأخرى فواجهت تضاريس معقّدة وسواحل وعرة عاقت التواصل.
لكنَّ سويل لا يقع في فخّ التفسير الجغرافي. فكرته أنَّ الجغرافيا تمنح أو تقلل فرصَ التواصل والتبادل، لكنَّها ليست العاملَ الحاسم. فهي تمنح البداية، لا النهاية. هناك مجتمعاتٌ عاشت في ظروف جغرافية قاسية، لكنَّها استطاعت أن تتخطَّى الفقر وتؤسس معرفةً تراكمية قادتها إلى الازدهار. هنا يدخل سويل إلى المفهوم الأكثر عمقاً في تحليله: الثقافة الاقتصادية.
يُقصد بها الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى الوقت والمستقبل وقيمة العمل. فهناك مجتمعات ترى العمل قيمة في ذاته، وأخرى تعدّه حاجة مؤقتة. هناك من ينظر إلى المستقبل بوصفه شيئاً يستحق التخطيط والاستعداد، وآخرون يرونه غامضاً إلى درجة لا تستحق الجهد من أجل الغد.
حتى في مسألة الوقت، ثمة من يتعامل معه بوصفه مورداً إنتاجياً ثميناً، فتتكوّن لديه ثقافةُ الانضباط والتزام المواعيد، وثمة من يتعامل معه بتراخٍ، فيتحول التسويفُ والتأجيل إلى عادة. هذه التفاصيل الصغيرة، كما يصفها سويل، تتحوَّل مع الزمن إلى بنية ثقافية واقتصادية تميز المجتمعات الناجحة عن غيرها.
يقدّم سويل مثالاً لما يسميه الثروة الكاذبة: فالثروات الطبيعية لا تضمن الازدهار. نيجيريا، مثلاً، تملك النفط والغازَ وموارد هائلة، لكنَّ الفسادَ والاعتماد على الريع جعلاها فقيرة. في المقابل، اليابان التي لا تملك موارد طبيعية تقريباً أصبحت من أغنى دول العالم بفضل الإنتاج والمعرفة. الفارق أنَّ اليابان خلقت مؤسسات وثقافة لإنتاج المال، في حين نيجيريا تمتلك المال دون أن تملك ثقافته.
بهذا يؤكد سويل نظريته: المالُ ليس الثروة، بل القدرة على إنتاجه باستمرار. إنَّها المعرفة المتراكمة التي افتقدتها البشرية لآلاف السنوات.
***
(2)
تلعبُ الثقافة دوراً حاسماً في نجاح الأممِ وفشلها. فالثَّقافة، كما يقصدُها توماس سويل، ليست الفنونَ أو العادات أو الفلكلورَ الشعبي، بل الطبقة الأعمق من الوعي الجمعي، حيث تتكوّن العاداتُ الذهنيةُ والقراراتُ الصغيرةُ التي تحدّد السلوكَ اليومي للأفراد: كيف يفكّرون، كيف يدَّخرون، وكيف يروْن الغد. هذه القرارات الصغيرة، حين تتكرّر عبر الأجيال، تصنع عقلاً اقتصادياً يميّز أمةً عن أخرى.
يُطرح سؤالٌ متكرر: لماذَا تنجح جماعاتٌ صغيرةٌ بلا سلطة سياسية في السيطرة على قطاعاتِ التجارة والمصارف؟ يجيب سويل بأنَّ السَّببَ هو امتلاكها لما يسميه رأس المال الثقافي، أي القيم العملية مثل الانضباط، والتعليم، والادخار، واحترام الوقت. هذه القيم هي التي تشكّل الثروة الحقيقية، لأنَّها تخلق القدرةَ على الإنتاج المتواصل لا الاستهلاك العابر.
نرَى هذا بوضوح في الجماعات الصينية المنتشرة في آسيا. ففي سنغافورة وتايلند والفلبين وإندونيسيا، نجد أنَّ الصينيين يملكون معظمَ الثروة التجارية والمالية رغم كونهم أقلية. واليابان مثال آخر: بعد هزيمتها المدمّرة في الحرب العالمية الثانية، استطاعت خلال عقودٍ قصيرة أن تتحوَّل إلى قوة صناعية عالمية. لم يكن ذلكَ معجزةً، بل ثمرة ثقافة راسخة تقوم على الانضباط، والإتقان، والولاءِ للمؤسسة، والاحترام العميق للعمل الجماعي.
أمَّا اليهود، فتمثل تجربتهم مثالاً فريداً على كيفَ يمكن للثقافة أن تكونَ آلية للبقاء. فالتقاليدُ التي تمجد التعلمَ، وتربط الكرامة بالاستقلال المالي، جعلت منهم، رغمَ قلتهم، نخبةً مالية وعلمية في أوروبا وأميركا.
وبالطريقة نفسِها، تميَّزتِ الدولُ البروتستانتية في أوروبا - مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا - بنجاحها الاقتصاديّ مقارنةً بالدول الكاثوليكية المجاورة. السببُ في رأي سويل أنَّ البروتستانتية ركَّزت على الأخلاق العملية بدل الوعظ النظري، وعلى قيمة العمل والانضباط بدل الطقوس الدينية. كانَ العمل لديهم تعبيراً عن الإيمان لا عن العقاب، لذلك نشأت لديهم روح رأسمالية مبكرة.
ويقدّم سويل أمثلةً أخرى لتوضيح الفكرة نفسها. فالهنود، رغم كونهم أقليةً في شرق أفريقيا، أصبحوا محركاً أساسيّاً للاقتصاد بسبب التزامهم التجاريّ والعائليّ الصارم. أمَّا فيتنام، التي خرجت من عقود من الحروب المدمّرة، فقد حققت نموّاً اقتصادياً متسارعاً لأنَّها اعتمدت على أخلاقياتِ عمل قوية واحترام للجهد الفردي. كذلك تايوان وهونغ كونغ، اللتان تحولتَا رغم صغر مساحتِهما وندرة مواردهما إلى مركزين ماليين مزدهرين بفضل ثقافة الإنتاج لا بفضل تدخّل الدولة.
ويعود سويل إلى التاريخ الأوروبي ليضرب مثالاً بهولندا في القرن السابعَ عشر، التي كانت دولةً صغيرةً فقيرةً بالموارد لكنَّها أصبحت مركزاً ماليّاً عالميّاً لأنَّ الثقافة السائدة فيها كانت تُعلي من قيمة الثقة. النَّاس كانوا يلتزمون العقودَ والاتفاقات حتى من دون وجود سلطةٍ قاهرة، لأنَّ السمعة الاقتصادية كانت تمثل رأسَ مالٍ أثمن من الذهب. في الوقت نفسه، كانت إسبانيا والبرتغال تسبحان في الذهب القادم من العالم الجديد، لكنَّه أفسدهما بدل أن ينهضَ بهما. لم تستطيعَا بناء نظام اقتصاديّ منتج، لأنَّ الثروة جاءت بلا جهد، فتحوَّلت عبئاً ثقافيّاً جعل الناسَ يتعلّمون أنَّ الطريق القصير أفضل من الطويل، وأنَّ النفوذ يغني عن المهارة.
بهذا يخلص سويل إلى أنَّ الثروة ليست في الموارد، بل في المنظومة الثقافية التي تحكم علاقة الناس بالعمل والزمن والمستقبل. فالمجتمعات التي ترى في الجهد طريقاً طبيعياً للمكافأة تصنع تقدّمَها بنفسها، بينما تلك التي ترى في الثروة هبةً من الخارج تفقد الحافز على الإنتاج.
ويؤكد أنَّ الثقافة الاقتصادية لا تتغيَّر بالخطب والمواعظ الأخلاقية أو بالقوانين، بل حين يتغيّر الواقع الذي يعطيها معناها. فإذا كانتِ البيئة تكافئ الانضباطَ والإتقان، فستنتشر هذه القيم في المجتمع، أمَّا إذا كافأتِ الحيلة والمظلومية أو المحسوبية، فستسود ثقافة الارتجال والفساد والغش والاعتماد على العلاقات.
من هنا نفهم لماذَا تتفاوتِ الأمم رغم امتلاكها للموارد نفسها. فالثروة ليست كميةَ المال التي تملكها الدولة، بل نمط تفكيرها في العمل والزمن. اليابان وسويسرا وهولندا وألمانيا أمثلة لدول حوَّلت ثقافتها طاقةً إنتاجية، بينما دول أخرى تملك المال والموارد، لكنَّها تفتقد المنظومةَ العقلية التي تجعل المال قابلاً للزيادة والتكاثر.
***
(3)
يرى توماس سويل أنَّ الدولة ليست عدوّاً للثروة ولا صديقةً لها بطبيعتها، بل هي أداة يمكن أن تكونَ حاضنة للثروة أو مدمّرة لها، حسب مدى احترامها للقانون والمؤسسات. فحين توفّر الدولةُ بيئة مستقرة تحمي الملكية وتضمن العدالة وتكافئ الكفاءة، تصبح رافعةً وداعمة للثروة. أمَّا حين تضعف مؤسساتها، ويستشري فيها الفساد، وتتحوَّل مركزَ امتيازات، فإنَّها تقتل روحَ المبادرة وتخنق الخيال.
ويضرب سويل أمثلة حيّة من التاريخ الحديث:
الكوريتان الشمالية والجنوبية تمثلان مختبراً مثالياً لفكرته. فهما شعب واحد ولغة واحدة وثقافة مشتركة، لكن النظامين الاقتصاديين والسياسيين جعلا مصيرهما متناقضاً. كوريا الجنوبية تبنّت اقتصاد السوق والانفتاح، فأنشأت صناعة متقدمة وصادرات عالمية، بينما غرقت كوريا الشمالية في الفقر والمجاعة نتيجة لاقتصادها المركزي الموجّه.
الشيء نفسه حدث بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. الأولى اعتمدت اقتصاد السوق وازدهرت بسرعة، بينما الأخرى، الخاضعة للنظام الاشتراكي، ظلت تعاني الركود والفقر حتى لحظة الوَحدة.
كذلك سنغافورة وغانا اللتان استقلّتا في الفترة نفسها تقريباً: سنغافورة، بفضل قيادة لي كوان يو، بنت دولة قانون وكفاءة وجودة، بينما غرقت غانا في الفساد والمحسوبية والشعبوية.
أما تجربة تشيلي، فتمثل مختبراً قاسياً لفكرة سويل عن العلاقة بين الحرية الاقتصادية والسياسية. في السبعينات، حاولت حكومة سلفادور أليندي تطبيق اشتراكية ديمقراطية من خلال تأميم المصانع والمصارف، ورفع الأجور وتجميد الأسعار باسم العدالة الاجتماعية. لكن خلال عامين فقط انهار الاقتصاد، وامتلأت الشوارع بالطوابير، واختفت السلع. بعد الانقلاب عام 1973، جاء نظام بينوشيه العسكري، الذي استعان بمجموعة من الاقتصاديين الشباب المتأثرين بمدرسة شيكاغو، ليقوم بإصلاحات جذرية: خصخصة الشركات، تحرير التجارة، تثبيت العملة، وتشجيع الادخار. في البداية كانت التكلفة باهظة، لكن خلال عقد واحد تحولت تشيلي واحدةً من أكثر الاقتصادات استقراراً في أميركا اللاتينية. يقول سويل: «الفقر لا يخلق الحرية، ولا العدالة تنمو على الأرض الخاوية. كان على تشيلي أن تختار أولاً أن تنجو، ثم تناقش شكل حريتها».
وفي المقابل، يقدم مثال كوبا التي مثلت النقيض التام. بعد ثورة كاسترو عام 1959، وعد النظام بعدالة اجتماعية مطلقة، وحقق إنجازات لافتة في التعليم والرعاية الصحية، لكنه صادَر الحوافز الفردية باسم المساواة. حينما يتقاضى العامل المجتهد والعامل الكسول الأجر ذاته، يختفي معنى الجهد، وتنهار روح العمل. يقول سويل: «هذه ليست مشكلة اقتصادية، بل مأساة أخلاقية. حين يُلغى التفاوت المشروع، يُقتل الطموح». خلال عقدين، أصبح الاقتصاد الكوبي يعتمد كلياً على دعم الاتحاد السوفياتي، وحين انهار الاتحاد في التسعينات، دخلت الجزيرة في مجاعة اقتصادية خانقة.
بهذه الأمثلة، يوضح سويل أن المشكلة ليست في وجود الدولة، بل في دورها. فالدولة التي تتحول من حكم محايد إلى طرف يمنح الامتيازات ويسحبها بناء على القربى والعلاقات، تغيّر طبيعة الثروة نفسها من نتيجة للعمل إلى نتاج للنفوذ. حينها يفقد العمل معناه، ويبدأ الناس في البحث عن الطرق المختصرة. في مثل هذه المجتمعات، يصبح الفساد ليس انحرافاً عن النظام، بل هو جزء منه.
ويقول سويل إن المجتمعات التي تُخنق فيها روح المنافسة تفقد أهم شرط لبناء الثروة: الثقة بالمستقبل. فحين لا يرى الفرد رابطاً بين الجهد والمكافأة، يختفي الحافز للإنتاج، ويتحوّل الاقتصاد دائرةً من الاعتماد والجمود. عند هذه النقطة، لا يعود الفقر مسألة موارد، بل مسألة خيال؛ فالثروة قبل أن تكون مصانع وبنوكاً هي جرأة على الفعل والمبادرة والتجديد.
ينتقد سويل أيضاً التفسير الآيديولوجي للفقر، سواء من اليسار أو اليمين.
اليسار يراه نتيجة ظلم بنيوي، وكأن الأغنياء لا يملكون إلا لأنهم سلبوا الآخرين. هذا التفسير يلغي الزمن والتراكم والمعرفة والعادات، ويختزل التاريخ في صراع ظالم ومظلوم. أما اليمين، فيفسر الفقر بالكسل أو ضعف الإرادة، متجاهلاً أن الأفراد يولدون داخل ثقافات ومؤسسات تصوغ رؤيتهم لأنفسهم وللجهد والمكافأة.
الفقر، في نظر سويل، ليس مؤامرة خارجية، بل نتيجة تفاعل معقد بين الثقافة والبيئة والدولة والتاريخ.
المشكلة أن السياسة، بدوافعها الانتخابية والشعبوية، تقدم دائماً وصفات سريعة تحت شعار «العدالة الاجتماعية» و«دعم الفقراء»، لكنها لا تمس الجذور. تعطي المال ولا تغيّر العقول. وهكذا يعود الفقر بعد كل دورة سياسية.
ويضرب مثالاً ببرنامج الحرب على الفقر في الولايات المتحدة الذي أطلقه الرئيس جونسون في الستينات. فقد أنفقت الحكومة مليارات الدولارات على الإعانات والسكن والرعاية الصحية والتعليم، لكن بعد عقدين، لم تختفِ الطبقة الفقيرة، بل ازدادت اعتماداً على الدولة. الدعم، كما يقول سويل، تحوّل إعاقةً: خلق طبقة واسعة تعيش على الإعانات بدل العمل. النوايا الطيبة لا تجلب بالضرورة النتائج الجيدة.
ويرى سويل أن المساعدات الدولية تسير في الاتجاه نفسه. فالهبات التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة لم تخرجها من فقرها، بل أضعفت قدرتها على الإصلاح الذاتي. فحين يحصل مجتمع على المال مجاناً، يتعلم الاعتماد لا الإنتاج.
فالمساعدات، حسب الكاتب، «تُبقي الفقراء على قيد الحياة، لكنها لا تخرجهم من الفقر».
الفقر، كما يراه، ليس نقصاً في المال، بل في الثقة بالزمن. الفقير الذي لا يثق بالغد لا يدخر ولا يستثمر. وإذا جاءت المساعدات لتسد الفجوة بين الجهد والنتيجة، فإنها تقتل الشرط النفسي لبناء الثروة: الإيمان بأن العمل والكد يغيّران الواقع.
من هنا، يدعو سويل إلى إعادة تعريف المساعدة: ليست تلك التي تمنح المال، بل التي تبني المؤسسات والتعليم والثقة بالمستقبل. فالثروة لا تُصنع بالمنح، بل بالقيم والمؤسسات التي تحفّز على الإنتاج.
ويلخص فكرته الأساسية بالقول: «لا توجد أمة محكوم عليها بالفقر. القوانين، والثقافة العملية، والمؤسسات القوية قابلة للتكرار».
الفقر هو الطبيعي عبر التاريخ البشري والخروج منه وتشكيل ثروة هو الأمر الجديد. من الخطأ السؤال: كيف تشكل الفقر؟ لكن الصحيح هو: كيف تشكلت وتولدت الثروة في مجتمعات بعينها؟ ليس عن طريق الإعانات ولا العدالة الوهمية ولا توزيع الثروة. كل هذه الحلول، رغم رومانسيتها، عقَّدت المشكلة بدل أن تحلها.
في النهاية، لا يرى توماس سويل أن الثروة لغز غامض أو هبة من السماء، بل نتيجة لمسار طويل من بناء المعرفة والعادات والمؤسسات. فالأمم التي نجحت لم تكن أغنى بالموارد، بل أذكى في التعامل معها، والأمم التي فشلت لم تكن أفقر بالضرورة، بل أضعف في بناء الثقة بين الجهد والمكافأة. لا يوجد تفوق عرقي وجيني. الأمم متساوية، ولكن الفرق أن بعضها عرف كيف يشكّل معرفة متراكمة، وأخرى لم تنجح وهو يقدم لها الطريقة الصحيحة حتى لو كانت صريحة أو حتى جارحة.
***
د. ممدوح المهيني
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية القسم الأول يوم: الثلاثاء - 14 جمادي الأول 1447 هـ - 4 نوفمبر 2025 م ,القسم الثاني يوم: الأربعاء - 15 جمادي الأول 1447 هـ - 5 نوفمبر 2025 م. والقسم الثالث، يوم: الخميس - 16 جمادي الأول 1447 هـ - 6 نوفمبر 2025 م


























