اخترنا لكم

"لا شك أننا نعيش فى عصر رقمي، تتسارع فيه التطورات التكنولوجية، بوتيرة غير مسبوقة، ولعل من أبرز التحديات التى نواجهها، تلك التى تتعلق بالتفاعل بين التكنولوجيا الرقمية والإيمان. وسوف أسلط الضوء فى مقالتين على التحديات والفرص والرهانات التى يجب أن نراهن عليها؛ لكى يجدد الإيمان من نفسه، كما جدد الدين من نفسه مع كل نبى جاء بعد نبي، ومع كل عالم ومفكر أراد أن يجدد إيمانه ليستمر حيا قويا، لنصل إلى رؤية مستقبلية حول هذا الموضوع. وهى الرؤية التى طرحتها أمام قيادات دينية عالمية فى المؤتمر الدولى «الإيمان فى عالم متغير» الذى عقدته رابطة العالم الإسلامى والرابطة المحمدية للعلماء فى المغرب تحت الرعاية الملكية.

وفى البداية، أود تأكيد أن الإيمان ليس مجرد شعور داخلى فى القلب معزول عن الواقع الخارجي، بل هو علاقة مركبة ومتشابكة ومعقدة بين القلب والعقل، وبين التجربة الشخصية والواقع الخارجي؛ حيث تتداخل فيها العقائد والمعتقدات، مع السياق الاجتماعى والثقافى والعلمي، بل يتداخل الإيمان مع متغيرات الحياة اليومية.

أولا ــ التحديات: فى عصر التكنولوجيا، نجد أن الإيمان يواجه تحديات جديدة. ومن هذه التحديات، أن التكنولوجيا الرقمية، قد تعيد تشكيل «مفهوم الجماعة الدينية»، وقد تفككت المجتمعات الدينية التقليدية. فقد كانت المجتمعات الدينية، فى الماضي، تتجمع فى أماكن مقدسة كالمساجد والكنائس والمعابد، لكن اليوم، تميل المجتمعات إلى التحول إلى «فضاءات افتراضية». هذا قد يؤدى إلى تآكل العلاقات الاجتماعية الواقعية داخل هذه المجتمعات ويضعف روح الجماعة التى كانت تمثل دعامة أساسية فى الإيمان.

على جانب آخر، نجد تداعيات ما نتج عن التكنولوجيات التواصلية من سيادة عمليات التسطيح الروحى وتراجع العمق الثقافي، فعلى الرغم من وفرة المعلومات الدينية على الإنترنت، فإن هناك تحديًا فى مدى عمق هذه المعلومات ومدى موثوقيتها، خاصة أن الانتشار الواسع للمعلومات الدينية السطحية أو المغلوطة، قد يؤدى إلى تشويه المفاهيم الدينية، ونشر الشكوك حول العقائد، وفى أحيان أخر قد يؤدى إلى انتشار التطرف أو زيادة الانقسامات والصراعات الدينية.

وإذا ذهبنا إلى الذكاء الاصطناعى والهندسة الجينية، نجد أن التكنولوجيا، تثير تساؤلات أخلاقية ودينية عميقة. هل يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل بعض جوانب الإيمان؟ هل يجب علينا قبول جميع التكنولوجيات المتقدمة إذا كانت تتعارض مع مبادئنا الأخلاقية والدينية؟ هذا التحدى يطرح أسئلة حول حدود التكنولوجيا وما إذا كانت الإنسانية مستعدة للتعامل مع نتائجها العميقة. ومن المفارقات والتحديات، التى تطرحها التكنولوجيا فى علاقتها مع الايمان، أنه على الرغم من أن التكنولوجيا تربط بين الناس فى الفضاءات الالكترونية، غير أنها قد تؤدى إلى العزلة النفسية والروحية عن الذات والعزلة الاجتماعية عن الآخرين، يقول كارل يونغ Carl Jung: «كلما تقدمت التكنولوجيا، زاد عزل الإنسان عن فهم ذاته». ومن أبرز التحديات التى يطرحها التقدم التكنولوجي، تآكل القيم التقليدية، حيث تشهد المجتمعات تغيرات سريعة فى القيم، ويا ليتها تغيرات نحو أخلاق التقدم، بل هى تغيرات نحو تحلل القيم الإنسانية العليا.

ثانيا ــ الرهانات والفرص: والسؤال هو: ما الرهانات والفرص المرتبطة بالتكنولوجيا، وكيف يمكن أن يدعم التقدم التكنولوجى الإيمان، ويدعم الإيمان التقدم العلمى بعامة؟

من وجهة نظري، أن التكنولوجيا التواصلية عملة لها وجهان، ويتوقف تأثيرها على طبيعة المتعامل معها؛ فهى قد تدفع البعض للانفتاح والحوار والتسامح والإيمان بالتنوع والتعددية، وقد تدفع آخرين لمزيد من التعصب ضد الآخرين، ويعتمد ذلك على طريقة وكيفية استخدام الناس لهذه التكنولوجيا، وعلى القيم والمعتقدات التى يحملونها من قبل.

لكن مما لا شك فيه أن التكنولوجيا كأداة توفر إمكانات واسعة لتعميق التجربة الإيمانية ونشر المعرفة الدينية بطرق مبتكرة، مما يمكن أن يسهم فى تعزيز الإيمان وارتباط الأفراد بالمجموعات الدينية، وشواهد ذلك على النحو التالي: لقد أتاحت التكنولوجيا، منصات رقمية، تسهل التواصل بين المجتمعات والأفراد حول العالم، وتعطى فرصة لتعزيز التفاعل والانفتاح بين الأديان، حيث أصبح بإمكان الأديان المختلفة التفاعل مع بعضها بعضًا بطرق لم تكن ممكنة من قبل. هذه البيئة الرقمية تفتح المجال لكى يعرف الجميعُ الجميعَ. وإذا نضجت القلوب والعقول، فقد يؤدى هذا إلى حوار فعال بين الأديان، وحوار بين التيارات والمذاهب فى داخل كل دين، كما يفتح المجال للتبادل الثقافى والفكري، مما يسهم فى تعزيز الفهم المتبادل وتقبل الآخر. لكن من أسف تحولت هذه الميزة التكنولوجية كأداة إلى فرصة جديدة للمتطرفين لبث سمومهم. ومن حسن القدر، أن التكنولوجيا وسعت فرص إمكانية الوصول إلى مصادر المعرفة الدينية، ويمكن اليوم، عبر الإنترنت، لأى شخص، الوصول إلى مكتبات ضخمة من الكتب الدينية، والشروحات، والمحاضرات المرئية والمسموعة. ويمنح هذا الوصول السهل للمعرفة الدينية الأفراد الفرصة لتعميق فهمهم لدينهم أو لاكتشاف أديان أخرى. ويمكن لعلماء الدين الوصول إلى رؤى جديدة أو اكتشاف علاقات لم تكن واضحة من قبل، مما يسهم فى تطوير الدراسات الدينية والفلسفية.

وقد ساهمت التكنولوجيا فى تجاوز الحواجز الجغرافية والزمنية فى التعليم الديني، مما يعزز التجربة الإيمانية للفرد. كما يساعد فى بناء مجتمعات دينية رقمية وتبادل الأفكار والتجارب الروحية. ومن خلال التفاعل الذكى مع الأسئلة الدينية، يمكن تطوير تطبيقات أو برامج مساعدة ذكية تتيح للأفراد طرح الأسئلة حول الدين والإيمان والحصول على إجابات مدعومة من مصادر موثوقة، مما يساعدهم فى تجاوز الشكوك وتعميق الإيمان. من جهة أخرى، يتيح التقدم التكنولوجى بناء مجتمعات دينية رقمية من خلال التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى وإنشاء مجموعات وصفحات دينية تسمح لأفراد المجتمع بمشاركة الأفكار والخبرات الروحية، وتبادل الدعم والإرشاد. وتمكن هذه المساحات الافتراضية، الأفراد من التواصل مع المؤمنين الآخرين حول العالم، مما يسهم فى تقوية الإيمان الذاتى بالله تعالى كمدبر أعظم لا يمكن تصور معنى للحياة بدونه. سبحانه لا نحصى ثناء عليه".

عن صحيفة الأهرام المصرية، يوم: 3/11/2024

***

 (2)

"هل التقدم التكنولوجي الرقمي لصالح الإيمان أم الإلحاد؟

لا يؤدي التقدم التكنولوجي بالضرورة إلى الإلحاد أو الإيمان، وإنما يفتح المجال لتنوع أكبر في التوجهات الفكرية والدينية. إن التكنولوجيا تمنح الناس "وسائل" و"أدوات" جديدة للاستكشاف والتفكير، مما قد يقود البعض إلى تعزيز إيمانهم، بينما قد يدفع البعض الآخر للتشكك أو تبني مواقف غير دينية، وعلى سبيل المثال، بالنسبة للبعض، يمكن أن يكون التقدم في العلوم دليلا على وجود قوة إلهية عليا مدبرة، بينما قد يرى أخرون في هذا التقدم، لا سيما مع التفسير الميكانيكي للكون، تعبيرًا عن عدم الاحتياج لقوة عليا مدبرة.

وبالتالي، يمكن القول إن التقدم التكنولوجي له تأثيرات معقدة ومتعددة الأبعاد على الإيمان والإلحاد، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة حسب السياق الثقافي والاجتماعي للفرد.

لقد أثبتت علوم الأحياء أن البقاء للأصلح، والأصلح هو الأكثر قدرة على التكيف، ومن ثم فإن التحديات التي تضعها التكنولوجية أمام الإيمان، تدعونا إلى وجوب النظر والتأمل في طرق التكيف مع عالم يتغير باستمرار، تدعونا لتجديد أمر الدين في كل عصر طبقا للنبوءة الحكيمة من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حتى وإن استلزم الأمر "تأسيس عصر ديني جديد" كما قلنا في كتاب لنا بهذا العنوان.

 إن العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى، على حد تعبير ألبرت أينشتاين في مقال له بعنوان "العلم والدين Science and Religion"، إن العلم دون قيم دينية يصبح أعرجًا، حيث يفتقر العلم إلى المعنى الشامل للوجود والتوجيه الأخلاقي، بينما يكون الفكر الديني (وليس الدين نفسه من وجهة نظري) بدون العلم أعمى؛ لأنه قد يفتقد القدرة على مواجهة حقائق الطبيعة. وهنا يجب ان يتحلى علماء الدين بقدر كبير من المرونة والقدرة على التكيف مع وقائع وحقائق الطبيعة التي يكتشفها العلم.

ومهما تقدمت التكنولوجيا؛ لكن الحقيقة الإيمانية لا يمكن الهروب منها. إن التكنولوجيا تفتح أبوابًا جديدة، ولكنها لا تلغي الحاجة إلى الإيمان، كما يقول سورين كيركغارد. ومن هنا فإنه يجب على العلماء احترام دور الدين في تقديم المعنى والقيم، كما ينبغي على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح الحقائق الطبيعية والكونية. وقد وقع صاحب كتاب "قوانين الله أم قوانين الطبيعة؟"، في مغالطة ضخمة عندما ظن أن علينا الاختيار بين بديلين: قوانين الطبيعة أو قوانين الله، ظنا منه أنهما مختلفتان ومتعارضتان. وهذا فهم غريب؛ لأن قوانين الطبيعة هي قوانين الله، والله تعالى هو الذي جعل الطبيعة تسير وفقا لهذه القوانين: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، أي بقانون. وقوانين الطبيعة ذاتها دليل على وجوة قوة عليا مدبرة. ولا يجب أن نظن أن العلم الذي يكتشف قوانين الطبيعة، في مواجهة الله، بل إن العلم هو محاولة لاكتشاف طريقة عمل الله في الطبيعة. ولهذا قلنا إنه يجب على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح حقائق الطبيعة. 

إن الإيمان يحتاج في هذا العصر إلى التكيف مع العلم، دون أن يفقد جوهره، ودون أن يدخل في صراع مع العلم. وهذا قد يتطلب تجديدًا في كيفية تفسير النصوص الدينية، حتى يمكن للإيمان أن يبقى حيًا ويتفاعل مع الواقع الحالي ومع تطور العلوم دون أن يتخلى عن جوهره. وما العلوم إلا اكتشاف لأعمال الله في الطبيعة. وهذا دور العلم وليس دور الدين؛ فالعلم دوره البحث عن العلل القريبة، والدين دوره تقديم المعنى الكلي البعيد، والعلة النهائية القصوى. 

وفي الوقت الذي يواجه فيه الإيمان تحديات كبيرة تتعلق بمتطلبات العصر الحديث، فإنه يمتلك القدرة على التكيف وتقديم إجابات جديدة للتساؤلات الوجودية العميقة، مما يجعله ضروريًا حتى في هذا الزمن المتغير، بشرط تطوير نظم التعليم الديني لكي تخرج من عصر المتون والحواشي إلى عصر العلوم الإنسانية والاجتماعية.

إذن، من الضروري أن يتبنى علماء وفلاسفة الدين رؤى تتيح للإيمان أن يكون ديناميكيًا ومرنًا، قادرًا على تقديم الدعم والإلهام في عالم دائم التغير. إن التمسك بالتراث وحده، دون التفاعل مع العصر، قد يُضعف من قدرة الإيمان على تلبية احتياجات المؤمنين المتجددة، ويجعل الخطاب الديني يبدو غير قادر على مواجهة التحديات الجديدة. في المقابل، فإن التجديد الحكيم والمتوازن يتيح للإيمان أن يكون أكثر قدرة على مواصلة الحياة في العصور الجديدة.

هكذا يبقى التفاعل بين الإيمان والتكنولوجيا متعدد الأبعاد، مما يضعنا أمام مفترق طرق، إما التعاون والتعايش والتسامح تجاه الاختلافات بين المسارين، وإما الصراع الذي سوف يخسر فيه الجميع. ويستوجب منا ذلك إعادة النظر في كيفية فهمنا للإيمان في ضوء التكنولوجيا.

إننا نعيش في عالم رقمي سريع التغير، وأصبح أكثر سرعة بعد انتشار الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن نضيع وسط تلك المتغيرات العنيفة إذا لم يكن لنا مرتكز نرسو عليه كلما أبحرنا في هذا البحر المتلاطم بالحقائق والأكاذيب معا. وهنا يُعدّ الإيمان بمثابة مرسى يمكن أن تمنح الأفراد الاستقرار والمعنى".

***

د. محمد عثمان الخشت

عن جريدة الأهرام، الأحد 17 نوفمبر 2024:

في اليوم العالمي للتسامح

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.

***

خالد الغنامي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 نوفمبر 2024 م ـ 18 جمادي الأول 1446 هـ

بعد فوز الرئيس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كتب المفكر ذائع الصيت «فرنسيس فوكوياما» مقالاً مطولاً بعنوان «ماذا يعنيه صعود ترامب بالنسبة لأميركا» («فايننشيال تايمز»، 8 نوفمبر)، يمكن اعتباره نكوصاً صريحاً عن أطروحته الشهيرة حول نهاية التاريخ وما يترتب عليها من انتصار حتمي للنظام الليبرالي عالمياً.

في المقال المذكور، يذهب فوكوياما إلى أن أهمية انتصار ترامب والحزب الجمهوري لا تكمن فقط في التحولات الاستراتيجية المنظورة اتجاه قضايا الساعة الملتهبة، بل تعني في عمقها رفض الناخبين الأميركيين القاطع لليبرالية وما تقوم عليه من تصور للمجتمع الحر. لما وصل ترامب إلى السلطة في عام 2016 اعتبر الكثيرون أنه حالة استثنائية سرعان ما تنتهي وتعود الولايات المتحدة إلى ثوابتها الطبيعية، وقد عزز نجاح خلفه بايدن في الانتخابات التالية هذا الانطباع، لكن أصبح من الجلي اليوم أن بايدن هو الاستثناء وليس ترامب الذي يعبِّر عن تحول جذري في المجتمع الأميركي.

لقد قامت الليبرالية الكلاسيكية - حسب فوكوياما - على احترام الكرامة الإنسانية المتساوية عن طريق دولة قانون تحمي الحقوق وتحد من تدخل الدولة في حرية الأفراد. إلا أن الخمسين عاماً الأخيرة شهدت نمطين من الانحراف داخل النموذج الليبرالي، هما: انبثاق «الليبرالية الجديدة» التي تغلِّب منطقَ السوق على واجب حماية الأفراد من مساوئ الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط، بما نجم عنه انهيار الطبقة العاملة وانتقال الثورة الصناعية إلى آسيا وأصقاع أخرى من العالم النامي، وانبثاق السياسات الهوياتية التي تبرز اليوم في موجة «اليقظة» (woke)، بما انعكس في تراجع الاهتمام بالشغيلة وتركيز النظر على الفئات الجندرية والعرقية والمهاجرين.

وهكذا لم تعد سلطة الدولة تستخدم في إقامة العدالة غير المتحيزة، وإنما في التمييز الإيجابي لصالح هذه المجموعات الخصوصية. وفي الأثناء، تحولت أسواق العمل إلى نمط من الاقتصاد المعلوماتي، بما استفادت منه النساء اللواتي سيطرن على مسالك الشغل الإلكتروني وعززن موقعهن الاجتماعي. وهكذا نجم عن هذه التحولات تبدل جوهري في القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، فانفصلت الحركة العمالية عن أحزاب اليسار التي غدت تتشكل أساساً من السياسيين المحترفين والإطارات المدينية العليا، وأصبحت هذه الحركة داعمة لليمين المحافظ. وفي أوروبا على سبيل المثال، تحوّلت القاعدة العمالية إلى أحزاب اليمين المتشدد كما هو الشأن في فرنسا وإيطاليا.

وفي تحليله لهذه الظاهرة، يذهب فوكوياما إلى أن هذه المجموعات تمردت على نظام للتبادل الحر يقضي على وسائل العيش الأدنى، في الوقت الذي يخلق فيه طبقةً من الأغنياء المترفين، كما نزعت ثقتَها من الأحزاب التقدمية التي يبدو أن تركيزها أصبح على المهاجرين وقضايا البيئة وليس على حقوق ومطالب الشغيلة. ما جرى مؤخراً في الولايات المتحدة هو مصداق هذا التحول، حيث استفاد ترامب من دعم الناخبين البيض من الطبقة العاملة، وقد التحق بهم الناخبون السود واللاتينيون خصوصاً من الذكور، بما يعني أولويةَ الطبقة الاجتماعية على الأصول العرقية أو الإثنية.

إلا أن الأهم من ذلك كله، هو تخلي الناخبين الأميركيين عن النظام الليبرالي محلياً ودولياً، سواء تعلق الأمر بالليبرالية الجديدة وموجة اليقظة أو بالليبرالية الكلاسيكية التي هاجمها الرئيس المنتخب بوضوح. لا بد من تصديق ترامب عندما يتعهد بوضع حد لنظام السوق الحرة من خلال التشريعات الحمائية وكبح الهجرة الخارجية المرتبطة تاريخياً بحيوية النظام الاقتصادي الأميركي. كما أن كل المؤشرات تدل على أنه سيتعرض للفصل بين السلطات، بما سيحدِث تحولاً عميقاً في النسق المؤسسي الأميركي.

وعلى الساحة الخارجية، سيعمل ترامب على إنهاء الشراكة الأمنية والاستراتيجية الخاصة مع أوروبا، وقد يتقارب مع روسيا على حساب المصالح الأوكرانية، بما يحدث تحولاً كبيراً في طبيعة المنظومة الليبرالية العالمية، أي تحالف الديمقراطيات الغربية. تلك هي الخلاصات التي يصل إليها فوكوياما في تحليله لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

وكما هو واضح، فقد تخلى صاحبُنا عن مقاربته السابقة في استكناه مسار الليبرالية العالمية، وظهر له أن ديناميكية العولمة بقدر ما دفعت وحدة السوق وتحرير التجارة ولّدت إشكالياتٍ مجتمعيةً جديدةً أصبحت اليوم هي الإطار المحدِّد للحركية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية. وليست لحظة ترامب سوى التعبير عن هذا التحول النوعي الذي لم ينتبه إليه كثيرون في البداية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 نوفمبر 2024 23:37

اختلف النّاس في الحياة وتنازعوا في الإقبال والإعراض عنها، فلا هُمْ ثبتوا لها على طبيعة واحدة، ولا هم أقبلوا عليها بطريقة واحدة، فمنهم من يحرص على الحياة، ومنهم من يحرص على حياة، ومنهم من يعمل جهده للخروج من الحياة، وبين هذا وهذا تبرز هذه الوضعية القلقة الوجودية التي يعيشها هذا الكائن الإنساني المحدود في الْهُنَا.

عرّف أرسطو الحياة بأنها عند الحيوان القدرة على الإحساس، وعند الإنسان القدرة على الإحساس والفكر، وفي القرآن الكريم أن طبيعة الإنسان مجبولة على حبّ الحياة، شلالا متدفقاً يخرج مما يستمتع به الإنسان من شهوات يستمرئها، من أشخاص وجودية، إحساسات ومشاعر أفكارا. واعتبر أرسطو الشعور بالحياة من بين اللّذات السّارة بذاتها، لأن الحياة بطبعها أمر جيد، والشعور بأن المرء يملك ما هو جيد هو شيء في حد ذاته لذيذ.

إن الحياة مطلوبة للجميع، لكن أي حياة؟ ميز الفلاسفة قديماً بين أنواع ثلاثة من الحياة، حياة اللذة، وحياة الكرامة، وحياة الفكر، فمن النّاس من يجد حياته في الاستمتاع باللّذات الجسمانية المختلفة، معتبراً أن الوجود قصير، واغتنامه اللذائذ هو الطريق الأنسب لحياة مفعمة بمشاعر قوية سارة تجعل الحياة ذات معنى. ومن النّاس من يعتقد أن الحياة في البحث عن مكانة بين الناس، تجعله يشعر بالافتخار أنه مطلوب ومرغوب فيه، وهذه الكرامة عند أرسطو يجدها المرء في الخيرات المادية التي يجمعها وتبوؤُه المكانة العليا عند الناس، وقد يجدها البعض في ترك الحياة ذاتها والتضحية بها من أجل الوطن، كما يصنع الجنود، وفي ذلك سرور عنده عظيم.

ومن النّاس من يذهب إلى أن الحياة في التّأمل في أحوال الدنيا وفي القضايا الشائكة التي يمور بها الوجود، فهناك تجد الحياة كمالها، فالحياة لا تكتمل إلا عند كمال الفكر، والفكر لا يكمل إلا في حياته بالتأمل ومطالعة الكتب والحوار بين الفضلاء والإقامة في المراكز العلمية، وهذا دَيْدن قادة الفكر عبر العصور وعند جميع الأمم. لكن الغريب، أن بعض الناس، يتبرمون من الحياة، إما لعلة نفسية، تجعل الملل الرفيق في كل حركة، كما يعرف ذلك مرضى الأرونيكسي، مما يجعلهم لا يطيقون الحياة فيجهدون في الخروج منها.

وإمّا لعلة جسمية نفسية، وأخيراً رأينا الخروج التراجيدي من الحياة لأكبر ممثل سينمائي في القرن العشرين في فرنسا، ألان دولون، بعد أن تكالبت عليه العلل، وقد عاش حياة، كما صرح بنفسه، لم يشته فيها شيئاً إلا أتاه، ولمّا لم يعد يجد في حياته ما يغريه بالبقاء فيها، اختار الموت الرحيم. وكثير من الناس أصبحوا يختارون هذا الموت، وكأن الحياة لم تعد خيراً بذاتها وإنما هي خير بأعراضها، فإذا ذهبت أعراضها ذهبت. وقد أصبح وباء الاكتئاب يحصد الأرواح بشكل مهول، وهو مرض يفسد النظر إلى الحياة، فيريها قاتمة وهي مبهجة، ويرى ذوقها مراً، وهو في ذاته لذيذ.

إن الحياة في ذاتها أمر لذيذ وحسن، وإنَّ بحث الناس عن إكسير الخلود لأكبر دليل على ذلك، وقديماً أوتي آدم عليه السلام من قبل نزعة الخلود: {قال ما نهاكما ربكما عن تلك الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} الأعراف:20، وملحمة جلجامش مغامرة في البحث عن الخلود، وهي تُعبِّر عن الأشواق العميقة للإنسان للبقاء الأبدي.

لكن لما أدرك الإنسان أن الحياة تتسلل من بين يديه خلسة وأنه لا محالة فاقدها، شرع في التصالح مع الموت، فكانت الفلسفة، كإبداع إنساني كبير، بلسم الجرح الكبير، الجرح الذي لا شفاء منه، جرح الخروج المحتَّم من الحياة.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 نوفمبر 2024 00:22

«المدينة على الجبل» تعبير إنجيلي ورمزي لمدينة البراءة والطهر. وقد استعار العبارة المهاجرون الأوائل الذين غادروا أوروبا إبان صراعاتها الدينية إلى بيئة الخلاص في براري أميركا وسهوبها العذراء. وعبر القرون استُخدم التعبير بمعنيين مختلفين فالمحافظون (حتى قبل الأحزاب السياسية) رأوا تفردها بمنأى عن أنظار العالم وشروره. والليبراليون اعتبروها صاحبة رسالةٍ للهداية ونشر أنوار الحرية على مدى العالم.
ماذا يمثّل الرئيس دونالد ترمب في ضوء الرمز الإنجيلي، وبأي تفسير أو تأويل؟ الرجل غير معروفٍ بالتدين، لكن معظم المتدينين الإنجيليين معه، بل أضيفت إليهم كتلة معتبرةٌ من الكاثوليك هذه المرة على وجه الخصوص. ويصرّ المراقبون على أنّ الأميركيين يقع الاقتصاد وتكاليف المعيشة في أولويات اهتمامهم، وهم يأملون أن تتحسن أوضاعهم في الفترة الثانية للرئيس ترمب. بيد أنّ هذا الحدث البارز له سياقٌ عامٌّ منذ عهد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي. وقد كانت لدى ريغان تصورات دينية بشأن نهايات العالم. وليس نهايات الاتحاد السوفياتي أو إمبراطورية الشر فقط! ومرةً أخرى لا يبدو أن لدى ترمب الدنيوي جداً أيَّ تصوراتٍ ماورائية، لكنّ المتدينين وفئات أخرى ربما يحمّلونه همومهم الدينية وليس المعيشية وحسب. فلا ينبغي أن ننسى قضايا ومشكلات الأُسرة والجنوسة وتبديل الجنس والإجهاض، وترمب يشاركهم وبوضوح في نصرة هذه القيم المحافظة.
مضت عقود على حملات اليمين واليسار على قيم وترتيبات التنوير الأوروبي والأميركي، والتي قام عليها نظام العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وشاع لدى الفلاسفة الفرنسيين (والأميركيين) الجدد اعتبار أنّ تلك المبادئ والقيم كانت حافلةً بوجوه القصور وشكلت تغطيةً لزمن الاستعمار من زمن الليبرالية واقتصاد السوق بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتبشير بالانتصار النهائي للديموقراطيات في زمن العولمة ووسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي. فقد رأى فيها هؤلاء ومنذ إدوارد سعيد وتيار التابع والمحافظين الجدد والإنجيليين الجدد مصيراً بائساً لإنسانية الإنسان وغربته ودمار البيئة والحروب العبثية التي اندفعت باتجاهها الولايات المتحدة وخصومها في روسيا والصين. ثم ما لبث أن التحق بهؤلاء جميعاً كبار مفكري الاقتصاد بعد الأزمة العقارية في الولايات المتحدة التي صارت عالمية (2008 - 2009).
إيمانويل تود وآخرون تحدثوا عن انهيار الغرب. ومن ضمن هؤلاء مفكرو النظام الأميركي أو القرن الأميركي مثل ستغلتز وجوزف ناي وميرشهايمر وحتى فريد زكريا. وهؤلاء يقيسون حالة العالم على حالة الولايات المتحدة التي يسودها انقسام داخلي عميق، وتمردات على سيطرتها في أنحاء العالم، وقد واجهت أميركا - مفارقةً آيديولوجيا القوة الناعمة - التحديات المستجدة بالحروب واستخدام القوة أو التهديد بها. وقد كان المعهود أن يعقب الحرب القصيرة أو الطويلة سلامٌ مؤقتٌ أو طويل، أمّا العقدان الأخيران فيشيران إلى أن الحروب الأميركية بدعوى إحلال الديمقراطية أو بناء دول الاستقرار، يعقبها اضطرابٌ هائلٌ وانتشار الميليشيات، أو نزاعات كسر العظم مثلما يحدث في حرب أوكرانيا وحروب إسرائيل والتوتر من حول تايوان وبحر الصين، والميليشيات المتطرفة في غرب أفريقيا، وهي دول لا تختلف فيها الجيوش كثيراً عن ميليشيات الفوضى والعنف!
فهل صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة تعاني أزمةً تشبه أزمات الإمبراطوريات في نهاياتها؟ هذه الظواهر المثيرة للخوف ما اقتصرت على أميركا أو أنها لم تبدأ فيها، بل بدأت في أوروبا بمناطقها الثلاث الرئيسية. فاليوم تسود في القارة العجوز صاحبة تراث التنوير حكومات يمينية تتنكر لتلك القيم، ولمفهوم وممارسات «الرأسمالية الاجتماعية»، ولمفهوم: المجتمع المفتوح، والعداء للمهاجرين.
وهكذا، فإنّ ظواهر تقدُّم اليمين في أميركا وكندا وأستراليا، وإن اختلفت درجاتها، تشير إلى ظواهر عامة تسود العالم الغربي، وتؤْذِن بمتغيرات الأزمنة انطلاقاً من الغرب الذي صنع حاضر العالم في الحقبتين: حقبة الحرب الباردة، وحقبة زمن الهيمنة القصير العمر. كل المثقفين والإعلاميين الأميركيين ارتاعوا من ظاهرة ترمب وانتصاره ولأنّ القرن العشرين، والعقود الأولى للقرن الحادي والعشرين الذي صنع خلاله وخلالها الأميركيون وحلفاؤهم نظام العالم، ونظام العيش فيه؛ فإنّ المنتظر وقد داخَلَ الاختلالُ نظام العالم، أن تتطور أمور عدة، أهمها تعدد مراكز القوة، وازدياد الصراعات على الموارد وعلى المجالات الاستراتيجية، وبالتالي ازدياد النزاعات.
«المدينة على الجبل» التي فقدت السيطرة لا السطوة، وفقدت الوهج فإنها ما عادت تستطيع التفرد ولا الانعزال، ولا فرض نفسها على الآخرين بالقوة القاهرة. لكنّ ترمب يبقى رمزاً من رموز المرحلة الجديدة، رغم ذعر المثقفين والإعلاميين. وكما يقول ابن خلدون في نهايات فصول مقدمته إنّ لله في خلقه شؤوناً!
***
د. رضوان السيد
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15/11/2024م

 

في إطار معرض الشارقة الدولي للكتاب، تُطرح هذا العام قضايا فلسفية جوهرية تتناول الإشكالية الدائمة للعلاقة بين الأخلاق والروحانية، وما إذا كان بالإمكان أن تستقل الأخلاق عن الدين دون أن تفقد عمقها ومعناها الحقيقي. ويبرز هنا تساؤل محوري يُثير اهتمام الفلاسفة والمفكرين: هل يمكن أن تكون القيم الإنسانية كافية لبناء نظام أخلاقي مستقر، أم أن البعد الروحي يظل ضرورة لا غنى عنها لإضفاء المعنى والسمو على الأخلاق؟
تتنوع الرؤى حول هذه الإشكالية، إذ يذهب البعض إلى أن الأخلاق يمكن أن تستند إلى القيم الإنسانية وحدها دون حاجة إلى مرجعية روحية. هذا الرأي الذي يدعمه بعض الفلاسفة المعاصرين، يقوم على أن الأخلاق تهدف في المقام الأول إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتحقيق السلام بين الأفراد، وأنها قادرة على الارتقاء بالسلوك الإنساني استناداً إلى مبادئ مثل الاحترام والتعايش، بعيداً عن التوجيهات الروحية. وهم يرون أن الإنسان يمكن أن يبلغ درجة من الانسجام الداخلي والسعادة باتّباع قواعد سلوكية نابعة من طبيعة العلاقات الإنسانية والمجتمع، دون أن يكون للدين دور في ذلك.
لكن، على الجانب الآخر، يأتي نقد هذا التصور من منظور مختلف، إذ يرى آخرون أن الأخلاق من دون جذور روحية تصبح شكلية فارغة، تُفرغ من المعنى الحقيقي وتفقد قدرتها على تقديم دافع أسمى للإنسان. يُطرح هنا موقف يؤكد أن الأخلاق، حين تُفصل عن الدين، تفقد جانباً جوهرياً مِن رسالتها وتتراجع إلى مجرد مجموعة قواعد سطحية تفتقر إلى السمو الأخلاقي العميق. ومن هذا المنظور، تُعتبر الروحانية ضرورية للأخلاق، حيث تضفي عليها عمقاً ومعنىً يتجاوز مجرد حفظ النظام الاجتماعي، بل تسعى لتوجيه الإنسان نحو غايات أسمى.
في أحدث إصداراتي «جدلية الفلسفة والأخلاق» و«الحرية المستحيلة»، أتطرق إلى هذه النقاشات وأحاول استعراض بعض الرؤى الفلسفية المعاصرة التي تبحث في استقلالية الأخلاق وعلاقتها بالروحانية. من بين الفلاسفة الذين يتناولون هذا الموضوع، نجد لوك فيري الذي يرى أن الأخلاق يمكن أن تستند فقط إلى العقل والقيم الإنسانية دون الحاجة إلى الدين. وبالنسبة له، تُعتبر الأخلاق وسيلةً لتحقيق السلام والتعايش الاجتماعي، ويؤكد أن الإنسان قادر على تحقيق السعادة بالاعتماد على منظومة قيم إنسانية صرفة.
وفي المقابل، يعارض هذا الرأي طه عبد الرحمن، الذي يرى أن الأخلاق من دون بعد روحي تصبح مجرد قواعد فارغة، لا تسهم في تحقيق الخلاص أو السعادة العميقة. من هذا المنظور، فهو يرى أن الأخلاق الحقيقية تتطلب أساساً روحياً يؤسس لمعنى أسمى، ويعتبر أن هذا الفصل بين الأخلاق والدين يؤدي إلى بؤس الإنسان وفقدان المعنى الحقيقي للحياة.
كما أتناول في هذه الإصدارات الفلسفات الوضعية والدهرانية والوجودية التي تحاول كلٌّ منها بناء أخلاق على أسس علمية أو فردية بحتة. فالفلسفة الوضعية، على سبيل المثال، تسعى إلى إقامة الأخلاق على أسس علمية بعيدة عن الدين، حيث تعتمد على العقل والمنطق، بينما تركز الفلسفة الدهرانية على الحياة المادية وحدها وترفض الأبعاد الروحية. أما الفلسفة الوجودية فتؤكد على الفردانية، حيث تعتبر أن الأخلاق تُبنى على حرية الفرد ومسؤوليته الذاتية في تحديد قيمه، بعيداً عن قيود الدين أو المجتمع.
إن هذه الفلسفات، رغم أنها تقدم رؤى مثيرةً حول استقلالية الأخلاق، إلا أني أرى أنها حين تتجاهل البعد الروحي، تفقد جوهرَها الأعمق، وتصبح عرضة لتفسيرات فردية أو نفعية تُضعِف مِن قدرتها على الارتقاء بالإنسان. فالأخلاق، في نظري، لا يجب أن تُفصل عن الروحانية، لأنها تصبح حينذاك مجرد وسيلة لتنظيم المجتمع، تفتقر إلى الارتقاء الروحي الذي ينقل الإنسان من مستوى الضرورة الاجتماعية إلى أفق السمو الإنساني.
ويبقى التساؤل الذي أطرحه في هذا السياق: هل تستطيع القيم الإنسانية وحدها أن تقود الإنسان نحو السمو والسلام الداخلي، أم أن الروحانية والدين يظلان ضرورةً حتمية لضمان عمق الأخلاق وصدقها في حياة الإنسان؟
***
د. محمد البشاري
عن صحيف الاتحاد الاماراتية، يوم: 13 نوفمبر 2024

 

بمناسبة فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، كتب عدد من الكتاب والباحثين والخبراء الفرنسيين مقالةً مشتركة في صحيفة «لوموند» (6 نوفمبر) دَعوا فيها الاتحادَ الأوروبي إلى الاستعداد للانفصام المؤلم مع الولايات المتحدة بعد عقود من الشراكة الخاصة.
لقد اعتبر الموقعون على المقال (العريضة) أن إعادة انتخاب ترامب من شأنها أن تزعزع المبادئ الثلاثة التي قامت عليها الرفاهية الأوروبية، وهي: الحركية الاقتصادية المستندة للتجارة الأطلسية بين القارة القديمة وأميركا، ونظام الأمن الذي أقامه حلف «الناتو»، والمنظومة الديمقراطية الليبرالية الجامعة.
وبخصوص الجانب الاقتصادي، أصبحت أوروبا منذ عقود في وضع منفصل عن القوتين العالميتين المتنافستين، أي الولايات المتحدة والصين، مما عرَّضها للتراجع والانكماش ولم تعد تجذب الاستثمار الخارجي. أما المنظومة الأمنية، فقد عانت من وضع مزدوج خطر هو تنامي الانعزالية الأميركية وتصاعد التهديد الروسي، بينما انهارت وحدة المرجعية القيمية الليبرالية بين جناحي الغرب الديمقراطي.
ما يتعين التنبّه إليه هنا هو أن انتخاب ترامب ذاته ليس هو سبب هذه القطيعة بين الولايات المتحدة وأوروبا، فلقد بدأ الاتجاه منذ سنوات طويلة، رغم الخطاب الرسمي الذي دأب على تكراره الرئيس بايدن في لهجته الاستقطابية للقادة الأوروبيين. لا يهمنا هنا الجانب الاقتصادي أو المعطيات الاستراتيجية الأمنية، بل العنصر الثالث المتعلق بوحدة المرجعية الليبرالية التي شكلت المفهومَ الحديث للغرب. كان الفيلسوف الألماني الشهير هيغل يقول إن أميركا تولّدت بشرياً وفكرياً من أوروبا، لكن الفرق الأساسي بينهما هو أن أوروبا هي موطن الحداثة وأميركا هي مسرح المستقبل.
والحداثة تحيل إلى ثلاثة مكونات أساسية هي: الثورة التقنية الأولى القائمة على الطبيعة الجامدة والصناعة المادية، والنظام الليبرالي المكرس للفصل الجذري بين دائرة القناعات الفردية الحرة والمجال العمومي الذي هو فضاء الحقوق والمشاركة المدنية، وفكرة الإنسانية الكونية باعتبارها إطاراً لضبط الروابط بين الأمم والشعوب وفق قيم الحرية والتضامن.
لقد استوعب التنوير الأميركي هذه المحددات وتبلورت بقوة في الثورة الأميركية ولدى الآباء المؤسسين، وكانت الأرضية التي قام عليها التحالف الغربي منذ بدايات القرن العشرين، وبصفة خاصة منذ الحرب العالمية الثانية. بيد أن النموذج الأميركي فرض خصوصياتِه منذ البداية في السياق الغربي الواسع، عبر سمات عديدة توقف عندها المؤرخون وعلماء الاجتماع، نشير من بينها إلى قوة القيم المحافظة التي تشكل نقطةَ ارتكاز «الديانة المدنية» التي تحدث عنها الكثيرون.
وما نعيشه راهناً هو تغلب القطب المحافظ على المكون الليبرالي في نموذج الحداثة الأميركية. كما أن التجربة السياسية الأميركية قامت منذ تشكلها الحديث على جدل استراتيجي معقد بين دعاة الانعزالية لصيانة الخصوصية الحضارية والمجتمعية المحلية والحفاظ على المصالح القومية العليا ودعاة الكونية الأممية الذين صاغوا النظم المؤسسية للشراكة مع أوروبا وبقية العالم من منظور كون أميركا هي «المدينة التي تشع على التلة»، حسب عبارة رونالد ريغان. وما نشهده مع ترامب هو انتصار النزعة الانعزالية ضمن رؤية تمنح الأولوية لمصالح الولايات المتحدة اقتصادياً واستراتيجياً.
أما ما سنراه مع ترامب، فقد عبّر عنه هو نفسه بنهاية «النظام الليبرالي العالمي» القائم على وحدة الرؤية الأيديولوجية لا المصالح الموضوعية، أي اعتبار المرجعيات الفكرية والأيديولوجية ليست أساساً للشراكات السياسية والاقتصادية التي يجب أن يحكمها منطق المصالح المحضة. عندما كانت الولايات المتحدة تواجه خطراً وجودياً خلال عهد الحرب الباردة، كانت بحاجة إلى العمق الأوروبي، بقدر ما كانت هي مظلةَ الحماية الفاعلة للقارة القديمة، لكنها اليوم لا تَعتبر روسيا خطراً مماثلاً للاتحاد السوفييتي، حتى وإن كانت تمثل «تهديداً حقيقياً» بالنسبة لأوروبا، في الوقت الذي تحرص فيه الدول الأوربية على حفظ مصالحها المشتركة مع الصين التي يرى ترامب أنها محور التهديد الأول للريادة الأميركية في العالم.
لقد حذّر الزعيمُ الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول الأوروبيين من حتمية خروج الولايات المتحدة من القارة القديمة، مبيناً أن المشتركات الليبرالية ليست دعامة تحالف دائم. وما نشهده راهناً هو تحقق هذا التوقع الذي ستكون له آثار نوعية على تركيبة وتوازنات النظام الدولي. لقد قال ترامب من قبل في لغة صريحة إن أميركا لا يمكن أن تستمر في حماية الرفاهية الأوروبية متحمِّلةً تكاليفَها دون فائدة أو مصلحة بالنسبة لها. وما كشفت عنه الحرب الأوكرانية الحالية هو فشل دول الاتحاد الأوروبي في تحقيق الاستقلال الأمني والاستراتيجي، رغم تحذيرات ترامب ورغم ضغط الواقع الميداني على الأرض.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
10 نوفمبر 2024 23:24

أشك في صحة معلومة سيد قطب بأنَّ الفلسفة الإسلامية تُدرّس في كل كليات الأزهر. فالأزهر عام 1949 مكوّنٌ من ثلاثِ كليات هي: «الشريعة»، و«اللغة العربية»، و«أصول الدين»، والفلسفة الإسلامية كانت تُدرّس - فقط - في الكلية الأخيرة. ولقد سايره محمد البهيّ في ردّه عليه مع علمه بأنَّ هذه المعلومة غير دقيقة، مدفوعاً بتحسين صورة الحرية العلمية في الأزهر وتجميل صورة تدريس الفلسفة فيه؛ لأنَّه كانت تجري أحياناً مفاضلة بين الدراسة في تعليم مدني مثل «جامعة فؤاد الأول» والدراسة في تعليم ديني مثل «الأزهر»، وتجري مفاضلة بين تدريس الفلسفة في «جامعة فؤاد الأول» وتدريسها في «الأزهر»، ومقارنة بين إنتاج مدرسي الفلسفة في «جامعة فؤاد الأول» ومدرسي «الأزهر». وقد اعترف محمد البهيَ في رده على أحد الكتاب بأنَّ في «جامعة فؤاد الأول» قدراً من الحرية العلمية لا يتوفر لأساتذة الفلسفة في «الأزهر»، لكن في ردّ آخر على كاتب آخر، بالغ في مقدار حرية البحث الجامعي الممنوح له من قبل إدارة «الأزهر»، ودافع عنه بأنه ليست فيه ثمة سلطة دينية على الآخرين ذات طابع كهنوتي!
في الطبعة الأولى من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وليس في رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم، أراد سيد قطب أن تكون الدراسات الإسلامية هي البديل لتدريس الفلسفة في المدارس الثانوية المصرية، والبديل لتدريس الفلسفة والفلسفة الإسلامية في «جامعة فؤاد الأول» وفي كلية «دار العلوم» فيها، وفي «جامعة فاروق الأول» وفي «الأزهر»، وأن يكتفى في هذه المؤسسات العلمية بتدريس نتفة من الفلسفة الإسلامية وبنتفة من الفلسفة بمعناها الشامل.
سمّى سيد قطب الدراسات الإسلامية بـ«دراسات إسلامية خالصة»، فما معنى «خالصة» هنا؟
إنَّ قوله بعد ذلك: هي التي «تقرر الفكرة الإسلامية الحقة، مبرأة مما يُسمّى الفلسفة الإسلامية»، لا يعرفنا تماماً بما سمّاه «دراسة إسلامية خالصة».
إن هذا التعريف تعريف ناقص؛ لأنه تعريف سلبي. تعريف سلبي بمعنى تعريف الشيء ليس بما هو عليه، بل بما هو ليس عليه. والأسوأ من هذا أنه تعريف من منظور إسلاميته المستجدة. فالدراسات الإسلامية عنده في هذا التعريف، هي التي تقوم على رفض الفلسفة الإسلامية لتأثرها بالفلسفة الإغريقية. إن رفض الفلسفة والفلسفة الإسلامية موقف قديم في التاريخ الإسلامي، قال به علماء دين، وقال به بعض المتكلمين، وقال به بعض المؤرخين، وفي العام الذي نشر به كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ونُشرت به رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم في مجلة «الرسالة»، وهو عام 1949، كان بعض أساتذة «الأزهر»، غير موافقين على تدريس الفلسفة وتدريس الفلسفة الإسلامية في «الأزهر»؛ لكنه لا يقول مثلهم ومثل الذين سبقوهم في التاريخ الإسلامي بسبب ديني في رفض تدريسهما، لكيلا يُوصف عند الأدباء والمثقفين المصريين من ذوي الاتجاه العصري بالتزمت الديني والرجعية الفكرية!
«الفكرة الإسلامية» التي وصفها بـ«الحقة»... لم يكن يستخدم هذا الوصف بالمعنى العلمي والمنهجي بل يستخدمه بمعنى أرثوذكسي، فهو يقصد به الأصلي والأصيل والمستقيم في الفكر الديني السني. وهو من غير أن يصرّح مباشرة يعد كتابه أنموذجاً للدراسات الإسلامية «الخالصة» وللفكرة الإسلامية «الحقة»، مع أن تصوره العقدي للإسلام، عقيدة وسياسة واقتصاداً ومجتمعاً وتاريخاً، في كتابه ليس أصلياً ولا أصيلاً، بل فيه كثير من التصورات الدينية المحدثة، وتأثر معكوس بآيديولوجيات مباينة للإسلام، أبرزها الماركسية.
ومن غير الواضح إن كان سيد قطب يقصد بـ«الدراسات الإسلامية الخالصة» العلوم الدينية أو تصوره الآيديولوجي المحدث للإسلام أو هو يقصدهما معاً.
الفكرة الإسلامية، تعبيراً، هي من التعبيرات المنقولة عن الفكر الغربي. فهذا التعبير أو المصطلح غير مستعمل في التراث العربي والإسلامي القديم. فأين «الأصالة» في هذا التعبير الذي استعمله؟!
والدراسات الإسلامية بوصفها حقلاً علمياً هي حقل جديد أنشأه المستشرقون في أواخر القرن الثامن عشر، ويسمونه حيناً الدراسات الإسلامية، وحيناً الإسلاميات، وحيناً الثقافة الإسلامية. وقد عبرت عن هذا الحقل كتب ودراسات ومجلات عديدة ومتعددة بلغات أوروبية مختلفة. ولا أجادل في أن كثيراً منها كتب بغرض غير علمي، فغرضها كان الحط من شأن الإسلام من جوانب متعددة لدوافع متباينة. فالغرض العلمي المحض في قرون نشأتها الأولى توفّر في القليل منها.
ولأن مجالها مجال شاسع، ولأن موضوعاتها موضوعات واسعة، فيصعب تقديم تعريف بها. وكل ما يمكن قوله عنها أنها هي الدراسات المتصلة بالإسلام وبالمسلمين التي كتبها المستشرقون، وكانوا يستخدمون فيها مناهج متبعة في العلوم الإنسانية. ومع تطور العلوم الإنسانية استخدموا فيها مناهج متساوقة مع التطور الحادث في هذه العلوم.
ومن المفيد أن يعرف القارئ العام حال الدراسات الإسلامية في مصر في العام الذي صدر فيه كتاب سيد قطب، مصر التي كانت متقدمة على الدول العربية الآخذة بركب التقدم، والمؤثرة فيها وفي العالم العربي قاطبة، بتياراتها العصرية وبتياراتها الرجعية. وللحديث بقية.
***
علي العميم
عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الأحد - 09 جمادي الأول 1446 هـ - 10 نوفمبر 2024 م

 

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.
وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.
قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.
وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.
كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.
وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.
استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.
الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.
***
د. محسن جاسم الموسوي - جامعة كولومبيا – نيويورك
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 4 نوفمبر 2024 م ـ 03 جمادي الأول 1446 هـ

من وجهة نظر الموسيقار الألماني هانز زيمر، قلائل في العالم من يُتقنون الغناء، منهم المغنية الأسترالية ليزا جيرارد. ولعل أشهر أغنياتها هي التي عُرفت بعنوان «الآن قد أصبحنا أحراراً»، تلك التي عرفها العالَم من خلال فيلم ريدلي سكوت «المجالد» 2000، الذي سيُعرض الجزء الثاني منه هذا الشهر وستكون ليزا من يُلحنه ويضع موسيقاه التصويرية، من دون هانز زيمر هذه المرة.
في سنة 2000 استمتعت الجماهير بالصوت العميق العذب لكنهم احتاروا في اللغة التي تغني بها السيدة. بدت لأناس شبيهة بالعبرية، وآخرون ظنوا أنها تشبه اليديشية، لكنها ليست من هذه ولا من تلك. ولا علاقة لها باللاتينية ولا باللغات الميتة ولا الحية. لقد ألقت بنا في حيرة لفترة من الزمن. لكن المؤكد أنها فازت بجائزة «غولدن غلوب» على تعاونها مع زيمر في إبداع موسيقى الفيلم، ورُشحت لـ«أوسكار» ذلك العام.
بعد البحث عن لغة هذه الفنانة، اتضح أن ليزا جيرارد تغني بلغة خاصة بها، لغة اخترعتها هي للحديث بواسطتها إلى الله، عندما كانت طفلة صغيرة. تقول ليزا:
«أغنِّي بلغة القلب، لغة مخترَعة امتلكتها منذ زمن طويل. أعتقد أنني بدأت الغناء بها عندما كان عمري 12 عاماً تقريباً. وحينها اعتقدت أنني كنت أتحدث إلى الله، عندما غنيت بهذه اللغة. الموسيقى هي مكان للجوء. إنها ملاذ من الرداءة والملل. إنها شيء بريء للغاية، ومكان يمكن أن تتوه فيه عن نفسك، في الأفكار والذكريات وكل التعقيدات. أعلم أنني سأغني لبقية حياتي. سأغني ما حييت، لأنني أؤمن بأنها هبة من الله ويجب التشارك فيها مع الآخرين».
رغم عذوبة ما قالت والأفكار التي أثارتها فإنها من ناحية فلسفية قد دخلت في «أرض العمالقة» دون أن تشعر بذلك، فقضية اللغة الخاصة من كبرى قضايا فلسفة اللغة في القرن العشرين، ولطالما تَجادل الفلاسفة حولها بين مُثبتٍ ونافٍ. فهذا جون ديوي ولودفيغ فتغنشتاين في فلسفته المتأخرة وويلارد كواين، كلهم يُنكر اللغة الخاصة، لأنه إذا ثبت قيامها ثبت أن أسماء الإحساسات تكتسب معناها عن طريق الارتباط بموضوع عقلي لا نلاحظه إلا ملاحظة داخلية.
إنهم لا يعترفون بلغة يبتكرها شخص واحد لا يفهمها سواه، ويرفضون أيضاً القول إن ما يدور في الذهن أمر خاص بكل فرد بصورة جوهرية ولا سبيل إلى إيصاله إلى الآخرين. وعندما نفكر في أفكارنا الروحية الخاصة، فإننا نستخدم المفردات التي تتقيد بالتعبير العام. لا بد من قواعد عامة، حتى عند الحديث عن الألم. قد أصف ألمي، وقد أصف ألمك، لكن لن يشعر بالألم إلا من وقع عليه.
لا بد أن نلاحظ هنا أن اللغة الخاصة ليست مجموعة من الرموز التي يضعها شخص فيأتي آخر فيفك رموزها. اللغة الخاصة لا يمكن تعليمها للآخرين مثل سائر اللغات المعروفة، بل هي مثل شطحات الصوفية، لا يمكن اعتمادها معرفةً مكتسَبةً تُدرّس للطلبة. هي لغة تشير كلماتها إلى الإحساسات الخاصة الذاتية وإلى الحياة الداخلية المعروفة للمتكلم وحده، والتي تكون مغلقة في وجه أي شخص آخر.
في حقيقة الأمر، حجة اللغة الخاصة، لو وقع الاعتراف بقيامها، تفنِّد الكثير مما قامت عليه الفلسفة الحديثة فيما يتعلق بالعقل والمعرفة، مثل الثنائية الديكارتية، أو المعطيات الحسية وأهميتها عند التجريبيين الإنجليز. وهي أيضاً تفنّد وجهة نظر فتغنشتاين في فلسفته المبكرة التي تقول بفكرة «الأنا وحدية» أي «الأنا» وحدها هي الموجودة. يقول فتغنشتاين:
«ما تعنيه الأنا وحدية صحيح تماماً، ومع ذلك لا يمكن قوله، وإنما يُظهر نفسه. والقول إن العالم هو عالمي يُظهر نفسه في الحقيقة القائلة إن حدود لغتي تعني حدود عالمي».
إنه يرفض كل الافتراضات التي تقوم عليها اللغة الخاصة، وعنده أن فهم اللغة والتمكن منها يستلزم القدرة على استعمال كلماتها وفقاً لقواعد معينة. واتباع قواعد استعمال اللغة هي ممارسة اجتماعية، فهي فعالية نتدرب عليها بوصفنا أعضاء في جماعة لغوية، ولا يمكن أن يكون اتباع القاعدة مسألة خاصة، لأنه في الحالة الخاصة لا توجد طريقة للتمييز بين اتباع القاعدة بالفعل وأن نظن أننا نتبعها. عند فتغنشتاين تكلُّم اللغة يعني الاشتراك في صورة الحياة، ويعتمد هذا الاشتراك في صورة الحياة على تدريب الإنسان، وهذا التدريب يحدث علانية في المجتمع. ولهذا لا توجد «خبرة خاصة» ولا «لغة خاصة» تُستخدم للتعبير عن تلك الخبرة، فاستعمال اللغة يتطلب معايير عامة وعلنية. ولا يمكن أن تقوم لغة من دون وسط سياقي. وجود اللغة يعني وجود قواعد تحكم استعمالها، وهذا يستلزم إمكانية فحص ذلك الاستعمال. والكلمات الدالّة على الإحساس والمشاعر الخاصة لا يمكن فحصها. إذن اللغة الخاصة مستحيلة، ولو افترضنا وجودها، فإنها ستكون عديمة الفائدة تماماً، حسب عبارة فتغنشتاين.
بهذا التقرير يتضح أنه ليس من الصواب أن نسمي ترانيم ليزا جيرارد لغة، فاللغة يجب أن تكون مفهومة في وسط اجتماعي معين ويجب أن تقوم على قواعد. لكنَّ هذا لا ينطبق على شطحات الصوفية، فلغتهم ليست لغة شخص واحد، بل هناك قاموس كامل خاص بهم، وهو تداولي فيما بينهم، ويمكن تدارسه وفهمه.
***
خالد الغنامي - كاتب سعودي
عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 4 نوفمبر 2024 م ـ 03 جمادي الأول 1446 هـ

قبل عشرين سنة، وتحديداً في 9 أكتوبر 2004، رحل الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا الذي ولد في الجزائر إبان عهد الاحتلال الفرنسي وعاش فيها حتى سن التاسعة عشرة، وكان يقول عن نفسه إنه فيلسوف عربي أفريقي قبل أن يكون أوروبياً أو غربياً. في فلسفته التفكيكية، نَقد دريدا بقوة مفهومَ الهوية واعتبر أنه مجرد غطاء مصطلحي وهمي لتمويه الاختلاف ومحو التعددية التي هي سمة الأشياء الوحيدة.
لكنه مع ذلك أطلق على نفسه «اليهودي الأخير»، واعتبر أنَّ المفارقة الكبرى في حياته هي كونه عاش عروبتَه في ثوب يهوديته، واكتشف غربتَه وضياعه في تجربة الاحتضان الفرنسية. لقد كان دريدا شديدَ التعاطف مع القضايا العربية العادلة، مِن ثورة التحرير الجزائرية إلى القضية الفلسطينية. وقد ظلت مقولات التيه والمحو والغربة والضيافة.. حاضرةً بكثافة في أعمال دريدا الغزيرة، مما حدا بالبعض للحديث عن الجذور اليهودية الثابتة في فكره الفلسفي، رغم نفيه المتكرر لهذه الجذور المتوهمة. بيد أن الوجه العربي لدريدا لم يُمَط عنه بعدُ اللثام.
ولعل كتاب الفيلسوف الجزائري والوزير الأسبق مصطفى شريف «الإسلام والغرب» الذي حاور فيه مطولاً دريدا، هو النص الوحيد الذي بحوزتنا في سبْر الحضور العربي ضمْن فلسفة دريدا. في هذا الكتاب يعترف دريدا أن أفكاره الفلسفية تبلورت على خطوط التماس بين طفولته العربية الحاسمة ومساره الفكري اللاحق في فرنسا، لكنه يؤكد أنه لم يتخلص يوماً من أطياف ثقافته العربية ولم يندمج كلياً في السردية الفلسفية الغربية.
فكرة الأشباح أو الأطياف محورية عند دريدا الذي كتب أحد أجمل كتبه بعنوان «أطياف ماركس»، بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك المعسكر الشيوعي، مبيناً فيه أن انحسار الأيديولوجيا الماركسية خلّف حضوراً جديداً لماركس من حيث هو شبح يهدد الماكينة الرأسمالية العالمية في نشوتها الكبرى بالانتصار على الشيوعية المهزومة نظرياً وسياسياً.
وبالمعنى نفسه، يرى دريدا أن العروبة شبح لا يفارق الحضارةَ الغربية التي قامت تاريخياً على وهم القطيعة مع التراث العربي الوسيط، ومع التقليد اليهودي أيضاً الذي يرى أن إعادة الاعتبار المتأخرة له لا تعني استيعابه الحقيقي في النسيج الفكري الغربي، كما يظهر من قراءته النقدية لمقاربة هيغل حول اليهودية وتنبيهه لغياب النص العبري بكامله في كتابات هايدغر. والواقع أن مقولة الغرب فلسفياً قامت على حركة مزدوجة، هي اعتبار الفكر اليوناني الأصل البعيد للحضارة الغربية، وإقصاء التراث العربي الإسلامي من التاريخ الثقافي الغربي.
وبغض النظر عن التداخل الكثيف عقدياً وفكرياً بين الشرق الأدنى والأوسط (حسب الدلالات الرائجة) والفلسفة اليونانية التي برزت أساساً في الجناح الشرقي للعالم اليوناني، فإنه لا بد من الاعتراف بأن الفلسفة العربية الإسلامية شكّلت منذ بدايتها رافداً أساسياً من روافد الفكر الغربي الحديث. قد لا يكون دريدا على اطلاع حقيقي على الفلسفة العربية التي لا نجد لها ذكراً ملموساً في أعماله، لكن مما لا شك فيه أن جهودَه في نقد المركزية الغربية من خلال مفاهيم «الامتياز النطقي» و«التأويلية الخطية» وإعادته الاعتبارَ للكتابة واللوح المسطور.. فتحت آفاقاً رحبةً للفلسفة العربية المعاصرة لم تقتنصها. لقد ظل حضور دريدا في الساحة الثقافية العربية محصوراً في كتابات النقاد والأدباء الذين نظروا إلى التفكيكية كمنهج في قراءة النصوص، على غرار الأسلوبية البنيوية، وذلك ما ينفيه دريدا كلياً. كان من الحري بالمشتغلين بالفكر الفلسفي من العرب أن يستفيدوا من الآفاق الفسيحة التي دشنتها تفكيكية دريدا، الذي كان يقدم دوماً نفسَه بصفته صوتَ الهامش الهمجي المقصي، على حافة القارة التي تدّعي احتكارَ الحقيقة والمعنى.
وفي أعماله الأخيرة خصص دريدا اهتمامه بالموضوعات المحورية في التراث العربي، مثل الكرم والحلم والعفو والمجاز.. وباستثناء صديقه المقرّب عالم الاجتماع والأديب المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، لم تنل هذه المباحث العنايةَ المستحقة من الفلاسفة والمفكرين العرب.
ما يبقى مِن دريدا هو هذا الولع غير المتناهي بالكتابة والنص الذي هو في نهاية المطاف مسلك عربي عميق، ومن هنا أهمية المسألة التراثية في الفكر العربي المعاصر. ولقد كتب دريدا في «أطياف ماركس»: «إن التراث ليس بضاعة نمتلكها، أو ثروةً نتلقاها فندخرها في المصارف، إنه التزام حي وانتقائي، قد يكون إحياؤه وتأكيده أجدى لدى الورثة غير الشرعيين ممن يتوهمون أنهم حراس التراث وملاكه».
***
د. السيد ولد أباه
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 نوفمبر 2024 00:51

أعترف أني عاجز عن مواجهة كل هذا الدمار الحاصل حالياً. ولكن فلسفة التاريخ تقول لنا إن الكوارث الكبرى هي التي تصنع الأمم والشعوب. هل نسينا ما حصل لهذا الغرب المتغطرس ذاته؟ لقد دُمرت ألمانيا عن بكرة أبيها تقريباً بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فقد نهضت من تحت أنقاضها ورمادها كأعظم ما تكون. بل وكانت قد دمرت سابقاً إبان الحرب الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية في القرن السابع عشر، حيث سقط ثلث سكانها والبعض يقول النصف. وقل الأمر ذاته عن فرنسا التي اجتيحت اجتياحاً من قبل هتلر وأهينت وأذلت وسحقت في كرامتها وعمق أعماقها، وظن الناس أنه لن تقوم لها قائمة بعد اليوم. ولكن كل ذلك تم تجاوزه لاحقاً بفضل قائد تاريخي فذ يدعى شارل ديغول. هنا تكمن أهمية الرجال العظام في التاريخ. وقل الأمر ذاته عن الأمة العربية التي لم تقل كلمتها الأخيرة بعد. لحظتها آتية لا ريب فيها، ولكن بعد أن تحترق احتراقاً وتنصهر في أتون المعاناة انصهاراً. على مهلكم: «إني لألمح خلف الغيم طوفاناً». وأقصد به الطوفان الآخر: أي طوفان الفكر الأنواري الجديد الصاعق الذي سيخرج العرب من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار العصور الحديثة. وبعدها يسيطرون على العلم والتكنولوجيا.
ولكن ليس عن هذا الموضوع سوف أتحدث الآن وإنما سألقي بنفسي في أحضان الشعر لكي أتعزى وأنسى وأتأسى.


يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس


كان المعري يقول في ديوانه الأول «سقط الزند» هذا البيت الشهير:


وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل


لماذا قال هذا الكلام؟ لأنه كان يعرف أنه جاء بعد خيط طويل متواصل لا ينقطع من الشعراء العرب يمتد من امرئ القيس حتى أبي الطيب المتنبي. وكان يدرك صعوبة أن يأتي بشيء جديد بعد كل هؤلاء الفطاحل. هل غادر الشعراء من متردم؟ كان يتهيب الأمر ويعدّه شبه مستحيل. نقول ذلك وبخاصة إنه كان معجباً بعظمة الشعراء الذين سبقوه، بالأخص المتنبي الذي كان يقول عنه: «ناولوني معجز أحمد»، أي ديوان المتنبي. ومع ذلك فقد استطاع اختراق المستحيل والإتيان بشيء جديد لم يعرفه الأوائل ولم يخطر لهم على بال. والدليل على ذلك القصيدة التي مطلعها:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شاد
هذه القصيدة لا مثيل لها في الشعر العربي. وأعتقد أنه تجاوز فيها كل شعراء العرب قاطبةً عندما قال هذه الأبيات:


صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العباد
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد


يوجد هنا معنى جديد مبتكر كلياً وغير مسبوق في تاريخ الشعر العربي. ولا أحد يعرف من أين جاء به. وبالتالي فالمعري الشاب استطاع فعلاً أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل بمن فيهم المتنبي ذاته. لقد حقق برنامجه تماماً وذلك لأنه كان يشعر بأنه تختلج في أعماقه قوى إبداعية خلاقة لا يعرف كنهها ولا مصدرها. ولكنه كان يعرف أنها سوف تتفتح أو تنفجر انفجاراً يوماً ما. كان المعري يعرف أنه مقبل على أمر عظيم. كان يعرف أنه سيتجاوز «عماه» بسنوات ضوئية.
والآن دعونا نطرح هذا السؤال:
إذا كان المعري يشعر بأنه جاء في آخر الزمن فما بالك بنا نحن الذين جئنا بعده بألف سنة أو أكثر؟ المتنبي أيضاً كان يعتقد أنه جاء متأخراً أكثر من اللزوم:


أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم


لكن العبقرية الشعرية لا تنضب ولا تجف، ولا كذلك العبقرية الفلسفية. لو كان الإبداع ينضب لما ظهر كانط بعد ديكارت، ولا هيغل بعد كانط، ولا ماركس بعد هيغل... إلخ. ولما كان أرسطو قد ظهر مباشرة بعد أستاذه ومعلمه أفلاطون.
ولماذا لا نتحدث عن الشعر في عصرنا الراهن. هل نسينا قصيدة بدوي الجبل في المعري إبان المهرجان الشهير الذي انعقد في دمشق عام 1944 بحضور كبار المثقفين العرب؟ يقول:


أعمى تلفتت العصور فلم تجد
نوراً يضيء كنوره اللماح
من كان يحمل في جوانحه الضحى
هانت عليه أشعة المصباح
المجد ملك العبقرية وحدها
لا ملك جبار ولا سفاح


عندما وصل بدوي إلى هنا اهتز طه حسين طرباً ونهض واقفاً على الفور وقال: لقد نفد الأرنب. بمعنى أنه نال قصب السبق. وذلك لأن طه حسين كان يعرف أنه مقصود بهذا الأبيات وليس فقط المعري. ثم يضيف بدوي الجبل إلى قصيدته العصماء هذه الأبيات عاتباً على المعري لأنه أعرض عن الحب وشطبه كلياً من قاموسه:


إيه حكيم الدهر أي مليحة
ضنت عليك بعطرها الفواح
أسكنتها القلب الرحيم فرابها
ما فيه من شكوى ورجع نواح
يا ظالم التفاح في وجناتها
لو ذقت بعض شمائل التفاح


هنا يكمن فارق أساسي بين المعري وطه حسين. فعميد الأدب العربي لم يعرض عن النساء إطلاقاً وإنما تزوج فرنسية حسناء مثقفة تدعى سوزان بريسو. بل وأنجب منها الأطفال. وهذا من عجائب الأمور. كيف قبلت فتاة فرنسية عام 1917 بالزواج من عربي مسلم وعلاوة على ذلك أعمى؟! حتى العربية ترفض. يقال بأنها ترددت كثيراً في البداية لكنها حسمت أمرها في النهاية وربطت مصيرها بمصيره فأصبح اسمها: سوزان طه حسين. وهذا أجمل وأفضل. هل كانت تعلم أن هذا الشخص النكرة أو شبه النكرة سوف يصبح طه حسين: أي قائد التنوير العربي في القرن العشرين؟ هل كانت تعلم أنه سيجمع بين عبقرية العرب من جهة وعبقرية الأنوار الفرنسية من جهة أخرى، ويحقق، وهو الأعمى، أكبر ثورة فكرية وأدبية في تاريخنا الحديث؟ ولكن هل حقاً كان أعمى؟ البعض يعتقد أنه كان المبصر الوحيد في العالم العربي. لقد كان الرائي الوحيد في عالم غاطس كلياً في بحر من الجهالات والظلمات والخرافات. ولذلك قال عنه نزار قباني هذه الكلمات الرائعة من قصيدة مطلعها:


ضوء عينيك أم هما نجمتان
كلهم لا يرى وأنت تراني
لست أدري من أين أبدأ بوحي
شجر الدمع شاخ في أجفاني


حتى وصل إلى هذا البيت الحاسم الذي انتصر فيه بالضربة القاضية:


ارم نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان


قصيدة عصماء هزت القاهرة هزاً عندما ألقاها في إحدى قاعات جامعة الدول العربية عام 1973.
للإجابة على كل هذه التساؤلات وللتعرف على شخصية طه حسين بشكل أفضل يستحسن أن نقرأ كتاب زوجته سوزان الذي أصدرته عنه بعد رحيله بعنوان «معك». كلمة واحدة مكثفة تلخص كل ذكرياتها مع عميد الأدب العربي. كلمة واحدة تلخص عمق العلاقة التي ربطتها به وأدت إلى كل هذا التنوير العظيم. وهو الكتاب الذي نقله إلى العربية، في ترجمة ممتازة، الدكتور بدر الدين عرودكي. وبالتالي فلمن لا يعرف الفرنسية يوجد هنا كنز الكنوز. توجد إضاءات غير مسبوقة مسلطة على حياة العميد من قبل أقرب المقربين إليه. من المعلوم أنه قال عنها هذه العبارة التي ذهبت مثلاً: كانت المرأة التي أبصرت بعينيها. ثم أضاف هذه العبارة الأخرى التي لا تكاد تصدق: بدونك أشعر أنني أعمى. ألم نقل لكم بأن الحب يصنع المعجزات؟
***
د. هاشم صالح
عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 3 نوفمبر 2024 م ـ 02 جمادي الأول 1446 هـ

أَرَفَضَ الغزالي الفلسفة في كلّيتها، أم رفض منها مباحث معيّنة؟

ولماذا عنون كتابه النقدي بـ(تهافت الفلاسفة)، ولم يعنونه بـ «تهافت الفلسفة»؟

وإذا كان عنوان متن الغزالي، أقصد لفظ «التهافت»، يرمي إلى الكشف عن لا انسجام الفكر الفلسفي؛ أي يقدّم نفسه كقراءة داخلية تكشف عن اختلالات ثاوية في البنية النظرية للوغوس، كما تشكّل في المتنين الأرسطي والأفلاطوني، وكما تمّ فهمه في السياق الثقافي الإسلامي، فإنّ ثمّة سؤالاً يقتضي إمعان الفكر فيه، وهو: أكانت الأدوات التي استعملها الغزالي منسجمة ومبرّأة من الاختلال، أم أنّها هي ذاتها انزلقت الى التناقض والاختلال؟ أي هل يصحّ أن يُقال فيه ما قاله ابن العربي: «شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيّأهم، فما استطاع»؟

في محاولة لبلورة جواب عن بعض هذه الاستفهامات، أقدّم، في هذا المقال، أوّلاً: توصيفاً لمشروع الغزالي، وبيان كيفية تلقيه من قبل الناظرين إلى تاريخ الفكر:

يُعدُّ النقد، الذي أنتجه الغزالي، في كتابه (تهافت الفلاسفة)، حسب كثير من المؤرّخين، من العوامل التي أوقفت دفق الفكر الفلسفي في شرق العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري وما تلاه، وهذا ما يُشير إليه المستشرق دي بور بقوله: «كثيراً ما يُقال إنّ الغزالي قضى على الفلسفة في الشرق قضاءً مبرماً، لم تقم لها بعده قائمة»[1].

صحيح أنّنا لا نرى هذا الرأي، حيث نعتقد أنّه مهما كانت قوّة مفكّر، فإنّه ليس بإمكانه أن يكون عاملاً حاسماً في إنهاء وجود حقل معرفي داخل سياق ثقافي ما؛ بل إن ميلادَ فكر ما، وأفولَه، يرتبطان بشروط ثقافية ومجتمعية أوسع من أن تختزل في مقدرة فرد واحد؛ مهما كانت قيمة وقوة مشروعه النظري.

وفي هذا نوافق دي بور في قوله، ردّاً على ذلك الزعم بأنّ الغزالي قضى على الفلسفة في المشرق: إنّ «هذا زعم خاطئ لا يدلّ على علم بالتاريخ، ولا على فهم حقائق الأمور؛ فقد بلغ عدد أساتذة الفلسفة وطلّابها في المشرق، بعد عصر الغزالي، مئاتٍ؛ بل ألوفاً...»[2].

هذا مع أنّ دي بور يضيف، معترفاً بأنّ الفلسفة، على الرغم من عدد المهتمين بها بعد الغزالي، لم تعد بالحظوة ذاتها التي كانت لها من قبل.

وإذا كان ليس من الصائب، وفق قوانين تطوّر الأفكار والمعارف، أَنْ ترجع نهاية حقل معرفي إلى شخص بعينه، فإن ضعف العطاء الفلسفي في المشرق الإسلامي، بُعَيْدَ حقبة الغزالي، ينبغي أن تُدرس أسبابه الثقافية والمجتمعية، على نحو لا يقتصر على بيان الدور النقدي الذي مارسه أبو حامد في كتابه (التهافت).

بيد أنّ هذا، أيضاً، لا يعني أن المشروع النقدي، الذي قدّمه الغزالي، لم يكن له أثر في مدافعة نفوذ الفكر الإغريقي؛ بل لقد كان متن (التهافت) لحظة معرفية متفرّدة، تناتجت بعدها نقود عديدة قلّدت منحاه في التفكير؛ إذ ظهر العديد من المتون النقدية التي وُسِمَت بالعنوان ذاته، حيث كتب قطب الدين الراوندي (ت 573هـ) كتابه (تهافت الفلاسفة)، كما استمرّ هذا التقليد النقدي إلى القرن التاسع الهجري، حيث كتب خـواجـه زاده (ت893هـ) كتاباً بالوسم ذاته، الذي عنون به الغزالي نصه؛ أي (تهافت الفلاسفة) استجابةً لأمر السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي أمره وعلاء الدين علي الطوسي بتقييم مشروعي الغزالي وابن رشد...

وعليه، يتبيّن أنّ متن الغزالي كان له وقع خاص في سياق الجدل الفكري، دفع عدداً من المفكرين إلى الكتابة على نسجه، ما يؤكد اشتهار ذلك المتن وشيوعه.

والحقّ أن أبا حامد أبان، في متنه ذاك، عن مقدرة منهجية تحليلية، وحس نقدي جريء، في مقاربته للفكر الفلسفي اليوناني كما تمثّله الفلاسفة المسلمون في عصره (ولاسيّما الفارابي وابن سينا)؛ حيث تتبدّى قدرته التحليلية في تصنيف الفلاسفة «على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبـهم... إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون»[3]، كما تظهر، في نظره، في مختلف الأبحاث الفلسفية المتداولة في زمنه، واستخلاصه المسائل التي رأى فيها مخالفة للرؤية الإسلامية للوجود، حيث أوجزها في عشرين مسألة، عَدَّهَا مدار الخلاف بين المعتقد بدين الإسلام، وبين المتمذهب بفلسفات الإغريق.

وعلى مستوى الوسم النقدي، استخلص الغزالي ثلاثة من تلك المسائل العشرين عَدَّهَا موجبة للكفر، وهي: القول بقدم العالم، والقول بأنّ الله لا يعلم إلا الكلّيّات، ولا يعلم الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد. أمّا البقيّة؛ أي المسائل السبعة عشرة، فعدّها موجبة للتبديع لا للتكفير.

وبصرف النظر عن الحكم العقدي، الذي قدّمه الغزالي ضداً للفلاسفة، فإنّنا نرى أن المسائل العشرين، التي أحصاها، تدلُّ على أنّه لا يرفض من الفلسفة إلّا أجزاء محدودة معدودة؛ إذ في زمنه كانت الجغرافيا الفلسفية تضمُّ «ستة أقسام: رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية»[4]. وعند تقويمه لهذه الأقسام الستّة، صرّح بأنه لا يرى في الرياضة والمنطق أي مأخذ، كما عدّ أغلب المعطيات المعرفية للعلوم الطبيعية مقبولة شرعاً، حيث يقول في متن (التهافت): «فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه، من جملة علومهم الإلهية والطبيعية. وأمّا الرياضيات، فلا معنى لإنكارها، ولا للمخالفة فيها، فإنّها ترجع إلى الحساب والهندسة. وأما المنطقيات، فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة»[5]. كما لم يرَ في الأبحاث الفلسفية السياسية والخلقية ما يُجَوِّزُ نفيها، وعدم الاستفادة منها؛ بل يقول في (المنقذ)، في ما يخص المسألة السياسية، إنّ: «جميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية (والإيالة) السلطانية»؛ بل يذهب إلى حدّ القول إنّ مرجع الفلسفة السياسية والأخلاقية، وأصلها القديم، هو الدين «والحكم المأثورة عن سلف الأنبياء»[6].

كما أن البحث الفلسفي في المسألة الخلقية، بحث في النفس وأخلاقها وكيفية معالجتها، وهو، بذلك، بحث موصول بالتصوف حسب الغزالي.

وبهذا، يتبين أنّ صاحب (تهافت الفلاسفة) خصّص النقد في المبحث الإلهي، على وجه التحديد، حيث قال إنّ الفلاسفة: «يجمعون شروطاً يعلم أنّها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط؛ بل تساهلوا غاية التساهل»[7].

وكأنه يريد فصل المنهج عن الثمرة، حيث نبّه إلى أنّه لا ينبغي الانخداع بالفلاسفة؛ لأنّهم «يستدلّون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة عن البراهين، نقيّة عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية«[8].

وهذا الفصل بين الأداة المنهجية ومحصولها هو الذي يسوّغ للغزالي استدخال المنطق ضمن البنية الأصولية والكلامية.

وبلحظ الإحصاء، يتوجّب علينا التنويه إلى أنه بالنظر الى مقدار ما قبله الغزالي، مقارنةً بما رفضه من البنية الفلسفية، يصحُّ لنا أن نقول إنه لم يرفض من الفلسفة سوى مقدار قليل فقط. ولعلّ هذا هو ما جعله يعنون كتابه بـ(تهافت الفلاسفة) لا (تهافت الفلسفة).

بل حتى المنطق، الذي خصّص له كتابه (معيار العلم)، صرّح بأنّ هذا الكتاب هو القسم الأخير من متن التهافت؛ بمعنى أنّ التهافت لا يقصد منه المباحث الفلسفية جميعها؛ بل منها ما هو أوجب وأوكد لتنهيج الفكر وحفظه.

ولست، هنا، في معرض تقييم مشروع الغزالي؛ بل في معرض استخلاص دلالة الدرس النقدي الذي أنجزه. وفي هذا السياق، يجدر التنبيه إلى ثلاثة استنتاجات نستمدّها من حديثنا السابق:

أوّلها: أن كتاب (التهافت) لا يُقصد منه هدم الفكر الفلسفي في جملته.

وثانيهما: أن الغزالي لم يكتب (تهافت الفلاسفة) إلا بعد أن كتب نصّاً وصفياً لبنية الفكر الفلسفي عنونه بـ(مقاصد الفلاسفة)، وفي ذلك درس ينبغي أن نتنبّه إليه؛ حيث لا يجوز لمنتقد مذهب، أو فلسفة، أن يكون جاهلاً بها؛ بل لابدَّ من أن يدرك ابتداءً مقصدها ودلالتها دراية دقيقة؛ بل يذهب الغزالي إلى حدِّ القول إن ناقد فلسفةٍ لابدَّ من أن تكون معرفته بها أكبر من معرفة الفيلسوف، لا مساوية له فحسب(!)، وفي هذا يقول في متن (المنقذ): «... وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل [ذلك] العلم، ثمّ يزيد عليه، ويجاوز درجته، فيطّلع على ما لم يطّلع عليه صاحب العلم من غور وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقّاً»[9]. وفي هذا السياق، أيضاً، يحذّر من «أنّ ردّ المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنهه، رمي في عماية.

***

د. الطيب بوعزة

عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 16 أبريل 2016

 

مناقشة حول المؤسسة الدينية النموذجان المصري والسعودي

***

تناقش هذه المقالة تطور نفوذ الطبقة الفقهية على المستوى السني بعد سقوط نظام الخلافة والتحول إلى الدولة الوطنية الحديثة.

***

إلى أي مدى ظلت هذه الطبقة تحتفظ بسلطتها المعنوية داخل المجتمع، وفي مواجة الدولة بوجه خاص؟ هل أدى هذا التحول إلى تقليص الصلاحيات التقليدية الموروثة للطبقة الفقهية؟ أم منحها -لأول مرة- صلاحيات إضافية ذات طابع مؤسسي بيروقراطي؟ كيف نقرأ هذا الحضور المؤسسي بنتائجه الإشكالية الراهنة في النموذجين المصري والسعودي؟

-2-

منذ تشكلها في السياق السني المبكر، ظلت الطبقة الفقهية قريبة من السلطة الحاكمة، وتشتغل لحسابها على المستوى النظري المذهبي، وفي تسيير القضاء، فضلاً عن الفتوى وخدمة الطقوس. ورغم أنها لم تتحول قط إلى هيئة عضوية منظمة بالمعنى الكاثوليكي، إلا أنها ظلت بمرور الزمن تراكم صلاحيات معنوية أوسع، وتكرس وعيها بذاتها كطبقة متمايزة ذات حضور سياسي ومصالح اقتصادية، خصوصاً مع تطور نظام الوقف الأهلي.

مع ذلك لم تندمج الطبقة الفقهية كلياً في بنية الدولة، وبقيت تحافظ على مسافة ضمنية “غامضة” تفصل بينهما. في هذا الإطار يمكن الحديث عن علاقة مركبة تسير وفقاً للمعادلة الآتية: تعمل الطبقة الفقهية إجمالاً تحت السلطة مع نزوعات استقلالية تعبر عن نفسها من وقت إلى آخر بشكل محسوب، وتظهر خصوصاً في لحظات ضعف الدولة. وهي وضعية تندرج تحت مفهوم التشابك التاريخي القديم بين السلطة والكهنوت، حيث ظلت العلاقة بين الطرفين تقوم على تحالف براجماتي وثيق، يعكس حاجة مصلحية متبادلة، لكنه لا يؤدي إلى ذوبان أي منها في الآخر، ولا يغير في نهاية المطاف من الهيمنة العليا للسلطة.

-3-

لم تتغير هذه المعادلة كثيراً بعد التحول إلى نموذج الدولة الوطنية: فرغم استلحاق الطبقة الفقهية بالجهاز الإداري للدولة لم تتقلص المسافة “الموضوعية” بين الطرفين، بل ازدادت عمقاً؛ لقد تم رسمياً تقنين حالة التبعية المتحفظة، لكن الطبقة الفقهية سيتفاقم وعيها تدريجياً بالتناقض الجوهري بين بنيتها السلفية والدولة الجديدة ذات التوجه العلماني.

لكن الصيغة الجديدة للمعادلة تبدو أكثر تعقيداً: فالدولة الوطنية الناشئة –التي لم تستكمل شروط الحداثة العلمانية بسبب مستوى التطور العام (الاقتصادي / الاجتماعي/ العقلي) داخل المجتمع- بقيت تعمل على تقمص دور ديني شبيه بدور الدولة السنية الحارسة، بغرض احتواء التوجهات المحافظة للجمهور وتوظيفها سياسياً، ما أسفر عن ازدواجية داخلية، ظلت أعراضها الإشكالية تظهر في صور مختلفة تتراوح بين التحالف المعلن والصدام المتحفظ. وذلك وفقاً لدرجة اندماج الدولة في الدور الديني، أي لتغير مستوى وعي الدولة بذاتها ككيان مدني علماني بالطبيعة.

-4-

النظرية الدينية مصر والسعودية

يشترك النموذجان المصري والسعودي في المرجعية الدينية النظرية، أعني في خلفية الثقافة الفقه سياسية المنحدرة من التراث السني. لكن المقارنة بين النموذجين تكشف عن فوارق واضحة، ترجع بالطبع إلى مسارات التشكل التاريخي المتباينة التي حكمت تطور المجتمع والدولة والطبقة الفقهية، وصاغت تفاصيل العلاقة المركبة بين أطراف هذا الثالوث في كل نموذج منهما على حدة.

بالقياس إلى مثيله المصري يبدو النموذج السعودي أكثر انغماساً في صيغة التشابك التقليدي بين السلطة والكهنوت. ليس فقط من زاوية النظر إلى الطبقة الفقهية، التي تنتمي إلى المذهب الحنبلي الأكثر سلفية وتشدداً، والتي لم تتطور قط على المستوى الموضوعي منذ أواسط القرن الثامن عشر (ظهور الحركة الوهابية) بل أيضاً من زاوية النظر إلى الدولة، التي لا تزال تصنف –خارجياً- كواحدة من أكثر الدول محافظة في العالم رغم التوجهات “التجديدية”، التي أخدت تكشف عن نفسها تدريجياً منذ تشكلها في الدولة السعودية الثالثة على الأقل، والتي تصاعدت على نحو غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية.

-5-

النموذج المصري: الأزهر مقابل الدولة الوطنية

مقارنة بالحالة السعودية، ولدت الدولة الحديثة في مصر في سياق اجتماعي ثقافي أكثر تطوراً، بفعل تواصل حضور السلطة المركزية، والانفتاح على روافد التأثير الخارجية. ومنذ بدايتها في أوائل القرن التاسع عشر، كشفت الدولة الناشئة عن توجهات تجديدية مدنية صريحة. وفي تصريح مبكر لمحمد علي أمام القنصل الفرنسي أعلن أن حكمه لا يقوم على الاعتبارات الدينية: “فأنا فوق هذه الاعتبارات ولا اعتبر نفسي في سياساتي مسلماً ولا مسيحياً”.

بدءاً من محمد علي وبامتداد القرن التاسع عشر ستشهد مصر عملية واسعة النطاق باتجاه التحول إلى دولة مدنية على الطراز الغربي الحديث. جرت هذه العملية بشكل تصاعدي، وبتوجيه مباشر من قبل السلطة. وأسفرت بالفعل عن تطورات “علمانية” واضحة، طالت البناء الدستوري للدولة والتشريعات الرئيسية في القانون المدني والقانون الجنائي والنظام القضائي، وبعض الإصلاحات الإدارية، والاقتصادية التي تتعلق بنظام الري والزراعة والتطوير الصناعي. بالإضافة إلى الاستعارات الغربية المباشرة في الفنون من الأوبرا إلى المسرح والسينما. وأدى ذلك إلى تحفيز قابليات التطور الثقافي والاجتماعي داخل المجتمع، الذي صار يقبل بكشف وجه المرأة، وخروجها للعمل، وتقلد الوظائف واختلاطها بالرجال. كما صار يقبل بالتخلي عن مورثاته التقليدية في أشكال الملبس والمظهر الخارجي وطرق التخاطب.

في غضون ذلك بدأت تظهر نواة لطبقة وسطى مدينية ذات توجه مدني معتدل، إلى جوار الطبقة الأرستقراطية الزراعية، وتبلورت نخبة فكرية واسعة، واعية بذاتها كتيار ثقافي يتحمل  -مع الدولة- عبء الترويج للمشروع التحديثي، فيما سيعرف بتيار “النهضة المصرية”. وعند أوائل القرن العشرين كان بإمكاننا الحديث عما أسميه “حالة مدنية” ظاهرة على مستوى المجتمع والدولة، مضى على بدايتها أكثر من قرن من الزمان.

بوجه عام، وخلافاً لمسار التحديث الأوروبي (الفرنسي خصوصاً) لم يدخل تيار النهضة في صدام مع الدين في ذاته، بل مع النظام الفقهي الموروث، الذي صار متهالكاً وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه خصوصاً في شقه السياسي. وهو ما يفسر سهولة التكيف بين مطالب الحالة المدنية والمجتمع رغم مكوناته التراثية المحافظة. لم تكن الأصولية السلفية قد تبلوت بعد كتيار “أيدولوجي” مناهض للحداثة ومن ثم لم يكن التدين الشعبي قد تعرض لضغوط الإسلام السياسي، التي ستتفاقم لاحقاً وستخصم من خصائصه الاعتيادية المعتدلة.

-6-

رد فعل الأزهر

بدأت عملية استلحاق الطبقة الفقهية بجهاز الدولة مع محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر. وجرى تنفيذها على امتدان القرن عبر سلسة الإجراءات الإدارية والقانونية، التي استهدفت نفوذها الاقتصادي بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك الموقوفة على الأزهر، وإنشاء ديوان عام سيتحول لاحقاً إلى وزارة الأوقاف، وإلغاء الوقف الأهلي.

كان الغرض هو تقليص نفوذ هذه الطبقة، التي أسهمت في وصول محمد علي إلى الحكم، وسحبه بعيداً عن المجال السياسي المباشر، ثم توظيفه في ضبط التدين الشعبي وتطبيعه مع الأهداف المدنية الجديدة للدولة. وهي الوظيفة التي ستتزايد الحاجة إليها بعد تفاقم الأصولية السياسية.

الطبقة الفقهية الممثلة في شيوخ “الجامع” الأزهر، لم تندمج تماماً في مشروع “الدولة الحديثة”، الذي أطلقه محمد علي وطوره خلفائه بطرية متوازنة، وأخذت تقدم نفسها كقوة سلفية محافظة في مواجهة القوى التجديدية التي تروج لأفكار الحداثة. لكنها لم تقف جدياً ضد التحول السياسي الدستوري الذي تقوده الدولة، ولم تبد ردود فعل صدامية حيال مظاهر التحول المدني التي كانت تجري داخل المجتمع على حساب النظام التراثي القديم.

واقعياً، لم يمتلك الأزهر، كطبقة تراثية محافظة، القدرة على مقاومة الضغوط الحداثية التي كانت تفرض نفسها بقوة دفع هائلة. كان النظام التراثي حينذاك في لحظة ضعفه القصوى، وبشكل إجمالي، أعاد الموقف الفقهي تكييف نفسه -كالعادة- تحت سلطة الدولة، وصارت المعادلة تسير على النحو الآتي: تبدي الطبقة الفقهية نوعاً من التوافق “الحذر” مع المفهوم العام للدولة الوطنية القائمة، وقد تسهم أحياناً في الترويج لسياستها المدنية. لكنها تظل واعية بأصولها التراثية، وقادرة من وقت إلى آخر على إثارة بعض المشاكسات، واتخاذ مواقف لا تطابق التوجه العام للدولة.

-7-

لاحقاً، وبفعل التداعيات السياسية والثقافية التي سيجلبها التيار الأصولي، ومع التراجع العام لجاذبية الحداثة، ستستعيد القوى المحافظة بأثر رجعي فكرة الاعتراض على نتائج التحديث، وسينضم الأزهر بحذر محسوب إلى هذه القوى، أو سيلوح بالانضمام إليها، بغرض تحقيق مكاسب فئوية تتعلق بالوضع القانوني “للمؤسسة” ورئيسها، أو في خطوة أكثر طموحاً، لخلق مساحة للتدخل السياسي باستغلال لحظات تراجع الدولة، التي صارت أقل وعياً بدورها التجديدي المعتاد تحت ضغوط الحالة الأصولية المتطرفة.

في هذا السياق يمكن قراءة موقف الأزهر من أحداث يناير2011. فبعد أن أعلن في البداية عن طلب التهدئية الذي يصب في صالح السلطة، عاد لينتهز لحظة “اهتزاز” الدولة، وموضع نفسه وسط المعادلة السياسية الجديدة، بين تيار الإسلام السياسي الذي كان يقترب من الحكم، والدولة التي كانت تحتاج إلى الدعم من قوة دينية “معتدلة” وذات رصيد شعبي.

موضوعياً، يقف الأزهر بتكوينه الأشعري على مسافة من طرفي المعادلة (من الطرف الأصولي رغم الأرضية المشتركة، ومن الدولة رغم التبعية الإدارية). وواعياً بالرهان الدائر عليه بين الطرفين لتوظيفه سياسياً، استطاع الحصول على نتائج مرضية لصالح الطبقة الفقهية: ففي فترة الحكم الخاطفة للإخوان، حصل الأزهر رسمياً ولأول مرة على موقع داخل “الدستور”بصلاحيات “مؤسسية” تشريعية تشبه صلاحيات الكنيسة. (التيار السلفي الأكثر تشدداً لم يتحمس تماماً لهذه الخطوة توجساً من التوجهات الأشعرية للأزهر، وهي نفس توجهات الإخوان، وتحسباً لارتباطه التقليدي بالدولة). وبعدما سقط الإخوان عادت الدولة فألغت هذه الصلاحيات في دستور 2014، لكن شيخ الأزهر -الطموح سياسياً- كان قد اقتنص نصاً دستورياً جديداً يقضي بتحصين منصبه من العزل.

استطاعت الدولة تجاوز حالة “التلعثم” السياسي التي نجمت عن أحداث يناير 2011، ونجحت في احتواء النتائج المباشرة للانفجار الأصولي التي بلغت ذروتها باستيلاء الإخوان على السلطة، لكنها فقدت شيئاً من نقائها المدني المفترض، أعنى من وعيها بذاتها ككيان وطني علماني بالطبيعة وبحكم الدستور، وهي حالة تعكس حجم التراجع العام حيال الضغوط الأصولية. وبالنتيجة لا يزال الأزهر يتقمص دور الوسيط الناشط، ويمارس نشاطاً توجيهاً لا يسمح به الدستور ولا يتوافق مع الفكرة المدنية. وفيما يواصل نقده المعلن للأصولية المتطرفة، يؤكد على أصوله التراثية، ويحرص –بحذر أشعري معهود- على إرسال إشارات مبهمة توحي بعدم التطابق مع مواقف الدولة.

من زاوية الدولة، لا يزال دور الأزهر مطلوباً كظهير ديني “معتدل” يلزم توظيفه في مواجهة التطرف الأصولي السياسي لكنه يشتغل واقعياً كعائق أمام التغيرات الحداثية “الجزئية” التي تستهدف الدولة  -بشيء من الحذر أيضاً- تمريرها من خلال التشريع (راجع مثلاً اعتراض الأزهر رسمياً على التعديلات المقترحة في قانون الأحوال الشخصية، والتي ترمي إلى تخفيض الآثار السلبية للطلاق الشفهي. وعلى مشروع القانون الجديد الخاص بدار الإفتاء، والذي يهدف إلى مزيد من ربط الفتوى الفقهية بالسياق القانوني والقضائي السائد، أي بالدستور المدني. وراجع قبل ذلك موقف الأزهر المعلن من الدعوة المبكرة التي وجهها رئيس الدولة لتجديد الخطاب الديني.

-8-

الأصول الأشعرية: هل الأزهر معتدل؟

وصف الأزهر بالاعتدال وصف نسبي. أعني يصح بالقياس إلى التيارات الأصولية السلفية المتطرفة، لكنه يبدو سلفياً محافظاً بالقياس إلى المبادئ الأولية لدولة وطنية حديثة، أي قائمة على فكرتي “المواطنة” و “القانون”. عملياً يقف الأزهر في منتصف المسافة بين الأصولية السلفية والدولة الوطنية. وهو موقف يترجم تكوينه النظري المذهبي، أعني مرجعيته الكلامية الأشعرية.

كيف تفسر أشعرية الأزهر موقفه الراهن من الدولة الوطنية ومن الحداثه بوجه عام؟ هل تنطوي الأشعرية على تناقض جوهري مع السلفية ؟ وهل هي مهيأة لتوافق حقيقي مع العلمانية؟

ظهرت الأشعرية في السياق الكلامي المبكر كموقف ” وسط” بين التيار النقلي الحرفي الذي يمثله “أهل الحديث”، وتيار الرأي العقلي الذي يمثله المعتزلة، فهي في جوهرها “منهج” توفيقي يقوم على الجمع بين طرفين متناقضين. ولذلك تبدو أكثر تعبيرأً عن حقيقة “الواقع” الاجتماعي، الذي يحتوي بالفعل على عناصر متناقضة، أي على تعددية طبيعية. وهي -لذلك أيضاً- كانت أسهل تناغماً مع مزاج الجمهور العام أو التدين الشعبي، الذي تحركه مشاغل الواقع قبل مطالب الفكر/ الفقه ، كما كانت أكثر قابلية للقبول بفكرة “الدولة المتغلبة” بما هي نتاج لسلطة الأمر الواقع.

عملياً، كان الجمع بين النقل والعقل يعني تثبيت سلطة النقل (السلفية) بآليات العقل (الاعتزالية)؛ فأبو الحسن الأشعري -كما يصرح في كتابه “الإبانة عن أصول الديانة” تصدى للدفاع عن عن رؤية أهل الحديث خصوصاً أحمد بن حنبل، ضد مفاهيم المعتزلة. كان الأشعري يحاول تنظير الرؤية النقليلة كما هي بأدوات الاعتزال العقلية التي انشق عليها حديثاً، أي كان يستخدم العقل في نفي العقل. ومن هنا تظهر “المفارقة” كلازمة ضرورية لا تنفك عن الفكر الأشعري، حيث تحضر السلفية الحرفية في بنية هذا الفكر كشق أصيل إلى جوار الشق العقلي.

بالطبع، لم تقلح محاولة الأشعري لتقنين المنطومة النقلية كما هي تقنيناً عقلياً: فبحكم طبيعة التنظير كان الشق العقلي يفرض خضوره على مساحة أوسع داخل هذه المنظومة، التي صارت تتحول إلى نسخة نقلية / عقلية مهجنة، الأمر الذي كان يزداد وضوحاً مع مرور الزمن على يد الأشاعرة اللاحقين من الباقلاني إلى الجويني حتى الغزالي. لكنه بقي على كل حال تعديلاً في “المنهج” أكثر مما هو في الموضوع، حيث ظلت البصمة المبكرة لعقلية الحديث هي الطابع المميز للوعي السني، بعد تطعيمه بعقلانية الأشاعرة “اللاعقلية” إن صح التعبير.

موضوعياً، يصعب الحديث عن فارق جوهري بين الأشعرية والسلفية، فسلطة النقل لا تزال حاضرة بقوة في صميم الوعي الأشعري. ومع ذلك رفضت مدرسة الحديث اعتماد الأشعرية داخل المفهوم الضيق لأهل “السنة والجماعة”، وهو موقف مبني على النفور التقليدي لأهل الحديث من “منهج” علم الكلام بطابعه العقلي اليوناني. وفي هذا الإطار نستطيع الحديث عن علاقة تقاطع مركبة بين الأشعرية والسلفية؛ الأشعرية التي يتسع حضورها على المستوى الشعبي العام، والسلفية التقليدية التي تحولت إلى تيار ثانوي محدود “عددياً” رغم حضورها “الجسيم” في ثقافة المدونة الرسمية.

-9-

في ما يتعلق بالتوافق مع الدولة، ليس ثمة فارق بين الموقفين السلفي والأشعري. فالأشعرية لم تبتدع مبدأ “الإقرار بولاية المتغلب” أي وجوب الصبر على الحاكم وتحريم الخروج عليه ولو كان ظالماً. بل كان هذا المبدأ حكماً فقهياً رائجاً على المستوى السني العام. وقد تم توظيفه سياسياً في مواجهة الفرق المذهبية المناهضة من الخوارج والشيعة. وروج له أحمد بن حنبل في نصه الشهير الذي يقول بأن الإمامة “تثبت بالقهر والغلبة.. ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبت ولا يراه إماماً براً أو فاجراً، (انظر أبو يعلي، الأحكام السلطانية، ص 23،24). وسيؤكد ابن تيمية كفقيه حنبلي على هذا المبدأ في سياق الرد المذهبي على الشيعة (منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 189، 190). لكنه سيعود فيخرج عليه في سياق المواجهة والشحن السياسي ضد التتار، من خلال الفتاوى المتعددة حول قتال “الطائفة الممتنعة”، التي تجيز القتال ضد جماعات ترفع شعار الإسلام دون حاجة لإذن الإمام. وهي الفتاوى التي ستعممها الحركات السلفية المتطرفة –بدءاً من الحركة الوهابية- على جميع الحكومات القائمة في العالم “الإسلامي”.

بوجه عام، بقيت الأشعرية تعبر عن الرؤية السياسية السائدة لدى الجمهور السني، والتي تقوم على التوافق المجمل مع الدولة “القائمة” والرفض الصريح لأفكار الفرق الغالية التي تكفر أو تفسق الحاكم وتوجب أو تجيز الخروج عليه. وهي الرؤية التي تكرس حضورها بقوة الأمر الواقع، وإسناد الفقه ،عبر تاريخ الدولتين الأموية والعباسية.

من خلال هذا الرصد نفهم كيف تفسر أشعرية الأزهر موقفه المزدوج: القريب نسيباً من الدولة “الوطنية” والمناهض نسيباً للغلو الأصولي.

-10-

الوضع المؤسسي للأزهر

التكييف القانوني – الصلاحيات الفعلية

من خلال التشريعات القانونية واللائحية المتوالية، تم ربط فقهاء الأزهر بالجهاز الإداري للدولة. وبوجه عام، أكدت هذه التشريعات على الوظيفة الأساسية للأزهر كهيئة تعليمية متخصصة في العلوم الشرعية الإسلامية، وتخريج رجال دين محترفين للعمل في المساجد والقضاء الشرعي. لكن هذه العملية ستنتهي إلى تكريس الأزهر كسلطة دينية ذات صلاحيات تمثيلية وتوجيهية أوسع من الغرض “الشعائري / التعليمي”، أعني تصعيده من مدرسة شرعية كبيرة ملحقة بمسجد مركزي إلى “مؤسسة” بيقروقراطية منظمة ذات هيكل تراتبي هرمي، يترأسه “شيخ أكبر” ويتمتع بشخصية معنوية مستقلة. وهي وضعية لم يعرفها التراث الفقهي السني بهذا الشكل المباشر قبل ظهور الدولة الوطنية.

(تشير المصادر إلى ظهور لقب “شيخ الإسلام” في وقت مبكر مع الدولة العثمانية، حين أطلقه محمد الفاتح على “المفتي” سنة 1451 م، وزادت أهميته تدريجياً حتى تحول إلى هيئة إدارية مقننة لائحياً في عهد السلطان سليمان القانوني  (ت 1566م).

لكن هذا المنصب ظل خاضعاً بشكل مباشر لإرادة السلطان، ويعمل على تقديم فتاوى تبريرية لأغراضه السياسة وإلا تعرض للقتل أو النفي، وهو ما حدث لآخر هؤلاء الشيوخ مصطفى صبري، الذي نفي من دولة الخلافة قبيل سقوطها. (انظر: حسان حلاق،  عباس صباغ، “المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية ذات الأصول العربية والفارسية والتركية” 1999 بيروت، دار العلم، ط، ص 133).

في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت الثقافة الدينية تشهد لحظة تراجعها القصوى على مستوى العالم، كانت الدولة المصرية تكشف عن توجه قومي علماني واضح، وبدأ وكأنها استطاعت أحتواء الأصولية السياسية التي أطلقها ظهور جماعة الإخوان قبل منتصف القرن. وفي هذا السياق صدر القانون رقم 103 لسنة 1961 ىبشأن إعادة تنظيم الأزهر ( وهو التشريع الرئيسي الذي لا يزال يحكم المسألة حتى الآن).

بدا واضحاً توجه القانون إلى تقليص الطابع المؤسسي المستقل الذي اكتسبه الأزهر، وربطه مباشرة بالسلطة التنفيذية للدولة: فجرى النص صراحة على تبعيته لرئاسة الجمهورية (المادة 2) وأعطى للرئيس سلطة تعيين شيخ الأزهر (المادة 5)، وألغى “جماعة كبار العلماء” التي تأسست سابقاً بالقانون رقم 15 لسنة 1911، وتواصل حضورها في القانون رقم 26 لسنة 1936، واستبدل بها “هيئة البحوث الإسلامية” ولم يشترط اختيار شيخ الأزهر من أعضائها (المادة 5).

أكد القانون على “الغرض التعليمي” بوصفه الوظيفة الأساسية للأزهر، فهو “الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره” (المادة 2). كما أكد على هذه الوظيفة بطابعها الديني بخصوص منصب شيخ الأزهر، فهو “صاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرئاسة في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته” (المادة 4،6).

-11-

بعد فترة قصيرة من انتهاء العهد الناصري، ستبدأ الدولة في التراجع تدريجياً عن زخمها المدني التحديثي الموروث من سياقات نشأتها المبكرة، والذي ظهر في ثقافة النهضة، وصار يمثل واحداً من ملامح الهوية المصرية. ارتبط هذا التراجع بظاهرتين متقاطعتين:

الأولى: ترجع إلى الهبوط النسبي في قوة الدولة بعد هزيمة يونيو 67، واهتزاز الثقة في شعارتها القومية، ونكوصها الديموقراطي الفادح.

الثانية: تتعلق بتبلور حالة الأصولية السياسية، التي أسهمت الدولة في تفاقمها بدور فاعل، بعد أن أعادت بنفسها -بحسابات سياسية ضيقة- إحياء التجربة الإخوانية. كان المخطط هو استخدام كمية “محسوبة” من الشحن الديني لامتصاص المد اليساري الناصري لصالح التوجهات “الليبرالية” الجديدة. لكن هذه العملية أسفرت عن توسع الإسلام السياسي وامتصاصه للمد اليساري والتوجهات الليبرالية معاً. وأعادت استدعاء الثقافة التقليدية على مستوى المجتمع، وداخل أبنية الدولة، واستفزت السلفية الكامنة لدى الأزهر. ثم أفضت في نهاية المطاف إلى الانفجار السياسي الهائل في يناير 2011.

أجواء الاستقطاب والترهل السياسي الناجمة عن الانفجار وفرت بالنسبة إلى الأزهر فرصة مناسبة للتعبير عن نزوعاته الاستقلالية، وأسفرت عن تحقيق المزيد من النفوذ المؤسسي: فخلال الفترة الانتقالية بادرت الدولة ممثلة في المجلس العسكري إلى إصدار تشريع جديد يقضي بتحصين منصب شيخ الأزهر من العزل، وإعادة هيئة كبار العلماء، التي سيسند إليها انتخاب الشيخ من بين أعضائها بدلا ً من تعينه بواسطة رئيس الجمهورية. (كان المجلس يراهن هنا على اعتدال الأزهر واتباطه التقليدي بالدولة، وذلك استباقاً لوصول الإخوان المحتمل إلى السلطة).

لكن صلاحيات الأزهر المؤسسية ستبلغ ذروتها خلال فترة حكم الإخوان الخاطفة:

فالقوى الأصولية (التي لم تكن تثق أصلا بالأزهر التابع للدولة) صارت تراهن على احتوائه واستخدامه ضد النزوعات المدنية المتوقعة للدولة العميقة.  لذلك، وفضلاً عن تثبيت النصوص الإجرائية السابقة التي تكرس استقلال الأزهر تم إضافة نص في الدستور يقضي بأن “يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية” (م 4 من دستور 2012).

وهو نص خطير من حيث ينطوي على صلاحيات “تشريعية” ملزمة، تؤسس لسلطة كهنوتية صريحة، لم يأمر بها النص الإسلامي، وتناقض كلياً مبادئ الدستور المدني، ومن شأنها أن تغير الوجه الوطني للدولة والمجتمع.

تظهر خطورة هذا النص في سياقات الشحن الأصولي السائدة، حيث يمكن لأي شيء في الدولة والمجتمع أن يدخل تحت مصطلح “الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية”. ويتفاقم الخطر في ظل التفسير المذهبي “الضيق” الذي اعتمده الدستور لـ”مبادئ الشريعة الإسلامية” بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع؛ فبحسب المادة 219 من هذا الدستور: “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة”.

كان الغرض هو استبعاد التفسير الطبيعي الواسع لـ”مباديء” الشريعة، الذي يشير إلى القيم الكلية المطلقة التي تمثل جوهر الدين، ويمكن من خلالها رد الكثير من أحكام الكراهية والعنف ونبذ الآخر، التي يحملها الفكر الأصولي نقلاً عن المدونة الفقهية.

اللافت هنا -وهذه نقلة غير مسبوقة في التاريخ التشريعي للدولة الوطنية في مصر- هو أن وضعية الأزهر المؤسسية لم تعد مسألة فرعية ينظمها “القانون” أو اللوائح، بل واحدة من القواعد الأساسية التي تتمتع بحصانة الدستور، ويرد النص عليها في الباب الأول (مقومات الدولة والمجمتع)، تحت الفصل الأول (المقومات الأساسية).

فترة حكم الإخوان القصيرة أظهرت أن الخطر الأصولي لم يعد يمثل تهديداً للوجه المدني للدولة فحسب، بل أيضاً لطبيعة التدين الشعبي التي تتسم بالسلمية والتسامح والقدرة على استيعاب حركة التطور الاجتماعي. (الحركات الأصولية تسيء عادة فهم الطابع الجياش للتدين الشعبي. ورغم أنها لا تحترمه بوصفه تديناً متساهلاً، تظل تراهن عليه كورقة سياسية وتظل تخسر الرهان).

الدولة، التي صارت أكثر تحسساً حيال الخطر الأصولي استعادت شيئاً من وعيها المدني. لكن برغم نجاحها في استعادة التوازن السياسي، ظل عليها الكثير لفعله في مواجهة الركام الثقافي الاجتماعي الذي خلفته الأصولية. جزئياً، تم استعادة الوجه المدني للدستور لكنه بقي محملاً بحمولات سلفية، وظل يحتفظ الأزهر بصلاحيات ذات طابع مؤسسي مناقضة لجوهر الدستور (راجع المادة 7 من الدستور الجديد 2014)، أما الأزهر نفسه فصار أكثر تمسكاً بالمكاسب المؤسسية التي اقتنصها في المراحل السابقة، وأكثر جرأة في التعبير عن موقفه المستقل حيال الدولة، ونفوذه التوجيهي حيال المجتمع.

وهذه مسألة تستحق المزيد من النقاش للوقوف على مظاهرها الإشكالية على مستوى الدستور والقانون والثقافة الاجتماعية.

***

عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري

.......................

عن منصة تكوين، يوم: أكتوبر 17, 2024

 

مناقشة حول المؤسسة الدينية

كنيسة الفقيه

تناقش هذه المقالة كيف تشكل “الفقه الإسلامي في عصر التدوين، وكيف تطور إلى منظومة نظرية شاملة، تنطق باسم النص وتملك صلاحياته الإلزامية، وتفرض هيمنة واسعة على مجمل الثقافة. وكيف – بالتوازي – تبلورت جماعة “الفقهاء” أو “العلماء” كطبقة دينية ذات نفوذ معرفي وحضور سياسي واضح.

الفرضية المطروحة للنقاش هنا هي:

أن الإسلام أنتج نسخته الخاصة من الكهنوت، بعد أن تحول الفقه إلى “مؤسسة معنوية” قابضة، تمارس وظائف “الكنيسة” التقليدية، التي تتحدث باسم الإله فتفرض وصايتها على المجتمع، وتزاحم الدولة في صلاحيتها الطبيعية.

أن هذه الوضعية التي كانت تتفاقم تدريجيا منذ مراحل التدوين، لم تتغير كثيراً بعد سقوط نظام الخلافة والتحول إلى نموذج الدولة الوطنية الحديثة. فبعد فترة التراجع النسبي أمام ضغوط التحول الحداثي، عادت الوصاية إلى الظهور مع بعض التحويرات الشكلية، ثم صارت تتزايد على المستوى الشعبي وفي مواجهة الدولة، بعد تفاقم حالة المد الأصولي، التي بلغت ذروتها في بداية القرن الحالي. التغير الموضوعي الذي يمكن رصده الآن هو تصاعد الوعي بالطابع الإشكالي لهذه الوصاية، التي تثير أشكالاً من التوتر الاجتماعي والسياسي، خصوصاً من جهة التناقض مع مبادئ الدولة الوطنية والدستور المدني، فضلاً عن تصادمها الضروري مع النزوعات الفردانية وقيم التعددية التي تتفاقم بشكل واضح في الوعي الحداثي.

-2-

لا أستخدم مصطلح الفقه هنا بمعناه الضيق، والذي ينصب في التراث الإسلامي على أحكام الفروع التفصيلية في العبادات والمعاملات فحسب، بل أشير من خلاله إلى مجمل المدونة المدرسية بأرضيتها الكلامية والأصولية التي صارت تمثل مرجعية عقلية وروحية حاكمة للوعي. فمع التداخل المعروف بين العلوم الإسلامية المبكرة، من سيرة، ولغة، وتفسير، وحديث، وكلام، وأصول فقه، توفر الفقه على موقع مركزي داخل الثقافة، واكتسب مصطلح “الفقيه” مساحة دلالية واسعة تشمل الإلمام بالعلوم الشرعية عموماً، وتنطوي على نوتع من السلطة المعرفية.

أدت عملية التدوين المتزامن إلى تشابك عضوي مؤكد بين الفقه وحركة “التحديث”، أي طلب الراوية التي كانت تجري على نطاق واسع، وأسفرت عن “تنصيص” جزء من مادة المدونة (تحويل قطع من الفقه إلى أحاديث مرفوعة)، كما أدت إلى تثبيت سلطة المدونة كشارح حصري ملزم للنص الأصلي وكرست نفوذ الفقهاء كوسيط كهنوتي مهيمن.

يحضر الفقيه بهذا المعنى الوظيفي الواسع في المذاهب الإسلامية الرئيسية الثلاثة؛ السني والشيعي والإباضي، مع تفاوت نسبي في حكم السلطة التي يمارسها على الجمهور ومساحة الدور الذي يؤديه على المستوى السياسي.

الفقيه الشيعي

يتوفر الفقيه الشيعي على صلاحيات افتائية وسياسية أوسع، وعلى حضور “تنظيمي” أوضح بالقياس إلى مثليليه الإباضي والسني. تشكلت هذه الوضعية بشكل تصاعدي بفعل الظروف السياسية والثقافية التي لابست تطور التشيع الإمامي تحت ضغوط القمع الأموي العباسي، والتي انتهت إلى الإعلان عن غيبة الإمام المعصوم الذي يملك حصريا حق الحكم والإرشاد الديني. في البداية تكلم الفقه (المفيد، ت 406 هـ) عن تفويض الأئمة للفقهاء في القضاء والحدود في زمن الغيبة. لكنه لم يتحدث “نيابة عامة” تشمل الحكم والسلطة العامة.

ثم توسع التنظير للفكرة تدريجياً لتمتد نيابة الفقهاء إلى الزكاة والأنفال والخمس، بدءاً من أبي الصلاح الحلبي (ت447 هـ)، إلى القاضي ابن براج (ت 481هـ)، ثم المحقق الحلمي (ت676 هـ) وصولاً إلى علي بن الحسين الكركي (ت 940 هـ) الذي أعطى الفقهاء ولاية واسعة عامة ذات بعد سياسي صريح.

بناء على ذلك، منح الكركي نفسه الحق – بوصفه نائباً عن الإمام الغائب – في تفويض الحكم إلى الشاه الصفوي طهماسب ليحكم باسم الإمام. هنا صارت سلطة الدولة الصفوية تتأسس على “شرعية” جديدة هي شرعية النيابة عن الإمام عبر الفقهاء، وليس على تفويض مباشر من قبل الإمام نفسه كما زعم الملوك الصفويون الأوائل.

وأخيراً ظهرت تنظيرات الشيخ النراقي (ت 1245 هـ) الذي قال بتصدي الفقهاء مباشرة للولاية العامة الشاملة، وممارسة الحكم بصلاحيات الإمام تحت إسم “ولاية الفقيه”. وهي الفكرة التي سيعيد الخميني صياغتها في إطار “عصري” على أسس نقلية وجدلية متنوعة، والأهم أنه استطاع أن يضعها موضوع التطبيق من خلال الثورة على الشاه، الأمر الذي منحها زخماً نظرياً مكافئاً لحضورها السياسي. بحسب الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” “إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمر المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعيوا… لقد فوض الله الحكومة الأسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه إلى النبي وأمير المؤمنين”.

نحن هنا حيال طرح ثيوقراطي صريح، يؤسس لسلطة الكهنوت؛ فالفقيه يحكم بتفويض إلهي مباشر شأنه في ذلك شأن النبي وأمير المؤمنين. لا يناقش الخميني الآن فكرة ثبوت حق الحكم للنبي وأمير المؤمنين وخلفائه من الأئمة المعصومين (فهذه مسلمة دينية يقينية مفروغ من صحتها)، بل يناقش سلطة الحكومة الإسلامية المفوضة إلى الفقهاء (الشيعة بالطبع). والتي يجب إنشاؤها لإقامة الإسلام.

يصل الخميني بسلطة الكهنوت على المجتمع إلى الحد الأقصى، لا مقارنة بالنموذجين الإسلاميين المقابلين فحسب، بل مقارنة بالنموذج المسيحي الكاثوليكي ذاته في مراحل ذروته في العصور الوسطى. فبامتداد هذه المراحل، ورغم تغولها الواسع على المجالين العام والخاص، ظلت الكنيسة تقر نظريا ً بالحضور العلماني للدولة كسلطة زمنية ذات اختصاص سياسي أصيل، ولم تطرح نفسها كبديل نهائي عن الدولة يستغرق مساحة السلطة. وفي هذا السياق ظلت الإشكالية الكبرى تتمثل في إزدواجية السلطة التي تمزق وعى الفرد والمجتمع بين ولائين متناقضين وواجبين في الوقت ذاته.

وبوجه عام، في خضم الصراع مع الملوك الزمنين، لم ترحب الكنيسة بنظرية ” التفويض الإلهي” لتأسيس سلطة الملك، ولم ترفض نظريات “العقد الاجتماعي”، التي جرى طرحها لتأسيس هذه السلطة بدءاً من هوبز ولوك واسبينوزا حتى رسو. لكن أداء الكنيسة في ظل الازداوجية كشف عن العيوب الفادحة للكهنوت، التي صارت تعرض للنقاش أمام الجمهور منذ عصر الإصلاح البروتستانتي، وتتفاقم صورها مع توجهات عصر النهضة، التي مهدت لأفكار التنوير والحداثة.

لم تحظ نظرية ولاية الفقيه بالإجماع، داخل الفكر الشيعي المعاصر، بوصفها نظرية تحكمية تفتقر إلى دعم “نصي” صريح بالمقاييس الإمامية الكلاسيكية، التي تتحفظ على إنشاء الدولة أصلا قبل رجعة الإمام الغائب. بالإضافة إلى أوجه اعتراض تفصيلية ترفض منح السلطة المطلقة لفقيه واحد أعلى، أو تذهب بجرأة إلى فكرة الشورى “السنية” بعد تطعيمها بلمسة تأصيل شيعية (راجع الطرح الذي قدمه الفقيه اللبناني محمد مهدي شمس الدين بحديثه عن ولاية الأمة على نفسها” مقابل “ولاية الفقيه” حيث يفرق بين مرحلة وجود المعصموم أي النبي والأئمة وفيها يكون الحكم شأناً إلهياً، ومرحلة عدم وجود المعصوم أي زمن الغيبة، وفيها تستند سلطة الحاكم مباشرة إلى اختيار الأمة. انظر:

“نظام الحكم والإدارة في الإسلام”، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 2000، ط 7، ص 210، وللاطلاع على نموذج متطور للاجتهاد الشيعي قبل الخميني، انظر كتاب النائيني (ت1936م) “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان “الاستبدادية والديموقراطية، سنة 1930)

بالطبع، تواجه النظرية باستنكار واضح من قبل الفكر السني، من جهة تأسيسها من حيث المبدأ على فكرة “النص الإلهي” الذي يطعن في شرعية “الخلفاء الراشدين”، ويحصر حق الحكم في عدد محدود من الأئمة من أبناء علي وفاطمة حتى نهاية الزمان.

بمقاييس الحداثة السياسية تبدو ولاية الفقيه فكرة ماضوية مناقضة لحركة التاريخ، وتمثل انتكاسة فادحة على القيم المدنية السائدة في الوعي المعاصر، والتي تنطلق من مبدأ الحرية الإنسانية وتروج لتعددية الفكر وفردانية الذات. عملياً، ورغم تحققها على أرض الواقع، لم تقدم النظرية نموذجاً ناجحاً لصيغة حكم سياسي وفيما فشلت في إنجاز حلول لمشاكل المجتمع الإيراني الداخلية، أو تطوير إمكانياته الاقتصادية والثقافية والسياسية، وأسفر أداوؤها الخارجي عن تصعيد حالة “التوتر”، الأصولي القائمة أصلاً، وتأجيج الخلافات المذهبية التي عفى عليها الزمن، والتي عادت لتمثل مصدراً مباشراً للصراع السياسي الدموي في المنطقة.

3 – الفقه الإباضي:

يحظى الفقيه بموقع مركزي في الثقافة الإباضية، يشبه موقع الفقيه الشيعي في الثقافة الإمامية، وهو في الحالتين أعلى من موقع الفقيه السني؛ بحسب الفقه الإباضي: ” أجمع المسلمون (يعني الإباضية) على أنهم عند عدم تلك العقدة من الإمام يجوز لولي من علماء المسلمين أن يقوموا بما يجوز أن يقوم به الإمام إذا عقدت له تلك العقدة. وأنهم أولياء للأمور التي تقوم بالأمام إذا لم يكن إمام معقود له” ( الكندي، أحمد بن عبد الله بن موسى، المصنف ج 10 .، ص 26.) والأصل في الإباضية أن اختيار الإمام وتنصيبه من صلاحية الفقهاء والعلماء، يقول أبن المؤثر: “إذا ظهر المسلمون اجتمع في الأرض فقهاؤهم وذوو الرأي وأهل الفضل منهم، واجتهدوا لله في النصحية، واختاروا رجلاً طاعة لله لا لطاعتهم ” (المصنف السابق، ج 10.، ص 63). ويدخل ذلك في باب الإجماع بحسب الكندي حيث أن الأصل في الإمام ذاته أن يكون فقيها، وهو ينقل عن أبي عبيدة المغربي “لا ينبغي أن يؤمهم إلا أفقهم وأعلمهم بالكتاب والسنة، مع ورع صادق، ويقيني خالص، وعفة ظهر وبطن” (المصنف السابق ج 10.، ص 66).

يعالج النص الأول حالة غياب الإمام أو عدم وجود الدولة، وهي حالة متكررة في تاريح الجماعة الإباضية، التي ظلت تظهر كفرقة أقلية تسعى لتحقيق دولتها عى هامش الدولة المركزية، ونجحت في الوصول إلى هذا الغرض، لكنها سقطت، عدة مرات أمام هجمات الجيوش الأموية والعباسية، مما كان يفرض عليها الانتقال إلى وضعية الدفاع أو العودة من جديد إلى طور الكتمان. وأدى تكرار هذه الدورة إلى تكريس مفهوم “الجماعة” كبديل عن الدولة. ومن هنا تأتي الأهمية النسبية لهذه الحالة في الفقه الإباضي بالقياس إلى الفقه السني الذي لم يشهد تاريخه غياب الدولة. أما الفقه الشيعي الذي لم يعاين حضور الدولة في الواقع إلا في وقت متأخر جداً (القرن العاشر) فكان عليه مواجهة المشكل الإباضي ذاته وهو غياب الإمام، لذلك، ورغم الاختلاف الواضح بين الحالتين في طبيعة الإمام، وأسباب غيابه، وفي طريقة المعالجة الفقهية، يظهر التشابه بينهما في حضور “الفقهاء”، أو علماء الدين، للقيام بوظيفة الدولة الغائبة أو الإمام الغائب.

يتكلم النص الإباضي عن “ولاية فقيه” صريحة يمارسها العلماء عند عدم وجود الإمام. ولكنها ليست كولاية الفقيه الشيعية التي تطورت عن نظرية “النيابة العامة” عن الإمام في زمن الغيبة، فالفقهاء الإباضيون الذين ” يقومون بما يجوز أن يقوم به الإمام” ليسوا نوابا عن هذا الإمام، ولا يستمدون السلطة من تفويض مفترض من قبله، بل يمارسونها بوصفهم “أصلاء” تنفيذاً لتكليف شرعي مستمد مباشرة من النص.

في الفقهين السني والإباضي تقوم النظرية السياسية على مبدأ الشوري، أي اختيار الحاكم من قبل النخبة أو “أهل الحل والعقد” وليس بالوصية المنصوصة كما يذهب التصور الشيعي. ولكن المسار التطبيقي للمبدأ يسفر عن فوارق واضحة في تاريخ الفقهين:

ففيما كان مفهوم أهل الحل والعقد في النظرية السنية يشير أساساً إلى القوى الاجتماعية والساسية الفاعلة التي يعبر عنها ابن تيمية بأصحاب الشوكة، يضيق هذا المفهوم في النظرية الإباضية حتى يكاد ينحصر في فقهاء الدين أو “أهل العلم من المسلمين”، بتعبير محمد بن إبراهيم الكندي صاحب “بيان الشرع” (لا يغيب دور الأعيان الفاعلين تماماً في النظرية الإباضية، لكن المكون الرئيسي لأهل الحل والعقد هو العلماء). يشرح الكندي: “أجمع رأي المسلمين من بعدد رسول الله (ص) أن الإمامة لا تجب للإمام من بعد إمام وعزله إلا عن مشورة أهل العلم ورضى منهم على النصح لله، ثم يكون حجة على من غاب”. ولذلك يعقد الكندي في المصنف بابا ً تحت عنوان “في عقد غير الأولياء” يستهله بالتساؤل “هل للإمام أن يقبل الإمامة من غير من يتولاه؟ قال: وكيف يقبلها من غير من يتولاه؟ قيل لو عدم العلماء ورجا أن يقوم ولم يكن إلا السادة هل يقبل منهم؟”.

لكن الفارق الأوضح بين النسقين الإباضي والسني يظهر على مستوى التطبيق العملي لآلية الحل والعقد. سنياً تم تفريغ هذه الآليه من مضمونها بإقرار شرعية التغلب، وتفعيل دور الشوكة خلافاً للسياق الإباضي حيث أدى أهل الحل والعقد من العلماء دوراً فعلياً مؤثراً في تاريخ الإمامات الإباضية خصوصاً في التجربة العمانية. يمكن الحديث عن تقنين ضمني لجماعة العلماء “كمؤسسة” ذات صلاحيات “دستورية” ملزمة، تشبه صلاحيات المجلس التشريعي الواسعة في اختيار الحاكم، ومراقبته، وتوجيهه وعزله عند الاقتضاء. يظهر الكهنوت هنا كمؤسسة معنوية ذات حضور سياسي واضح، رغم أنه لم يتبلور كهيئة بيروقراطية هيراركية منظمة على غرار الكنيسة الكاثوليكية.

4- الفقه السني:

متى وكيف تشكل كسلطة كهنوتية ؟

في تحقيب التطور التشريعي الفقهي، سأعتمد تقسيماً سياسياً وصفياً، من عصر الخلفاء الأوائل حتى نهاية عصر التدوين، حيث اكتملت منظومة الفقة والمدونة الإسلامية. الغرض هو قراءة هذا التطور ضمن سياقه الاجتماعي (الطبيعي)، خلافاً للقراءة السلفية الموروثة التي ترجع بمنظومة الفقة وحجيتها المرجعية إلى زمن النص التأسيسي، وتنكر أن يكون ثمة تطور في مادة الفقه أو في بنية الحديث ناجم عن تطور اجتماعي، فهناك منذ البداية أحكام إلهية في الكتاب و”السنة”، منقولة من النبي إلى الصحابة إلى التابعين فتابعي التابعين. لا وجود للزمان الاجتماعي، ثمة فقط زمان ديني مجرد ومتواصل عبر مصطلحات التدين (الرسول / الصحابة / التابعون / تابعو التابعين/ العلماء ورثة الأنبياء). لقد سبق النشاط الفقهي عملية التحديث التي خلقت النص السني، ثم تزامن معها وأثر فيها عن طريق القلب، بحيث يمكن الحديث عن دور إنشائي فاعل للفقه في توسيع مساحة النص.

بوجه عام، سأعتمد في هذا التحقيب على السردية التاريخية التي تقدمها المصادر الإسلامية المبكرة، دون غض النظر عن إشكالياتها التوثيقية. بوصفها – على كل حال – المصادر المتاحة والفعلية التي تشكلت من خلالها ثقافة العقل الإسلامي بامتداته السلفية الراهنة، ومن ثم فهي تحتفظ بقوتها الاحتجاجية في مواجهة هذا العقل على الأقل.

مرحلة الخلفاء “الراشدين” (11- 40 هـ)

مع ظهور الدين كقيم مستقلة نسبيا عن الثقافة السائدة، ظل القانون العرفي حاضراً كامتداد طبيعي تضاف إليه أحكام “الخليفة”لم تظهر أي سلطة تشريعية أو إفتائية لمطلح “الصحابة” مستقلة عن سوابق الخليفة بصفته حاكماً. (سيجري التنظير لهذه السلطة لاحقاً عبر الكلام عن حجية قول الصحابي). وعلى مستوى اللاهوت ظل قانون الإيمان بسيطا حول الله / الوحي / النبي (سيطرح لاحقاً وبأثر رجعي تنظير شيعي مقابل. كما ستطرح تأويلات كلامية مركبة حول الأسماء والصفات، وتأويلات صوفية باطنية تصل إلى القول بوحدة الوجود).

يمكن الحديث عن روح ديني كلي حاضر في وعي الخليفة وبالتالي في سلوك الدولة البسيطة التكوين. مع ذلك، ولأن فكرة “النصية” لم تكن قد تبلورت كمفهوم نظري قبل جمع المصحف، نقابل في أداء الخليفة ممارسات عفوية غير مطابقة تماماً للنموذج الرسمي الذي سيقدمه التنظير السني نقلا عن النص (أحكام عمر التشريعية التي تكشف عن نزعة متصرفة، وأحساس فطري بالمعنى الاجتماعي في التدين وفي سلطة الدولة كليهما).

بالطبع، لم يكن قد ظهرت بعد آثار الاحتكاك بين المناطق الجغرافية الواسعة التي تم ضمها عبر الغزو ومادة الدين الجديدة المحمولة حينذاك على حوامل عربية خالصة. كانت هذه المادة تتشكل على مهل وتعمل في نطاق محصور في المدينة عاصمة الدولة، بالإضافة إلى معسكرات الجيوش العربية التي تحولت إلى مدن كبيرة في البصرة والكوفة والفسطاط ومناطق الشام. أما المناطق الداخلية في الجزيرة، التي كانت تتفاعل ببطء مع قيم وأحكام الدين الجديد، فظلت محكومة بأعرافها القبلية، تماماً مثل البلاد المفتوحة التي تركت لتشريعاتها المحلية.

كان النشاط التشريعي يصدر رسمياً عن الخليفة والولاة التابعين له في الأمصار وعن القضاة الذين عينهم هؤلاء. تدريجياً ومع استقرار الصحابة في الأمصار بدأ يظهر نوع بسيط من النشاط الإفتائي خارج دائرة القضاء، سيتم نقله عن طريق التابعين ليلعب من خلال التنظير دوراً مرسوماً في منظومات الراوية، والتفسير، والفقه. ومع استبعاد مبالغات التنظير السني حول هذا النشاط، يصح افتراض أنه مثَل نواة الحركة الفقهية التي ستنشأ على يد “التابعين” مستقلة عن النطاق القضائي الرسمي، والتي ستحول قبل نهاية القرن الرابع إلى مؤسسة نظرية ذات سلطة داخل الثقافة الإسلامية.

الطور الثاني

يبداً هذا الطور بتولي عثمان بن عفان الخلافة. وفيه تسارع اختمار الصراع على السلطة بسبب أداء عثمان السياسي والديني. وفي هذا السياق تبرز أهمية الحدث الكبير المتمثل في عملية جمع المصحف. أعني إلزام المسلمين بنسخة بعينها من آيات القرآن التي صارت كتاباً يضم “نصاً طويلا واحداً”.

عملية جمع وتوحيد المصحف ستفرض طريقة جديدة للتعاطي مع الآيات تختلف عن طريقة التعاطي معها في عصر التنزيل والفترة التالية مباشرة له، فهي الآن جزء من نص يلزم قراءته كبناء لغوي كلي، وليست مجرد معطيات متفرقة مرتبطة بسياقات واقعية معينة.

تظهر الآن وضعية معرفية جديدة، تنتقل بالعقل العربي المسلم، الشفهي التكوين، إلى بداية التفكير الديني النظري، بعد أن توفرت آلية التأسيسي اللازمة لهذا النمط من التفكير في شكل نص جاهز مكتوب.

في هذا الإطار نفهم ظهور مصطلح “القراء” الذي يشير إلى تعاطي منظم مع القرآن كنص كلي، من قبل تيار ينتمي إلى القبائل العربية (المتذمرة من هينمة قريش) في الأمصار وخصوصاً الكوفة. كانت القبائل قد بدأت في التفاعل مع الإسلام كدين، وليس مجرد حلف سياسي مفروض بالسيف وقوة الدولة. ومثلت ظاهرة القراء التجلي الأول لهذا التفاعل في وسط سياسي واجتماعي مضطرب، وعبرت عن تدين الجيل الثاني، الذي نشأ من التفاف أبناء القبائل حول الصحابة في الأمصار في غضون الفتح وخاصة بعد وفاة عمر.

فهم من “التابعين” وإن كان مصطلح القراء أقدم من مصطلح التابعين، الذي سيتبلور لاحقاً في أحضان علوم الحديث.

2 – المرحلة الأموية (40 – 132 هـ):

في مرحلة الراشدين كان النشاط التشريعي يصدر من خلال الدولة (الخليفة- القضاة)، وكانت الأحكام تؤسس على قواعد العرف الشفوي التي “جرى عليها العمل” (وهي مرجعية قانونية متداخلة تضم إلى التقاليد العربية القديمة، أحكام القرآن، وسنن النبي العملية، وفتاوى الصحابة ). لكن مع المرحلة الأموية سيبدأ تدريجياً حضور ظاهرتين جديدتين:

الأولى: ظهور نشاط تشريعي خارج مجالس الحكم والقضاء.

الثانية: تزايد الوعي بسنن الرسول كمصدر ملزم ومستقل عن مرجعية العرف الشفوية، ومن ثم تصاعد عملية الطلب على الراوية وتدوين الأحاديث.

بشكل متداخل ستعمل الظاهرتان معاً على بلورة مفهوم “الفقه” وتصعيد مفهوم “السنة” الأمر الذي كان يعكس تزايد الوعي “بالدين”، وتشربه كمعطي قائم بذاته بين جمهور القبائل العربية التي كان ارتباطها بالإسلام في البداية سياسياً محضاً، كما ظهر في حروب الردة.

مآلات الكفر والتكفير رؤية متسامحة من واقع تراثنا الفقهى

عند منتصف القرن الأول كانت المساجد الكبرى في المدينة ومكة والأمصار تشهد مجالس استماع تدور حول قصص السيرة النبوية وأيام العرب وأخبار الخلفاء. وتشير المصادر إلى ظهور حلقات متخصصة في الفقه (أحكام الفروع التكليفية) قبل نهاية القرن. ففي الكوفة ستظهر أسماء مثل علقمة بن قيس النخعي، (ت 62 هـ)، ومسروق بن الأجدع الهمداني (ت 63 هـ)، وشريح بن الحارث الكندي (ت 78 هـ) وإبراهيم النخعي (ت 95)، وحماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) وهو شيخ أبي حنيفة. وفي المدينة نقرأ عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ)، وعروة بن الزبير (ت 94 هـ)، وسليمان بن يسار (ت 155 هـ)، ونافع مولى عبد الله بن عمر (ت 117 هـ)، وابن شهاب الزهري (ت 124هـ). وفي البصرة يبرز إسم مسلم بين يسار (ت بعده 80 هـ)، ومحمد بن سيرين (ت 115 هـ) وأبي أيوب السختياني (ت 131 هـ). وفي الشام نقرأ عن مكحول (ت 113 هـ)، وفي اليمن عن طاووس ( ت106 هـ) (انظر وكيع، أخبار القضاة. 22 والشيرازي، طبقات الفقهاء ص 54 – 88 . وابن خلكان، وفيات الأعيان .12. وانظر ابن حبان، الثقاة، ص 189- 222).

بالمصطلح السلفي ينتمي هؤلاء إلى طبقة التابعين وتابعي التابعين، وقد مارسوا نشاطا معرفياً مبكراً يدور حول النص الأصلي وتاريخ الرسول. ومنهم تشكلت “الموجة الأولى” مما سيصبح “طبقة فقهاء” تتعاطى النظر التشريعي من خارج الدولة لا بمعنى أنه كان يعبر عن تناقض مع توجه الدولة (فقد كان على العكس يساند توجهها الأيديولوجي “السني”)، ولكن بمعنى أنه كان يصدر من خارج مؤسسة الحكم والقضاء، وبمعنى أنه كان نشاطاً فكرياً بدأ يتحول بالتشريع إلى “علم نظري” مطلوب لذاته بداوفع تدينية أوسع من دوافع القضاء “العملية”.

ثمة إذن اقتران زمني بين النشاط الفقهي المبكر والدولة الأموية. لكن الواضح أن هذا النشاط لم ينشأ بتوجيه مقصود من الدولة أو بمساهمة تشجيعية منها. وإذا استثنيا فترة عمر بن عبد العزيز القصيرة، يكشف تاريخ الدولة الأموية منذ البداية عن روح “علماني” طبيعي فهو لا يماهي بين وظيفة الدولة (المندفعة عملياً بغريزة السلطة) وطبيعة الدين (الذي يتطور حضوره بقوة أندفاع أبطأ). ورغم المقولات الدينية التي استخدمت أحيانا في تبرير الاستبداد كمقولة القدر، لم يزعم الأمويون أن وظيفة الدولة هي حراسة الدين، كما سيفعل العباسيون.

مع ذلك، يمكن قراءة السياسات الأموية كعامل مؤثر في تصعيد وتشكيل عمليتي الفقه والتحديث المتداخلتين. أتحدث هنا عن المماراسات القمعية غالباً التي أسهمت في تكريس الافتراق السياسي وتحويله إلى مذهبية دينية (راجع النقاش الموسع حول دور العامل الأموي في توليد الشيع وتحويله إلى حركة سياسية مذهبية، وكذلك توليد الاعتزال النظري المبكر. في كتابي “السلطة في الإسلام” الجزء الأول، الفصل الأول. والجزء الثاني ص 241 – 247 ). أدى القمع السياسي إلى توسيع دائرة الجدل وتفتيق المقولات، وهو المناخ التي اشتغلت وتكونت فيه منظومة – أو منظومات – الفقه.

من خلال هذا الرصد السياسي نستطيع قراءة العملية “الفقه حديثية” في سياقها الطبيعي كفعل اجتماعي تاريخي. خلافاً للرؤية السلفية المدرسية التي تضفي على هذه العملية بعداً إطلاقياً يربط بينها وبين الوحي، فهي تفصل موضوعياً بين الحديث والفقه، فتقدم الحديث على أنه نص موثق الإسناد إلى الله، وتقدم الفقه بوصفه نتاجاً مبيناً على النص الذي يشمل الحديث أي بوصفه عملية لاحقة على الحديث وليس العكس؛ على مستوى الحديث يجري الكلام عن عملية تناقل متسلسلة للوحي من الرسول إلى الصحابة إلى التابعين إلى الأمة، وعلى مستوى الفقه يجري الحديث عن عملية تناقل للعلم.

3- المرحلة العباسية

عصر التدوين الطويل

نشأت الدولة العباسية (132 هـ) من رحم جماعة عائلية ترفع شعار الإصلاح الديني

في مواجهة السياسات الأموية ذات الطابع العلماني “الدنيوي”. وبتأثير العوامل الفارسية برزت فكرة الدولة حارسة “الدين” المنقولة من التراث. الزرادشتي الساساني. وأسهم ذلك في تكريس الدمج بين الدين والدولة، وتصعيد حضور الدين داخل المجتمع، ما سيمهد الطريق لعملية التنظير الواسعة التي صنعت الشكل النهائي المدرسي للديانة الإسلامية.

صارت الدولة ضالعة مباشرة في توجيه ثقافة التدين، وأسهمت في تصنيع الطبقة الفقهية وتصعيد نفوذها المعرفي. (الصيغة النهائية للمذهب السني كما نعرفها الآن، لا يمكن فهمها إلا من خلال الدور الذي أدته السياسات العباسية – بالفعل ورد الفعل – في تكريس منهجية الحديث. أشير إلى حركة المتوكل التي أدت إلى تثبيت رؤية أهل الحديث النقلية، كرد فعل مضاد للسياسات الاعتزالية المتطرفة التي فرضها المأمون والمعتصم والواثق. (راجع كتابي “السلطة في الإسلام – العقل الفقهي” الفصل الثاني.

شهدت المرحلة العباسية خلال القرون الثلاثة التالية ذروة “التنصيص” والفقه معاً؛ اكتسب الحديث تحت مسمى السنة، حجيته الكاملة كنص مكافئ للقرآن، وعندما انتهت عملية التحديث في أواخر القرن الرابع، كان الفقه قد تبلور بخصائصه المعروفة:

لائحة تشريعية مدونة (تضم مجموعات متنوعة من الأحكام في فروع العبادات والمعاملات).

مرجعية منهجية نظرية (تمثل مبادئ أصول الفقه)

سلطة معرفية، شبيهة بسلطة النص (يستند إليها القضاء ويتصاعد نفوذها على الجمهور).

لقد حل الفقه (كلائحة أحكام موضوعية) محل قانون مكتوب كان يمكن تصور صدوره عن الدولة. وحل الفقهاء (كهيئة معنوية افتراضية) محل مؤسسة تشريعية كان يمكن تصور قيامها ضمن مؤسسات الدولة. وبطبيعة الحال كانت هذه الوضعية تعكس نمط التفكير وتوجه الثقافة في العصر الوسيط الإسلامي. وأنا لا أهدف هنا إلى محاكمة هذا النمط بمعايير الثقافة الحداثة بل أحاول رصد الصورة كما كانت في عصر التدوين وشرحها بمصطلحات الثقافة الراهنة. كيف تطور الفقه من خلال الطبقة الفقهية كمؤسسة معنوية ذات سلطة في مقابل الدولة من جهة، وداخل المجتمع من جهة ثانية؟ ما مظاهر هذه السلطة، وكيف نقرأها كصيغة “إسلامية” خاصة من صيغ الكهنوت؟

سأعتمد هنا على المقارنة إلى مفهومين: مفهوم “المؤسسة” ومفهوم “الكنيسة”:

لا يزال مفهوم المؤسسة يلعب دوراً واضحاً في مجال التحليل السياسي والاجتماعي. وبغض النظر عن تعدد تعريفاته من زوايا تخصصية أو أيديولوجية مختلفة، يستخدم المصطلح للإشارة إلى نوعين من الكيانات الاجتماعية المنظمة، الأول: يشير إلى كيانات مادية ذات تكوين عضوي ملموس، يتوفر على صفة رسمية يحددها القانون أو النص، مثل الكنيسة، والمدرسة، والوزارة، والدولة.

والثاني: يشير إلى أنساق من الكيانات المعنوية التي يحتوي عليها الاجتماع، كما في الحديث عن مؤسسة القرابة أو مؤسسة الزواج.

إسلامياً، وبامتداد مراحل التدوين، لم يكتسب الفقه من خلال الفقهاء قواماً مؤسسياً بالمعنى العضوي مقارنة بالكنيسة الكاثوليكية، ومع ذلك لا يمكن اعتباره مجرد فكرة معنوية بالمعنى الذي نفهمه عن مؤسسة القرابة أو مؤسسة الزواج.

مقارنة بالكنيسة يمثل الفقة أقل من مؤسسة مادية، ومقارنة بالقرابة أو الزواج يمثل ما هو أكثر من مؤسسة معنوية.

على المستوين العملي والنظري، يمكن الحديث عن صلاحيات معرفية وسياسية للفقه تشبه صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، لكنها تظل في مرتبة أدنى من الكنيسة، من حيث مساحة السلطة، وعمقها، فضلاً عن افتقارها إلى آلية التأسيس النصي الكتابي التي تتوفر عليها الكنيسة.

-5-

عملياً، ورغم نفوذها المتفاقم، ظلت الطبقة الفقهية تعمل من تحت السلطة الحاكمة لتعبئة التأييد السياسي والتحريض على حركة الغزو، وتم توظيف الفقهاء في الدواوين الإدارية ومناصب القضاء. وعلى المستوى الشعبي تزايدت صلاحياتهم في الإفتاء، وتضخم حضورهم الاقتصادي من خلال الإشراف على الزكاة والأوقاف الأهلية، وتمادى نفوذهم إلى ممارسات ضبطية داخل المجتمع ستتطور إلى صيغة الحسبة، وهي ممارسات تنطوي على حشرية أخلاقية وقانونية غير مؤسسة نصياً، لكنها ستحظى بتنظيرات فقهية ذات طابع تأويلي.

على المستوى النظري سيجري الترويج لسطلة الطبقة الفقهية التي ستمثل المكون الأول من هيئة ” أهل الحل والعقد” الموكول إليها عملية اختيار الحاكم. وبحسب الجويني إمام الحرمين (ت 478 هـ) “يعتبر العلماء هم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أوامرهم، والانكفاف عن مزاجرهم”.

وفي كتابه الشهير “غياث الأمم” يحيل الجويني سلطة الحكم إلى العلماء عند خلو الزمان من قائم بأمر الله: ” إذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم”.

هل كان الجويني يتحدث عن مؤسسة حاضرة بالفعل؟

أم يدعو إلى تأسيسها تنظيراً للواقع؟

أم يأمل في تكريسها من باب وعيه بحجم النفوذ الفعلي لسطلة الحاكم الفرد المطلقة.

يتبع

***

عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري

عن منصة تكوين، يوم: أكتوبر 11/10/2024م

 

في كتابه الأخير «العقدة الديمقراطية»، يواصل الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه تفكيك أزمة المجتمعات الليبرالية الغربية، رافضاً اختزالها في صدام الاتجاهات النيوليبرالية والشعبوية كما يرى الكثيرون. وبالنسبة لغوشيه، ترجع جذور هذه الأزمة إلى التناقض المتزايد بين مبدأي الديمقراطية الليبرالية ذاتها وهما: الذاتية الفردية الحرة المحمية قانونياً ومؤسسياً، وسيادة الدولة بصفتها التعبير عن الإرادة المشتركة المطلقة. لقد نجحت في السابق الصياغاتُ التأليفية بين هذين المبدأين، وفي الوقت الحاضر انهارت هذه الصياغات بانتقال معيار السيادة من الأمة إلى الفرد الذي غدا محورَ العمل السياسي بكامله. ومن هنا يخلص غوشيه إلى القول بأن الحركية الديمقراطية قامت في السابق للوقوف ضد تجاوزات السلطة الاستبدادية المطلقة، وهي اليوم تواجه تحدياً مماثلاً للوقوف ضد تجاوزات الفردية الحقوقية والقانونية التي هي في طور ابتلاع السياسة.

وفي هذا الكتاب، يستعيد غوشيه الجدلَ الكبير الذي ولّده ما سماه البعض «ديكتاتورية القضاء»، أي الاتجاه المتنامي في البلدان الغربية لتخويل المؤسسة القضائية سلطاتٍ تتجاوز نطاقَها المحدد في نظام الفصل بين السلطات الذي هو الخلفية العميقة للديمقراطية الليبرالية.

وهذا الإشكال في واقع الأمر إنما ينبع من سؤال محوري يتعلق بمرجعية القانون في النظام الليبرالي الحديث، باعتبار أن القانون انفصل من جهة عن المدونة العقدية والتشريعية المقدسة، في الوقت الذي أصبح فيه المضمونَ الوحيدَ للمواطَنة في الدولة المدنية المتشكلة من التوافق الاجتماعي الحر. ومن هنا السؤال الأساسي حول مصدر القانون في مجتمع سياسي ينبع من داخل التركيبة الاجتماعية نفسها، هل هو نتاج توافق محدود وجزئي بين إرادات ذاتية وفق مصالح ومواقف مرحلية ضيقة، وبالتالي ليس له سقف معياري محدد، أم هو التعبير عن مضمون عقلاني ثابت لقيم جماعية مدنية مشتركة، كما ترى المدرسة القانونية الوضعية، بغض النظر عن مسطرة اعتماده الإجرائية؟

لقد طرح هذا السؤال بقوة في الفكر الليبرالي الحديث، منذ هوبز وروسو، فذهب أولهما إلى التمييز بين الحق الطبيعي من حيث هو قائم على الإرادة التعاقدية الحرة المتجسدة في الإذعان الطوعي لسلطة الدولة القهرية الضامنة للسلم الأهلي، وبين القانون الطبيعي الذي هو صوت العقل في الممارسة التشريعية.. بينما اعتبر الثاني أن القانون لا معنى له إلا إذا كان التجسيد العملي للإرادة المشتركة للمجتمع.

لقد تطور هذا الجدل في الوقت الراهن إلى نقاش جذري حول علاقة القانون، في دلالته الحقوقية الأساسية، بالسياسة من حيث هي تدبير سيادي حر للشأن العمومي. وفي حين يرى البعض أن القانون هو خط الحماية الفاعل والحاسم ضد تجاوزات السلطة السياسية، ومن هنا التحول الداخلي في الحقل القانوني إلى حد خروجه عن الحدود السيادية للدول، يعتبر آخرون أن الممارسة القانونية التبست بالفعل السياسي فأفقدته تميزَه وخصوصيتَه.

وفي هذا السياق، كان الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت يقول إن الحالة الليبرالية عاجزة عن حفظ مكانة السياسة في دلالتها التحكمية التقريرية، فهي إما مجرد تطبيق عملي لمدونة قانونية عليا أو محض تسيير اقتصادي فني لموارد عمومية.

ما تسعى إليه التيارات الشعبوية الصاعدة في جل الديمقراطيات الغربية هو إعادة الاعتبار للسياسة من حيث هي تدبير سيادي للحقل العمومي، مما حدا ببعضهم إلى المطالبة بتفكيك «دولة القانون» من أجل الرجوع لمنطق الفصل والتوازن بين السلطات الذي هو جوهر الفكرة الديمقراطية أصلاً.

بيد أن ما نشهده في الواقع هو انهيار التشكيلات السياسية المنظمة من أحزاب وحركات أيديولوجية، في الوقت الذي يتزايد فيه تأثير ونشاط الحركات المدنية والحقوقية التي غدت في مناطق كثيرة القوى الفاعلةَ والمؤثرة في النشاط السياسي.

لسنا بحاجة إلى التذكير بما كُتب في السنوات الأخيرة من خروج المؤسسات التقنية الاقتصادية وشبكات التواصل الاجتماعي عن الحقل السيادي للدول، بما ولّد معادلةً معقدة بالنسبة للمنظومة السياسية التي تقلصت قدراتُها الفعلية والعملية في مركز القرار والفعل.

ما يهمنا في نهاية المطاف هو التأكيد على أن حالة العجز السياسي في المجتمعات الليبرالية الغربية ولدت لأول مرة في تاريخ هذه المجتمعات ما سماه البعض بالانقلابات الانتخابية التي تحيل إلى مسالك التمرد والعصيان الجديدة في البلدان الديمقراطية العريقة، وهي ظاهرة متزامنة مع الحركة المدنية الاحتجاجية في الشارع، والتي لم تعد خاضعة لأدوات التحكم السياسي.. ومن هنا الأزمة المضاعفة للديمقراطية الليبرالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 أكتوبر 2024

إذا أمعنَّا بالنَّظر، سندرك أنَّ العصرَ الذهبي لحركة الإلحاد الجديدة في الحياة الغربية، عندما تصدرت الكتابات المناهضة للخالق التي كتبها ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز، قوائم أكثر الكتب مبيعاً؛ لم يتحقق بفضل اكتشاف حجج جديدة ذكية تؤكد عدم وجود الله فجأة.

في الواقع، حل هذا العصر ببساطة؛ لأن أحداثاً محددة وقوى أعمق جعلت الوقت مناسباً للتفكير على هذا النحو، ولأن الإنترنت في بداياته كان بمثابة حزام نقل جديد للأفكار المشككة في الدين، ولأحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول)... كشفت جميعها عن مخاطر الأصولية الدينية. أضف إلى ذلك، أزمة الاعتداءات الجنسية التي عصفت بالكنيسة الكاثوليكية، التي قوضت أقوى معقل للمسيحية المنظمة في الغرب، ناهيك عن أن ابتعاد العصر الرقمي عن السلطة والمؤسسات، ضرب المؤسسات الدينية أول ما ضرب.

المثير أنَّنا نعاين اليوم وجود مثل هذه الفرصة أمام الكتّاب الدينيين، وخاصة أن الفكرة القائمة على أن الإلحاد وإضعاف الدين المنظم من شأنه أن يجعل العالم أكثر عقلانية وأقل قبلية، تبدو أكثر عبثية اليوم، في عام 2024، عما كانت عليه عام 2006.واليوم، يجري النظر على نحو متزايد إلى تراجع معدلات الانتساب للطوائف الدينية، وممارسة الشعائر الدينية، باعتباره مشكلة اجتماعية، وليس قفزة عظيمة إلى الأمام. ونجد أن الأفراد الذين نشأوا دون إيمان ديني، يبحثون عن المعنى في العقاقير المخدرة، وعلم التنجيم، والأجسام الطائرة المجهولة. وفي الفترة الأخيرة، توقف صعود تيار «اللادينيين» الأميركيين؛ أي الذين لا ينتمون إلى أي دين، أخيراً.

وعليه، يبدو العالم مهيأ للحجج الدينية بنفس الطريقة التي كان مهيأ بها للملحدين الجدد قبل عشرين عاماً. إلا أن السؤال هنا عما إذا كان بوسع المتدينين استعادة أرضهم الثقافية الحقيقية - خاصة في قلب العلمانية؛ أي في أوساط المثقفين الغربيين - بدلاً من الاكتفاء بإثارة الحنين الغامض إلى الإيمان.

ولا ينبغي أن يقتصر الأمر على محاولة إقناع غير المؤمنين بطرح كلمات طيبة، وإنما يكمن التحدي في المضي قدماً إلى ما هو أبعد من ذلك، وإقناع أبناء العصر الحديث، الذين يساورهم القلق، بأن الدين أكثر من مجرد فائدة عملية، وأكثر من مجرد أمل حزين، وأن الإطار الديني، في واقع الأمر، يجعل الواقع أكثر منطقية، عن البديل المادي المتشدد المزعوم.

من جهتي، أنوي تقديم محاولتي الخاصة لإقناع الآخرين بأهمية الدين، العام المقبل. واللافت أن الأشهر القليلة الماضية شهدت صدور ثلاثة كتب دينية على صلة بهذا النقاش، وتتناول الحجج الفلسفية والعلمية والتجريبية الداعمة لصياغة وجهة نظر دينية عن العالم.

جاءت الحجة الفلسفية من الفيلسوف اللاهوتي الموسوعي ديفيد بنتلي هارت. ويأتي كتابه الجديد: «كل الأشياء مليئة بالآلهة: أسرار العقل والحياة»، بمثابة تتويج لعقود من الجدال ضد الملحدين الجدد.

واللافت أن الكتاب جرت صياغته في هيئة حوار أفلاطوني بين مجموعة من الآلهة اليونانية المتقاعدين، والذين يتجادلون مع بعضهم حول المناقشات البشرية المعاصرة بخصوص فلسفة العقل وعلم الأعصاب ونظرية المعلومات.

في الواقع، هذا الشكل الحواري يتمتع بميزة عظيمة واحدة: أنه يتطلب من هارت أن يمنح مساحة ممتدة للأفكار التي يعارضها. ومن خلال الإله هيفايستوس، الذي ينسب إليه الجزء المتشكك في الدين، تحصل على شرح موسع للحجج التي تقول إن العقل والذات والفكر يمكن اختزالها في مادة عديمة العقل.

إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو وكأنه عبث فلسفي مثير للاهتمام، لكنه في الوقت ذاته مناهض للعلم بشكل أساسي، فيمكنك التوجه إلى الكتاب التالي في الثلاثية: «نور العقل... نور العالم» لسبنسر كلافان، والذي يطرح حجة مفادها أن تطور العلم الحديث يوفر أدلة مختبرية على تفوق العقل واحتلاله الأولوية الأولى.

وهذه ليست مجرد حجة مألوفة تقوم على فكرة أن الضبط الدقيق للكون تشكل بحد ذاتها دليلاً على أن ذكاءً إلهياً ما أعد كل شيء، وإنما تتجاوز ذلك إلى فكرة النموذج المادي للكون باعتباره نظاماً مادياً مغلقاً؛ إذ تقفز وحدات المادة مثل كرات البلياردو، والتي ألقت بها ثورة كمومية، يقف خلفها عقل واعٍ يتولى القياس والمراقبة.

ويرى كلافان أن التفكير في هذا الاكتشاف يجب أن يفرض أنه إذا كنت تثق حقاً بالعلم، تقبل حقيقة وجود واقع واحد فقط، وأنه «يُخلق عندما يعطي الوعي شكلاً للزمان والمكان»؛ يُخلق بواسطة القوة التي قالت في البداية: «ليكن النور».

بالتأكيد، يبدو هذا جنونياً من منظور مادي، ولكن من خلال تجربتي مع المتشككين المنفتحين، ليست هذه النقطة التي يتوقفون عندها، وإنما عندما نقطع خطوة واحدة إلى الأمام، إلى معاقل الدين القديم الحقيقي؛ عالم المعجزات، والرؤى، والنذر، والملائكة، والشياطين.

وهذا العالم تحديداً موضوع آخر كتاب في الثلاثية التي أقرأها، وهو كتاب رود دريهر المعنون: «العيش في الدهشة: إيجاد الغموض والمعنى في العصر العلماني». وفي جزء منه، يتناول الأحداث الخارقة للطبيعة التي تزدهر باستمرار في عالمنا العلماني المفترض.

ويعني ذلك ببساطة أن كتاب دريهر الأكثر إمتاعاً من بين الكتب الثلاثة؛ فهو يروي أفضل القصص، ويغطي جوانب من الحياة البشرية أكثر أهمية لفكرة الدين، عن أي حجة أو نظرية. وعلى رأس ذلك، يطرح حقيقة مفادها أنه حتى في المجتمعات التي تستبعد أي تلميح إلى ما هو خارق للطبيعة من أنظمتها المعرفية الرسمية، فإن التجارب الغريبة تستمر في فرض نفسها.

من المنظور الديني، تشير جميع هذه الكتب والحجج إلى إله واحد؛ لذا فإن الاختبار الحقيقي أمامهم هو ما إذا كان العالم المنغمس في التعاسة بعد أن فقد إيمانه، يمكن دفعه إلى العودة إلى حظيرة الإيمان.

***

روس دوثات

* خدمة «نيويورك تايمز»، عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الاثنين - 18 ربيع الثاني 1446 هـ - 21 أكتوبر 2024 م

 

مناقشة حول المؤسسة الدينية

السياق الإسلامي

يبدو التوافق واضحًا بين الإسلام واليهودية على مستوى اللاهوت (أرضية التصور الإلهي – فكرة الوحي والنبوة- السردية التاريخية الإبراهيمية). ومنذ الدراسات الاستشراقية المبكرة، يجري تفسير هذا التوافق بفكرة الاقتباس المباشر، أو التنقل الطبيعي بين الثقافات السامية المتجاورة، وليس بفكرة المصدر الإلهي المشترك التي يتبناها النص الإسلامي.

لكن الإسلام نأى بنفسه منذ البداية عن النظام الطقوسي اليهودي بمفرداته الأساسية الثلاث (الكهنوت الإكليروسي المنظم- مركزية المعبد- أشكال الشعائر التعبدية)، وظل يدور في فلك النظام الطقوسي القرشي، فاعتمد بشكل مباشر منظومة الشعائر السارية حول الكعبة المكية، وفرض الحج إليها كركن من أركانه، رابطًا بينها وبين اللاهوت.

أما الصلاة، فيلزم قراءتها من حيث المبدأ كفكرة طقوسية مشتركة في جميع أنساق التدين، من حيث هي آلية اتصال مع الإله، لإظهار التقديس، وطلب الحاجات، ودفع المخاطر والشرور. على مستوى المضمون، يظهر الدعاء كركن جوهري مشترك. وفي الشكل يحضر الوقوف والركوع والسجود كحركات شائعة على نطاق واسع، فهي معروفة في الصلوات اليهودية كما في الإسلامية. وبحسب القرآن عرف عرب الجاهلية نوعًا من الصلاة تتضمن شكلاً من التصفيق والصفير “وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية” (الأنفال- 35). وتتضمن أيضًا السجود حسب رواية ابن عمر “يضعون خدودهم بالأرض” (الواحدي، أسباب النزول، آية الأنفال).

ونفهم من المصادر الإخبارية أن الصلاة التي كان النبي يؤديها في مكة لم تكن مجهولة من قبل القرشيين؛ “فقد كان يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش” (انظر المقريزي إمتاع الأسماء 14/17، والبلاذري أنساب الأشراف 13/1). وبالنظر إلى الشكل الإجمالي لهيئة الصلاة اليهودية تظهر تشابهات عرضية مع الصلاة الإسلامية، أعني تشابهات قابلة للتفسير بالاشتراك العام.

جغرافية الطقوس

نفهم -بالاستقراء- أن الفكرة الدينية تعبِّر عن نفسها من خلال منظومات طقوسية متعددة بعدد أنساق التدين وبيئاتها الجغرافية. فبوصفها أنماطًا من السلوك الجماعي، تبدو الطقوس أوضح التصاقًا بأرضية البيئة المحلية، ومن ثَم أبطأ أو أقل قابلية للتنقل من منظومات اللاهوت المجرد بوصفها أفكارًا.

ويفرض هذا التعدد نفسه حتى داخل الديانة الواحدة: فالتدين العبري المبكر ظل يعتمد نظام المعبد المتنقل/ الخيمة في مرحلته الصحراوية قبل أن يتحول إلى نظام المعبد الثابت، بانتقاله إلى البيئة الكنعانية الزراعية التي كانت تتوفر على نظام كهنوت متطور (كانت الخيمة هي المقر الذي يجتمع فيه الشعب مع الرب من خلال موسى. وهي العملية التي أسندت إدارتها إلى اللاويين، وأنتجت طبقة الكهنة وفكرة المجمع. قارن هذه الحالة التي أفرزها الفراغ الجغرافي في صحراء سيناء بفكرة الكعبة ذات الحضور الجاهز كرمز مقدس في الجغرافية العربية).

بعد العبور من سيناء، يرصد مؤرخو اليهودية تفاوتًا واضحًا في بنية التدين العبري بين مقاطعة الجنوب الصحراوية ذات الطابع الرعوي ومقاطعة الشمال الكنعانية الزراعية، فقد تبنى الشماليون مع حضور يهوه أنظمة طقوسية مستمدة من العبادات البعلية، حيث كانت كل منطقة تدين بخصوبة الأرض إلى بعلِ ينظر إليه كسيد حاكم. وماثلوا ما بين دوره النباتات الطبيعية ودورة الحياة المتجددة للبعل، منذ ميلاده إلى موته ثم بعثه من جديد.

في سفر التثنية (ق. 7 ق م) والأسفار التالية من العهد القديم، سيتراجع النموذج الرعوي من النصوص انعكاسًا لغيابه الجغرافي، وستبدو اليهودية ديانة أكثر مدينية، وأكثر زراعية. ومع ذلك ظل يمثل “مثالاً فلكلوريًّ لا يخلو من القوة والمنزلة الأخلاقية. واستعملت الأصول الرعوية في الطبيعة الإسرائيلية الجديدة لتقوية شخصيتها. وهكذا أصبحت العناصر المقدسة في المجتمعات الفلاحية الأخرى ممقوتة كالخنزير، وهي التي كانت ترافق الطقوس الوثنية للخصوم التي يحتقرها الرعاة” (انظر ديڤيد سوفير ، جغرافية الأديان، الترجمة العربية، دار قتيبة، بيروت، 1990 ص 31).

في هذا السياق- كما يلاحظ سوفير- بدأت الطقوس والتقاويم تحمل خصائص المتوسط الزراعية “الجافة” (الحبوب الشتوية، كالقمح والشعير، والأشجار المثمرة، وتربية الأغنام). ومثل ما في معظم الشعوب الزراعية عكست الطقوس دورة المحاصيل ومواقيت الحصاد، ومثَّل الربيع المتوسطي (حيث تخضر التلال بالأعشاب، وتنضج الحبوب، وتسمن القطعان)، فصلاً مناسبًا للشكر الذي يستحق الاحتفال.

يناقش سوفير طقس “التدوين” الزراعي عند اليهود وفقًا للعهد القديم: “سوف تدونون (تسجلون كتابة) سبع مرات في سبعة أيام، وعندما يبدأ المنجل في حصاد الحبوب تبدأون التدوين مدة سبعة أسابيع”، وهكذا، بعد انتهاء سبعة أسابيع من بداية حصاد الشعير حتى نهاية حصاد القمح، يصل المرء إلى آخر عطلة مقدسة بالنسبة إلى تقويم العهد القديم، قبل بداية الصيف الجاف في شابوت، وهو عيد الأسابيع… ولا تزال الأعياد اليهودية تقام كما كانت تحدث على شاطئ البحر المتوسط قبل ثلاثة آلاف عام، وتقدم تباشير الفواكه في نيسان (أبريل)، حيثما يكون اليهودي. ويسجل التدوين مهما كان اليهودي بعيدًا عن حقوله، وعن الحبوب” (جغرافية الأديان، السابق، ص 39).

ويلاحظ سوفير أن المسيحية “احتفظت بجزء بسيط فقط من التقويم اليهودي المقدس، وتحررت من قيود المكان، فاستطاعت أن تصبح من الديانات العالمية بنجاح. فقد احتفظت بالحوافز والدوافع لعيد الفصحى وهي تقديم القرابين والأضحيات، ثم الاعتقاد بالبعث. وإن “الرمزية” التي تشمل ذبح الشاة في يوم عيد الفصح تمثِّل هنا عنصرًا هامًا؛ ففي اللغة اللاتينية هناك اسم مشابه للاسم العبري لعيد الفصح. ويختلف هذا الاسم في شمال أوروبا حيث لم تنتشر المسيحية إلا بعد أن أصبحت دين الدولة الرسمي (بعد القرن الرابع)، وقد كانت شعوب شمال أوروبا تحتفل بقدوم الربيع بعد برد الشتاء القارس، وذلك بإحياء إلهه فصل الربيع لديهم، وهي “إستار” Eastre أو “أوستارا” Ostara.

ولما كان هذا الاحتفال يصادف الزمن المسيحي احتفظ باسمها بينما بقيت بعض الرموز الخاصة الوثنية بذلك الفصل في العادات والتقاليد الشعبية هناك. وقد بقيت بعض المذاهب المسيحية الشائعة في التقويم المسيحي المقدس، بينما حذفت الأعياد اليهودية الباقية، ويميل الباحثون الآن إلى اعتبار ميلاد المسيح في أواخر الصيف أو أوائل الخريف؛ أي حول الزمن الذي تبدأ به السنة اليهودي. لكن الكنيسة في أوائل عهدها لم تحتفل بميلاد المسيح، ولم يتعين تاريخ ميلاده إلا فيما بعد؛ عندما اقترن بميلاد اله الشمس في الإمبراطورية الرومانية “Sol invictus وهو يصادف الانقلاب الشمسي الشتوي” (جغرافية الأديان، السابق، ص 40).

وفي هذا السياق المقارن يلفت سوفير إلى أن التقويم الإسلامي منسلخ كليًّا بحكم البيئة عن أي معطيات زراعية، فالوحدة الزمنية الرئيسية في هذا التقويم هي الشهر القمري؛ وعليه ينضبط برنامج الممارسات والطقوس “التي يمكن أداؤها في أي فصل من فصول السنة، أو أي بيئة مناخية دون تفريق بين شمال خط الاستواء أو جنوبه”، فالصوم يجري في شهر رمضان القمري الذي يأتي أحيانًا في الصيف وأخرى في الشتاء. وكذلك الحج إلى الكعبة في شهر ذي الحجة.

من الواضح هنا تأثير البيئة العربية “غير الزراعية” التي نشأ فيها الإسلام: “فمكة والمدينة كانتا تعتمدان على التجارة إلى أماكن بعيدة، أكثر من اعتمادها على الخدمات الزراعية. وكانت للقوافل البرية والتجارة أنظمة موسمية، ولكن ميكانيكية العمل التجاري كانت تخفف من أهمية الفصول بالنسبة إلى سكان المدن، بسبب المسافات البعيدة التي تفصلها نفسيًّا واجتماعيًّا عن المزارعين كما ظهر في المواقف الإسلامية الأولى” (جغرافية الأديان، ص 42) وانظر الفصل الثالث الذي يقدم فيه سوفير دراسة شيقة حول تأثير الدين على البيئة الطبيعية للأرض والوجه المقابل لتأثير الطبيعة الأرضية على التحول الديني).

2

قبل الإسلام.. البيئة الدينية المباشرة

بيئة التدين العربية التي نشأ فيها الإسلام ونقل عنها، لم تؤد إلى تكون نظام كهنوتي مرتب على الطراز المعروف في ديانات المعبد القديمة في الشرق الأدنى (المصرية- الكنعانية- الرافدية) وفي اليهودية والمسيحية. فعلى الرغم من وجود الكعبة لم يكن ثمة ديانة شعبية جامعة للاهوت محدد تضم القبائل المتناثرة في محيط صحراوي واسع وقليل الكثافة السكانية.

كانت الكعبة مركزًا لتجمع الأصنام والرموز الوثنية الخاصة بالقبائل، ورغم وجود إطار عام من الشعائر المشتركة التي يسود الاعتقاد بقداستها لقدمها وارتباطها بعباده الأجداد، ظلت كل قبيلة تحتفظ بآلهتها وممارستها الطقوسية الخاصة التي تجري حول الكعبة في موسم محدد، أو على مدار السنة.

كان هذا النشاط يحتاج إلى نوع من التنظيم العملي لإدارة المكان وخدمته، بالمعنى اللوچستي. ومن هنا نشأت وظيفة “السدانة” التي أسندت إلى قريش بحكم الموقع والمكانة الاقتصادية التي انتهت إلى بني هاشم عشيرة النبي محمد.

مع غياب اللاهوت الجامع، حضرت الشعائر التي تشير إلى ممارسات احتفالية متعددة تذكرنا بالطابع الطقوسي الفج للتدين البدائي. في هذا السياق لم تظهر طبقة دينية أو شريحة مهنية وسيطة تروج لنظام لاهوتي واضح. لقد عرف العرب مصطلح الكاهن الذي يُجمع غالبًا على كهان وليس على كهنة، لكنه لا يقابل في العربية الجاهلية نظيره في العبرية اليهودية، فهو لا يشير إلى رجل الدين الذي يروج لعقيدة بعينها، ويقوم على خدمة الطقوس الخاصة بها، ويدعي التواصل مع الإله بشكل من أشكال الوحي، بل يشير إلى أفراد ذوي ملكات وممارسات خاصة تدور على التنجيم والعرافة واستطلاع الغيب، وإطلاق المقولات المسجوعة على الطراز السامي القديم. يشرح القرطبي: “العراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب، والتنجيم من العرافة، وصاحبها هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها، وقد يعتقد أهل هذا الفن في ذلك، وهذا الفن هو العيافة، وكلها يطلق عليها اسم الكهانة” (القرطبي الجامع 7/3).

وبحسب الثقافة السائدة، ترتبط الكهانة بفكرة التواصل مع الجن، فالكاهن كما يقول ابن قُدامة في المغني: “هو الذي له رئى من الجن تأتيه بالأخبار”، ويظهر هذا المعنى بوضوح في لغة النصوص، فصحيح البخاري يروي عن النبي قوله: “إن الملائكة تتحدث في العنان، (أي في الغمام) بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة فيزيدونها مائة كذبة”. وفي القرآن وردت لفظة الكاهن مرتين، كلاهما في معرض الذم والاستنكار بغرض نفي صفة الكهانة عن النبي: (انظر سورة الحاقة 42) “ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون”، (وسورة الطور )29: “فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون”.

الواضح هنا أن “الكهانة” في السياق الثقافي الجاهلي لا تشير إلى الكهنوت بالمعنى الديني الواضح المعروف، ومع ذلك فالاشتراك في الجذر اللغوي يلفت إلى التداخل الدلالي بين المفردتين، كلاهما يشتغل على فكر”الغيب” أو التواصل مع قوة غير مرئية، وكلاهما يمارس نوعا من السلطة المعرفية.

تعتمد الكهانة على التواصل مع الجن والشياطين، وأحيانًا على بعض المعارف والملاحظات الطبيعية؛ مثل حركة ومواقع النجوم. فيما يتحدث الكهنوت عن التواصل عبر عبر نوع من الوحي الإلهي.

يمكن للكهانة أن تنشأ في سياقات غير دينية، وهي لا تظهر في شكل هيئة عضوية منظمة خلافًا الكهنوت الذي يرتبط بوجود ديانة محددة، ويتخذ شكل مؤسسة جماعية ذات طابع تراتبي. لكننا سنلاحظ أن الكهنوت يحتوي غالبًا على كثير من عناصر الكهانة الإيحائية واآليتها الغرائبية التي تنحدر من تراث التفكير البدائي المبكر.

-3-

الكلام عن غياب كهنوت منظم في التدين العربي الجاهلي الذي انبثق منه الإسلام، لا ينطبق على الأطراف الجنوبية والشمالية، حيث تكونت مجتمعات مستقرة بسبب الزراعة وحضور سلطة الدولة. يرتبط التدين الزراعي غالبًا بفكرة “المعبد” الذي ينشأ كمؤسسة ثابتة يتخلق من حولها طبقة “الكهنة”. في المنطقة الجنوبية يمكن ملاحظة الانتشار الواسع للمعابد. وقد أشار المؤرخ الروماني بلينيوس إلى 60 معبدًا في مدينة شبوة (Sabota) عاصمة حضرموت، وإلى 65 معبدًا في مدينة تمنع (Thmana) عاصمة قتباد، وتحدث عن نفوذ اقتصادي (ضرائب حصاد تشبه الزكاة)،

وحضور سياسي كبير لرجال الدين في حضرموت القديمة، وفي مملكة سبأ، حيث تمكنوا من انتزاع صلاحيات دينية من أيدي الملوك.

ويسهل افتراض حضور الكهنوت مع الانتشار الواسع لليهودية في اليمن في ظل المملكة الحميرية الثانية (حوالي 300 م)، الذي بلغ ذروته في القرن السادس. وينطبق ذلك على المنطقة العربية الشمالية المتداخلة مع الأراضي السورية (الانباط- تدمر) ذات الطابع الحضري المستقر نسبيًّا، حيث تشير المصادر الإخبارية إلى انتشار مماثل للمعابد ونفوذ الكهنة (انظر نصوص بلنيوس Naturalis Histora في الترجمة الإنجليزية History of pliny”.

Henry Tomas,H. G Bohn 1855, London, vol 11, book vi- xi.

-4-

الكهنوت والأسلام

لم ينشأ -إذن- كهنوت منظم في الإسلام المبكر، لسبب بسيط، وهو أن بيئة التدين المباشرة التي انبثق عنها لم تعرف فكرة الكهنوت المنظم.

هذا التسبيب يبدو مفهومًا إذا كنا نتعامل مع الإسلام بما هو “واقعة” تاريخية ظهرت في الصحراء العربية في القرن السابع، أي إذا كنا نقرأ الإسلام من منظور أنثروبولوچي اجتماعي. لكنه يحتاج إلى مزيد من الحفر ونحن نقرأ الإسلام كمنظومة نظرية مدونة مصبوبة في قوالب مطلقة، ومسندة إلى الوحي الإلهي، أي إذا كنا نقرأه من منظور الطرح الديني التقليدي الموروث من عصر التدوين.

غياب الكهنوت عن المحيط العربي الجاهلي يتناسب مع كثافة وعمق التدين، ففي هذا المحيط الذي لم يتوفر على ديانة جامعة أو مهيمنة، لم يكن الحس الديني طاغيًا على الثقافة السائدة مقارنة بالمحيط العبري “السامي” المجاور. ويمكن الاستدلال على ذلك من التراث الأدبي المنقول عن الحقبة الجاهلية، والمتمثل خصوصًا في الشعر، حيث لا تحضر المعاني الدينية بشكل ظاهر مقارنة بأغراضه التقليدية المعروفة، رغم الملاحظات التي أثيرت حول نحله وتنسيبه إلى المرحلة الإسلامية.

ومع ذلك، يمكن الحديث عن حضور نسبي للحس الديني في المحيط المكي القريب من الكعبة، وبوجه خاص في العشيرة الهاشمية التي تولت مهمة السدانة و خدمة البيت الحرام.

في الحقبة المكية – كما يظهر من النصوص القرآنية المبكرة- بدا وكأننا حيال طرح “ديني” صرف، أو ديني بالمعنى الضيق، لكن مع الانتقال إلى المدينة سيبدأ البعد “السياسي” في التفاقم تدريجيًّا على حساب المعنى الديني. وبالنسبة إلى المراقب “الخارجي”، بدا نشاط النبي محمد في المدينة، وتمدده إلى خارجها من خلال الغزو، حركة سياسية خالصة، أو حركة سياسية مطعمة بهامش ديني ثانوي.

بالطبع نستطيع الحديث هنا عن مشروع سياسي يكشف عن نفسه في وضوح تام، لكننا لا نستطيع الحديث عن تلاشي البعد الديني، أو عن غيابه الأصلي، كما تذهب بعض الدراسات المعاصرة التي تؤكد أن الإسلام كمفهوم ديني مجرد لم يظهر قبل عصر التدوين العباسي. صحيح أنه يمكن الربط بين الانتشار الواسع لمصطلح الإسلام وعصر التدوين، بوصفه الحقبة التي اكتمل فيها تبلور الديانة في إطارها النظري، لكن من الصعب إنكار حضور المعنى الديني وتلبسه الصريح بالمعنى السياسي منذ العهد المدني، وفي زمن الخلفاء “الراشدين”، والعصر الأموي.

وفي نص مسيحي مبكر مثل كتاب “الهرطقات” يتحدث يوحنا الدمشقي (676- 749 م) عن “ديانة الإسماعيليين التي لا تزال تسيطر في أيامنا وتستميل الشعوب معلنة عن مجيء المسيح الدجال”. لا يستخدم يوحنا مصطلح المسلمين، بل الإسماعيليين أو الهاجريين أو السراسنة، لكنه يشير إلى نشاط ديني يقوم على فكرة توحيدية، وعن “نبي” كاذب تأثر بالهرطقة الآريوسية بعد لقائه بالراهب بحيرا، واستعمل القرآن لتغطية آثامه.

-5-

غياب الكهنوت في الطرح الإسلامي يشير إلى توجه مختلف في إدارة العملية الدينية داخل نسق التدين الإبراهيمي، الذي ينسب نفسه إليه. نحن حيال موقف إسلامي متميز حيال الأدوار التقليدية للكهنوت: الوساطة بين الإله والناس/ خدمة الطقوس/ تمثيل الديانة وحراسة اللاهوت. وهو ما ينقلنا إلى المستوى النظري للإسلام كما تبلور في المنظومة الفقهية.

النصوص القرآنية توحي بأن التواصل بين الله والناس يجري بشكل مباشر؛ لا يحتاج إلى هيئة متخصصة؛ “وقال ربكم ادعوني استجب لكم” (غافر- 60)، “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” (ق- 16).

وينطبق ذلك على ممارسة الطقوس التي قد تؤدى بشكل فردي أو جماعي، لكنها لا تحتاج إلى خدمة فنية خاصة، ولم تسند إدارتها إلى جهة محددة ذات طابع مؤسسي.

لكن تمثيل الديانة وحراسة اللاهوت يستحق المزيد من النقاش، فهذه المهمة تسند بوجه عام إلى عموم المؤمنين كفرض كفاية. ويبدو هذا واضحًا في كتب التفسير السلفية خصوصًا المبكرة منها، فبحسب الطبري: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” (آل عمران- 104).

أمه”يعني جماعة يدعون الناس إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده”.

يتحدث النص عن جماعة عامة تشير إلى معنى التناصح بين الناس، وليس إلى جماعة محددة أو فئة مهنية خاصة. وواضح أن المطلوب هو مجرد الدعوة، أي التواصي وليس التلزيم، وأن موضوع الدعوة هو أداء الخير والمعروف وترك المنكر؛ أي الأخلاق الكلية التي يفترض أنها محل اتفاق في الوعي العام، وليس تفاصيل اللاهوت والفقه التي قد تتعدد باختلاف الرؤى والمواقف المذهبية، التي تؤدي إلى الصدام والعنف.

لكن التفاسير المتأخرة (التي ستظهر بعد تشكل المنظومة النظرية) ستبدأ في توجيه دلالة النص إلى “جماعة” خاصة، هي الجماعة التي صارت تتبلور كطبقة فقهية محترفة تحتكر التعاطي مع النصوص نيابة عن الأمة؛ يشرح ابن كثير: “قوله تعالى ولتكن منكم أمة”؛ أي منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “وأولئك هم المفلحون” قال الضحاك “هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة، يعني المجاهدين والعلماء”. ثم يعقب ابن كثير: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.

استنادًا إلى مثل هذه النصوص انفتح الباب في السياق الإسلامي أمام فكرة “الشيوع الدعوي”، التي أسفرت عمليًّا عن حالة توليد متواصلة للفرق والجماعات الدينية التي تدعي تمثيل الإسلام وحمايته، بغض النظر عن دوافعها السياسية والاجتماعية المكشوفة أو المضمرة. وفي أجواء الصراع السياسي المبكرة، كانت هذه الحالة تمثل خطرًا على مشروعية السلطة الحاكمة، المدعمة نظريًّا من الطبقة الفقهية الناشئة.

الطبقة الفقهية – التي تتولى الآن عملية التنظير- أسندت إلى الدولة/ الحاكم مهمة حراسة الدين وتنفيذ الشريعة، فيما استبقت لنفسها مهمة بيان الدين، وتعيين أحكام الشريعة نيابة عن الأمة.

لقد تم تقسيم وظائف الكهنوت التقليدية بين الفقه والدولة، وصرنا حيال نسخة كهنوتية مخففة “نسبيًّا” بالقياس إلى النسختين اليهودية والمسيحية. الكهنوت هنا -ورغم غياب النص- يعود فيفرض وجوده كلازمة ضرورية من لوازم التدين التاريخي الموروث، ويتخذ صيغة مغايرة بحكم السياقات البيئية الثقافية والاجتماعية الخاصة.

جرى تطوير وتثبيت هذه الصيغة عبر تراكم تدريجي بامتداد عصر التدوين الإسلامي (القرون الثلاث الهجرية الأولى) وهو عصر ازدهار الدولة السنية المركزية، الذي يمثل، بالفعل، حقبة “تأسيس” ثانية للديانة الإسلامية كما نعرفها اليوم.

عصر التدوين العباسي

أسفر عصر التدوين العباسي عن متغيرين مؤثرين:

1- تشكل الفقه كمنظومة نظرية تتوفر على سلطة معرفية بالتوازي مع تبلور “الفقهاء” كطبقة ذات نفوذ اجتماعي وسياسي متصاعد. تصدت هذه المنظومة لوظائف الكنيسة في خدمة الطقوس، وتقديم الفتوى، واحتكرت تفسير النصوص؛ أي التعبير عن مراد الله. ولم تتورع عن التداخل في الشأن السياسي كلما سمحت الظروف، وخصوصًا في فترات ضعف الدولة، ما كان يعني تخليق نواة “لمؤسسة كهنوتية معنوية” لا تمثل بنية إدارية منظمة، لكنها تمارس نوعًا من سلطة الواقع.

2- تقنين حالة التداخل الموروث منذ العهد النبوي بين الدين والسلطة السياسية حيث صارت وظيفة الدولة هي حراسة الدين.

بإسناد هذه الوظيفة إلى الحاكم لم يكن الفقه يخلق حالة الخلط بين الديني والسياسي، فهذا الخلط حاضر بوضوح منذ العهد النبوي. ومن زاوية النظر التاريخية يبدو نشاط النبي في المدينة حركة سياسية صريحة أكثر منه دعوة دينية بالمعنى الروحي الضيق. ما قام به الفقه هنا هو تقنين هذا التداخل للموروث بين الدين والسلطة السياسية، وتشريعه نهائيًّا كجزء ثابت من بنية الديانة مدعم “بالنصوص”، خصوصًا الروايات “السنية” التي صارت متوفرة على نطاق واسع.

صار الفقه يربط “رسميًّا” بين الدين والدولة (جهاز السلطة): يفتتح الماوردي كتابه “الأحكام السلطانية” بالتعريف الآتي:

“الإمامة موضوعة لخلاف لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” (ص 29). ويوافقه ابن خلدون الذي يعرف الإمامة بأنها “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحه الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”. (المقدمة ص 180).

في تأصيل ابن خلدون تبدو هيمنة الدين على الدولة أوسع مدى منها عند الماوردي “الأسبق زمنيًّا”؛ فهذا الأخير يشير إلى حراسة الدين بصيغة إجمالية، وهي صيغة يمكن صرفها إلى معنى الأصول العامة أو الخطوط العريضة، بينما يتكلم ابن خلدون عن صلاحيات موضوعية عامة ذات طابع شمولي للدولة/ الحاكم تطال المصالح الدنيوية والأخروية التي لا ينفك أحدهما عن الآخر، فهي تستغرق حياة الأفراد بتفاصيلها التي “ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة”، أي بالدين.

لكن الفقه، وكذلك دراسات ابن خلدون الاجتماعية، لم يهتم ببيان الكيفية التي تمارس بها الدولة حمل الكافة على مراعاة مصالحهم الأخروية التي تتضمن جميع الأحوال الدنيوية، اللهم إلا من خلال إطلاق سلطة الحاكم. ما المدى الذي تصل إليه السلطة للتدخل في الحياة الخاصة والحريات الفردية؟

لم يكن هذا السؤال مطروحًا في مناخ التفكير السياسي الوسيط الذي تشكلت فيه نظرية الخلافة، وهو في مجمله مناخ أوتوقراطي ثيوقراطي، لا يلتفت إلى المضمون السياسي للحرية. لكن السؤال ينتصب -الآن- بقوة أمام العقل الإسلامي الذي يواجه ضغوط الحداثة ونزوع الإنسان المعاصر إلى الحرية و فردانية الذات.

تطرح الحداثة، بشكل مبدئي، “مشكل” الدولة الدينية بطابعها الشمولي الحصري، في مقابل التعددية الطبيعية وفكرة الحقوق القانونية، وهو السؤال الذي سبق أن فرضته الحداثة على العقل المسيحي الغربي، وأدى في النهاية إلى تراجع الكنيسة، وتخليها الصريح عن حكم المجال العام.

التيارات الأقل سلفية داخل الفكر الإسلامي تواجهه السؤال بتبرير دفاعي مقتضب يروج للقول بأن الإسلام لم يعرف الكنيسة، ولم يمارس حكم رجال الدين، وهو تبرير مراوغ يتجاهل وجود كهنوت إسلامي خاص مركب من سلطة الدولة وسلطة الفقه.

نحن هنا حيال صيغة أخرى، قد تبدو مخففة من مشكل ازدواجية السلطة، التي اتخذت شكلاً حادًا في السياق المسيحي الغربي، وكشفت عن الطابع القمعي الفج للكهنوت المسيحي بامتداد العصور الوسطى.

كيف يُحمل الكافة (من الأفراد المعاصرين) على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الدنيوية؟ من الذي يحدد مفهوم النظر الشرعي؟ وفقًا لأي تفسير؟ ولفهم أي فرقة؟ ولرؤية أي مذهب؟ إلى أي مدى في مجال الاعتقاد (المحكوم بنزوعات الفكر و مبدأ التعدد)؟ وفي مجال المعاملات (المحكوم بمطالب الواقع ومبدأ التطور)؟

في كتابه “الأحكام السلطانية” يضع الفقيه الحنبلي أبو يعلى على رأس الواجبات العشرة للإمام “حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة” (ص 27). هنا تضاف إلى إلزامية الدين العامة إلزامية أخرى قابضة هي رؤية فرقة بعينها يعتبرها الحنابلة حصرًا الفرقة الناجية، والمخالف لها زائغ عن الحق يستحق الأخذ بالحدود التي تتراوح بين الجلد والقتل. في نهاية المطاف ستمثل “الدولة” إرادة الله التي سيفرضها باسمه جماعة من “الفقهاء”.

-6-

بامتداد مراحل الدولة المركزية (القوية) أمكن احتواء المشكل الناجم عن الازدواجية، إذ ظلت الطبقة الفقهية تعمل تحت سقف السلطة الحاكمة. وبوجه عام كانت التراث القابض للدولة بامتداد التاريخ “السني” يغطي على حضور الفقهاء كقوة ذات نفوذ مباشر (كان يظهر في فترات ضعف الحاكم)، لكن السلطة النظرية للفقه ظلت تكرس موقعها المركزي داخل الثقافة.

هذه المعادلة ستتغير على نطاق واسع مع التحول إلى نموذج الدولة الوطنية الحديثة. كيف؟

يتبع

***

عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري

عن منصة تكوين، يوم: 24/ سبتمبر، 2024م

 

مطالبة سيد قطب بألا تدرّس الفلسفة الإسلامية في كلية أصول الدين بـ«الأزهر»، وبمنع تدريس الفلسفة الغربية في المدارس الثانوية المصرية، وبألا تدرّس الفلسفة الغربية في قسم الفلسفة بالجامعة المصرية إلا بعد السنتين الأوليين على أقل تقدير، هي شاهد من شواهد كثيرة، تبين «أصالة» التطرف الديني عنده في أول كتاب إسلامي ألّفه، وهو كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، وذلك قبل أن يقرأ في كتب أبي الأعلى المودودي، وفي كتب أبي الحسن الندوي التي اقترض منها أفكاراً بإفراط، وإن كان يقدح قليلاً في تلك «الأصالة» أنه قطم شيئاً منها من كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» لمحمد أسد، ومن كتاب «الإسلام والنظام العالمي الجديد» لمولانا محمد علي.

وفي حلبة السباق في التنظير للأصولية الإسلامية في العالم العربي، عليَّ أن أبرز فكرة سبق بها سيد قطب الإسلاميين العرب. ولأسبقيته في هذه الفكرة ولأسبقيات «أصولية» أخرى عليهم، يسوغ لنا أن نسميهم «ذُرية سيد قطب».

الفكرة هي أن سيد قطب قبل أن يجهر في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، بتلك المطالبة، تحدث عن ضرورة تكوين عقلية مشبعة بالفكرة الإسلامية، فقال: «يجب أن نكوّن فكرة إسلامية في نفوس الأفراد والمجتمعات، بجانب التشريع الإسلامي الذي ينظم الحياة. والثقافة هي الوسيلة الطبيعية لتكوين تلك الفكرة».

هذه الفكرة يسميها تارة الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. وقد عاب على «الأزهر» أنه لم يبحث عنها، ولم يعرضها عرضاً كاملاً قوياً بلغة العصر وأسلوبه، موازناً بينها وبين المذاهب الفلسفية الأخرى.

السوري «الإخواني» محمد المبارك، كان قد قرأ «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، وقرأ بعده مقالة لأبي الحسن الندوي، نشرها في كتيب صغير عام 1950، كان عنوانه «كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية». هذه المقالة ليست ككلام سيد قطب العمومي؛ بل تضمنت برنامجاً موجزاً لما تمخضت عنه تلك المادة التدريسية المسماة «الثقافة الإسلامية» في أحد وجوهها.

يقول محمد المبارك -ابن التعليم المدني بدمشق وباريس- عن تاريخ إدخال مادة «الثقافة الإسلامية» في الدراسات الجامعية: «حين أنشئت في جامعة دمشق (الجامعة السورية يومئذ) كلية الشريعة سنة 1954، وكنت أحد أعضاء اللجنة التي وضعت خطة المناهج، اقترحت إدخال هذه المادة في منهج السنة الأولى، لتعطي الطالب منذ البداية الصورة الشاملة للإسلام، قبل أن يدخل في التفصيلات الجزئية لكل مادة من المواد التي تستوعب كل واحدة منها جانباً من جوانب الإسلام، وقبلت اللجنة هذا الاقتراح وأقرَّته، وأخذت منذ ذلك الحين أدرّس هذه المادة فيها».

مما قاله المبارك نستخلص أنه هو أول من نفّذ الفكرة التي دعا سيد قطب إليها بعمومية؛ لكنَّه نَفَّذها في سوريا وليس في مصر. وأنه أول من طبّق برنامج الندوي التعليمي التربوي في بلد عربي. وأن أول جامعة عربية درّست تلك المادة كانت الجامعة السورية -كما كانت تسمى قديماً- وأنه هو أول من درّسها.

العجيب أنه هو الذي سيكون المستدرك على «الأزهر» ما عابه سيد قطب عليه من أنه لم ينهض برسالة «الفكرة الكلية للإسلام»، أو بتعبير آخر: تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في كلياته ومعاهده.

استدركه في فترة حكم من؟ استدركه –وهنا المفارقة والمفاجأة– في فترة حكم جمال عبد الناصر، وكان سيد قطب وقتها لا يزال يقضي مدة الحكم عليه بالسجن.

محمد المبارك في دولة الوحدة بين مصر وسوريا، كان من ضمن المساهمين في كتابة القانون الخاص بتطوير «الأزهر» عام 1961، فأدخل تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في جميع كليات «الأزهر». وأدخل تدريس هذه المادة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي كلية الشريعة بمكة المكرمة، وفي جامعة أم درمان الإسلامية. كما أن له دوراً في إدخال تدريسها في جامعة الملك سعود حين كانت تسمى جامعة الرياض.

وثمة تفصيل صغير يجب ذكره في تاريخ تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في هذه الجامعة، وهو قبل أن تدرس فيها هذه المادة –حسب منظور «الإخوان المسلمين» ومنظور «الجماعة الإسلامية» الهندية الباكستانية– عام 1964. هذا التفصيل هو أنه كانت تدرّس مادة تقوم مقامها اسمها «سماحة الإسلام»، يلقي محاضرات فيها أحمد محمد الحوفي، وهو من أساتذة كلية الآداب القدامى في تلك الجامعة. و«سماحة الإسلام» هو عنوان كتاب أصدره عام 1958.

لكن لأن الحوفي ليس «إخوانياً»، ولا هو متأثر بفكرهم، وكتابه «سماحة الإسلام» يقدم الثقافة الإسلامية من منظور إسلامي– ليبرالي، رأى «الإخوان المسلمون» –خصوصاً في سوريا من الذين كان لهم شأن سياسي في بلادهم– أن يدرِّس هذه المادة أستاذ من عشيرتهم الإخوانية، وبمنظورهم نفسه للثقافة الإسلامية. هذا الأستاذ الذي اختاروه ليدرّس هذه المادة كان عبد الكريم عثمان، وهو سوري إخواني. عبد الكريم عثمان هذا توفي في سن الـ43 عام 1972، في أثناء قضائه إجازته الصيفية في بيروت. وكان ممنوعاً عليه دخول بلاده من منتصف الستينات الميلادية.

نعلم من محمد المبارك أنهم اختلفوا في تسمية هذه المادة التدريسية، ما بين من اختار لها اسم «الحضارة الإسلامية» ومن اختار لها اسم «النظم الإسلامية». ونعلم منه أنه هو من اختار لها اسم «نظام الإسلام».

سيد قطب –كما رأينا– لم يطلق اسماً مختصراً على ما نادى به، مع أن الاسم الدقيق لما نادى به هو «فلسفة الإسلام»؛ لكن لِحسِّه المعادي لـ«الفلسفة الإسلامية» ولـ«فلاسفة الإسلام» أصيب بحالة «أرتكاريا» إزاء استعمال كلمة «فلسفة» لما ينادي به.

ومحمد المبارك لم يذكر في جدلهم حول التسمية، أن ما اختلفوا حول اسمه له اسم راسخ هو «الثقافة الإسلامية»، وهو الاسم الشائع في المنتصف الأول من القرن الماضي في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، ربما لأنهم تحفظوا على استعماله، وأراد ألا يعلمنا بذلك. وقد يكون سبب التحفظ علمهم بأن الذين سكّوه وسكّوا اسماً آخر رديفاً له هو «الدراسات الإسلامية»، هم جمهرة من المستشرقين.

الاسم الذي اقترحه محمد المبارك «نظام الإسلام» استُخدم قليلاً وعلى نطاق ضيق. واستُخدم كثيراً وعلى نطاق واسع في الجامعات العربية اسم «ثقافة إسلامية» واسم «دراسات إسلامية». وللحديث بقية.

***

علي العميم

....................

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 17 ربيع الثاني 1446 هـ - 20 أكتوبر 2024 م

 

مناقشة حول المؤسسة الدينية

لم تنشأ في الإسلام هيئة منظمة من رجال الدين، ذات بنية إدارية مستقلة، وصلاحيات سلطوية مدعمة بالنصوص، على غرار الكنيسة الكاثوليكية. فهل يعني ذلك أن تاريخ الإسلام لم يعرف فكرة “الكهنوت”. أم أن هذه الفكرة، التي تضرب بجذورها في التاريخ العام للتدين، فرضت نفسها داخل السياق الإسلامي في صيغة مغايرة للصيغتين اليهودية والمسيحية؟

إسلاميًّا، لا تتضمن النصوص أي تكليف بإنشاء مؤسسة تمارس الوظائف التاريخية للكهنوت: التواصل مع الإله والتعبير عن إرادته/ خدمة الطقوس والشعائر/ تمثيل الديانة وحراسه اللاهوت.

1- في مرحلة التأسيس الأولى، ظلت هذه الوظائف حكرًا على النبي الذي يختص دون غيره بنقل الوحي، وإملاء التكاليف، والدفاع عن كيان الديانة الناشئة. في هذا السياق المبكر لم تكن “الدولة” قد تبلورت كجهاز سلطة منظم، ولم يكن “الفقه” قد تشكل كقوة نظرية موازية من خلال طبقة الفقهاء التي ستظهر لاحقًا في أواخر عصر التدوين.

2- مع تبلورها الصريح وظهور طابعها الديني (في العصر العباسي)، ستفرض الدولة نفسها -بإسناد فقهي- كحارسه للدين وستسند إلى الفقهاء مهمة القضاء والفتوى وخدمة الطقوس.

3- بامتداد عصر التدوين، الذي استغرق القرون الثلاثة الأولى، كانت جماعة الفقهاء تتشكل طبقة متميزة بالمعنى الثقافي الاجتماعي، وأمكن لها القيام ببعض الأدوار السياسية، وبشكل تدريجي ظل نفوذ هذه الطبقة يتصاعد مع تفاقم حركة التدوين من ناحية، وتراجع قوة الدولة المركزية من ناحية ثانية. وبالنتيجة تطورت إلى مؤسسة معنوية تحتكر تفسير النص، والتحدث باسم الديانة وتحل محل الدولة “المتراجعة” في حراسة اللاهوت. أي صارت تتوفر على سلطة نظرية واسعة على الجمهور في ظل الثقافة الاجتماعية السائدة الخاضعة كليًا لهيمنة الدين.

4- بسقوط النظام التقليدي للدولة الإسلامية (المركزية) وظهور نموذج الدولة الوطنية الحديثة، ستعود الدولة رغم توجهها العلماني إلى تقمص دور حراسة الدين في إطار عصري. كان على الدولة الوطنية الناشئة حديثًا في القرن التاسع عشر تأميم هذه السلطة النظرية التي يتوفر عليها الفقه، وتوظيفها سياسيًّا لاحتواء الفقهاء داخل جهازها الحكومي. ومنذ هذه اللحظة ستكتسب الطبقة الفقهية ربما للمرة الأولى في السياق السني خصائص بيروقراطية ذات طابع مؤسسي.

مع ذلك، وبسبب طبيعة التكوين، لم تندمج الطبقات الفقهية كليًّا داخل البنية المدنية للدولة، وظلت هناك مسافة موضوعية فاصلة بينهما، تضيق أو تتسع وفقًا لقوة الدولة، ودرجة وعيها بدورها المدني التجديدي. وفي هذا السياق كانت “المؤسسة” الفقهية تكشف من وقت لآخر عن نزوعات سلفية لا تتطابق مع الأهداف العلمانية للدولة، وتعبر حيالها عن مواقف استقلالية خصوصًا بعد تصاعد المد الأصولي، وتراجع زخم الحالة المدنية.

5- هذا على المستوى العام السني، أما شيعيًّا، فيلزم التنبه إلى فارق نسبي طفيف، إذ كانت الطبقة الفقهية الشيعية قد توفرت على هذه الخصائص البيروقراطية في وقت أسبق؛ ولأسباب مختلفة أشير الى الظروف السياسية والثقافية التي لابست نشوء وتطور التشيع من مواقع المعارضة: فكرة “الإمامة” التي انتهت سياسيًّا إلى طريق مسدود، أفضت إلى فكرة “الغيبة الكبرى”، ومن ثم إلى فكرة النيابة المنظمة عن الإمام الغائب، من خلال الفقهاء، التي تم تأسيسها على نصوص منسوبة إلى الأئمه وإلى النبي، ما أسفر عن تراكم سلطات تنظيمية وإرشادية مدعمة اقتصاديًّا بموارد تمويل شرعية دائمة يوفرها “الخمس”.

-2-

فيما يلي سيدور النقاش على محورين:

١- الأصول التاريخية للكهنوت، كيف نقرأ التمايز الإسلامي في هذه المسألة بالقياس إلى اليهودية والمسيحيه رغم اشتراكه معهما في خط التدين الإبراهيمي الكتابي.

2- السياق المعاصر: كيف نقرأ السلطة التي تتوفر عليها الطبقة الفقهية في الواقع الإسلامي الراهن؟

سينصب النقاش على نموذجين رئيسيين؛ النموذج المصري الذي تمثله مؤسسة الأزهر، والنموذج السعودي الذي تمثله المؤسسة الوهابية. إلى أي مدى تتوفر كل منهما على خصائص “المؤسسة الدينية” بالمعنى الضيق؟ كيف تشتغل كل منهما كسلطة قابضة في مواجهة المجتمع والدولة؟ كيف تكشف هذه المواجهة عن “إشكاليات” ثقافية وقانونية معقدة في ظل المستوى الراهن للتطور الاقتصادي والاجتماعي؟ أو إلى أي مدى صارت هذه المؤسسة تشير إلى طبقة طفيلية زائدة على حاجات ومشاغل المجتمع الحديث؟ وإلى أي مدى تمثل عبئًا على كاهل الدولة ذات الدستور المدني الصريح، كما في النموذج المصري، أو ذات الطموحات التجديدية كما في النموذج السعودي.

-3-

الأصول التاريخية

يرجع ظهور الكهنة إلى وقت مبكر من تاريخ التدين المعروف، وفي القدر المتيقن كان الكهنوت قد تحول إلى مؤسسة ذات خصائص سلطوية في جميع الأنساق الدينية في الشرق الأدنى وحول المتوسط قبل بدء التجربة العبرية. (في مصر على سبيل المثال؛ نقرأ عن حضور ثابت للكهنوت عند بداية عصر الأسرات 315 ق. م. وعن قوة نفوذ الكهنة في المملكة القديمة 2613 ق. م. وتصاعد هذا النفوذ فيما يعرف بعصر الكهنة من القرن السادس عشر وحتى القرن الرابع عشر ق. م).

في هذه الأنساق ظل الطابع الطقوسي يهيمن على بنية الديانة رغم تبلور اللاهوت النظري. وظلت خدمة المعبد تمثل الوظيفة الأولية للكهنة، إضافة إلى دور التواصل مع الإله، والوساطة بينه وبين الناس، وبينه وبين الملك، فضلاً عن تمثيل الديانة والترويج للاهوتها الخاص ارتبطت فكرة الدين بحضور الكهنوت وبسلطة الملك، وبوجه عام ظلت المؤسسة الدينية قريبة من الدولة، وتداخلت معها لتحقيق مصالح متبادلة، الأمر الذي أسهم في تكريس الطابع “الجماعي” للدين وربطه بالوعي العام كسلطة فوقية ملزمة. ورغم أنها حافظت على نوع من الاستقلال حيال الدولة ولعبت بعض الأدوار السياسية بقيت تشتغل في الغالب كسلطه ثانوية قابلة للتوظيف من قبل الملك.

اليهودية: الكاهن/ النبي

بالتوافق مع نمط التدين السائد، نشأت اليهودية منذ البداية كديانة كهنوتية ذات طابع طقوسي، وبحسب سفر الخروج (35- 40) ولدت مؤسسة الكهنة بأمر إلهي مباشر في عصر موسى، أي قبل دخول كنعان: وجه الرب بتعيين هارون في منصب الكاهن الأكبر وتخصيص المنصب بالوراثة لأبنائه اللاويين. كما وجه بإقامة خيمة مقدسة كمقر دائم (بالمقاييس الصحراوية)، تتم من خلاله عملية التواصل، وخدمة الطقوس. وأبدى الرب اهتمامًا بالتفاصيل، من مواد البناء، وتصميم المبنى، وترتيب محتوياته، إلى صناعة التابوت والمائدة، ومذبح البخور، ومذبح المحرقة، ومرحضة الاغتسال، وبناء دار خارجية حتى الثياب الكهنوتية، وصفيحة الإكليل المقدس التي صنعت من “ذهب خالص نقي، وكتبوا عليها كتابة نقش الخاتم: قدس الرب. وجعلوا عليها خليطًا من الإسمانجوني لتجعل على العمامة من فوق كما امر الرب موسى”

(39/30-31).

الإصحاحات من 25 -40 من سفر الخروج تشرح عملية بناء المعبد الأول: خيمة الاجتماع، الدار الخارجية، التابوت، المائدة. ورغم البيئة الصحراوية الخشنة يجري الحديث عن استخدام كثيف للذهب والفضة والنحاس وخشب السنط، وعن تصميم بناء يقوم على أعمدة مغطاة بقضبان من الفضة والنحاس وألواح مزينة بالذهب، كما يجري الحديث عن ثياب كهنوتية قرمزية وأرجوانية مطعمة بالذهب.

التصميم الهندسي للمبنى والمواد المستخدمة لا يتناسب مع المرحلة الصحراوية المبكرة التي يعالجها سفر الخروج، بل يشير إلى مراحل زمنية متأخرة، حين كانت تأثير الكنعاني كما سنعلم من النصوص والوثائق اللاحقة واضحًا على الكهنوت العبري، في شكل المعبد، والمذبح، والمحارق، كما في ملابس الكهنة، وترتيب وظائفهم، إذ تظهر أيضًا تأثيرات مصرية واضحة (في التأثير الكنعاني على الكهنوت العبري (انظر إلياد، مارسيا، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، فقرة 60)، وفي التأثير المصري الكنعاني المشترك انظر ريدفورد، مصر وكنعان وإسرائيل).

-4-

في هذا الشرح يكشف سفر الخروج عن خصائص طقسانية كهنوتية فجة، تنتمي إلى نسق التفكير الديني التقليدي السائد في الشرق الأدنى القديم، ويكشف من ثم عن أصل الديانة العبرية، وهي تصدر عن هذا النسق شبه البدائي وتتطور عنه. نحن حيال تماثلات صريحه مع التقاليد المعروفة في الديانات المصرية والكنعانية و الآشورية البابلية؛ حيث الدين فعل كهنوتي يدار من المعبد كمقر مركزي يسكن فيه الرب، أو يأتي كي يتجلى بالقرب منه.

يحتاج الرب إلى طاقم احترافي ومتخصص لخدمته في مكان محدد خاص. ويقوم هذا الطاقم -الذي عليه ارتداء ملابس بعينها كزي رسمي- بتقديم الخدمات المطلوبة للإله، وفي مقدمتها الأضحيات القربانية، التي بقيت -ضمن شعائر طقوسية أخرى- شاهدًا ينتمي إلى ميراث التدين البدائي القديم. ويختص الطاقم دون غيره بعملية التواصل مع الإله والتوسط بينه وبين الناس.

-5-

تقليديًّا، ظلت العمليات الدينية تدار وتوجه من خلال مؤسسة الكهنة القريبة من السلطة السياسية، وظل الكهنة يمارسون وظائف الرؤية التقليدية القديمة للتواصل مع الإله/ الرب، رغم وجود رؤاه مستقلين ومتنبئين مستقلين. ورغم وجود “أنبياء” ومعارضين تواصل حضورهم الى ما بعد تدمير الهيكل والنفي الى بابل.

لقد أدى الأنبياء المعارضون دورًا ملموسًا في التراث الأدبي الذي سجله العهد القديم، ولكن الدور الأساسي في عملية بناء الديانة يرجع إلى الكهنة. وتم ذلك من خلال الإشراف على عملية “التنصيص” الرئيسية التي كانت تجري على مراحل متعاقبة من مرحلة الملك يوشيا في القرن السابع ق. م، حين تولد سفر التثنية عن سطر الشريعة (أعلن عن اكتشافه في المعبد الكاهن الأكبر حلقيا) حتى مرحلة التأسيس الختامية في المنفى البابلي وفي أعقاب العودة (في التأثير الحاسم لمرحلة النفي والعودة 586- 440 ق. م، انظر فنكلشتاين، التوراة مكشوفة، الفصل 12).

بعد سقوط مملكة يهوذا، في أواخر القرن السادس ق. م، تزايدت أهمية الكهنة كممثل وحيد للهوية العبرية، سواء بين البقية التي استبقاها البابليون في يهوذا أم بين المنفيين في بابل؛ حيث سيتحول “الكاهن” حزقيال إلى “نبي”، ويؤدي بالصفتين معًا دوره التمهيدي المعروف لإعادة تأسيس الهيكل، ومن المنفى سيعود “الكاهن” عزرا الكاتب وسليل عائلة الكاهن الأول هارون، ليضع الصيغة النهائية للديانة اليهودية كما تبلورت في المنفى تحت ضغوط القهر والأمل في الخلاص.

بعد العودة من المنفى- يشرح فنكلشتاين- “كانت إحدى الوظائف الرئيسية للنخبة الكهنوتية علاوة على إدارة عبادات تقديم القرابين المجددة، وطقوس التطهير، الإنتاج المستمر للأدب والكتاب المقدس للحفاظ على وحدة الجماعة اليهودية وتماسكها في مقابل جميع الغرباء من حولها” (التوراة مكشوفة ص 369). ويلاحظ فنكلشتاين مع عدد من الباحثين: “أن المصدر الكهنوتي في التوراة مدون بعد النفي، وهو يشير الى بروز دور الكهنة وعلو شأنهم في جالية الهيكل في أورشليم.

ولا يقل أهمية عن ذلك أن التنقيح النهائي للتوراة يرجع أيضًا إلى هذه الفترة، وذهب العالم التوراتي ريتشارد فريدمان إلى أبعد من ذلك؛إذ اقترح أن المنتج الذي أعطى الشكل النهائي “لشريعة موسى” كان عزرا الذي يوصف بشكل محدد ب “كاتب شريعة إله السماء” (عزرا 7/ 12).

في مرحلة ما بعد العودة من المنفى، وفي ظل التسهيلات الفارسية، لم ينقطع حضور الأنبياء “الكبار”، ولكن سلطة المؤسسة ممثلة في الكاهن الأول أو “الكاهن العظيم” كما تسميه الأسفار المتأخرة، ظلت تحتل موقعها المتقدم المكرس من الرب، وظل الأنبياء يقرون لها بهذا الموقع.

التطورات اللاحقة أسهمت في تعزيز السلطة الكهنوتية على اليهود. ومع الضغوط اليونانية والرومانية التي انتهت بتدمير الهيكل الثاني سنة 70م، تشتت كثير من اليهود في أنحاء العالم الروماني. لكن سلطة المؤسسة الكهنوتية ظلت تجاور سلطة الحكم الذاتي الضيقة في يهوذا، وامتدت إلى الجاليات اليهودية في الشتات، مدعمة – في الغالب- بتصريح رسمي من السلطات المحلية، يمنحها صلاحيات واسعة ليست دينية طقوسية فحسب، بل أيضًا ذات طابع اجتماعي تشريعي.

المسيحية

تمثل الكنيسة المسيحية النموذج التاريخي الأبرز لمفهوم “المؤسسة الدينية”، بالنظر إلى اكتمال المفهوم وامتداده الزمني، وحجم نفوذه وتأثيره على المسار  العام للتطور. وهو النموذج الذي لفت الانتباه بأدائه السياسي والثقافي، إلى مساوئ الكهنوت وجنايته الفادحة على تاريخ الوعي، ووضع فكرة الدين برمتها موضع الاتهام بوصفها نقيضًا مباشرًا للطبيعة الإنسانية. تبلورت المسيحية كديانة مستقلة عن النسق اليهودي بعد انتقالها إلى المحيط الروماني الهيليني الأوسع وتخففت نسبيًّا من حمولة التاريخ العبري، فتوجهت بلاهوتها إلى الأمم وأعفتها من إلزامية الشريعة. لكنها لم تقطع جذريًّا مع النسق الديني الثقافي الذي أنتجها (فهي نشأت أصلاً كتطوير لثقافة الأمل في الخلاص التي تفاقمت في القرون العبرية المتأخرة تحت ضغط الإحباط السياسي المتواصل)، لذلك، ورغم التعديل الجسيم الذي أدخلته على مفهوم الألوهية التوراتي، ظلت تحتفظ بالنصوص العبريه كجزء من الكتاب المقدس، ومن ثم بروايتها التاريخية عن الآباء والأنبياء الذي التي سيتعين إعادة تأويلها.

كما ظلت تحتفظ بنظام الكهنوت، أي تشكلت كديانة تقليدية تدار من داخل المعبد، من خلال هيئة متخصصة لها صلاحيات التواصل والنطق مع الإله والنطق باسمه. مع حضور آليات التنظير اليونانية ستطور الكنيسة تأصيلات أكثر تجريدًا وأقل تاريخانية لوجودها ودورها في العملية الدينية، لكن هذه التأصيلات لم تغير من طبيعتها كمؤسسه تختص دون غيرها – كما في الديانات القديمة- بمهمة التواصل واستقبال الوحي الإلهي.

الرب، الذي كان يبدو في العهد القديم قريبًا من البشر، ومنغمسًا في تفاصيل حياتهم (ممثلين في الشعب العبري) وحده قرر النزول بنفسه إلى العالم (في هذا الشعب بالذات)، وكشف عن ذاته في شخص المسيح، فصار المسيح هو “وسيط الوحي بكامله وموضوعه في آن واحد”، (الدستور العقائدي حول الوحي الإلهي “كلمة الله” Die Verbum، المجمع الفاتيكاني الثاني 1962 – 1965)، ومن هنا لم يعد ثمة حاجة إلى الأنبياء، فوظيفتهم كانت تنحصر في تعريف الأمة العبرية بالإله الآب الوحيد الحي تمهيدًا لمجيء المخلص الموعود وبمجيئه تم الوحي واكتمل “فالعهد الجديد نهائي لن يزول أبدًا، ولن يرجى أي وحي قبل الظهور المجيد الثاني للمسيح” (الدستور العقائدي).

لكن الحاجة إلى الكهنوت ظلت قائمة. فقد صار الوحي حاضرًا حضورًا نهائيًّا في الكتاب المقدس بعهديه، وبشكل حصري أوكلت مهمه تفسيره إلى “سلطة الكنيسة”، غير أن سلطه الكنيسة لا تنحصر في التفسير، بل تمتد إلى صلاحيات إنشائية واسعة على مستوى اللاهوت والتشريع: ” فالكنيسة لا تنهل اليقين عن محتويات الوحي كلها من الكتاب المقدس وحده”، بل أيضًا من التقليد المقدس الذي ورثته الكنيسة عن الرسل، وهي في الحالتين مؤيدة “بإلهام الروح القدس”، والمعنى الواضح أن الكنيسة “بما لها من سلطان رسولي من المسيح” صارت أمينة على الوحي، بديلاً عن الأنبياء خلافًا للمؤسسة العبرية التي كانت تشتغل إلى جوار الأنبياء. (انظر الدستور العقائدي).

-7-

كان ظهور هيئة منظمة تمثل الديانة الناشئة واقعة مفهومة في إطار الثقافة الدينية السائدة على المستويين اليهودي والروماني، وكانت الحركة المسيحية تعمل في مناخ جدلي عنيف مقابل أطراف يهودية ووثنية متعددة. وساعدت سياسات الاضطهاد الروماني على شحن وتنشيط حاجاتها التنظيمية المبكرة.

قبل نهاية القرن الثاني كانت الحركة المسيحية في روما قد أفرزت بالفعل كنيسة شبه منظمة بمسميات تراتبية لإدارة النشاط الديني المتفاقم وتمثيل الديانة الجديدة لكن الكنيسة -ولكي تتحول إلى مؤسسة شمولية طاغية- كانت بحاجة الى التطورات السياسية الهائلة التي بدأت بتحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع:

طوال مرحلة الاضطهاد اتخذ الكهنوت -كعادته- موقفًا سلميًّا مهادنًا حيال الدولة، وجرى تسويق النصوص “العلمانية” التي تحض على طاعة السلطات القائمة، وتنفي السعي إلى إنشاء مملكه أرضيه (انظر رومية: 13، ويوحنا 36/ 18).

تحول الدولة إلى المسيحية أنهى مرحلة الاضطهاد، وفرض حالة من التصالح، لكنه سيؤدي إلى خلق نوع جديد من التوتر السياسي والديني، بسبب تصاعد حضور الكنيسة كسلطة موازية لسلطة الدولة.

لم يسفر التحول عن ذوبان الكهنوت في الدولة، أو اندماج الدولة في الكهنوت، بل عن حالة من ازدواجية السلطة تتسع لحضور الطرفين كمؤسستين حاكمتين داخل المجتمع، مما أدى إلى خلق نوع من التداخل ظل يتطور بمرور الزمن لصالح الكهنوت على حساب الدولة.

بوجه عام، ظل هذا التوتر قابلاً للاحتواء في المراحل المبكرة، في ظل نوع من التوازن الهش الذي رسم ملامحه القديس أغسطين بحديثه عن الفصل بين “المدينتين” الروحية والمدنية ترجمة لظروف القرن الخامس. لكن مع تفاقم نفوذ الكنيسة سيجري تجاوز النصوص السلمية والعلمانية لصالح النصوص الناموسية (السياسية والتشريعية) في العهد القديم، ليكشف الكهنوت عن شراهته الكامنة حيال السلطة، وليقدم -كما لاحظ روسّو- “من خلال المملكة الروحية المزعومة، أعنف حكم استبدادي في هذا العالم” (العقد الاجتماعي، الترجمة العربية، دار القلم، بيروت، ص 204).

لقد طور الكهنوت المسيحي نسخته الخاصة من مبدأ “الحاكمية الإلهية” الكامن في صلب التدين الإبراهيمي “الحصري”. وذلك من خلال إجبار الأمراء على محاربة الهرطقة والإلحاد؛ أي بتوظيف سلطة الدولة لفرض صيغة بعينها من صيغ الإيمان كي تسود كلمة الرب على العالم، وهو نفس المعنى الإسلامي المتطرف الذي يوجب استخدام السيف “كي تكون كلمة الله هي العليا”. واعتمد الكهنوت في تأسيس هذا المبدأ على تأويلات مبكرة لآباء الكنيسة، ومن بينهم أغسطين نفسه؛ الذي سمح في القرن الخامس باستعمال القوة ضد “الدوناتيين” المنشقين على الكنيسة الكاثوليكية. لكنه سيحظى بخدمات تنظيرية أوسع على يد توما الإكويني في القرن الثالث عشر، حين سيبلغ نفوذ الكهنوت ذروته في الغرب الكاثوليكي.

في أوائل هذا القرن تولى إنسنت الثالث كرسي البابوية، وبدأت الكنيسة ترسم خطة ممنهجة لفرض العقيدة الكاثوليكية، ونفي أي آخر غير ديني أو ديني يفكر بطريقة مختلفة، وهي الخطة التي ستنتهي بتداعيتها إلى إنشاء “نظام التفتيش” الذي أطلقه البابا جريجوري التاسع، نحو عام 1233، واكتمل إطاره القانوني مع البابا إنسنت الرابع عام 1252.

تراجع الكهنوت

في القرن الرابع عشر، بدأت حركة النهضة في إيطاليا تثير موجة من التحولات الثقافية العقلية، كانت كافية للكشف عن وحشية الكهنوت، ولفت الانتباه إلى دوره المباشر في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية (تملك الكنيسة ثلث الملكية الزراعية) وتعطيل حركة العقل والتطور العلمي. ومع تزايد نفوذ الأمراء المحليين وظهور أنظمة ملكية قوية سيتفاقم حضور “الفكرة الوطنية” كأساس جديد للدولة على حساب الإمبراطورية الرومانية “المقدسة”، وستولد حركة الإصلاح البروتستانتي كتيار مسيحي واعٍ “بمشكل” الكهنوت، ومناقض لسلطته التاريخية، وسوف تلعب هذه الحركة- خصوصًا في صيغتها اللوثرية- دورًا في تعزيز التطور المدني العلماني الذي سينتهي إلى النموذج الحديث للدولة الوطنية.

-9-

من داخل نسق التفكير الديني ذاته كانت حركة الإصلاح البروتستانتي قادرة على اكتشاف الزيف والنفاق والتناقض الأخلاقي في أداء الكهنوت، وعلى إثارة الشكوك حول صحة الأسس الكتابية التي بنى نفسه عليها.

وفي أدبيات التنوير المبكرة سيقف التيار العلماني على مساوئ الكهنوت بوصفه سببًا للشرور الناجمة عن ازدواجية السلطة، لكنه لن يهدف إلى إلغاء أو إلى استبعاد الدين كليًا من نطاق الدولة، بل إلى “ضبط” نفوذ الكنيسة، وإخضاعها لسلطة الدولة الزمنية.

كانت الازدواجية هي الهاجس الذي برز كمعضلة بنيوية مزمنة تمنع تطور المجتمع والدولة، ويبدو هذا الهاجس واضحًا في صياغات مختلفة لنظرية العقد الاجتماعي، من هوبز(ت 1679)، الى إسبينوزا (ت 1677)، ولوك (ت 1704)، حتى چان چاك روسّو (ت 1778) “تكلم روسّو عن المسيحية الرومانية، أو “دين الكاهن” الذي يمزق الفرد والمجتمع بين مملكتين روحية وزمنية، فهو يمنح الناس شريعتين ورئيسين ووطنين، ويجعلهم خاضعين لواجبات متناقضة. ولم يصل الناس إلى معرفة نحو من يلتزمون بالطاعة، للسيد أم للكاهن” (العقد الاجتماعي، السابق، الفصل الثامن، الديني المدني).

في القرن الثامن عشر سيتبلور “التنوير” بوصفه موقفًا تفكيريا مناقضًا للسلطة الدينية بالذات، أو في المقام الأول، أي لسلطة الكهنوت من حيث هي السلطة الأكثر رجعية والأوسع هيمنة على المجالين العام والخاص. يشرح كانط: “عصر التنوير هو خروج الإنسان من حالة “القصور” التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو دالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان إلا من خلال إنسان آخر، فالناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من “وصاية” غريبة عنهم، لكنهم ظلوا قصرًا طوال حياتهم عن رضا منهم، بحيث يسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم”.

المسؤولية عن هذا القصور، بحسب كانط، تقع -أيضًا- على هؤلاء الأوصياء “الذين صمموا على ممارسة سلطة عليا على الإنسانية، فبعد أن أطبقوا قيود البلاهة على قطعانهم، وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة كي لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهر لها الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها، ولكن الخطر ليس كبيرًا في حقيقه الأمر، لأنها لو أقدمت عليه فسوف تتعلم السير بعد عثرات قليلة”.

من بين هذه الوصايات القابضة التي كرست قصور الإنسان عبر التاريخ. يشير كانط إلى وصاية الكهنوت بوصفها الوصايه “الأكثر ضررًا والأشد خزيًا” (انظر كانط، ما هو التنوير، 1784).

في القرن الثامن عشر، سيطور التيار التنويري في فرنسا هجومه ضد الكهنوت، فسهام النقد لم تعد موجهة إلى مؤسسة الكنيسة وأدائها السياسي فحسب، بل إلى المسيحية وفكرة الدين الذي اعتبر في ذاته مصدرًا لإثارة التوتر داخل الفضاء الاجتماعي.

وهو التوجه الذي عبر عنه ڤولتير وهولباخ وكلاود هلفتيوس وچوليان دي لا متري.

لكن الهجوم الكاسح على الكهنوت سيبلغ ذروته مع نيتشه، في أواخر القرن التاسع عشر، بعد ما كانت ضغوط الحداثة قد أجبرته على التخلي كليًا عن نفوذه في المجال العام (السياسي التشريعي)، وجزئيًا عن نفوذه في المجال الخاص (الاجتماعي الفردي).

بالنسبة إلى نيتشه، مشكله الكهنوت أكثر “جذرية” مما يبدو عليه: الجناية الكبرى على حياة الإنسان وقعت على يد الكهنوت. المعنى الحقيقي -الذي يمكن الإمساك به- لحياة الإنسان هو كونه حيوانًا بشريًّا حرًا مفطورًا الطبيعة الغريزية على إرادة الاقتدار (انظر جينالوجيا الأخلاق، المقدمة) هذا المعنى صار عرضة للتحريف والتشوه منذ ظهور “الكاهن” الذي اخترع مفهوم “الأخلاق” على نحو يوافق طبيعته وهي طبيعة العبيد (الضعفاء) لا طبيعه السادة (الأقوياء) القادرة على الفعل. قيم السادة هي قيم الروح “الحرة المحاربة”، وقيم العبيد هي قيم “الضغينة” الناجمة عن العجز، وهي قيم تعويضية مؤجلة جرى تكريسها عبر المعجم الديني الذي ابتدعه الكاهن للانتقام من السادة المتغلبين (خير وشر، خطيئة، محبة، ثواب، عقاب، ضمير، واجب، مسؤولية، مثل، آلهة) عبر هذا المعجم يختبئ الكاهن في قاع الوعي الإنساني الراهن.

الأخلاق الدينية -بحسب نيتشه- تقنية ماكرة للسيطرة على إرادة الفعل التي تحرك الحياة، والهدف المعلن هو “تربية” الإرادة و”تهذيبها”، بينما هي في الواقع ترمي إلى “تدجينها” وعقابها بذنب طبيعتها الحيوية. الكهنوت يعتبر الحياة في حد ذاتها ذنبًا لا يغتفر. فيما الحياة هي ببساطة كل ما وجدنا أنفسنا عليه من نزوع حيواني وغرائز وحريات ورغبات وطاقات ولذات وذكاء، وهي جميعًا “سابقة” على النموذج الأخلاقي “المؤنسن” الذي روَّج له الكهنوت تحت اسم المثال الأعلى.

لقد وضع الكهان السم في الدسم، فشوهوا المعنى الحقيقي للحياة، وزرعوا في الوعي الموروث روح العجز والكراهية: “إن الكهان، كما هو معلوم، هم شر الأعداء. ولكن لماذا -لأنهم أكثر الناس عجزًا، ومن العجز يتولد الكره مرعبًا وموحشًا روحيًّا ومسمومًا كأشد ما يكون. لقد كان أشد الناس كرهًا في تاريخ العالم على الدوام كهانًا، وكان هؤلاء الكارهون أيضًا من أشد الأرواح مكرًا- فإزاء روح الثأر التي تسكن الكهان لا يكاد يدخل أي روح آخر في الاعتبار. وما أبلد تاريخ البشر لولا الروح التي تأتت إليه من العاجزين” (انظر جينالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، مؤسسة مؤمنون ومعهد تونس للترجمة، الطبعة الثانية، 2017، المقالة الأولى، فقرة 7).

في قاع العقل الإنساني الراهن يختبئ الكاهن في شكل ثقافه مضمرة تسربت الى نسيج اللغة. ولذلك فإن كل تفكير حقيقي ينطوي على مقاومة أو محاربة لروح الكاهن التي ترسخت في أعماق الوعي الإنساني، واستطاعت أن تتسلل وتعشش حتى داخل الفكر الحداثي النقدي ذاته.

بحسب نيتشه، لم يستطع هذا الفكر الحديث أن يتخلص من التركة القمعية للكهنوت. لقد نجح في إنشاء معجم “جديد” للقيم يقدم نفسه كمعجم صوري حيادي موضوعي وكوني، لكنه في الواقع ظل داخل مفهوم “القيم” الكهنوتي ذاته، وفي هذا السياق اعتبر نيتشه أن جميع “الأفكار الحديثة” كالمساواة والديموقراطية والواجب والاحترام والمهنية، هي تنويعات متنكرة على معجم الكهنوتية، واعتبر أن كانط الذي تكلم عن أخلاق الواجب، ورغم نقده الصريح لوصاية الكهنوت، لم يقدم أكثر من كهنوت عقلي بلا طقوس. وحتى “الإلحاد” الذي يظن نفسه ممثلاً للطور الأعلى من غريزة الحرية، لم يسلم من تقنيات الكهنوت القيمية، فهو لا يقدم تأسيسا “جذريًّا” (من خارج سلم القيم) لقيم الحرية، ولذلك فهو حتى الآن ليس أكثر من إيمان، أو مثال “نسكي مقلوب” استيلاء صفيق على مكان الإله الأخلاقي الذي صار شاغرًا، في خلط مزر بين الإنسان الأعلى الذي استولى على الأسماء الحسنى الإله التوحيدي والإقدام على الذهاب لجسور إلى “ما فوق الإنسان” بوصفه مطلب الحياة الحرة، التي تتمتع بصحة ميتافيزيقية جيدة، لا تطلب أقل من: خلق نمط بشري من نوع جديد” (جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، فقرة 27، انظر المقدمة الشيقة بترجمة فتحي المسكيني).

بحسب نيتشه أيضًا، كرس الكهنوت مقولة أخرى لا تقل خطرًا عن أضلولة الفضيلة، هي مقولة “الحقيقة” التي صارت تهيمن على الفكر بجميع مستوياته، بما في ذلك الفلسفة، وحتى العلم، بوصفها مرجعية مطلقة لا يحتاج وجودها الى تبرير من خارجها. وفقًا لنيتشه ليس ثمة واقع “موضوعي” ثابت أو متفق عليه، وليس ثمة مقولات نهائية مطلقة حياديه أو بريئة؛ ثمة حمولات آيديولوجية كامنة في جوف اللغة التي صنعها تاريخ الكهنوت، ولذلك فإن عملية التفكير الحر تعني دائمًا أننا حيال موقف تأويلي، وهنا يميز نيتشه بحسم بين “التأويل” الحر كغريزة سيميوطيقية خاصة بالحيوان البشري، والتاويل “الديني” كمكر لاهوتي لئيم يقوم على تحريف النصوص واستعمالها كإرادة اقتدار مريضة لا تقوى على مواجهة الحياة فتعوضها بضرب متنكر من إرادة العدم” (جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، فقرة 28، انظر مقدمة الترجمة العربية السابقة).

والآن سأنتقل إلى السياق الإسلامي المبكر.

يتبع

*** 

عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري

عن منصة تكوين، يوم: 17 / سبتمبر / 2024 م

أنطونيو غرامشي، الأحدب العليل ابن جزيرة سردينيا الفقيرة بالجنوب الإيطالي. مناضل يساري تصدَّى للفاشية في بلاده، وألقى به نظام بينيتو موسوليني في السجن، رغم تمتّعه بالحصانة عندما كان عضواً في البرلمان الإيطالي. تبنى في مطلع شبابه الأفكار الماركسية، وأسس الحزب الشيوعي الإيطالي، لكنَّه انتقد أفكارَ ماركس، التي تقطع بأنَّ الاقتصاد هو المحرك الأساس للتاريخ. بدأ غرامشي مبكراً بالكتابة عن الجزيرة الإيطالية الجنوبية، التي وُلد بها جزيرة سردينيا. جمع أعماله هذه، الكاتب، قويدو ميليس، ونشرها تحت عنوان، «كتابات عن سردينيا». كتب غرامشي عن اللغة السردينية، ومعاناة الجزيرة من الفقر، وطموح أهل الجزيرة، وغيرها من القضايا التي شغلت نخب الجزيرة الفقيرة. انشغل بعد ذلك بالقضايا الوطنية الإيطالية، واندمج في العمل السياسي الوطني. عارض مبكراً السلطة الفاشية، وصار عضواً في البرلمان، ورفع صوتَه في داخله معلناً معارضته التسلط والديكتاتورية الفاشية، ليقدَّم إلى المحكمة التي قضت بسجنه. قضَى غرامشي إحدى عشرة سنة في السجون الفاشية، وهو يعاني المرض، لكنه لم يكن رهين محبسه، بل حوَّل سجنه خندقاً يشع منه الفكر. بعث برسائله إلى أفراد عائلته، وإلى رفاقه، عبَّر فيها عن عواطفه مضمنها أفكاره. جُمعت الرسائل ونُشرت في أربعة مجلدات، بعنوان «كراسات السجن»؛ لأنه كتبها على ورق الكراسات التي يستعملها التلاميذ في المدارس. كتب في مختلف مجالات المعرفة. كان يطلق على نفسه، صفة القارئ. فقد تمكن وهو يعاني العذاب في زنزانته، من قراءة أعمال الفلاسفة والمؤرخين الإيطاليين والألمان والإنجليز والفرنسيين، وتأثر بميكيافللي وهيغل وماركس. انتقد أعمال ماركس، والثورة البلشفية في روسيا، رغم انتمائه للحزب الشيوعي، وتقديره أفكار لينين، واختلف معه فيما يتصل بمفهوم الدولة وتكوينها، والعلاقة بين البرجوازية والطبقة العاملة. لم تكن الدوغما الآيديولوجية، محبسه الثاني، فقد كان أنطونيو غرامشي، مفكراً حراً يضرب بمطرقة ثقافته، ما عملت الفاشية على فرضه على الناس، وآمن بأن الآيديولوجيا المغلقة، هي ضرب من التسلط والتقوقع. آمن بقوة وفاعلية الثقافة. كتب غرامشي كثيراً عن قوة الثقافة، وقدرتها على تحقيق النهوض الشامل في جميع المجالات. ارتبط اسمه بمفهوم «المثقف العضوي»، وأعطى لهذا المفهوم، أبعاداً وتحديدات وفاعليات شملت، كل خيوط النسيج الثقافي في المجتمع. في رأيه، أن المثقف العضوي يوجد في مختلف شرائح المجتمع، وهو يختلف عن المثقف التقليدي، الذي يستلبه الموروث الجامد، والمصلحة الذاتية. الناشطون في المجتمع المدني والأحزاب والنقابات المهنية المختلفة، كل واحد منهم، هو مثقف له تأثير في حلقات مجموعته.

ناقش أنطونيو غرامشي، دور الثقافة الشعبية، وقوتها وقدرتها على الوصول إلى العامة. ركَّز على الوعاء الخطابي ومضمون الخطاب. كذلك ثقافة الفنون والإبداع بكل ألوانه. أفرد مقالات طويلة عن الإنسانية، وقال إن حركة النهضة، جعلت الإنسان يؤمن بأنه مركز الكون، وإن عصر النهضة خلق ثقافة حضارية جديدة. الإنسان قبل عصر النهضة، كان لا شيء وبعدها صار هو كل شيء، وإن عصر النهضة هو أكبر ثورة ثقافية في التاريخ. محور فكر غرامشي هو، أن الثقافة هي محرك الإنسان، وليس كما ذهب كارل ماركس، بأن الاقتصاد هو المحرك للإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ. فالثقافة تشعل روح الحرية في الإنسان، وتجعله يفكر ويبدع ويتقدم دون سدود أو حدود. كان لعصر النهضة حضور قوي في فكر أنطونيو غرامشي، فقد كان يحفّز بكتاباته الفاعلين، في المنظومة الاجتماعية على الدفع نحو عصر نهضة جديدة بقوة الثقافة. فقد تأثر بعصر النهضة الإيطالي الذي انطلق في القرن الثالث عشر، وتحرك إلى غرب أوروبا. فقد كان عصر النهضة نقطة الانطلاق إلى مرحلة حضارية جديدة في كل أوروبا، وكان المهد للإنسان الجديد، المتحرر من هيمنة القيود الدينية في العصور الوسطى.

كتب غرامشي في كراساته، عن الإبداع بكل أنماطه، القصة والشعر والرسم والصحافة، وفعلها الثقافي الكبير في تحرير العقل. مارس النقد الأدبي مبكراً وكتب الكثير في هذا المجال. الثقافة الشعبية، شكلت أحد محاور اهتماماته، ودرس الروايات التي يقبل عليها عامة الناس، ليس في إيطاليا فحسب، إنما في بعض بلدان أوروبا الغربية الأخرى، وخصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومدى تأثيرها في وعي الوسط الشعبي.

هذا الرجل القصير القامة، الذي تعرض لحادث جعله احدب، وقضى سنوات طويلة في سجون الفاشية الإيطالية، وعاش بعيداً عن زوجته الروسية التي عادت إلى بلادها بعد سجنه، ومعها طفلاه الصغيران، وعانى مرضاً عضالاً لم يرحمه في سجنه، أسس لمسار نهضة متجددة، قوتها الثقافة التي تؤهل الإنسان ليشق طريقه للحرية، وتحقيق التقدم. أشعل أضواء الحرية من عتمة ظلام الزنازين. كُتبت عن أعماله عشرات الدراسات والكتب، وترجمت إلى عدد كبير من اللغات، وتأثر بفكره، مفكرون ومثقفون وكتاب وأكاديميون وأدباء في مختلف أنحاء العالم.

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 25 ربيع الأول 1446 هـ - 28 سبتمبر 2024 م

 

بارتل بول يكتب عن خمسة آلاف عام من تاريخه

تبدو فكرة كتابة تاريخ للعراق منذ بدايات الحضارات الأولى في حوض ما يعرف بمنطقة ما بين النهرين إلى اليوم ضمن متن كتاب واحد أقرب إلى مهمّة مستحيلة بحق. فالعراق بصفته دولة في إطار حدوده الحالية قد يكون من وجهة نظر كثيرين صنيعة بريطانيّة - فرنسيّة في سياق توافق القوى الإمبريالية على تقاسم تركة الدّولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ولقرون عدّة، كانت الأراضي التي تشكل العراق كما نعرفه الآن جزءاً من إمبراطوريات ودول أخرى، ومجرد إقليم يدار من عواصم بعيدة أو قريبة؛ إذ حكمها العثمانيون من إسطنبول لأربعة قرون بداية من القرن السادس عشر الميلاديّ، وفي فترة سابقة حكمها الأمويون من دمشق؛ ما يجعل كتابة تاريخ عراقيّ أمراً شديد التعقيد وربما غير عمليّ بحكم التّداخل مع تقلبات الأحداث في الكثير من الأمم الأخرى. ويستحضر كثير من الكتاب المسلمين مفهوم الجاهلية للفصل الصارم بين تاريخ للعراق قبل الإسلام وبعده. وفوق ذلك، فإن تاريخ هذه المنطقة الجغرافيّة على مدى خمسة آلاف عام شديد التنوع والثراء؛ ما يهدّد من يتصدى لمهمة سرده بالوقوع في شباك عدم تجانس مادته، وخطر الانتهاء إلى ما يشبه (كتالوغ) سياحياً أو موسوعة موجهة لصغار السن.

على أن ثمّة ما يغري دائماً بوضع نص يحاول الإمساك بخيط ذهبي يجمع بين حلقات كثيفة مذهلة أحياناً من النشاط البشري الذي كان مسرحه تلك المساحة الضيقة للأرض بين نهري العراق العظيمين: دجلة والفرات. أقله هذا ما يزعمه بارتل بول، في كتابه الصادر حديثاً بالإنجليزية: «أرض ما بين النهرين: تاريخ العراق في 5000 عام»* والذي يرى أن تلك الأرض - والعراق اسم مستخدم منذ القرن السادس الميلادي على الأقل، حتى قبل ظهور الإسلام - بقيت دائماً محوراً أساسياً للحراك الحضاري، ومقراً أو ممراً لكل إمبراطوريات الشرق، وأن أهم مدينة في العالم في مراحل متعاقبة منذ الخمسة الآلاف عام الماضية كانت مدناً عراقيّة: أور، وأوروك (الوركاء)، وبابل، ونينوى، وطيسفون، وبغداد. وبنى سلوقس، وريث الأجزاء الشرقية من أراضي كورش الفارسي والإسكندر المقدونيّ، عاصمته سلوقية على نهر دجلة، شمال بابل، ومنها استمر العراق الهلنستي لقرنين جسراً بين الشرق والغرب، ونموذجاً أرسطياً توفيقياً متسامحاً في الدين، وفضولياً بلا حدود في العلم - قبل أن يعمد الرومان إلى تدميرها في القرن الثاني للميلاد -.

ولا يجد المؤلف صعوبة تذكر في سوق الأدلة على ما ذهب إليه. ففي هذه الأرض تحديداً نشأت أول مجتمعات البشر الحضريّة المتقدمة - السومريون خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد -، ومنها أيضاً جاءت الملكيّة، وبناء المدن، والقانون المكتوب، وسلك الكهنوت، وتجييش الجيوش، والدبلوماسيّة، وأصول المحاسبة، والشعر الملحميّ، والعجلة، والقارب الشراعيّ، وقنوات الريّ، والأدب - الذي استوحى منه كتبة العهد القديم الكثير من قصصهم المركزية كالطوفان -، وبناء القبب، والمعمار الرسميّ، والقوس والنشاب، ومهارات تشكيل المعادن، والنحت البارز والغائر، وأسس الرياضيات الحديثة (بما في ذلك ما نُسب زوراً إلى فيثاغورس اليوناني)، والنظام الستيني لحساب الوقت. وكانت مسرحاً لمواجهات التاريخ الكبرى من أيّام السومريين والآشوريين والآكاديين إلى صدام الإسكندر المقدوني بالفرس، وحروب الرومان والبارثيين، ولاحقاً فضاءً للانقسام الكبير في الإسلام بين الشيعة والسنة، ومركزاً لدولة الخلافة العباسيّة التي بقيت لما يقرب من خمسة قرون (750 – 1258) أهم إمبراطوريات العالم في زمانها، والعصر الذهبيّ لازدهار الحضارة الإسلاميّة.

نص «أرض ما بين النهرين» يبدو في مواجهة هذه القائمة الطويلة من الإنجازات الهائلة والأحداث الفاصلة متماسكاً، وقادراً على تقديم سردية مثيرة للاهتمام يمكن منها التّوصل إلى خلاصات واستنتاجات، على الرغم من هفوات هنا (مثل إهمال الديانة المندائية التي تعطي قيمة عالية لشخصية يوحنا المعمدان عند الحديث عن المساهمات في الفكر العالمي)، أو مبالغات استشراقية هناك (مثل التركيز على قصص المحظيات وصراعات القصور في بغداد الرشيد).

ينسج بول تلك السرديّة الآسرة عبر استدعاء حكايات شخصيات بارزة مرَّت بالعراق ومقاطعتها مع عوامل جغرافية وبيئية تأخذ عادة ببساطة، لكنها شكَّلت المنصة الدائمة للحدث التاريخي العراقي. وهنا تتوالى الحلقات التاريخيّة مستندة إلى أسماء مثل جلجامش (ملك الوركاء في الألفية الثالثة قبل الميلاد)، وهارون الرشيد (الخليفة العباسيّ الأشهر من القرن الثامن الميلاديّ)، وهنري لايارد (الرحالة والدبلوماسي في القرن التاسع عشر الميلادي الذي كان وراء اكتشاف الكثير من الآثار القديمة في نينوى والنمرود) وغيرها من الشخصيات المهمة فيما يبرز أهميّة الطبيعة المسطحة والمفتوحة للبلاد، الذي جعل منها ممراً سهلاً للعابرين، غزاة وتجاراً ومهاجرين، وفي الوقت ذاته بوتقة لتلاقح هائل بين الثقافات واللغات والحضارات والأعراق والأديان، وإن كان ذلك أحياناً نتاج صراعات كانت في بعض الأحيان شديدة العنف..

بول بمشروعه الطموح لتغطية فترة مديدة من التاريخ يترك القارئ المعاصر ودون مبرر ظاهر عند لحظة ثورة يوليو (تموز) 1958

ويشير بول إلى أن هذه الأرض - البوتقة أنتجت بالفعل وعبر المراحل التاريخية ثقافة وأفكاراً شكَّلت جزءاً كبيراً من مسيرة الفكر الإنساني، سواء في مخاطبة تجربة الوجود كما في ملحمة جلجامش، أو في التأثير الحاسم للزرادشتية على الأديان الإبراهيمية خلال مرحلة السبي البابليّ لليهود – مثل مفاهيم الروح والحياة الآخرة والملائكة والقيامة والتركيز العميق على الأخلاق والإرادة الحرة -، وكذلك الصراعات اللاهوتية والسياسيّة في الإسلام المبكّر، ولاحقاً في تجربة المعتزلة في بغداد العباسية حول فكرة خلق القرآن المتأثرة بأفكار مترجمة من اليونانية والفارسية.

ومع ذلك، فإن بول بمشروعه الطموح لتغطية فترة مديدة من التاريخ يترك القارئ المعاصر ودون مبرر ظاهر عند لحظة ثورة يوليو (تموز) 1958 والانقلاب على المملكة العراقية الهاشمية التي كان أسسها الملك فيصل الأول تحت الرعاية البريطانية، ويَقصر، باستثناء موجز متسرع، عن وضع عصر الجمهوريّة والغزو الأميركيّ واحتلال العراق وتغيير نظامه في سياق السردية التاريخية، بينما هي الحلقة الأقرب إلى ذلك القارئ، والأعمق صدى في أجواء الخمسين سنة الأخيرة؛ ما يفقد الكتاب فرصة ربما كانت مثالية لتشبيك التاريخ بالحاضر، وإنهاء الرحلة المثيرة والجديرة بالثناء عبر الأزمنة العراقية في ميناء الواقع الراهن.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 16 أكتوبر 2024 م ـ 13 ربيع الثاني 1446 هـ

.........................

LAND BETWEEN THE RIVERS: A 5000 Years History of Iraq | By Bartle Bull | Atlantic Monthly Press, 2024

ناصبَ سيد قطب الفلسفةَ الإسلاميةَ العداءَ في أول كتاب إسلامي له، وهو كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الصادر عام 1949، وعابَ على جامعِ الأزهر تدريسَها.

الصفحاتُ التي تضمَّنت الفقراتِ التي أعلنَ فيها هذا الموقفَ حذفَها من هذا الكتاب ابتداءً من طبعةٍ من طبعاته الأُول. وهي إمَّا أن تكونَ الطبعة الثالثة (1952) أو الطبعة الرابعة (1954) أو الطبعة الخامسة (1958).

يقول سيد قطب في هذا الكتاب: «ولقد كانت للأزهر بصفة خاصة رسالة لم يقم بها في هذا المجال.. أن يبحث عن هذه الفكرة الكلية للإسلام، وأن يعرضها عرضاً كاملاً قوياً، بلغة العصر وأسلوبه، وأن يوازن بينها وبين المذاهب الفلسفية الأخرى؛ وبدلاً من أن ينهض بهذه الرسالة راح يدرّس في كلية أصول الدين ما يسمى خطأً بالفلسفة الإسلامية، من كتب ابن سينا وابن رشد... هذه الانعكاسات للفلسفة الإغريقية، التي لا صلة لها بحقيقة الفكرة الإسلامية الكلية. فكان هذا إمعاناً في إهمال الرسالة الملقاة على عاتق الأزهر؛ وإعلاناً للهزيمة الروحية والفكرية في المعقل الأول للفكرة الإسلامية!».

ثم يأمر المصريين «لتكوين فكرة إسلامية صحيحة عن الكون والحياة والإنسان، ألّا ندرّس الفلسفة الغربية - وما يتبعها من مبادئ الأخلاق - في القسم الثانوي من مدارسنا إطلاقاً. ولا تدرّس في الجامعة أيضاً إلا بعد السنتين في قسم الفلسفة على أقل تقدير. وبطبيعة الحال لا تدرّس في الكليات الأزهرية إلا أخيراً. ويجب أن تسبقها في كل معهد تدرّس فيه دراسة إسلامية خالصة، تقرر الفكرة الإسلامية الحقة، مبرأة مما يسمى الفلسفة الإسلامية».

في رسالة مفتوحة وليست خاصة كتبها إلى توفيق الحكيم من واشنطن، نشرت في مجلة «الرسالة» في 16 مايو (أيار) 1949، العدد 828، تحت عنوان «إلى الأستاذ توفيق الحكيم» أكد موقفه الرافض للفلسفة الإسلامية ولتدريسها الذي كان قد قاله في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وكان هذا الكتاب وقت نشر رسالته المفتوحة حديث الصدور، ولم يحصل سيد قطب بعد على نسخة منه.

حسب صلاح الدين الخالدي، استناداً إلى مجلة «الكتاب»، الكتاب صدر في شهر أبريل (نيسان)، ورسالة سيد قطب المفتوحة إلى توفيق الحكيم نُشرت في الشهر الذي يلي شهر صدور الكتاب. وهذا المرجع الذي استند إليه يحسم جدل المختصين بسيرته حول التاريخ الدقيق من عام 1949 لصدور الكتاب.

وللأسف هذا الكتاب الذي قضى سيد قطب ما لا يقل عن أربع سنوات في تأليفه، عبث به بعد صدور طبعته الأولى، حذفاً وتعديلاً وزيادةً إلى عام 1964. ولو لم يعدم عام 1965 لكان واصل هذا النوع من العبث بهذا الكتاب.

دليلي على أن سيد قطب حين كتب الرسالة المومأ إليها لم يكن بين يديه بعد نسخة من كتابه، أنه وهو يسوق الحيثية التي يستند إليها في رفض الفلسفة الإسلامية في الأزهر ورفض تدريسها، أنه وضع لها هامشاً طلب فيه من القارئ الرجوع إلى فصل من كتابه عنوانه «فكرة الإسلام عن العدالة الاجتماعية».

هذا العنوان غير موجود في الكتاب، وإنما يوجد عنوان قريب منه، وهو عنوان الفصل الثاني «طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام». والخطأ الثاني أن الفصل المقصود بالمطالبة بالرجوع إليه بدعوى التعرف أكثر على رأيه في الفلسفة الإسلامية وفي تدريسها، عنوانه مختلف جداً عن العنوان الذي ذكره، وهو الفصل الأخير «حاضر الإسلام ومستقبله» الذي تلته خاتمة قصيرة عنوانها «على مفترق الطرق».

مما يعني أنه كان في ذلك الهامش يعتمد على ذاكرته، والذاكرة أحياناً - أو ربما كثيراً - تخون في تذكر بعض الأسماء وبعض العناوين بدقة.

وقد قلت بـ«دعوى» التعرف أكثر على رأيه في الفلسفة الإسلامية وفي تدريسها، لأنه في الرسالة المفتوحة لم يكن مقتضباً في إبداء رأيه فيها وفي تدريسها، بل بسطه على نحو كامل. وهذا ما ستتأكدون منه، حين أورد قسماً كبيراً من رأيه في هذا المقال. السبب الحقيقي هو أنه كان فرحاً بصدور الكتاب الذي يمثل تحولاً حاداً في مجرى كتاباته ومؤلفاته، فوجد في الرسالة المفتوحة فرصةً سانحةً لإخبار قراء مجلة «الرسالة» الأسبوعية في مصر وفي العالم العربي بصدور الكتاب.

مما يجدر ذكره ضمن هذه التفاصيل الصغيرة حول الطبعة الأولى من الكتاب، أن الفصل الأخير مع أنه موجود عنواناً في متن الكتاب إلا أنه سقط ذكره في فهرس المحتويات.

مما قاله سيد قطب في رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم: «فكرة أريد أن أصححها عن الفلسفة الإسلامية، كما يصورها ابن رشد وابن سينا والفارابي... فقد ألممت بها في بحثك الممتع الطويل. أن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها الفلسفة الإسلامية بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين. ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها فلسفة الإسلام. وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!

إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلّا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة».

ثم يوجه مباشرة لوماً يبلغ حد التقريع إلى توفيق الحكيم وإلى جيله، قائلاً: «ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون به أنتم الآن - أنت وجيل التمهيد من الشيوخ - فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة. والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس! من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم... وهكذا تعملون!... ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرّس في كلياته إلّا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 10 ربيع الثاني 1446 هـ - 13 أكتوبر 2024 م

 

ينبغي أن نقرأها قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها

في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب»، أزعم أني ارتفعت إلى مستوى المعري في رسالة الغفران. صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. لماذا كل هذه الفخفخة والمنفخة؟ لماذا كل هذه الغطرسة الفارغة؟ هذه ليست من شيمي وعاداتي. بل إن عاداتي العكس تماماً؛ أي التضاؤل والتصاغر إلى درجة الاضمحلال. وقد لامني على ذلك، برفق، سمير عطا الله يوماً ما. عاداتي المزمنة والمتواصلة هي أنني أختبئ وراء أساتذتي الكبار. ولكن هذه المرة أصابتني نوبة مفاجئة من جنون العظمة ولا أعرف لماذا. ولله في خلقه شؤون. وعلى ذكر رسالة الغفران، ينبغي العلم أنها ترجمت إلى الفرنسية عام 1984. وصدرت عن أشهر دار نشر باريسية: «غاليمار» في 320 صفحة. ولكن من يستطيع أن يشتريها: 150 يورو فقط. من يصدق ذلك؟ من يستطيع ترجمتها؟ حتى في العربية يصعب فهمها، فما بالك بالفرنسية. ينبغي أن نترجمها أولاً إلى العربية الحديثة قبل الفرنسية. ولكن لا يسعنا إلا أن نشكر المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل على هذا الجهد الكبير والشاق العسير الذي بذله في نقل إحدى روائع أدبنا الكبرى إلى لغة موليير وفولتير. شكراً له وألف شكر. كيف استطاع تحقيق ذلك؟ معجزة حقيقية. والباحث المذكور أصبح اسمه الكامل فانسان منصور مونتيل عندما اعتنق الإسلام بعد أن أعجب به كل الإعجاب: ديناً وفلسفة وحضارة.

كان ديكارت يقول هذه العبارة اللافتة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ. بمعنى أنه لا يستطيع أن يكشف كل أوراقه دفعة واحدة، وإلا لكانوا قد ذبحوه حتى قبل أن يفتح فمه. إنه مجبر على أن يضع قناعاً على وجهه لكي يستطيع أن يُكمل مهمته على أفضل وجه ممكن، لكي يستطيع أن ينجز مؤلفاته وكشوفاته الكبرى قبل أن يقتلوه. وما هي مهمته في الحياة؟ تفكيك الأفكار التراثية الشعبوية الطاغية التي تتخذ صفة اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش. هل نعلم بأن المعري طبق هذه القاعدة حرفياً قبل ديكارت بسبعة قرون؟ وراء كل صفحة من صفحات رسالة الغفران تقريباً تبدو شخصية المعري مقنعة وماكرة إلى أقصى الحدود. إنه مجبر على الظهور بمظهر الإنسان المتدين التراثي التقليدي الذي لا تشوبه شائبة. ولكن خلف ذلك تكمن شخصيته الحقيقية. يكفي أن نقرأ ما بين السطور أو ما خلف السطور لكي ندرك ذلك. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه مخلص كل الإخلاص للتصورات التراثية وملتزم بها كلياً. ولذلك ينبغي أن نقرأ رسالة الغفران قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها. المعري أكثر مكراً مما نظن. تكاد تموت من الفرح والابتهاج، تكاد تنفجر من الضحك والانشراح، عندما تقرأ رسالة الغفران. لست بحاجة لأن تذهب إلى المسرح أو السينما لكي ترفّه عن نفسك. يكفي أن تقرأها. مسرحها أعظم وأكبر من كل المسارح العالمية. مسرحها العالم الآخر وجنة عرضها السماوات والأرض. إنك تسرح وتمرح في فضاءات شاسعة واسعة منتشرة على مد النظر. من هنا الطابع التحريري الهائل والإبداعي الخارق لرسالة الغفران.

تشعر بأنك أصبحت أكثر ذكاء عندما تقرأها، هذا إذا ما استطعت أن تصبر عليها حتى النهاية. ولهذا السبب قال عنها عباس محمود العقاد: «إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، ونسق ظريف في النقد والرواية. إنها فكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها». هذا أقل ما يمكن أن يقال يا عملاق الفكر العربي. كان بإمكانك أن تقول أكثر بل كان يجب أن تقول أكثر. تأمل جيداً كيف يوزع المعري بكل مهارة واستمتاع، وأكاد أقول بكل خبث ودهاء، مشاهير العرب على الجنة والنار. يقول مثلاً:

«وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قُرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزُهير بن أبي سُلمى المُزني، وعلى الآخر: هذا القصر لعَبيد بن الأبرص الأسديّ، فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء. فيسأل زهير: بم غُفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هَمَلٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً...

ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسد. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء، لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي؟ فيقول: أجل وإن في ذلك لعجباً، أألفيت حُكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرحمة محجباً؟ فيقول عبيد: أُخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قد قلت في الحياة:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل يُنشَد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كُرر إلى أن شملَتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن الله لغفور رحيم.

فإذا سمع الشيخ - ثبت الله وطأته - ما قال ذانك الرجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء».

صفحات خالدة

أخيراً، ماذا نستنتج من كل هذه المهزلة، من كل هذه الفضيحة، من كل هذه التحفة العبقرية؟ نستنتج أن المعري استمتع كل الاستمتاع بتوزيع بعض المشاهير على الجنة وبعضهم الآخر على النار. ونستنتج أنه على الرغم من كل تظاهره بالوقار وصحة الاعتقاد لم يسلم من القيل والقال. على العكس، لقد شكوا فيه وكفّروه وزندقوه ومسحوا به الأرض مسحاً كما هو معلوم. وهذا يعني أن القناع الذي وضعه على وجهه لم يَدُم طويلاً ولم ينفعه شيئاً في نهاية المطاف. وهكذا حصل له ما سيحصل لديكارت من بعده بسبعة قرون. فهو الآخر كشف الأصوليون المسيحيون القناع اللاهوتي الكاثوليكي عن وجهه وكفّروه ووضعوا كتبه على لائحة الكتب المحرّمة أو الممنوع قراءتها. بل وقتله أحد الكهنة اللاهوتيين في السويد عن طريق دس السمّ له في القربان المقدّس، كما كشف أحد الباحثين الألمان. وهو اكتشاف انفجر مؤخراً كالقنبلة الموقوتة. ولكن بالله عليكم قولوا لي: من يستطيع أن يستشهد بمقولات شيوخنا القروسطيين التكفيريين في أي مؤتمر عالمي يُعقد عن الإسلام والفكر العربي؟ أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على ذلك. ولكن بإمكانك أن تُفحم الغرب كل الغرب بعبقرية شخص كأبي العلاء المعري. بإمكانك أن تفاخر العالم كله برسالة الغفران.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 13 أكتوبر 2024 م ـ 10 ربيع الثاني 1446 هـ

سليمان بشير ديان الفيلسوف السنغالي البارز، أصدر هذه الأيام كتاباً مهماً بعنوان «نشر الكونية: الإنسانية عن طريق وسائل الإنسانية»، بلور فيه مقاربة جديدة لحوار ثقافات في عالم مفكك الأوصال، تتزايد فيه الجدران والحيطان العازلة. «ديان» يرى أن العالَمَ كلَّه تحول إلى وضع آبارتايد واسع على طريقة جنوب أفريقيا أيام نظام التمييز العنصري فيها، بما يستوجب إعادة الاعتبار لمقولة «إبونتو» التي تعني بلغة البونتو «العمل سوياً على تحقيق إنسانيتنا»، وهي العبارة التي اعتمدها الزعيمان مانديلا وديزموند توتو شعاراً لنضالهما السياسي ضد الفصل العنصري.

وكان الرئيس السنغالي الأول، الشاعر سنغور، يقول إن «زهو الاختلاف يجب ألا يحول دون سعادة الائتلاف»، وهو ما يعني بالنسبة للمؤلف السعيَ الحثيث من أجل تفعيل الرابطة الكونية الإنسانية في ما وراء التباين الجوهري في القيم والثقافات والمعتقدات.

وفي هذا السياق، يميز ديان بين نوعين من الكونية: الكونية العمودية الاستعلائية المفروضة بالقوة والهيمنة التي طبعت السياسات الاستعمارية في تصورها الأحادي للحضارة الكونية والمركزية الرسالية، والكونية الأفقية التفاعلية وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي الذي يعني به العملَ الفلسفي على بناء معايير التعددية والتنوع، مستنتجاً من هذا التمييز أن نهاية الكونية الأوروبية هي البداية الفعلية لكونية إنسانية حقيقية. والمطلوب هنا هو العمل على بناء مجتمع مفتوح كسمبولوتي مترابط في اختلافاته وتعدديته، عبر الخروج مما أطلق عليه محمد إقبال «وثنية العرق والقبيلة».

ولا يخفي ديان امتعاضه من أزمة الكونية في الفكر الغربي المعاصر، رغم أن الغرب الحديث هو الذي أبدع مقولة الكونية في مقوماتها وأبعادها الإنسانية الرحبة. لقد تأسست مقولة الكونية على مرجعيات ثلاث كبرى، أولاها فكرة الوعي من حيث هي تعبير عن الهوية الذاتية المشتركة بين البشر، وهي الإطار التصوري الشامل لحركية الفكر والبناء الاجتماعي للعصور الحديثة، وثانيتها التاريخانية، أي استكشاف آفاق التاريخ بصفته مدار الحركية الإيجابية التطورية للزمن وفق مسار تتابعي تخضع له كل المجتمعات والثقافات.

أما المرجعية الثالثة والأخيرة فهي العلم الوضعي التجريبي، منظوراً إليه بوصفه مسلكاً أوحد للحقيقة والمعنى، ونهجاً قابلاً للتعميم على مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية. لقد تعرضت هذه المرجعيات في العقود الأخيرة لانتقادات محورية، تركت أثرها السلبي على الوعي الإنساني بمسألة الكونية. وعلى مستوى فكرة الوعي، شهدت الفلسفة المعاصرة ظهور اتجاهات عديدة للخروج من براديغم الذاتية، وذلك بالتركيز على مقتضيات الاعتراف والتنوع والاختلاف.

وقد شكّل ما أطلق عليه البعضُ «المنعرج اللغوي» نقطةَ تحول كبرى في الفكر الغربي، بما دشنه من مسارات التأويل والتفكيك في ما وراء قصدية الذات المفكرة ومقاييس الإنسانية النظرية. وبالنسبة للنزعة التاريخانية، قامت العلوم الإنسانية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على تقويض المسلمات الغائية التتابعية في تصور الزمن الكوني الموحد، بما نلمسه في القول بتعددية الزمن التاريخي، وبالقطائع والانفصالات في موجة التغييرات التي تمس المجتمعات والثقافات.

وهكذا كان إعلان «نهاية التاريخ» (وفق عبارة الكسندر كوجيف التي اشتهرت مع فرانسيس فوكوياما) إعلاناً لنهاية الإنسان (حسب مقولة ميشال فوكو الشهيرة). أما النزعة الوضعية التي اعتبرت القوانين العلمية مفاتيح فهم الطبيعة والمجتمع، فقد تعرضت لانتكاسة قوية مع الإبستمولوجيات النقدية التي قوضت مفهوم «الحقيقة الموضوعية»، مظهِرةً أن النظريات العلمية ليست سوى مقاربات تجريبية محدودة بمجالها المخبري، تخضع للنفي الدائم والتفنيد المستمر، ولا تكون أبداً يقينية بل ملائمة مقبولة فقط، كما أن محاولة تمديدها إلى الظواهر الإنسانية ممتنعة، ومن ثم فإن ما يدعى بالعلوم الإنسانية هي مجرد معارف تأويلية لسانية تخضع لمسلك الفهم لا منطق التفسير الموضوعي الدقيق.

وبالرجوع إلى أطروحة ديان، ندرك أنه لا يدعو إلى النكوص نحو الضرب السابق من الكونية الذي يعبِّر عن تجربة فكرية ومجتمعية محدودة هي تجربة الحداثة الغربية في تصورها للطبيعة والتاريخ والعقل، وهي تجربة في طور التجاوز كما بينا في الملاحظات السابقة.

إنه يدعونا إلى إعادة بناء الكونية الإنسانية، لا الخروج من هذا الأفق المرجعي الذي هو مكسب كبير للبشرية الراشدة، وكل تنكر له يفضي إما إلى القول بتراتب وتفاوت الثقافات أو إلى اعتبارها جزراً متقطعة معزولة عن بعضها بعضاً. الكونية التي يدعو إليها ديان هي الكونية الكسمبولوتية التي تعد المثال الإنساني «فكرة موجهة» بالمفهوم الكانطي وليس واقعاً قائماً يفرض بالقوة أو بمنطق الاستنساخ. إنها كونية متقاسمة تبنى بمنطق الحوار والتفاعل الإيجابي والتضامن بين بني الإنسانية دون وصاية أو هيمنة أو مركزية ثقافية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 13 أكتوبر 2024 23:45

«أنت فاشل»، هذا الخطاب «النووي» القصير الذي لا يتجاوز مركَّباً لغوي من كلمتين، إلا أنه كفيل بأن يحدِث دماراً نفسياً يوازي أثرَ زلزال قوي على غابة مطيرة، هشة التربة، خضراء يانعة تتوق للتمدد عالياً، راقصةً مع خيوط الشمس، وتظل هكذا حتى تأتي عاصفة السلبية محطِّمةً لأغصانها الغضة، وفارشةً حصيرةً صفراء بائسةً، بدلاً من ذلك الوشاح الأخضر الذي ينعش الروح بمنظره، ويطرب الآذان بحفيفه الناعم إذا ما حان وقت مرحه المعتاد مع نسمات الهواء العليلة.

إن الإنسان الذي يعيش في هذه الحياة يتنفس في كل دقيقة هواءً مجبولاً بـ «المحاولة» و«التحدي»، فيقوم جسدُه - على سبيل المثال - بكل ما أوتي من قوة بالتكاتف من أجل ديمومة الحياة، فتجذب الرئتين ما استطاعت من الهواء العليل وبطرد نقيضه، ويحتضن القلبُ قطرات الدم الصافي بقوة، ثم ينتفض مرسلاً مع كل قطرة رسائلَ في المحبة والحياة المتجددة لكافة زوايا وأجزاء وخلايا ذلك البدن.

وفي اتجاه موازٍ، يسعى الإنسان في رحلته المعرفية كلَّ لحظة لبناء هيكل تصميمي محكم مِن أجل الوصول للجديد والمبتكر، فإما أن تتكلل تلك المساعي بما نسميه «النجاح» أو أن تنتهي لما نصفه بـ «الفشل»، وقد آثرت التعبير عن هذين المصطلحين بصورة غير مطلقة بالكامل لما يترتب عليهما من تأثيرات تضرب في عصب الهمة والإرادة الإنسانية الباحثة عن الاستزادة المعرفية وتكوينها.

وحيث إن النجاح في أي خطوة أو مرحلة معرفية لا يعني البتة إعلان الوصول إلى القمة أو الاكتفاء المعرفي أو امتلاك الأدوات في إصدارها الأخير وهيئتها المثلى، فإنه تجب الإشارة إلى ضرورة ملحة في رحلة التجميع والحصاد والتكوين المعرفي، مما يقتضي إعادة قراءة النجاح والفشل، وإحاطة كل منهما بإيضاحات موازية، لا سيما أن الحديث عن الفشل بشكل خاص يمثل عقدةً فكريةً وثقافيةً ونفسيةً ذات أبعاد متعددة، حيث إن الفشل مظلوم بهذه التسمية، في حين من الأجدى اعتباره محاولة أولى على طريق النجاح وليس انكساراً أو تحطماً للفكرة والأداء والمهارات.. إلخ.

وليس أدل على ذلك من ما ورد في السنة الشريفة من نصوص دلت على احتواء الإنسان بكل احتمالات سلوكياته الصائبة والخاطئة، حيث تتجلى عظمة الخالق سبحانه وتعالى، حين اقتضت حكمته «عدم إجازة الخطأ»، وإنما الاعتراف بأنه جزء من شخصية وتكوين الإنسان، وبالتالي فهو معرَّض للوقوع في الخطأ، سواء بقصد أو بلا قصد، وهذا بحد ذاته أكبر محفِّز للحث على الإمعان والانتباه لكافة القرارات والسلوكيات والتخطيط المسبق والمحكم لها، وفي الوقت ذاته عدم الاستسلام أو الوقوف عند مجرد وقوع الخطأ.

وفي الإجابة على كل ذلك، فإن الصياغة الدقيقة لا بد أن تؤكد على أن كل إنسان يحاول ويصابر ذاته ويحتفظ بقوته النفسية الكامنة في محور مواجهة الصعوبات والتحديات، فهو إنسان ناجح يتجه إلى مستوى أكثر تطوراً وارتقاءً، سواء تكللت تجربته الحالية بالخروج بنتيجة ملموسة جديدة أم لا، أما الحديث عن الإنسان ونعته بـ «الفاشل» فذلك لا يكون إلا وصفاً قاسياً يعبر عن الإنسان الذي أفلت يديه وأرخاهما وأراحهما من عناء المحاولة، دون أن يدرك أن عناء الاستسلام أدهى وأَمَرّ.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 25 سبتمبر 2024

في كتابه «أزمة العقل المسلم» الصادر عام 1986، قال عبد الحميد أبو سليمان: «والسبب الذي أدَّى إلى الفتنة وسقوط الخلافة الراشدة هو التغيير الذي حدث دون التفات كافٍ إليه، أو قدرة على تلافيه، ألا وهو تغير القاعدة السياسية التي ارتكزت إليها القيادة والخلافة الإسلامية الراشدة، فبعد أن كان الأصحاب و(كوادر) الأصحاب هم قاعدة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقامت على أكتافهم دولة الخلافة الراشدة بكل ما يمثله الأصحاب من نوعية وتوجه وإعداد ونضج وتربية، وفي زحمة الأحداث وتدافعها... فإننا نجد أن المجال قد أفسح واسعاً لتدفق رجال القبائل من الأعراب، وعلى ما كانوا عليه في ذلك الوقت من عصبية وجهالة من مضاربهم في أطراف البوادي للانضمام إلى جيش الفتح مع تقلص دور الأصحاب المتضائل بسبب السن والاستشهاد. لقد مكّن هذا في النهاية للأعراب من جيش الدولة بكل ما حملوه معهم إلى جانب معالم الإسلام العامة من المفاهيم القبلية والعصبيات، والذين لم تخضع نفوسهم لما خضع له الأصحاب من تربية وتدريب وتوعية على مدى سني الدعوة والمعاناة، وعبر عقود بناء الدعوة والمجتمع المسلم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوائل الخلفاء الراشدين...».

ووفقاً لتفسيره «كان لا بد أن تنشب الفتنة وأن تسقط الخلافة ليقوم مقامها سلطان القبلية والعصبية والاستئثار والاستبداد، وكان طبيعياً أن لا تدوم على مدار أكثر من قرن من الزمان قائمة للجماعة القليلة من رجال الالتزام الإسلامي في مكة والمدينة، وأن تدمر صفوف الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد ذي النفس الزكية وزيد بن علي وسواهم في حروب أهلية طاحنة، كانت الغلبة فيها للقاعدة القبلية الواسعة لتزداد تمكناً بتقدم الأزمان مع جموع الأمم الوافدة على الإسلام من فرس وروم وهند وترك، وسواهم من الأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام دون أن تتاح لها الفرصة للتربية والتدريب كي يصهروا نفوسهم في بوتقة الإسلام الخاصة الخالية من شوائب الجاهليات والعصبيات والباطنيات».

ومع أنَّ الأعراب والقبلية العربية هما في تفسيره كانا «بداية الانحراف والتباعد عن غايات الإسلام ومفاهيمه الخاصة ومنهجه السليم»، فإنهما في تفسيره بداية ليس لهما نهاية، كما نرى ذلك في المقتبس السالف. فهما في هذا المقتبس ازدادا تمكنّاً بتقدم الأزمان وبتوالي العصور في تاريخ الإسلام مع جموع الأمم الوافدة على الإسلام من فرس وروم وهند وترك وسواهم من الأمم. عبد الحميد أبو سليمان في مقتبساتي منه في هذا المقال، وفي المقال السابق، يفرد الجيش الإسلامي بالذكر. وعليه نفهم أنه مع إنشاء جيش محترف في الخلافة العباسية وقيامه على عناصر غير عربية إلى جوار العرب، أن القاعدة القبلية العربية كانت تزداد تمكنّاً!.

وفي بلاد السند والهند ابتداء من الدولة الغزنوية التي توغلت في شبه القارة الهندية، كانت الدول الإسلامية التي توالت على حكمها إما فارسية وإما تركية، فما محل القاعدة القبلية العربية في جيوشها من الإعراب؟!

وهذا السؤال أكرر طرحه مع الدولة العثمانية من بدايتها إلى نهايتها، ومع دولة المغول في الهند من بدايتها إلى نهايتها، بحكم أنها آخر دولة إسلامية في هذه البلاد.

وأسأل أين الأفارقة، كالأحباش والبربر في «جموع الأمم الوافدة على الإسلام» التي عدّدها؟ قد تقولون إنهم يدخلون في عبارة «وسواهم من الأمم». سنرى إن كان ذلك صحيحاً في مقتبس آخر منه.

في بحثه «الأسباب التاريخية لانحراف المجتمعات المسلمة والمنطلقات الإسلامية لتصحيح البنية الحضارية المعاصرة»، الذي ألقاه في اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي المعقود بالرياض عام 1979، قال: «وكان ذلك التحول وما يتبعه من تحولات من دولة المدينة إلى دولة دمشق، ثم بغداد وما وراء دمشق وبغداد، وبكل ما أضافت تلك التحولات من ضباب الرؤية وعماوات جاهلية قبلية عربية وفارسية وهندوكية ورومية وغربية، بداية الانحراف الذي أرسى وعمّق عزلة القيادة الفكرية الإسلامية عن القيادة السياسية الاجتماعية».

لندع الآن جانباً العزلة أو ما يسميه بـ«حال الانفصام والمواجهة بين فكر المدينة (يقصد دولة المدينة أو يثرب) ومنطلقاتها، وبين السلطات السياسية في الدولة الجديدة» لأني سأعرض له في مقال من مقالاتي الختامية عنه، ولنتوقف عند «الجاهلية القبلية» التي لم يقصرها على حياة العرب قبل إسلامهم، بل شمل بها «جموع الأمم الوافدة الإسلام».

كان الجديد في «جاهلية» أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب ومحمد قطب أنهم أخرجوا حالة «الجاهلية» من نطاق زمني محدد، ومن كونها خاصة بحياة العرب قبل البعثة المحمدية إلى حالة ذات ماهية لا زمنية أو أبدية استمرت مع العرب وغير العرب بعد أن دانوا للإسلام وتدينوا بالإسلام، وشملت وتشمل كل من عليها من بشر وحضارات، بما فيها حضارة القرن العشرين. وما من شك أن المودودي والندوي والأخوين قطب في تنظيرهم «للجاهلية» أنها عندهم قائمة على «عماوات» لكنهم لم يحصروها بـ«القبلية».

وهذا ما خالف فيه عبد الحميد أبو سليمان هذا التنظير وخرج عليه، فهو مدّ «القبلية» ومطّها إلى الحد الذي انقلبت فيه «القبلية» على يديه إلى «كوزموبوليتانية»، فيها عرب وفرس وروم وهنود وترك، وفيها «غربيون»!

مع أن «الكوزموبوليتانية» على الضد من «القبلية» وعلى الضد مما هو أكبر منها، وهي «القومية».

هل عرفتم الآن من هم الأقوام الذين يدخلون في عبارته «وسواهم من الأمم»؟

إنهم «الغربيون» فقط!

مع أن «الغربيين» أو «الفرنجة» لم يكونوا ولا كانوا في عصر ما من «قوميات» الإسلام - أو حسب تنظيره - من «قبائل» الإسلام. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الأحد - 26 ربيع الأول 1446 هـ - 29 سبتمبر 2024 م

 

دانيال دينيكولا في محاولة لفهمه

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة. وفي الحكاية، فإن الجهل مثل مجموعة من البشر تقطن في ظلام كهف تحت الأرض، مقيدة من الساقين والرقبة حتى تتعذر عليهم الحركة حتى لإدارة رؤوسهم، ولا تتوفر لديهم ذاكرة أخرى للحياة؛ لأنهم سُجنوا بهذه الطريقة منذ الطفولة. أمامهم، لا يرون سوى الظلال المتحركة التي تُلقيها أشياء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلاطون أنها تقع في مكانٍ ما خلفهم لا يمكنهم رؤيته. هذه المجموعة من البشر التعساء لا تعرف شيئاً عن هذا العالم سوى تلك الظلال، ولا تسمع سوى أصداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم.

«الجهل» في هذا التمثيل المروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن، وأبشع من العبودية، وأقرب إلى الموت، فيقول، مستعيراً من «الأوديسة» لهوميروس عند إشارته إلى الموتى الذين يقطنون في جحيم الآخرة، حيث يظلّ «من الأفضل أن تكون خادماً متواضعاً لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدلاً من أن تعيش وترى ما يرون». وبينما نتأمل هذا المأزق الأفلاطونيّ المحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفي الصورة هنا حجز الحركة الجسديّة - يحصر عالم تجربة البشر في لُجة الجهل العميق، ويمنع عنهم خوض تجارب جديدة تتيح لهم التعلم وتفتح أمامهم آفاقاً مغايرة لما عهدوه، فيعجزون عن فهم الأشياء، أو الانشغال بأمور ذات قيمة، أو تذوق أي قيمة من قيم الجمال. إن الجهل يبدو، وفق أفلاطون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، لا يدركون ولا يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم التي فيها يرزحون، إذ سيؤمنون في كل وقت بأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلال المتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجاً من خيالات مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم.

كهف أفلاطون بالطبع محض خيال، وسرعان ما يشعر قارئ «الجمهوريّة» بالامتنان، لبُعدنا عن ذلك المكان القاسي والخانق بسجنائه المساكين، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريباً، يأتي بيان أفلاطون الصارخ والمخيف: «إنهم مثلنا، وتلك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديداً ينطلق دانيال دينيكولا، أستاذ الفلسفة في كلية جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا، في كتابه الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد لا نعرفه*»، في رحلة لاكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في المعرفة.

يأتي هذا الكتاب في وقت من تاريخ العالم يُعرَف بعصر المعلومات، حيث لم تعد المعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول الأكثرية، كما ظلّت عبر آلاف السنين، ومع ذلك يرى دينيكولا أننا قد لا نكون في كثير من الأحايين على دراية كافية، ناهيك عن تفشي المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والتعامي الاختياريّ، والأخبار المزيفة.

يبدو هدف دينيكولا هنا أبعد من تقديم مطارحة فلسفيّة في الأبستمولوجيا (علم المعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على الأقل، أن يُبقي الجدل قريباً من خبرة القارئ غير المتخصص، فيبدّد من أمامه المفاهيم الخاطئة الشائعة فيما يتعلق بظاهرة الجهل بوصفه أكثر من مجرد نقص أو غياب للمعلومات، بل نتاج تفاعلات ديناميكية ومعقدة مع المعرفة، مستعيداً التمييز - الشهير الآن بفضل خطاب لدونالد رامسفيلد (وزير دفاع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش) - بين معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكذلك معلوم مجهول، مستعيناً باستعارات مجازية لمقاربة الجهل: بصفته مكاناً، وحدوداً، وسدّاً، وتوجهاً.

يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلاطون - حيث الجهلة لا يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لفت انتباههم إلى ما سواه فيحسبونه مُهَرطِقاً أو ضحية نظرية مؤامرة عليهم، مقابل فردوس «دانتي» مثلاً، نقيض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي.

الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن

أيضاً يمكن تصوّر الجهل بوصفه حدوداً فاصلة تُوقف تمدد معرفتنا، سواء الفرديّة أم الجماعيّة، لكن المساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والحدود نفسها ليست نهائيّة، ويمكن دائماً تحريكها من خلال التعلّم، لكن المسافة التي يمكن لبشريٍّ قطعها يومياً في استكشاف المعرفة؛ دونها سقوف، إذ لو قرأ المرء كتاباً في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.

يمكن فهم الجهل كذلك بوصفه سداً نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب ألا نعرف شيئاً، لاعتقادنا أنّه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو لأنه لا يتناسب مع يقينياتنا الأيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة.

وأخيراً، تخلق هذه الأماكن/ الحالات التي نخلد إليها، والحدود التي نقف أمامها، والسدود التي نختار تعليتها ما يمكن عدُّه أفقاً وتوجهاً لمقاربة الإنسان - والمجتمع - أيضاً علاقته بالعالم.

ومع توضيحه أشكال الجهل، يستعرض دينيكولا عدداً من مظاهره في مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح أيضاً تناقضات أخلاقية تتعلق به، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضاً أن بناء الثقة يتطلب أحياناً تقبُّل درجة معينة من الجهل، ثم يقترح منهجيات ممكنة لإدارة جهلنا من خلال الفضول، والسعي للمعرفة، وإلزامية التعليم، وتوظيف علوم الإحصاء والاحتمالات، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعيّة من خلال الوعود، والعقود، والاتفاقيات، والالتزامات المتبادلة.

ولعلَّ أثمن ما ينتهي إليه دينيكولا في محاولته هذه القبض على الجهل هو تحذيره من الهدر على المستويين الفردي والجماعيّ الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل مكوناً من التوجه الأيديولوجيّ، ومن ثمّ زعمه أن «الاعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد لا ندرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلى مجال معرفي يسمح لنا بأن ندَع عنّا المعارف الخاطئة، ونقلل مساحة جهلنا العنيد بطلب المعارف؛ ولو بتعب وألم يرافق عملية التعلم».

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 5 أكتوبر 2024 م ـ 02 ربيع الثاني 1446 هـ

الحقيقة تلك الضالة التي ركضت خلفها العقولُ على مدى وجودِ الإنسان في هذا الكون. العلماء والباحثون والمفكرون والفلاسفة والأدباء، كلٌ قضى عمرَه بين الكتب، والمختبرات والمعامل، من أجل الوصول أو الاقتراب من إجابة عن أسئلة، نمت في عقله، حول أسئلة فكرية أو علمية.

المفكر والروائي والفيلسوف الإيطالي أومبيرتو إيكو، أحد الذين قضوا أعمارهم يجوبون طيات الزمن، وخطوات الإنسان الطويلة، بحثاً عن الحقيقة.

صدر مؤخراً كتاب باللغة الإيطالية بعنوان، «أية حقيقة؟» ضمَّ محاضرات ومقالات ونقاشات وندوات للمفكر الروائي أومبيرتو إيكو. الكتاب في 168 صفحة من الحجم المتوسط، لكنَّه يحتوي على عصارة مركزة، لفكر الرجل الذي يعدّ من رموز القرنين العشرين والحادي والعشرين، في الأدب والفلسفة والتعليم.

وُلد إيكو في مدينة ألكساندريا بشمال إيطاليا سنة 1932، في عائلة كبيرة. درس بكلية الآداب، وتخصص في فكر وفلسفة توما الإكويني، الذي يعدّ من كبار اللاهوتيين والفلاسفة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، ورفعته الكنيسة إلى درجة القديس. درس الفلسفة اليونانية، وكذلك الدين والفلسفة الإسلامية عبر فكر ابن رشد. في تلك العصور ربطت الكنيسة الفلسفة بالهرطقة، وتعرّض الإكويني للملاحقة. اهتم أومبيرتو إيكو مبكراً بفلسفة الجمال في العصور الوسطى، على الرغم من أنها لم تحمل هذا العنوان آنذاك، لكنه وجدها في فكر الإكويني، وكانت أطروحته للدكتوراه عن توما الإكويني. انطلق إيكو في رحلته الطويلة وراء الحقيقة. اهتم بالسيميائية ودرسها وعلمها، وأضاف الكثير إلى مفهوم الهيرمونيطيقا، أو ما يمكن أن يطلق عليه التأويل. كتب الكثير عمَّا سمَّاه النص المفتوح، أي أن يكون القارئ شريكاً في النص المكتوب.

كتب إيكو الرواية، ونشر مؤلفات في الفكر والفلسفة، وكتب المقالات الصحافية، وقدم برامجَ في التلفزيون الإيطالي، وخاض الكثير من المعارك السياسية عبر وسائل الإعلام المختلفة.

في كل تلك الأعمال، كان سؤال الحقيقة، هو الحاضر دائماً.

روايته التي عبرت الآفاق، وتُرجمت إلى عشرات اللغات، وباعت ملايين النسخ في مختلف أنحاء العالم «اسم الوردة»، كانت الرحلة الطويلة في كهوف الزمن، وفي تضاريس العقول، والصراع البشري الممتد بلا حدود.

كتب إيكو، كل الأشياء تندثر، ولا يبقى منها إلا الأسماء. تلك الرواية التي جرى تحويلها فيلماً، تحركت في دوائر العصور الوسطى، مكتوبة بلغته. عجّت بالطلاسم والجرائم والغرائب، والحضور البوليسي، ولم تغب عن صفحاتها أنفاس السخرية. تحاور الديني مع الدنيوي في الدير الكاثوليكي الذي يعج بالغموض والصراع. الحقيقة كانت الميدان السري الغامض، الذي تدور فيه وحوله معركة، سلاحها الطمع والطموح.

في روايته التي حملت عنوان «العدد الصفر» اقترب إيكو إلى الأسلوب المباشر إلى حد كبير. العدد الصفر، هو النسخة التجريبية من الصحيفة، قبل صدورها، وعلى صفحاته تنشر أخبار عن أحداث لم تقع، وهنا تغيب الحقيقة، بفعل فاعل ومع سبق الإصرار. رواية أخرى لأومبيرتو إيكو «مقبرة براغ»، أطلق فيها العنان للخيال السياسي، وحشد فيها أحداثاً تاريخية، وبها اصطفاف لا يخلو من العنصرية والأحكام الضبابية. التجسس وبروتوكولات حكماء صهيون والخيانة والسامية. صارت الحقيقة قشة في غرفة مظلمة. بعد ذلك تطرف إيكو في الانحياز لإسرائيل والدفاع عنها بالقلم والصوت. هل كان ذلك تكفيراً عمَّا ساقه في روايته، «مقبرة براغ». زميله في الدراسة، وصديقه جاني إديتمو، كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية، وواجه إيكو في أكثر من مناظرة على وسائل الإعلام، ووضعه في موقف شديد الإحراج. قد تكون الحقيقة أحياناً، التي قضى إيكو عمره راكضاً خلفها، عصارة لزجة مراوغة، تفرّ من اليدين واللسان. في روايته «بندول فوكو»، يصب إيكو في الرواية، بأسلوب متحرك، رؤيته الفلسفية في المعرفة، التي تعبّر عن عدم الاكتمال في أي شيء. يتحرك البندول دون أن يصل إلى نهاية ما. إذ لا شيء يكتمل.

في كتاب «أية حقيقة؟» Quale Verita، يتحدث إيكو عن الكذب والتعالي، وفن إخفاء الحقيقة. في بعض وسائل الإعلام، وفي الخطابات التي يلقيها السياسيون، تسيطر الفاشية النفسية، ويصب التخويف والبطولة والحروب، في آنية الكلام والحروف، وتستحضر عقيدة ماني التي تضع النور في مواجهة الظلام، أي الخير في مواجهة الشر. تلعب الآيديولوجيا بالحقيقة، حيث تصبح الكلمات أقوى من الوقائع. استحضر إيكو دراسة الأستاذ الروسي فلاديمير بروب عن البنية الشكلية للحكايات الخرافية، واقترح صياغة بنية شكلية للكذب. وقف عند ما صدر عن بعض الزعماء السياسيين في العالم، مثل الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، في قضية ووترغيت، وما صدر عن رئيس الوزراء الإيطالي السابق بيرلسكوني في كثير من المواقف، وغيرهما. وتحدث عن السرقات الأدبية، وعما سمَّاه حروب الإنترنت على الحقيقة.

حصل أومبيرتو إيكو، على أربعين شهادة دكتوراه فخرية، وباعت روايته «اسم الوردة» أكثر من أربعين مليون نسخة. ضمت مكتبته خمسين ألف كتاب. قال في آخر أيام حياته، لم أقرأ ولم أتعلم شيئاً.

سئل أحد أصدقائه: لماذا لم يحصل إيكو على جائزة نوبل للآداب؟ أجاب: ربما كان يستحق جائزة أعلى منها. هل كان يقصد جائزة «الحقيقة»؟

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: السبت - 02 ربيع الثاني 1446 هـ - 5 أكتوبر 2024 م

 

في كتابه الأخير «المعركة من أجل سياسة مقبولة: الليبرالي من حيث هو صفة»، يقدم الفيلسوف الأميركي مايكل والزر تمييزاً مهماً بين التصورات الفكرية والمجتمعية لقضايا السياسة والتغيير الاجتماعي ونمط الممارسة الليبرالية التي تستوعب أشكالاً عديدة ومتباينة من الرؤى والمواقف الفكرية والأيديولوجية.

أهمية هذا التمييز تكمن في كون الليبرالية قدّمت نفسَها في سياقات عديدة بصفتها مرادفةً للتنوير والتحديث والديمقراطية، مع أن العبارة لم تكتس دلالةً إيجابية إلا بصفة متأخرة وما تزال إلى اليوم تفتقر إلى التدقيق والتمحيص.

وفي كتابه الجديد ينطلق والزر من خلفيتين متمايزتين: النقاش الفلسفي الذي عرفته أميركا الشمالية منذ سبعينيات القرن الماضي حول معايير العدالة التوزيعية في مجتمع تعددي حر، وقد تمحور حول الجدل الليبرالي المجموعاتي بعد صدور نظرية جون رولز في العدالة، والنقاش السياسي الراهن حول علاقة الديمقراطية والليبرالية إثر تنامي الحركات الشعبوية في الغرب، والتي لا يتردد بعض رموزها في اعتماد «الديمقراطية غير الليبرالية».

وفي هذا السياق المزدوج، تغدو إشكالية الليبرالية مطروحة بقوة، مع العلم بأن المقولة تحيل في المعجم الدلالي الأميركي إلى الديمقراطية الاشتراكية بالمعنى الأوروبي، في حين تحيل في النطاق الأوروبي إلى ما هو أقرب للنزعة الرأسمالية الفردية حسب المنظور الأميركي. لا بد هنا من التذكير بأن التعددية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية تتجسد في مقاربات متنوعة أهمها: الفردانية الذاتية التي تدعو إلى تقليص سلطة الدولة إلى الحد الأدنى، والنزعة المحافظة التي تحافظ على تركة التقليد والاعتقادات المؤسسية الجماعية، والأطروحة المجموعاتية التي تتأسس على معايير الاعتراف والتعددية الثقافية.

«والزر» يرى أن كل هذه الاتجاهات لا تتعارض مع الليبرالية التي ليست بالنسبة له فلسفة كلية أو رؤية للعالم، بل هي طريقة في ممارسة السياسة تقوم على الانفتاح والتسامح وقبول التعددية ورفض العنف والتسلط والإكراه.

ولا يهم بالنسبة له التباينُ حول التصورات الجوهرية للخير المشترك، ولا يرى -على طريقة رولز- أنه يمكن تجاوزها من خلال مقاربة إجرائية صورية للعدالة، فالاعتبارات الأخلاقية العقدية تظل دوماً حاضرة مهما حاولنا التحرر منها، بل إنها مطلوبة ومفيدة لما تقدمه من دوافع فاعلة لممارسة العدالة وتوجيه سلوكيات الأفراد والمجموعات.إلا أن ما يميز الليبرالي هو ما سماه آخرون «الحياد الأبستمي» في الممارسة السياسية العملية، أي قبول التعددية والتنوع والتسامح مع الآراء المغايرة، وعدم السعي لفرض الرأي الخاص بالقوة والتحكم.

المشكل مع الشعبويات الجديدة ليس إذاً في توجهاتها اليمينية القومية أو المحافظة، بل في ميولها التسلطية الأحادية، وفي زعمها أنها تجسد روح الأمة أو الإجماع الشعبي، والحال أنها تعبر عن خيارات سياسية ظرفية مشروعة لكنها ليست مطلقة ولا نهائية.

وكما أن المشكل في الأيديولوجيات الاشتراكية الراديكالية، التي سيطرت بعد الحرب العالمية الثانية على مناطق واسعة في العالم، ليس توجهها الأيديولوجي في ذاته، والذي هو أحد أوجه التصور والرأي المتولدة عن المعادلة الصناعية الطبقية، بل الممارسة السياسية المغلقة والدوغمائية.. فإن الديناميكية الشعبوية التي أفرزتها تحولات الديمقراطية التعددية تشكل اليوم خطراً جديداً على المنظومة الليبرالية التي هي روح الديمقراطية نفسها.

وفي كثير من الساحات، كما هو شأن بلدان الجنوب بما فيها دول عالمنا العربي الإسلامي، ينظر إلى الديمقراطية كمجرد مسطرة إجرائية انتخابية لحسم الصراع السياسي، بمنأى عن العقل الليبرالي التعددي، بما أفضى في حالات كثيرة إلى نجاح وتحكم قوى سياسية وأيديولوجية متزمتة ومنغلقة رافضة لقيم التعددية والتسامح التي هي جوهر الليبرالية.

وكان فيلسوف الليبرالية الأهم في العصر الحاضر جون رولز قد تحدث، في كتابه «قانون الشعوب»، عن ما سماه «المجتمعات المقبولة» descent society التي وإن كانت تراتبية وغير ليبرالية، إلا أنها تشترك مع المجتمعات الليبرالية في خاصيتين محوريتين: جودة التنظيم والعقلانية، مما يسمح لها بأن تكون مكوناً فاعلا في نظام العلاقات الدولية.

والسؤال المطروح اليوم في بلداننا التي عرف بعضُها في السنوات الأخيرة أزمات حادة في نمط الانتقال السياسي، دون أن تتمكن من العبور الآمن إلى الديمقراطية التعددية، هو: هل نحتاج إلى ليبرالية المؤسسات والنظم أم إلى العقل الليبرالي نفسه بصفته الشرط الذي لا غنى عنه في ممارسة سياسية منفتحة ومتسامحة؟

بدون العقل الليبرالي، تتحول الإجراءات الانتخابية إلى ممارسة شكلية تفضي إلى نمط من الهيمنة «الشرعية» التي تقضي على تعددية الأفكار والآراء وتفرض باسم الإرادة الشعبية الموهومة مقاربةً أيديولوجية تقسِّم المجتمع وتؤدي به إلى العنف والتناحر.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

6 أكتوبر 2024 23:45

هل يعيد التاريخ نفسه؟ قال كار ل ماركس ساخراً: لا يعيد التاريخُ نفسَه، لكنه إن فعل يكون في المرة الأولى مأساة، وفي الثانية ملهاة أو كوميديا! ولستُ أذهب لذلك، فقد جرت من قبل أحداثٌ مشابهة لما يحدث الآن بين إسرائيل والعرب، أو بينها وبين إيران، وكانت مأساوية، وما يحدث منذ عام أش دّ مأساوية من كل المرات السابقة.

لكنّ ماركس كان يسخر، فالتاريخ لا يعيد نفسَه، بل كان يقصد أنّ المنتصر والخائب كليهما يصبح مضحكاً إن لم يتعلم من الدرس الأول، وحاول الإعادة بالطريقة نفسها. لدى الإسرائيليين وهمٌ أو أوهامٌ في هذه الفترة على الأقلّ بأنه يمكن من خلال التفوق العسكري والأمني والدعم الأميركي القضاء على حلم الدولة الفلسطينية.

وتقع القضية الفلسطينية منذ ثمانينيات القرن الماضي بين مأزقين: مأزق عدم القدرة العربية والفلسطينية على بلوغ هدف استعادة الأرض، ومأزق إصرار الإسرائيليين على إلغاء حقوق أكثر من سبعة ملايين فلسطيني من أجل بقاء دولتهم يهودية نقية فيما بين النهر والبحر. وبمقتضى أوسلو (1993) تخلّى كلٌّ من الطرفين عن بعض الحُلُم أو حدوده القصوى. لكنّ بعضهم الآخر غير الموافق من الطرفين تمكن من إنهاء الاتفاق، فانصبّ الجهد من جانب الدولة العبرية العميقة على إبعاد العرب عن فلسطين وعلى قسمة الفلسطينيين.

أما العرب، ومعهم السلطة الفلسطينية الضعيفة (حتى في نظر رعاياها)، فقد ظلُّوا على الإيمان باتفاقيات أوسلو، وضرورة تطويرها كما كان مخطَّطاً باعتبارها الحلَّ الوحيد السلمي والممكن. لكن الفلسطينيين الرافضين للحلّ السلمي استعانوا بإيران لتدعمهم في مواجهة الاحتلال.

ولأنّ الإيرانيين كان لديهم مشروع استراتيجي في المنطقة العربية، فقد رأوا أن حمْل راية فلسطين كان ملائماً. لقد ملأوا الفراغ الذي أحدثه غياب السلام بدعم حركات التحرير المذهبية والدينية، وتصدوا في الوقت نفسه لأميركا التي يساومونها عبر التحرش بإسرائيل من خلال الميليشيات التي نشروها في بعض الدول العربية المجاورة لها.

وما حققوا مكاسب في مواجهة إسرائيل، لكنهم نجحوا في السيطرة على بعض الدول العربية، وفي التنازلات التي منحتهم إياها الولايات المتحدة في فترة الإعراض عن العرب، وشن الحرب العالمية على الإرهاب. تعددت الأهداف الاستراتيجية لإيران، ومن ضمنها النووي، وظلت على الاعتقاد الذي غذاه الجنرال سليماني بأن الميليشيات المنشورة، وبخاصةٍ «حزب الله»، قادرة على أن تظل أداة صالحة لإحقاق الأهداف القديمة والمستجدة.

كان هجوم «طوفان الأقصى»، بعد نداءات «وحدة الساحات» من حسن نصر الله، خطأً مأساوياً في التقدير. فقد ردَّت حكومة نتنياهو، وبدعم أميركي مطلق، بتدمير غزة خلال عام، ثم ارتأت ليس تدمير منطقة الليطاني اللبنانية لإبعاد الحزب، بل تدمير الحزب نفسه، ودائماً بدعم أميركي هائل.

قضية فلسطين وشعبها لن تزول، فقد حضرت قبل «حماس» وستبقى بعدها. والشعب اللبناني ذو الخمسة ملايين نسمة لا يمكنه البقاء دولة ذات سيادة إلا بزوال السلاح والمسلحين من على أرضه، ومعهم الاستخدامات الإيرانية. وثمة حاجة إلى مراجعةٍ جذرية للتقديرات والسياسات التي خالطتها أوهام كثيرة.. فهل يحدث ذلك؟

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 أكتوبر 2024 00:24

 

يبدو من اللافت تبدل السياقات والمفاهيم والدلالات في المنظور الإنساني والفلسفي والثقافي، بحيث تبدو أكثر جدوى في استثمارها وطبيعة فهمها، وبخاصة حين تتعلق بالمفاهيم التي لطالما تعرفنا عليها وبنينا في ذهنيتنا الباطنة، الواعية واللاواعية، وصفاً «سلبياً» بحقها.

ومن الأمور التي تدعو للفخر ضِمن التغير الملحوظ في الإدراك الإنساني، فيما يتعلق بمفهوم الخطأ (أي الفشل أو الإخفاق) أنه يقوم بإعادة تدوير ذلك لاستخراج معدن ثمين من قلب المفارقات التي لا تبدو شبيهة به.

ولولا الأخطاء لما وجدت التوبة وفضلها وانعكاسها على تربية النفس وتقويتها، ولما كانت هناك إشارات واسعة في مصادر التشريع، من قرآن كريم وسنّة نبوية شريفة، إلى الخطأ الإنساني وضرورة الانطلاق من تلك الأرضية نحو تغيير الواقع بشكل أكثر إيجابية ونفعاً. ويبدو ذلك جلياً في الحكمة الربانية التي اقتضت أن يكون ما يقارب ثلث القرآن الكريم من القصص الذي يضم سيّر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بالإضافة إلى قصص الأمم والأحداث الغابرة، إلى جانب مختلف القصص التي ضمت صوراً ومواقفَ من السيرة النبوية المطهرة، مما يعزز فكرة التغيير والتشجيع على ذلك استفادةً من التجارب والعبر السابقة.

ومن زاوية موازية، فإن مرور الإنسان بالتجارب السلبية في حياته، بجميع صورها، يعتبر محطة انطلاق جديدة من الارتقاء بمستوى التفكير والانتقال به من الجمود المعتاد والتلقين الرتيب، نحو فسحة واسعة من التفكير والتدبر، بما يفتح المجالات المختلفة للإبحار في أصناف وألوان عديدة من العلوم ومسارات التطور.

وقد بات الصعيد الأخلاقي يمثل الأساس المفقود في كل ملمح من ملامح الواقع الذي نعيشه عالمياً، والذي شهد اضطرابات مختلفة في هذا المجال، جعلت الوجود الإنساني يمر مرغماً بالعديد من التحديات والأزمات التي أعادته للوقوف مرة أخرى أمام المنظومة الأخلاقية كخيار أمثل وأكثر دقة عند اتخاذ قرار الازدهار والاستمرارية والاستدامة الإيجابية بين بني البشر. ففي هذا المستوى نجد أنه لولا مرور الإنسان بمرحلة من التعامل الخاطئ مع الأخلاق، وسوء المواءمة فيما بينها وبين إملاءات المسارات الأخرى، ومعاينته النتائجَ الوخيمة لذلك، لما وصل بعد كل هذا إلى اتفاق ضمني عالمي يعترف بالمشترك الإنساني الأخلاقي وينادي بضرورة الاتحاد في قيم التسامح والتعارف وبناء الخبرة القيمية في المعاملات والمشاريع والاستراتيجيات.

وأخيراً، نجد أن المقولات التي دائماً تشجعنا على النجاح باعتباره طرف الخيط في «سلسلة من النجاحات» اللامتناهية، لا تعتبر خاطئةً وإنما مفتقرةً للوضوح. وبمعنى آخر، فإن إحراز النجاح المخطط له يقود الإنسانَ بطريقة منطقية وسلسة لإعادة التجربة المبنية على الملاحظة والتنظيم والاختبار ليحظى بنجاح آخر. لكن، وفي الوقت ذاته، تجب موازنة هذه الفكرة بفكرة أخرى تفيد بأن عدم تحقيق النجاح المأمول لا يعد فشلاً، بل يعد المفتاح «السحري» للحصول على مخطط ممنهج ومنسق من الأخطاء المتتالية التي يجب الرجوع إليها ومعالجتها واحدةً تلو الأخرى، مما يحقق النجاح في المرة المقبلة ويجعلنا أكثر كفاءةً للحصول على «نجاح متزن وناضج». وكما يقول المفكر والكاتب إبراهيم الفقي فإن «الفشل ضروري للنجاح المتزن، ولولا وجود الفشل لما كان للنجاح قيمة».

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 أكتوبر 2024

 

خبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة مع تعقّد الحياة وتطوّرها

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي. علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات (Distractions) في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية. ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة. الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الكلكامشي حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الكلكامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال (Godel's Incompleteness Theorem)، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي (Formal System) باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

***

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الكلكامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني. بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

***

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 30 سبتمبر 2024 م ـ 27 ربيع الأول 1446 هـ

بين جون ستيوارت ميل وهيغل

في خريف عام 1826، عانى الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، من انهيار عصبي مفاجئ. الذين يعرفون ميل وسيرته ونضاله القانوني وكتبه الفلسفية يعرفون أنه من أبرز الفلاسفة الإنجليز إلى جوار راسل وهيوم وهوبز وبيكون، ولعلّي لا أكون واهماً إن قلتُ إن مساهمته في التأسيس لمذهب «المنفعة» كانت أهم من مساهمة مؤسس المذهب جيريمي بنتام. هذا المذهب الذي ترجع أصوله إلى الإغريق، خصوصاً الفيلسوف المنسيّ أرسطبوس، تلميذ سقراط، وأبيقور، ثم حوّله الإنجليز من كونه مجرد مذهب للَّذة الفردية يدعو لِلعَبِّ من الملذَّات وتحاشي الألم إلى مذهب للمنفعة العامة، على مستوى الدول وتطورها. لقد ساهم ميل في صناعة مذهب يقول إن كل عمل بشري لا بد أن يهدف إلى تعزيز أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وكرَّس قدراً كبيراً من طاقته عبر العقود المتتالية لتقوية هذا المذهب وتحرير مخطوطات بنتام الشاقة. وأدخل في نطاق النفعية الدعوة إلى إصلاحات اجتماعية مختلفة تراوح بين تحسين العلاقات بين الجنسين وأجور العمال وحماية حرية التعبير وتوسيع دائرة الناخبين البريطانيين وحق المرأة في التصويت.

حدث الانهيار العصبي كان شائعاً بالنسبة إلى المشغولين بالفلسفة والفلاسفة ويبدو أنه كان ناجماً عن إرهاق ذهني تراكمي. لكنك حين تقرأ وصف ميل لتلك الحالة وما دار حولها من أيام، قد تصل إلى شيء مختلف. يبدو أنه قد فقد البوصلة وصار يشعر بأنه لم يقل شيئاً ذا بال، وأن كل مطالباته لو تحققت فإنها لن توصله إلى حالة الرضا التي عاش حياته ينشدها. لقد اكتشف فجأة أنْ لا جدوى من تحقيق أحلامه، لأن تحقيق الأحلام وإشباع الرغبات سيؤدي إلى السآمة والملل، كما حذّر آرثر شوبنهاور من قبل، وبالتالي سنبقى مثل البندول نتراقص بين الألم والملل.

في أعقاب هذا الاكتشاف، انزلق الفيلسوف إلى حالة من الاكتئاب استمرت ستة أشهر، ويبدو أن الأزمة كانت نتيجة طبيعية لقلقه بشأن إمكانية السعادة في العالم المثالي الذي سعى إلى تحقيقه؛ عالم بلا صراع.

رغم عظمة ميل فإنه كان حالماً أكثر من اللازم. في تصوري أن الفيلسوف الذي فهم حقاً حقيقة الوجود وسر الحياة هو هيغل من خلال منهجه الجدلي (الديالكتيك). ميزة فكر هيغل هي أنه يرحب دائماً بعالم تجتمع فيه المتناقضات، عالم صراع لا ينفك حتى يبدأ من جديد، عالم الأحزان والأفراح، عالم الفوز والهزيمة. بل عندما يأتي الحديث عن الحرب فإنه يرحب بها، متابعاً أستاذه البعيد هيراقليطس الذي قال «الحرب أُم الجميع». ليس حباً في سفك الدماء وإنما ينطلق هذا الموقف من عقلانيتهما الواقعية الصارمة. أولاً: لأن الحرب لا انفكاك عنها وأنها ستبقى تقع بين البشر على المصالح بغضّ النظر عما نقوله ونفعله، ولو تحول نصف سكان الكوكب إلى البوذية المسالمة لغزاهم النصف الآخر أو هيمنوا عليهم. ثانياً: أن الحرب نافعة وتؤدي إلى التقدم الحضاري.

إذا تصورنا كيف قَبِلَ هيغل الحرب، فلا شك أنه يقبل الحياة بمرّها وحلوها بنفس الطريقة. إنه لمن العقل أن نرحِّب بالتناقض، فالتناقض سر الوجود، وصراع الأضداد هو الحقيقة الأولى. هذا الصراع هو سبب كل تغير يحدث في العالم، وينبغي ألا نخاف من التغير. ثمة غاية سامية تكمن وراء التغير، هي قيادة الوعي المشترك بين كل البشر صوب المعرفة الفلسفية. فالوعي الحقيقي لا يحدث إلا بالخروج من دائرة الوعي الفردي المحبوس في ذاته، المعزول عن العالم، والارتفاع به إلى مستوى الصراعات الفكرية والشراكة العقلية والروحية، من خلال عيش الفلسفة بوصفها خبرة نرى فيها التاريخ كله، وبحيث تبدو الأحداث التاريخية كتحقق للفلسفة ينقلها إلى الواقع.

نحن نبصر التناقض وهو يسري في الطبيعة والفكر والإنسان في كل لحظة، نراه في حركة الكواكب، في تغير الظواهر الطبيعية، في تقلبات الأجواء، مثلما نراه في حياتنا الشخصية، في تناقضاتنا وانقلابنا على ذواتنا. في ذلك يقول هيغل: «إن التناقض مبدأ كل حركة وكل حياة وكل تأثير فعّال في عالم الواقع».

لا يوجد عالَم ساكن كعالم دعاة تطوير الذات وفلاسفة الزن، لأن العالم دائماً في حركة وتطور وتغير، وبالتالي فكل تصور سكوني مرفوض، وكل فصل بين المحسوسات والتصور العقلي مرفوض.

ولو أمعنَّا النظر لوجدنا أن عملية الصراع ليست مجرد نشاط ذهني ترفي، بل هي كل ما يحيط بنا من هذا العالم، من الثلج الذي يُنفى فيصير ماءً، والماء الذي يُنفى فيصير بخاراً، والحيتان التي تموت فيتحول بعض أجزائها عبر الزمن إلى نفط، كل ذلك يسير على نفس الخطة. وعندما ننظر إلى نظامنا الشمسي، سندرك أن هذا الكوكب الذي يوجد الآن في مكان، يُعلن أيضاً أن من طبيعته أن ينتقل إلى مكان آخر، لأنه لا مناص له من الحركة التي ستنقله إلى وجود مغاير. وعندما تنظر في نفسك، في أمسِك، فترى أنك كنت تسير في طريق ما، فتنزع نفسك اليوم إلى معارضة ما كنت عليه بالأمس ومسيرتك تلك، فينشأ صراع شديد بين الأمس واليوم وتُمزَّق، ثم يكون هناك مُركّب يتجلى في الغد. كل هؤلاء شهود عدول على صدق الديالكتيك وأنه واقع نعيشه في كل لحظة؛ في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفكر. وكما قال هيغل: الفرح يظهر من خلال الدموع، والحزن الشديد يتجلّى في ابتسامة.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 30 سبتمبر 2024 م ـ 27 ربيع الأول 1446 هـ

في إطار دراساته الهامة حول أزمة المجتمعات الليبرالية المعاصرة، يصدر هذه الأيام المفكر الاجتماعي الفرنسي «بيار روزنفالون» كتاباً جديداً بعنوان «المؤسسات الخفية»، يتجاوز فيه الجدل التقليدي حول الأشكال الإجرائية للديمقراطية التعددية وأثرها العملي على أهداف الحرية والعدالة التي هي المضمون القيمي للنظام الديمقراطي الحقيقي. النقطة المرجعية التي ينطلق منها روزنفالون هي ما أكده الكثيرون من أن الديمقراطية الانتخابية غدت مجرد ممارسة شكلية لا روح لها في المجتمعات الغربية، كما أن محاولات تصديرها إلى الخارج فشلت حيث كانت في غالب الأحيان واجهة صورية للتسلط والاستبداد.

ومن هنا يبين روزنفالون أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد مسطرة إجرائية أو شكلا تنظيمياً محضاً، بل تقوم على مؤسسات خفية هي: السلطة والمشروعية والثقة، إذا تحققت كان النظام الديمقراطي متحققاً، وإذا غابت لا عبرة بالتنظيمات والإجراءات المستخدمة ولو كانت صارمة ودقيقة. المشكل في هذه المؤسسات الخفية أنها لا يمكن أن تتجسد في نُظم شكلية أو إجرائية، بل هي حصيلة تفاعلات اجتماعية وتجارب عملية ونتاج مشاعر وتقويمات حية. السلطة، على عكس الاعتقاد الرائج، شرط أساسي في الممارسة الديمقراطية الصحيحة التي تقتضي دولة قوية وقوانين فاعلة ونظاماً متماسكاً مطاعاً. منذ الخطيب والقانوني الروماني سيشرون إلى الفيلسوفة المعاصرة حنة ارندت، وضع المفكرون في الشأن السياسي تمييزاً دقيقاً بين الهيمنة والسلطة.

الهيمنة تحيل إلى التسلط والتحكم والاستبداد، والسلطة تحمل معنى الانقياد الطوعي الناجم عن الاحترام والتقدير، ولذا ربطتها ارندت وفق النموذج الروماني بالتقليد ومرجعية الماضي والموروث.ومع أن عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر ربط عضوياً بين السلطة والشرعية، معتبراً أن ما يميز المجتمعات الليبرالية الحديثة هو قيام شرعية السلطة فيها على المقومات القانونية البيروقراطية، فإن المفهومين متمايزين في الواقع، كما أنه من التعسف التفريق نظرياً بين مفهومي الشرعية والمشروعية على غرار نظرية فيبر التي انتقدها كثيرون في مقدمتهم الفيلسوف الألماني كارل شميت.

لقد ذهب الفكر السياسي الحديث إلى أن المشروعية مفهوم أخلاقي لا سبيل لضبطه وقياسه، ومن هنا ضرورة الاكتفاء بمعايير الشرعية التي هي أدوات إجرائية تنظيمية بحتة. ما يبينه روزنفالون هو أن الديمقراطية الحقيقية تقاس بالمشروعية في أبعادها الأخلاقية القصوى التي تمنح السلطةَ الهيبةَ والجلال، أما الشرعية الصورية فلا يتوقف عليها قبول مجتمعي بالضرورة بل قد تكون مجرد أداة للهيمنة.

أما الثقة كما يعرفها روزنفالون فهي التجسيد الحي لفكرة المصلحة المشتركة والإجماع العام، وهي شعور يبرز وينمو في إطار التفاعل الحي بين الحاكم والمحكومين. ولعل المشكل الأساسي الذي تعاني منه المجتمعات الليبرالية الحالية هو انحسار الثقة في السلطات الحاكمة، وإن كانت شرعيةً ومنتخبةً، كما ما يظهر في عزوف قطاع واسع من القاعدة الشعبية عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية وخروج الشارع المتكرر على الأنظمة الحاكمة.

وبتنزيل أطروحة روزنفالون على الواقع العربي، يظهر أن الأزمات الحادة التي مرت بها بلدان عديدة تكمن في العجز عن استيعاب متطلبات السلطة والمشروعية والثقة في أنظمتها السياسية. والأمر هنا يتعلق بالأنظمة العسكرية القائمة على الأحادية الحزبية، وبتجارب الانتقال الديمقراطي المتعثرة التي مرَّت بها دولٌ حاولت استنباتَ أشكال التعددية الليبرالية والآليات التنظيمية الانتخابية المتبعة في الغرب. وفي الجمهوريات الثورية، فشلت إجمالا الأنظمة الحاكمة في تحقيق مقتضيات المشروعية السياسية وفي الحصول على الثقة والقبول لدى القاعدة الاجتماعية العريضة، وأخذت في المقابل شكل التسلطيات الأحادية التي هي النقيض الحقيقي للسلطة بالمفهوم الأخلاقي الحقيقي.

ولقد أدت هذه الثغرات إلى تعريض السلم الأهلي والاستقرار الداخلي إلى الخطر، كما حدث في بلدان عديدة ما زالت تعاني مصاعبَ الانتقال السياسي ومن استشراء العنف والحروب الأهلية. و في بلدان أخرى، حاولت تطبيق مقاييس التعددية الحزبية والديمقراطية الانتخابية، غابت «المؤسسات الخفية» التي تحدث عنها روزنفالون، ولم تفلح الهياكل السياسية القائمة في ضمان التناغم الإيجابي بين السلطة والمجتمع، ذلك التناغم الذي هو مقياس صحة الحالة الديمقراطية في أي بلد.

وخلاصة الأمر، أن البلدان العربية التي نجحت في بناء أواصر الثقة بين الحكام والمحكومين على أساس شرعية الإنجاز وبنت دولا ناجعة بمؤسسات تنفيذية مستقرة، هي التي استطاعت تكريس وتجسيد الحكم الرشيد بدلالاته الثلاث المذكورة، أما أشكال البناء السياسي ذاتها فلا عبرة بها إن لم تفض إلى سلطة مطاعة وموثوقة ينقاد لها الناس بإجلال وإخلاص.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 سبتمبر 2024 23:45

 

"عجزت الفلسفات التقليدية عن تقديم منظومات أخلاقية قابلة للتنفيذ؛ فهي لم تقدم توضيحا للوسائل الواقعية والآليات العملية التي يمكن أن توصل لتحقيق الخير، والتي يمكن أن تساعد الإنسان على صناعة مجتمع متقدم.

لقد نجحت الفلسفات التقليدية في بناء أنظمة أخلاقية نظرية متماسكة، لكنها غالبًا ما افتقرت إلى أدوات عملية أو آليات واضحة لتطبيق تلك الأخلاق في الواقع العملي، خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولعل من أسباب عجزها أنها استغرقت في المفاهيم الأخلاقية المثالية، وغالبًا ما تكون بعيدة عن الواقع العملي. مثلًا، الفلسفات الكلاسيكية لأفلاطون وأرسطو قدّمت رؤية مثالية للأخلاق تقوم على الفضائل الفردية، لكن كيفية تطبيق هذه الفضائل في الحياة اليومية يظل غامضًا وغير ملموس.

ويعتمد كثير من الفلسفات التقليديةعلى النوايا المثالية وحدها كأساس للسلوك الأخلاقي، ولم تقدم أدوات واضحة للتعامل مع التحديات العملية المتجددة في الحياة اليومية. مثلًا، هي تدعو إلى الصدق والإحسان بشكل مثالي وعام، لكنها لا توضح كيفية تحقيق هذه القيم في سياقات معقدة مثل الاقتصاد أو السياسة.

وركزت الفلسفات التقليدية على الأخلاق الخاصة والفردية لكنها لم تبين كيف يمكن بناء أنظمة مجتمعية عامة ومؤسسية تدعم تطبيق تلك الأخلاق في المجتمعات. وهذا يؤدي إلى صعوبة تحقيق العدالة والفضيلة على نطاق واسع من دون دعم مؤسساتي وتنظيمي.

كما أن الفلسفات التقليدية جاءت في سياقات تاريخية وثقافية قديمة، ولم تكن مجهزة لمواجهة التحديات المتجددة سواء على مستوى عصرها أو على مستوى العصور التالية. ولذا كان من الطبيعي أن تبدو عاجزة أمام تحديات العصور الحديثة مثل: تحديات الذكاء الاصطناعي، وحقوق الإنسان، واقتصاد العولمة، والتكنولوجيا الجديدة، والحراك الاجتماعي، وتغير نمط العلاقات الدولية. وترتب على هذا أننا لم نجد في الفلسفات التقليدية إجابات واضحة عن كيفية التعامل مع القضايا الأخلاقية الجديدة التي فرضتها تلك التحديات. لا سيما وأنه توجد فجوة بين المبادئ الأخلاقية التي تدعو إليها الفلسفات التقليدية وبين تطبيقها الفعلي في الحياة اليومية. ويؤدي هذا إلى التناقض بين ما هو مثالي وما هو واقعي، مما يحد من فعالية هذه الفلسفات في توجيه السلوك الإنساني في الواقع.

ولم توضح فلسفات الأخلاق التقليدية حتى الآن الشروط الأولية لأخلاق التقدم، أي الشروط التي لابد من توافرها والتي بدونها لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم، فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ وأرض خصبة، فكذلك لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم بدون الشروط القبلية. فبدون الشروط القبلية لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلا، وبدون هذه الشروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم.

وفضلا عن هذا فإن فلسفات الأخلاق التقليدية لم تقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق السعادة مع الفضيلة في حياة الناس اليومية، أي أنها لم تقدم أنظمة تجعل الفضلاء سعداء في حياتهم، وتجعل الأشرار تعساء في المقابل. فكثيرا ما ترى الفضلاء - للأسف - تعساء، وترى الأشرار سعداء! فهذه الفلسفات تركت مهمة إحداث التطابق إلى قوى غيبية تحققها في العالم الآخر وليس في العالم المعاش، وبعض تلك الفلسفات لم تعبأ بهذه المسألة أساسا أو لم تتنبه إليها من الأساس.

وإذا كانت الفلسفات القديمة استغرقت في بيان كيفية التمييز بين الخير والشر؛ فهذه مشكلة شكلية أكثر من اللازم من وجهة نظرنا، لأن الخير واضح بذاته والشر واضح بذاته، ويمكن معرفتهما بالعقل المنطقي.

ومن جهة أخرى، انحرف كثير من الفقهاء ورجال اللاهوت عن طبيعة الدين الأخلاقية النقية وغيبوا مقصده الكلى؛ حيث حولوا الدين إلى سلطة ومؤسسة وكهانة، وحولوا الشرائع الأخلاقية للعمران إلى شرائع للنصف الأسفل من الجسد.

وانعكست الأولويات في التعامل مع الدين، مما أدى هذا إلى ما يسميه الفيلسوف الألماني «كانتKant» بالعبادة الزائفة التي تسعى لنوال اللطف الإلهي بطرق لا علاقة لها بالفضيلة الأخلاقية، لأنها تقوم على الالتزام الشكلي الصوري، وعلى مجرد الأداء الجسدي للطقوس والشعائر اعتمادا على أعمال الجوارح وليس أعمال القلوب، التي لا تتجاوز دائرة الحركة الجسمية إلى دائرة ارتقاء الروح، بينما يجب أن تجمع العبادات بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب على حد تعبير الإمام الحارث المحاسبي في كتاب له يحمل هذا العنوان «المسائل في أعمال القلوب والجوارح».

ولا شك فى أن الأخلاق تعارض الدين المزيف، لكنها لا تعارض الدين النقي؛ لأن الخلاص في الدين المزيف يتم من خلال الطقوس والشعائر الجسدية وحدها، وليس من خلال الالتزام الخلقي والروحي، حيث يكون سبيل الخلاص في الالتزام الصوري المظهري بالعبادات وحدها دون المعاملات ودون ممارسة الأخلاق والفضيلة.

وفي الخطاب الديني الجديد، تكمن أهمية الدين النقي في أنه يقدم لنا «الأمل» في أن جهودنا النازعة إلى إقامة ملكوت الإنصاف والسعادة لن تضيع عبثاً. وتكمن أهمية العقلانية الروحية بالنسبة إلى الدين في أنها تساهم في تنقية الدين من التفسيرات المشبوهة التي يقدمها له أهل الكهنوت، كما تساهم العقلانية الروحية في إعادة تأكيد الوظيفة الأخلاقية للدين، وأن العبادة الحق تكمن في السلوك الأخلاقي؛ فالدين الحق فى جوهره عمل بالقانون الأخلاقي، والسلوك الأخلاقي النابع من الضمير وأداء الواجب هو العبادة الحقيقة"

***

د. محمد عثمان الخشت

عن صحيفة الاهرام المصرية، يوم: 29/9/2024م

 

أمضى حياته كلها في مكافحة التعصب الديني وتحليله وتفكيكه

أكبر خطيئة نرتكبها نحن المثقفين العرب هي إقامة المقارنة بين مجتمعاتنا العربية الإسلامية الحالية ومجتمعات الغرب المتطورة التي تجاوزت كلياً مشكلة الأصولية الدينية الطائفية. هذا ما يدعوه المؤرخون بالمغالطة التاريخية. ينبغي أن نقارن ما تمكن مقارنته، لا ما تستحيل مقارنته. بمعنى آخر، وبالعربي الفصيح، ينبغي أن نقارن أوضاعنا الحالية بأوضاعهم قبل 300 سنة حتى 400 سنة عندما كانوا لا يزالون يتخبطون في صراعاتهم الطائفية والمذهبية... عندئذ تصبح المقارنة ممكنة ومشروعة. ففي القرن السادس عشر أو السابع عشر، كانوا يعانون مما نعاني منه نحن حالياً؛ أي الحروب الطائفية والأحقاد المذهبية والذبح على الهوية. وأكبر دليل على ذلك سيرة حياة المفكر الفرنسي البروتستانتي بيير بايل الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر (1647 - 1706). في ذلك الوقت كانت فرنسا كاثوليكية في غالبيتها الكبرى. ولكنها كانت تحتوي على أقلية بروتستانتية لا يستهان بها وتحاذي 20 بالمائة. وقد شاء له الحظ العاثر أن يولد في أحضان الأقلية لا الأكثرية. ولذلك هرب من الاضطهاد الطائفي من بلد إلى بلد حتى استقرت به الأمور في بلاد بروتستانتية مثله، هي هولندا. لقد عانى هذا المفكر الكبير من التعصب الديني إلى درجة أنه أمضى حياته كلها في مكافحته وتحليله وتفكيكه بغية الخلاص منه. فمن هو بيير بايل يا ترى؟ إنه الرائد الأول الذي سبق فلاسفة التنوير الكبار وأرهص بهم. فقد جاء قبلهم بقرن من الزمن. لقد مات عام 1706 في حين أن فولتير ولد عام 1694، أي قبل 10 سنوات من وفاته أو أكثر قليلاً. ومعلوم أنه كان يحبه كثيراً ويستشهد به كمرجعية فكرية كبرى بالنسبة له. ولكن الشهرة ذهبت لفولتير، لا إلى بيير بايل. فمن يعرف اسم بيير بايل في العالم العربي؟ لا أحد تقريباً. لقد كان بيير بايل مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد المفكرين الكبار الذين ساهموا في انبثاق فكرة التسامح الديني وتجاوز الطائفية والمذهبية في أوروبا. وكان ذلك إبان احتدام الصراعات المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين. وكان أول منظر يدعو إلى التسامح مع الجميع، بل كان يدعو إلى التسامح مع غير المتدينين، أي الأشخاص الذين لا يلتزمون بالطقوس والشعائر المسيحية. وبالتالي، فقد كان سابقاً عصره كثيراً. ومعلوم أن الرواد يجيئون قبل الأوان لكي يشقوا للآخرين الطريق. ولكنهم يعانون كثيراً بسبب ذلك ويدفعون الثمن غالياً.

كان بيير بايل ينتمي إلى الأقلية البروتستانتية الفرنسية. بل كان أبوه رجل دين، أي قساً بروتستانتياً. ولكن بايل الشاب غيّر مذهبه عام 1669 عندما أصبح طالباً في المعهد اليسوعي الكاثوليكي بمدينة تولوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عادة الأغلبية على الأقلية. ثم اكتشف بعدئذ أنه أخطأ، لأن المذهب البروتستانتي كان أكثر تقدمية واستنارة من المذهب الكاثوليكي آنذاك. فعاد إلى مذهبه الأصلي بعد 18 شهراً فقط من اعتناقه للكاثوليكية البابوية. وهكذا خاطر بنفسه، لأن الملك لويس الرابع عشر كان يرفض أي ارتداد عن الكاثوليكية التي تشكل المذهب الرسمي للبلاد. وبالتالي، فقد أصبح الرجل مرتداً لأنه عاد إلى حضن «الهرطقة والزندقة» من جديد. وويلٌ لمن يفعل ذلك في فرنسا الكاثوليكية. سوف يباح دمه مباشرة.

ينبغي العلم أن صاحب المذهب البروتستانتي كان يعدّ زنديقاً مهرطقاً في ذلك الزمان، على الرغم من إيمانه بالمسيح والإنجيل كالكاثوليك. ولكن كانت هناك بعض الخلافات اللاهوتية التفصيلية الهامة مع الكاثوليك. علاوة على ذلك، فقد كان تفسيره للدين المسيحي أكثر عقلانية واستنارة، كما ذكرنا. ولذلك كانوا يكفرونه ويكفرون أتباعه ويحلّون دمهم. وقد عانوا من المجازر ما عانوه، ثم اضطروا إلى الفرار بمئات الألوف إلى الدول البروتستانتية المجاورة كإنجلترا وألمانيا وهولندا... ينبغي العلم أن جميع ملوك فرنسا كانوا يعتلون العرش، ويتم تنصيبهم الرسمي والشرعي في كاتدرائية مدينة «رانس» الشهيرة، التي طالما مررت أمامها وتأملت بمعانيها وشموخها، عندما كنت أقيم في تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي تبعد عن باريس مسافة 45 دقيقة بالقطار. كانوا جميعاً يحلفون القسم التالي أمام الجمهور الكبير المحتشد داخل الكاتدرائية: «أقسم بالله العظيم سوف أستأصل الأقلية البروتستانتية المهرطقة الكافرة عن بكرة أبيها. سوف أنظف أرض المملكة الفرنسية الكاثوليكية الطاهرة من رجسهم وضلالهم». بهذا المعنى. كان آخر من أقسم هذا اليمين هو لويس السادس عشر، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية عام 1789. وعندئذ أخذ البروتستانتيون حقوقهم كمواطنين لأول مرة في التاريخ الفرنسي. عندئذ نصّ الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن على ما يلي: ممنوع بعد اليوم منعاً باتاً أي تمييز بين إنسان وآخر على أساس طائفي. ممنوع إقلاق أي شخص أو إرعابه بسبب انتماءاته الدينية أو المذهبية. ممنوع تعييره واحتقاره لأنه لم يولد كاثوليكياً. الجميع أصبحوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بمن فيهم البروتستانتيون، حتى اليهود. هذا ربيع حقيقي، هذا ربيع أنواري وتنويري. هذه ثورات حقيقية تقذف بك إلى الأمام، لا كذلك الربيع العربي القرضاوي التكفيري، الذي أوشك أن يعيدنا قروناً إلى الوراء.

لكن لنعد إلى بيير بايل وقصته. بعد أن تراجع عن المذهب الكاثوليكي وعاد إلى مذهبه الأصلي البروتستانتي عرف أنه أصبح مهدداً بالقتل فهرب إلى هولندا البروتستانتية مثله، واستقر في مدينة روتردام. وهناك وجد وظيفة كمدرس لمادتي الفلسفة والتاريخ. وراح ينشر مجلة أيضاً تحت عنوان «أخبار جمهورية الآداب». ومعلوم أن هولندا كانت في ذلك الزمان أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وحرية، بالإضافة إلى إنجلترا. وإليها كان يلجأ الفلاسفة لكي يعبروا عن أفكارهم وينشروا كتبهم، كما فعل ديكارت مثلاً. نقول ذلك على الرغم من أنه كان كاثوليكياً ينتمي إلى مذهب الأغلبية، ولا يعاني في فرنسا من الاضطهاد الطائفي الذي أصاب بيير بايل وبقية أبناء الأقليات. ولكن ما كان يستطيع أن يتنفس بحرية ويبلور فلسفته الجديدة داخل جدران المملكة الفرنسية الكاثوليكية البابوية، التي كانت ظلامية متزمتة جداً في ذلك الزمان.

إن تجربة بيير بايل الشخصية في تغيير مذهبه واعتناق المذهب المعادي ثم العودة إلى مذهبه من جديد برهنت له على عبثية الإكراه في الدين. فالإنسان يعتقد أن دينه أو مذهبه هو وحده الصحيح، ولكنه لو ولد في الدين الآخر أو المذهب الآخر لاعتقد ذات الشيء أيضاً. المسيحي لو ولد في الهند لكان بوذياً أو هندوسياً براهمانياً، ولو ولد في الصين لكان كونفشيوساً... إلخ. ولهذا السبب عدّ بيير بايل أن الأمور نسبية وراح يتبنى مبدأ التعددية وحرية الضمير فيما يخص المعتقد الديني.

لقد ألف بيير بايل عدة كتب، شهرته وجعلته مقروءاً بكثرة طيلة القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير. فقد راح فلاسفة التنوير من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو والموسوعيين يستشهدون بها لدعم مواقفهم المضادة للتعصب الديني والأصولية الكاثوليكية البابوية. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً بعنوان «ما معنى فرنسا الكاثوليكية المتعصبة في عهد لويس الكبير؟» أي لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا وباني قصر فرساي الشهير. وفي هذا الكتاب يشنّ بيير بايل حملة شعواء على هذا الملك الجبار، الذي حاول استئصال البروتستانتيين عن بكرة أبيهم... كما انتقد بعنف التعصب المذهبي الذي كان سائداً في فرنسا آنذاك. وصبّ جام غضبه على الإخوان المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يكفرون الآخرين في كل أرجاء المملكة الفرنسية التوتاليتارية الإرهابية، التي تجبر الناس كلهم على اعتناق مذهب واحد غصباً عنهم. ثم نشر كتاباً آخر بعنوان «مرافعة من أجل الدفاع عن حقوق الضمير التائه» أي الضمير الحرّ في الواقع... إلخ. ولا ننسى كتابه الأكبر والأهم «القاموس التاريخي والنقدي» الذي فكّك فيه كل العصبيات الطائفية والفتاوى التكفيرية بشكل فلسفي دقيق ومقنع. وقد مارس هذا الكتاب الضخم تأثيراً كبيراً على جميع فلاسفة الأنوار اللاحقين.

كل هذه الكتب أزعجت الملك الكاثوليكي والسلطات الكنسية أيما إزعاج. فانتقموا منه عن طريق قتل أخيه «يعقوب بايل» في السجن، لأنهم كانوا عاجزين عن الوصول إليه هو شخصياً بسبب التجائه إلى المنفى الهولندي البعيد الخارج عن إرادتهم. والواقع أنهم عرضوا على أخيه اعتناق المذهب الكاثوليكي في آخر لحظة قبل تصفيته لكي ينجو بجلده، ولكنه رفض وعندئذ قتلوه. كانت الحزازات المذهبية على أشدّها آنذاك في فرنسا. ولكنها اختفت الآن نهائياً، ولم يعد لها أي وجود. وكل ذلك تم بفضل جهود الأنوار وفلاسفة الأنوار، وعلى رأسهم بيير بايل الذي سيستلم فولتير الشعلة منه، ويشنّ حرباً ضارية على الأصولية الكاثوليكية والتعصب الطائفي الأعمى كما هو معلوم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 سبتمبر 2024 م ـ 26 ربيع الأول 1446 هـ

مع ازدهار العلوم الاجتماعية وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!.

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص.

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

***

د. محسن جاسم الموسوي

جامعة كولمبيا، نيويورك.

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 28 سبتمبر 2024 م ـ 25 ربيع الأول 1446 هـ،

 

التراث هو ما تنتجه البشرية، بمعنى أن كل ما ننتجه هو تراث ينتسب إلينا، بوصفنا فئةً بشريةً لها لغة ولها أرض ولها هوية ثقافية وحضارية، وهذه معانٍ متصلة لا تقف عند حد، وفيما يخص الجانب المعرفي والثقافي فإن الآداب والفنون والفلسفة هي أبرز المعالم التي تصف حال أي أمة من الأمم، على أن الأمم كلها قد انتقلت من الأمية إلى الكتابية في فترات مبكرة من تواريخها، والنقلة تلك خلدت موروثها الفكري والأدبي، وقد ساد مصطلح التراث ليعني ما حفظته اللغة والذاكرة من قيم ثقافية بكافة أنواع الخطابات اللغوية شعراً ونثراً وسرديات، ومن أبرز المورثات الأساطير والحكايات والأمثال، وجرى التعامل معها على أنها مدونات كبرى تمثل ذاكرة الأمة وقيمتها المعنوية، غير أن مصطلح التراث ملتبس من حيث كونه يوحي بالقديم دون الجديد، ومن ثم جاء مصطلح الحداثة وكأنه يعني المواجهة مع القديم، غير أن النظر الواقعي يكشف أن كل قديم كان جديداً في زمنه، وكل حداثي سيكون قديماً لدى الآتين من بعده، بينما مصطلح التراث سيشمل الجانبين معاً، بما في ذلك كلامنا هذا الذي سيدخل في ذاكرة الثقافة بمجرد نشره، ومن هنا فإن الصراع بين الحداثة والتراث هو صراع في (التأويل) وفي التوظيف، وهذا يعني أننا نحن كبشر أحياء نظل نستعيد الأموات عبر قراءتنا لهم، وكل استعادة هي توظيفٌ متجدد لما تم إنجازه من قبل، لأن القراءة تفعل حالة إحياءٍ للمقروء، وأي مكتوب لن يفعل فعله إلا عبر قراءتنا له، ومن ثم فإننا نعيد استيحاء المتنبي كلما ذكرنا اسمه وقرأنا نصوصه، وسيتبع ذلك أننا سنقوم بتفسير نصه حسب مهاراتنا، أي أن النص للمتنبي نسبةً وانتساباً ولكنه لنا توظيفاً وتأويلاً وتفعيلاً، ومن هنا فما نسميه بالتراث هو فعلٌ من أفعال القراءة وفعلٌ من أفعال الإنتاج أو إعادة الإنتاج. والعصور كلها ستتساوى في فعل القراءة بينما ستتنوع القراءات. ومقولة عصر القارئ تقوم على ثنائية المشاكلة والاختلاف، فنحن مع القراءة نقف مع مؤلف النص المقروء على موقع واحد، هو نص قديم بين يدي قارئ حديث أو نص لمؤلف ميت ولكنه نص بين يدي قارئ حي، ومن هنا يتحول النص نفسه من نص قديم إلى نص حديث حسب مهارة القارئ في فعل القراءة، وفرق بين القراءة المجردة وبين قراءة التأويل؛ أي بين قراءة الشرح والفهم وقراءة التفسير والتحليل، وهذه حالة تشاكل واختلاف في آن واحد، وهي حالة موت للمؤلف وحياة للقارئ. والنصوص دوماً تسير مسار اللغة بمعناها العام، وكلما اتسعت حال اللغة اتسعت معها حال النص، أي أننا سنمنح ألفاظ المتنبي مثلاً معاني لم تكن مما خطر له ببال.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 سبتمبر 2024 01:06

حين صدر كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» وذاعت نظريته في النشوء والارتقاء.. صعد منحنى الإلحاد، وقال الفيلسوف الألماني هيجل: «إنها ضربة قاصمة لنظرية الخلق»، وقال برتراند راسل: «إنها ضربة نهائية للدين».

اعتمد «نيتشه» النظرية في دعم إلحاده، وأهدى كارل ماركس كتابه الأشهر «رأس المال» إلى داروين، وتحوّل جوزيف ستالين بعد النظرية من الإيمان إلى الإلحاد. حسب نظريته التطور، فإن جزئ RNA جاء منه كل شيء، فقد أخذ يتطور ويتنوع بشكل ذاتي حتى نتجتّ، ملايين الأنواع من الكائنات!

وحسب هذه النظرية، جاء التطور نتيجة التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة كالكربون والنيتروجين والهيدروجين والأوكسجين، وقد استغرقت هذه العملية عدداً لا نهائي من المحاولات، عبر ملايين السنين.

ويمكن للمرء أن يلاحظ التطور الذاتي في مشاهداته اليومية، فالذباب والبعوض، واليرقات التي تنشأ من العدم على اللحم المتعفن.. تنشأ من كائنات غير حيّة.

خاض العلماء المؤمنون معركة واسعة ضد نظرية التطور، وتم نقد أطروحة الجزئ الأول أو الجرثومة الأولى التي نتجتْ منها تلقائياً كل أشكال الحياة.

قال العلماء باستحالة تولد الحياة ذاتياً نتيجة التصادم العشوائي، فالأمر يشبه إنتاج مركبة فضاء نتيجة الخلط العشوائي المتكرر لعناصر المركبة. والأمر أعقد كثيراً فيما يخصّ المادة الوراثيّة في الخلايا الحيّة.

إن عالم الخليّة وبيولوجيا الإنسان هو عالمٌ بالغ التعقيد، ويستحيل أن يأتي نتاج التجارب العشوائية لعناصر تكوينه، أو تطوّر مادة بدائية إلى هذا التركيب المذهل لمجرد مرور الزمن. كما أن ما يعتبره البعض تولداً ذاتياً ليرقات اللحم المتعفنّة، فليس ذلك بتولدٍ ذاتي، بل إنّ هناك جزيئات موجودة بالفعل في الهواء، أو أن الذباب وضع البيض على اللحم.. فجاءت اليرقات، حسبما أوضحت تجارب باستور فيما قبل.

يعود البعض بجذور نظرية النشوء إلى فلاسفة مسلمين، ويذكر «بول براتمان» في كتابه «الأصل الإسلامي لنظرية التطور» أنّ «ابن مسكويه» قال في كتابه «الفوز الأصغر» بأنّ «مراتب القرود قاربت الإنسان، وليس بينهما إلا القليل الذي إذا تجاوزته، صار إنساناً»، وقال «إخوان الصفا» بإمكانية أن ينتقل الجماد إلى نبات، والنبات إلى حيوان، على نحو ما قال ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات». وهو ما يعبّر عنه قول أبي العلاء المعرّي: «والذي حارتْ فيه البريّة.. حيوانٌ مستحدثٌ من جماد».

ينفي مفكرون مسلمون أن يكون النشوء والارتقاء هو مقصد الفلاسفة المسلمين، بل كان الأمر يتعلق بترتيب درجات الرقيّ بين الموجودات. ويذهب مفكرون آخرون للتوفيق بين الإسلام ونظرية التطور، فكلمة التطور ليست بديلاً عن كلمة الخالق، ثم إن «فيشر» و«هالدين» عالمان في البيولوجيا التطورية.. الأول مؤمن والثاني غير مؤمن وكلاهما يؤمن بالنظرية.

وتقول أستاذة مسلمة تدرِّس البيولوجيا الجزيئية في جامعة أيوا الأميركية لوسائل إعلام: «إنني أرتدي الحجاب.. واستخدم نظرية التطور في تفسير التنوع وتطور السلالات».. وفي القرآن الكريم «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ» أي أن هناك مدىً زمنياً بين الخلق والتصوير، ويقول تعالى: «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ».. وقد تكون ذرية قوم غير الإنسان.

سيستمر الجدل طويلاً بشأن نظرية النشوء، وقد لا تصمد النظرية في المستقبل. إنّه من الخطأ دفع علم البيولوجيا التطورية نحو دعم الإلحاد، ذلك أن مزيداً من العمق المعرفي يعزّز الإيمان، وما تزال الأغلبية الساحقة من حائزي نوبل في العلوم من المؤمنين.. لا يجب خلق صراع بين العلم والإيمان، أو فتح جبهات للتراشق بين العقل والعقيدة.. أو بين الجين والدين.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن صحيفة لاتحاد الاماراتية، يوم: 26 سبتمبر 2024

 

في المثقف اليوم