اخترنا لكم

تعليقاً على موجة الاحتجاج العارم التي اجتاحت الشارع الفرنسي يوم 10 سبتمبر، قال رئيس الحكومة الأسبق الان جوبيه، إن ديمقراطية التمثيل الانتخابي غدت عاجزةً في الغرب الليبرالي عن ضمان حالة الثقة والاستقرار التي تقتضيها السلطة السياسية الفاعلة. وليست الحالة خاصة بفرنسا التي عُين فيها خلال ثلاث سنوات خمسة رؤساء وزراء، بل نلمسها في عموم الديمقراطيات الغربية التي عادةً ما تتحول فيها اللحظة الانتخابية إلى أزمة سياسية حادة، وتتزايد فيها الحركاتُ الاحتجاجية العنيفة التي لم يعد بالإمكان احتواؤها داخل النسيج المؤسسي القائم.

 ومن مظاهر هذا التحول الجذري انهيار الطبقة السياسية التقليدية، والعزوف عن الأحزاب والتنظيمات النقابية والمدنية، وصعود الزعامات الشعبوية، وتنامي حركات التطرف الراديكالي.

قبل سنوات كتب بيار روزنفالون عن هذه الظاهرة في كتابه «الديمقراطية المضادة»، مبيناً أن المجتمعات الليبرالية الغربية انتقلت من «ديمقراطية الثقة» إلى «ديمقراطية التمرد» التي تأخذ شكل رقابة واسعة على النظم السياسية والمؤسسية، بما يتجلى في أنماط جديدة من سياسة المواطنة، من بينها اليقظة المستمرة إزاء النشاط العمومي عبر فعاليات التنظيمات الحقوقية والأهلية، والحركة الاحتجاجية في الشارع، والتقويم الدائم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي واستطلاعات الرأي والتعليقات الظرفية.

 وبالنسبة لروزنفالون، لا بد من مراجعة أدوات ومفاهيم الشرعية من أجل التلاؤم مع هذا الوضع الجديد، الذي لم تعد فيه زمنية الحراك الانتخابي قادرة على ضبط إيقاع العمل السياسي، ولم تعد فيه الأحزاب والقنوات التداولية التقليدية كفيلة بتأطير النقاش العمومي الذي هو جوهر الممارسة الديمقراطية.

بيد أن المعادلة الجديدة تطرح تحدياً نوعياً على الفكرة الديمقراطية نفسها التي ظهرت حلا نهائياً لمأزق الشرعية السياسية في مجتمعات تسمها الفردية التعددية. فإذا كان من شأن الفردية الذاتية، التي هي الخلفية المعيارية للحالة الليبرالية والمضمون الحقيقي لمثال الحرية، أن تعزز الشعورَ بالاستقلالية إزاء السلط العمومية مهما كانت طبيعتها، فإن دوائر الاندماج الاجتماعي التي عوضت بها الدولةُ القومية الحديثة الانتماءات العضوية السابقة تحفظ الحدَّ المطلوب من الاستقرار الداخلي الذي تتطلبه الحركيةُ السياسية التداولية.

تلك هي مفارقة «الترابطية التنافرية» التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني كانط، واعتبر أنها الحافز للتقدم الإنساني في العصور الحديثة، ولا يمكن أن تتجسد إلا في أنساق قانونية ملزِمة تضمن العيشَ المشترك.

ولا شك في أن خصوصية المنطق الديمقراطي تكمن في أنه يعترف في آن واحد بأسبقية الحرية الذاتية على النظام الاجتماعي القائم، في الوقت الذي يضمن الولاء لدولة سيادية شاملة السلطة ويمنحها الشرعية المطلقة. ومن هنا التأليف المعقّد بين التصادمية الدائمة التي هي شرط التنافسية الديمقراطية (دون السقوط في فخ الفتنة والصراع الأهلي) والتضامن المدني على خلفية الاختيار الحر والبناء المؤسسي المستقر.

ما تعيشه المجتمعاتُ الليبرالية من أزمة داخلية خانقة حالياً ناتجٌ عن انهيار التوازنات المؤسسية والتنظيمية التي ضمنت لمدةِ عقودٍ معادلةَ الاستقرار السياسي وشرعية الحكم.

هذا التحول يفسَّر بعاملين أساسيين هما: شعورُ قطاع واسع من القاعدة الشعبية بأن مركز القرار لم يعد بيد الكتلة الانتخابية والسلطة السيادية، بل تتحكم فيه الدوائر التكنوقراطية والمالية المعولمة، مما أفقد الماكينةَ الديمقراطية نجاعتَها ودلالتها، وطغيان ما دعاه رجيس دوبريه «الآنية الاتصالية» بما تعنيه من هاجس الشفافية والمباشَرة إلى حد التشكيك الكامل في صدقية الخطاب السياسي ومواقف النخب الحاكمة، بما يُفقد الممارسةَ السياسيةَ ذاتها معناها وجدوائيتَها.

ما هو مستقبل الديمقراطية الليبرالية في هذا السياق الذي أشرنا إلى بعض محدداته؟ وهل أصبح التمرد بديلا عن الثقة في آلية الفعل السياسي في المجتمعات الغربية؟

لا ننفك نسمع عدة تصريحات لكبار السياسيين الغربيين، من رئيس الحكومة الإيطالي الأسبق ماتيو رنزي إلى الرئيس الفرنسي ماكرون، تحذِّر من كون البلدان الديمقراطية لم تعد قابلة للحكم، نتيجةً لخروج الشارع عن نطاق السيطرة والطاعة.

 وأمام هذا المأزق المعقد، هل يكون الحل هو الانتقال إلى نمط جديد من الديمقراطية يراجع نظمَها المؤسسية التمثيلية والتداولية والتشاركية وصولا إلى تصور جديد للشرعية السياسية (أطروحة وزنفالون)، أم أن الحل يمكن في الخروج من ديمقراطية التمثيل والانتخاب، التي غدت عاجزة عن ضبط رهانات التعددية الحرة في المجتمعات المعاصرة (أطروحة آلان باديو)؟

لا شك في أن هذا هو الإشكال الجوهري الذي سيحدد مستقبلاً صيغَ وآليات العمل السياسي في البلدان الليبرالية الغربية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 سبتمبر 2025 23:33

في مقالة أخيرة بعنوان «القديم والجديد»، يتساءل الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن: لماذا يتمكن الإنسان دوماً من وصف وتحليل الماضي دون أن يتمكن من تخيل الجديد؟ أغامبن يجيب عن هذا الإشكال المعقد بالقول: إن ضبط الجديد الحالي يتم حتماً من خلال الرجوع للماضي وإعادة تأويله. فالراهن هو في عمقه بقية باقية من الزمن المنقضي، أي ما لم يتم إنجازه أو ما نُسي أو ما ينتظر التفعيل والتحيين.لقد قامت الحداثة على وهم القطيعة مع الماضي، في حين أن ما نعتقد أنه معاصر ليس سوى ظل من الحقبة الفائتة، باعتبار أن الماضي هو مخزون إمكانيات الفعل غير المتحقق وليس المستقبل في ذاته هو صانع الجديد بل إن الذاكرة هي المحددة والحاسمة في ضبط وتوجيه الزمنية الحالية.

في هذا السياق، يستعيد أغامبن فكرةَ «الولادة الجديدة» لدى الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت التي تعني امتدادَ التقليد في الزمنية الطويلة، دون أن يكون عائقاً أمام التجديد والتحول. كما يستعيد أطروحةَ الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حول استقلالية النص إزاء شروط تشكله التاريخي، بما يسمح بالنظر إليه بعيون جديدة تمكّن من تحويله إلى نص معاصر جديد.

ما يخلص إليه أغامبن في مقالته المذكورة هو أن المعنى الوحيد للجديد هو الممكن (فالمستحيل ممتنع التحقق)، وإذا أصبح قائماً بالفعل تآكل وانقضى. ومن هنا فإن الأساس في رصد الحالي هو الماضي وليس المستقبل، أي ما جاز أن يكون ولو لم يتحقق، وبالتالي فالإنسان لا يبصر الجديدَ إلا بالانطلاق من ماضيه.

لا شك في أن أطروحة أغامبن مفيدة لنا في إعادة بناء سؤال التراث الذي سيطر على الفكر العربي منذ سبعينيات القرن الماضي. لقد برز هذا السؤال في الأدبيات التاريخانية المتأثرة بالمنهج الجدلي الماركسي، انطلاقاً من مفهومين أساسيين هما: مفهوم التقدم التاريخي الذي يعني النزعة الخطية الغائية المؤسسة لقوانين التطور الاجتماعي الكوني، والنظرة البنيوية المزدوجة للفكر بصفته انعكاساً للصراع الطبقي المجتمعي، بحيث يكون بنيةً فوقيةً تفسر بالرهانات المادية الإنتاجية التي هي البنية التحتية المحددة والمؤثرة. ووفق هذا التصور، فالتراث جزء من الماضي التاريخي المندثر، وليس له سوى قيمة معرفية محضة لا صلة لها بالواقع الراهن.

 ومع أن المدرسة التراثية العربية انتقلت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين إلى الانفتاح على المناهج الابستمولوجية والتأويلية الجديدة، إلا أنها حافظت على جوهر المقاربة الاختزالية للتقليد بتوظيفها مقولةَ «القطيعة الابستمولوجية» التي بلورها أصلاً الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في تاريخ العلوم وفي ضبط ارتباط المعرفة الموضوعية المخبرية بالتجربة العامة المباشرة، فأصبحت تَعني في نظريات نقد العقل العربي الاختلاف الجوهري بين الأنظمة المعرفية والأنساق الدلالية.

 ورغم هذا التصورات الانفصالية القطائعية، إلا أن المفكرين العرب المشتغلين بالمسألة التراثية خاضوا صراعات الحاضر على أرضية الماضي، فاحتفى حسين مروة وطيب تزيني بالنزعات «المادية» في الثقافة العربية الوسيطة، ودافع الجابري عن «عقلانية» ابن رشد ومنهجه «الأكسيومي»، ونوه أركون بالنزعة الإنسانية العربية القديمة.

ما تعبر عنه هذه المفارقة، أي رفض الماضي مع الرجوع الانتقائي إليه، هو الخلل المنهجي الكبير في مقاربة سؤال التقليد، بالنظر إلى الماضي كأفق منقض ومندثر، بدلاً من تصوره في دائرة الترابط التأويلي بين الذاكرة والتطلع التي هي محور القراءة الثرية للسردية الفكرية.

في أعمال جورجيو أغامبن نفسه حول التاريخ السياسي والقانوني الغربي، نجد تطبيقاً حصيفاً لهذه الجدلية التأويلية، مبيناً أن المفاهيم المؤسِّسة للحداثة الأوروبية، من مقولات السيادة والتمثيل والضبط والرقابة.. إلخ، ترجع في جذورها البعيدة لخلفيات لاهوتية وعرفية وقيمية قديمة، وإن تمت إعادة توظيفها وتأويلها في استراتيجيات ومواقف معاصرة.

لا نجد لدى مؤرخي السياسة والفكر في عالمنا العربي نماذج من هذا القبيل، بل إن أغلب من اشتغل بالمسألة التراثية يتأرجح بين وهم التماهي مع الأصل المنقضي الذي لا يمكن استكشافه في أفقه المرجعي الأول، ووهم القطيعة مع الجذور الثقافية في دلالتيها التاريخية والابستمولوجية (المعرفية).

في كتاباته التأويلية حول العهدين القديم والجديد، يعترف بول ريكور بأنه يقرأ النصوصَ المقدسةَ بعين الحاضر غير مستنسخ الموروث القديم، مردداً: إن المؤوِّل لا يمكنه التملص من تهمة «الخيانة»، لكن الفرق كبير بين الخيانة الضحلة العقيمة والخيانة الثرية التي تغني النص وتوسع إمكاناته الدلالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 سبتمبر 2025 23:30

 

أسترجع اليوم مسامرة شتوية في أحد مساءات ميشيغان عام 2009... دار حوار مع الصديق العزيز رائد الدحيلب، الذي كان وقتها مُبْتَعَثاً من «أرامكو» لإكمال درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية، وكان تركيزه البحثي على تقنية النانو. في تلك المسامرة، سألني صديقي: «لماذا تُحصَر أحاديث المثقفين في مجالاتكم (أي السياسة والاجتماع والأدب والتاريخ)، وتُغفَل المعارف الأخرى ذات الطابع العلمي التطبيقي كالرياضات والهندسة والطب؟».

أتذكر تعليقي الذي قلتُ فيه: تخيّل معي يا صديقي أنك في مجلس عامر، وصادفتَ شخصاً لا يفرق بين الإلكترون والنيترون يفتي في تقنية النانو بجهل فاقع، ولكن بلغة فصيحة؛ وعندما تحاول أن تبين المعلومة العلمية الصحيحة، فإن المجلس يَحْتَوِشُكَ مؤيداً لجهله على علمك؟

جاء الرد: «سأشعر بالغبن، وسأحار في الحضور: كيف يقدّمون كلام العامي على المختص في شأن لا يعرفون عنه الكثير؟».

هنا قلت: هذا بالضبط ما يحدث للمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية كل يوم، فاحمد الله أنكم معاشر المختصين في العلوم الطبيعية لا تواجهون ما نواجه.

أسترجع هذه القصة كلما رأيت شخصاً يبدي تقليلاً من أهمية دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ويصفها بأنه معلومات عامة يمكن لأي شخص أن يستوعبها دون أن ينفق سنوات من عمره في دراستها أكاديمياً. وغالباً ما تكون الحجة أن تلك الإنسانيات والاجتماعيات تتعامل مع مفاهيم مجردة، مثل الثقافة والسلوك الإنساني والعدالة الاجتماعية، يصعب تحديدها بشكل دقيق؛ مما يجعلها - في نظرهم - أقل علمية من «الطبيعية» التي تعتمد على التجارب المخبرية والأرقام. ويضيف أصحاب تلك النظرة أن هذه الحقول المعرفية تقوم على التحليل والتفسير، وتختلف النتائج باختلاف الباحثين؛ مما يجعلها تبدو أقل موضوعية مقارنة بالعلوم الطبيعية التي تعطي نتائج ثابتة يصعب تأويلها.

تلك الحجج تعكس ضعف إلمام أصحابها بحقيقة البحث العلمي. فالباحث يتعامل مع موضوعات وعيّنات بحثه بما يتناسب معها، ولا توجد قاعدة واحدة للتعامل مع جميع العيّنات. ومع تسليمنا بارتفاع مستوى دقة البحث والنتائج في مجال العلوم الطبيعية، فإننا يجب ألا نُغفل السبب وأنه يتعامل مع عيّنات غير مدرِكة أنها خاضعة للدراسة، فالجمادات والكائنات الحية غير البشرية لا تدرِك أنها موضع دراسة، وبالتالي لا تغيّر سلوكها أو حالتها عندما تشاهد الباحث يجري بحثه عليها. في المقابل، فإن البشر - حتى الأطفال الصغار - يدركون أنهم تحت الملاحظة، فيحاولون تعديل سلوكهم ليظهروا بمظهر أفضل.

تلك واحدة فقط من المشكلات التي تواجه الباحث في المجالات الاجتماعية، والتي تحتم عليه أن يستعمل مناهج بحثية قابلة للقياس، وتأخذ في الحسبان ارتفاع «هامش الخطأ» في النتائج، مقارنة بالعلوم الطبيعية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأبحاث الإنسانية والاجتماعية تقوم على تحليل النصوص المكتوبة للتوصل إلى نتائج تجيب عن الأسئلة البحثية. وكما نعلم، فالتعامل مع المنتج البشري يحتاج إلى أداة تحليل تتعلق بالـ«كيف» قبل الـ«كَمّ». ورغم ذلك، فإن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الإحصاءات وتحاول تفسيرها للخروج بنتائج تخدم صنّاع القرار.

على مستوى الأحاديث اليومية، يعتقد البعض أنهم لا يحتاجون إلى دراسة السلوك البشري، والتاريخ، والسياسة، والدين، واللغة؛ لأنها معارف بديهية، والتعمّق في دراستها ترفٌ لا يقدم ولا يؤخر في المحصّلة النهائية. وهذه المغالطة أشد من سابقتها، فالموضوع (الدين، أو السياسة، أو المشكلات الاجتماعية) متاح للجميع للحديث فيه؛ بسبب إدراك الناس علاقتَهم المباشرة بتلك الموضوعات، على عكس مستوى إدراكهم علاقتَهم بعمليات التمثيل الضوئي النباتي، أو حركة الإلكترونات في الذرة، أو حتى عملية نقل الصورة في كاميرات هواتفهم.

وإتاحة الموضوع لا تعني أن المتحدث خبير ليعطي نتائج وآراء حاسمة بكفاءة المختص. ولنستذكر فترة جائحة «كورونا» عندما أصبح كثيرون خبراء في التعامل مع الأعراض الصحية التي عصفت بالعالم، وكيف أدلوا بدلائهم في أمور لا يفقهون فيها.

خلاصة القول: إن الشأن العام - المتعلق بالعلوم الطبيعية أو الاجتماعية - متاح للجميع، ولكن الرأي العلمي الموثوق يؤخذ ممن تمرّسوا في المجال وأثبتوا جدارتهم. وإذا كان من حقنا أن نساوي بين شخص متابعٍ نشرات الأخبار عقوداً، وأكاديمي مختص في العلوم السياسية، بداعي أن الأحداث مُشاهَدة من الجميع، فإننا يجب ألا نستكثر على مَن عاش زمناً وجرب أدوية عدة للصداع أن يفتي لنا في أورام المخ.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 11 ربيع الأول 1447 هـ - 3 سبتمبر 2025 م

 

الهوية ليست كياناً صلباً يسكن أعماقَ الفرد أو الجماعة، بل خطاب يُعاد إنتاجه باستمرار وفق شروط المجتمع والسياق. هكذا أراد جان فرنسوا بايار أن يفكك أوهامَها في كتابه «أوهام الهوية». غير أن النقاش حول الهوية لا ينبغي أن يبقى حبيس النصوص الأكاديمية أو مساجلات الفلاسفة، بل هو سؤال حيّ يطرق أبواب واقعنا اليومي، ويعيد صياغةَ علاقتنا بذواتنا وبالعالم.

الهوية ليست معطى طبيعياً يُورَّث كما تورَّث الجينات، بل هي مشروع تاريخي وثقافي، يُبنى ويتحوّل، ينهار ويُعاد تركيبه. ما نعتقد أنه «أصل» ليس سوى سردية منتقاة، وما نتصوره «حقيقة دفينة» ليس إلا رواية تُخاطب حاجاتنا الراهنة، لتمنحنا وهم الثبات وسط سيولة الواقع. حين تتأزم المجتمعات، تتصاعد الأصوات المطالبة بالعودة إلى «الهوية الحقيقية»، في محاولة لتعويض القلق الجماعي عبر شعارات الانتماء. كلما ازداد الخوف من ضياع المكانة أو المعنى، زادت الحاجة إلى روايات تمنح اليقينَ، حتى ولو كانت وهميةً.

وهنا تكتسب مقولة بايار قوتَها: الهوية تُستدعى حين تكون مهددة، ويُحتفى بها حين تضعف.. إنها ملاذ نفسي بقدر ما هي أداة اجتماعية، ويمكن أن تتحول من رابطة وجدانية إلى وسيلة إقصاء وتمييز، من وعد بالانتماء إلى سلاح للفصل. المؤسسات، بدورها، تلعب دوراً محورياً في ترسيخ الشعور بالانتماء وتعزيز التصورات الجماعية عن الذات. فالمدرسة، مثلاً، تُدرّس سرديات وطنية مشتركة، ووسائل الإعلام تكرس صوراً عن «النحن» و«الآخر»، والقوانين تنظّم صفة المواطنة والانتماء. هنا لا يكون الأمر نقداً بقدر ما هو توصيف لوظيفة ضرورية، تجعل الهوية إطاراً جامعاً وحاملاً لمعنى العيش المشترك، بُغية ضمان استمرارية الجماعة الوطنية.

في زمن العولمة، كان يمكن أن نتوقع تراجعَ الحاجة إلى الهوية، بما أن الحدود الاقتصادية والثقافية تتلاشى، لكن الذي حدث هو العكس. كلما اتسع العالم بالاتصال والانفتاح، ضاقت المخيلة بالانغلاق على الهويات. وكأن العولمة، بما تثيره من قلق وضياع، تدفع الأفرادَ والجماعات إلى التمسك بما يبدو «أصيلاً»، ولو كان مجرد وهم. لذلك فإن الخطابات القومية والدينية والإثنية عادت بقوة، لا رغم العولمة، بل بسببها. وكأننا أمام مفارقة وجودية: كلما انفتحت الجغرافيا، اشتدت الحاجة إلى حدود رمزية تعيد للأفراد شعورَ السيطرة والمعنى.

وهنا تكمن خطورة ما يسميه بايار «وهم الهوية». فالهوية حين تتحول إلى سلعة أو شعار سياسي، تفقد تعدديتها، وتُختزل في رموز جاهزة تُباع في السوق وتُستعمل في الدعاية. الخطر ليس في الانتماء ذاته، بل في تحويله إلى شعار مغلق، يمنع التفكير في التعقيد، ويعطل إمكان التعايش. ما يدعو إليه بايار ليس نفي الهوية، بل تحريرها من وهم الأصالة المطلقة، وردّها إلى طبيعتها: عملية مفتوحة، مجال تفاوض دائم، فضاء للعيش المشترك لا جدار للعزلة. هذا التفكيك الفلسفي يقودنا إلى تساؤل أعمق: لماذا نحتاج إلى أوهام الهوية أصلاً؟

لعل الإجابة أن الإنسان لا يحتمل الفراغ، وأنه يسعى دوماً إلى يقين يمنحه الطمأنينة، حتى لو كان يقيناً مصنوعاً. لكن الطمأنينة التي تُبنى على الوهم لا تُعمر طويلاً، سرعان ما تنهار أمام صدمات الواقع. لذا فالتحدي ليس في الدفاع عن هوية بعينها، بل في الدفاع عن القدرة على التفكير في الهوية كمسار، كاحتمال، كقابلية للتجدد، بدلاً من تحويلها إلى وثن جديد.

إن ما يطرحه بايار يضعنا أمام مسؤولية مضاعفة في عالمنا العربي، حيث كثيراً ما يتم استدعاء الهوية لتبرير الانقسام، أو لإقصاء المختلف، أو لتثبيت سردية أحادية. المطلوب ليس التخلي عن الانتماء، بل استعادته في أفق مفتوح، حيث تُصبح الهوية جسراً للحوار، لا خندقاً للحروب الرمزية.

التفكيك الفلسفي لوهم الهوية ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة وجودية لمجتمعات تبحث عن معنى خارج ثنائيات قاتلة بين «الأصيل» و«الدخيل»، بين «النحن» و«الآخر». بهذا المعنى، فإن ما يقدمه بايار ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير النقدي في ما نظنه يقيناً. أن نتعلم كيف نرى الهويةَ لا كقدر محتوم، بل كفضاء للحرية، حيث يمكننا أن نعيد تعريف أنفسنا بلا خوف من الضياع، وبلا حاجة إلى التمسك بأوهام النقاء. فالهويات لا تحمينا بقدر ما تكشف هشاشتَنا، ولا تمنحنا اليقين بقدر ما تفضح قلقَنا. لكن ربما في هذه الهشاشة يكمن سر إنسانيتنا، وفي هذا القلق ينفتح أفقُنا نحو الآخر، ونحو ذات أكثر رحابة وانفتاحاً.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 سبتمبر 2025 23:45

 

في كتابهما الحواري الصادر مؤخراً باللغة الإنجليزية تحت عنوان «المساواة.. ماذا تعني؟ ولماذا هي مهمة؟»، يعالج الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي والفيلسوف الأميركي مايكل صاندل معضلةَ التفاوت الاجتماعي في الأزمنة الحاضرة من منظور مزدوج: التراكم الكثيف للثروة وأزمة الاعتراف.

بيكتي اشتهر سابقاً بكتابيه «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين» و«الرأسمال والأيديولوجيا» اللذين ولَّدا ردودَ فعل واسعة. وفي الكتابين ينطلق بيكتي من رؤية اشتراكية اجتماعية، وإن كان ينتقد بشدة التجربةَ الماركسيةَ السابقةَ بكل تأثيراتها السياسية والاقتصادية.

وفي الكتاب الجديد، يرى بيكتي أن التيار الاشتراكي، وإن كان قد انهار كلياً في أوروبا منذ بعض الوقت، إلا أنه حقق مكاسبَ باقيةً، من بينها التراجع النوعي لنسبة التفاوت الاجتماعي في كل بلدان القارة العجوز، إلى حد أن قطاعاتٍ حيويةً مثل الصحة والتعليم خرجت عملياً مِن منطق السوق، دون أن ينهار الاقتصاد، بل إن الإصلاحات الاجتماعية كانت دعامةً قويةً للنمو والثروة. إنها التجربة التي يمكن تمديدها إلى قطاعات أخرى، بما يقتضي تجاوزَ الحوار العقيم حول أولوية القطاع العام أوالخاص، والانطلاق من الحاجيات الموضوعية للسكان وتحديد الطرف الأجدر بتحقيقها. وفي الاقتصاد الجديد، نلاحظ أن إنتاج البضائع المادية تراجع جذرياً مقابل الخدمات التي أضحت محورَ المنظومة الاقتصادية، بما من شأنه تعزيز دور القطاع العام وتكريس الارتباط العضوي بين المطالب الاجتماعية والديناميكية الإنتاجية.

 المفارقة الكبرى هي أن التيارات الاشتراكية اعتمدت منذ تسعينيات القرن الماضي مبدأَ السوق الحرة والخصخصة الشاملة، فكانت النتيجة هي تدمير القاعدة الاقتصادية للمدن المتوسطة، مما انجرَّت عنه مشكلاتٌ اجتماعيةٌ حادةٌ كانت في مصلحة الأحزاب اليمينية الجديدة الصاعدة حالياً في جُلّ الدول الغربية. لقد انقلبت المعادلةُ الأيديولوجية التقليدية، فأصبحت التشكيلات اليسارية تدافع عن الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية، في الوقت الذي تتبنى التنظيمات الشعبوية الدفاع عن مصالح العمال والطبقات الوسطى ولو بشعارات واهية مثل محاربة الهجرة وتحصين الهوية القومية. في حين أن المطلوب اليوم هو الرجوع إلى خطاب المساواة الاجتماعية في مواجهة اختلالات الرأسمالية المعولمة.

وبالنسبة لبيكتي، لا يمكن تصور برامج اجتماعية ناجعة دون التحالف مع بلدان الجنوب التي تقود اليوم خطابَ العدالة من منظور عالمي يتجاوز الخريطة الطبقية المحلية. ومن هنا العودة إلى أطروحة ماركس القديمة حول ارتباط الاستغلال الطبقي بالتفاوت على المستوى العلاقات الدولية.

 لا تتعارض مقاربة صاندل مع ملاحظات بيكتي حول أزمة الاشتراكية وصعود اليمين المحافظ، لكنه ينطلق من اعتبارات اجتماعية قيمية تتناسب مع فلسفته في العدالة التي بلورها في عدة أعمال، من آخرها كتابه «استبدادية الاستحقاق» الصادر سنة 2020.

لا ينظر صاندل إلى التفاوت الاجتماعي من حيث هو نتيجة من نتائج الغبن الاقتصادي أو سوء توزيع الثروة، بل يعتبره مظهراً لأعراض تعاني منها البلدان الصناعية الحديثة، مثل الإذلال وهشاشة رابطة الاعتراف وطغيان الشعور بالتهميش والإقصاء. ومن هنا ضرورة بناء نزعة مواطنة مدنية إدماجية تكرس سياسة اعتراف وكرامة تستفيد منها القاعدة الاجتماعية العريضة وليس النخب المالية والإدارية المهيمنة وحدها.

ولئن كان صاندل يوافق بيكتي على أن اليسار الذي خلف الأنظمة النيوليبرالية التي حكمت في الولايات المتحدة وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي لم يغير نوعياً من جوهر السياسات الاقتصادية، إلا أنه يفسر هذه الظاهرة بعوامل سياسية فكرية تكمن في البحث ضِمن آليات السوق عن أدوات محايدة تجنب النقاش المعقد حول معايير الخير المشترك وقيم العيش الجماعي في سياقات متعددة ومتنوعة لا يمكن أن تتفق حول سقف مرجعي محدد.

في هذا الباب، ليس المشكل في انكماش القطاع العمومي ذاته، بل في تراجع النظم الإدماجية الاجتماعية التي هي المؤسسات الحاضنة للأفراد والضامنة لكرامتهم وحقوقهم، بما يعني بالنسبة لصاندل أن الفردية الاستهلاكية ليست خطراً على المساواة من المنظور التوزيعي وحده، بل هي أيضاً خطر على منطق التضامن الاجتماعي.

في هذا الكتاب المختصر، نقف عند جوانب هامة من الحوار الفكري الأيديولوجي الدائر راهناً في الغرب حول المساواة من حيث هي مقوم مركزي من مقومات الحداثة، في ما وراء الصراع الدائر حول المقاربتين الطبقية الاقتصادية من جهة والحقوقية الاجتماعية من جهة أخرى.

لقد ركزت فلسفات العدالة في العقود الأخيرة على إعادة بناء نظرية الحقوق السياسية والاقتصادية في السياق الليبرالي، بيد أن تحدي العولمة الرأسمالية فرض على الفكر الغربي الراهن العودة إلى مسألة المساواة في علاقتها المعقدة بالحرية الفردية والتضامن المجتمعي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

31 أغسطس 2025 23:45

في المشرق العربيّ اليوم، وعلى رغم ندرة النقاش الجدّيّ، غالباً ما تطلّ مسألة «الهويّة» برأسها لدى تناول مسائلنا. وقد يقول الوطنيّون جدّاً، والإنسانيّون جدّاً، إنّ هذه المسألة برمّتها سخيفة أو بدائيّة أو رجعيّة. ذاك أنّ ما هو إنسانيّ فينا ينبغي أن يسمو بنا عن هويّات جزئيّة، فيما على الوطنيّ فينا أن يمانع الانشداد إلى هويّات ما دون وطنيّة، كالدينيّة والإثنيّة والطائفيّة.

وقد يكون صحيحاً، من حيث المبدأ، أنّ تلك الهويّات تقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، كما تغلّب الرمزيّات والطقوس والشكليّات على حساب المعاني الكبرى التي أكّدها التنوير، وفي صدارتها وحدة الإنسان ووحدة إنسانيّته.

فحاملو الهويّة، بهذا المعنى، يرون العالم بوصفه حدوداً صارمة تُمسك بتلابيب الروح وبكلّ ذرّة من ذرّاتها. وهي حدود لا تستطيع التقنيّة تجاوزها، كما لا تستطيع الأفكار أو المصالح أو التجارب أو الأمزجة ذلك. فنحن، في عمق النظرة هذه، لسنا سوى انعكاس للجبال والأنهار والصحارى التي نقول إنّها صنعتنا وإنّها ماضية في صناعتنا إلى أبد الآبدين.

والراهن أنّ التشبّث بالهويّة، بوصفه استسلاماً للطبيعة، ينطوي على تشاؤم عميق بالبشر وإقرار بأنّهم كائنات محدودة التأثير والفعّاليّة، لا يفضي سعيهم الذاتيّ إلى نتائج يُعتدّ بها.

ثمّ إنّ الإصابة بتورّم هويّاتيّ يُفقر الشخص ويحرمه أبعاده الكثيرة، وكلّ كائن ينطوي على أبعاد كثيرة، جاعلاً منه مجرّد أبيض أو أسود أو مسلم أو مسيحيّ...، وذلك على مدى 24 ساعة كلّ 24 ساعة. فهو هكذا فحسب، وليس أيّ شيء آخر غير هذا، وعليه أن يشعر بأنّه كذلك، بهمّة ومواظبة لا تفتران، وأن يتصرّف بموجب هذا الشعور المُلزِم.

ومنذ الأزمنة السحيقة السابقة كثيراً على الحداثة، زوّدنا «سفر القضاة» التوراتيّ بما نسخر به من رمزيّات الهويّة وطقوسها، ومن الآثار المدمّرة المنجرّة عن ذلك. فقد افتُضح أمر قبيلة أفراييم لأنّها كانت تقول sibboleth بدل الكلمة العبريّة shibboleth، ما دفع قبيلة جلعاد لأن تقتل منها 42 ألف شخص جرّاء إنقاصها حرفاً واحداً.

وعلى هذا المنوال رسمت الدعابة المُرّة، في بدايات الحرب الأهليّة اللبنانيّة، هذا الانشطار الذي قد يسبّب الموت لمن يقول «بَنْدورة» بدل «بَنَدورة».

وقد يصحّ في الهويّة بعض ما يصحّ في المرأة، كما وصفتها سيمون دو بوفوار بعبارة شهيرة. فهي «لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة»، أي أنّ أسباباً اجتماعيّة وثقافيّة تشكّلها وتحدّد أدوارها أكثر ممّا يفعل قَدَر بيولوجيّ محكم ومسبق. ووفق هذا التصوّر يتّضح الفارق بين كون المرأة أنثى بيولوجيّاً وبين البناء الاجتماعيّ الذي يجعلها، بوصفها دوراً ووظيفة اجتماعيّين، امرأة.

لكنّ تلك التصوّرات لا تحلّ الكثير من المشاكل في الواقع الفعليّ، تماماً كما أنّ نظريّة «البناء الاجتماعيّ» لا تعزّي أحداً ولا تعني بتاتاً سهولة حلّ المشكلة وتجاوزها.

وبهذا ينطوي الإنكار المطلق للهويّة على وعظ غالباً ما يكون ساذجاً، وعلى لون من التفاؤل البسيط بالبشر وتعويل مبالَغ فيه على نجاحهم في ترويض الطبيعة والثقافة.

ولنتذكّر، وتحت أنوفنا عشرات الأمثلة، أنّ الواقع الفعليّ بالغ الخصوبة، لا في توليد الهويّات فحسب، بل في صبغها بالعدائيّة والتناحر. فالواقع نفسه، بوصفه ساحة تمييز وغلبة، هو الذي يقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، وينجح في ذلك، وهو الذي يزرع في واحدنا شرّاً يجعله يرى الآخر بوصفه شرّاً، وينجح أيضاً. وهذا وذاك يحصلان في منطقة أفلست فيها الهويّة الوطنيّة المزعومة ودولتها وتصدّع الإطار الوطنيّ للسياسة. وإذ يتبدّى، أقلّه في المشرق، أنّ شعوباً متناحرة عدّة تقيم تحت غلالة الشعب الواحد، تذوي الإيديولوجيّات الحديثة، كالقوميّة والاشتراكيّة وسواهما ممّا كانت الجماعات تستظلّ بها في عقود سبقت، ليصبح التعريف الأهليّ المحض هو نفسه إيديولوجيّة الجماعات.

ولسوف يكون سخيفاً وعبثيّاً مطالبة الجماعة المهدّدة بالموت أو الإبادة أن تردّ بإعلان تمسّكها بهويّة وطنيّة أو إنسانية، وأن ترفض التعامل مع «العدوّ القوميّ» فيما هو ينقذها من الموت الذي يهدّدها به «الأخ» الوطنيّ أو الإنسانيّ المزعوم.

وكانت هنه أرنت، في أحد مواقفها الشهيرة، قد طالبت اليهوديّ إذا هوجم كيهوديّ «أن يدافع عن نفسه كيهوديّ، لا كألمانيّ أو كمواطن عالميّ ولا كمتمسّك بحقوق الإنسان». وهو ما يصحّ، بطبيعة الحال، في الفلسطينيّ حين يُستهدَف كفلسطينيّ، وفي المسلم والمسيحيّ والكرديّ والعلويّ والدرزيّ وأيّ كان.

وأغلب الظنّ أنّ الاعتراف بالهويّات المظلومة وإشباعها يفيان بالغرض أكثر كثيراً ممّا يفعل إنكارها والتعالي عليها. فعبر إشباعها يمكن دفعها إلى الحدّ من إطلاقيّتها ومن انغلاقها وتفسيرها التاريخ انطلاقاً من حقبة بعينها هي حقبة احتدامها وتوتّرها. وعبر الإشباع نفسه تتراجع نظرتها إلى نفسها ككتلة صخريّة لا تقبل الانقسام، وإلى العالم بوصفه حرباً دائمة.

وحتّى إشعار آخر فإنّ صناعة الهويّات، بالقاتل منها والمقتول، أقوى صناعاتنا. وليس مفيداً ولا لائقاً أن يقف المرء على شوك ويظنّ نفسه واقفاً على حرير.

***

حازم صاغية

عن جريدة الشرق الأوسط يوم: الأربعاء - 04 ربيع الأول 1447 هـ - 27 أغسطس 2025 م

ليست الكارثة في أن يكون الإنسان مؤمنا، بل في أن يتحول الإيمان إلى أداة للهيمنة على العقول، ومقصلة معلقة فوق كل فكر حر. إن تديين المجال العام في مجتمعاتنا لم يكن يوما مدخلا إلى الخلاص، بل أصبح عائقا أمام نمو العقل وتمدده في آفاق البحث والمعرفة. فالعقل العربي المنهك أصلا بتراثه المثقل وجد نفسه مسجونا بين أسوار وصاية رجال الدين، لا يكاد يتنفس خارجها إلا ويتهم بالزندقة أو الخيانة

إنّ أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا اليوم ليس الفقر ولا الاستبداد وحدهما بل ذلك التحالف الخفي بين الدين والسياسة الذي يجعل من المجال العام ساحة لتصفية الحسابات باسم السماء. تديين الدولة ليس مجرد خطأ سياسي، بل كارثة حضارية متكاملة، لأنه يحول النصوص المقدسة إلى شعارات حزبية، ويستبدل سلطة العقل بسلطة الفتوى، ويقيد حركة المجتمع بحدود التأويل الضيق

لقد صارت السياسة في بلادنا منابر وعظ، وصارت الكوارث الطبيعية تفسر وكأنها رسائل غيبية، وصارت الأمراض تربط بالذنوب، والعلم يحاكم بمقاييس الفقه، حتى تحول العقل الجمعي إلى عقل قاصر، عاجز عن التفكير خارج الوصاية المقدسة. إن هذه الوصاية أفرزت وعيا مشوها، يخلط بين الخرافة والحقيقة، بين الطقس الديني والمعادلة العلمية، بين المجال الشخصي والفضاء العام

وحين يُحشر الدين في تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية، يتوقف العقل عن التفكير الحر، ويتحول المواطن إلى تابع يبحث عن رأي الشيخ لا عن “قرار الدولة”. وحين تتحول الكوارث الطبيعية إلى عقوبات إلهية، والأمراض إلى ابتلاءات أخلاقية، والسياسة إلى خطب وعظية، عندها ينهار معنى الدولة الحديثة، ويختزل الوطن إلى طائفة أو جماعة تتحدث باسم الله

اعتقد ان الفكر الذي يتصادم مع العلم، أيا كانت مرجعيته، لا يمكن أن يقود سوى إلى الخراب ذلك أن العلم ـ وهو ثمرة العقل الإنساني الحر لا ينهض إلا إذا أزيحت عن طريقه الأثقال التي تجره إلى الخلف. والتاريخ خير شاهد: فالأمم التي نزعت القداسة عن السياسة، وأبقت الدين في مجاله الروحي والأخلاقي، استطاعت أن تفتح أبواب النهضة وتشيد حضارات تحترم فيها إنسانية الإنسان.

إن فصل الدين عن الدولة ليس حربا على الإيمان، بل هو إنقاذ للإيمان من التوظيف القمعي. فالدولة التي تحكمها المرجعية الدينية المطلقة تلغِي التعدد، وتحول المختلف إلى عدو، وتجعل الحقيقة رهينة نص واحد أو تأويل واحد. أما الدولة المدنية، فهي التي تمنح الدين مكانته كقيمة روحية وأخلاقية، وتحمي في الوقت ذاته حق الفرد في أن يختلف، في أن يفكر، في أن يبتكر، وفي أن يعيش دون خوف من محاكم التفتيش الحديثة.

الفصل إذن ليس خصومة، بل توازن: توازن بين إيمان يخص القلب والضمير، وبين عقلٍ يعنى بتنظيم شؤون الدولة والحياة. بهذا وحده نستطيع أن نحرر العقل من عجزه المزمن، وننقذ السياسة من سطوة الخرافة، ونمنح الإنسان فرصة لأن يستعيد دوره كفاعل في التاريخ، لا كتابع لفتاوى تصادر مستقبله قبل أن يولد.

التجارب العالمية تؤكد أن الدول التي نجحت في التحرر من وصاية رجال الدين، لم تفقد إيمانها ولا هويتها، بل استردت عقلها الجمعي وقدرتها على الإبداع. أوروبا لم تنهض إلا بعد أن جردت الكنيسة من سلطة التحكم في العلم والسياسة. أما نحن، فما زلنا ندور في حلقة مفرغة: كل إصلاح سياسي يفرغ من مضمونه لأن الفتوى أقوى من الدستور، وكل مشروع علمي يقمع لأن العقل الفقهي أقوى من العقل التجريبي

فالدولة التي تحكمها مرجعية دينية مطلقة لا يمكن أن تعرف التعدد ولا أن تقبل المعارضة، لأنها تعتبر أي اختلاف خيانة للعقيدة قبل أن يكون اختلافا في الرأي

وكلمه اخيره هي إن إبقاء الدين في مجاله الروحي والأخلاقي وحصر الدولة في إدارة الشأن العام بالعقل والقانون، هو السبيل الوحيد لصون المجتمع من الانقسام، ولإعادة الاعتبار إلى الإنسان كمواطن، لا كتابع لسلطة غيبية. فالدولة بلا عقل تتحول إلى ثكنة مغلقة، والدين بلا حرية يتحول إلى أداة قمع

إن الأمم لا تبنى بالوصاية على العقول، ولا بخلط الدين بكل أمور الحياة بل تبنى بالعقل الحر والقانون العادل. وما لم نفصل الدين عن الدولة، سنظل ندور في فلك مظلم إن الدولة المدنية ليست ترفا فكريا، بل هي صرخة إنقاذ: إنقاذ للوطن من التفكك، وللدين من الابتذال، وللإنسان من العبودية. فإما أن نختار عقلنا وننهض، أو نبقى أسرى خطاب يقدس العجز ويؤبد الانهيار..

***

ابتهال عبد الوهاب

عن موقع: منبر العراق الحر، يوم 19/8/2025

 

هل وُجد الإنسان فعلاً على ظهر البسيطة منذ آدم عليه السلام، أم أن الإنسان هو اكتشاف حديث؟ نعم وُجد الإنسان مع آدم عليه السلام، ولعله ذلك الإنسان المفكر HOMO SAPIENS بعد أفول نجم الإنسان الصانع HOMO FABER الذي كان يفتقد القدرة على التفكير الصحيح، فأفسد في الأرض وسفك الدماء بشهادة الملائكة.

لكن الإنسان منذ أن وُجد وهو ينتج المعرفة عن ذاته، فكانت تصوراته مختلفة حسب مستويات وعيه وتفاعلاته مع المحيط بخيالاته الجامحة أولاً، خاصة في الأساطير التي قدمت لنا إنساناً يحُاكي الآلهة ويصاهرها ويصارعها، كما تحكي كثير من نصوص الإلياذة والأوديسا لهوميروس، وأنساب الآلهة لهوزيود، ألم يكن هرقل ابن الاله زيوس من سيدة من نساء العالمين، كما تقول الأسطورة اليونانية، فكان نصف إله يتمتع بقوة خارقة لا تضاهى. وللأساطير تصورات خارقة عن الإنسان، فكما أوجدت هرقل أوجدت آخيل الرجل الذي لا يقهره إلا من عرف حلقة ضعفه في عقبيه.

مع الفلسفة تم تجاوز هذه الخيالات، التي كانت لها معانيها ودلالاتها العميقة في ثقافة تريد تفسير الظواهر والأحداث، فلم تجد غير اللاعقل سبيلاً لإنتاج صورة عن الإنسان أبعد عن واقعه وبشريته.

 لكن مع ظهور العقل الفلسفي القائم على الخطاب التعليلي المحايث للظواهر والمستشرف إلى إضفاء نسق متماسك على رؤيته للعالم، بدا الإنسان ينتج صورة أقرب إلى الواقع عن شخصه. فأمام طموح الأسطورة الجارف لتفسير كل شيء، أقر سقراط بمحدودية الإدراك البشري، فجعل أهم خاصية للحكيم أن الحقيقة الوحيدة التي يعرفها أنه لا يعرف شيئاً، حاثّاً النّاس على استعمال عقولهم لإدراك الحقيقة دون التعويل على ما تعج به الأساطير من حقائق خيالية عن الإنسان، وأول حقيقة وجّه سقراط النّاس إليها هي حقيقة نفوسهم، فكانت عبارته الشهيرة الخالدة «اعرف نفسك بنفسك». وقد تابع أفلاطون نهج شيخه سقراط، ومحاورته الرائعة «فيدون» من أجمل المحاورات التي قدمت تصوراً عن الإنسان النَزّاع إلى الخلود.

لقد ظلّ المفكرون يستعملون المنهج التأملي القائم، بخاصة، على الاستنباط لتقديم حقائقهم عن الإنسان، ولعل البحث النظري في الإنسان سيبدأ مع «كتاب النفس» لأرسطو، الذي قدّم تصوراً متكاملاً عن الإنسان من حيث قواه النفسية المختلفة، وهو الكتاب الذي حظي بعناية الفلاسفة عبر العصور، وتكفي الإشارة هنا أن ابن رشد شرحه ثلاثة أنواع من الشروح، جامع، وتلخيص، وشرح كبير. وقد ظلّ هذا الكتاب المرجع الأول في معرفة الإنسان ذاته حتى بزوغ العصر الحديث.

لقد ظلّ الإنسان ينتج المعرفة عن ذاته، لكن التغير الأكبر الذي جاء به العصر الحديث أن الإنسان أصبح موضوعاً للمعرفة، إنه عصر العلوم الإنسانية، عصر بزوغ الإنسان وتبلور التصور العلمي عنه، فمع العلوم الإنسانية بزغ مفهوم الإنسان، ولأول مرة أُنْشِأت مختبرات لإخضاع الإنسان للمنهج التجريبي الذي قدم كشوفات مذهلة في فهم أسرار الطبيعة، فجيء به لكشف أسرار الإنسان، فظهر علم النفس ليقدم تصور الإنسان عن ذاته، وظهر علم الاجتماع، ليقدم تصور الإنسان عن علاقاته الاجتماعية، وظهر علم التاريخ ليقدم تصور الإنسان عن ماضيه، وغيرها من العلوم الإنسانية، التي توسلت بالمناهج الفيزيائية والإحصائية جعلت الإنسان بمنزلة الشيء الذي يدرس في نجوة عن عواطفه أو مشاعره، رغم أنه تبيّن فيما بعد حدود هذا المنهج، فظهرت مناهج أخرى اتخذت الإنسان موضوعاً للمعرفة، لكنها توسلت بمنهج الفهم لا التفسير، كما هو الأمر مع ماكس فيبر ودلتاي، وتتوسل بمنهج تأويلي جديد تجلى في الهيرمينوطيقا دلتاي وشلايماخر وهيدغر وبول ريكور.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 أغسطس 2025 23:30

يكثر الحديث في أيامنا عن الذكاء الاصطناعي من حيث كونه قلَب العلاقةَ التقليدية بين المعرفة والواقع، وأنشأ مسالكَ جديدةً في التربية والثقافة، بما شكّل تحولاً نوعياً في الوجود الإنساني. بعض الكتّاب احتفى بهذه التحولات الراهنة واعتبرها نتاجَ ثورة معرفية كبرى تتيح للإنسان المعلومةَ السهلةَ الشاملةَ، في حين رأى آخرون أنها كرست عالمَ التخيل الوهمي وما بعد الحقيقة.

وفي كتابه الجديد «اقتحام الواقع»، يبين عالم الاجتماع الفرنسي «جيرالد بروننر» أن هذه الظاهرة، وإن كانت لها خصوصياتها التقنية البارزة التي انجرت عن الطفرة المعلوماتية الرقمية، إلا أنها تندرج في مسار اجتماعي تاريخي طويل، هو ميل الإنسان إلى استبدال الواقع برغباته الذاتية. ومن هذا المنظور، يمكن فهم عدد من الممارسات البشرية الأخرى، مثل السحر والأسطورة والأيديولوجيا.. فكلها تعبّر عن هذا التوجه لبناء عالَم بديل عن الواقع القائم.

إلا أن التوجه الرغائبي أضحى أقوى في العصور الحديثة، إلى حد أن الكسيس دي تكوفيل اعتبر أن المجتمعات الديمقراطية المعاصرة تقوم على انزياح هائل بين الرغبات والواقع الذي يمكن أن تحققه فعلا، بما يولد حالة من الإحباط الواسع. وهكذا يلجأ الإنسان إلى اختراع عالَمه الخاص الذي يتوهّم تحقيقَ رغباته فيه. يقول بروننر، إن روسو انتصر على ماركس في انتفاضة 1968 التي هيمنت فيها ثقافة الرغبة على اعتبارات الواقع، فغدت الذاتية الراديكالية هي معيار الالتزام السياسي (أي الأنا الأصيل الذي أفسدَه المحيطُ الاجتماعي كما كان يقول روسو).

ما حدث راهناً هو أن التقنيات الرقمية أصبحت توفر بدائل فعلية عن الواقع. فمنذ عام 2016 غدت الروبوتات تنتج من المعلومات أكثر مما ينتج البشرُ، وهو الاتجاه الذي بلغ مداه مع الذكاء الاصطناعي الذي قضى كلياً على الواقع. فالتقنيات ما بعد الإنسانية تطمح اليوم إلى تحقيق حلم جلجماش في التغلب على الموت، في الوقت الذي استطاعت فيه الأيديولوجيا البيولوجية الجديدةُ القضاءَ على التمييزات الطبيعية بين الأنواع والأجناس والألوان، بحيث تحول الإنسان إلى كائن هوياتي متنقل بدون ثوابت محددة. بل إن الفروق بين الكائن الحي وغير الحي غدت غائمة، لأول مرة في تاريخ البشرية.

والأخطر من هذا كله غياب إجماع توافقي حول الواقع الموضوعي ونمط المعرفة العقلانية، بما يفتح ثغرةً خطيرة في الجهاز التصوري البشري. وليست هذه الرؤية خاصة بالنزعات اليسارية الراديكالية، بل نلمسها أيضاً في التيارات الشعبوية الصاعدة حالياً من حيث مقاربتها الحدسية المباشرة للعالم، والتي هي عكس الأفكار النقدية المتناسقة الدقيقة.

في خاتمة كتابه، يستشرف بروننر سيناريوهين أساسيين في رسم مستقبل العالم: إما أن يدخل الكون في الذات الحميمية الباطنية على شكل واقع افتراضي متخيل، بحيث يعتقد الإنسانُ أنه هو ما يرغب فيه، أو تقتحم الذاتُ الكونَ كلَّه كما يطمح إلى ذلك الاتجاهُ ما بعد الإنساني. وفي الحالتين، يختفي الآخر ويغيب المغاير، مع أن السعادة تقتضي العلاقة بالآخرين.

ما يخلص إليه بروننر هو أن «الحقل المعرفي»، وهو المجال التواصلي الذي تنتقل فيه الأفكار والمعتقدات والإشاعات والأخبار الزائفة، قد تغير نوعياً جرّاء الثورة الرقمية الاتصالية، بحيث لم تعد المعارف المشروعة مقننةً في تقاليد مؤسسية ضابطة، بل صارت المنتجات داخل هذا الحقل تنتقل دون قيود أو ضوابط. وهكذا استبدلت قيم الصدقية والبرهان بالانطباعات الشعورية والإحساسات العاطفية السريعة والرغبات الذاتية.

 ما نخلص إليه من عرض أطروحة بروننر هو أن حركية الذكاء الاصطناعي بقدر ما فتحت آفاقاً رحبة للمعرفة والعلم، ولدت تحديات جديدة، أخطرها ما يتعلق بالمحددات الابستمولوجية، أي ما يخص معايير الحقيقة والمعنى والمعقولية.

في بداية مسار الفلسفة خلال العصور اليونانية، ولّدت الثورةُ العلمية الأولى في تاريخ البشرية المتمحورة حول الرياضيات تحدياتٍ مماثلةً، وكان الإشكال الذي عالجه أفلاطون وأرسطو هو: كيف نصفي السيلانَ القولي لننقذ الحقيقةَ والمعنى؟

لقد اعتبر أفلاطون أن المسلك الوحيد هو الخروج من عالَم الحس إلى أفق الوجود العقلي، في حين أراد أرسطو اختراع الآلية المنهجية القادرة على رسم الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم (المنطق).

 والتحدي ذاتُه قائم في العصر الحاضر الذي انهارت فيه الوسائط الابستمولوجية والمؤسسية للمعنى، وانتفت الحواجزُ الموضوعية بين الواقع والتصور، في حين تحولت الفلسفة إلى ممارسة لغوية تأويلية لم تعد قادرة على الوفاء للمشروع الأفلاطوني الأرسطي الأصلي الذي هو ضبط العلاقة التطابقية بين الوجود والعقل.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

24 أغسطس 2025 23:45

ريجيس دوبريه يستعرض نقاطاً أمنت له السيطرة بلا منازع

يقول لنا ريجيس دوبريه في كتابه «ما تبقى من الغرب» ما فحواه: هناك عدة نقاط قوة يمتلكها الغرب، وهي التي تؤمن له السيطرة على العالم بدون منازع، وأولها ذلك التماسك الذي لا مثيل له بين كلا الجناحين الأوروبي والأميركي. وأكبر دليل على ذلك أنه أرعب روسيا ما إن اشتعلت الحرب الأوكرانية. ينبغي العلم بأن الولايات المتحدة تسيطر على الغرب كله من خلال حلف الأطلسي. وهذا الحلف يشكل أكبر قوة ضاربة في العالم. وهو الذي يرعب حتى الصين وروسيا. ولولاه لاستطاع بوتين اجتياح أوكرانيا كلها بأقصى سرعة.

أما نقطة القوة الثانية للغرب، فتتمثل في احتكار القيم الحداثية الكونية. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ما يلي: جميع الدول تتابع في الخارج مصالحها الحيوية الخاصة. وهذا شيء طبيعي. فمثلاً الصين المحرومة من المواد الأولية كالغاز والبترول تحرص أشد الحرص على تأمين شبكات تزويدها بها من شتى أنحاء العالم. إنها تمارس ما ندعوه بـ«الأنانية المقدسة» للدولة. والغرب أيضاً يمارس ذلك على أوسع نطاق. لكنه وحده الذي يتجرأ على تقديم مصالحه الشخصية وكأنها تعبر عن مصلحة البشرية بأسرها! إنه يغلف مصالحه الشخصية الأنانية بغلاف براق تحت اسم حقوق الإنسان. إنه يقدم نفسه على أساس أنه يمثل الضمير الكوني العالمي. وأكبر دليل على ذلك أن مقر الأمم المتحدة التي تجسد هذا الضمير العالمي موجود في نيويورك، لا في موسكو، أو بكين، أو طوكيو، أو نيودلهي... بالتالي فالغرب هو مركز العالم شاء الآخرون أم أبوا.

أما نقطة القوة الثالثة للغرب، فتتمثل في تخريج مثقفي العالم وكوادره العليا. ويرى ريجيس دوبريه أن الغرب يخرج كوادر العالم ونخبه الثقافية والسياسية بل وحتى العسكرية. وعلى الرغم من أن الأنظمة لا تنفك تدين الإمبريالية الأميركية وتشتمها على مدار الساعة فإن الطبقات البورجوازية العربية وغير العربية تفضل أن ترسل أبناءها إلى جامعات هارفارد أو بيركلي أو كولومبيا أو كامبردج أو أكسفورد أو السوربون.. إلخ.. فلا أحد يثق بشهادات الجامعات الشرقية. وحتى أمراء الصين الحمر الشيوعيون يرسلون أبناءهم إلى الجامعات الأميركية للتخرج! من يصدق ذلك؟ ينبغي العلم أن أميركا تستقبل كل عام 3000 من القادة الشباب، أو الذين تدعوهم كذلك. وهم صفوة الصفوة أو نخبة النخبة. ومن بينهم بضع عشرات من الفرنسيين وليسوا كلهم من أبناء العالم الثالث. وهي تدربهم في جامعاتها وتجبلهم بلغتها وتصهرهم بثقافتها. وعندما يعودون إلى بلدانهم بعد التخرج يصبحون امتداداً لأميركا في الخارج. إنهم يصبحون بمثابة سفراء غير معينين رسمياً، ومن بينهم رئيس أفغانستان السابق حميد كرزاي، ورئيس جورجيا ساكاشفيلي، وسلام فياض رئيس وزراء فلسطين السابق ومساعد المدير التنفيذي للبنك الدولي في واشنطن، وآخرون كثيرون. لقد خرّجت أميركا في العقود الماضية عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من كوادر العالم العليا، ومن كل الجنسيات، والأديان، والقوميات. وهو شيء لم تتجرأ عليه الإمبراطورية البريطانية حتى وهي في أوج مجدها وجبروتها، بالتالي فالإمبراطورية الأميركية لا مثيل لها في التاريخ.

أما نقطة القوة الرابعة للغرب، فتتمثل في تشكيل التيارات الفلسفية والحساسيات الفنية والأفلام السينمائية... إلخ.

بهذا الصدد ينبغي أن نقول ما يلي: أميركا لا تمتلك فقط القوة الخشنة الأخطر في العالم (أي القوة العسكرية) وإنما تمتلك أيضاً أكبر قوة ناعمة (أي القوة الثقافية). فالسينما الأميركية (هوليوود) والثقافة الأميركية والجامعات الأميركية.. إلخ تشكل أكبر جاذبية لأميركا في الخارج. من يستطيع أن يقاوم أفلام جون واين أو كلينت إيستوود أو هارسون فورد... إلخ؟ ليس أنا على أي حال. وقل الأمر ذاته عن الموسيقى الشعبية الأميركية والمشروبات الأميركية ولباس الجينز الأميركي وحتى مطاعم الماكدونالد المنتشرة في شتى أنحاء العالم. وهي تساهم في خضوع الآخرين لها دون أي مقاومة. من يقاوم الفن والعلم والجمال والمتعة والاستهلاك؟ ثم إن الضعيف المتأخر يقلد دائماً القوي الناجح كما يقول ابن خلدون. على هذا النحو تفرض أميركا هيمنتها على العالم من خلال القوة الخشنة والقوة الناعمة، على حد سواء.

ويمكن القول بأن «الكوكا كولا» ربحت حرب فيتنام بعد أن خسرها الجيش الأميركي! والجرائد الأميركية الكبرى تصوغ فكر قادة العالم وعقولهم لأنهم يقرأونها كل صباح، كما كان يفعل جمال عبد الناصر في وقته. صحيح أن تشومسكي كان مرفوضاً من قبل «النيويورك تايمز» ولكن ليس إدوارد سعيد! وعموماً فإن الغرب يسمح بحرية النقد والاعتراض والاختلاف. ففي الغرب كل الديانات لها الحق في الوجود وكل التيارات الفكرية والآيديولوجية بشرط ألا تدعو صراحة إلى الطائفية والعنصرية.

بقيت نقطة أساسية تمثل جوهر الحضارة الغربية، وتفسر سبب تفوقها على كل أمم الأرض. وهي مرتبطة بالنقطة السابقة أو تشكل امتداداً لها. ويلخصها ريجيس دوبريه بكلمة واحدة أو ثلاث كلمات: «امتصاص السلبية النقدية». ماذا يعني هذا المصطلح الخطير؟ ماذا يعني هذا المصطلح العويص؟ إنه يعني أن الغرب يمتص كل ما هو مضاد له ليس عن طريق قمعه وكبته، كما تفعل دول العالم الثالث، وإنما عن طريق تركه يعبر عن نفسه بكل حرية. وحتى ولو كان هذا النقد جارحاً له ومزعجاً جداً له فإنه يتركه يعبر عن نقمته. ولذلك تسمع الشتائم يومياً ضد الغرب في قلب الغرب! وكذلك المظاهرات. وهنا تكمن عبقرية الغرب، وديناميكيته، وصلابته. «فالأزمة التي لا تقتلني تقويني» كما يقول نيتشه. والنقد الذي لا يدمرني ينعشني ويحييني... أما ما يقتل الحضارات الأخرى فهو اللون الواحد والخط الواحد والفكر النمطي الواحد والقمع الديني والفكري والسياسي. تقريباً لا أحد يتجرأ على أن يفتح فمه في بعض البلدان!

ننتقل الآن إلى النقطة الخامسة التي تفسر سبب تفوق الغرب على جميع حضارات العالم ألا وهي الابتكارات العلمية والتكنولوجية.

في الواقع كان ينبغي أن نبتدئ بها، كما يقول ريجيس دوبريه. فالاختراعات العلمية والتكنولوجية الصارخة هي التي أدت إلى تفوق الغرب على كل النطاقات الحضارية الأخرى في العالم. والآن يحاول الجميع تقليدها. بل وقد حققت بعض الدول الأخرى نجاحات مهمة في هذا المجال. فيوجد الآن مهندسون هنود وصينيون أكثر مما يوجد مهندسون أميركان. ولكن هذا لا يعني أن أميركا أصبحت مسبوقة. فالواقع أن معظم جوائز نوبل للطب والفيزياء والعلوم والاقتصاد تذهب إلى باحثين أميركان أو غربيين عموماً. وبهذا الصدد ينبغي العلم بأن أميركا تشتري العقول الأجنبية برواتب ضخمة جداً إلى درجة أن الفرنسيين يشتكون منها. فهي تسرق عباقرتهم وعلماءهم. فما إن تسمع أميركا بباحث عبقري في أي دولة من دول العالم حتى تقدم له كافة التسهيلات لكي تغريه بالذهاب إليها والعمل في جامعاتها ومختبراتها. لهذا السبب تتفوق أميركا على كل أمم الأرض.

هناك خاصية أخرى تفسر سبب تفوق الغرب على جميع شعوب الأرض ألا وهي دولة الحق والقانون والمؤسسات. فحكم القانون هو المهيمن على الغرب، في حين أن حكم التعسف والاعتباط والاستبداد هو المهيمن على الشرق. ينبغي العلم أن أكبر رئيس دولة في الغرب خاضع لحكم القانون الذي يخضع له الكناس أو الزبال، وعندما ينتهكه فإنهم يسقطونه حتى ولو كان رئيس أعظم دولة في العالم. يضاف إلى ذلك أن الغرب يتبع قاعدة ذهبية هي السبب في تفوقه ونجاحه: وهي أنه يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وأما دول العالم الثالث فكلها محسوبيات ورشاوى ومحاباة للأقارب في التوظيف حتى ولو كانوا فاشلين أو غير أكفياء على الإطلاق... إلخ.

الميزة السابعة للغرب

أخيراً هناك ميزة سابعة للغرب ربما كانت أعظم ميزة. ما هي؟ إنها تتمثل في عبارة واحدة فقط: انتصار التنوير الفلسفي على الأصولية التكفيرية. هنا تكمن عظمة الغرب فعلاً. بدءاً من تلك اللحظة أصبح الغرب سيد العالم. لماذا؟ لأنه انتصر على نفسه بعد صراع طويل ومرير مع أصوليته الدينية. ومن ينتصر على نفسه ينتصر على العالم كله. هنا يكمن سر تفوق الغرب.

لا تعرف روسيا ولا الصين ولا العالم العربي الإسلامي شخصيات فكرية كبرى من أمثال ديكارت وكانط وهيغل وفولتير وجان جاك روسو وماركس ونيتشه وفرويد وبرغسون وبرتراند رسل وميشيل سير وهابرماس... إلخ. هؤلاء هم أساتذة العالم كله وليس فقط أساتذة الغرب. آخر فيلسوف كبير عندنا هو ابن رشد الذي تُوفي قبل 825 سنة. وهؤلاء تجاوزوا ابن رشد بسنوات ضوئية. هل عرفتم سبب التفاوت التاريخي بين العرب والغرب؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 20 أغسطس 2025 م ـ 26 صفَر 1447 هـ

 

يشهد عالمنا اليوم ثورة معرفية غير مسبوقة، تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعيد تشكيل أنماط الحياة والعمل والتفكير. هذه التحولات السريعة لم تقتصر على الاقتصاد والسياسة والعلوم، بل امتدت إلى ميدان القيم والدين، لتطرح على الفقه الإسلامي أسئلةً جديدة، ولتضع العقلَ الفقهي أمام تحديات لم يعرفها من قبل.

لقد اعتاد الفقهاءُ عبر القرون أن يستنبطوا الأحكامَ في بيئة معرفية واجتماعية يمكن استيعابها من خلال أدوات الاجتهاد الموروثة. أما اليوم، فنحن أمام وقائع هجينة، رقمية الطابع، تتجاوز الحدودَ المكانيةَ والزمانية، وتولِّد إشكالاتٍ فقهيةً لم يسبق لها مثيل: من العقود الذكية والعملات المشفرة، إلى الروبوتات والأنظمة الخوارزمية التي تتخذ قرارات تؤثر في حياة البشر. وفي خضم هذا المشهد، يبرز السؤال: كيف يمكن للعقل الفقهي أن يحافظ على أصالته، ويطور في الوقت نفسه أدواته ليتعامل مع هذا الواقع الجديد؟

 إن هندسة العقل الفقهي في زمن الذكاء الاصطناعي لا تعني القطيعةَ مع التراث، ولا الانبهار الأعمى بالتقنية، بل تعني بناءَ منظومة معرفية متكاملة تجمع بين رسوخ العلوم الشرعية، وفهم البيئة الرقمية، والوعي الأخلاقي، والبصيرة الاستشرافية. وهذه المنظومة تقوم على أربعة محاور أساسية.

 وأول تلك المحاور هو التأصيل الشرعي العميق، إذ لا غنى للعقل الفقهي عن الإحاطة بأصول الاستنباط ومقاصد الشريعة وفروع الفقه، مع القدرة على تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة. فالفقه بلا أصول يصبح ارتجالاً، والاجتهادُ بلا مقاصد يتحول إلى نصوص جامدة قد تعجز عن تحقيق المصلحة أو درء المفسدة.

 وثانيها الوعي الرقمي؛ فالفقه في عصر الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن ينعزل عن فهم التكنولوجيا التي تصوغ حياة الناس. والمفتي الذي لا يعرف كيف تعمل العقود الرقمية أو العملات الافتراضية أو تقنيات الذكاء الاصطناعي، لن يستطيع أن يتصور المسألةَ تصوراً صحيحاً، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وثالثها النزاهة الأخلاقية؛ فالفتوى ليست مجرد نتاج معرفي، بل هي أمانة ومسؤولية أمام الله والمجتمع. ومع انفتاح منصات الفتوى عبر الفضاء الرقمي، زادت الضغوط على الفقيه، سواء من الرأي العام أو من المصالح الاقتصادية والسياسية. وهنا تبرز أهمية الضمير الفقهي المستقيم، القادر على مقاومة الهوى والحفاظ على استقلالية الفتوى ونقائها.

أما المحور الرابع والأخير فهو البصيرة الاستشرافية، ذلك أن الذكاء الاصطناعي لا يطرح تحدياته على الحاضر فقط، بل يرسم ملامح المستقبل. والعقل الفقهي الرشيد هو الذي يدرك المآلات، ويقدِّر أثرَ الحكم قبل صدوره، مستفيداً من أدوات التحليل والتنبؤ المتاحة اليوم، ليضمن إسهام الفتوى في البناء والإصلاح، لا في زيادة التعقيد أو إحداث الضرر.

إن هندسة العقل الفقهي في هذا السياق ليست رفاهية فكرية، بل هي ضرورة ملحّة تفرضها مسؤولية صَون الدين وحماية المجتمع في زمن تتسارع فيه المتغيرات. وإذا لم يبادر الفقهاء والمؤسسات العلمية إلى تطوير مناهج التكوين الفقهي بما يتلاءم مع هذه التحولات، فإن فجوة الوعي بين النصوص الشرعية والواقع الرقمي ستتسع، وقد يملأها غير المؤهلين بفتاوى تفتقر إلى العمق والدقة.

لقد آن الأوان لأن ننظر إلى الفتوى بوصفها عملية مركبة، تتطلب عقلاً فقهياً مهندساً، قادراً على الربط بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وعلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي لا كخطر يهدد الدين، بل كأداة يمكن توظيفها لخدمة المقاصد الشرعية، وتيسير حياة الناس، وحماية القيم الإنسانية الجامعة.

إن التحدي الذي يواجهنا اليوم هو نفسه الفرصة التي يمكن أن تَصنع غداً أفضل، إذا ما أعددنا العقلَ الفقهي إعداداً يؤهله للقيادة في زمن الذكاء الاصطناعي.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 أغسطس 2025 23:45

 

هل تعود الحرب الأهلية قريباً إلى العالم الغربي؟ هذا ما يتوقعه دفيد بتز، أستاذ العلوم الدفاعية في الجامعة البريطانية، في مقال أخير في «المجلة الاستراتيجية العسكرية» (ربيع 2025). ووفق مقاربة بتز، تتجاوز نسبة هذا الاحتمال 90 بالمائة في كبريات الدول الغربية، بما فيها البلدان الرئيسية في غرب أوروبا. وليس الخطر الاستراتيجي خارجياً، بل هو داخلي بالأساس، ومن عوامله الرئيسية: التفكك الثقافي، والتراجع الاقتصادي، والقطيعة المتنامية بين النخب والشعوب، وانهيار البنيات التحتية.. إلخ. وحسب بتز، سيأخذ هذا السيناريو شكل التصادم الحضري الريفي، والانقسامات الاجتماعية الثقافية الحادة، والحرب الرقمية الإلكترونية.

وقد دخلت بعض الأحياء في كبريات المدن الغربية في هذا المسار فعلاً، فغدت مدار صراع صامت حول الهوية والانتماء والمصالح الحيوية، مما ينذر بفتنة عارمة. لن تبدأ هذه الحرب الأهلية على شكل انقلاب عسكري أو معركة حاسمة، بل من خلال انهيار تدريجي يفضي إلى حدث حاسم تنطلق معه المواجهة الجذرية.

ومن سمات هذا الانهيار تآكل الجسم الاجتماعي، وتزايد المناطق الخارجة عن دائرة السلطة ونطاق القانون، وضعف المؤسسات الأمنية والقضائية، وتردي البنيات الاقتصادية. ويمكن أن تحدث هذه الحرب الأهلية عن طريق أزمة اقتصادية حادة، أو عملية إرهابية عنيفة، أو خطأ أمني فادح، أو مشكل ما بعد انتخابي.. إلخ، وهي أحداث كثيرة الوقوع في السنوات الأخيرة.

والحرب الأهلية التي يتحدث عنها «بتز» هنا هي الأفق الذي كرست معه الحداثةُ السياسية القطيعةَ الصارمة. وفي كتابه «ستازيس» (عبارة يونانية تعني الفتنة الداخلية)، يبيّن الفيلسوفُ الإيطالي جورجيو أغامبن أن منطق الحرب الأهلية لا يزال حياً نشطاً في الحياة السياسية للمجتمعات الغربية المعاصرة، رغم المرجعية القانونية المؤسِّسة لنمط الشرعية السياسية القائم فيها.

 والحرب الأهلية، كما يتصورها أغامبن، تأخذ شكلَ سلطة الاستثناء الدائم الذي أصبح هو المعيار التشريعي المعتمد في البنيات القانونية والإدارية للدولة الحديثة. وفي هذا السياق، تلاشت الحدود بين الداخل والخارج والحرب والسلم، فغدت آليات الرقابة والضبط وعسكرة المجال العمومي من الميكانيزمات العادية للسلطة السياسية. وتلك سمات حرب أهلية صامتة تستهدف الوجود البيولوجي للبشر، وتعرِّض مجموعاتٍ متزايدةً منهم للملاحقة والرقابة (من المهاجرين إلى المنشقين والأقليات وضحايا الأوبئة والجوائح.. إلخ).

إنها حرب أهلية عالمية، تعيش في ظلها مختلفُ المجتمعات صراعاتٍ داخليةً مستمرةً، حيث يكون العدو هو المواطن ابن البلد نفسه وليس الدولة الأجنبية.

الفرق الأساسي بين أطروحة «بتز» ونظرية «أغامبن» هو أن الباحث الاستراتيجي البريطاني يوجه النظرَ إلى ظواهر التصدع والتفكك المتزايدة في المجتمعات الغربية، التي تعيش أوجهاً مختلفةً مِن الصراع الداخلي المتولِّد عن عجز الدولة المركزية عن احتواء الانشقاقات الناتجة عن عوامل التطور الذاتي والانفتاح الخارجي، بينما يركز أغامبن على تركيبة الدولة ذاتها من حيث مقوماتها القانونية والسياسية في تدبيرها للمجال العمومي وعلاقات مواطنيها في ما بينهم.

في الحالة الثانية، نلمس بعضَ المحددات النوعية المتعلقة بطبيعة الدولة الليبرالية الحديثة التي قامت على منطق الفصل بين الاعتبارات المعيارية الجوهرية والأدوات الإجرائية التنظيمية التي هي مجال الحوكمة القانونية والإدارية، وفي الحالة الأولى تَظهر المعطياتُ الراهنة التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة السيادية والعودة إلى وضعية «حرب الكل ضد الكل» التي تحدث عنها توماس هوبز.

ولئن كان الفيلسوف القانوني الألماني كارل شميت قد نبّه في منتصف القرن الماضي إلى أن منطق الدولة الليبرالية الحديثة يفضي ضرورةً إلى نمط جديد من الحرب أطلق عليه مقولة «الحرب الكلية»، فإن المفكر الفرنسي ميشال سر تحدث عن ما سماه ظاهرة «التاناتوقراطية» التي هي حصيلة اقتران العلوم والتقنيات والسياسة المؤدي إلى تكريس مخاطر الموت على نطاق واسع. وبالنسبة له، ليست الحرب حدثاً عارضاً أو احتمالاً نظرياً، بل هي نتيجة حتمية للاستخدام الممكن للأدوات التي أبدعتها الحداثةُ التقنية والسياسية. فعبر التقنيات الراهنة، أصبحت الإنسانية لأول مرة في وضع يخول لها أن تقوض التوازنات الطبيعية والاجتماعية الضابطة سابقاً للسلم الأهلي والمدني، بما ينعكس راهناً في الأزمات المناخية والصحية والأمنية التي تعصف بالدول الكبرى، من حيث كونها ستعرف أوضاعاً من الفتنة الداخلية لا تختلف في شيء عن الحروب الأهلية الفظيعة التي تشهدها بلدان عالم الجنوب الفقيرة.

ليست هذه الأفكار من شطحات الفلاسفة أو تشاؤم الباحثين الاستراتيجيين، بل إن بعض الزعامات السياسية الحالية، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمفكر الفرنسي جاك أتالي، نبّهت إلى جدية هذا الاحتمال الذي له مؤشراته الكثيرة في الواقع الراهن.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 أغسطس 2025 23:45

في النصف الأخير من القرن العشرين راجت أحاديث النهايات. نهاية الجغرافيا، ونهاية الإنسان، ونهاية الفلسفة، وهذه النهاية تحديداً أي نهاية الفلسفة هي ما سأشرحه بهذه المقالة.

كتب الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر كتابه بعنوان: «نهاية الفلسفة ومهمة التفكير» عام 1964. أسس لفكرته بتبريريْن اثنيْن، أولهما: أن الفلسفة قد بلغت ذروتها ولم تعد قادرة على تقديم المزيد من الإجابات حول الوجود.  ثانيهما: أن الفلسفة قد بلغت وهجها مع اليونانيين، وانتهت مع هيغل، وبالتالي لم يبق إلا «التفكير التأملي العميق»، وهذا الشطر الثاني من عنوان كتابه.

من بعده هرع الفلاسفة وبخاصةٍ الفرنسيين منهم بغية تحويل هذه الفكرة إلى نقطة تحوّل، ومن هنا بدأت أفكار فلاسفة الاختلاف الذين وجدوا في مفهوم «التقويض-Destruktion» أساساً لبناء مشاريعهم المتمايزة، ولكن الأرضية التي انطلقوا منها واحدة، صحيح أن نيتشه أثر عليهم ولكن تأثير هيدغر كان أكثر عمقاً، وأخصّ بذلك «جاك دريدا»، و«ميشيل فوكو»، و«جيل دلوز». لقد نزعوا عن الفلسفة هالتها. اعتبروها ساحة تمرين على فهم الأشياء كما في عنوان كتاب فوكو «الأشياء والكلمات»، وهو أهم كتبه. بينما جيل دلوز تساءل في كتابٍ مشترك مع فليكس غيتاري «ماهي الفلسفة» ثم أجاب: «هي صناعة المفاهيم».

 هذا الجوّ العام حول نهاية الفلسفة بالتأكيد خلق نظرياتٍ مؤثرة، ولكن الفلسفة خاتلتهم. ومجرد اشتغالهم بفكرة نهاية الفلسفة بطريقةٍ فلسفية يعني أن الفلسفة لم تنتهِ.

وظيفة الفلسفة باقيةٌ لأنها ساحة حربٍ نظريةٍ دائمة، كما يعبر الفيلسوف لويس ألتوسير في كتابه: «تأهيل الفلسفة للذين هم ليسوا بفلاسفة»، حيث كتب: «بالفعل ينبغي تَصوُّر الفلسفة، أي مجموع الفلسفات على اختلافها في كلّ حقبة، على أنّها ساحة حرب نظريّة. وكان كانط يطلق على الفلسفة السابقة، «فلسفة ما وراء الطبيعة» (الميتافيزيقا)، التسمية المذكورة تحديداً، (والتعبير له)، «ساحة حرب» (Kampfplatz)، كونه كان يطمح إلى تعميم «السلام الدائم» الذي تؤمّنه سيطرة الفلسفة النقديّة، (عن طريق تحقيق انتصار فلسفته هو دون سواها، ونزع سلاح الفلسفات الأخرى كافّة). ويقول: «ينبغي أن نضيف: إنّها ساحة حرب وَعِرة التضاريس، احتفرتها خنادق المعارك القديمة، وانتشرت فيها التحصينات الشائكة المهجورة التي احتُلَّت وتَكرَّر احتلالها، ساحة حرب حملت من الأسماء ما يحيي ذكرى المعارك التي تميّزت بشراستها، وتبقى عُرضة لانبعاث كتائب منبثقة من الماضي مجدَّداً، وملتحقة بالقوّات الجديدة التي تتقدّم».

الخلاصة، أن فكرة نهاية الفلسفة هي جزء من حيويّة المسار الفلسفي الدائم. إنها ليست مثل النهايات التي تتعلق بالاستراتيجيات أو الجغرافيا. الفلسفة فضاءٌ ممتد وله تحوّلاته وإرثه، وآية ذلك أن مقولات النهايات انتهت، وبقيت الفلسفة فعّالة ومفاهيمها مؤثرة على السياسات والعلوم بل وحتى على المستجدّات. الفلسفة بطبيعتها فضولية وهي الآن تتدخّل في موضوعاتٍ طبيّة وفنيّة وتقنيّة وآخرها صرعة الذكاء الاصطناعي الخارقة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يوليو 2025 23:45

في لحظاتِ الأزماتِ الكبرى، يتعلّقُ النَّاسُ بقشةٍ فكرية، يظنُّونَ أنَّها طوقُ نجاة، ويبدو أنَّ القشة التي تلوكها الألسنة هذه الأيام هي القول إنَّ العالم العربي ضحية الآيديولوجيا، وإن السبيل إلى الخلاص تكمن في التخلّي عن الأفكار الكبرى التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. غير أنَّ هذه مقولة زائفة، تستحق التمحيص الجاد. فالحقيقة أن العالم العربي، خلال مئة سنة ماضية، لم يُنتج آيديولوجيا واحدة متماسكة تفسّر عالمه، أو توضّح علاقة الفرد بمجتمعه، أو تربط النفس بالكون والدولة بالعالم. ما وُضع على واجهات الفكر كان إما مستورداً مشوّهاً، أو محاولات محلية سطحية، أو تلفيقات فكرية ادّعت الأصالة ولم تملكها.

إن ما نحتاج إلى التأكيد عليه هو أننا لم نكن يوماً ضحايا وفرة في الآيديولوجيا، بل كنا دائماً ضحايا غيابها. ضحايا فقدان الأفكار الكبرى، وضياع السرديات الجامعة التي تفسّر موقع الإنسان من الدولة والمجتمع. هذا المقال محاولة لتفكيك هذه الأكذوبة المتداولة، والتي باتت أشبه بحليّ «الفالصو» أو بالبضائع المقلّدة، كما يقول أصحاب العلامات التجارية الأصلية. وقد آن للأنظمة والدول أن تغلق شارع «الفالصو»، تماماً كما فعلت بلدية شنغهاي حين أغلقت سوق البضائع المقلّدة خلف فندق «الريتز».

أحد أبرز تجليات الزيف في العالم العربي هو تكرار مقولة إننا ضحايا الآيديولوجيا، مع أن الواقع يثبت أننا لم نعرف يوماً آيديولوجيا حقيقية حتى نُبتلى بها. ما عشناه قرناً من الزمان لم يكن صراع أفكار، بل هروب متواصل من إنتاجها. نعم، كانت هناك محاولات فكرية جادة، لكنها لم تُنتج نظرية كبرى. فعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري قدّما قراءة نقدية للتراث دون قطيعة أو تمجيد. وطه حسين، في كتابيه «في الشعر الجاهلي» و«مستقبل الثقافة في مصر»، وجّه نقداً للقومية المغلقة، ودعا إلى الانفتاح على المتوسط. وفهمي جدعان، في كتابه «المحنة»، مارس نقداً سياسياً ودينياً عميقاً. وحسن حنفي، في مشروعه عن «اليسار الإسلامي»، أعاد قراءة التراث كواقع تاريخي وظيفي. وهشام شرابي وفاطمة المرنيسي قاما بتفكيك البنى الأبوية السائدة... لكن كل هذه المشاريع، رغم قيمتها النقدية، لم تُنتج آيديولوجيا بالمعنى التفسيري الواسع.

ربما الاستثناء الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه هو كتاب جمال حمدان «عبقرية المكان» الذي يُعدّ أقرب ما يكون إلى تأسيس سردية مصرية خاصة، مستلهماً من فكرة «عبقرية المكان» (Genius Loci) التي هيمنت على الفكر الألماني، وظهرت بوضوح في كتابات هايدغر. ومع ذلك، لم يتحوّل هذا المشروع إلى نظرية سياسية واجتماعية شاملة.

ولذلك، فإنَّ الادّعاء بأن وفرة الآيديولوجيات هي ما أدى إلى انهيار الدول العربية، لا يصمد أمام اختبار التاريخ. انهيار الدولة في ليبيا واليمن وسوريا والصومال لم يكن نتيجة صراعات فكرية، بل بسبب غياب الرؤية الجامعة، والعجز عن إدارة التنوّع المجتمعي، وافتقار هذه الدول إلى آيديولوجيا توحّدها وتُضفي المشروعية على مؤسساتها.

والسؤال: ما الآيديولوجيا أصلاً؟ ببساطة، هي رؤية للعالم، تربط الفرد بجماعته، والمجتمع بدولته، والدولة بتاريخها ومستقبلها. هي النظام الرمزي الذي يفسّر لماذا نرى حكماً ما مشروعاً ونقبله، وآخر غير مشروع فنثور عليه. في الفكر الغربي الحديث، من ماركس إلى غرامشي، ومن ماكس فيبر إلى مدرسة فرانكفورت، كانت الآيديولوجيا شرطاً من شروط وجود السياسة؛ فلا دولة من دون سردية تبررها، ولا مجتمع من دون حلم مشترك يؤطره. حتى عند «الفلاسفة العرب» الكبار، من الفارابي إلى الكندي وابن رشد، نجد محاولات لبناء تصورات عن المدينة الفاضلة والحكمة السياسية، يمكن اعتبارها مشاريع آيديولوجية ضمن سياقاتها التاريخية، رغم أنهم لم يستخدموا هذا المصطلح.

أما في واقعنا الحديث، فقد تكرّست التشوّهات نتيجة غياب الفهم، وضعف التعليم، وهيمنة المجالس العامة على الثقافة السمعية. لهذا السبب ظنّ البعض أن عبد الناصر أو صدام حسين مثلاً كانا يمثّلان آيديولوجيا، في حين أنهما في الحقيقة كانا يمثّلان زعامة سلطوية فردية، لا تملك أي نظام إداري أو دستوري. لم تكن هناك أفكار ولا مشاريع، بل تكرار سلطوي جعل من أوهام الحكم سردية وطنية. وهذه ليست آيديولوجيا، بل زعامة بدائية أشبه بزعامات القبائل في المجتمعات التقليدية.

وفيما يخصّ التيارات الكبرى التي شغلتنا مثل الماركسية العربية أو الإسلام السياسي، فالأولى كانت استنساخاً هزيلاً لمقولات لا تناسب بيئتنا، كما ناقش عبد الله العروي مبكراً، وبيّن كيف أنها فشلت لأنها شتلة مستوردة غير قابلة للنمو في تربتنا. ماركسيتنا استخدمت أدوات تحليل طبقي في واقع لا طبقات فيه، ولا صناعة، ولا بروليتاريا. كانت ترجمة دون مشروع. أما الإسلام السياسي، الذي قُدّس في العصر الحديث، فقد بدأ واعداً، لكنه عجز عن تقديم نظرية سياسية حديثة. نصر حامد أبو زيد شرح هذا القصور الفكري بدقة، كما فعلت من قبله فاطمة المرنيسي التي رأت استحالة التقاء الفكر السلطاني مع مفهوم حديث للمواطنة.

الخلاصة أنه لم تكن لدينا آيديولوجيات لنتحدث عن فشلها أو عن أعبائها، بل نحن أمام فراغ فكري، سببه الأساسي عجز معرفي عميق. عجز في المؤسسات التعليمية، وفي الحريات العامة، وفي القدرة على إنتاج الأفكار. نحن بلا كتاب، وبلا معلم، وبلا مدرسة. نعيش عالماً بلا سردية، في زمن بلا مشروع أو مشاريع فكرية واضحة، أو بيئة قادرة على إنتاج أفكار محلية باسقة كنخيل البلدان.

***

مأمون فندي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الاثنين - 17 صفَر 1447 هـ - 11 أغسطس 2025 م

 

عوائق أمام استيعاب بعض مصطلحاته المحورية

في زمن تتكاثر فيه الفلسفات وتتعدد فيه القراءات لها، يظلّ اسم هيغل قائماً كقمة فكرية يصعب تجاوزها. فلسفته، التي شكّلت منعطفاً في تاريخ الفكر الغربي، لا تزال حتى اليوم تُثير الجدل وتُلهم وتُربك في آنٍ واحد. فمن جهة، يراه البعض ذروة الميتافيزيقا العقلانية، ومن جهة أخرى، يعتبر آخر الفلاسفة الذين سعوا لبناء نسق كلي للواقع. غير أنّ العودة إلى هيغل ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة لكل من يسعى إلى فهم تطوّر المفاهيم الكبرى مثل الحرية والتاريخ والذات والدولة والفن والدين ضمن بنية عقلانية متماسكة. لكن هذه العودة ليست سهلة، ففلسفة هيغل معقّدة من حيث اللغة والبنية، وتُثير حيرة حتى لدى القارئ المتقدّم.

من أبرز العوائق التي يواجهها المهتمون بفكره، هو صعوبة استيعاب بعض مصطلحاته المحورية التي تتكرر باستمرار، وتؤسّس لحركته الجدلية الكلية. فمصطلحات مثل «الروح»، و«الذات»، و«العقل»، لا تُستخدم عند هيغل بمعناها المألوف، بل تُعاد صياغتها داخل نسق خاص به، يجعل كل واحدة منها نقطة في مسار تطوّر الفكر نحو وعيه بذاته. ولهذا السبب اخترنا في هذا المقال أن نقف عند هذه المصطلحات الثلاثة تحديداً، لا لأنها الأكثر وروداً فحسب، بل لأنها تمثّل المفاتيح الجوهرية لفهم هيغل، وتشكل بنيته المفهومية العميقة التي يدور حولها مشروعه الفلسفي كله.

فالروح عند هيغل هي المفهوم الأوسع والأعمق، وهي ليست شيئاً خفياً أو دينياً بالمعنى التقليدي، بل هي الفكر حين يصير حيّاً، متعيّناً، مجسّداً في العالم، في الأخلاق، في القانون، في الدولة، في الدين، وفي الفلسفة. إنها حركة الفكر التي لا تبقى في الوعي الفردي، بل تتجسّد في التاريخ، وتظهر على ثلاث مراحل: الروح الفردية، وهي وعي الإنسان لذاته؛ والروح الموضوعية، وهي تحقق الفكر في المؤسسات الاجتماعية كالدولة والقانون؛ والروح المطلقة، وهي ذروة تطوّر الوعي، حيث يفهم الفكر ذاته بشكل صريح من خلال الفن والدين والفلسفة.

حين نعيش في دولة عادلة تقوم على القانون وتحترم حرية الأفراد، فذلك ليس مجرد وضع قانوني، بل هو تجلٍّ للروح التي اتخذت شكلاً مؤسسياً يُعبّر عن تطوّر الوعي الجمعي، تماماً كما أن الفن الرومانسي الأوروبي لم يكن مجرد تعبيرات فردية، بل كان تجلياً للروح الجمالية لعصر كامل. وانظر إلى إيطاليا، كيف تجسدت روحها في الفنون الجميلة، أكثر من تجسدها في الفكر. هناك بلاد أخرى تجسدت روحها في الدين بصورة أكبر، وهناك بلاد تجسدت روحها في الفكر والفلسفة أكثر مما نرى هذه الروح في الفنون.

أما الذات فهي ليست جوهراً ثابتاً كما تقرر الفلسفات القديمة، بل هي نتيجة لحركة جدلية. فهي الكائن الذي يُنتج ذاته عبر التجربة والنفي والعودة إلى الذات. الوعي لا يُعطى منذ البداية، بل يُكتسب ويتطور، والذات تبدأ بوصفها وعياً بسيطاً، ثم تصبح وعياً بالذات، أي ذاتاً تعرف ذاتها، ثم تتجاوز ذاتها لتندمج في الكل فتشارك في تشكيل الروح. مثال على ذلك نجده في صورة طالب جامعي يُدرك أنه «أنا» ويفكر في اختياراته وأفكاره، يعيش الذاتية، لكنه حين يدخل في المجتمع، ويتفاعل مع تاريخه ومؤسساته، فهو ينقل هذا الوعي إلى مرحلة الروح. وكذلك المؤمن حين يُفكّر في الله بوصفه يسمعه، فإنه يُمارس وعي الذات، لكنه إذا بدأ يرى الدين بوصفه ظاهرة تاريخية لها تطوّر ومعنى جمعي، يكون قد بدأ مسار تجاوزه نحو الروح.

وأما العقل، فليس عند هيغل العقل الأداتي أو الحسابي الذي نعرفه، بل هو القدرة على فهم الواقع من داخله، لا كفوضى، بل كنظام متماسك يتضمن التناقضات ويوحّدها. العقل يرى الترابط في كل شيء، ويفهم أن كل ظاهرة ليست منفصلة، بل مترابطة بتاريخها وسياقها. العقل يُقابل الفهم الذي يُجزئ ويُجرد، بينما هو يربط ويوحّد ويُظهر الضرورة. العقل هو ما يُمكّننا من أن نرى في التاريخ منطقاً داخلياً، وفي الصراع الأخلاقي بنيةً عقلانية، وفي الفن بنيةً رمزية تُعبر عن الوعي الجمعي. إن هيغل فيلسوف يبني نسقاً منطقياً يُظهر كيف أن الوجود يتحقّق عبر الصيرورة والتغير الذي لا يتوقف، وأن الحرية تنشأ من الضرورة. إنه يمارس فعل العقل. وكذلك من يُدرك في الفن بنية تتجاوز التعبير الفردي، أو في الدين تجربة جماعية لها تطوّر رمزي. بهذا المعنى، فإن الذات هي نقطة الانطلاق، والعقل هو أداة الفهم، والروح هي الذروة التي يتجلى فيها الفكر في العالم. الذات تُنتج وعيها عبر النفي والتجربة، والعقل يربط بين الأشياء ويفهم الضرورة في التناقض، والروح تُعبّر عن تحقق الفكر في التاريخ والثقافة والمؤسسات. هيغل لا يُقدّم هذه المفاهيم كتعريفات جامدة، بل كحركات فكرية حيّة تتداخل وتتكامل في سياق جدلي، لا يمكن اختزاله أو تجزئته، بل يُفهم كتطوّر شامل للوعي، من ذاته، بعقله، ليصير روحاً. في نهاية المطاف، لا يمكن فهم فلسفة هيغل من دون التوقف عند هذه المفاهيم الثلاثة: الذات، والعقل، والروح، التي تشكّل العصب الحي لنظامه الفكري. فهي ليست مصطلحات نظرية فحسب، بل حركات وجودية تتكامل داخل مسار الوعي. فالذات تبدأ، والعقل يربط، والروح تُحقّق. ومن خلال هذا التداخل الجدلي، يكشف هيغل عن منطق التاريخ ومعنى الحرية وتجلّي الفكر في العالم. وهكذا تصبح العودة إليه عودة إلى التفكير ذاته.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:  18:16-3 أغسطس 2025 م ـ 09 صفَر 1447 هـ

دفيد غودهارت فيلسوف بريطاني بارز، غدا له صيتٌ إعلامي واسع، وقد أصدر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «معضلة الرعاية»، يتناول فيه أثر السياسات الاجتماعية القائمة على المساواة بين الجنسين على وضعية الأسرة ومستقبل الخصوبة والإنجاب في المجتمعات الغربية الراهنة. لا ينفي غودهارت المكاسبَ الكبرى لسياسة المساواة الجندرية، من قبيل استقلالية المرأة القانونية والتربوية الاقتصادية، ونفاذها لسوق العمل، بما لهذه النتائج من آثار إيجابية على المجتمع بكامله، لكنه ينبه إلى بعض الآثار السلبية للراديكالية النسوية التي يميزها عن المطالب الحقوقية للمرأة.

ومن بين هذه الآثار النظرة السلبية للمحيط الأسري المستقر، وتثبيت نظرية الدخل الأسري المزدوج أفقاً أوحدَ للاقتصاد المنزلي، وتكريس النزعة الفردية المتطرفة المفضية إلى تدمير النسيج الاجتماعي وتفكيك البنيات التضامنية الطبيعية وتراجع نسب الإنجاب في البلدان الصناعية المتقدمة إلى حد النمو السالب في جل هذه الدول بما يعرض مستقبلَها للخطر الحقيقي. ما يميز غودهارت هو كونه لا يصدر في أفكاره عن توجه محافظ دينياً أو فلسفياً، بل يدافع عن قيم الحرية والتنوير والاستحقاق، لكنه يرى أن سياسات الرعاية الاجتماعية التي هي محور النظم العمومية في البلدان الغربية المتطورة أدت إلى اختلالات عميقة في بنية الأسرة والعلاقات بين الأفراد.

وفي هذا السياق، يكشف عن التصادم القائم حالياً بين مَن يسميهم «دعاة المساواة في العناية» الذين يرون أن مواقع الرجال والنساء قابلة للتبادل دون إشكال، فلا فرق نوعياً بين الجنسين، و«دعاة التوازن في العناية» الذين يؤمنون بفكرة المساواة لكنهم قلقون من تدهور وعدم استقرار الحياة الأسرية.

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أطروحة غودهارت تندرج في نطاق المراجعات الفلسفية الراهنة لمسار الحداثة والتنوير، والتي تقوم على مراجعة عميقة لمثال التقدم التاريخي من حيث كونه ليس مرجعيةً معياريةً كافيةً لتقويم المجتمعات وضبطها. هذه المراجعات ليست في ذاتها جديدة، بل يمكن إرجاعها إلى عصور الأنوار نفسها (لدى جان جاك روسو خصوصاً)، كما أنها برزت بقوة في النصف الأول من القرن العشرين في إطار مواجهة التيارات التسلطية النازية والستالينية (الظاهرة التوتاليتارية بلغة حنة ارندت).

لكن ما يميز النقديات الحديثة هو العودة إلى النقاش الجوهري حول الهوية الطبيعية للإنسان والتصورات البنائية للجسم الاجتماعي التي هي الخلفية العميقة لسياسات الاستقلالية والتحرر لدى العقل الليبرالي الحديث. ما فرض هذا النقاش الراهن هو الآثار المحورية للثورة التقنية الحيوية الكبرى التي عرفتها الإنسانية راهناً، في اتجاهين متلازمين هما من جهة انمحاء الحدود الراسخة بين الطبيعة والثقافة أو بين الآلة والإنسان، ومن جهة أخرى انهيار الحواجز بين المحلية الخصوصية والكونية المعولمة.

لقد كان من تأثير هذه التحولات إعادة طرح المسألة الجندرية، لا في أفق المساواة الحقوقية الذي هو مكسب ثابت من مكاسب الحداثة، ولكن من منظور الأمن الاجتماعي والاستقرار المدني. فعندما وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لدى مستهلِّ ولايته الرئاسية الثانية القرارَ التنفيذيَّ الشهيرَ الذي يحمل عنوان «الدفاع عن المرأة من التطرف الأيديولوجي بين الجنسين وإعادة الحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الفيدرالية»، لم يكن مذعناً للوبي الديني المحافظ الذي دعمه في الانتخابات، وإنما كان يَصدر عن الجدل المحتدم في بلاده بين موجة «اليقظة» التي قوضت كل التمييزات الطبيعية والموضوعية في الجسم الاجتماعي والحركة الحداثية التقليدية التي تعتبر أن مثل التغير والتحول لا بد أن يلتزما سقفاً معيارياً تحدده القيم الإنسانية الثابتة.

ومن هنا نستكشف الفرقَ بين الحركة النسوية الراديكالية التي اعتبرت أن التمييز بين الأجناس ليس سوى تركة ثقافية لا تقوم على محددات طبيعية، والنسوية الحقوقية التي تركز على قيم التكامل والتضامن داخل النظام الأسري. ما ترفضه النسوية الحقوقية في حركيتها الراهنة هو التضحية بمفهوم الأسرة من أجل المساواة الجندرية، بما ينعكس سلباً على وضعية المرأة ذاتها من حيث هي محور الخلية الأسرية التي هي مرتكز الاستقرار الاجتماعي.

لقد أصبح اليوم من العصي الجمع داخل المنظومة القانونية، للعديد من الدول الصناعية، بين حقوق المرأة وحقوق الطفل، بما يشكل ثغرةً خطيرة في البناء التشريعي والمعياري الراهن. الأمر هنا يتعلق بجدل لا يمكن أن يحسمه القانونيون والساسة، بل يتعين فيه الرجوع إلى القواعد القيمية العميقة للمجتمعات التي هي مستودع الذاكرة الإنسانية الطويلة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

10 أغسطس 2025 23:45

ما رأي القارئ الكريم لو أننا جعلنا عنوان هذه المقالة على صيغة سؤال فقلنا: هل الإنسان فعلاً كائن عاقل؟، خاصة أن لهذا السؤال ما يبرره على صعيد الفكر النظري.

تعددت تعريفات الإنسان، منذ أن بدأ سقراط يهتم بتحديد ماهيات الأشياء، وقد ورث أرسطو هذا المنزع، وعندما أراد أن يحدد ماهية الإنسان، جعل هذه الماهية نطقاً، فكان تعريفه الشهير «الإنسان حيوان ناطق»، تعريفاً بالجنس والفصل، على أساس أن الحيوانية جنس الإنسان، والنّطق هو ذلك الفصل الذي يفصله عن دائرة الحيوانية العجماء، فاعتبر أرسطو النّطق جوهر الكائن البشري. وقد نُظِرَ إلى النّطق من جهتين، جهة داخلية تختص بالتّفكير الذي ليس هو سوى حديث المرء مع نفسه، وجهة خارجية تختص بالكلام، باعتباره المعاني التي جاءت على ترتيب الملفوظات، والتي يريد المرسِل إيصالَها إلى مخاطَبه. وقد ظل هذا التعريف علَماً فلسفياً على هذا الكائن الفريد، حتى أننا وجدنا ديكارت يشرع أبواب العصر الحديث بـ«الأنا المفكر»، الدّال على الهوية الحقيقة للوجود الإنساني، فأصبح الكوجيطو دالاً على الماهية الحقيقة للإنسان، إذ لا وجود حقيقي للإنسان إلا من خلال التفكير فـ «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وقد اعتبر ديكارت العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي، ووضع له قواعد تنظم مناهج نظره، حرصاً منه على تسديد العقل وتحريكاً له نحو التّفكير الصّحيح.

وعندما جاء باسكال وتأمّل الإنسان، كان مما قاله: «أستطيع أن أتصور إنساناً بلا يد، ولا رأس، لكني لا أستطيع تصور الرجل ولا فكر له، فهو عندئذ حجر أو جماد»، وعندما تساءل: ما الإنسان؟، لم يجده سوى «قصبة مفكرة»، فالإنسان من حيث جسمه هو كالقصبة سريع السّحق، وأهون شيء يمكن أن يميته، «لكن الإنسان وإن سحَقه الكون، كما يقول باسكال، فهو لا يبرح أعظم قدراً مما يقتله، لأنه يعرف أنه يموت». إن قدر الإنسان عند باسكال في الفكر، ومن هنا يدعو، متّبعاً أستاذَه ديكارت، إلى العمل على حسن التفكير، إذ «كل قدر الرجل في فكره، والفكر إذن شيء عجيب لا يضاهَى من حيث طبيعته». كما يقول باسكال في خواطره.

وينتقد كلود ليفي ستروس هذا المنحى بانتقاده النّزعةَ الإنسانية التي حدّدت الإنسان في إطار ضيق جداً، في نظره، حين اعتبرته «كائناً مفكراً»، واعتبرته المصدرَ والمرجعَ لكل شيء، ويرى أن ما حصل في القرن العشرين من حروب طاحنة، بفظاعاتها الكبرى، ليس سوى نتيجة لأخطاء النّزعة الإنسانية، وريثة عصر الأنوار، في «تأليه العقل»، داعياً إلى تعريف الإنسان تعريفاً جديداً يُرى فيه «كائناً على قيد الحياة»، دفاعاً منه عن كل أشكال الحياة والمجتمعات الإنسانية.

حقاً، لم يكن تعريف الإنسان بأنه كائن مفكر هو التّعريف الوحيد للإنسان، فقد وجدنا مَن يعرِّفه «حيواناً سياسياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينظم حقلَه السياسي، ووجدنا مَن يعرفه «كائناً أخلاقياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينطلق من مبادئ أكسيولوجية ينظم بها سلوكَه الفردي والجماعي. ووجدنا مَن يعرفه «كائناً تاريخياً» على أساس أنه الوحيد الذي ينقل خبراته إلى الأجيال. لكن الرّجة التي سوف يحدِثها كلٌّ مِن شوبنهور بـ «إرادة الحياة»، وفرويد بـ «اللاشعور»، وداروين بـ«نظرية التطور»، سوف تعيد النظرَ في ماهية الإنسان بشكل يكاد يكون جذرياً، وسيترتب عن ذلك ظهورُ فلسفات جديدة ونظريات أخلاقية تُنظِّر لهذه الرجّة العلمية التي حدثت في الاقتصاد والبيولوجيا والتحليل النفسي. وما نراه اليوم من تغيرات في مجال الأكسيولوجيا ليس إلا نتيجةً لهذه الرجّة الكبرى في النّظر إلى الإنسان.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 أغسطس 2025 01:02

العالم الهولندي يرى أن الوعي هو الأساس الجوهري للواقع وليس المادة

في زمنٍ يكاد يهيمن المنهج المادي على الخطاب العلمي والفلسفي، يظهر صوتٌ مغاير، يجادل بأن الوعي هو الأساس الجوهري للواقع، وأن العالم المادي ينبثق من الوعي، وليس العكس. هذا الصوت هو برناردو كاستروب، الفيلسوف والعالم الهولندي الذي يدافع عن مدرسة فلسفية جديدة أسماها «المثالية التحليلية» تطرح فكرة جذرية قديمة-جديدة؛ الواقع ليس مادياً، بل عقلي في جوهره.

ولد كاستروب في نيتيروي بالبرازيل عام 1974، لكنه يحمل الجنسية الهولندية. وحصل على دكتوراه في الهندسة الحاسوبية من جامعة أيندهوفن، حيث ركز بحثه على الذكاء الاصطناعي والحوسبة القابلة لإعادة التكوين. ثم نال دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة رادبود، تناولت أطروحته فيها الأنطولوجيا وفلسفة العقل.

بدأ مسيرته المهنية في مؤسسات علمية رفيعة مثل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية بجنيف (CERN)، وبرز كعالم بارع في مجال النمذجة الحاسوبية. لكن اهتمامه لم يبقَ حبيس المختبرات وأروقة الأكاديميا. إذ شيئاً فشيئاً، أخذه عمله نحو الأسئلة الوجودية الكبرى؛ ما هو الوعي؟ ما هي المادة؟ هل يعكس العلم الواقع كما هو، أم هو مجرد تمثيل له؟ أسئلة دفعته إلى كسر الحدود بين العلوم النظريّة والفلسفة، وإطلاق مشروع فكري متكامل ونقد لاذع للفلسفة الماديّة، نشر في سياقه عشرات الكتب، والمقالات، ومقاطع الفيديو والبودكاست التي تشرح أفكاره للجمهور العريض.

مثالية كاستروب التحليلية تمثل في هذه اللحظة أعتى نقد موجه للفلسفة المادية التي تزعم أن العالم مكوّن من مادة فقط، وأن الوعي ظاهرة ثانوية ناتجة عن تفاعلات مادية في الدماغ. وفي كتبه مثل «لماذا المادية محض هراء؟» و«فكرة العالم»، يقدّم ما يسميه نظرية نقيضة تجعل الوعي أساس الوجود، وأن العالم المادي ليس إلا تمظهراً لهذا الوعي.

يستشهد كاستروب بما يُعرف في دنيا الفلسفة بـ«المشكلة المعقدة للوعي»، كما صاغها الفيلسوف ديفيد تشالمرز في مقالته الشهيرة بذات العنوان، التي تطرح سؤالاً تأسيسياً حرجاً؛ كيف يمكن للصفات الفيزيائية أن تشرح الخبرات الذاتية؟ كيف تفسر الكتلة أو الزخم أو التسارع مسائل مثل الإحساس بالحب، أو الخوف، حتى مذاق الفراولة؟ وجهة نظره؛ لا يمكنها ذلك، ولن يمكنها أبداً.

من هنا، يرى أن العقل لا يمكن أن يكون نتيجة للمادة، بل العكس؛ المادة هي مجرد شكل يظهر فيه العقل حين يُنظر إليه من الخارج. وكما أن الدموع على وجه الحزين لا تختزل الحزن ذاته، فإن الكون المادي لا يعكس جوهر الواقع، بل هو تمثيله الخارجي فقط.

ويقول كاستروب إن المادة، كما تفهمها الفيزياء الحديثة، لا تملك واقعية قائمة بذاتها. فهي تتحلل في النهاية إلى «حقول كميّة» مجرّدة، لا وجود محسوساً لها. بل إن هذه الحقول، كما يقول، «أدوات رياضية نفترض وجودها لأن العالم يتصرف كما لو كانت موجودة». أما الزمان والمكان، فهما أيضاً ليسا إطارين مطلقين كما ظنّ نيوتن، بل مجرد «طرائق معرفية» تساعدنا على فهم العالم، والفيزياء المعاصرة - خاصة مع نظريات النسبية العامة والجاذبية الكميّة – تؤكد ذلك؛ أن الزمان والمكان ليسا أساسيين، بل طارئان.

من هنا، ينتقد كاستروب الوضع الراهن، حيث يعامل كثير من العلماء الماديّة على أنها حقيقة لا جدال فيها، بينما هي مجرد فرضية تفسّر العالم بطريقة واحدة. لكنها، في رأيه، طريقة معيبة، تفتقر إلى التماسك، وتفشل في تفسير الوعي، وتقوم على نموذج كوني يعترف بأنه لا يفسّر سوى 5 في المائة من الكون، بينما يظل الباقي في ظلمة «المادة المظلمة» و«الطاقة المظلمة».

ومن هنا، يقدّم كاستروب استعارة بديعة؛ الواقع يشبه كتاباً مكتوباً بلغة مادية، لكنه يشير إلى ما هو خلفه، إلى المعنى. فإذا تعاملنا مع المادة بوصفها نهاية المطاف، أصبح العالم مسطحاً، خانقاً، خالياً من المعنى، أما إذا أدركنا أن المادة مجرد مظهر لعقلٍ كوني أعمق، أصبح الكون كله رسالة يجب فك شيفرتها.

في صلب رؤية كاستروب يقبع مفهوم الحب بوصفه القوة التي توحّد، وتقابل الخوف الذي يفرّق. عندما نؤمن بأننا كيانات منفصلة، نعيش في عزلة وانفصال. لكن إذا فهمنا أن كلّ ما نراه – من نجوم ومجرات إلى أجسادنا – ليس سوى تمثيل لمجال عقلي واحد شامل، فإننا نبدأ رحلة الاندماج من جديد في مصفوفة الكينونة، كما يسميها. وهذا الاندماج، في نظره، هو جوهر الحب.

وهو يعترف بأن نقل هذه الأفكار إلى جمهور علمي ليس بالأمر السهل. فالفلسفة تُجبره على استخدام لغة رمزية، بينما يتطلّب الخطاب العلمي دقة رياضية وتجريبية. واللغة، كما يقول، مشبعة بأطرنا المعرفية المسبّقة، فهي تُبنى على مفاهيم مثل المكان والزمان، ليست بالضرورة موجودة في الواقع الموضوعي. لذلك، فإن إحدى المهام الأساسية لديه هي تفكيك فكرة أن الإدراك يعكس العالم كما هو. لا، بل الإدراك مشفّر، انتقائي، متحيز. إنه واجهة تشغيل، لا نافذة شفافة. وهذا يجعل من التفكير الفلسفي الميتافيزيقي ضرورة، لا ترفاً.

يدرك كاستروب أن كلمة «ميتافيزيقا» قد تثير عند البعض صوراً روحية أو غامضة أقرب للصلاة والتصوّف، لكنه يُعيد تعريفها ببساطة؛ هي دراسة ما هو موجود. الفيزياء تدرس كيف تتصرف الأشياء، أما الميتافيزيقا فتسأل؛ ما هي الأشياء أصلاً؟

لكن هل تبقى هذه الأفكار طليقة سماء التجريد وملاعب الجدل الفلسفي فحسب؟ ليس بالضرورة. إذ يرى أن تبنّي هذا النموذج المثالي التحليلي للعالم يمكن أن يغيّر طريقة فهمنا للذات، وللرعاية الصحية. فإذا كنا في جوهرنا كائنات عقلية، لا مادية، فإن الصحة العقلية يجب أن تُعامل كأساس، لا كمجرد بعد ثانوي. وحينها، يصبح العقل وسيلة للشفاء، لا مجرد متلقٍّ للعلاج.

قد يتفق المرء مع كاستروب، أو يختلف معه. لكن المؤكد أن ما يقدّمه ليس مجرّد طرح فلسفي آخر، بل دعوة حقيقية لتوسيع أفق فهمنا للوجود، وإعادة النظر في كثير من البديهيات والمسلمات. ونصيحته؛ لا تأخذوا «الواقع» كما يُقدَّم لكم. راقبوا، واسألوا، وتأمّلوا. فقد تكون «المادة» مجرّد قناع يرتديه العقل.

***

لندن: ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 أغسطس 2025 م ـ 12 صفَر 1447 هـ

العالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة

النخب الفكرية حين تغرق في التراث تقوم بتحريك العامة (التواصل الاجتماعي)

ملخص: الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".

هل يعد الارتباط الهوسي والمهووس بالتراث وبالماضي كما هو عند العرب ومسلمي المشرق حالاً مرضية، هل هو رهاب من المستقبل؟ هل هو خوف من الآخر؟

فعلاً، هي حال غريبة تلك التي تتعامل بها النخب الفكرية والفلسفية والأدبية العربية والمغاربية الراهنة مع التراث الإسلامي، هذه الحال عاشها أجدادنا ومارسوها منذ نهاية القرن الـ18 ونعيشها نحن اليوم ويواصل عيشها الجيل الجديد، ودائماً بالحماسة نفسها، بل بتشنج، بل بتطرف يتزايد يوماً بعد آخر.

هل نحن مرضى بالماضي وهل لنا منقذ منه، على المدى القريب أو المتوسط؟

حين نريد أن نتحرر منه نتحدث عنه، وحين نريد أن نفتخر به نتحدث عنه، فهو في الحالين حاضر وضاغط وحاسم في تقرير مصيرنا وتحديد مستقبلنا.

حال الغرق في التراث هذه يعيشها تيار اليسار الفكري كما يعيشها التيار الإسلامي والليبرالي على حد سواء وربما قوة الحضور نفسها مع الاختلاف في شكل المداخل.

نحن على أعتاب الربع الثاني من القرن الـ21 وما زلنا نتخاصم حول أمور وقعت أو قيل إنها وقعت قبل 15 قرناً، في طرق إدارة الشأن العام والخاص وفي الاجتماع والوضوء واللباس والأكل والبنوك والزواج والطلاق والختان والحروب ونشوء اللغات ومفهوم العدو والصديق والآخر الذي ليس من ديننا ومتع الجنة وأهوال الجحيم.

سؤال النهضة الأول قام في مركزيته على مساءلة التراث وحوله، وعصرنا الذي هو عصر الذكاء الاصطناعي، أو هكذا يجب أن يكون افتراضاً، لا يزال يطرح السؤال نفسه وربما بطريقة أكثر تخلفاً وأكثر انغلاقاً وتطرفاً.

 نخبنا، حتى التنويرية منها، لم تتحرر من فخ "الاتباع" حتى وهي تختلف، حتى وهي تنتقد، لأن في اختلافها وانتقادها تكراراً لهوس معرفي تاريخي- ديني يدور في حلقة مفرغة أو يكاد.

وما زالت النخب الراهنة من الجيل الجديد تقرأ وتناقش وبحماسة تصل إلى حد الخصومة القبلية أو الطائفية أو الإثنية ما كتبه الجابري أو هشام جعيط أو حسين مروة أو الطيب تيزيني أو محمد عمارة أو حسن حنفي في مشاريعهم الفكرية حول التراث الذي يعود لـ15 قرناً، مع احترامي الكبير لجهودهم، وكأن ما تساءل عنه هؤلاء هو أمر حدث البارحة أو قبلها بقليل، وكأن هذا الذي حدث يهم العالم الذي يحيط بنا في فهم واجتياز محنة الفقر والحروب والمجاعة والعلوم واختلال المناخ ومحاربة الأوبئة واكتشاف الفضاء.

النخب في العالم الغربي، على اختلاف توجهاتها، وضعت بينها وبين ماضيها وتراثها مسافة للتأمل، لم تتنكر له ولكنها تحررت من ضغوطه، ودخلت معترك السؤال الجديد المرتبط بالعمل والإنتاج والعلم والحرية والديمقراطية والتداول على السلطة والتعليم والعمران والمساواة والموت والخلود.

إن هذا الذي تغرق فيه نخبنا الفكرية والفلسفية والأدبية منذ قرن ونصف القرن في علاقتها المتوترة مع التراث ومع الماضي تجده ينتقل وبصورة مباشرة إلى العامة ويتحول من نقاش معرفي، أو هكذا يفترض، إلى صخب سياسوي شعبوي لا جدوى من ورائه سوى تكريس الماضي بجراحه وانشقاقه كبديل عن الحاضر وكغشاء سميك يحول دون تأمل وقراءة المستقبل وصناعته ضمن عالم يحيط بنا يعيش على إيقاع حضاري وعلمي وتكنولوجي متسارع.

والعالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة تارة وببكاء على الأطلال تارة أخرى وبزهو منفلت ثالثة.

متأكد أن نخب العالم الحديث والمعاصر، هذا الذي من حولنا، ستستغرب من وضعنا لو أنها أدركت أننا ما زلنا نناقش قضايا حدثت أو روي أنها حدثت منذ 15 قرناً، وما زلنا نناقشها بكثير من الحماسة والخصومات التي تنعكس وبصورة مباشرة على القرارات السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والتربوية والعمرانية في بلداننا.

والنخب الفكرية حين تغرق في التراث، من باب التخمة الفكرية، تقوم بتحريك العامة على وسائل التواصل الاجتماعي فيختلط الحابل بالنابل وتسود الفوضى ويتزعزع الانضباط الذي هو من مسؤولية مؤسسات الدولة التي عليها أن تفرضه من خلال ترسانة من القوانين والمسطرات، فكلما شعرت الدولة ومؤسساتها بالخوف من العامة المنساقة وراء سراب الماضي، تبدأ بالتنازل والتراجع خطوة إلى الوراء في فرض الانضباط، وأمام هذا التراجع يبدأ النظام السياسي بممارسة سياسة قبض العصا من الوسط، ويبدأ بلعبة التوازن الداخلي المكذوب على حساب مستقبل التنمية المستدامة البشرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.

أعتقد، وأقول هذا بكل وضوح، بأنه وما دامت نخبنا الفكرية والأدبية الراهنة لم تتمكن من التحرر، المبني على القراءة والتجاوز، من هذه المشاريع الفكرية التي كتبها هؤلاء (حسين مروة ومحمد عمارة وحسن حنفي وهشام جعيط والطيب تيزيني وعابد الجابري وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد...) وتنتقل وبشجاعة إلى التأسيس لأسئلة جديدة تتقاطع مع أسئلة نخب العالم الذي نعيش فيه، أسئلة حول العلوم والتكنولوجيا والمناخ والحرية والديمقراطية وثقافة المؤسسات والمنافسة والمواطنة والمساواة والطب والفضاء والعمران والفنون الجميلة... إذا لم تحقق نخبنا ذلك، فإننا سنعيد إنتاج فكر منقرض وسنعيد بناء عقل منقرض وسننتج مواطناً معوقاً يعيش خارج التاريخ أو يمشي عكس التاريخ، يمشي سعيداً نحو هاوية الانتحار، وهو ما يحدث يومياً أمام أعيننا في مجتمعات الشرق الأقصى وشمال أفريقيا.

تحتاج النخب المعاصرة إلى خوض معركة فكرية شجاعة ومفتوحة لمواجهة الواقع المتردي، وأولى الجبهات التي تخوضها هي عدم السقوط في إرضاء العامة "الغوغاء" التي تعيش في حال من الغيبوبة التي زرعتها القوى السلفية، وثاني جبهاتها تنبيه الدولة وتذكيرها بمهماتها الدستورية المتمثلة في حماية المواطن والدفاع عن المواطنة، من خلال فرض الانضباط في المجتمع، والانضباط لا يعني مطلقاً القمع.

وما نلاحظه من فوضى في السلوك الاجتماعي الفردي والجماعي في القرى والمدن، وضمن المؤسسات وفي الساحات العامة، والمعروضة بوضوح على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة (فرض طقوس معينة في الشواطئ، حادثة تخريب تمثال امرأة عين الفوارة بسطيف في الجزائر، ما يحدث في كثير من المدارس من ممارسات لا علاقة لها بالتربية والتعليم، ما يقدم من برامج في كثير من القنوات التلفزيونية من دجل وخبل باسم الدين كما يفهمونه، فرض نوع من الألبسة على المواطنين، إطلاق فتاوى متعارضة مع فكرة المواطنة...) كل هذا يؤكد على غياب ثقافة الانضباط التي هي من مسؤولية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها.

وإن انزلاقاً، قد يبدو في البداية صغيراً أو تافهاً، فيمر من دون معاقبة ومن دون مساءلة، إلا أنه سيتحول لا محالة، مع مرور الأيام، إلى ما يشبه ظاهرة كرة الثلج، سيكبر ويكبر حتى يدمر العالم ويدمر الفرد ويهدد كيان الأمة ومؤسسات الدولة.

وهناك انزلاقات كثيرة داخل مجتمعاتنا، حيث اختلطت المهام والمهمات، فالمعلم أصبح فقيهاً والدجال أصبح طبيباً والعالم أضحى خاضعاً لجاهل من خريجي التسرب المدرسي وسائق التاكسي أضحى مفتياً والأحمق أصبح منظراً استراتيجياً... وفي ظل هذه الخريطة الاجتماعية الملغومة والمخلوطة يتحول أي نقاش حول الماضي أو حول التراث إلى لغو وهذر، يغطي على أي خطاب جاد ومجتهد يحاول أن يدخل في أسئلة العالم المعاصر، بل يعاديه ويكفره.

إن الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".

***

أمين الزاوي - كاتب ومفكر

عن صحيفة اندبندت عربي، يوم الخميس 7 أغسطس 2025 0:12

 

مؤخراً رجع المفكر الأميركي الشهير فرنسيس فوكوياما عبر مداخلة منشورة في صحيفة «persuation» الإلكترونية إلى محاضرة الفيلسوف الألماني ليو شتراوس التي ألقاها في الولايات المتحدة سنة 1941 حول «العدمية الجرمانية». شتراوس، في محاضرته التي كتبت في أوج العصر النازي، يرجع الحالة العدمية التي كانت تمر بها وقتها بلادُه إلى أزمة عميقة تطال الحداثة الغربية نفسَها التي تعاني حسب رأيه من مرضَي التاريخانية والوضعية وما يترتب عليهما من إلغاء القيم الأخلاقية والفلسفية المطلقة. ما يميز الحركية العدمية هو التمرد ضد قيم التقدم والرفاهية والحرية الفردية من منظور الدفاع عن الروح الحضارية الأصيلة للغرب.

والحل الذي يقدمه شتراوس هو العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية وإلى القانون الطبيعي، أي إلى أفكار العدالة والنظام السياسي لتجاوز الآثار السلبية لفصل المعايير عن الوقائع أو الأخلاق عن السياسة. في تعليقه على محاضرة شتراوس، يرى فوكوياما أن الديمقراطيات الغربية الراهنة تعيش الآن موجةً قريبةً من هذه الحالة العدمية التي اجتاحت أوروبا أوانها. فالحركات الشعبوية القومية الصاعدة تحمل بشدة على الليبرالية وترى فيها تكريساً للنزوع الاستهلاكي الاستمتاعي وتنكراً للقيم الأخلاقية والوطنية وتعبيراً عن الانحطاط الفكري والاجتماعي.

إلا أن هذه التوجهات الشعبوية العدمية لا تقدم بالنسبة له أي بديل موضوعي ولا تستند لرؤية إيجابية مغايرة، بل يمكن أن تفضي إلى أخطر أنواع الاستبداد والانغلاق، وفق السيناريو الذي ساد ما بين الحربين.

وفي حين كان شتراوس يرى أن على الليبرالية أن تستوعب بعض المصادر من خارجها، مثل الرجوع إلى أفكار الطبيعة الإنسانية والشرع الإلهي، يرى فوكوياما أن الليبرالية الإنسانية الحديثة قادرة على توفير القيم المرجعية للبشرية المعاصرة، من مقومات ناظمة مثل الكونية والتسامح والحرية.. إلخ. وهنا نلمس جانباً من التعارض الجذري بين الليبرالية المحافظة التي يتبناها شتراوس والليبرالية التقدمية التي يدافع عنها فوكوياما.

النزعة الأولى، وإن حافظت على جوهر الرؤية الليبرالية في مقوماتها السياسية والقانونية، إلا أنها ترى أنها تعاني من خلل أساسي يكمن في ضمورها القيمي من حيث سماتها التقنية النفعية مقطوعةَ الصلة مع التقاليد الروحية والثقافية العميقة.

ومن هنا مطالبة شتراوس بالرجوع إلى أفكار الفضيلة الأرسطية والعدالة الوجودية والسياسة المدنية، مع الحفاظ على تركة التنوير والحداثة.

وفوكوياما، ككل الليبراليين التقدميين، يرى في غياب أسس معيارية ثابتة ومطلقة للنظام الليبرالي الحديث دعامةً قوية لقيامه وتشكله، باعتبار أنه مكتفي بالإجراءات القانونية والصورية المنظمة للحقوق والحريات في تصوره الموضوعي للعدالة في مجتمعات متنوعة ومتعددة من حيث التصورات الجوهرية للخير الجماعي. ومن ثم فإن أي محاولة لفرض سقف أخلاقي أو روحي للقيم المدنية المشتركة، ينتهك مبدأ التعددية والحرية، ويفضي إلى تكريس الاستبداد باسم الدين أو الأخلاق. في أيامنا هذه التي لا يتردد الكثير من القادة السياسيين في الغرب عن التبشير بنموذج الديمقراطية غير الليبرالية، أي فصل اعتبارات الشرعية السياسية المؤسسة على الانتخاب والمشاركة عن قيم النظام الاجتماعي القائمة على الحرية والتعددية، يتوجب إعادة طرح الموضوع الفلسفي لليبرالية من منظور نقدي جديد.

ولا تكفي هنا العودة إلى أفكار ليو شتراوس التي تعبر عن مأزق تأويلي بخصوص ما سماه موجات الحداثة الثلاث، ولا معنى للاحتفاء بالمطرقة النتشوية التي بلورت في نهاية القرن التاسع عشر أعنف نقد لليبرالية الحديثة في أسسها العقلانية الديمقراطية نفسها، بل المطلوب هو إعادة تصور العلاقة التلازمية بين الليبرالية والديمقراطية التي تعرضت في السنوات الأخيرة لتصدعات خطيرة.

صحيح أن الديمقراطية من حيث هي تعبير عن فكرة السيادة الشعبية وأولوية المجال العمومي على حقل الحريات المدنية، لا يمكن استيعابها نظرياً وعملياً في الفكرة الليبرالية التي تحيل إلى قيم الذاتية والفردية، ومن هنا ظهرت تاريخياً أشكال من الديمقراطية غير الليبرالية والليبرالية التسلطية.

إلا أنما يميز الديمقراطيات الحديثة هو هذا التوجه الليبرالي، الذي سمح لها بأن تجمع بين معايير المشاركة ومنظومة الحريات والحقوق الفردية، بما يعني التلازم بين سيادة الدولة كتعبير عن الإرادة المشتركة والمواطنة الحرة المتساوية. خلاصة الأمر، أن النقد المحافظ لليبرالية كما طرحه ليو شتراوس خلال الحرب العالمية الثانية، وإن كان لا يزال مدار اهتمام فلسفي واسع في أيامنا، إلا أنه لا يتعلق في شيء بأزمة الديمقراطيات الراهنة، باعتبار أن مشكلها ليس نضوب الأفق القيمي والأخلاقي، ولكن الانزياح داخلها بين منطقها السياسي وأفقها الليبرالي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 أغسطس 2025 22:57

فيلسوف فرنسي يستعيده بوصفه «عاطفة ثورية»

في كتابه اللافت «فلسفة العار: عاطفة ثورية» الذي صدرت ترجمته للإنجليزية مؤخراً*، يخوض الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو مغامرة فكرية جدّ فريدة: استعادة العار من ظلال التحقير النفسي والمجتمعي، والبحث فيه بوصفه قوة أخلاقية وسياسية وتحررية. فمنذ بدايات الحداثة، ظل العار في الخطاب الفلسفي والنفسي الغربي إما مهمشاً وإما مختزلاً كأحد الأعراض المرضية، بينما يقترح غرو قراءة جديدة له، تستعيد قدرته على إشعال اليقظة، وكشف التناقضات، ودفع الذات والجماعة نحو الاعتراف، والتحول، والتغيير.

ينطلق الكتاب من تأسيس دقيق لفهم العار، عبر التمييز بينه وبين الشعور بالذّنب؛ حيث الشعور بالذنب يرتبط بفعل خاطئ تجاه الآخر، يمكن تبريره أو التكفير عنه، أما العار فهو متعلق بالذات نفسها، بهويتها، بكينونتها كما يراها الآخر. الذّنب يقول: «لقد أخطأت»، أما العار فيهمس: «أنا خطأ». ويرى أن هذا الفرق الجذري هو ما يجعل العار أكثر قسوة، وأكثر استعصاء على العلاج، ولكنه أيضاً أكثر صدقاً؛ لأنه يكشف هشاشة الإنسان أمام نظرة المجتمع والمعايير، وأمام ما يظنه المرء عن نفسه حين يتموضع في عيون الآخرين.

ويرسم الفيلسوف لقرائه خريطة تاريخية لتحولات العار من المجتمعات التقليدية التي كان فيها شعوراً جماعياً مرتبطاً بمفهوم الشرف والكرامة، إلى الحداثة حينما تم تفكيك الجماعة وتحويله إلى شعور خاص يُربط بالفشل الفردي، أو الانحراف عن المعايير التي تشكلها النخبة. ويشير في ذلك إلى أن هذه (الخصخصة) له لم تكن تجربة تحررية، بقدر ما كانت وسيلة جديدة للضبط الاجتماعي؛ خصوصاً في المجتمعات البرجوازية التي أعادت إنتاجه داخل الأسرة، وعبر الدين الرسميّ، والعلاج النفسي، والتعليم، بحيث يصبح النساء والفقراء والمهاجرون مثلاً أكثر عرضة له، لا بسبب أفعال اقترفوها؛ بل بسبب ما هم عليه: هويتهم، ولون بشرتهم، ومظهرهم، وأزياؤهم، وأصواتهم، وميولهم، وما إلى ذلك.

يخصّص غرو في نصّه فصلاً للحديث عن العار في العصر الرقمي، ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أعادت إنتاجه، ولكن بشكل سطحي واستعراضي، من خلال ما صار يعرف بـ«ثقافة الإلغاء» التي هي تعبير عن رغبة في القصاص الأخلاقي، ولكنها غالباً ما تتحول إلى مهرجان جماهيري للسخرية والتشهير، الغاية منه إذلال «الآخر» في الفضاء العام، لا مساءلته بالفعل، ما يجعله أشبه بطقوس تطهر جمعيّ: أداة فاعلة للتنمّر الأخلاقي لنبعد عن ذاتنا خطر الاتهام، عبر توجيهه إلى جانٍ مفترض، فنبقى «نحن» في منأى عن الشّبهة. وهكذا، أصبح العار أداة لتعزيز الهوية الفردية الزائفة، لا لبناء تضامن حقيقي.

في أحد أكثر الفصول إثارة للجدل، يقترح غرو إعادة توجيه هذا العار بدلاً من الفرار منه؛ إذ يمكن أن يكون منبعاً لغضب خلّاق ناتج عن الشعور بعدم العدالة، وعن الإحساس بأن ما يحدث لا يمكن احتماله. ولذلك فهو شعور لا يفتك بنا؛ بل يدفعنا إلى التعبير، وإلى الفعل، وإلى قول «لا». من هذا المنظور هو ليس نهاية للوعي؛ بل لحظة ولادته: عند إدراك أن الصمت لم يعد ممكناً، وأن التحمل لم يعد خياراً، وهكذا، يصبح وكأنّه نقطة انطلاق للتغيير، لا كارثة نفسية.

العلاقة بين العار واللغة محورٌ أساسي في فكر غرو. فهو يعتقد بقدرته على احتراف الصمت وتكميم الأفواه، ولكنه في الوقت نفسه يولّد رغبة في الإفصاح. وبين السكوت والقول تكمن مساحة التحول: فإما أن يغلق الأفواه إلى الأبد، وإما أن يكون دافعاً ثوريّاً للكشف، والبوح، والتصريح.

وفي هذا السياق، يستشهد غرو بتجربة الكاتبة الفرنسية آني إرنو –حائزة نوبل للآداب 2022- التي حوّلته إلى مشروع أدبي وسياسي، بالكتابة عن الفقر، والرغبة، والإجهاض، والعلاقات الطبقية، فصنعت من تجربة الشعور به شهادة ذاتية وجماعية، تعاقر الألم في قلب اللغة.

من الطروحات الأساسية في الكتاب أن العار لا يكون بالضرورة نتيجة لفعل مُرتكب؛ بل يمكن أن يكون شيئاً يولد الإنسان به؛ يرثه الأبناء عن الأمهات، ويحمله الفقراء دون أن يعرفوا بالضرورة أسبابه، وتضعه المجتمعات في عنق أقليات بأكملها. هذا ما سمَّاه غرو بـ«العار الموروث»، وهو عار غير مستحق، ولكنه يلاحق أصحابه كلعنة أبدية. ومن هذا المدخل، يغدو تجربة وجودية لا ظرفية، ونقطة تقاطع للفردي بالجماعي، وللنفسي بالسياسي، وللذاتي بالاجتماعي.

يقول غرو إن العار يُجرَّم في زمن السعادة الشكلية، وثقافة «التنمية الذاتية» المبتسرة؛ لأنه يُفقد الناس شعورهم بالكمال الزائف، ولكنه يعدُّ ذلك خيانة للصوت الداخلي الذي ما يلبث يقول للمرء إن هناك ثمّة ما لا يُحتمل، وما لا يمكن السكوت عنه. وفي هذا المعنى، يكون الشعور به بمثابة رفض للاستسلام، ومناهضة للاعتياد. ولذلك يقترح النصّ تبني أخلاقيات جديدة مقابل تلك القائمة على العقاب أو الثواب، تبدأ من الشعور بالعار، لا بوصفه انكساراً؛ بل بوصفه إحساساً بالمسؤولية، ليس تجاه القانون فحسب؛ بل تجاه الآخرين، وتجاه الذات. وبهذا المنطق، لا يعود شعوراً يجب التخلص منه، ولكن مهلة للتفكير، والتدبر، وإعادة النظر. فمن يشعر به، إنسان لم يمت قلبه بعد، حيّ بما يكفي ليغضب، وليرفض، وليتساءل، وربما ليغيّر ويتغيّر.

لعل أبدع الأفكار تلك التي تتعلق بالصداقة؛ حيث الصديق الحقيقي ليس فقط من لا يخجل المرء أمامه؛ بل من يقدر أن يخجل أمامه، فيبوح له بعاره دون أن يخشى حكماً مطلقاً أو إدانة. ويذهب في ذلك أبعد، ليعيد تعريف الفلسفة نفسها بوصفها «العار الكبير»: الفلسفة -كما مارسها سقراط- ليست تعليماً؛ بل إرباكاً، وليست إجابة؛ بل أسئلة محرجة؛ إذ تجعلنا نخجل من الجهل، ومن الكذب، ومن الشعارات الجوفاء، وتدفعنا إلى قول الحقيقة ولو أمام مرآة ذاتنا. ومن هنا فالشعور بالعار كما بوابة أمل، ووعد خلاص، وأفق لغد أكثر بياضاً.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:30 يوليو 2025 م ـ 05 صفَر 1447 هـ

وجدت أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف

بدايةً، لنستعرض تاريخ البابوية منذ القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين. وهي الفترة التي خاضت فيها الكنيسة الكاثوليكية البابوية أوج الصراع مع ذاتها قبل أن يتمخض ذلك عن حدث سعيد: ألا وهو تصالح المسيحية مع الحداثة بعد طول عراك وصراع. وهكذا انتقلت الكنيسة المسيحية من مرحلة الرفض المطلق للحداثة عام 1864 إلى مرحلة القبول المتصالح معها عام 1965. خلال قرن واحد فقط حصلت أشياء وأشياء و«جرت المياه من تحت الجسور»، كما يقول المثل الفرنسي. لتوضيح كل هذه الأمور دعونا نعود إلى الوراء قليلاً. في عام 1864 أصدر البابا بيوس التاسع رسالته الشهيرة التي أدان فيها العصور الحديثة جملةً وتفصيلاً. لقد أدان أخطاءها المزعومة كالعقلانية، والليبرالية، والاشتراكية، وحرية الضمير والمعتقد، وحرية التدين أو عدم التدين: أي حرية الالتزام بالطقوس والشعائر المسيحية أو عدم الالتزام بها على الإطلاق.

باختصار شديد لقد أدان هذا البابا الأصولي المتشدد الحضارة الحديثة بمجملها واعتبرها كفراً صراحاً ما بعده كفر. ماذا يفعل قادة الأصولية الإسلامية اليوم؟ ماذا تفعل الثورات المضادة السائدة حالياً في العالم العربي؟ عنيت الثورات الرجعية الظلامية التي تمخض عنها ما يُدعى بالربيع العربي؟ ولكن الفاتيكان تخلى الآن عن كل هذه الفتاوى المكفرة للحداثة. لقد تغير وتطور وتجدد. لندخل في التفاصيل أكثر. ينبغي العلم أن الفتوى اللاهوتية الكبرى التي سادت العصور الوسطى في أوروبا كانت تقول ما فحواه: «خارج الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية المقدسة لا نجاة في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله». وهذا يعني أنهم كانوا يكفرون جميع الأديان الأخرى، ما عدا المسيحية. بل وحتى داخل المسيحية ذاتها كانوا يكفرون كل المذاهب الأخرى ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي الفاتيكاني الذي يمثل الأغلبية أو الأكثرية العددية. ولذلك كان هذا المذهب يعتبر نفسه بمثابة الفرقة الوحيدة الناجية في المسيحية. بالتالي فكل ما عداهم كفار. وهذا التكفير كان موجهاً ضد المذهب البروتستانتي بالدرجة الأولى.

وقد ظل الأمر على هذا النحو طيلة قرون وقرون حتى انعقد المجمع الكنسي التحريري التنويري المشهور باسم الفاتيكان الثاني بين عامي 1962 - 1965. وهو المجمع اللاهوتي الكبير الذي صالح بين المسيحية والحداثة. لقد شكل ثورة لاهوتية حقيقية داخل المسيحية الكاثوليكية. ولذلك اعتبره البعض أهم حدث تاريخي يحصل في القرن العشرين كله. فقد اعترف الفاتيكان آنذاك بالمذاهب المسيحية الأخرى وتصالح معها بعد طول تكفير وزندقة وتحقير. ووضع بذلك حداً لحروب الطوائف والمذاهب المسيحية في أوروبا. كما وضع حداً لمقولة الفرقة الناجية الوحيدة داخل المسيحية. كل الفرق ناجية بشرط أن تصدق النيات وتحسن الأعمال. الدين حمال أوجه وتفاسيره متعددة ومختلفة بالضرورة. وهناك طرق عديدة تؤدي إلى الله لا طريق واحد. وفي النهاية الدين لله والوطن للجميع. بل وكل الناس الطيبين الفاعلين للخير هم من الفرقة الناجية أياً كانت أديانهم ومذاهبهم، أو حتى لو كانوا خارج نطاق كل الأديان والمذاهب.

هنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى وعقلية العصور الحديثة. هنا تكمن قطيعة الحداثة أو نقلة الحداثة التي لا تزال تستعصي علينا نحن العرب والمسلمين حتى اليوم. بل واعترف مجمع الفاتيكان الثاني بمشروعية الأديان الأخرى غير المسيحية وفي طليعتها الإسلام: العدو التاريخي. وكان ذلك حدثاً جللاً عظيماً. وقال البيان في تصريحه النهائي ما معناه: إننا نحترم المسلمين ونقدر إيمانهم بالله واليوم الآخر، ونريد أن نطوي صفحة الماضي السوداء الأليمة معهم نهائياً، ونفتح صفحة جديدة.. إلخ. من يصدق ذلك؟ وهذا يعني أنه حتى الثوابت اللاهوتية الأكثر رسوخاً وديمومة يمكن تطويرها أو تغييرها إذا لزم الأمر. حتى الفتاوى التكفيرية يمكن تجاوزها، ولكن في العالم المتقدم، وليس عندنا للأسف الشديد. ثم اعترف المجمع التحريري والتنويري الكبير المذكور باليهودية والبوذية والهندوسية. بل وفتح مكتباً للحوار مع «غير المؤمنين» أو غير المتدينين وهم معظم سكان الغرب حالياً. إنهم غير مؤمنين بالعقائد التقليدية ولكنهم مؤمنون بقيم الفلسفة التنويرية العلمانية الحديثة التي أسسها كانط مثلاً.

هناك إيمان واسع سعة الكون وغير منحصر بدين معين أو مذهب محدد. إنه «إيمان بلا حدود»، إذا جاز التعبير. مثلاً ابن عربي كان من هذا النوع. كان مؤمناً بالإسلام ويعتبره أفضل الأديان ولكن قلبه أو عقله كان يتسع للأديان الأخرى أيضاً. ولم يكن يكفرها أو يزدريها على العكس. كان يأخذ من كل دين جوهره أو قيمه الروحية والأخلاقية العليا. والدين بهذا المعنى واحد للبشرية جمعاء. فهناك نواة أخلاقية مشتركة لدى الأديان الكبرى كلها: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب.. إلخ. الوصايا العشر... نحن في العالم العربي أحوج ما نكون حالياً إلى هذه النظرة الواسعة للدين والتدين. وذلك لكي نخرج من انغلاقاتنا التعصبية المكفرة لأتباع الأديان الأخرى. وبهذا الصدد ينبغي أن نشيد كل الإشادة ببناء صرح شامخ للأديان الإبراهيمية الثلاثة في أبوظبي. وهو حدث غير مسبوق في العالم العربي.

وهكذا اعترف المجمع الفاتيكاني الثاني بحرية الضمير والمعتقد لأول مرة في تاريخ المسيحية. بمعنى أنه يحق لك أن تتدين أو لا تتدين، أن تؤدي الطقوس والشعائر المسيحية أو لا تؤديها، ومع ذلك تظل إنساناً كامل الكرامة والحقوق. وهذا متوافق تماماً مع القرآن الكريم. جاء في الذكر الحكيم: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وجاء: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ وجاء: لا إكراه في الدين. ولكن كل التيار الأصولي السائد عندنا حالياً قائم على الإكراه في الدين! وبالتالي فأين نحن من ذلك الانفتاح الديني للمجمع الكنسي الفاتيكاني الثاني؟ أين نحن من آيات القرآن الكريم؟ هيهات. وهذا الانفتاح هو ما يُدعى بالتسامح أو الحرية الدينية. لماذا فعل كهنة المسيحية وفلاسفتها كل هذه الثورة اللاهوتية عام 1965، أي قبل ستين سنة بالضبط؟ لأنهم وجدوا أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف. لقد أدركوا أنهم إذا ما استمروا على موقفهم القديم المتشنج من الحداثة التنويرية فإنها سوف تهمشهم وتهمش الدين كله معهم. والواقع أن الشعوب الأوروبية المستنيرة كانت قد ابتدأت تنصرف عن المسيحية أفواجاً أفواجاً بسبب مواقف الكنيسة المتزمتة ومعاداتها للحداثة الفلسفية والعلمية والسياسية. وبالتالي فقد كان ذكاء من رجالات الكنيسة أن يقوموا بهذه الثورة اللاهوتية التجديدية. فقد استعادت المسيحية رونقها وجاذبيتها بعدئذ ولم تعد منفرة بالنسبة للإنسان الأوروبي. وعلى هذا النحو أصبحت صورة بابوات روما والفاتيكان إيجابية ومشرقة جداً بعد أن كانت سلبية طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. والفضل في ذلك يعود إلى ظهور بابوات كبار منفتحين على روح العصور الحديثة ومكتسباتها التي لا تقدر بثمن. ولكن مع رفض شططها وسلبياتها وانحرافاتها.

وراح هؤلاء البابوات الكبار المتنورون يعتذرون عن ماضي الكنيسة المعادي للفلسفة والكشوفات العلمية. فقد اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992 عن محاكمة الكنيسة لغاليليو وترويعها الشديد له عام 1633. كما واعتذر عام 1997 عن مجزرة سانت بارتيليمي بحق «إخوتنا» البروتستانتيين. وهي المجزرة الرهيبة التي حصلت في باريس بتاريخ 26 أغسطس (آب) عام 1572. صحيح أن هذا الاعتذار جاء متأخراً جداً: أي بعد أكثر من أربعة قرون! ولكن اعتذار البابا الكاثوليكي على الرغم من تأخره أعطى صورة إيجابية رائعة عن الكنيسة الكاثوليكية وأثلج صدر البروتستانتيين. بل وتراجعت الكنيسة مؤخراً عن إدانة داروين ونظريته الشهيرة في التطور. وعقدت مؤتمراً علمياً ضخماً في الفاتيكان لإجراء المصالحة بين العقيدة المسيحية ونظرية داروين.. إلخ، إلخ.. وهكذا صالحت بين العلم والإيمان، وبين الدين والفلسفة. من قال بأن التطور في مجال الشؤون الدينية مستحيل؟ من قال بأن فتاوى القرون الوسطى التكفيرية تمثل ثوابت الأمة وسوف تظل تتحكم برقابنا إلى أبد الآبدين؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 يوليو 2025 م ـ 04 صفَر 1447 هـ

في زمنِ الحرية المزعومة، حيث تختفي القيود الظاهرة، يطلُّ على العالم ما يمكن تسميته بعبودية جديدة، ترتدي ثوب التقدم، إنها «القيود الفكرية» التي تستعبد العقول قبل الأجساد، وتسرق إرادة التفكير بحرية، فهذه القيود المعاصرة هي تعبير عن حالة من التبعية العقلية والتوجيه القسري أو الناعم للفكر الإنساني، في تحول من عصرِ الأغلال الحديدية إلى عصرِ السلاسل اللامرئية، حيث تختطف عقولنا بلطف خادع عبر شاشاتٍ صغيرة نحملها في أكفّنا كل يوم، ليطغى علينا الإلهاء والتكرار والخوف كمنابر للاستعباد الحديث، والمثقف الموظف الذي حذّر منه «إدوارد سعيد» صار نموذجاً متجدّداً في عصرِ المنصات الرقمية، يبيع رصيده الفكري في مزاد المشاهير.

الأرقام ترسم خريطة المأساة، 78% من الشباب الغربي يتلقون أفكارهم عبر خوارزميات لا ترحم، و67% من النخبةِ الفكريةِ يعترفون بارتهانهم لضغوط المؤسسات، والجامعات التي كانت معاقل للتنوير صارت وكراً للقيود الأكاديمية، والإعلام الحر تحول إلى ماكينة «بروباغندا» ناعمة، حتى الدين والسياسة لم يسلما من تحويل النصوصِ إلى أقفال للعقل. والنتيجة؟ مجتمعات تشبه قطعان الماشية الفكرية التي تسبح في بحر المعلومات دون بوصلة.

فهناك قوى خفيّة تقنع ضحاياها بأنهم أحرار بينما هم مكبّلون بالقيود، هذا هو جوهر العبودية المعاصرة: أن تحمل سجنك في جيبك، وتقبل يد سجانك ظناً منك أنه محررك. فالخطر الوجودي ليس في الجهل، بل في الوهم بأننا نعرف وبأن الغموض هو بوابة الوضوح.

التحرر يبدأ بسؤال جريء: من تخدم الأفكار التي يعتقد البعض أنها تروق لهم أو تمثلهم؟ الشك الفلسفي ليس ترفاً، بل سلاحاً في معركة الوجود، فالتعليم الجديد يجب أن يصنع متمردين فكريين لا عبيداً ممتنين للأفكار الأكثر تداولاً وانتشاراً لنجوم عالم العلوم والمعارف والتقنيات المختلفة، وبالتالي استحالة مقاومة اقتصاد الانتباه، واقتصاد الانتباه: «هو نظام اقتصادي يعتمد على جذب انتباه المستخدمين لأطول فترة ممكنة، وغالباً ما يتم ذلك من خلال المحتوى الذي يثير المشاعر أو يسبب الإدمان، بهدف تحقيق أرباح من خلال الإعلانات أو بيع البيانات». ومن المهم استرداد ملكية العقول، بدلاً من أن تكتب في سجل عبيد العصرِ الرقمي: الحرية لم تعد حقاً يتم انتظاره، بل مسؤولية تتم صناعتها.

«القيود الفكرية» تسخّر الأوراق العلمية والتكنولوجيا المتقدمة، وتنشر البيانات والإحصائيات والبحوث الأكاديمية ليتنازل الفرد عن حقه في التفكير الحر، ويستسلم لسلطة المعرفة المعلّبة، ولا تتجلى القيود الفكرية فقط في الإعلام الموجه أو التعليم الذي يمجّد السلطة المعرفية التي لا تخطئ، وترسيخ رواية سطوة الذكاء الاصطناعي لإعادة نموذج التلقين، ولكن هذه المرة عبر الآلة، وطوفان من المعلومات يعجز العقل عن تصنيفها، فقد أصبح الإنسان اليوم عرضةً للتلاعب غير المرئي من خلال الخوارزميات الذكية، التي تقدم له ما يشبه الواقع.

فالمدهش أن القيود الفكرية تتم في الغالب برضا الضحية، بل وبشغف، فالأفراد يستسلمون للمحتوى السطحي، ويبحثون عن اليقينيات الجاهزة بدلاً من الخوض في معاناة التفكير، هنا يكمن الخطر الأكبر! لا يتم استعباد العقول بالقوة، بل بالإقناع، وبخلق بيئة تعزل الفكر الحر وتكافئ التبعية، والنتيجة؟ مجتمعات كاملة تدار معرفياً من مراكز قوة فكرية وإعلامية واقتصادية دون وعي من أفرادها، ويعزّز خطورة القيود الفكرية وتحول البحث العلمي والتعليم العالي إلى أدوات خاضعة. نشرت دراسة في مجلة «Nature» العلمية كشفت أن 31% من البحوث الطبية الممولة من الشركات تنطوي على تحيّز منهجي يخدم مصالح الجهات الداعمة، وهذا يعني أن ما نظنه «حقائق علمية» قد يكون تم إنتاجه لخدمة أهداف اقتصادية أو سياسية لا تمت للعلم بصلة.

كما أن بعض المؤسسات الدينية والسياسية تستغل هذا الواقع لتغذية عقل جماهيري مسيطر عليه، حيث تتم إعادة تدوير الخطاب والمفاهيم والمسلّمات لصناعة نوع من«الولاء الرقمي المقدس»، حيث يُمنع السؤال، ويجرم النقد، ويشيطن المخالف. القيود الفكرية بهذا المعنى تقتل القدرة على المقاومة، لأنها تغتال الفكرة في مهدها، فهي لا تريد إنساناً مدركاً، بل تابعاً، إنساناً لا يشك، لا يقارن، لا يبحث، ويمجد ما يستقبل. ولهذا فإن آثارها على الأمن القومي، والتنمية، والهوية الثقافية تعد مدمرةً على المدى البعيد، لأنها تنتج مجتمعاَ هشاً معرفياً يمكن التأثير عليه وتوجيهه بسهولة عن بعد.

***

سالم سالمين النعيمي

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 يوليو 2025 02:08

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية في قلب أوروبا، ظهرت مقالات وكتابات جديدة في العالم الغربي حول أزمة النموذج الغربي، فكرياً واستراتيجياً، من أشهرها كتاب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود الذي صدر بعنوان «هزيمة الغرب». ومِن آخر مَا كُتب في الموضوع مقال المفكر والإعلامي الألماني «توماس أشوير» في صحيفة «دي فيلت» بعنوان «ما هي سمات الغرب؟» (Was den westen aus؟).

وبالنسبة لأشوير، يتعرض مفهوم الغرب في وقتنا الحالي لتحديات نظرية وجيوسياسية نوعية، تجعله في ملتقى الطرق بين الانهيار الكلي والتجدد الممكن. وبالنسبة له، فالغرب ليس مجرد مفهوم استراتيجي تجسده الرابطةُ الأطلسية بين الولايات المتحدة الأميركية ودول غرب أوروبا كما تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية (الوثيقة التي وقعها روزفلت وتشرشل في عام 1941)، بل هو مفهوم تاريخي ومعياري له محدداته وسياقاته المرجعية العميقة.

ومن المنظور التاريخي، تشكل الغربُ في سرديته الناظمة من الحضارة اليونانية التي ترجع لها المكونات التأسيسية للغرب الفكري والمجتمعي: الديمقراطية التشاركية كما وُلدت في أثينا، والعقل النقدي كما بلوره الخطاب الفلسفي لدى أفلاطون وأرسطو، والبحث عن الخير المشترك مقابل الفضيلة الفردية الخصوصية، والارتباط العضوي بين العقل والقانون.

ورغم هذه القراءة المتعسفة والاختزالية للتجربة اليونانية، ورغم الفارق الجوهري بين اللحظة الإغريقية وعصر الحداثة الراهنة التي قامت على مبدأ الوعي الذاتي والنزعة الإنسانية التاريخانية، فإن الفكر اليوناني أسَّس بالفعل المرجعيةَ البعيدة لمفاهيم المواطَنة والحوار النقدي والعقلانية التواصلية، وهي قيم لا تزال مؤثرة وفاعلة في السياق المعاصر. كما أن التقليد المسيحي الوسيط كرّس معايير الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية والنزوع الخطي الغائي، وإن كان الغطاء اللاهوتي قد حد من محورية وفاعلية هذه الأفكار عملياً وواقعياً.

ومع أن أشوير قلّص من أهمية مسار التنوير والتحديث في تشكيل الغرب المعاصر، إلا أنه اعتبر أن القيم الغربية الجامعة، من حرية وتقدم وديمقراطية، هي الثوابت المرجعية للعالم الغربي في امتداده التاريخي.

وعلى عكس كتاب آخرين فسروا أزمة الغرب الحالية بالعوامل الخارجية، مثل التنافس الغربي الآسيوي، يرى أشوير أن جوهر هذه الأزمة يتعلق بظواهر داخلية، من قبيل الآثار السلبية للرأسمالية النيوليبرالية التي قوّضت متطلبات العدالة والمساواة، وانتقال الديمقراطية من المرجعية الكونية إلى النزعات الهوياتية الشعبوية المغلقة، ومأزق فكرة الحرية التي تحولت إلى أعراض من قبيل الأنانية والتقشف والانكفاء على النفس.

وخلُص أشوير إلى أن أزمة الغرب الحالية يمكن أن تفضي إلى أحد السيناريوهات الثلاثة التالية: إما التجدد الديمقراطي بالرجوع إلى القيم المدنية والتشاركية التي شكلت أفق المواطنة الحديثة، أو الانهيار الشامل في حال سيطرة التيارات القومية المتطرفة وعجز الاتحاد الأوروبي عن التحول إلى قوة جيوسياسية عالمية مؤثرة، والهيمنة الآسيوية البديلة المتمحورة حول القطب الصيني، بما يعني انسحاب القيم الغربية واستبدالها بقيم النظام والأمن والاستقرار التي تقوم عليها الحالة الصينية الراهنة.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن هذا النهج في نقد الغرب، يختلف عن الكتابات التي راجت ما بين الحربين، في ألمانيا بصفة خاصة، وأشهرها من دون شك هو كتاب «انحدار الغرب» لأوسفالد شبينجلر الصادر في عام 1918. لقد كان التركيز في هذه المرحلة على الانهيار الروحي والأخلاقي للغرب في سياق الحروب والفتن الطاحنة التي مر بها خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ففي حين ركز الفيلسوف الألماني ليو شتراوس (قبل انتقاله للولايات المتحدة) على مأزق الليبرالية الحديثة، من حيث نكوصها عن قيم الفضيلة المدنية والخير المشترك، حمل مارتن هايدغر بشدة على الثورة التقنية الحسابية التي اعتبر أنها الروح الميتافيزيقية للحداثة، وقد تنتهي بتهديد نمط السكن البشري في العالم. النقد الراهن يتمحور حول النقد السياسي الاجتماعي لتجربة الدولة الليبرالية الديمقراطية التي تعاني من تصدعات داخلية حادة تتجلى في صعود النزعات الشعبوية والقومية المتطرفة، والنقد الاستراتيجي الذي ينطلق من أزمة المنظومة الدولية في مرجعياتها القانونية وفي علاقة الغرب ببقية محاور النظام العالمي.

ما لم يقله أشوير هو أن القيم الفكرية والمعيارية للغرب، من حرية ومساواة ونزعة إنسانية كونية، أصبحت اليوم قيماً كونية، وليست مدار اعتراض في أي جهة من العالم، ولذا فإن الأزمة القائمة تتلخص أساساً في عجز الغرب عن احتكار هذه القيم التي ينتهكها ويتنكر لها، رغم ادعائه نشرها والدفاع عنها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 يوليو 2025 23:45

في كتابه الصادر عام 2023 «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» خصّص مؤلفه «مايكل دي جوردين» أستاذ التاريخ في جامعة برينستون الفصل الثالث لما أسماها «العلوم مُفرطة التسييس».

لقد دخلت السياسة في العلوم الطبيعية كما دخلت في معارف عديدة وأفسدتها. وكم كان صادماً أن تتجاوز السياسة العلوم الاجتماعية إلى قلب العلوم الطبيعية للنيل منها وتوجيه نظرياتها، بل وإلغاء بعض فروعها.يتوقف «مايكل دي جوردين» طويلاً أمام النازية في ألمانيا والستالينية في الاتحاد السوفييتي كنموذجين للعلوم فائقة التسييس. وفي الستالينية يتوقف المؤلف أمام عالم الزراعة السوفييتي «ليسينكو»، الذي أسّس «علم الأحياء الزراعي»، وفي النازية توقف عند عالم الفيزياء الشهير «فيليب لينارد» الحائز على جائزة نوبل عام 1905.

ولد العالم السوفييتي «ليسينكو» في أوكرانيا، ودرس علوم الزراعة، ثم اهتم بعلوم الوراثة. وفي عام 1927 نشر مقالاً في صحيفة البرافدا الشهيرة قال فيه إنه قادر على تغيير الخواص الوراثية للنباتات عن طريق الإجهاد البيئي، وأنه نجح في زراعة بازلاء شتوية في مناخ شبه استوائي.

أصبح «ليسينكو» لاحقًا عالماً رسمياً للبلاد، فقد قام ستالين بدعمه، وأيده الحزب الشيوعي، ووصل نفوذه إلى قيام السلطات بتجريم «علم الوراثة» الكلاسيكي لصالح علم الوراثة الجديد أو «علم الأحياء الزراعي» الذي أسسه «ليسينكو».

لم يستمر ذلك المجد طويلاً، فبعد رحيل ستالين بدأ العلماء السوفييت في نقد ليسينكو، وتحدثوا عن كذب تجاربه وزيف نتائجه.

في الغرب كما في الشرق كان هناك من يروجون للعلوم الزائفة. وقبل النازية بكثير ظهرت نظريات تحسين النسل، وصاغ أحد أقارب تشارلز داروين وهو «فرانسيس جالتون» مصطلح «علم تحسين النسل». تحدث جالتون وغيره عن إمكانية تحسين الصفات الوراثية للإنسان، وبناء على ذلك يجب دعم التناسل لدى الأفراد الصالحين، ومنعه لدى الآخرين.

لم تكن هذه الأطروحات صحيحة بأي حال، وبحسب المؤلف.. فقد أصبح «علم تحسين النسل» في أميركا مسيّساً للغاية، وفي عام 1926 تأسّست «الجمعية الأميركية لعلم تحسين النسل».. وكان ذلك نموذجاً آخر للتسييس المفرط للعلم.

يُعدّ التسييس النازي للعلم هو النموذج الأشهر في هذا الصدد، فقد نشر عالم الفيزياء الألماني «فيليب لينارد» كتابًا بعنوان «الفيزياء الألمانية»، وهو كتاب ضخم صدر عام 1935 من أربعة أجزاء، يرى فيه العالم الشهير أن العلم يتحدّد بالعرق والدم، وأن هناك أنواعاً من الفيزياء يتحدد كل نوع فيها حسب نوع البشر!

كان لينارد داعماً للنازية قبل وصول هتلر للسلطة، بل إنه استعجل وصوله وشارك في انقلاب هتلر في ميونيخ عام 1923. هاجم لينارد نظريتي «النسبية» و«الكم»، وقال إنهما سيتم حذفهما من مناهج التعليم الألماني.

في كتاب «الرجل الذي طارد أينشتاين» جرى عرض تطور ثم تدهور العلاقة بين أينشتاين ولينارد. في مرحلة التطور قال أينشتاين إن «لينارد هو الأستاذ العبقري والعظيم»، وأرسل لينارد تحية تقدير لأينشتاين على النظرية النسبية. وقد كان لينارد أسبق إلى نوبل من أينشتاين، فقد حصل عليها لينارد عام 1905، وحصل عليها أينشتاين عام 1921.

في مرحلة التدهور هاجم أينشتاين لينارد وقال: «إن نظرياته عن الأثير طفولية، وبعض أبحاثه مثيرة للضحك، والإعلام هو الذي يروج لأينشتاين». لم يكتف لينارد باستهداف أينشتاين بل استهدف الفيزياء النظرية كلها، فوصفها بالمدرسة التكعيبية، وأن علماءها لا يجيدون الفيزياء كما لا يجيد الفنانون التكعيبيون الرسم.

كان حنق لينارد على أينشتاين كبيراً، وحسب الكتاب فقد سخر لينارد من شهرة نظرية النسبية في العالم، وقال: «إن ولادة ماعز في اسطبل لن يجعل منها حصانًا أصيلاً»! وكان رد أينشتاين: إن لينارد شخص مختل!

في الواقع.. فإن لينارد الذي حوكم بعد هزيمة هتلر، وتم إرساله إلى قرية نائية يعيش بها ما بقى من حياته، كان ناقماً على كثير من العلماء، مثل هايزنبرج ورونتجين وماري كوري.

لقد اعترض «فرنر هايزنبرج» على رؤية لينارد، ورأى أنّ نظريتي النسبية والكم هما نظريتان فيزيائيتان صحيحتان. وقد حرّض عليه لينارد، ولولا أن والدة هايزنبيرج كانت صديقة لزوجة هيريش هيملر المقرب من هتلر، وكانت تلعب معها «البريدج»، لكان مصير هايزنبيرج السجن.

هاجم لينارد أيضاً العالمة الكبيرة ماري كوري، كما قلص من أهمية ويليم رونتيجين مكتشف الأشعة السينية، وقال: «أنا أبو الأشعة السينية وليس رونتجين، لأنني اكتشفتُ الجهاز الذي يستخدم لإنتاجها، ورونتجين أشبه بالقابلة (الداية) التي ساعدت في عملية الولادة، وليس أكثر!

وفي كتابه «رجال عظماء في العالم»، الصادر عام 1933، لم يذكر لينارد أينشتاين ومدام كوري ورونتجين.

من المثير هنا أن عالم الفيزياء الألماني «يوهانسن شتارن» الحائز على جائزة نوبل عام 1919، كان مؤمناً بالفيزياء الألمانية «الآرية»، وقد هاجم بدوره النظرية الكميّة لأسباب سياسية.

كان مؤلف «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» موفقاً في وصفه المعركة بين لينارد وأينشتاين بأنها «نموذج للعلم القبيح». ولقد كانت الولايات المتحدة محظوظة للغاية بذلك التسييس المفرط للعلم في ألمانيا، فقد هرب العلماء إلى بريطانيا ثم أميركا، وكان دورهم جوهرياً في النهضة الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.. مدنياً وعسكرياً.

واليوم.. اختفى ذلك التسييس المفرط للعلم، لكن العلوم الزائفة تتمدد، وقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة هائلة لانتشار العلوم الزائفة. ثم إن العلماء الزائفين طوروا من أدواتهم وباتوا يسبغون على أفكارهم صبغة علمية، لطالما نجحت في خداع كثيرين.

لقد أتاحت الترجمة العربية لذلك الكتاب والمتاحة مجاناً على شبكة الإنترنت فرصة لمعرفة المزيد في هذا الصدد.. لقد حان الوقت لمواجهة هذا الصعود الكبير لمروجي نظريات المؤامرة والعلوم الزائفة. العلوم الزائفة خطر على ثقافتنا وحضارتنا.. العلم هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يوليو 2025 23:45

سنة 1440م اخترع يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة في ألمانيا. مباشرةً أصدر السلطان العثماني بايزيد الثاني فرماناً يحرّم فيه على المسلمين استخدام المطبعة في كامل الإمبراطورية العثمانية، مبرراً المنع بالخوف من استخدام هذا الاختراع النصراني، في تزوير النصوص الدينية الإسلامية المقدسة. نشط رجال الدين والخطَّاطون والنسَّاخ في دعم الفرمان السلطاني، وهناك عامل آخر كرَّس عداء الباب العالي للاختراع الجديد، وهو الخوف من انتشار المعلومات، ووصولها إلى العامة في أرجاء الإمبراطورية الواسعة.

القرن الخامس عشر كان بداية ارتفاع فنارات التعليم والتنوير في أوروبا. بدأت المواجهة بين رجال العلم والفلسفة، ورجال الدين المسيحي تتحرك بسرعة وبقوة، لمصلحة الأولين وتراجعت سطوة الكنيسة وهيمنتها على العلم والفكر والثقافة والتعليم. بدأت المدارس النظامية والجامعات تنتشر في أوروبا، وتراجعت الأمية، وتنقل المفكرون والأساتذة بين الجامعات الأوروبية، واتسع نشاط الترجمة في جميع المجالات الفكرية والعلمية، واتسعت كتابة الكتب ونشرها في القارة الأوروبية. المطبعة كانت آلة تأسيس الزمن الأوروبي الجديد، بضوئه الذي أشعل الأنوار، وحوَّل المعرفة وجبة يومية للعقل. سنة 1517م أطلق القس الألماني مارتن لوثر ثورته ضد كنيسة الفاتيكان، وترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية. كانت آلة الطباعة سلاحه السحري، الذي قصف به أركان الاستبداد الديني الذي باع صكوك الغفران للفقراء الأميين. لم تعد النصوص الدينية المكتوبة باللغة اللاتينية الطلاسم المقدسة التي يغمض البسطاء في حضرتها عيونهم، ويغلقون عقولهم. مثَّلت حركة مارتن لوثر الاحتجاجية الاندفاعة الأوروبية الثانية، بعد حركة النهضة التي قادتها أسرة آل ميدتشي في فلورنسا الإيطالية.

آلة الطباعة كانت المفتاح العلمي، الذي شرَّع باب العصر الإنساني الجديد. تحرك كل شيء في أوروبا، العقول والحواس وطاقات الناس. صارت الدنيا غير الدنيا بمن فيها وما فيها.

في حين استمر تحريم آلة الطباعة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى سنة 1725م، حين سُمح باستخدامها في طباعة الكتب الدينية المسيحية واليهودية فقط. على مدى قرون ثلاثة، حُرم المسلمون بمن فيهم العرب من رؤية ضوء الزمن الجديد، الذي أشعلته المطبعة. كانت الإمبراطورية العثمانية، حتى القرن الخامس عشر، القوة العسكرية العالمية الضاربة التي لا تقهر. قوة عسكرية بها مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء، ضمت إنكشارية من مختلف الأعراق. البلقانيون والألبان والعرب والأتراك، يستخدمون البنادق والمدافع والخيالة السباهية والمشاة.

سنة كانت المواجهة الفاصلة الحاسمة بين عصرين، عصر السيوف وعصر الحروف. معركة زنتا الكبرى في صربيا سنة 1697م، حيث اصطدم عصران، أحدهما قادم وآخر يغادر. لم تكن الموقعة التاريخية مجرد حرب بين قوتين، بل كانت مخاضاً نارياً عنيفاً في أحشاء زمن يتخلق فيه زمن جديد. معركة شكَّلت بداية تهاوي الإمبراطورية العثمانية عسكرياً وسياسياً وحضارياً. في نهاية القرن السابع عشر، كانت أوروبا تشهد تحولاً عميقاً، لم يقتصر على المجال السياسي والعسكري فحسب، بل شمل العلم والفكر والفلسفة والاقتصاد والبناء المجتمعي. أعادت أوروبا بناء كل شيء على أسس عقلانية، أنتجتها أفكار عصر التنوير المبكر. في حين ظلّت الإمبراطورية العثمانية، حبيسة قفص الموروث التقليدي، وفقدت فاعليتها في الداخل والخارج.

منذ بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر، بدأت أعراض الوهن والترهل، تبرز على كامل جسد الإمبراطورية العثمانية. وبدأت تفقد تدريجياً سيطرتها على أطرافها الأوروبية، وانخفضت قدرات الجيش الإنكشاري الذي كان يوماً رمز الرعب في القارة الأوروبية. عمَّ الفساد مفاصل الإمبراطورية، وتحولت المؤسسات حلباتِ صراعٍ على المصالح بين النخب الفاسدة، وتفشت الرشى والمحسوبية، وتحكمت القرابة في سلم الوظائف. في الجهة المقابلة، كانت أوروبا تشهد صعوداً شاملاً بسرعة، شكَّلت قوتها الجديدة بعقل جديد. بدأت أسرة آل الهابسبرغ في النمسا تجني ثمار العصر الأوروبي الحديث. تنظيم عسكري حديث صارم، وإدارة بيروقراطية فاعلة منضبطة، ساعد كل ذلك على بناء تحالف عسكري أوروبي فاعل. الهدف الأوروبي الاستراتيجي، هو تحرير أوروبا من الوجود العثماني.

كانت الدولة العثمانية تتصرف كأنها لا تزال في كامل قوتها العسكرية، ولم تدرك حجم التطور الذي شهدته أوروبا. ففي الوقت الذي كانت فيه المدفعية الأوروبية، تدار بأنظمة دقيقة، مع مناورات يجرى التخطيط التفصيلي لها. في معركة زنتا بين الجيش العثماني والجيش النمساوي، كان السلطان مصطفى الثاني يقود الجيش العثماني المكون من ثمانين ألف مقاتل، والأمير أوجين يقود الجيش النمساوي المكون من ثلاثين ألفاً. جيش عثماني عرمرم بعقل وسلاح أكله الصدأ، يقابله جيش محدود العدد يقاتل بعقل وعلم وتخطيط وليد الحداثة. كانت معركة بين زمنين، هُزم الجيش العثماني وقتل وأُسر وغرق وهرب منه الآلاف.

لقد دفع عقل التحريم الثمن وهو الهزيمة. عندما أصدر السلطان بايزيد الثاني فرمان تحريم استعمال المطبعة، حرم شعب بكامله من الدخول إلى زمن جديد لم تشهده الدنيا من قبل. المطبعة جعلت من الحروف سرباً للعقول الزاجلة، التي تتحرك في فضاءات عالمية مستطرقة، تهب نور العلم والفكر لكل الإنسانية. معركة زنتا كانت الخط الذي فصل بين عصرين، عصر صدئت فيه السيوف، وتوهجت فيه الحروف.

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 01 صفَر 1447 هـ - 26 يوليو 2025 م

 

مرّ زمنٌ طويل على اجتراح مفهوم العلمانية، ولكن لم يتمّ درسه وتطويره. فقد نُحت هذا المفهوم وطُبّق بعد العديد من الحروب الأهلية والدينية الأوروبية. لقد كانت العلمانية مفيدة لبعض الدول وفاشلة في دولٍ أخرى.

ومع تصاعد الأحداث في الإقليم والتغيّرات الكبيرة طرح بعض المفكرين، ومنهم الأستاذ أدونيس، تحليلاتٍ عن العلمانية يعتبرها من شروط تأسيس الدولة. ومفهومٌ قول أدونيس هذا ضمن سياق التجربة الغربية، لكن ماذا عن تجربة الدولة العربية؟!

أدونيس أعاد النقاش حول المعنى والتطبيق للعلمانية، نعم لقد بقي مفهوم العلمانية بكل التباسات تبيئته وترجمته إلى العربية مثار نقاشٍ طويل ليس على المستوى الآيديولوجي العقائدي المتعلق بضرورة ربط أي إجراء سياسي بـ«الحكم الإسلامي»، وإنَّما حتى بين التيارات الفكرية العربية المعاصرة، كان النقاش كبيراً بين عدد من المفكرين حول علاقات العلمانية بمفهوم الديمقراطية.

في حوارٍ بين الأستاذين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري طبع في كتاب «حوار المشرق والمغرب»:

يرفض حنفي العلمانية لأننا «لا نحتاج إليها وهي واردة من الغرب».

بينما الجابري يرفضها لأن «الإسلام ليس فيه كنيسة حتى ندعو لفصل الدين عن الدولة».

بل طرح الجابري الديمقراطية كبديلٍ للعلمانية، وذلك من قبل بسلسلة مقالاتٍ أعاد إصدارها في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة».

وفي فصلٍ بعنوان: «بدلاً من العلمانية، الديمقراطية والعقلانية»، يكتب: «برأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية... فمسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنَّها تعبر عن حاجاتٍ بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات». ويحيل الجابري العلمانية بوصفها دعاية من «مسيحيي الشام» الخاضعين للهيمنة العثمانية، ويدلل بأنَّ العلمانية لم تطرح في بلدان المغرب ولا في بلدان الجزيرة، وبالتالي لا تحتاج الديمقراطية إلى الصيغة العلمانية. هذه الأسطر ستستفز طرابيشي.

في الجزء الأول من كتابه «هرطقات - عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية»، يعمد طرابيشي إلى نقد طرح الجابري العشوائي حول مفهوم «العلمانية»، وهو نقد طويل جداً، ولكن يمكن الوقوف على صلب النقد وعصب الاعتراض، يقول: «الحال أنَّ الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنَّه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة. هكذا يقول بالحرف الواحد: (أنا مقتنع تماماً بأنَّ الإسلام هو دين ودولة في آن واحد). إن ما يسكت عنه الجابري - علماً بأنه من المختصين الرواد في الساحة الفكرية العربية بعلم المسكوت عنه - هو أن صاحب هذه المقولة هو مؤسس حركة (الإخوان المسلمين) حسن البنا».

الخلاصة أنَّ النقاش حول مفهوم العلمانية بين المفكرين يجب أن يكون مصحوباً بالنقد بغية التطوير والتجديد. إنَّ ما أسميها «الدول الحيوية التنموية الصاعدة» تطوّرت من دون هذا المفهوم، وهذا له نقاش يطول.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط للندنية، يوم: الأربعاء - 21 مُحرَّم 1447 هـ - 16 يوليو 2025 م

 

في زمن فقدت فيه الأشياء معناها، وأصبحت القيم تُقاس بعدد المتابعين، واللغة تُختزل في شعارات سطحية، نخوض حرباً صامتة، ليست على المال ولا على الأرض، بل على أعمق ما يشكّلنا: هويتنا. لم تعد هذه الهوية تُستهدف بوضوح، كما في عصور الاستعمار المباشر، بل تُستنزف تدريجياً تحت غطاء العولمة من جهة، وعبر استيراد نماذج فكرية متصلّبة تُلبّس بلبوس الأصالة من جهة أخرى. وبين هذين القطبين، ينشأ الفراغ الذي تذوب فيه الشعوب وتتحول إلى كتل بشرية بلا ذاكرة ولا ملامح.

إن أخطر أشكال التزييف اليوم لا يتم في الأوراق النقدية، بل في المفاهيم، في اللغة، في الرمز. وكما أن تزوير العملة يُفقد الاقتصاد استقرارَه، فإن تزوير الهوية يُفقد الإنسان قدرته على إدراك نفسه وحدود عالمه. تُلقى في أسواق الفكر رموز جديدة مصنوعة في مختبرات العولمة: لغة هجينة، ذوق مسطح، أخلاق نفعية، ولاء للمظهر بدل الجوهر.. إلخ، ومعها يتسلل استهلاك صامت لقيم لم ننتجها، ولم نعِها، ولكننا نتماهى معها تحت إغواء الحداثة.

تزييف الهوية لا يكون دائماً مفروضاً من الخارج، بل أحياناً نحن مَن نستدرجه بأيدينا، حين نستورد خطاباً دينياً أو أيديولوجياً يُعيد تقسيم المجتمع إلى حق وباطل، إلى نحن وهم، ويزرع في الوعي ثنائياتٍ زائفةً: مَن معنا ومَن ضدنا، مَن يدخل الجنة ومَن يُقصى منها! باسم الدين أو التراث أو النقاء، تُعاد صياغة مجتمعاتنا وفق خرائط لا تراعي تنوعها، ولا تعترف بتاريخها الحقيقي، بل تفرض سرديات تُنتج العنف والإقصاء.بين هذا وذاك، يتحول الإنسان إلى كائن متردد الهوية: يتحدث لغة لا يُتقنها، ويمارس طقوساً لا يفهمها، ويعتنق مفاهيم لا تُشبه بيئتَه. فيعيش اغتراباً مضاعفاً: اغتراب عن العالم الذي يُفرَض عليه، واغتراب عن ذاته التي لم تُمنح فرصةَ التعبير الحقيقي. تتحول هويته إلى بطاقة افتراضية، شعار على الشاشة، صورة مستعارة من إعلان أو ماركة تجارية. وما يُنتجه هذا من هشاشة نفسية وسلوكية يجعل المجتمعات أكثر قابلية للاختراق، وأكثر عجزاً عن مقاومة التذويب.

والأخطر من التزييف هو القبول به.. حين يصبح التضخم في المعاني كما في النقود: كلماتٌ تُستعمل بلا مدلول، شعاراتٌ تُرفع بلا ممارسة، رموزٌ تُقدَّس بلا وعي. هذه الهشاشة الرمزية تُسهم في انهيار البنية الثقافية، كما يسهم التزوير النقدي في إفلاس الدول. والنتيجة واحدة: فقدان الثقة، سواء في الذات أم في المستقبل.

مقاومة هذا الفقد لا تكون بالشعارات، بل بإعادة تأسيس العلاقة بين الفرد ومعناه. لا بد من مشروع ثقافي يعيد للغة قيمتَها، للتاريخ مكانته، وللرمز قدسيتَه.. مشروع لا يكتفي بمواجهة العولمة، بل يعيد بناء الذات من الداخل، عبر تعليم يعمّق الانتماء، وإعلام يصون الذاكرة، ومؤسسات تحمي الهوية كما تحمي العملة الوطنية من التزوير. وكما لا تقبل الدول بعملة مزيفة تتداول في أسواقها، لا ينبغي لها أن تقبل بهوية مزيفة يتداولها أبناؤها.

إن معركة الهوية معركة وجود، لا تقبل الحياد ولا تؤجل إلى الغد. إما أن نكون شعوباً تعرف مَن هي، وإلى أين تمضي، أو نصير سوقاً رمزية مفتوحة لكل بضاعة فكرية أو ثقافية عابرة. ومَن لا يحمي هويته، يُنتزع منه المعنى، ويُصبح رقماً في سردية غيره. هكذا فقط نفهم أن الحرب الصامتة ليست بين دول، بل بين من يعرف معناه، ومن يُصادر منه هذا المعنى كل يوم، بهدوء وبلا ضجيج.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 22 يوليو 2025 23:42

في التجديد الذي تشهده الدراسات الإسلامية الحديثة في أوروبا، يأتي كتاب الباحث الفرنسي مكسيم دلبْيار الصادر حديثاً، إثرَ تراجع الخطاب الذي كان سائداً لفترة طويلة، والذي كان يرى في ابن سينا أحد آخر ورثة التقليد الفكري اليوناني الذي أعلن عن أفول الفلسفة في أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي.

ويلقي كتابه "نصير الدين الطوسي، فيلسوف التقدّم، عودة إلى معنى ابن سينا" (منشورات فران، باريس، 2025)، ضوءاً جديداً على عمل من الأعمال الفلسفية الكبرى في الإسلام: شرح عالم الكلام والفلك والطب والفيلسوف نصير الدين الطوسي لكتاب "الإشارات والتنبيهات" للشيخ الرئيس ابن سينا، المعروف باسم "حل مشكلات الإشارات". الطوسي عاش في زمن مضطرب سياسياً، شهد اجتياحات المغول وتدمير مكتبة ألموت الكبرى وسقوط بغداد عام 1258، وهي أحداث هزّت عصره وأثّرت في مسيرته. أما ابن سينا فيعدّ كتابه "الإشارات والتنبيهات" من أهم كتبه. لذا تناوله الكثيرون من علماء المسلمين بالشرح والتحليل، ولعل أهم هذه الشروح إلى جانب شرح الطوسي شرح فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي وغيرهما.

يدافع الكتاب عن أطروحة مفادها أن الطوسي لا يُؤسّس لتقليدٍ تفسيري لفلسفة ابن سينا فحسب، بل يكرّس صورةً "عرفانية" لهذه الفلسفة، سرّعت في تشكُّل فلسفة "ابن سينيّة فارسية" التقت فيها تيارات فلسفية ولاهوتية وروحية متعددة داخل الإسلام كالشيعة والتصوف، وغيرها. وإذ يعتبر أن الصراع التأويلي الذي خاضه الطوسي مع المتكلم الأشعري فخر الدين الرازي صراع حاسم، فإنّه يرى أن الدفاع عن ابن سينا اقترن بمشروع أوسع لتأسيس لاهوت فلسفي شيعي، سرعان ما كرّس بدوره سلطة الطوسي كمرشد روحي لعصره. ولأن فكرة التقدّم كانت تخترق، كخيط ناظم، حياة الطوسي وأعماله في خضمّ فوضى الغزوات المغولية وسقوط الخلافة العباسية، فذلك لأنه تصوّر الفكرَ أيضاً بوصفه تقدّماً.

ينطلق دلبْيار من مسلمة تؤكد أن شرح الطوسي يُعدّ شرحاً مهماً لأنه غدا برأيه تمريناً مدرسياً لا غنى عنه في تكوين أجيال من الطلبة في القرون الأولى لما بعد ابن سينا؛ ولأنه أصبح معياراً للحقيقة في ما ينبغي أن يُفهَم من فلسفة ابن سينا، بحيث فرض، من ناحية المعنى، تأويلاً قوياً لهذه الفلسفة، ومن ناحية المبنى، منهجاً خاصاً؛ ولأن الفلاسفة الذين ساروا على نهج ابن سينا رأوا في فلسفته الأخيرة، أي "الحكمة المشرقية"، خلاصة فلسفته كلّها. فصار شرح كتاب "الإشارات" النصَّ المرجعيَّ في التعليم الفلسفي، لا بل النصّ الرائج في الأوساط العلمية وبين النخب المثقفة. فشكّل هذا الكتاب لحظة فاصلة في تاريخ الفكر الإسلامي، إذ رسم "صورة جديدة للفكر" تُعرف باسم "العرفان"، وجعل من "العارف" نموذجاً لما يمكن تسمّيته بتحفّظ، "الفيلسوف الجديد".

ينبه الباحث الفرنسي قرّاء كتابه إلى أن شرح الطوسي لـ "الإشارات" ظهر في وقت نشأت فيه تقاليد جديدة في التفسير وصيغت فيه صور مختلفة للأفلاطونية والمشّائية السينية، وأن المعنى الحقيقي الذي بيّنه الطوسي لفلسفة ابن سينا أظهر في الوقت عينه سوء تأويل هذه الفلسفة. إذ رسم إلى جانب تأويله صورة لتأويلات "زائفة" تبدت بحسبه في قراءة فخر الدين الرازي، جازماً أن معنى هذه الفلسفة هو كما قرأها هو، لا كما قرأها الرزاي. وهذا برأي دلبْيار موقف شارحٍ متمكن يدفع كل قارئ إلى اختيار واحد من اثنين لا ثالث لهما.

ويبيّن دلبْيار كيف أن شرح الطوسي أعطى نَفَساً جديداً لفلسفة ابن سينا، وأسهم في نشرها في الأوساط الشيعية، حيث لم تكن تحظى بعدُ بقبول واسع. غير أن إعادة الاعتبار إلى هذه الفلسفة لم تكن أمراً بديهياً. ولهذا نرى الطوسي يبذل جهداً كبيراً في محاولة التوفيق بين مقولات ابن سينا وبعض العقائد الإسماعيلية، حتى ولو كان ذلك على حساب "التواءات" مذهلة محاولاً المواءمة بين الفلسفة السينية والعقيدة الاثني عشرية الناشئة، سعياً لإنقاذ فكرٍ مُهاجَم من خصوم عديدين: الأشاعرة (فخر الدين الرازي)، والصوفيون (صدر الدين القونوي تلميذ ابن عربي)، والإسماعيليون أنفسهم (كما في حالة الشهرستاني)، وهم من أشد الخصوم خطراً لأن علاقتهم بابن سينا لم تكن بالضرورة علاقة رفض، بل كانت ممزوجة أحياناً بشيء من التعاطف. ويجوز القول إن شرح الطوسي قد مكّنه من ضرب عصفورين بحجر واحد: إفشال محاولة الرازي للاستيلاء الأشعري على ابن سينا، والتمهيد لاستيلاء شيعي على فكره. ويبدو أن الطوسي وجد في التربة الشيعية الإسماعيلية أولاً، ثم في الاثني عشرية، البيئة المثلى لزراعة هذا المشروع.

يقارب المؤلف شرح كتاب "الإشارات" من زاوية المنظور التعاقبي التاريخي الذي يضعه ضمن سلسلة التقليد التأويلي الممتد عبر الزمن، مؤكداً أن الاهتمام المتجدد في السنوات الأخيرة بكتاب "الإشارات" يعود بالدرجة الأولى إلى اتباع المنظور التاريخي، الذي أعاد النظر في مكانة "الإشارات" ضمن تاريخ الفلسفة السينية ومكانتها في الفلسفة الإسلامية، مبيناً أن أبرز التيارات الحالية في البحث حول تاريخ فلسفة ابن سينا تتجه إلى دراسة "الإشارات" بوصفها المنبع المؤسِّس لهذا التقليد الفلسفي. لكنه بالتوازي يشير إلى النزعة التنظيرية المنهجية التي حلّت محلّ روح الجدل والخصومة، مغلبةً روح الفهم والاستيعاب والتي استثمرت بدورها في مراجعة دور فخر الدين الرازي في نشأة هذا التقليد التفسيري وفي صياغة إحدى صور الفلسفة السينية نفسها.

يشدد دلبْيار على أن تاريخ الفلسفة وعلم الكلام في الإسلام شهد في القرن الثاني عشر الميلادي تحولاً جوهرياً بدأ مع الغزالي وانتهى مع الرازي. فمن جهة، لدينا "القدماء"، ومن جهة أخرى لدينا "المحدثون". والمحدثون هم أصحاب فكر جديد وُلِد من تفاعل علم الكلام الكلاسيكي وفلسفة ابن سينا التي شكلت أعمال الرازي أولى تحوّلاتها، فأفرزت ما يمكن تسميته "أشعرية ذات نزعة سينية" أو "لاهوتاً فلسفياً"، له من الأهمية في علم الكلام الإسلامي ما لابن سينا في الفلسفة العربية. يتجاوز الكتاب الأحكام المسبقة التي كرّستها دراسات صدرت في القرنين الماضيين، والتي صورت الرازي على أنه "غزالي" جديد جاء ليقضي على ابن سينا، قبل أن يأتي الطوسي، حامي حمى الفلسفة السينية، ليتحدى الأشعري ويتغلب عليه.

صحيح أن الرأي السائد بين المتخصصين كان يعتبر الرازي، الوريث الشرعي للغزالي، ناقداً بلباس المتكلم الأشعري لابن سينا، بينما نُظِرَ إلى الطوسي كمدافعٍ عن شيخه دفاع الجندي الصغير المخلص للفلسفة السينية. وقد سلطت أولى الدراسات المقارنة الضوء على أوجه الخلاف بين الشخصيتين في طبيعة المكان والجسم وقدم العالم وعدد السماوات وطبيعة المعرفة الإلهية والإنسانية ووجود العقل المفارق وإمكانية التوبة وطبيعة العقاب الإلهي وطبيعة الإيمان. لكن هذا الرأي أصبح اليوم أكثر تعقيداً. إذ يبدو أن البحث الحديث في التقليد السيني بدأ يركّز من الناحية المنهجية على الفيلولوجيا وتاريخ النصوص، ومن ناحية الموضوع على الدور التأسيسي لفخر الدين الرازي، وذلك على الأقل لسببين: اختياره "الإشارات" نصاً مرجعياً في الفلسفة السينية، ومحاولته بناء هذه الفلسفة كنظام فكري متكامل.

إلا أن كتاب دلبْيار يسلك اتجاهاً معاكساً للاتجاه الذي تسلكه الدراسات الرازية: فأسطورة "صراع الأبطال" المنتمين إلى معسكرين متقابلين، ليست برأيه وليدة القرنين الماضيين، بل هي بالضبط ما أراد الطوسي تأسيسه وصياغته. لذا اختار هذا الباحث النظر إلى فلسفة ابن سينا من منظور الطوسي، لكي يفهم، ولو جزئياً، منطقه وخلفياته. فإن كان فهم الموقف الحقيقي للرازي يتطلب فصله عن الصورة المشوّهة التي رسمها له الطوسي، فإن فهم الموقف الحقيقي للطوسي، على العكس، يتطلب الاحتفاظ بهذه الصورة. ويتطرق الكتاب كذلك إلى تأويلات المستشرقين وعلماء الإسلاميات الفرنسيين في القرن العشرين الذين منحوا كتاب "الإشارات" وتأويلاته المختلفة مكانة بارزة، ليس فقط داخل المتن السيني، بل في تكوين الفلسفة السينية ذاتها. ويشدد على أن هذه الأبحاث قد أهملت وبشكل كبير القيمة الفلسفية لشرح الطوسي، مكتفيةً باعتباره تابعاً أو مقلداً لامعاً ليس أكثر.

يمثل رأي الباحث الفرنسي نقطة تحول جديدة في الدراسات السينية، حدّدت بعض الاتجاهات الحاسمة في تلقي فكر هذا الفيلسوف في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً. كان من أبرز مظاهرها صدور الترجمة الفرنسية لكتاب "الإشارات والتنبيهات" سنة 1952 والذي اختارت مترجمته أن تزود نص ابن سينا بجهاز حواشٍ، ركزت فيه بشكل كبير على شروحات الطوسي ووظفتها في خدمة فهم كتاب ابن سينا. وقد كان خيارها برأي دلبْيار موفقاً في كثير من الأحيان. وإيلاء هنري كوربان اهتماماً خاصاً بالحكاية الرؤيوية عن "سلامان وأبسال" التي ترد في بداية الفصل التاسع من كتاب "الإشارات" والتي فُقِد نصّها الأصلي، فدرسها العالَم الفرنسي من خلال نسخة مختصرة نقلها الطوسي، واصفاً إياها بخاتمة القصص الرؤيوية والمعرفة العرفانية لدى ابن سينا، مبيّناً الفرق بين السينية الفارسية والسينية اللاتينية. ولئن اهتم كوربان بشروحات الطوسي لكتاب "الإشارات"، فإنه، برأي دلبْيار، لم يمنحه حقه من التقدير، بل أنصفه إنصافاً جزئياً.

من هذه الزاوية يأتي كتاب دلبْيار ليبيّن قدرات الطوسي الإبداعية في التأويل، انطلاقاً من فرضية أنه إذا كان تعليق الطوسي قد استُخدم مراراً لخدمة قراءة نص ابن سينا، فإنه على الباحث اليوم أن يجرب العكس، أي أن يجعل من نص ابن سينا أداة لقراءة شروحات الطوسي، لا باعتبارها ملحقاً ثانوياً، بل عملاً مستقلاً بذاته. فشروحات الطوسي برأي الباحث لعبت دوراً تأسيسياً في نشوء النزعة الصوفية في قراءة ابن سينا، وهي النزعة التي ستشكّل الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لكل قراءة لاحقة كالدراسات والترجمات التي وقعها كريستيان جامبي وروجيه أرنالديز في فرنسا وجواد بداخْشاني في بريطانيا.

***

مارلين كنعان - كاتبة وأكاديمية من لبنان

عن جريدة االعربي الجديد، يوم: 21 يوليو 2025

 

كتاباته لم تقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية

رغم أن ماكس فيبر لم يقدّم نفسه بوصفه فيلسوفاً، فإن إرثه يتضمّن مساهمات فلسفية عميقة في فهم العقلانية الحديثة، وأخلاقيات الفعل، وإشكالية المعنى في عالم متفكك. فقد سبق كثيراً من فلاسفة الوجود في تحليل مأزق الإنسان الحديث، وطرح مفهوم «نزع السحر عن العالم» بوصفه تشخيصاً أنطولوجياً لانهيار المرجعيات العليا. وأسهم فيبر في نقد الحتمية التاريخية، وبيّن أن التاريخ لا تحكمه غايات عقلية بل صراعات قيم لا نهائية، مؤسساً بذلك لرؤية تعددية للحداثة. ومن خلال تأملاته في العلاقة بين الدين والعالم، كشف عن التوتر بين الخلاص الفردي وبناء المؤسسات، رابطاً بين التديّن والعمل كشرط أنطولوجي جديد. كذلك، مهّد لفلسفات القلق الأخلاقي، حيث لا يمكن للفعل أن يكون بريئاً أو يقينياً في عالم تراجيدي.

من يمعن النظر في كتاباته لا بد أن يكتشف خلف هذا الوجه العلمي نظاماً فلسفياً متيناً يتعامل مع أسئلة المعنى والحرية والمصير بوصفها جوهر الوجود الإنساني. ففكر فيبر لا يقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية، وما جرى اعتباره في حقل علم الاجتماع، بل يتوغّل في الطبقات العميقة للحداثة كتحوّل أنطولوجي عاشه الإنسان الغربي، كاشفاً عن الثمن الباهض للعقلنة، وحدود التقدم، ومأساة الفاعل في عالم خالٍ من القداسة. ولعلّ أبرز ما يميز رؤية فيبر وعيُه الحاد بأن العقلانية الحديثة، التي نظّر لها كعملية تنظيم متزايد لحياة البشر وفق معايير الكفاءة والحساب، لا تؤدي بالضرورة إلى حريّة الإنسان، بل قد تكون طريقه إلى نوع جديد من العبودية؛ عبودية لآليات بيروقراطية صمّاء تفرغ الوجود من كل مضمون روحي أو ذاتي.

فالمجتمع الحديث، في سعيه لإخضاع العالم إلى أدوات الضبط والسيطرة، أنشأ ما سمّاه فيبر: القفص الحديدي، حيث يفقد الإنسان علاقته المباشرة بالعالم، ويغدو ترساً داخل آلة لا تكلّف نفسها عناء سؤاله عمّا يشعر به أو يؤمن به. إن هذا التحوّل لا يُختزل في بعده التقني أو الإداري، بل هو تحوّل في ماهية الوجود نفسه؛ إذ لم يعد العالم مكاناً مأهولاً بالأرواح والمعاني، كعالم لايبنتز الكامل بزعمه، بل أصبح شيئاً خارجياً، محايداً، تقنياً، لا يتفاعل مع الإنسان بل يُخضِعه.

من هنا جاء مفهوم «نزع السحر عن العالم»، الذي لا يعني مجرد تراجع الخرافة أو سيادة العلم، بل انهيار النظرة القديمة التي كانت ترى في الكون كياناً مشبعاً بالرموز والمقاصد والمعاني، واستبدال نظرة حسابية بها ترى في الأشياء أدوات، وفي الإنسان وحدة إنتاج أو إدارة. وبهذا، يجد الإنسان الحديث نفسه في عزلة وجودية، محروماً من المعنى، مطالباً باختراع ما يبرر حياته في ظل انهيار المرجعيات العليا، سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية. فيبر لا يعرض هذه النتيجة بفرح تقدّمي، بل بشعور تراجيدي، إذ يعتبر أن الإنسان لم يعد قادراً على الإيمان بوحدة قيمية متعالية، وأن الأخلاق نفسها قد انقسمت إلى اتجاهات متضادة، أبرزها أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية. الأولى تلتزم بالمبدأ المجرد دون نظر في نتائجه، أما الثانية فتعترف بتعقيد الواقع، وتتحمل مسؤولية النتائج حتى لو خالفت المبدأ الأصلي.

هذا الانقسام لا يعكس مجرد جدل أخلاقي، بل يكشف عن مأزق وجودي عميق. لم يعد بإمكان الإنسان أن يكون أخلاقياً دون أن يكون مأزوماً بالضرورة، لأن كل خيار أخلاقي أصبح محمّلاً بإمكانات الفشل والتضحية والتناقض. ومن هنا، لا يكون الفعل الأخلاقي عند فيبر سعياً إلى الطمأنينة، بل قبولاً باللايقين، وتحملاً للمخاطرة، واعترافاً بغياب الكمال.

هذه الرؤية تمتد إلى السياسة حيث يُقدّم فيبر شخصية الفاعل السياسي نموذجاً للوعي التراجيدي، الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يحقّق الخير المطلق، لكنه يواصل فعله بوصفه مسؤولية لا يمكن التخلّي عنها. كما يكشف فيبر في كتاباته عن توتر بنيوي داخل الحداثة، يتجلّى في الثنائية بين الشخصية الكاريزمية الملهِمة التي تُحدث قطعاً مع المألوف وتؤسس قيماً جديدة، وبين الشخصية التنظيمية المحايدة التي تحافظ على النظام. فالشخصية الكاريزمية الملهِمة عند فيبر هي الفاعل الخارج عن القاعدة، التي تتلقى رؤيتها من قوة عليا، وتتكلم من موقع الإلهام لا من موقع التخصّص، وهي في ذلك تشكّل بداية جديدة، لكن هذا لا يستمر بعد موتها. ما إن تغيب، حتى تبدأ حركتها بالتقنين، وتتحوّل الكاريزما إلى نظام، أي إلى بيروقراطية.

هذا التحوّل الحتمي من الرؤية إلى الإدارة هو ما يجعل التاريخ الحديث دائرة مأساوية من الإلهام إلى الخمود، ومن الثورة إلى التقنين، وتكوّن نظام إداري وتشريعي يضمن الاستمرارية، لكنه لا يستبقي الروح الأولى. وفيبر، إذ يصف هذا التحوّل، لا يراه فساداً طارئاً، بل ضرورة تاريخية تُظهر أن العالم لا يُدار بالكاريزما، بل بالبيروقراطية، وأن الحداثة لا تحتمل الأنبياء، بل تحتاج إلى موظفين. لكن هذا الانضباط، رغم ما يمنحه من استقرار، لا يمنح الإنسان المعنى، ولا يروي ظمأه الوجودي. ولهذا فإن الحداثة، من وجهة نظر فيبر، تفتقر إلى البطل، وتنتج إنساناً فاقداً للروح، يعمل بلا شغف، ويعيش بلا رؤية. غير أن فيبر لا يسقط في اليأس، بل يرى أن ما تبقّى للإنسان هو أن يتحمّل مسؤوليته في خلق المعنى، لا عبر العودة إلى الوهم، ولا عبر التسليم للتشاؤم، بل عبر تأكيد فعله الحر، رغم إدراكه لانعدام الضمان. هو موقف أقرب إلى التراجيديا منه إلى العبث، أقرب إلى كانط منه إلى نيتشه، رغم تأثره العميق بكليهما. فلا المعنى يُعطى، ولا القيم تُفرض، بل كل شيء يُبنى من الداخل، عبر فعل حرّ، قلق، لا يضمن شيئاً إلا صدقه مع ذاته.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:  21 يوليو 2025 م ـ 26 مُحرَّم 1447 هـ

في مقال هام مؤخراً لأستاذَيْ العلوم السياسية الروسيين، ارتيوم لوكين وارترير كورول، في مجلة «روسيا في الشؤون العالمية» (تصدر بالروسية والإنجليزية) حول ما بعد الحداثة في علاقتها بالسياسة ما بعد الليبرالية، نقرأ معالجةً طريفةً لتوجهات النظام الدولي الحالي من منظور ما اعتبره الكاتبان نهايةَ السيطرة الفكرية الغربية على رؤية العالم وبروز قوى حضارية جديدة ستحقق التوازن المنشود في العلاقات الدولية.

 مقولة «ما بعد الحداثة» postmodernism ظهرت، كما هو معروف، في نهاية السبعينيات، على يد الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، وقد عرّفها بأنها «نهاية السرديات الكبرى للحداثة»، وهو يعني هنا الوعي الذاتي، والعقل التجريبي، والتاريخ الغائي والدولة العضوية.

 ما يبينه الكاتبان الروسيان هو أن هذه الفكرة عُرفت على نطاق واسع بأنها يسارية تتعلق بنقد العقلانية الأداتية وكشف مظاهر التداخل بين المعرفة والسلطة ومحاربة الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، كما هو جلي في أعمال ميشال فوكو وجاك دريدا وريتشارد رورتي.. بيد أنها في الحقيقة تعود للسياق المحافظ وليس للوسط اليساري الذي افتكها لاحقاً. لقد ظهرت موجة نقد التنوير والحداثة مع كانط وهيغل في مجهودهما للجم حركية العقلنة المناوئة للدين والتقليد، وبلغت أوجها لدى نيتشه وهايدغر وفيتغنشتاين.

ما يخلص إليه الكاتبان هو أن التركة الأساسية لحركية ما بعد الحداثة، هي النقد الجذري للمركزية الثقافية الغربية وللتصور الأحادي للتاريخ والتأكيد على الأبعاد غير العقلانية في الوجود والتفكير، وعلى عرضية واحتمالية الواقع بدل خضوعه لمبادئ وقواعد حتمية يحددها العلم التجريبي.

إن هذه الأفكار، وإن تبناها اليسار، هي في حقيقتها أفكار قومية محافظة، وقد عادت اليوم بقوة عبر الموجة ما بعد الليبرالية التي تجتاح العالمَ راهناً، في ما يشبه نشوء ثورة محافظة شاملة.

بيد أن ما يهم الكاتبين هو ما يتعلق بنهاية السردية المركزية الغربية ونشوء أقطاب ثقافية استراتيجية بديلة، تتمحور حول الصين والهند وروسيا.

في الصين تدور تجربة التحديث الاقتصادي والتقني حول هدف خَلقِ «شكلٍ جديد من الحضارة الإنسانية» يتجاوز نموذج الحداثة الرأسمالية. ومع أن للنموذج الصيني خصوصياته المحلية، إلا أنه يطمح ليكون بديلا عالمياً، كما يظهر من مقولة «المجموعة العالمية ذات المصير المشترك».

وإذا كان النموذج الصيني هو مزيج من الاشتراكية الماوية والتقانة الرأسمالية في سياق حضاري كونفوشيوسي دون حريات ليبرالية، فإن التجربة الروسية حسب الكاتبين قادرة بصفة أقوى على مواجهة الغرب النيوليبرالي بوصفه «عدوانياً» و«غير متسامح»، متناغمةً مع الديناميكية المحافظة العارمة التي تجتاح العالَم الغربي حالياً. النظام المحافظ التقليدي في روسيا يغدو عندئذ بديلاً جذاباً عن الفوضى الغربية، وخياراً ناجعاً يتلاءم مع القيم الحضارية الأصلية للغرب.

أما الهند فهي حسب الكاتبين «أفضل نظام أيديولوجي ممكن» باعتبارها دولة ديمقراطية وإن كانت غير ليبرالية، كما أنها دينية وإن كان نمط إيمانها يختلف عن الديانات ذات البعد الثنائي، وقد يصبح نموذجها الروحي الأيديولوجي مسلكاً مغرياً للجنوب الشامل.

والخلاصة التي يصل إليها الكاتبان هي أن التعددية الروحية والأيديولوجية أصبحت اليوم سمة العالَم الراهن، ولم يعد بإمكان أي قوة دولية أن تتحكم في مصيره، بما يفرض نمطاً جديداً من المنظومة الجيوسياسية المتوازنة الضابطة للعلاقات الدولية. هذه التعددية القيمية والروحية هي المضمون الفعلي لفكرة ما بعد الحداثة، بما يعزز مكانةَ ودورَ روسيا من حيث هي القوة ما بعد الحداثية الأولى في العالَم. تفرض علينا هذه الأطروحة التي لخصناها، في سماتها الأساسية، ثلاثَ ملاحظات كبرى:

أولاً: رغم أن الحداثة كمفهوم وتجربة نشأت في العالم الغربي، إلا أنها تميزت بكونها قامت منذ ظهورها على ادعاء الطابع الكوني الإنساني، بدل أن تعبر عن هوية ثقافية أو تاريخية خصوصية. ولا شك أن محددات العقلانية والموضوعية والحرية غدت اليوم ميراثاً بشرياً عالمياً مهْما كان الخلاف حول انعكاساتها الفعلية العملية.

ثانياً: من غير الدقيق إرجاع حركية ما بعد الحداثة إلى فلسفة نيتشه وهايدغر، رغم كونهما اضطلعا بدور أساسي في نقد الذاتية والعقلانية الأداتية، لكون هذه الحركية نشأت أساساً في إطار الابستمولوجيات ما بعد الوضعية وأزمة الأيديولوجيات التاريخانية وبصفة خاصة الماركسية، وبالتالي فهي بمنأى عن الجدل اليساري المحافظ الذي يتحدث عنه الكاتبان.

ثالثاً: لا شك في أن الثقافة الليبرالية الغربية لا تزال جاذبةً ومغريةً على الصعيد الكوني، ومن الصعب اليوم منافستها ببدائل حضارية أخرى من منظور حقوق التنوع الثقافي والحضاري الذي هو في نهاية المطاف مفهوم حداثي غربي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يوليو 2025 00:26

الجماعة مصطلحٌ عريقٌ يعود حتى إلى حقبة ما قبل الإسلام، وتعني ما يجتمع حوله الناس في مجتمعٍ معيَّنٍ ويلتفون حوله من الأعراف والعادات والتقاليد الدينية والثقافية. وفي العصر الإسلامي الأول صارت الجماعة مرادفةً للسلطة الشرعية، فيقال دولة الجماعة، وفي العام 41 للهجرة سمّى العلماءُ ذلك العام عام الجماعة لأنّ العرب اجتمعوا على سلطةٍ واحدة.

لماذا يجري أحياناً التقابل بين الجماعة والدولة وكأن أحد المفهومين مناقضٌ أو مُضادٌّ للآخر؟ فالدولة تقوم في المجتمع الذي تتعدد فئاته، لكنّ الجماعة بالمعنيين العربي والإسلامي هي الجامع للمشتركات الوطنية التي تقوم عليها الدولة أو هي المعنى المتضمن للشرعية التي تتبادل الاعتراف مع السلطة السائدة، وهما يتبادلان الإحاطة والحياطة والحماية. لقد جاء التشكيك من جانب بعض الإسلامويين في الدولة الوطنية بادعاء أنها لا تمثّل الجماعة، أي إجماع المجتمع! ولو لم تكن ممثلةً للمجتمع لما قامت أصلاً، فالمجتمع لا يتوحد ولا يستقر من دون الدولة التي تمثّل إجماعاته، وهو يعرِّفُ نفسَه من خلالها، فيقال حتى في التحديد الدولي: دولة فرنسا أو بريطانيا أو مصر، كما يقال شعب مصر أو شعب فرنسا أو بريطانيا.. إلى آخره. ولذا فالدولة لا تتغير بل تتغير الحكومات، وإذا حدث اختلالٌ تنشب الفوضى ويختل الانتساب لذهاب الجماعة (وحدة المجتمع) بذهاب الانتظام في دولة.

لقد كان هذا المعنى واضحاً لدى المسلمين الأوائل، فقد سمَّوا الاختلالات التي يُحدثها المتمردون على الدولة: فتنة تجب مكافحتها، وفسّر عبد الله بن المبارك (-161ه) «حبل الله» في الآية القرآنية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» بأنه الاجتماع على الإمام (= الجماعة) بمصطلح ذلك العصر للدولة.     وهكذا ليس من الحكمة أن تضلّلنا ادعاءاتُ المتطرفين واغتصابهم للمفاهيم العميقة، فننصرف عنها وندعها لهم لاستغلالها في دعاواهم وحزبياتهم وخداعهم لعامة الناس. بل المطلوب الإصرار على تصحيح المفاهيم باستمرار وعدم السير في سلسلة الأهواء والأَوهام التي تُصطنع من أجل الفتنة والنزاعات الداخلية. لا يستطيع «الإخوان» الاحتجاج بالجماعة لأنهم هم أنفسهم انشقاقٌ عن الجماعة وفي الدين.

لقد اعتدنا على تشبيه المتطرفين وأهل العنف بالخوارج القُدامى الذين تمردوا على سلطات الدولة وعبثوا بأمن الناس. لكنّ القرآن يسمّي أمثال هؤلاء في عشرات المواضع: المفسدون في الأرض، وهم بحسب مفسّري القرآن ثلاثة أنواع: المتمردون على دعوات الأنبياء للإصلاح، والذين يخرجون على الإمام العادل، وقطاع الطرق والعصابات المسلحة. فلو كان التنكر لمفهوم الجماعة مفيداً أو يصبح منسياً، فالأمر محتمل. لكنّ الواقع أنه يصبح عرضةً للتحريف وسوء التأويل والاستعمال لمواجهة دولنا الوطنية. والشأن في ذلك مثل الشأن في مفهوم أو مفاهيم الهوية. فقد اعتبر البعض أنّ المواطنة تشكل بديلاً عن الهوية. واعتبر المضلِّلون أنّ هذا التنكر للهوية سببه أنها تشمل الدِّينَ إلى جانب العادات والأعراف والثقافة.

والواقع أنّ الهوية عمادٌ من أعمدة المواطنة، لأنّ المواطنين ليسوا أغفالاً أو أفراداً قانونيين في الدولة وحسب، وإنما هم يدخلون في المواطَنة تحت ظل الدولة الحديثة بهوياتهم وخصوصياتهم التي تتجدد وتتطور وتضيف معاني جديدة، لكنّ أصولها العرفية والثقافية لا تُلغى ولا تُتجاوَز. فالدولة الوطنية لديها مجتمع مواطنين، والمواطنون ذوو ثقافةٍ وعاداتٍ وأعراف وأصول دينية وجغرافية ونَسَبية.. لأنهم بشرٌ لهم لونٌ وطعمٌ وأخلاقٌ، وهذا هو شأن كل المجتمعات.

إنّ الخوف من الجماعة (= المجتمع) والهوية يجعل من الدولة الوطنية كائناً فضائياً لا علاقة له بالأرض والموروث واللغة وإنسانية الإنسان. ولأنّ مواطني الدولة الحديثة يعيشون على أرضهم وفي وطنهم، بموروثهم وحاضرهم وسلطاتهم، فإنّ الدولة الوطنية الناجحة هي التي تصنع التكامل وتنتج ثقافة العيش معاً، مؤلِّفةً بين الثوابت والمتغيرات من دون انتقاصٍ ولا تزيُّد

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 20 يوليو 2025 01:56

في خضم التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لم يعُد ممكناً أن يبقى الخطاب الديني حبيس زوايا التنظيمات، ولا أن تُختزل الشريعة إلى أداة استقطاب سياسي، أو واجهة دعوية تخدم مشاريع أيديولوجية مغلقة. فقد تجاوز الواقع أسئلة الماضي، ولم تُعد التحديات الراهنة تُجابَه بشعارات «التمكين» أو «المحنة»، بل باجتهاد فقهي تأسيسي، يعيد قراءة النصوص في ضوء نسق وطني جامع، يُفعّل مقاصد الشريعة في خدمة بناء الدولة لا في فلك الجماعة أو الحزب

. لقد نشأ ما يُعرف بـ«فقه الجماعة» في كنف جماعات التوظيف الأيديولوجي للإسلام بجعله فقهاً تعبوياً، يقوم على منطق الغلبة لا البناء، ويشتغل على التحشيد لا الترشيد.. لإسناد مشروع تنظيمي مغلق، قائم على الولاء الحركي لا على الانتماء الوطني، همه ضبط الأتباع لا توجيه المجتمعات، وتفصيل الطاعة على مقاس القيادة، لا تحرير الإنسان من الجهل والخرافة والارتهان. وفي سياق كهذا، تحول الفقيه من مرشد للأمة إلى ناطق باسم الجماعة، ومن خبير في فقه الواقع إلى مروّج لخطاب وظيفي يخدم غاية حزبية ظرفية. وعلى النقيض من ذلك، يقوم فقه الدولة، أو ما يمكن تسميته فقه البناء المؤسسي، على رؤية شاملة تجعل من الشريعة إطاراً تشريعياً عقلانياً لبناء العمران البشري، حيث تعد الدولة الوطنية الأفق الطبيعي لتحقيق مقاصد الإسلام الكبرى.

فالدولة الوطنية ليست عائقاً أمام الشريعة كما تُوهم بعض أدبيات التنظيمات، بل هي الحاضنة الأوسع لتحقيق كليات الشريعة: حفظ النفس والدين والعقل والمال والكرامة.. وهي بذلك تتجاوز المنطقَ الفئوي في النظر إلى الدين، كي تعيده إلى مداره الأصيل: مرجعية توجيهية للمجتمع بأسره لا لشريحة منه. ولا يعني الانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة تخلياً عن المرجعية الإسلامية، بل العكس تماماً، إنه تحرير لها من الارتهان الحزبي، وتخليصٌ لوظيفة الدين من التوظيف الدعوي المغشوش. فالدين ليس ملكاً تنظيمياً، ولا بوقاً دعائياً، بل هو رأسمال حضاري مشترك، لا يجوز اختطافه لصالح جماعة مهما ادّعت.

ومما أثبتته التجربة أن تديّن الجماعات لم يؤسّس مشروعاً حضارياً جامعاً، بل أنتج الانقسام، وكرّس الشحن الأيديولوجي، وأسّس لمنطق إقصائي يُكفّر المخالف ويصادر التعدد، ويعطّل إمكانات الإصلاح من داخل الدولة. وعليه، فما نحتاج إليه اليوم ليس اجترارَ اجتهادات متقادمة نشأت في زمن الاستضعاف، بل فقهاً وطنياً جديداً يستجيب لمتطلبات الدولة الحديثة، ويُعيد للفتوى اعتبارَها بوصفها توجيهاً عاماً لا توظيفاً مؤقتاً. ففقه الدولة لا يُجيب فقط عن الأسئلة، بل يصوغها من جديد: ما غاية التشريع؟ ما موقع المواطنة في البناء الفقهي؟ كيف نفعّل العدالة الاقتصادية؟ وكيف نوازن بين النظام والحرية، بين المصلحة الخاصة والصالح العام؟ وهي أسئلة تُجاب بمنهج السياسات الشرعية، والعقود الاجتماعية، والفقه المؤسسي الرصين.

إن زمن الاستعانة بالفقه لتبرير الانغلاق الذهني، أو لتغذية مشاعر الرفض والقطيعة مع الدولة والمجتمع، قد ولى. فالمواطنة اليوم هي قاعدة العقد السياسي، والمصلحة العامة هي مقصد الشرع في هذا العصر، والدولة الوطنية تظل الإطار الوحيد الممكن لتفعيل الشريعة، وتحقيق التنمية، وضمان السلم الأهلي. وكل فكر يرفض هذه الحقيقة، أو يصرّ على تجاهلها، إنما يعيد إنتاج العجز، ويكرّس فقهاً مؤجَّلاً لا يخدم حاجات الناس ولا يواجه تعقيدات العصر. لقد آن أوان استعادة الفقه من قبضة التنظيم، وتحريره من الارتباط الحزبي، وتأهيله ليكون علماً للعمران، لا أداة للتجييش.

نحتاج إلى تكوين فقيه جديد، يُدرك تعقيدات الواقع، ويشتغل بعقل المجتمع لا بعقل التنظيم، كما نحتاج إلى إصلاح المؤسسات الدينية لتفكر بمنطق الأمة لا بمنطق الجماعة، وإلى اجتهاد مؤسسي لا يكتفي بشرعية النص، بل يُراكم شرعية النظام العام، ويُؤسس لفقه الاستقرار والسلم والكرامة. لا الجماعة هي الأمة، ولا التنظيم هو الوطن، ولا البيعة تُغني عن الدستور.. ومن لا يرى في الدولة الوطنية إلا خصماً لعقيدته، فليعلم أن معركته ليست مع الواقع فقط، بل مع روح الشريعة نفسها.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 يوليو 2025 23:42

 

رسالة نقدية من الماضي جديرة بأن نتذكرها اليوم

كان الناقد والأكاديمي الإنجليزي الأشهر ف. ر. ليفيز يؤمن أن الأدب لا يجب أن يقف بمعزل عن الحياة، وإنما يجب أن يغذيها بقيمها الحضارية والأخلاقية، وأن دراسة الأدب ينبغي أن يكون لها تأثير نافذ على الإحساس والفكر ومعايير الحياة، ومن ثم على القوى التي تحكم العالم أجمع، وإلا كانت بلا طائل.

ولد ليفيز F.R.Leavis (1895 - 1978) في كمبريدج وتلقى تعليمه بجامعتها العريقة إلى أن صار أستاذاً فيها وقضى عمره المديد يبث أفكاره ويؤسس مدرسته النقدية من موقع الأستاذية وحتى تقاعده في سنة 1962. وفي سنة 1932 أصدر مجلته النقدية الشهيرة وأطلق عليها اسم «Scrutiny» أو «تمحيصات» واتخذ منها منبراً لنشر أفكاره النقدية وتقويماته الأدبية هو وأتباعه وتلامذته. استمرت المجلة تصدر لمدة واحد وعشرين عاماً إلى أن توقفت عام 1953، واليوم تعد مجلداتها صرحاً شامخاً من صروح النقد الأدبي الحديث في العالم الغربي.

كان ليفيز فارساً من فرسان الزمان القديم وكانت نقمته على مظاهر الحياة في القرن العشرين عظيمة. ومن هنا صبّ جام غضبه على عصر الصناعة والتكنولوجيا وعلى ضروب الثقافة السلعية التي تسعى لتملق جهل الجماهير. اعتقد ليفيز أن هذا العصر بسماته الصناعية الفاسدة قضى على الحياة الاجتماعية العضوية في إنجلترا (وهو ما نستطيع بلا شك تعميمه على مجتمعاتنا العربية). ونراه يتحسر في كتاباته على خصائص تلك الحياة التي مضت إلى غير عودة من قبيل الأغاني والرقص الشعبي والعيش في الأكواخ الرعوية ومنتجات الحرف اليدوية إلى غير هذا من مظاهر الحياة في عصر ما قبل الثورة الصناعية، التي اختفت لتحل محلها الأفلام والصحف ووسائل الإعلام والإذاعة والتلفزة إلى آخر هذه القائمة التي أنحى عليها ليفيز باللائمة لإشاعة الابتذال في الحياة العصرية. ولنذكر أن هذا كله كان قبل عصر الحاسوب والإنترنت والهاتف الذكي والذكاء الاصطناعي إلى آخر القائمة التي استجدت منذ وفاة ليفيز قبل أربعين سنة ونيف. أتصوره لو عاد إلى الحياة اليوم لسارع يطلب رحمة الموت من جديد.

درج النقاد على إلحاق ليفيز بمدرسة معلم كبير من معلمي الإنجليز في القرن التاسع عشر، ذلك هو الشاعر الناقد توماس آرنولد (1795 - 1842). يظهر تأثير آرنولد على ليفيز في إصراره الدائم على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس. فآرنولد هو رسول القرن التاسع عشر الذي نادى بأن الشعر ينبغي أن يكون «نقداً للحياة»، وأن النقد يجب أن يكون له دور تربوي. كان آرنولد يعتقد أن الثقافة هي القوة التي بوسعها أن تنقذ العالم من التردي في مهاوي المادية، وكان هو أول من سعى في مقالاته النقدية إلى التأكيد على أهمية الشاعر في المجتمع وليس فقط في إطار حرفته الفنية. ووصل آرنولد إلى حد الربط بين وظيفة الدين ووظيفة الشعر في تقويم الوجدان البشري. هذه الأهمية التي يضفيها آرنولد على دور الشعر في المجتمع هي الأرضية التي يلتقي فيها مع ليفيز.

يقول ليفيز إن وظيفة الناقد هي أن يحاول أن يرى شعر الزمن الحاضر باعتباره استمراراً ونمواً للماضي. بمعنى أن القصيدة التي يكتبها شاعر ما اليوم لا تنشأ في فراغ ولا تنقطع صلتها بجذور التقاليد الأدبية الراسخة في الزمان، وإنما تُعتبر صورةً من صور الحياة العصرية التي تكتسبها تلك التقاليد. أما حين ينظر الناقد إلى شعر الزمن الماضي فمهمته تتحول إلى إرساء الماضي في صلب الحاضر بمعنى أن شعر الأجيال الماضية يستمر في إنارة وجداننا المعاصر ويواصل إضفاء المعنى على حياة البشر عبر الأجيال، فلا حياة للماضي إلا في الحاضر. وبذلك فإن الناقد عن طريق إقامة جسر بين الماضي والحاضر يوفر للبشرية نوعاً من الذاكرة الحية اللاشخصية، التي تتطلع نحو المثل الأعلى وتمثل معياراً أخلاقياً صالحاً.

ما هو السبيل إذن الذي يسلكه الناقد للوفاء بهذه المهمة؟ إن أداة الناقد عند ليفيز هي التحليل الدقيق أو «التمحيص» إذا شئنا استخدام كلمته الأثيرة، التي أطلقها عنواناً لمجلته النقدية المذكورة. حين يتناول الناقد شاعراً ما بالدراسة ينبغي أن يكون أسلوبه في البحث هو النظر التحليلي الدقيق في نص القصائد بحيث لا يصدر أحكاماً نظرية أو تعميمات إلا إذا كان يمكن تحقيقها بالرجوع إلى النص والاستشهاد به. ولا سبيل للناقد إلى ذلك إلا بالحد من حريته الشخصية وإنكار ذاته إنكاراً بيّناً بمعنى أن تحليلاته واستنتاجاته لا بد أن تكون قائمة على أسس موضوعية صرفٍ وتكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنص. بذلك يبتعد النقد عن مزالق الذاتية ويتطلع إلى مراتب العلم الموضوعي.

غنيٌّ عن القول إن مهمة الناقد تكون ناقصة إذا انحصرت في دراسة الشاعر الفرد باعتباره فرداً فحسب. إنما تتمثل رسالة الناقد في إقامة الصلة بين الشاعر الفرد والتقليد الأدبي الذي ينتمي إليه والممتد عبر العصور. ذلك أن الشاعر الفرد لا يعيش خارج التقليد وإنما هو جزء عضوي منه. بعبارة أخرى هو يعيش في التقليد والتقليد يعيش فيه. وإذا كان سبيل الناقد إلى دراسة شاعر معين هو أن يلجأ إلى اختيار مقتطفات من أعماله تدل عليه وتمثل خواص أسلوبه ورؤياه، فإن سبيله إلى دراسة تقليد أو عصر أدبي بعينه هو اختيار بضعة من شعرائه تبرز في قصائدهم السمات المشتركة لذلك العصر أو التقليد. ويعتقد ليفيز أن تبعة الناقد تنحصر في أن يكتشف لنفسه الحقائق البينة في موضوع بحثه وأن يفصح عنها بوضوح وإحساس بالمسؤولية.

غير أن ليفيز كان ناقداً لا يعرف في الحق – أو فيما يعتقد أنه الحق – لومة لائم. وكانت معاييره النقدية معايير مثالية متعالية لا تقنع إلا بجلائل الأعمال الأدبية ولا تلتفت سوى إلى خلاصة الخلاصة وما يتدنى عن ذلك قيد أنملة فهو من سقط المتاع ولغو المقال ولا نجاة له بحال من هراوة ليفيز النقدية الغليظة التي لا تعرف شفقة ولا رحمة. ومن أمثلة شطط ليفيز وتطرفه في أحكامه النقدية القاطعة أنه أدان الروائي الإنجليزي الأشهر تشارلز ديكنز باعتبار رواياته، باستثناء «زمن عصيب» (Hard Times)، خلواً من أي قيمة اللهم إلا تسلية جمهور القراء. وأصدر حكمه على الروائية المحدثة فرجينيا وولف، التي أسهمت في ابتداع الأسلوب السردي المعروف بتيار الشعور، قائلاً إن اهتماماتها لا تتجاوز تفاهات الاستجابة الانطباعية لتجربة الحياة. حتى جون ميلتون فخر الشعر الإنجليزي الذي صاغ قصة الخلق في الملحمة الكبرى المعروفة بـ«الفردوس المفقود» لم ينجُ من حكم قاسٍ يدين شعره بالآلية ويقرن صياغته للشعر بعمل البنّاء الذي يضع قالباً من الطوب فوق آخر.

هكذا تنهال ضربات ليفيز القاصمة ذات اليمين وذات اليسار. وإذا كان أساطين القص والشعر التاريخيون لا ينجون من نقده الباطش ولا شفيع لهم بين يديه، فلا عجب أن صرعاه من معاصريه كانوا أسوأ حظاً. ولنطالع نموذجاً من أسلوبه الجارح الذي يتجاوز الموضوعية إلى ضرب من السب والإهانة الشخصية، إذ يقول في نقده للروائي البارز المعاصر له سي. بي. سنو (C. P. Snow): «يظن سنو أنه روائي لكني أقول إنه لا وجود له بصفته روائياً، ولن يكون له وجود. بل لا يمكن القول إنه على دراية بماهية الرواية. إن كل صفحة من قصصه تنضح بالتفاهة التي تتكشف لنا على الدوام في كل زاوية من زوايا قصصه. إني أحاول أن أتذكر أين سمعت (أم أني حلمت؟) أن رواياته إنما يكتبها له عقل إلكتروني يُزود بالتعليمات في هيئة عناوين فصول. إن الحكم الذي توصلت إليه هو أن سنو يخلو تماماً من أي شيء يميزه عقلياً».

كان ليفيز ناقداً عظيماً، ومثل كل العظماء اختلف الناس فيه وانقسموا ما بين مؤيد ومعارض. ولعل أفضل كلمة تلخص ما صار في عالم الأدب والنقد في عصر ما بعد ليفيز هو ما تنبأ به الناقد الإنجليزي جون كاري والأستاذ الفخري في جامعة أكسفورد في تأبين ليفيز وقت وفاته: «إنما هو احتمال بعيد أن نشهد ناقداً بحجم ليفيز مرة أخرى، ذلك أننا لم نعد نملك إيمانه بقدرة الأدب في التأثير على القوى التي تحكم العالم. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو مصداقٌ لقول الشاعر أودن (W. H. Auden) إن «رجال الشرطة السرية وليس الشعراء هم سلطة التشريع غير المعلنة في هذا العالم» كانت نبوءة تخلو من التفاؤل، لكن للأسف لم تكذّبها الأيام، ما يدعونا اليوم للتشبث أكثر بمثالية ليفيز وإيمانه بقدرة الأدب على تغيير المجتمع والعالم والضمير البشري. كان ليفيز يصر دائماً على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس

***

د. رشيد العناني

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 12 يوليو 2025 م ـ 17 مُحرَّم 1447 هـ

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية». أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواءٌ منَحَنا الحبُّ متعة عظمى أم تسبّب لنا بمعاناة رهيبة، فإنّ قليلين وحسبُ هم الذين ينكرون أنّ الحب هو ما يمنح الحياة معنى وهدفاً جديريْن بالاحترام، وإنّ غياب الحب يحيل الحياة صحراء موحشة. هناك كثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل: كيف يمكن لهذه الخصلة الإنسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟ وإذا كان «الحب هو كل ما تحتاجهAll You Need is Love » كما تخبرنا كلمات أغنية فرقة البيتلز، فلماذا يبدو أحياناً أن الحبّ ينساب في مسارات خاطئة تقود إلى آلام ومعاناة مؤذية؟ وكيف يمكن لشيء مثل الحب، يبدو في غاية الوضوح، أن يتسبّب في آلام وتناقضات على قدر عظيم من الإيذاء؟ يبدو أن السببَ يكمن في أنّنا لا نفهم الحب على قدر وافٍ من الكفاية والتمعّن والاستبصار الفلسفي.

يبدو الحب نوعاً من دفقة «تسونامي» تضرب كيان الفرد، وتدفعه للإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة. شاعت هذه القناعة لدى كثير من الفلاسفة منذ عصر الإغريق حتى اليوم، ممّن يرون في الحب عرضاً من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام. من المثير في هذا المقام، قراءة المقطع التالي الوارد في كتاب «الحب: مقدّمة موجزة» المنشور عن جامعة أكسفورد للفيلسوف رونالد دي سوسا Ronald De Soussa:

«ثمة صِدامٌ من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى للحب مع المثال السائد عن الحبّ، لأنّ الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة. الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك. ثمة ملحوظة تعني - ربما - أنّ الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي، وربما حتى غير الصحي، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة، قد شجبوا الحب، ورأوا فيه حالة مرضية (باثولوجية)».

طرح الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون في حواراته المعروفة وحتى عصرنا هذا، نظرياتٍ كثيرة حول الحبّ، من شأنها أن تُثير فينا كثيرًا من التساؤلات. إذا كنا نحبّ الناس لصفاتهم، على سبيل المثال، فهل من المقبول أن نحبّ أي شخصٍ له الصفات نفسها، أو أن نُمسِكَ عن حب شخصٍ ما إذا تغيرت صفاته؟ وإذا كنا نُقدّر، بدلاً من ذلك، صفات من نحبّ فقط لأننا نحبّه، فلماذا لا نُوسّع نظرتنا المُحِبّة إلى مزيد من الناس بدلاً من جعلها مخصوصة بفرد واحد؟

الحبّ شعورٌ يصيبنا بإرباك لا يمكننا التفلّت من تأثيراته أو تغافل التفكير فيه. على سبيل المثال، تشيرُ إحصائية حديثة إلى أنّ الناس في الولايات المتحدة يبحثون عن كلمة «حب» على «غوغل» نحو 1.2 مليون مرة كلّ شهر، وأنّ ما يقربُ من رُبْع هذه العمليات البحثية تسأل «ما هو الحب»، أو تطلب «تعريفاً للحب». يبدو الحب خصيصة ملازمة لحياة كلّ كائن بشري.

يُخبرنا علم الأعصاب بأن الحبّ ناتج عن مواد كيميائية (نواقل عصبية) مُعيّنة في الدماغ. على سبيل المثال، عندما تُقابل شخصاً عزيزاً، فيُمكن حينئذ لهرموني الدوبامين Dopamine والنورإبينفرين Norepinephrene، أن يُحفّزا فيك استجابة مكافأة تجعلك ترغب في رؤيته مرة أخرى. الأمر مشابه تماماً عندما تتذوّقُ الشوكولاته وترغب في مزيد منها لاحقاً.

مشاعرك هي نتيجة هذه التفاعلات الكيميائية. عندما تكون بجانب شخص تُعجَبُ به، أو صديقٍ مُقرّب منك، قد تشعر بشيء من الإثارة والانجذاب والفرح والمودّة. تشعرُ بالسعادة عندما ترى من تحبّ يدخل الغرفة التي تجلس فيها. مع مرور الوقت تشعر بالراحة والثقة. يختلف شعور الحب بين الوالدين والطفل عن حبّ رجل وامرأة بالغيْن، ويختلف شكلا الحب هذان عن حبّ الشوكولاته مثلاً. الفرق هو في طبيعة الناقل الدماغي (بمعنى اختلاف التجربة الكيميائية الحيوية التي تجري وقائعها في الدماغ).

ولكن، هل هذه المشاعر الناتجة عن تفاعلات كيميائية حيوية في أدمغتنا هي كل ما يُمثّله الحب؟ هل الحب محضُ شعور أم تجربة حسّية أم عاطفة منبعثة من أعماقنا؟ أظنُّ أنّ المقاربة الاختزالية التي تردُّ الحبّ إلى ناتج تفاعلات كيميائية دماغية تبدو قاصرة عن فهم الحبّ وتمثّلاته في حياتنا، وهذا تماماً ما جعل الحبّ ميدان دراسة فلسفية خارج أنطقة المختبرات والمشاهدات العيانية الصارمة.

اهتمّ الفلاسفة - بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة - بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ، وهم (الفلاسفة) يتشاركون قناعة بأنّ الحب أوسعُ من مجرد شعور مستثار بدافع كيميائي.

اعتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ الحبّ قد يُولّد مشاعر كالانجذاب والمتعة، وهي مشاعر خارجة عن سيطرتك؛ لكنّ هذه المشاعر - العامّة وغير الموجّهة تجاه فرد بعينه - أقلّ أهمية من علاقات الحب التي تختار تكوينها بسلوك قصدي، وربما تشير هذه الحقيقة إلى خاصية أنانيّة متأصّلة في الحب الحقيقي: لا ترغب في أن يشاركك أحدٌ فيمن تحب.

وبالمثل ولكن بمقاربة محدّثة، ادّعى أرسطو، تلميذُ أفلاطون، أنّه على الرغم من شيوع العلاقات المبنية على مشاعر كالمتعة والانجذاب؛ غير أنّها أقلُّ فائدة للبشرية من العلاقات المبنية على حسن النية والفضائل المشتركة. السبب في ذلك اعتقاد أرسطو أنّ العلاقات المبنية على المشاعر تدوم فقط طالما استمرت المشاعر، ولا تملك خاصية التشارك الأخلاقي الذي يسمو على الزمان ومحدّدات الظروف والتغيّر المتوقّع في الرغبات والأمزجة الذهنية والتوجهات النفسية: تخيلْ مثلاً أنك شرعت في علاقة ثنائية مع شخص لا تجمعك به سوى حقيقة أنكما تستمتعان بلعب ألعاب الفيديو. إذا حصل وتوقّف أيٌّ منكما عن الاستمتاع بالألعاب، فلن يبقى أي شيء يُبقي العلاقة بينكما متماسكة. هذه هي الحقيقة الواضحة: كلُّ علاقة تتأسّسُ على المتعة المجرّدة فإنّها تزول مع زوال العنصر المسبّب للمتعة لدى أحد الأطراف، أو لدى الطرفيْن معاً. قارن علاقة المتعة هذه مع علاقة الحب. الفارق بيّنٌ وشديد الوضوح. يرغب الطرفان اللذان تجمعهما علاقة حبّ بالبقاء معاً؛ ليس بدافع متعة مشتركة بل لإعجابهما بعضهما ببعض كما هما.

يقدّم دليل أكسفورد المرجعي لفلسفة الحب The Oxford Handbook of the Philosophy of Love، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2024، مجموعة واسعة من المقالات الأصلية حول طبيعة الحب وقيمته. جمع المحرّران كريستوفر غراو Christopher Grau وآرون سموتس Aaron Smuts (وهما فيلسوفان جامعيان لامعان) كتابات نخبة من الفلاسفة من بينهم باحثون بارزون وشباب يشرعون في تشكيل مسارهم الفلسفي. يضمّ الكتاب ثلاثة وثلاثين عنواناً (موزّعة على خمسة أبواب) تتناول قضايا الحب ومعضلاته، بالإضافة إلى فلاسفة بارزين أسهموا في فلسفة الحب، مثل أفلاطون وكيركيغارد وشوبنهاور وآيريس مردوك. تتراوح الموضوعات المتناوَلَة بين القضايا المحورية حول طبيعة الحب وتنوعه، وإمكانية تبريره عقلانياً، وما إذا كان شعوراً، وأهمية الحب في القانون والاقتصاد والأخلاق والإرادة الحرة. كما يتضمن المجلّد مقدمة للموضوع، فضلاً عن مقالات حول علاقة الحب بالغيرة والدين والمعرفة والتكنولوجيا الحيوية، وكثير من الموضوعات الأخرى. اختصّ المحرّران الجزء الأخير من الدليل، وعنوانه تقاطعات Intersections، لبحث العلاقة المشتبكة بين الحب وموضوعات أخرى؛ مثل: الحب والقانون، والحب والمعرفة، والحب والأدب، والحب والدين، والحب والحرية. سيكون هذا الدليل الشامل مرجعاً أساسياً للمتخصّصين في فلسفة الحب، ودليلاً مفيداً لمن يتطلّعون إلى معرفة المزيد عن هذا المجال من غير ضرورة مسبّقة لأن يكونوا فلاسفة متمرّسين.

أرى أنّ جزءاً حيوياً من أهمية هذا الكتاب (وسواه من كتب الدليل المرجعي Handbooks) يكمن في أنّه يوفّرُ للقارئ طيفاً واسعاً من العناوين التي يستطيع انتقاء ما يشاء للاستزادة من قراءتها والتفكّر فيها. تتعاظم هذه الأهمية في عصرنا المتفجّر بفيوض لا تنقطع من المعلومات والمعرفة اليومية، التي بمستطاعها إغراقُنا في سيول من العناوين المفكّكة غير المترابطة التي لا ينتظمها خيطٌ معرفي.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 9 يوليو 2025 م ـ 14 مُحرَّم 1447 هـ

في العدد الأخير من مجلة «فيلسوفي ناو» البريطانية، كتب الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» عن ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي كثر الحديث عنها مؤخراً في سياق موجة الشعبوية الجديدة الصاعدة في العالم. لقد لاحظ جيجك أن ما يطلق عليه «موت الحقيقة» في السياسة ليس ظاهرة جديدة برزت مع الشعبويات الراهنة، فالتلاعب بالحقائق وتصريفها في الرهانات السلطوية والتعبوية من الأمور المألوفة في السابق، وقد شهدت أوجها في عصر صراع الأيديولوجيات التي كانت تفرض بالهيمنة والقوة حقائق رسمية، رغم أنها تتأسس على قواعد ومرجعيات كاذبة.

فالذين يبكون على الحقيقة اليوم، هم في الغالب يندبون مفهوم الحقيقة الأحادية الراسخة التي كانت تضمن حداً معيناً من الاستقرار الاجتماعي، على حساب الحقائق المتعددة المتمايزة التي هي جوهر التعددية الفكرية والقيمية في أي مجتمع حر ومفتوح. وبالاستناد إلى مقولات التحليل النفسي (لدى عالم النفس الفرنسي جاك لاكان خصوصاً) يميز جيجك بين «الكذب الذي هو حقيقة» كما لدى الشخص الهستيري الذي تثبت المعاينة الطبية أن أعراض علته تكشف عن حقائق دفينة مخفية غير واعية، و«الحقيقة التي هي كذب» كما لدى الشخص الذهاني الذي يستخدم الوقائع الحقيقية في التضليل والتنكر للحقائق الموضوعية.

ومن هنا يستنتج لاكان أن الحقيقة لا تكمن في مضمون الخطاب، بل في الممارسة الخطابية نفسها ذات الأوجه والخيارات المتنوعة المتعددة. ومع ذلك لا يمكن الخلط بين الحقائق المستقلة عن الذات وما يسمى الآن بالحقائق البديلة التي هي اختراعات لفظية لا تستند للواقع وإن كانت لها آثار فعلية حقيقية.

إن هذه الحقائق البديلة التي أشار إليها جيجك في مقاله المذكور، هي أقرب لمفهوم «الأسطورة» لدى عالم الاجتماع بيار بورديو، من حيث كونها خرافة تفضي إلى نتائج حقيقية غير وهمية.في السياسة لا يمكن الوصول إلى حقائق يقينية على غرار الأحكام المنطقية أو القوانين الطبيعية، لكونها تتعلق بأمور عرضية احتمالية وملتبسة. ذلك ما بينته الفلسفة منذ أرسطو، وأكدته الفلسفات التأويلية المعاصرة في رصدها للحاجز الدلالي الواسع بين تصورات الوعي والرهانات الحقيقية للممارسة التي تقتضي خطاباً ثالثاً كاشفاً للمعاني الخفية غير الواعية. في التقليد الإسلامي مقاربتان متعارضتان حول مفهوم السياسة، التي هي من جهة تطبيق قيم الفضيلة والعدل في الواقع الاجتماعي، وهي من جهة أخرى تكريس للقوة والتسلط والقهر في المجال المدني.

لقد عرّف الغزالي السياسة بالمعنى الأول بقوله «إنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق الصحيح في الدنيا والآخرة»، فالأساس فيها هو الخير والعدل، أو «صناعة الخير العام» بلغة ابن خلدون. لكن الغزالي هو أيضاً مَن يقول إن مدار الإمامة هو «الشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع».

وبالنسبة لعلماء الإسلام وفلاسفته في العصور الوسطى فالمثال الأخلاقي للسياسة هو الحقيقة والخير، إلا أن هذا المثال يظل طوبوئياً متعارضاً مع الواقع الفعلي الذي يتطلب تزييف الحقائق لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي، بما نلمسه في كتابات الأدباء والكتاب في التراث العربي الإسلامي القديم

لقد عالجت الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة ارندت هذه التمييزات في مقال شهير حول «الكذب والعنف»، بينت فيه الفرقَ النوعي بين الحقائق الموضوعية التي تتعلق بالظواهر الطبيعية والآراء والمعتقدات الجماعية التي لا تخضع لمنطق التحقق التجريبي، ومن ثم لا بد من منحها حق التنوع والتعدد الحر انسجاماً مع المنظور الليبرالي الحديث للسياسة.

الفرق هنا واضح بين التصور التكيفي الإجرائي للسياسة الذي يشرع نمطاً من التلاعب بالحقيقة وتزييفها والتصور التأويلي الذي يرفض إمكانية بناء قول يقيني أحادي في السياسة. الشعبويات الحالية تتميز بكونها تتجاوز خط الفصل الابستمولوجي والقيمي بين الصواب والخطأ، مفترضةً أن الحقيقة متوقفة على معيارية التلقي لا مضمون الخطاب نفسه، فما يصدقه الناخب هو الحقيقة ذاتها بمعزل عن تطابق الخطاب مع الواقع.

ولهذه الظاهرة علاقة بديهية بتحولين كبيرين هما: نهاية احتكار المعلومة العمومية نتيجة لوسائل الاتصال الجماعي الجديدة ونضوب الأنساق الأيديولوجية السابقة. وحاصل الأمر أن السياسة، وإن كانت لا تقوم على الحقائق الوثوقية المطلقة، كما أن المعيار فيها هو المصلحة والنجاعة العملية وليس المحددات النظرية المجردة، إلا أنها لا تقوم دون مرجعية الحقيقة التي تتجسد موضوعياً في تعددية الآراء والأفكار والتصورات بغض النظر عن تقويمها المعياري.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 يوليو 2025 00:26

إن هذا التعبير الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة هو في أصله تعبير لابن رشد، ذَكَرهُ في كُتيبه «مختصر المستصفى» لأبي حامد. وابن رشد المهموم بالسّنن، والحريص على تماسك المجتمع تلفاه حذراً من كل قول يبث الفرقة، ويؤجج النّزاع، ويبلبل الفكر، ويشوش على النّاس فكرهم ودينهم، وبخاصة ما يسميه بـ«الشريعة الأولى»، أي الشريعة كما تُفصح عنها ظواهر القرآن الكريم والحديث النبوي، كما يفهمها جميع المخاطبين على اختلاف مراتبهم في التصديق. ومن هنا نقده لتأويلات علماء الكلام في الشريعة التي اتسمت بالتخبط في إخراج الخطاب القرآني عن مقاصده العقدية. وعملاً منه على تصحيح ما أحدثه هؤلاء في الشريعة من تمزق، كتب كتابه الهام «مناهج الأدلة».

لكن ابن رشد في «مختصر المستصفى» أكثر التحذير ممّن أسماهم بـ«عوام الفقهاء»، هذه الفئة المنتسبة للفقه بحفظ الفروع والقياس عليها، والذّاهلة عن التغيرات المذهلة التي طرأت على مجتمعاتها، وهي التغيرات التي تقتضي نظراً فقهياً جديداً متمرساً بالاجتهاد، لكن هؤلاء العوام يقولون فيها أقوالاً مجلوبة من عصور مضت، أقوالاً مكرورة في القديم لوقائع مضت وانتهت، أقوالاً إن كانت صالحة لزمان مضى فهي عن الزمان المعيش أبعد وأنأى. ومن هنا حرص ابن رشد على بيان أن هذه الفئة من الفقهاء ليس لها محل معتبر في المدينة الإسلامية لأنها ترهن الحاضر بالماضي، فتضيق على الناس ديناً أصبح الواقع شريكاً في الحكم على قضاياه، كما فصّل في ذلك فيلسوف المعقول والمنقول الشيخ العلامة ابن بية حفظه الله. إن إشراك الواقع في الحكم أمر يذهل عنه عوامُ فقهاء زماننا لفقدهم بوصلة الاجتهاد التي تقتضي تكويناً عميقاً يؤهل لنظر يتردد بين أصول الشريعة وبين الواقع الذي تفك مغاليقه العلوم الإنسانية. وقد شبّه ابن رشد هؤلاء العوام بصانعي الخِفاف الذين عِوض أن يصنعوا لكل قدم خُفًّا مناسباً له، يصنعون، خفافاً كثيرة ويراكمونها في دكاكينهم، وكلما جاءهم طالبٌ خُفٍّ أخرجوا له خُفاً مما صنعوه من قبل دون مراعاة المقاس، وكأن الأقدام كلها على مقاس واحد. وهو مثال استعاره ابن رشد من كتاب السفسطة لأرسطو.

إن الإصلاح الديني المعاصر يقتضي خلق فضاء فكري سليم من التشويش والبلبلة، وقد كان اقتراح ابن رشد ليس فقط «إلجام العوام عن علم الكلام» تأسياً بالغزالي، بل إلجام علماء الكلام أنفسهم عن علم الكلام، مع دعوة إلى إقصاء «عوام الفقهاء» من المدينة الإسلامية. ولله در أبي حامد الغزالي الذي أفرد كتاب العلم، من «إحياء علوم الدين»، لسبر أغوار نفوس هؤلاء العوام، قبل أن ينادي ابن رشد بضرورة تطهير المدينة الإسلامية من آفاتهم العلمية والخلقية.

قد يثير البعض شكوكاً على هذا الموقف فيقول: إن فيما تقوله دعوة إلى إيقاف الحركية الفكرية داخل المجتمع بما هي حركية تتغذى من التّناقضات والمتضادات الفكرية؟ ونسارع فنقول: من بديهيات القول إننا نعاني في حركيتنا الثقافية المعاصرة من وضع يغيب فيه التعامل غير النقدي مع تراثنا وماضينا، وهو ما يجعلنا نستدعي إشكالات الماضي لحاضر لم يعد له من نسب كبير إليها، وأن المطلوب اليوم هو سعي حثيث إلى إقامة علاقة تأويلية جديدة مع القديم، قراءة تتغذى من مكتسبات المناهج الحديثة والعلوم الإنسانية من أجل قراءة تراثنا قراءة تجد في التّجاوز طموحاً إلى تأسيس ذات عربية، بشخصيتها القاعدية، فاعلة في الحقل الفكري المحلي والعالمي، ومستشرفة آفاق الكونية التي كنّا دوماً جزءاً منها قبل أن تنحسر أدوارنا في التاريخ.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يوليو 2025 22:30

 

كثيراً ما يُحتفى بالنصوص، وتُحفظ المتون، وتُستعرض الفتاوى، ثم يُسدل الستار على العقل وكأنّه أدى مهمتَه وانصرف. غير أن التدبر الصادق يُلزمنا أن نتوقف مليّاً: هل يمكن لنصٍ أن يؤدي وظيفتَه إذا قُدِّم له عقلٌ لا يسأل، ولا يتأمل، ولا يزن، بل يكتفي بتكرار ما قيل، ولو تغيّر ما كان يُقال فيه؟

وهل يَثبت الدين في الوجدان والفكر، إذا غاب الوعي الذي يمنحه المعنى، ويُجدّد صلتَه بالواقع والإنسان؟ العقل في المنظور الإسلامي ليس جهازاً حياديّاً، بل هو آلة الفهم، ومناط الخطاب، وشريك أصيل في بناء المعرفة. وليس صدفةً أن يُخاطِب القرآنُ الإنسانَ بنداءات متكررة: «أفلا تعقلون»، «أفلا تتفكرون»، «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».. إلخ. فالدعوة إلى النظر والتعقل ليست مزيّةً إضافيةً، بل ضرورة تكوينيةً في فهم الدين، وفي إنزاله على الوقائع، وفي تحريره من الجمود والتكرار.

وليس في تاريخ الإسلام شاهد أبلغ من المدارس العلمية الكبرى التي لم تفصل بين النص والعقل، بل جعلت مِن العقل أداةَ تفكيك، ومن النص مادةَ بناء، ومن الواقع ميداناً للتنزيل. لقد كان الغزالي، والجويني، وابن رشد، وابن عاشور، وغيرهم، يمارسون التفكيرَ في النص، لا حوله فقط، ويُحاورون الوحيَ بالعقل، لا ضده، ويعتبرون أن فقه الشريعة لا يستقيم دون نظرٍ في المآلات، وفهمٍ للمقاصد، وإدراكٍ لسياقات الإنسان والمجتمع.

لكنّ ما نلاحظه اليوم هو تنامي ظاهرة تقديم الشكل على المعنى، والحرف على المقصد، والجزئي على الكلّي، وكأن التفكير أصبح عبئاً لا فضيلةً، نقيصةً لا فريضةً! فنرى من يحتدّ في مسائل جزئية –كمسألة في هيئة اللباس أو سُنّة ظاهرية– ويغفل عن قضايا العدالة، وكرامة الإنسان، واستقامة المعاملات، وتحصين الأمة من الانهيار القيمي والمعرفي. وقد يتحوّل هذا الميل إلى الجدل الظاهري عن غير وعي، أي إلى عائق أمام نهضة حقيقية تُنير العقولَ وتفتح أفقاً للاجتهاد الخلاق.

الخلل هنا ليس في النصوص، وإنما في غياب التفكير المؤسّس الذي يُعيد ترتيب القضايا، ويحرّر العقلَ المسلمَ مِن التبعية لنمط تدين مشروط بظاهر التقليد لا بروح المقصد. وهذا لا يعني الاستهانةَ بالظاهر، ولكن رفض تحويله إلى معيار جامع مانع يُفصل به بين الإيمان والنفاق، بين الصلاح والفساد.. في مشهد يهيمن عليه التصنيفُ بدل الفهم، والتكفيرُ بدل التقدير.

إن التحدي الحقيقي ليس في كثرة المسائل، ولكن في ندرة المفكرين القادرين على إعادة بناء العلاقة بين النص والعقل. وما لم نستأنف هذا المشروعَ، فسنظل نستهلك الفقه ولا نجتهد فيه، نردّد الأقوال ولا نحرّر مقاصدها، نحفظ النصوص دون أن نسائلها بمنطق الزمان ومتغيراته.

التفكير ليس خصيصة الفلاسفة ولا النخب فقط، بل مطلباً شرعياً، ومقتضى إيمانياً، وعلامة حياة. وكما قال الحسن البصري: «ما زال أهل العلم يَفكرون حتى نطقوا»، والساكت عن التفكير، هو في أحد الوجوه ساكت عن واجب شرعي، وفاعلٌ في ترسيخ التقليد الذي لا ينتج وعياً ولا يُثمر تغييراً. لهذا، فالدعوة اليوم ليست إلى استيراد أفكار جاهزة، ولا إلى تكرار مصطلحات مقطوعة عن واقعها، بل إلى إعادة بناء الفكر من أساسه: عقلٌ يعقل، ونصٌ يُنار به، وواقعٌ يُراعَى في تنزيل الأحكام.

تلك هي أركان النهضة التي لا تقوم على الحفظ وحده، ولا على الانفعال وحده، بل على النظر الموزون، والاجتهاد المقاصدي، والتجديد المنضبط. وبدون ذلك ليس بعيداً أن يتحول الدين إلى صوت باهت في عالم متغير، إن لم نحسن التفكيرَ فيه، لا للدفاع عنه، بل لإظهاره في صورته الجامعة بين الحق والرحمة، بين النص والتاريخ، بين الله والإنسان.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 9 يوليو 2025 23:38

تشير أحداث صعود عشيرة قصيّ بن كلاب، في قبيلة قريش وسيطرتها على مكة، إلى عناصر للصراع الإسلامي اللاحق كانت حاضرة قبل ولادة النبي بزمن بعيد نسبيا (قصيّ هو الجدّ الرابع للرسول)، فهل تصلح العودة التاريخية إلى تلك الجذور في فهم تعقيدات التاريخ العربي الإسلامي، وهل الأمر كذلك فعلا، أي أنه صراع بين فروع عائلة واحدة على النبوة والملك؟

أسست التجارة لتسامح دينيّ في مكة كان أحد عوامل نجاحها. وفّرت قريش الأسواق واحتضنت تماثيل وأصنام القبائل المختلفة، ورعت احتفالاتها، ولكنها أيضا فرضت الضرائب والعشور عليها مقابل (أمن السكان والقادمين والقوافل (الإيلاف)، وساهم ذلك بنشوء عناصر استقرار، وظهور مؤسسة سياسية (دار الندوة) عملت على إدارة الدولة الصغيرة، وعلى التشاور حول الحرب والسلم.

كانت لقصي بن كلاب، كما يقول ابن كثير، «جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته، واللواء (أي الجيش)»، فتجمع لديه المال، والوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية. بتسليمه سلطاته إلى ولده البكر عبد الدار قبل وفاته، أسس قصيّ لخلاف بين أولاده، الذين بدأوا يتحالفون مع قبائل أخرى فاجتمع بنو عبد مناف (هاشم وعبد شمس وعبد المطلب)، في «حلف المطيبين»، واجتمع بنو عبد الدار في «حلف الأحلاف»، وانتهى النزاع حينها، بالاصطلاح على تسليم السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، و«دار الندوة» بينهم بالاشتراك.

هاشم ثم معاوية في الشام!

ارتفع نفوذ أبناء عبد مناف، وصاروا سفراء قريش في أقاليم التجارة. سافر هاشم إلى الشام (دفن لاحقا في غزة التي صار أحد ألقابها غزة هاشم)، واستقرت ألوية الشرف في يده دون بقية إخوته. يبدأ هنا النزاع بين الهاشميين والأمويين من نقطة صغيرة تمثلها منازعة أمية بن عبد شمس عمّه هاشم على السيادة، كما يمكن عدّ الحادثة مبتدأ للصراع اللاحق بين الأمويين والعباسيين (وضع الرسول ألوية الشرف من سقاية ورفادة في يد العباس بن عبد المطلب بن هاشم). قام كاهن من خزاعة بالتحكيم بين هاشم وابن أخيه أمية فقرر نفي الأخير عشر سنوات إلى الشام (وهو ما يذكّر، ربما، بحادثة التحكيم اللاحقة المعكوسة النتائج بين علي ومعاوية) وجمع فيها رصيدا من إقامته ومصاهرته لأهلها، سيقوم البيت الأموي باستثماره خير استثمار مع تولّي معاوية حكم بلاد الشام لاحقا. سيمثّل هذا الحدث أيضا تكرّس السيادة الأيديولوجية للهاشميين، وترؤس الأمويين للتجارة، وهي معادلة ستكون مؤثرة إثر إعلان النبيّ محمد للدعوة.

هناك في تاريخ هاشم وابنه عبد المطلب أمر آخر سنرى شبيها له في سيرة الرسول لاحقا وهو قضية التحالف مع يثرب، فبعد توثيق هاشم علاقته بيثرب عبر زواجه بامرأة من «رجال الحرب والدم والحلقة» من بني النجار الخزرج، وتركه ولده عبد المطلب يتربى هناك ثم يتزوج هو الآخر من امرأة يثربية، وسيكون لهذا التحالف أثره في استعانته بثمانين مسلحا من أخواله هؤلاء من رجال الحرب اليثربيين في نزاعه مع عمّه نوفل غير الشقيق مما ساعد في استعادته الرئاسة.

الفتنة الكبرى وتشكّل الأحزاب والمذاهب

بعد وفاة الرسول، وخلال فترة الخليفة عثمان بن عفّان (وهو من البيت الأموي)، اشتعل الصراع مجددا بين الأمويين والهاشميين، مع ما سمّي في الأدبيات الإسلامية بـ«الفتنة الكبرى» التي أسهمت في نشوء الأحزاب، وبالتالي المذاهب الإسلامية، بدءا ممن سموا شيعة عليّ، ثم من رفضوا نتائج حادثة التحكيم بين علي ومعاوية، الذين نشأ بين صفوفهم المذهب الأباضي، وبعدها نشأت، خلال العصر الأموي، مع الإمام أبي حنيفة، أول مذهب فقهي سنّي. فجّر موت معاوية وتولية ابنه يزيد الصراع مع الحسين بن علي، وأعطى مصرع الأخير، في القرن السابع الميلادي، في حادثة مأساوية فاصلة في تاريخ الإسلام، دفعة هائلة لتجدد الصراع.

بانتصار العباسيين، الذين رفعوا راية العلويين، بدأت مذابح كبرى للأمويين فقتل قرابة 300 منهم في معركة الزاب، ثم أباح العباسيون مدينة دمشق فأبيد الأمويون فيها، وتوبعوا في مذابح أخرى في فلسطين ومصر، وبعدها نبشت قبور قادتهم الكبار فضربت جثثهم بالسياط وأحرقت. تفرّعت عن الحزبين الكبيرين للسنّة والشيعة أحزاب وظهرت لديها مذاهب ومدارس فقهية وفكرية، وصل اختلاف بعضها أحيانا إلى مناقضة ركائزها الأساسية الأولى، كما يمكن القول عن طائفة الأحمدية، أو الطائفة البهائية، أو جماعة «أمة الإسلام» و»الفرقان» في أمريكا، وكذلك حال طوائف العلويين والموحدين الدروز والإسماعيليين.

يصعب، عموما، على أتباع هذه الطوائف، ضمن هذا التوسّع الجغرافي ـ الفكري الهائل، تخيّل ارتباط هذه العقائد، بعناصر من حقب سابقة على الإسلام، أو تخيّل أن ما جرى هو صراع بين فرعين من عائلة واحدة تحوّل إلى خلاف ميثولوجي وجوديّ لا ينتهي حتى يوم القيامة.

يصحّ التعامل مع حدث عاشوراء، كمثال على التناقضات العميقة التي ضربت رؤية الإسلام والمسلمين لأنفسهم، وعلى الوعي الشقيّ الذي عذّب الأمة، ودفع جزءا منها، لدى بعض مذاهب الشيعة، لتقديس حادثة عاشوراء وجعلها أقنوما للهوية والمعنى. تصلح الحادثة نفسها لدراسة سير مؤسسي المذهب السنّي وأتباعه، الممزقة بين التوق المستمر إلى المقدّس (الذي يمثّله، على مستوى النسب، ارتباط الهاشميين بالرسول؛ وعلى مستوى الأيديولوجيا، فكرة العقيدة القويمة) والحاجة البشرية إلى التعاطي مع شروط الواقع (وحتى شروط النسب فالأمويون هم أبناء عمومة للرسول). تشارك الأمويون مع الهاشميين أحياز التجارة، والقيادة قبل الإسلام، وبعد حقبة كان أهم رؤوسهم الأشد معاداة للرسول، تغيّر الوضع قبيل فتح مكة مع اتفاق النبي مع أبي سفيان، الذي صار من دخل بيته آمنا، ثم دخولهم في الدعوة وقيادة الجيش والولاية، وحتى وصولهم إلى «الحكم العضوض» ودورهم في الفتوحات الإسلامية البرية والبحرية، وتأسيس الإمبراطورية الإسلامية.

استئصال الأمويين وتسنّن الهاشميين!

قام العباسيون (نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عمّ الرسول وشقيق أبي طالب والد عليّ) برفع راية الهاشميين، واستأصلوا شأفة الأمويين ومع التزامهم على مستوى الشريعة والفقه، بالمذاهب السنية، فقد ثبّت العباسيون مذهب «أهل السنة والجماعة»، كعقد للمصالحات بين الأيديولوجيا والقبيلة والشريعة.

يلحظ سيد القمني، في كتابه «الحزب الهاشمي»، في حدث وصول عبد المطلب بن هاشم للرئاسة بدايات منطقية لتطلع العرب إلى نبوة محمد وابتداء دين جديد، فهو حسب المرويات التاريخية، من حفر بئر زمزم، ووضع أسس رفض الأصنام والتطلّع لإله واحد وتبرأ من أرجاس الجاهلية، ودعا الى الحنيفية، دين جده إبراهيم، التي تحولت إلى «تيار قوي قبل الإسلام»، وكان عبد المطلب أهم رجالاتها وأساتذتها، وكان من علاماتها الفارقة، حسب جواد علي، الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.

السؤال الذي سنحاول أن نجيب عليه في مقال لاحق، هو هل يصلح هذا الصراع القديم الذي اشتبكت فيه قضايا القبيلة والعقيدة والسلطان، لتفسير ما حصل لاحقا، أو للمساهمة في قراءة تاريخنا الحالي، أم أنه سيضيف عنصرا ميتافيزيقيا على تاريخ خضعت فيه المجتمعات والأيديولوجيات لتغيرات تاريخية هائلة، توسّعت خلالها الصدوع، وتعددت الأدوار، وتراكبت العناصر القديمة مع عناصر أقدم منها حتى، لتشتبك مع العناصر المستجدة، وتتقلب الأحزاب والجهات المتصارعة في مواقع المظلوميات والمعاني والاتجاهات؟

***

حسام الدين محمد

عن صحيفة القدس العربي اللندنية، يوم 10/7/2025

 

لم يكن ملحداً أبداً وإنما كان مؤمناً عميق الإيمان بالله

عبقرية الأمم، كل الأمم، تتجسَّد عادة في كبار الأدباء والشعراء والفلاسفة. ولهذا السبب نقول إن ديكارت هو فرنسا، وشكسبير هو إنجلترا، وسيرفانتس هو إسبانيا، ودانتي هو إيطاليا، والمتنبي هو الأمة العربية... إلخ. هذا لا يعني أنه لا يوجد عباقرة آخرون غيرهم. أبداً لا. ولكن نقول هذا على سبيل المثال لا الحصر. وفيما يخص ديكارت، فهو بالفعل أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. ولا يستطيع أحد أن ينافسه على قمة الشهرة والمجد. فمن هو هذا الشخص الذي وصلت شهرته إلى شتى أصقاع الأرض؟ ما من جامعة في العالم إلا وتدرِّس الفلسفة الديكارتية؛ فمن هو هذا «البطل المقدام للفكر»، كما وصفه هيغل يوماً ما؟

قد يستغرب القارئ إذا ما قلنا له إن ديكارت كان مهدداً في حياته باستمرار. ولهذا السبب نصحه أصدقاؤه بعد أن توسموا فيه أمارات العبقرية بأن يغادر فرنسا فوراً. قالوا له بما معناه: أنت وحدك القادر على كشف الحقيقة والمنهج المؤدي إلى تنويرنا وخلاصنا. وبالتالي فأنت لم تعد ملك نفسك وإنما ملك فرنسا كلها بل والبشرية جمعاء. ونحن لسنا سعداء لأن تغادرنا وتتركنا. ولا نطلب منك ذلك عن طيبة خاطر. ولكن إذا ما بقيت في البلاد فسوف تكون رأسك في الدائرة الحمراء للخطر. وعندئذ قد يطيحون بك قبل أن تكتشف الحقيقة وتضع مؤلفاتك الكبرى. وهذه خسارة لا تعوض.

لماذا قالوا له هذا الكلام؟ لأن فرنسا وقتها كانت أصولية ظلامية متعصبة، كبعض عالمنا العربي والإسلامي. كانت كاثوليكية بأبوية في أغلبيتها الكبرى. وكانت تسحق المذاهب الأخرى وتكفرها ولا تدعها تتنفس، مجرد تنفس. كانت الحرية الفكرية معدومة فيها، على عكس إنجلترا وسويسرا وهولندا. ولكن هذه بلدان بروتستانتية تمثل أقلية داخل البحر العرمرم للمسيحية الكاثوليكية البابوية. وبما أن الحق دوماً مع الأكثرية، حتى ولو كانت على خطأ، فإن من مصلحة ديكارت الكاثوليكي أن يعيش عند البروتستانتيين الزنادقة الأكثر عقلانية وتسامحاً في فهم الدين المسيحي. نقول ذلك على الرغم من أنهم كانوا مكفرين من قبل الأغلبية الكاثوليكية التي تستبيح دمهم وتتقرب إلى الله تعالى بذبحهم. على هذا النحو كانت الأمور في ذلك الزمان. لشدّما تغيرت أوروبا. كيف كانت في العصور الخوالي وكيف أصبحت؟!

ينبغي العلم أن ديكارت كان يعيش في عهد الكاردينال الشهير ريشيليو والملك لويس الثالث عشر. وقد اضطر الكاردينال العتيد إلى التعاون مع الأصوليين المسيحيين الذين كانوا يسيطرون على عامة الشعب آنذاك. ينبغي العلم أن الشعب البسيط الجاهل دائماً مع الأصوليين ورجال الدين «بتوع ربنا». انظروا ما يحصل عندنا أو في إيران وتركيا والعالم الإسلامي كله على سبيل المثال... ولكن ديكارت كان يعيش في القرن السابع عشر، ونحن نعيش في عز القرن الحادي والعشرين، أي بعد 400 سنة من ديكارت. ومع ذلك، فلا نزال غارقين في الظلامية الدينية ذاتها. ولا نزال مرعوبين من الأصوليين مثله، وربما أكثر منه...

كان الأصوليون المسيحيون آنذاك يمثلون غلاة المذهب الكاثوليكي، ويضمهم تنظيم خطير يدعى «رابطة القربان المقدس». وكان هذا التنظيم مرتبطاً بالمخابرات العامة، وتكمن مهمته في ملاحقة من يعتبرونهم أعداء الدين أو المنحرفين عن الصراط المستقيم. كانت مهمته تكمن في ملاحقة من يدعونهم «أعداء الله»، أي كل العلماء والمثقفين المتنورين الذين يريدون أن يفكروا خارج إطار الأصولية المسيحية الساحقة، أو الامتثالية الاجتماعية الخانقة.

لم يكن ديكارت ملحداً أبداً، وإنما كان مؤمناً عميق الإيمان بالله. ولكنه كان متحللاً أو متحرراً من أداء الطقوس والشعائر المسيحية. لا يستطيع أن يمضي سحابة يومه في حضور القُداسات والصلوات والعبادات. يُضاف إلى ذلك أنه كان مهووساً بالبحث عن الحقيقة كأي شخص عبقري، هذا في حين أن الحقيقة موجودة، جاهزة، بالنسبة للأصوليين، ولا داعي للبحث عنها. إنها موجودة في الكتب التراثية القديمة، أي الكتب الصفراء التي علاها الغبار، والتي كانت تشكل القاعدة الإيديولوجية والغذاء الروحي للشعب المسيحي وللمجتمع ككل. كان الكهنة يقولون: يا أيها الفيلسوف المتغطرس؛ لماذا تبحث عن الحقيقة والحقيقة موجودة في كتبنا الدينية المقدسة؟ ومن أنت يا سيد ديكارت حتى تتطاول على القدرة الإلهية؟ على هذا النحو كان الأصوليون يرعبون الفلاسفة والعلماء في ذلك الزمان.

يضاف إلى ذلك أن الكاثوليكيين كانوا يعتبرون أنفسهم بمثابة المذهب الوحيد الصحيح في المسيحية. ولذلك كانوا يكفرون الآخرين كالبروتستانتيين وسواهم ويعتبرونهم هراطقة أو زنادقة. وكانت «رابطة القربان المقدس» الكاثوليكية تشكل أخطر جهاز مخابراتي شديد السرية. كانت منبثّة أو متغلغلة في جميع فئات الشعب، ولكن غير مرئية. وكان هدفها الوشاية بأي شخص تبدر عنه أي رغبة في التحرر، حتى ولو كان تحرراً محدوداً جداً. وكان فقهاء السوربون، أو علماء اللاهوت المسيحي، يراقبون جميع الكتب التي تصدر ويحذفون منها كل ما يعتقدون أنه مخالف للدين.

والأنكى من ذلك أن عملاء ريشيليو كانوا يشكلون «مخابرات على المخابرات». فقد كانوا يتجسسون على جميع الناس بمن فيهم البوليس ورابطة القربان المقدس ذاتها! فكيف يمكن لديكارت أن يعيش في مثل هذا الجو الخانق؟ كيف يمكن له أن يكتب، أو يتنفس، أو يبدع الفلسفة الجديدة التي أخذت تختلج في أعماقه؟ لهذا السبب غادر بلاده الكاثوليكية إلى هولندا البروتستانتية حيث عاش معظم عمره ونشر كل كتبه. في الواقع، فإنه غادرها تحت جنح الظلام، بعد أن سمع بأن الكاردينال ريشيليو يخطط لاغتياله عن طريق أحد رجالات القربان المقدس... ولم يعرف أحد وجهته للوهلة الأولى، ولم يعط عنوانه فيما بعد إلا لبعض أصدقائه الخلَّص بعد أن أمرهم بالحفاظ على الكتمان والسرية المطلقة. وكانوا حريصين عليه أكثر من حرصه على نفسه كما ذكرنا، لأنهم كانوا يعرفون بأنه المفكر الوحيد القادر على خلافة الإنجليزي فرانسيس بيكون، واكتشاف الحقيقة المطموسة التي لا تعطي نفسها إلا للعباقرة أو عباقرة العباقرة.

وهكذا، أقسم يميناً بالله أمام أصدقائه الخلص بأنه سيكون حذراً جداً، منذ الآن فصاعداً، وأنه سيحافظ على نفسه وحياته بقدر المستطاع، وسيكرس كل جهوده من أجل كشف الحقيقة العلمية - الفلسفية وخدمة الجنس البشري. ووعدهم بالتوصل إلى المنهج العقلاني والمفتاح الفلسفي الصحيح في أقرب وقت ممكن. وقد توصل إليه وعمره واحد وأربعون عاماً عندما ألف كتابه الشهير «مقال في المنهج». ولكنه نشره من دون توقيع خوفاً من غضب الكنيسة، بعد أن سمع بمحاكمة غاليليو. وهكذا صدر في 8 يونيو (حزيران) 1637 واحد من أعظم النصوص الفلسفية على مدار التاريخ. ثم تلاه نص آخر لا يقل أهمية عنه أن لم يزد هو: «التأملات الميتافيزيقية».

صحيح أنهم وصلوا إلى ديكارت في نهاية المطاف عندما اغتاله الأصولي الكاثوليكي فرنسوا فيوغيه في أقاصي الأرض، في السويد، عن طريق دس السم له غيلة وغدراً في قلب الكنيسة. ولكنه كان قد وضع مؤلفاته الكبرى وحقق كشوفاته العظمى. في الواقع كانوا يخشون من فلسفته العقلانية المستنيرة على مفهومهم الطائفي والتكفيري الظلامي للدين المسيحي. ولهذا السبب اغتالوه ثم اغتالوا فكره عندما وضع «الفاتيكان» مؤلفاته على قائمة الكتب المحرمة. ولكن هيهات... فقد انتشر فكره في كل أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم.

وفي الختام، دعونا نطرح هذا السؤال: في أي عصر يعيش المثقف العربي حاليا؟ هل يعيش في القرن الحادي والعشرين أم في العصور الوسطى؟ والجواب هو أنه يعيش في عصر الأصولية والأصوليين تماماً مثل ديكارت أيام زمان. نعم، فإنه يعيش في عصر أبو مصعب السوري الذي قال مرة لا فض فوه: «الإرهاب فريضة والاغتيال سنّة». وهو غير ذلك الشخص الشنيع سيئ الذكر أبو مصعب الزرقاوي الذي أدمى العراق يوماً ما، وفرّخ «داعش» في نهاية المطاف. ثم أضاف أبو مصعب السوري قائلاً: اغتيال المثقفين أهم بكثير من اغتيال الرؤساء والزعماء والقادة السياسيين. لماذا؟ لأنهم قادة الفكر في العالم العربي وبالتالي فهم أخطر علينا من القادة السياسيين. إنهم ينافسوننا على قلوب الأجيال الصاعدة وعقولها. إنهم يريدون انتزاع الجماهير الشعبية من أيدينا. وهذا ما لن نسمح به مطلقاً. هذا خط أحمر بالنسبة لنا. ولذلك فاغتيالهم يُعتبر فريضة دينية مطلقة. بهذا المعنى. هكذا نلاحظ أنه ستندلع قريباً معركة فكرية كبرى بين المثقف الأصولي والمثقف التنويري في العالم العربي. وسوف تستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة. وسوف تكون شديدة الشراسة والضراوة. ولن تنتهي إلا بغالب ومغلوب.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 يوليو 2025 م ـ 11 مُحرَّم 1447 هـ

في المثقف اليوم