مناقشة حول المؤسسة الدينية
كنيسة الفقيه
تناقش هذه المقالة كيف تشكل “الفقه الإسلامي في عصر التدوين، وكيف تطور إلى منظومة نظرية شاملة، تنطق باسم النص وتملك صلاحياته الإلزامية، وتفرض هيمنة واسعة على مجمل الثقافة. وكيف – بالتوازي – تبلورت جماعة “الفقهاء” أو “العلماء” كطبقة دينية ذات نفوذ معرفي وحضور سياسي واضح.
الفرضية المطروحة للنقاش هنا هي:
أن الإسلام أنتج نسخته الخاصة من الكهنوت، بعد أن تحول الفقه إلى “مؤسسة معنوية” قابضة، تمارس وظائف “الكنيسة” التقليدية، التي تتحدث باسم الإله فتفرض وصايتها على المجتمع، وتزاحم الدولة في صلاحيتها الطبيعية.
أن هذه الوضعية التي كانت تتفاقم تدريجيا منذ مراحل التدوين، لم تتغير كثيراً بعد سقوط نظام الخلافة والتحول إلى نموذج الدولة الوطنية الحديثة. فبعد فترة التراجع النسبي أمام ضغوط التحول الحداثي، عادت الوصاية إلى الظهور مع بعض التحويرات الشكلية، ثم صارت تتزايد على المستوى الشعبي وفي مواجهة الدولة، بعد تفاقم حالة المد الأصولي، التي بلغت ذروتها في بداية القرن الحالي. التغير الموضوعي الذي يمكن رصده الآن هو تصاعد الوعي بالطابع الإشكالي لهذه الوصاية، التي تثير أشكالاً من التوتر الاجتماعي والسياسي، خصوصاً من جهة التناقض مع مبادئ الدولة الوطنية والدستور المدني، فضلاً عن تصادمها الضروري مع النزوعات الفردانية وقيم التعددية التي تتفاقم بشكل واضح في الوعي الحداثي.
-2-
لا أستخدم مصطلح الفقه هنا بمعناه الضيق، والذي ينصب في التراث الإسلامي على أحكام الفروع التفصيلية في العبادات والمعاملات فحسب، بل أشير من خلاله إلى مجمل المدونة المدرسية بأرضيتها الكلامية والأصولية التي صارت تمثل مرجعية عقلية وروحية حاكمة للوعي. فمع التداخل المعروف بين العلوم الإسلامية المبكرة، من سيرة، ولغة، وتفسير، وحديث، وكلام، وأصول فقه، توفر الفقه على موقع مركزي داخل الثقافة، واكتسب مصطلح “الفقيه” مساحة دلالية واسعة تشمل الإلمام بالعلوم الشرعية عموماً، وتنطوي على نوتع من السلطة المعرفية.
أدت عملية التدوين المتزامن إلى تشابك عضوي مؤكد بين الفقه وحركة “التحديث”، أي طلب الراوية التي كانت تجري على نطاق واسع، وأسفرت عن “تنصيص” جزء من مادة المدونة (تحويل قطع من الفقه إلى أحاديث مرفوعة)، كما أدت إلى تثبيت سلطة المدونة كشارح حصري ملزم للنص الأصلي وكرست نفوذ الفقهاء كوسيط كهنوتي مهيمن.
يحضر الفقيه بهذا المعنى الوظيفي الواسع في المذاهب الإسلامية الرئيسية الثلاثة؛ السني والشيعي والإباضي، مع تفاوت نسبي في حكم السلطة التي يمارسها على الجمهور ومساحة الدور الذي يؤديه على المستوى السياسي.
الفقيه الشيعي
يتوفر الفقيه الشيعي على صلاحيات افتائية وسياسية أوسع، وعلى حضور “تنظيمي” أوضح بالقياس إلى مثليليه الإباضي والسني. تشكلت هذه الوضعية بشكل تصاعدي بفعل الظروف السياسية والثقافية التي لابست تطور التشيع الإمامي تحت ضغوط القمع الأموي العباسي، والتي انتهت إلى الإعلان عن غيبة الإمام المعصوم الذي يملك حصريا حق الحكم والإرشاد الديني. في البداية تكلم الفقه (المفيد، ت 406 هـ) عن تفويض الأئمة للفقهاء في القضاء والحدود في زمن الغيبة. لكنه لم يتحدث “نيابة عامة” تشمل الحكم والسلطة العامة.
ثم توسع التنظير للفكرة تدريجياً لتمتد نيابة الفقهاء إلى الزكاة والأنفال والخمس، بدءاً من أبي الصلاح الحلبي (ت447 هـ)، إلى القاضي ابن براج (ت 481هـ)، ثم المحقق الحلمي (ت676 هـ) وصولاً إلى علي بن الحسين الكركي (ت 940 هـ) الذي أعطى الفقهاء ولاية واسعة عامة ذات بعد سياسي صريح.
بناء على ذلك، منح الكركي نفسه الحق – بوصفه نائباً عن الإمام الغائب – في تفويض الحكم إلى الشاه الصفوي طهماسب ليحكم باسم الإمام. هنا صارت سلطة الدولة الصفوية تتأسس على “شرعية” جديدة هي شرعية النيابة عن الإمام عبر الفقهاء، وليس على تفويض مباشر من قبل الإمام نفسه كما زعم الملوك الصفويون الأوائل.
وأخيراً ظهرت تنظيرات الشيخ النراقي (ت 1245 هـ) الذي قال بتصدي الفقهاء مباشرة للولاية العامة الشاملة، وممارسة الحكم بصلاحيات الإمام تحت إسم “ولاية الفقيه”. وهي الفكرة التي سيعيد الخميني صياغتها في إطار “عصري” على أسس نقلية وجدلية متنوعة، والأهم أنه استطاع أن يضعها موضوع التطبيق من خلال الثورة على الشاه، الأمر الذي منحها زخماً نظرياً مكافئاً لحضورها السياسي. بحسب الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” “إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمر المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعيوا… لقد فوض الله الحكومة الأسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه إلى النبي وأمير المؤمنين”.
نحن هنا حيال طرح ثيوقراطي صريح، يؤسس لسلطة الكهنوت؛ فالفقيه يحكم بتفويض إلهي مباشر شأنه في ذلك شأن النبي وأمير المؤمنين. لا يناقش الخميني الآن فكرة ثبوت حق الحكم للنبي وأمير المؤمنين وخلفائه من الأئمة المعصومين (فهذه مسلمة دينية يقينية مفروغ من صحتها)، بل يناقش سلطة الحكومة الإسلامية المفوضة إلى الفقهاء (الشيعة بالطبع). والتي يجب إنشاؤها لإقامة الإسلام.
يصل الخميني بسلطة الكهنوت على المجتمع إلى الحد الأقصى، لا مقارنة بالنموذجين الإسلاميين المقابلين فحسب، بل مقارنة بالنموذج المسيحي الكاثوليكي ذاته في مراحل ذروته في العصور الوسطى. فبامتداد هذه المراحل، ورغم تغولها الواسع على المجالين العام والخاص، ظلت الكنيسة تقر نظريا ً بالحضور العلماني للدولة كسلطة زمنية ذات اختصاص سياسي أصيل، ولم تطرح نفسها كبديل نهائي عن الدولة يستغرق مساحة السلطة. وفي هذا السياق ظلت الإشكالية الكبرى تتمثل في إزدواجية السلطة التي تمزق وعى الفرد والمجتمع بين ولائين متناقضين وواجبين في الوقت ذاته.
وبوجه عام، في خضم الصراع مع الملوك الزمنين، لم ترحب الكنيسة بنظرية ” التفويض الإلهي” لتأسيس سلطة الملك، ولم ترفض نظريات “العقد الاجتماعي”، التي جرى طرحها لتأسيس هذه السلطة بدءاً من هوبز ولوك واسبينوزا حتى رسو. لكن أداء الكنيسة في ظل الازداوجية كشف عن العيوب الفادحة للكهنوت، التي صارت تعرض للنقاش أمام الجمهور منذ عصر الإصلاح البروتستانتي، وتتفاقم صورها مع توجهات عصر النهضة، التي مهدت لأفكار التنوير والحداثة.
لم تحظ نظرية ولاية الفقيه بالإجماع، داخل الفكر الشيعي المعاصر، بوصفها نظرية تحكمية تفتقر إلى دعم “نصي” صريح بالمقاييس الإمامية الكلاسيكية، التي تتحفظ على إنشاء الدولة أصلا قبل رجعة الإمام الغائب. بالإضافة إلى أوجه اعتراض تفصيلية ترفض منح السلطة المطلقة لفقيه واحد أعلى، أو تذهب بجرأة إلى فكرة الشورى “السنية” بعد تطعيمها بلمسة تأصيل شيعية (راجع الطرح الذي قدمه الفقيه اللبناني محمد مهدي شمس الدين بحديثه عن ولاية الأمة على نفسها” مقابل “ولاية الفقيه” حيث يفرق بين مرحلة وجود المعصموم أي النبي والأئمة وفيها يكون الحكم شأناً إلهياً، ومرحلة عدم وجود المعصوم أي زمن الغيبة، وفيها تستند سلطة الحاكم مباشرة إلى اختيار الأمة. انظر:
“نظام الحكم والإدارة في الإسلام”، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 2000، ط 7، ص 210، وللاطلاع على نموذج متطور للاجتهاد الشيعي قبل الخميني، انظر كتاب النائيني (ت1936م) “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان “الاستبدادية والديموقراطية، سنة 1930)
بالطبع، تواجه النظرية باستنكار واضح من قبل الفكر السني، من جهة تأسيسها من حيث المبدأ على فكرة “النص الإلهي” الذي يطعن في شرعية “الخلفاء الراشدين”، ويحصر حق الحكم في عدد محدود من الأئمة من أبناء علي وفاطمة حتى نهاية الزمان.
بمقاييس الحداثة السياسية تبدو ولاية الفقيه فكرة ماضوية مناقضة لحركة التاريخ، وتمثل انتكاسة فادحة على القيم المدنية السائدة في الوعي المعاصر، والتي تنطلق من مبدأ الحرية الإنسانية وتروج لتعددية الفكر وفردانية الذات. عملياً، ورغم تحققها على أرض الواقع، لم تقدم النظرية نموذجاً ناجحاً لصيغة حكم سياسي وفيما فشلت في إنجاز حلول لمشاكل المجتمع الإيراني الداخلية، أو تطوير إمكانياته الاقتصادية والثقافية والسياسية، وأسفر أداوؤها الخارجي عن تصعيد حالة “التوتر”، الأصولي القائمة أصلاً، وتأجيج الخلافات المذهبية التي عفى عليها الزمن، والتي عادت لتمثل مصدراً مباشراً للصراع السياسي الدموي في المنطقة.
3 – الفقه الإباضي:
يحظى الفقيه بموقع مركزي في الثقافة الإباضية، يشبه موقع الفقيه الشيعي في الثقافة الإمامية، وهو في الحالتين أعلى من موقع الفقيه السني؛ بحسب الفقه الإباضي: ” أجمع المسلمون (يعني الإباضية) على أنهم عند عدم تلك العقدة من الإمام يجوز لولي من علماء المسلمين أن يقوموا بما يجوز أن يقوم به الإمام إذا عقدت له تلك العقدة. وأنهم أولياء للأمور التي تقوم بالأمام إذا لم يكن إمام معقود له” ( الكندي، أحمد بن عبد الله بن موسى، المصنف ج 10 .، ص 26.) والأصل في الإباضية أن اختيار الإمام وتنصيبه من صلاحية الفقهاء والعلماء، يقول أبن المؤثر: “إذا ظهر المسلمون اجتمع في الأرض فقهاؤهم وذوو الرأي وأهل الفضل منهم، واجتهدوا لله في النصحية، واختاروا رجلاً طاعة لله لا لطاعتهم ” (المصنف السابق، ج 10.، ص 63). ويدخل ذلك في باب الإجماع بحسب الكندي حيث أن الأصل في الإمام ذاته أن يكون فقيها، وهو ينقل عن أبي عبيدة المغربي “لا ينبغي أن يؤمهم إلا أفقهم وأعلمهم بالكتاب والسنة، مع ورع صادق، ويقيني خالص، وعفة ظهر وبطن” (المصنف السابق ج 10.، ص 66).
يعالج النص الأول حالة غياب الإمام أو عدم وجود الدولة، وهي حالة متكررة في تاريح الجماعة الإباضية، التي ظلت تظهر كفرقة أقلية تسعى لتحقيق دولتها عى هامش الدولة المركزية، ونجحت في الوصول إلى هذا الغرض، لكنها سقطت، عدة مرات أمام هجمات الجيوش الأموية والعباسية، مما كان يفرض عليها الانتقال إلى وضعية الدفاع أو العودة من جديد إلى طور الكتمان. وأدى تكرار هذه الدورة إلى تكريس مفهوم “الجماعة” كبديل عن الدولة. ومن هنا تأتي الأهمية النسبية لهذه الحالة في الفقه الإباضي بالقياس إلى الفقه السني الذي لم يشهد تاريخه غياب الدولة. أما الفقه الشيعي الذي لم يعاين حضور الدولة في الواقع إلا في وقت متأخر جداً (القرن العاشر) فكان عليه مواجهة المشكل الإباضي ذاته وهو غياب الإمام، لذلك، ورغم الاختلاف الواضح بين الحالتين في طبيعة الإمام، وأسباب غيابه، وفي طريقة المعالجة الفقهية، يظهر التشابه بينهما في حضور “الفقهاء”، أو علماء الدين، للقيام بوظيفة الدولة الغائبة أو الإمام الغائب.
يتكلم النص الإباضي عن “ولاية فقيه” صريحة يمارسها العلماء عند عدم وجود الإمام. ولكنها ليست كولاية الفقيه الشيعية التي تطورت عن نظرية “النيابة العامة” عن الإمام في زمن الغيبة، فالفقهاء الإباضيون الذين ” يقومون بما يجوز أن يقوم به الإمام” ليسوا نوابا عن هذا الإمام، ولا يستمدون السلطة من تفويض مفترض من قبله، بل يمارسونها بوصفهم “أصلاء” تنفيذاً لتكليف شرعي مستمد مباشرة من النص.
في الفقهين السني والإباضي تقوم النظرية السياسية على مبدأ الشوري، أي اختيار الحاكم من قبل النخبة أو “أهل الحل والعقد” وليس بالوصية المنصوصة كما يذهب التصور الشيعي. ولكن المسار التطبيقي للمبدأ يسفر عن فوارق واضحة في تاريخ الفقهين:
ففيما كان مفهوم أهل الحل والعقد في النظرية السنية يشير أساساً إلى القوى الاجتماعية والساسية الفاعلة التي يعبر عنها ابن تيمية بأصحاب الشوكة، يضيق هذا المفهوم في النظرية الإباضية حتى يكاد ينحصر في فقهاء الدين أو “أهل العلم من المسلمين”، بتعبير محمد بن إبراهيم الكندي صاحب “بيان الشرع” (لا يغيب دور الأعيان الفاعلين تماماً في النظرية الإباضية، لكن المكون الرئيسي لأهل الحل والعقد هو العلماء). يشرح الكندي: “أجمع رأي المسلمين من بعدد رسول الله (ص) أن الإمامة لا تجب للإمام من بعد إمام وعزله إلا عن مشورة أهل العلم ورضى منهم على النصح لله، ثم يكون حجة على من غاب”. ولذلك يعقد الكندي في المصنف بابا ً تحت عنوان “في عقد غير الأولياء” يستهله بالتساؤل “هل للإمام أن يقبل الإمامة من غير من يتولاه؟ قال: وكيف يقبلها من غير من يتولاه؟ قيل لو عدم العلماء ورجا أن يقوم ولم يكن إلا السادة هل يقبل منهم؟”.
لكن الفارق الأوضح بين النسقين الإباضي والسني يظهر على مستوى التطبيق العملي لآلية الحل والعقد. سنياً تم تفريغ هذه الآليه من مضمونها بإقرار شرعية التغلب، وتفعيل دور الشوكة خلافاً للسياق الإباضي حيث أدى أهل الحل والعقد من العلماء دوراً فعلياً مؤثراً في تاريخ الإمامات الإباضية خصوصاً في التجربة العمانية. يمكن الحديث عن تقنين ضمني لجماعة العلماء “كمؤسسة” ذات صلاحيات “دستورية” ملزمة، تشبه صلاحيات المجلس التشريعي الواسعة في اختيار الحاكم، ومراقبته، وتوجيهه وعزله عند الاقتضاء. يظهر الكهنوت هنا كمؤسسة معنوية ذات حضور سياسي واضح، رغم أنه لم يتبلور كهيئة بيروقراطية هيراركية منظمة على غرار الكنيسة الكاثوليكية.
4- الفقه السني:
متى وكيف تشكل كسلطة كهنوتية ؟
في تحقيب التطور التشريعي الفقهي، سأعتمد تقسيماً سياسياً وصفياً، من عصر الخلفاء الأوائل حتى نهاية عصر التدوين، حيث اكتملت منظومة الفقة والمدونة الإسلامية. الغرض هو قراءة هذا التطور ضمن سياقه الاجتماعي (الطبيعي)، خلافاً للقراءة السلفية الموروثة التي ترجع بمنظومة الفقة وحجيتها المرجعية إلى زمن النص التأسيسي، وتنكر أن يكون ثمة تطور في مادة الفقه أو في بنية الحديث ناجم عن تطور اجتماعي، فهناك منذ البداية أحكام إلهية في الكتاب و”السنة”، منقولة من النبي إلى الصحابة إلى التابعين فتابعي التابعين. لا وجود للزمان الاجتماعي، ثمة فقط زمان ديني مجرد ومتواصل عبر مصطلحات التدين (الرسول / الصحابة / التابعون / تابعو التابعين/ العلماء ورثة الأنبياء). لقد سبق النشاط الفقهي عملية التحديث التي خلقت النص السني، ثم تزامن معها وأثر فيها عن طريق القلب، بحيث يمكن الحديث عن دور إنشائي فاعل للفقه في توسيع مساحة النص.
بوجه عام، سأعتمد في هذا التحقيب على السردية التاريخية التي تقدمها المصادر الإسلامية المبكرة، دون غض النظر عن إشكالياتها التوثيقية. بوصفها – على كل حال – المصادر المتاحة والفعلية التي تشكلت من خلالها ثقافة العقل الإسلامي بامتداته السلفية الراهنة، ومن ثم فهي تحتفظ بقوتها الاحتجاجية في مواجهة هذا العقل على الأقل.
مرحلة الخلفاء “الراشدين” (11- 40 هـ)
مع ظهور الدين كقيم مستقلة نسبيا عن الثقافة السائدة، ظل القانون العرفي حاضراً كامتداد طبيعي تضاف إليه أحكام “الخليفة”لم تظهر أي سلطة تشريعية أو إفتائية لمطلح “الصحابة” مستقلة عن سوابق الخليفة بصفته حاكماً. (سيجري التنظير لهذه السلطة لاحقاً عبر الكلام عن حجية قول الصحابي). وعلى مستوى اللاهوت ظل قانون الإيمان بسيطا حول الله / الوحي / النبي (سيطرح لاحقاً وبأثر رجعي تنظير شيعي مقابل. كما ستطرح تأويلات كلامية مركبة حول الأسماء والصفات، وتأويلات صوفية باطنية تصل إلى القول بوحدة الوجود).
يمكن الحديث عن روح ديني كلي حاضر في وعي الخليفة وبالتالي في سلوك الدولة البسيطة التكوين. مع ذلك، ولأن فكرة “النصية” لم تكن قد تبلورت كمفهوم نظري قبل جمع المصحف، نقابل في أداء الخليفة ممارسات عفوية غير مطابقة تماماً للنموذج الرسمي الذي سيقدمه التنظير السني نقلا عن النص (أحكام عمر التشريعية التي تكشف عن نزعة متصرفة، وأحساس فطري بالمعنى الاجتماعي في التدين وفي سلطة الدولة كليهما).
بالطبع، لم يكن قد ظهرت بعد آثار الاحتكاك بين المناطق الجغرافية الواسعة التي تم ضمها عبر الغزو ومادة الدين الجديدة المحمولة حينذاك على حوامل عربية خالصة. كانت هذه المادة تتشكل على مهل وتعمل في نطاق محصور في المدينة عاصمة الدولة، بالإضافة إلى معسكرات الجيوش العربية التي تحولت إلى مدن كبيرة في البصرة والكوفة والفسطاط ومناطق الشام. أما المناطق الداخلية في الجزيرة، التي كانت تتفاعل ببطء مع قيم وأحكام الدين الجديد، فظلت محكومة بأعرافها القبلية، تماماً مثل البلاد المفتوحة التي تركت لتشريعاتها المحلية.
كان النشاط التشريعي يصدر رسمياً عن الخليفة والولاة التابعين له في الأمصار وعن القضاة الذين عينهم هؤلاء. تدريجياً ومع استقرار الصحابة في الأمصار بدأ يظهر نوع بسيط من النشاط الإفتائي خارج دائرة القضاء، سيتم نقله عن طريق التابعين ليلعب من خلال التنظير دوراً مرسوماً في منظومات الراوية، والتفسير، والفقه. ومع استبعاد مبالغات التنظير السني حول هذا النشاط، يصح افتراض أنه مثَل نواة الحركة الفقهية التي ستنشأ على يد “التابعين” مستقلة عن النطاق القضائي الرسمي، والتي ستحول قبل نهاية القرن الرابع إلى مؤسسة نظرية ذات سلطة داخل الثقافة الإسلامية.
الطور الثاني
يبداً هذا الطور بتولي عثمان بن عفان الخلافة. وفيه تسارع اختمار الصراع على السلطة بسبب أداء عثمان السياسي والديني. وفي هذا السياق تبرز أهمية الحدث الكبير المتمثل في عملية جمع المصحف. أعني إلزام المسلمين بنسخة بعينها من آيات القرآن التي صارت كتاباً يضم “نصاً طويلا واحداً”.
عملية جمع وتوحيد المصحف ستفرض طريقة جديدة للتعاطي مع الآيات تختلف عن طريقة التعاطي معها في عصر التنزيل والفترة التالية مباشرة له، فهي الآن جزء من نص يلزم قراءته كبناء لغوي كلي، وليست مجرد معطيات متفرقة مرتبطة بسياقات واقعية معينة.
تظهر الآن وضعية معرفية جديدة، تنتقل بالعقل العربي المسلم، الشفهي التكوين، إلى بداية التفكير الديني النظري، بعد أن توفرت آلية التأسيسي اللازمة لهذا النمط من التفكير في شكل نص جاهز مكتوب.
في هذا الإطار نفهم ظهور مصطلح “القراء” الذي يشير إلى تعاطي منظم مع القرآن كنص كلي، من قبل تيار ينتمي إلى القبائل العربية (المتذمرة من هينمة قريش) في الأمصار وخصوصاً الكوفة. كانت القبائل قد بدأت في التفاعل مع الإسلام كدين، وليس مجرد حلف سياسي مفروض بالسيف وقوة الدولة. ومثلت ظاهرة القراء التجلي الأول لهذا التفاعل في وسط سياسي واجتماعي مضطرب، وعبرت عن تدين الجيل الثاني، الذي نشأ من التفاف أبناء القبائل حول الصحابة في الأمصار في غضون الفتح وخاصة بعد وفاة عمر.
فهم من “التابعين” وإن كان مصطلح القراء أقدم من مصطلح التابعين، الذي سيتبلور لاحقاً في أحضان علوم الحديث.
2 – المرحلة الأموية (40 – 132 هـ):
في مرحلة الراشدين كان النشاط التشريعي يصدر من خلال الدولة (الخليفة- القضاة)، وكانت الأحكام تؤسس على قواعد العرف الشفوي التي “جرى عليها العمل” (وهي مرجعية قانونية متداخلة تضم إلى التقاليد العربية القديمة، أحكام القرآن، وسنن النبي العملية، وفتاوى الصحابة ). لكن مع المرحلة الأموية سيبدأ تدريجياً حضور ظاهرتين جديدتين:
الأولى: ظهور نشاط تشريعي خارج مجالس الحكم والقضاء.
الثانية: تزايد الوعي بسنن الرسول كمصدر ملزم ومستقل عن مرجعية العرف الشفوية، ومن ثم تصاعد عملية الطلب على الراوية وتدوين الأحاديث.
بشكل متداخل ستعمل الظاهرتان معاً على بلورة مفهوم “الفقه” وتصعيد مفهوم “السنة” الأمر الذي كان يعكس تزايد الوعي “بالدين”، وتشربه كمعطي قائم بذاته بين جمهور القبائل العربية التي كان ارتباطها بالإسلام في البداية سياسياً محضاً، كما ظهر في حروب الردة.
مآلات الكفر والتكفير رؤية متسامحة من واقع تراثنا الفقهى
عند منتصف القرن الأول كانت المساجد الكبرى في المدينة ومكة والأمصار تشهد مجالس استماع تدور حول قصص السيرة النبوية وأيام العرب وأخبار الخلفاء. وتشير المصادر إلى ظهور حلقات متخصصة في الفقه (أحكام الفروع التكليفية) قبل نهاية القرن. ففي الكوفة ستظهر أسماء مثل علقمة بن قيس النخعي، (ت 62 هـ)، ومسروق بن الأجدع الهمداني (ت 63 هـ)، وشريح بن الحارث الكندي (ت 78 هـ) وإبراهيم النخعي (ت 95)، وحماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) وهو شيخ أبي حنيفة. وفي المدينة نقرأ عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ)، وعروة بن الزبير (ت 94 هـ)، وسليمان بن يسار (ت 155 هـ)، ونافع مولى عبد الله بن عمر (ت 117 هـ)، وابن شهاب الزهري (ت 124هـ). وفي البصرة يبرز إسم مسلم بين يسار (ت بعده 80 هـ)، ومحمد بن سيرين (ت 115 هـ) وأبي أيوب السختياني (ت 131 هـ). وفي الشام نقرأ عن مكحول (ت 113 هـ)، وفي اليمن عن طاووس ( ت106 هـ) (انظر وكيع، أخبار القضاة. 22 والشيرازي، طبقات الفقهاء ص 54 – 88 . وابن خلكان، وفيات الأعيان .12. وانظر ابن حبان، الثقاة، ص 189- 222).
بالمصطلح السلفي ينتمي هؤلاء إلى طبقة التابعين وتابعي التابعين، وقد مارسوا نشاطا معرفياً مبكراً يدور حول النص الأصلي وتاريخ الرسول. ومنهم تشكلت “الموجة الأولى” مما سيصبح “طبقة فقهاء” تتعاطى النظر التشريعي من خارج الدولة لا بمعنى أنه كان يعبر عن تناقض مع توجه الدولة (فقد كان على العكس يساند توجهها الأيديولوجي “السني”)، ولكن بمعنى أنه كان يصدر من خارج مؤسسة الحكم والقضاء، وبمعنى أنه كان نشاطاً فكرياً بدأ يتحول بالتشريع إلى “علم نظري” مطلوب لذاته بداوفع تدينية أوسع من دوافع القضاء “العملية”.
ثمة إذن اقتران زمني بين النشاط الفقهي المبكر والدولة الأموية. لكن الواضح أن هذا النشاط لم ينشأ بتوجيه مقصود من الدولة أو بمساهمة تشجيعية منها. وإذا استثنيا فترة عمر بن عبد العزيز القصيرة، يكشف تاريخ الدولة الأموية منذ البداية عن روح “علماني” طبيعي فهو لا يماهي بين وظيفة الدولة (المندفعة عملياً بغريزة السلطة) وطبيعة الدين (الذي يتطور حضوره بقوة أندفاع أبطأ). ورغم المقولات الدينية التي استخدمت أحيانا في تبرير الاستبداد كمقولة القدر، لم يزعم الأمويون أن وظيفة الدولة هي حراسة الدين، كما سيفعل العباسيون.
مع ذلك، يمكن قراءة السياسات الأموية كعامل مؤثر في تصعيد وتشكيل عمليتي الفقه والتحديث المتداخلتين. أتحدث هنا عن المماراسات القمعية غالباً التي أسهمت في تكريس الافتراق السياسي وتحويله إلى مذهبية دينية (راجع النقاش الموسع حول دور العامل الأموي في توليد الشيع وتحويله إلى حركة سياسية مذهبية، وكذلك توليد الاعتزال النظري المبكر. في كتابي “السلطة في الإسلام” الجزء الأول، الفصل الأول. والجزء الثاني ص 241 – 247 ). أدى القمع السياسي إلى توسيع دائرة الجدل وتفتيق المقولات، وهو المناخ التي اشتغلت وتكونت فيه منظومة – أو منظومات – الفقه.
من خلال هذا الرصد السياسي نستطيع قراءة العملية “الفقه حديثية” في سياقها الطبيعي كفعل اجتماعي تاريخي. خلافاً للرؤية السلفية المدرسية التي تضفي على هذه العملية بعداً إطلاقياً يربط بينها وبين الوحي، فهي تفصل موضوعياً بين الحديث والفقه، فتقدم الحديث على أنه نص موثق الإسناد إلى الله، وتقدم الفقه بوصفه نتاجاً مبيناً على النص الذي يشمل الحديث أي بوصفه عملية لاحقة على الحديث وليس العكس؛ على مستوى الحديث يجري الكلام عن عملية تناقل متسلسلة للوحي من الرسول إلى الصحابة إلى التابعين إلى الأمة، وعلى مستوى الفقه يجري الحديث عن عملية تناقل للعلم.
3- المرحلة العباسية
عصر التدوين الطويل
نشأت الدولة العباسية (132 هـ) من رحم جماعة عائلية ترفع شعار الإصلاح الديني
في مواجهة السياسات الأموية ذات الطابع العلماني “الدنيوي”. وبتأثير العوامل الفارسية برزت فكرة الدولة حارسة “الدين” المنقولة من التراث. الزرادشتي الساساني. وأسهم ذلك في تكريس الدمج بين الدين والدولة، وتصعيد حضور الدين داخل المجتمع، ما سيمهد الطريق لعملية التنظير الواسعة التي صنعت الشكل النهائي المدرسي للديانة الإسلامية.
صارت الدولة ضالعة مباشرة في توجيه ثقافة التدين، وأسهمت في تصنيع الطبقة الفقهية وتصعيد نفوذها المعرفي. (الصيغة النهائية للمذهب السني كما نعرفها الآن، لا يمكن فهمها إلا من خلال الدور الذي أدته السياسات العباسية – بالفعل ورد الفعل – في تكريس منهجية الحديث. أشير إلى حركة المتوكل التي أدت إلى تثبيت رؤية أهل الحديث النقلية، كرد فعل مضاد للسياسات الاعتزالية المتطرفة التي فرضها المأمون والمعتصم والواثق. (راجع كتابي “السلطة في الإسلام – العقل الفقهي” الفصل الثاني.
شهدت المرحلة العباسية خلال القرون الثلاثة التالية ذروة “التنصيص” والفقه معاً؛ اكتسب الحديث تحت مسمى السنة، حجيته الكاملة كنص مكافئ للقرآن، وعندما انتهت عملية التحديث في أواخر القرن الرابع، كان الفقه قد تبلور بخصائصه المعروفة:
لائحة تشريعية مدونة (تضم مجموعات متنوعة من الأحكام في فروع العبادات والمعاملات).
مرجعية منهجية نظرية (تمثل مبادئ أصول الفقه)
سلطة معرفية، شبيهة بسلطة النص (يستند إليها القضاء ويتصاعد نفوذها على الجمهور).
لقد حل الفقه (كلائحة أحكام موضوعية) محل قانون مكتوب كان يمكن تصور صدوره عن الدولة. وحل الفقهاء (كهيئة معنوية افتراضية) محل مؤسسة تشريعية كان يمكن تصور قيامها ضمن مؤسسات الدولة. وبطبيعة الحال كانت هذه الوضعية تعكس نمط التفكير وتوجه الثقافة في العصر الوسيط الإسلامي. وأنا لا أهدف هنا إلى محاكمة هذا النمط بمعايير الثقافة الحداثة بل أحاول رصد الصورة كما كانت في عصر التدوين وشرحها بمصطلحات الثقافة الراهنة. كيف تطور الفقه من خلال الطبقة الفقهية كمؤسسة معنوية ذات سلطة في مقابل الدولة من جهة، وداخل المجتمع من جهة ثانية؟ ما مظاهر هذه السلطة، وكيف نقرأها كصيغة “إسلامية” خاصة من صيغ الكهنوت؟
سأعتمد هنا على المقارنة إلى مفهومين: مفهوم “المؤسسة” ومفهوم “الكنيسة”:
لا يزال مفهوم المؤسسة يلعب دوراً واضحاً في مجال التحليل السياسي والاجتماعي. وبغض النظر عن تعدد تعريفاته من زوايا تخصصية أو أيديولوجية مختلفة، يستخدم المصطلح للإشارة إلى نوعين من الكيانات الاجتماعية المنظمة، الأول: يشير إلى كيانات مادية ذات تكوين عضوي ملموس، يتوفر على صفة رسمية يحددها القانون أو النص، مثل الكنيسة، والمدرسة، والوزارة، والدولة.
والثاني: يشير إلى أنساق من الكيانات المعنوية التي يحتوي عليها الاجتماع، كما في الحديث عن مؤسسة القرابة أو مؤسسة الزواج.
إسلامياً، وبامتداد مراحل التدوين، لم يكتسب الفقه من خلال الفقهاء قواماً مؤسسياً بالمعنى العضوي مقارنة بالكنيسة الكاثوليكية، ومع ذلك لا يمكن اعتباره مجرد فكرة معنوية بالمعنى الذي نفهمه عن مؤسسة القرابة أو مؤسسة الزواج.
مقارنة بالكنيسة يمثل الفقة أقل من مؤسسة مادية، ومقارنة بالقرابة أو الزواج يمثل ما هو أكثر من مؤسسة معنوية.
على المستوين العملي والنظري، يمكن الحديث عن صلاحيات معرفية وسياسية للفقه تشبه صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، لكنها تظل في مرتبة أدنى من الكنيسة، من حيث مساحة السلطة، وعمقها، فضلاً عن افتقارها إلى آلية التأسيس النصي الكتابي التي تتوفر عليها الكنيسة.
-5-
عملياً، ورغم نفوذها المتفاقم، ظلت الطبقة الفقهية تعمل من تحت السلطة الحاكمة لتعبئة التأييد السياسي والتحريض على حركة الغزو، وتم توظيف الفقهاء في الدواوين الإدارية ومناصب القضاء. وعلى المستوى الشعبي تزايدت صلاحياتهم في الإفتاء، وتضخم حضورهم الاقتصادي من خلال الإشراف على الزكاة والأوقاف الأهلية، وتمادى نفوذهم إلى ممارسات ضبطية داخل المجتمع ستتطور إلى صيغة الحسبة، وهي ممارسات تنطوي على حشرية أخلاقية وقانونية غير مؤسسة نصياً، لكنها ستحظى بتنظيرات فقهية ذات طابع تأويلي.
على المستوى النظري سيجري الترويج لسطلة الطبقة الفقهية التي ستمثل المكون الأول من هيئة ” أهل الحل والعقد” الموكول إليها عملية اختيار الحاكم. وبحسب الجويني إمام الحرمين (ت 478 هـ) “يعتبر العلماء هم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أوامرهم، والانكفاف عن مزاجرهم”.
وفي كتابه الشهير “غياث الأمم” يحيل الجويني سلطة الحكم إلى العلماء عند خلو الزمان من قائم بأمر الله: ” إذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم”.
هل كان الجويني يتحدث عن مؤسسة حاضرة بالفعل؟
أم يدعو إلى تأسيسها تنظيراً للواقع؟
أم يأمل في تكريسها من باب وعيه بحجم النفوذ الفعلي لسطلة الحاكم الفرد المطلقة.
يتبع
***
عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري
عن منصة تكوين، يوم: أكتوبر 11/10/2024م