اخترنا لكم

لم تكن علاقة الفلسفة بالعلوم مستقرّة، لقد تراوحت بين أحوالٍ مزلزلة ما بين الصراع والتناقض والتشابك، وقليل من التلاقي والتعايش والتعاضد. لكن الفلاسفة مغرورين بالطبع، وهم كثيراً ما يبرهنون على أن الأسئلة الفلسفية هي التي ألهمت العلماء وحرضتهم على الاكتشاف والإبداع العلمي.

 أظنّ أن أقرب الفلاسفة الذين قرروا التصدي لإشكال العلاقة بين مجاليْ العلم والفلسفة هو إيمانويل كانط، فعلى الرغم من تكوينه العلمي، فقد قرر فكّ الإشكال وانتصر للفلسفة في آخر المطاف.

كان تبويب كانط للمعرفة مبنيّاً على تأسيس الأسئلة الضرورية. فقد طرَح أولا مجموعةً من الأسئلة حول المعرفة: ماذا يمكنك أن تعرف؟ ثم طرح مجموعة أخرى حول الأخلاق: ما الذي ينبغي عليك عمله؟ قبل أن يطرح في المرحلة الثالثة تساؤلَه الشهير: ما الذي يمكنك أن تعتقده؟ وهذا فيما يتعلق بالدين.

«إنك لتشعر في مؤلفات كانط كما لو أنك في سوق ريفية، فبمقدورك أن تشتري منه أي شيء»، هكذا يقول المختصّ بفلسفة كانط الأستاذ سمير بلكفيف، الذي قرأتُ مؤخراً كتابَه المنشور تحت عنوان: «التفكير مع كانط ضد كانط». وهو كتاب نفيس ومهم ومحرّض على تذكّر نظريّة كانط ودرْسه مجدداً، وسأعرض بعض شروحه هنا في هذه هذه السطور.

لقد طرح كانط عدة براهين:

 الأول، أن «فكرة المكان والزمان ليست مفهوماً مستمداً من التجربة، فالمكان لا يتقوّم بالتجربة والظواهر الخارجية، وإنما هذه التجارب لا تكون إلا بواسطة هذا المكان القبلي، والشيء نفسه يقال عن الزمان، فلا يمكن تمثل التتابع الذي تخضع له الأحداث إلا بتصور الزمان مسبقاً». الثاني، أن «المكان والزمان شرطان أوليان وضروريان لظهور الأشياء في حسّنا، والدليل على ذلك أنه يستحيل علينا تصور أشياء ليست في مكان ولا في زمان، بالرغم من أنه يمكننا التفكير فيها دون أن نقف عند مكان أو زمان محدد، وبتعبير آخر نستطيع قبل التجربة أن نتمثل المكان والزمان».

الثالث، أن المكان والزمان ليسا تصورين، لأن التصور ماهية عامة تشتمل على خصائص مشتركة بين مجموعة أفراد، كذلك لأن التصور يستلزم وجود أسبقية للأشياء حتى نتمكن من تجريد تلك الخاصية المشتركة.

الرابع: أن المكان والزمان حدسان خالصان لا تصوران، من حيث إن التصور يدل على خصيصة مشتركة بين مجموعة أفراد، تنطبق على أشياء جزئية لامتناهية، إلا أن المكان والزمان يحتويان هذه الأجزاء اللامتناهية.

 تلك البراهين جعلت كانط يؤسسها ضمن عرضٍ فلسفي مهم ضمن نظريته «الترانسندنتالية» (أو المثالية المتعالية) وخلاصتها أن «مفهومي الزمان والمكان معارف تأليفية قبْلية. فالمفاهيم الرياضية ليست مستمدة من العيان التجريبي، بل من العيان المجرّد بشكلٍ قبْلي، وهذا ما يجعل أحكامَها التركيبية يقينية بصفةٍ قبلية وضرورية أي تتميز بالكلّية، ولتكون تركيبية تأليفية».

والخلاصة هنا، هي أن كانط لجأ إلى الحدس الخالص، لأنه تورّط في يقينية النظرية العلمية. ولأنه لم يجد تسبيباً لها لاذ بهذه النظرية التوليفية الصلبة، إنها نظريّة أعادت تفسير علاقة الفلسفة بالعلوم عبر تبويبٍ جديد غير مسبوق.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 13 أكتوبر 2025 23:55

 

تتخذ مساراً مستحدثاً منذ أواخر سبعينات القرن الماضي

منذ وقت مبكّر من بدء اهتمامي الجارف بالأدب والحرفة الأدبية أدركتُ أهمية الإحاطة بمفردات وموضوعات النظرية الأدبية. العمل من غير موجّهات دليلية نظرية في أيّ حقل معرفي إنّما هي خطأ جوهري ينبغي التثقيف على ضرورة تجاوزه. النظرية الأدبية تفترض بالضرورة الإطلالة على شيء من التاريخ الأدبي والنقد الأدبي.

حصل الأمر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي. كانت قراءاتي في النظرية الأدبية قبلها غير ممنهجة، قرأت حينها كتباً لمؤلفين مختلفي المشارب والتوجّهات: سارتر ومؤلفه «ما الأدب؟»، تي. إس. إليوت وتنظيراته التي أوردها في كتابيه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» و«التراث والموهبة الفردية»، إف. آر. ليفز وكتبه الإشكالية «التراث العظيم» و«اتجاهات حديثة في الشعر الإنجليزي». تباينت المقاربات فيما بين هؤلاء الكُتّاب (والكُتّاب الآخرين بعامة) من غرق في بركة الآيديولوجيا الماركسية أو السايكولوجيا الفرويدية أو التراث الفكتوري أو استنطاق النص الأدبي في حدوده النصوصية. كان الأدب يبدو حينها وكأنّه قلعة حصينة معزولة ومسوّرة بكهنة متعصّبين ودستور عنوانه المُعْتَمَد الأدبي (Literary Canon).

حصلت الانعطافة الكبرى معي بعدما قرأت كتاب «نظرية الأدب» (Theory of Literature) للمُنظّر والناقد التشيكي - الأميركي رينيه ويليك (Rene Wellek) (بمعاونة أوستن وارين). برغم أنّ الكتاب كان على شيء من البرودة الأكاديمية لكنّه كان رائعاً ومثيراً ويحفّز القراءة. كانت قناعتي حينها أنّ المشتغل في حقل الأدب لو قرن قراءته لكتاب نظرية الأدب بالأجزاء العديدة لكتاب ويليك الآخر عن تاريخ النقد الأدبي الحديث فستكون عدّته الأدبية مقبولة وتمكّنه من العمل ببصيرة بدلاً من الدوران في متاهة لانهائية. كان النقد الأدبي حينها ذا سطوة لا يمكن مخاتلتها، ولم يكن بدّ أمام الكاتب من معرفة شيء رصين من أفانين النقد الأدبي مقترناً بالنظرية الأدبية والتاريخ الأدبي.

شرعت النظرية الأدبية تتخذ مساراً مستحدثاً منذ أواخر سبعينات القرن الماضي عندما بدأ التطعيم الجاد للنظرية الثقافية بالنظرية الأدبية؛ أي بمعنى صار هناك توجّه عام لمثاقفة (Acculturation) النظرية الأدبية، ثمّ مع السنوات والعقود اللاحقة صار هناك توجّه أكثر وضوحاً وفاعلية لجعل النظرية الأدبية تياراً في مجرى النظرية الثقافية، والاثنان يصبّان في محيط الدراسات الثقافية (Cultural Studies). خفت النقد الأدبي كثيراً، ولم يعد متوقّعاً أن نشهد ولادة ناقد من طراز ليفز أو ويليك. عندما أراجع كتابات ويليك اليوم وأضعها قبالة المؤلفات المعاصرة أرى البون شاسعاً، ولا أشعر بحنين نوستالجي لتلك السنوات. لا ضيْرَ من توسعة حدود الجغرافية الأدبية وتعشيقها بمناشط إنسانية جديدة. هكذا يقتضي الحراك الدينامي التطوري للحياة والفكر البشري.

***

كل فاعلية معرفية جديدة تتطلب كتباً تأسيسية لها. أعتقد أنّ كتاب «الثقافة والمجتمع» (Culture and Society (1958)) لمؤلفه الأشهر رايموند وليامز (Raymond Williams) هو واحد من أهمّ النصوص التأسيسية لمبحث الدراسات الثقافية. يناقش وليامز في كتابه هذا كيف تطوّر مفهوم الثقافة في الفكر البريطاني، ويجعل الأدب جزءاً من نسيج البنية الثقافية. أيضاً يمكن الإشارة إلى كتاب تيري إيغلتون (Terry Eagleton) «النظرية الأدبية: مقدّمة» (Literary Theory: An Introduction) (1983) الذي أظهر فيه المؤلف كيف أن كل نظرية أدبية (من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية) هي أيضاً موقف ثقافي وآيديولوجي. كتاب مهم آخر هو ذاك الذي ألّفه جوناثان كولر (Jonathan Culler) بعنوان «النظرية الأدبية: مقدّمة وجيزة» (Literary Theory: A Very Short Introduction) ونشرته جامعة أكسفورد في طبعته الأولى عام 1997. يمزج هذا الكتاب بين النظريات الأدبية والنقاشات الثقافية التي باتت جزءاً مؤصّلاً في المثاقفة المجتمعية والدراسات الثقافية (اللغة، النص، القارئ، الهوية...). لا يمكن تغافل جهود المنظّر البريطاني ستوارت هول (Stuart Hall) أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المفتوحة في بريطانيا، ومساهمته المفصلية في ترسيخ الدراسات الثقافية على المستوى الجامعي والثقافي العالمي.

في فضاء الأدب العربي والثقافة العربية يمكن الإشارة إلى جهود الباحثيْن د. عبد الله إبراهيم في كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» (1996)، وسعيد يقطين في كتابه «انفتاح النص الروائي: النص والسياق» (1989).

***

لو أتيح لي الخيارُ في تسمية كتاب أقترحه ليكون دليلاً مرجعياً لتمثيل التعشيق التفاعلي بين النظرية الثقافية والنظرية الأدبية (أي زيادة جرعة المثاقفة في النظرية الأدبية) فسأختارُ كتاب «النظرية الأدبية: الأساسيات» (Literary theory: The Basics) لمؤلّفه هانز بيرتنس (Hans Bertens). نشرت دار نشر «راوتليدج» (Routledge) طبعة رابعة جديدة من هذا الكتاب أواخر عام 2024 في سياق سلسلتها الرائعة التي تتناول أساسيات الموضوعات المتناولة.

مؤلف الكتاب، هانز بيرتنس، يعمل أستاذاً فخرياً Emeritus للأدب المقارن في جامعة أوترخت الهولندية. يتناول نشاطه البحثي موضوعات ما بعد الحداثة، الأدب الأميركي، والنظرية الأدبية.

يعدّ كتاب بيرتنس مدخلاً تمهيدياً للطلبة أو القرّاء المهتمّين بفهم التيارات والنظريات الأدبية المعاصرة، وقد اتخذه العديد من الأقسام الجامعية مرجعاً لدراسة النظرية الأدبية. ما يميّز الكتاب هو لغة واضحة، مع تجنّب الإفراط في الاحترافية النظرية، إلى جانب ترتيب تاريخي للأفكار، بدءاً من النقد العملي (Practical Criticism) والنقد الجديد، مروراً بالبِنيوية، ما بعد البنيوية، النقد الثقافي، ما بعد الكولونيالية، نظرية النوع (Gender)، وما بعد الإنسان (Posthumanism). يُظهِر الكتاب كذلك كيف ترتبط النظرية الأدبية بالممارسة؛ أي كيف يمكن للنظرية أن تؤثر في قراءة النص، وكيف أنّ القراءات النظرية تعكس تحولاتٍ ثقافية وفكرية مشخّصة.

يمكن معرفة حجم المثاقفة في هذا الكتاب من تفحّص موضوعات فصوله. بعد مقدّمة موجزة تناول المؤلف في الفصلين الأول والثاني طبيعة قراءة النص الأدبي فجعلها في مقاربتين: قراءة من أجل المعنى، وقراءة من أجل الشكل. بالطبع قادت هاتان المقاربتان لتناول موضوعات النقد الجديد والنقد العملي، والشكلانية وبدايات البنيوية، ثم اتبعها المؤلف في الفصل الثالث بالبنيوية الفرنسية. بدأت المثاقفة الحقيقية في الكتاب بالفصل الرابع الذي تناول فيه المؤلف القراءة السياسية للأدب من بوّابة الطبقة، والنوع الجندري، والعِرْق في سبعينات وثمانينات القرن العشرين. بعدها تناول المؤلف الثورة ما بعد البنيوية (دريدا، التفكيك، ما بعد الحداثة)، ثم واصل في الفصل اللاحق معالم هذه الثورة (فوكو، لاكان، النسوية الفرنسية). خصّص المؤلف فصلاً لتناول الأدب والثقافة (التاريخانية الجديدة The New Historicism والمادية الثقافية). أما ما تبقى من فصول الكتاب فتناول فيها المؤلف موضوعة مابعد الكولونيالية في جانب النظرية والنقد، ثم أفرد فصلاً للنقد البيئي (Ecocriticism). الفصل الأخير من الكتاب اختصّه المؤلف لتناول الاتجاهات الجديدة في المثاقفة الأدبية.

تشدّد الطبعة الرابعة على موضوعات مثل «الدراسات الرقمية» (Digital Humanities)، مع التوسّع في موضوعة «ما بعد الإنسان»، و«ما بعد المادية» (Post-Materialism)، «دراسات الحيوان» (Animal Studies) بدلاً من الاقتصار على المثاقفة الكلاسيكية حول البيئة والنقد البيئي.

لو شئنا مقارنة الطبعة الرابعة بالثالثة فيمكن حصر الاختلافات النوعية في التالي. في الطبعة الثالثة هناك تركيز أقوى على التيارات «الكلاسيكية» للنظرية الأدبية؛ في حين أنّ الطبعة الرابعة تُعيد توجيه الاهتمام نحو التحديات المعاصرة للنظرية: كيف أنّ النظرية تتغير في ظلّ التطوّرات التقنية الثورية وصعود فكرة ما بعد الإنسان (Post-Human)، التغيرات البيئية، التقنيات، دراسات الحيوان، وما بعد النظرية الأدبية الكلاسيكية. كذلك تميل الطبعة الرابعة أكثر نحو دمج الفروع النظرية ذات الصلة بدلاً من إبقاء كل نظرية في فصل منفصل وذلك بغية منح القارئ فهماً متكاملاً للتداخل بين هذه الاتجاهات.

***

ليس بمستطاعنا سوى الاعتراف بفيض الكتب التي تتوالى علينا في شتى الحقول المعرفية. واحدة من الميزات الفضلى للكتب المعاصرة الرصينة أنّها تمدّنا بجرعة معرفية تكفي في الأقلّ لشدّ عضد القارئ ودفعه للاستزادة من المعرفة بدلاً من الوقوع تحت رحمة فيضان العناوين التي لا يعرف في لجّة متاهتها أين يبدأ، وأي المسارات يتخذ، وكيف يتطوّر. أظنّ أنّ كتاب بيرتنس يخدم - كنقطة شروع - القارئ المتطلّع للمثاقفة الأدبية الحقيقية في عالم بات فيه الأدب اشتغالاً عاماً لمختصين بالذكاء الاصطناعي والرياضيات والفيزياء، ولم يعُدْ احتكاراً خالصاً تحكمه تقاليد «ليفز» المُطوّبة، مثلما لم يعُدْ «غابة مقدّسة» أقفل إليوت أبوابها ورمى مفاتيحها في الظلام.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 8 أكتوبر 2025 م ـ 16 ربيع الثاني 1447 هـ

لم يعد السؤال، هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان؟ بل أصبح ماذا سيبقى لنا بعد أن يحدث ذلك؟ فالدماغ البشري يحتاج إلى عقود ليصقل مهارة أو يبدع نظرية، أما الآلة فتعلمت في سنوات قليلة كيف تترجم، وتحاور، وتكتب، وتغني، وتمثل، وترسم، وتشخص الأمراض، وتتنبأ بالأحداث بدقة كبيرة. في المختبرات الصحية تتنبأ نماذج ذكاء اصطناعي ببنية البروتينات بدقة لم يحلم بها العلماء، وفي الاقتصاد تدير خوارزميات استثمارات تفوق سرعة أذكى العقول المالية، وفي الفنون تنتج صوراً ونصوصاً قادرة على خداع الذوق العام.

هذه ليست توقعات مستقبلية، إنها وقائع حاضرة، ومع كل جيل جديد من النماذج تتضاعف القدرة بشكل لا يوجد له وصف في مصطلحات البشر، بينما نحن محكومون بإيقاع بيولوجي بطيء، فالهوة لم تعد نظرية، بل أصبحت واقعاً يومياً يتسع أمام أعيننا.

 ولطالما اعتبرنا الإبداع الخط الفاصل بيننا وبين الآلة، لكن حين يكتب نموذجٌ لغويٌ رواية تُقرأ، وكأنها من صنع كاتب بارع، أو عندما تبيع خوارزمية لوحة بمئات آلاف الدولارات في مزاد عالمي، فمن يملك الحق في الادعاء أن الخيال الرحب إنساني صرف؟ قد يقول بعضهم: إن الآلة لا تشعر! هذا صحيح، ولكن مع تطور تقنيات الوعي والدماغ الاصطناعي البيولوجي، يبقى المستقبل غير محسوم، وشكل من أشكال الوعي الذي سيبهر الإنسان الحديث غير مستبعد، فالذكاء الاصطناعي لا يهدد الأفراد فقط، بل يهدد البنى الاجتماعية، ذلك لأن ملايين الوظائف ستختفي، وشرائح واسعة ستُقصى من سوق العمل، لتظهر طبقة جديدة ألا وهي «البشر غير الضروريين»! عندها لن يكون التحدي اقتصادياً فقط، بل سياسياً وأخلاقياً، كيف تبنى ديمقراطيات على أساس مشاركة بشرية إذا فقد البشر قيمتهم الإنتاجية؟

والأخطر هو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تصبح أداةً بيد قوى احتكارية – دولاً أو شركات- لتضخيم النفوذ والسيطرة. التاريخ يخبرنا أن التكنولوجيا لا توزع نفسها بعدالة، بل تتركز حيث يوجد رأس المال والسلطة، واليوم تتقدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بسرعة تفوق قدرة أي برلمان أو منظمة دولية على ضبطها، فبينما نتجادل حول أخلاقيات الاستخدام، تنتشر تقنيات التزييف العميق في السياسة، وتتخذ الآلات قرارات طبية ومالية وأمنية نيابة عنا، فإذا لم نضع حدوداً واضحة قد نجد أنفسنا أمام كيانات صناعية تمتلك سلطة تتجاوز سلطة الدول ذاتها.

فهل الحل هو الاندماج، وأن نصبح كائنات هجينة؟ نعزز ذاكرتنا ورؤيتنا بأدوات اصطناعية، لكن هل سيكون ذلك خلاصاً أم بداية فقدان إنسانيتنا؟ حين تعتمد أدمغتنا على الآلة في التفكير من سيبقى صاحب القرار نحن أم هي؟ إذاً الاندماج قد يكون حلاً مؤقتاً، لكنه ليس إجابةً عن السؤال الوجودي: ما معنى أن تكون إنساناً إذا كانت كل قدراتك متاحة في جهاز خارجي؟

هذا المانيفستو ليس دعوة إلى الخوف، بل إلى صحوة فكرية، نحن لا نملك رفاهية الانتظار حتى يبتلعنا المستقبل، يجب أن نضع أطراً أخلاقية عالمية، ونظاماً قانونياً جديداً يتجاوز الحدود القومية، ويضمن أن الذكاء الاصطناعي يبقى أداةً في خدمة البشر لا حكومةً فردية تدير العالم وحدها.

الاختبار هذه المرة ليس صراعاً بين دولة وأخرى، بل بين الإنسان كجنس بيولوجي وبين ما أبدعته يداه. وإذا فشلنا قد نجد أنفسنا بعد عقود متفرجين على حضارة تصنعها الآلات، وسرعة تقنية خارقة تكسر الزمن البشري، وخاصة أن الدماغ البشري يحتاج إلى أعوام لبناء خبرة في الطب أو الفيزياء أو الفنون، بينما خوارزمية واحدة يمكنها ابتلاع مكتبات كاملة في ثوانٍ. نحن محكومون بالذاكرة والنسيان والوقت المحدود، أما الآلة فتصنع ذاكرتها الخاصة بلا حدود، تتعلم ليلاً ونهاراً وتحسن من نفسها بآلية لا نهائية، وإذا كان «التفرد التكنولوجي» مجرد خيال في الأمس، فهو اليوم سيناريو يتسارع نحوه العالم، ومن يجرؤ على القول إن المخيلة البشرية لا تقهر؟

ملايين الوظائف ستختفي! هذا ليس توقعاً بعيداً، بل عملية بدأت بالفعل والواقع الحالي أن الذكاء الاصطناعي تجاوز مستوى المساعدة والنماذج الحديثة أصبحت: تقرأ وتفهم وتكتب وتحلل وتبرمج وتخطط وتنفذ وتراجع وتتخذ القرار في آنٍ واحد. وهذه النماذج يمكنها إدارة البريد، وإعداد العروض، كتابة الأكواد، تحليل الأسواق، وإعداد الدراسات المالية، وحتى تصميم حملات تسويقية متكاملة من دون إشراف بشري فعلي. والشركات بدأت تعتمد عليها كموظف افتراضي ينجز خلال 24 ساعة ما يعادل عمل فريق كامل خلال أسبوع، فهل هذا تقدم؟ أم بداية انهيار العقد الاجتماعي؟

***

سالم سالمين النعيمي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 6 أكتوبر 2025 23:30

 

الثقافة ليست وعاءً محايداً تتكدّس فيه المعارف، ولا إطاراً شكلياً يزيّن واجهة المجتمعات، بل هي النسيج العميق الذي تتداخل فيه المعاني والقيم والرموز، ليشكّل الوعي الجمعي ويمنح الوجود الإنساني معناه. إنها الجسر الذي يصل بين المعنى والوجود، بين الذات والآخر، بين الذاكرة والمستقبل. في منظور عالم الاجتماع والفيلسوف دنيس كوش، كما بسطه في كتابه «مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية»، الثقافة ليست شيئاً نملكه، بل هي تملكنا، توجه سلوكنا، وتؤطر رؤيتنا للعالم، وتحدّد موقعنا فيه.

ويُظهر كوش أنّ الكلمة في أصلها الأوروبي كانت تحيل إلى فعل الزراعة والرعاية (culture)، ثم انتقلت في القرن الثامن عشر إلى المجال الرمزي، حيث ارتبطت بالتهذيب والرقي، لتغدو في القرن التاسع عشر محوراً للفكر الأنثروبولوجي. وفي تعريف إدوارد تايلور الشهير، أن الثقافة هي «كلٌّ معقد» يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات.. وهو تعريف رسّخ شمولية المفهوم، لكنه حمل في ثناياه نزعة تطورية قسّمت الشعوب إلى متقدمة وبدائية، وجعلت من الثقافة أداة ضمنية لترتيب البشر في سُلّم حضاري.

 وفي النقاش الكلاسيكي، مثّلت ثنائية «الثقافة والطبيعة» أحد المداخل الكبرى لفهم الإنسان: الطبيعة كإرث بيولوجي فطري، والثقافة كمعطى مكتسب يصوغ السلوك والمعنى. وقد أعلت العلوم الاجتماعية الحديثة، انطلاقاً من دوركايم وصولاً إلى فيبر، من شأن البعد الثقافي؛ فرأى دوركايم الثقافة منظومةً من «الوقائع الاجتماعية» الملزمة، بينما اعتبرها فيبر شبكة معانٍ تمنح الأفعال الإنسانية قابليتها للفهم.

لكن التحولات الفكرية في القرن العشرين كسرت الصورة الجوهرانية للثقافة، وانتقلت إلى النظر إليها كبناء اجتماعي متغير، يتأثر بالسلطة والاقتصاد والتاريخ، ويتشكل عبر التفاعل المستمر. المدارس النقدية، من فرانكفورت إلى ما بعد البنيوية، حذّرت من أن يُستعمل المفهوم لتبرير الهيمنة أو تغليف الصراع بخطاب «الصدمة الحضارية».

 وعلى الصعيد الأممي، بلور «إعلان مكسيكو للثقافة»، الصادر عن اليونسكو عام 1982، رؤيةً شموليةً اعتبرت الثقافةَ مجموعَ السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً أو فئة، وتشمل الفنون والقيم وطرائق الحياة، وهي ما يمنح الإنسانَ القدرةَ على التفكير النقدي والإبداعي. أما الألكسو والإيسيسكو فقد تبنَّتا التصورَ نفسَه، مؤكدتَين أن الثقافة مجال فكري وقيمي متكامل يرتبط بكل أوجه النشاط الاجتماعي.

هذه المقاربات تكشف أن الثقافة ليست كياناً جامداً، بل مساراً ديناميكياً، مشروعاً مفتوحاً للتأويل وإعادة البناء. هي ميراث مشترك للإنسانية، وجسر للتواصل بين الشعوب، لكنها قد تنقلب أداة للإقصاء إذا تحوّلت إلى هوية منغلقة. ولهذا يؤكد كوش أن على العلوم الاجتماعية أن تتجاوز التوصيف إلى المساءلة المستمرة للمفهوم، بما يحرره من الاستعمالات الأيديولوجية.

في عالم اليوم، حيث تتكاثر فضاءات التفاعل الإنساني وتتداخل الحقول المعرفية، تصبح الثقافة ميداناً لصراع التأويلات ومختبراً لإنتاج المعنى. لا يكفي أن نحافظ على «موروث» ثقافي بمعناه الساكن، بل علينا أن نَصونه بقدر ما نعيد تشكيله، وفق قيم تضمن للإنسان وعيَه بذاته وانفتاحه على الآخر. الثقافة التي تحتفظ بذاكرتها من دون أن تنغلق، وتتجددمن دون أن تفقد روحها، هي وحدها القادرة على أن تكون أفقاً للعيش المشترك، وحاضنة للابتكار، ومجالاً لإعادة تعريف إنسانيتنا.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 أكتوبر 2025 23:45

في كتابها الصادر مؤخراً بالإنجليزية، بعنوان «كيف صنع العالم الغرب؟»، تدحض المؤرخة البريطانية جوزفين كوين الأطروحة السائدة في اليمين القومي الأوروبي حول الهوية الحضارية الغربية الاستثنائية المبنية على الموروث اليوناني الروماني والتقليد المسيحي.

 وبالنسبة لكوين، ليس الغرب حقيقة أزلية ولا مجالاً جغرافياً مغلقاً، بل هو اختراع تاريخي وثقافي متأخر وغير دقيق، إنه نتاج سرديات وتصنيفات تشكلت في حقب ماضية، غالباً في سياق الصدام مع الآخر، أي الشرق المنعوت بالهمجية والغرابة. وبالنسبة لكوين، لا يمكن فصل غرب المتوسط عن العالم الشرقي (مصر وفارس وبلاد الرافدين) الذي تفاعل معه بكثافة طيلة قرون طويلة ممتدة. منذ المؤرخ الشهير هيرودوت شاعت ثنائية «الغرب الحر» و«الشرق الاستبدادي» وتكرّست في أعمال هيغل والأدبيات الاستشراقية الحديثة. بيد أن الحقيقة التاريخية هي أن اليونان لم تكن تنتمي تاريخياً لأوروبا، بل كانت جزءاً من الفضاء الشرقي الأوسع.

في نظريتها النقدية للاستثناء الغربي، ترجع كوين لأعمال عالم الأنتروبولوجيا جاك غودي الذي بيَّن في كتابه «سرقة التاريخ» (صدر سنة 2006) أن المؤسسات السياسية والقانونية والتشكّلات الفكرية الكبرى التي يعتقد أنها من إبداع الغرب، هي في حقيقتها غير خاصة به، بل ظهرت في الغالب خارج محيطه الجغرافي والاجتماعي.

وفي هذا الباب، يتعين التذكير بأن الحرف اليوناني تمت استعارته من الفينيقيين، وعلم الفلك اليوناني له جذوره البابلية، كما أن الرياضيات اليونانية لها أصولها المصرية، بل إن الديانة الإغريقية لا تختلف في شيء عن الاعتقادات الشرقية. وحتى في المجال الفلسفي، يرى غودي أن اليونان لم يكونوا متفردين بالنزعة العقلانية، بل إن الحضارات الصينية والهندية والشرق أوسطية بلورت تقاليد فلسفية وعلمية ومؤسسية رصينة لها تأثيرها العالمي الواسع. ومع أن الثورة الصناعية والاقتصاد الرأسمالي، اكتملا في أوروبا، إلا أن غودي يرى أن جذورهما تعود إلى الصين والعالم العربي الإسلامي.

 والخلاصة التي تصل إليها كوين وغودي هي أن الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق مجرد وهم أيديولوجي، تفنّده الحقائق التاريخية الموضوعية، بل إن التداخل ظل كثيفاً بينهما، سابقاً ولاحقاً، بحيث لا يمكن الحديث عن هوية غربية خالصة ومستقلة.

أهمية هذه الأطروحة التفكيكية هي الوقوف ضد النزعة الثقافوية التي تهيمن في أيامنا على تيارات اليمين الشعبوي الصاعد في عموم الديمقراطيات الغربية، وهو اتجاه يرى أن خط الصراع السياسي قد انتقل في السنوات الأخيرة من أرضية الاستقطاب الاجتماعي الطبقي إلى خط التصادم الحضاري. ومن هنا ضرورة الدفاع عن القيم المرجعية للغرب في مقابل «الخطر الشرقي» المُتجسّد في «الهجرات الوافدة».

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن بعض الكتاب العرب والمسلمين يسقطون في فخ نظرية الاستقطاب الحضاري، مركِّزين على حقوق الخصوصية الثقافية والانتماء الأصيل، مستغلين الأعمال النقدية للاستشراق والمركزية الغربية من أجل تثبيت الوعي الانفصالي عن العالم.

لقد بدأ هذا التوجه من كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، رغم أن هدف المؤلف لم يتجاوز وقتها معالجة المركب المعرفي السلطوي في كتابات الأدباء الأوروبيين المتعلقة بالشرق. وفي كتاب زميله الفلسطيني الآخر وائل حلاق، «قصور الاستشراق»، وصل هذا الاستغلال مداه بالمطالبة الصريحة بالقطيعة (المستحيلة والساذجة) مع الحداثة الأوروبية.

قبل سنوات، أصدر الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان كتاباً مثيراً بعنوان «النور يأتي من الغرب»، بيّن فيه أن الدخول في مسار التحديث الكوني، الذي هو الأفق الوحيد المتاح للبشرية، يعني بشكل أو بآخر قبولَ التغريب خياراً معرفياً ومجتمعياً لا مناص منه. إلا أن شايغان أكد في الوقت نفسه، أن التحديث وإن كان يفضي ضرورةً إلى اعتماد النموذج الغربي في مرتكزاته الكبرى، إلا أنه لا يؤدي إلى ما يكثر الحديث عنه من استلاب حضاري وضياع للهوية، إذ لا تزال الثقافات غير الغربية قادرة على تقديم رصيد روحي وأخلاقي يستفيد الغربُ نفسُه منه.

ورغم دقة ملاحظة شايغان، إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن ما نعتبره نموذجاً غربياً هو في حقيقته حصيلة تفاعل إنساني واسع، كان للشرق العربي الإسلامي دور محوري فيه. قد تكون فكرة الكونية نفسها (أي الإنسانية المتعقلة المتساوية من حيث الأصول والتوجهات القيمية) فكرة شرقية، حفرها بقوة فيلسوف الإسلام الوسيط الفارابي الذي كان أول مفكر حرص على ترجمة مضامين الملة في المقولات البرهانية العمومية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 5 أكتوبر 2025 23:30

 

الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته قبله

لقد أمضيت وقتاً طويلاً في شرح المصطلحات الأجنبية وتعريبها في أثناء نقل مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية. كما أجبرني ذلك على اشتقاق عديد من المصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة. وهذه من فوائد ترجمة أركون التي لا يستهان بها. نعم لقد اضطررت إلى اشتقاق عشرات بل مئات المصطلحات. وأعتقد شخصياً أنه إذا ما نجح مشروع الترجمة بالمعنى الواسع للكلمة (وليس فقط ترجمة أركون) فإننا سوف نتوصل إلى لغة عربية حداثية جديدة أكثر ديناميكية ومرونة وقدرة على التعبير عن أعوص النظريات العلمية والفلسفية. وبالتالي «فاللغة العربية ما بعد الترجمة» لن تكون هي تماماً «اللغة العربية ما قبل الترجمة». عندما ننقل كل الفتوحات العلمية والفلسفية التنويرية إلى اللغة العربية فإننا سنتوصل حتماً إلى لغة عربية حديثة، وسوف ننقذ لغة الضاد. كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. انظروا إلى اليابان، أكبر بلد مترجِم في العالم والأكثر انفتاحاً على الحداثة الغربية، ومع ذلك لم تفقد اليابان أصالتها ولا شخصيتها التاريخية العميقة. الانفتاح على الآخرين لا يعني الذوبان فيهم، وإنما يعني الاستفادة من أفضل ما أعطوه للبشرية وتوظيفه في خدمة الثقافة المحلية أو الوطنية. إنه يعني تبني إيجابيات الحداثة الغربية وطرح سلبياتها. والآن دعونا نطرح هذا السؤال:

لماذا نربط بين أركون والتنوير؟ لأنه طبَّق على تراثنا العربي الإسلامي أحدث المناهج التي كانت قد طُبِّقت من قبل على التراث المسيحي في أوروبا فنوَّرته وجدَّدته إلى أقصى حد ممكن، بل حررته من تراكماته وحشوياته وظلامياته القروسطية. وقد أدى ذلك إلى تسليط إضاءات ساطعة على النص الديني التراثي لم يسبق لها مثيل من قبل. كل المثقفين العرب فشلوا في تحقيق هذه المهمة ما عدا أركون. لقد جدَّد فهمنا لتراثنا الإسلامي العريق بشكل غير مسبوق. وهنا تكمن أهميته وعظمته. وهذا ما سيتبقى منه على مدار الأجيال. الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته الفكر الإسلامي ما قبل أركون. بعد تطبيق كل هذه المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على تراثنا الكبير يخرج أركون برؤية جديدة كلياً وناصعة عن تراث الإسلام العظيم. ولكن بما أننا منصهرون منذ نعومة أظفارنا في الرؤية القروسطية التقليدية القديمة للمشايخ فإننا نجد صعوبة بالغة في فهم هذه النظرة الجديدة التي يبلورها صاحب كتاب «نقد العقل الإسلامي الأصولي». فهو يقدم رؤية حداثية أنوارية وتحريرية عن تراثنا العظيم، ولا يكتفي بتكرار الرؤية التقليدية التراثية المتحجرة والمجترة على مدار القرون. وهي رؤية ظلامية قروسطية وصلت بنا أخيراً إلى الجدار المسدود. بل أدخلتنا في صدام مدمِّر مع العالم كله. نستنتج من كل ذلك ما يلي: لا خلاص من دون انتصار التفسير الأنواري الجديد للدين على التفسير الظلامي القديم الذي لم يعد صالحاً لهذا العصر.

عندما يكتب أركون فإنه يفكر دائماً بطريقة مقارنة. معظم الموضوعات، إن لم يكن كلها، يتناولها من الزاوية العربية الإسلامية والزاوية الأوروبية المسيحية. ودائماً يطرح السؤال نفسه: لماذا نجحت النهضة الأوروبية وفشلت النهضة العربية أو الإسلامية؟ لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل التنوير العربي الذي سبقه إلى الوجود بستة قرون؟ ثم بشكل أخص: لماذا كفَّر فقهاؤنا الفلسفة في حين أنها انتعشت عند الأوروبيين كل الانتعاش؟ لا ريب في أنهم كانوا يكفِّرونها طيلة العصور الوسطى مثلنا وأكثر ولكنهم تخلوا عن ذلك بدءاً من ديكارت بل حتى قبل ذلك. هل تعتقدون أنه لولا تكفير الفلسفة والفلاسفة كانت الحركات الأصولية من إخوانية وخمينية ستهيمن على الساحة منذ انتصار الخميني عام 1979، بل حتى منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928؟ لماذا انتصر حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي على طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وبقية الكواكب المشعَّة للثقافة العربية؟ أقصد؛ لماذا انتصروا في الشارع وليس على مستوى الثقافة الحقيقية والنخبة المثقفة؛ فهنا لا وجود لهم؟ ثم لماذا انتصر الخميني على داريوش شايغان وعبد الكريم سورش وبقية مثقفي إيران الكبار؟ أقصد؛ لماذا اكتسح الخميني الشارع الإيراني بكل هذه السهولة؟ ولكن إلى حين... التاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

ينبغي العلم أن أركون بصفته أستاذاً عريقاً في السوربون يعرف من الداخل كيف تشكلت الحداثة الأوروبية. لقد كان مطلعاً بشكل عميق على مسيرة الفكر الأوروبي عبر تاريخه الطويل وعلى مسيرة الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أيضاً. ولذلك فهو يعرف كيفية المقارنة بشكل دقيق بين كلا المسارين، ولماذا توقف هذا وأقلع ذاك... كما يعرف كيف يشخص الانسدادات التاريخية والمآزق الحالية التي يعاني منها العرب والمسلمون عموماً. من هنا عنوان كتابه الشهير: «لأجل الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة»: أي من أجل الخروج من الانغلاقات الطائفية والمذهبية التي تنفجر الآن في وجوهنا انفجاراً وتكاد تمزِّق وحدتنا الوطنية تمزيقاً بفعل الفظائع الرهيبة التي ترتكبها فصائل التعصب والتطرف. ثم نفهم من كلامه أن الغرب انتصر على أصوليته الظلامية وانقساماته الطائفية وحروبه الأهلية بفضل انتصار لاهوت التنوير على اللاهوت المسيحي التكفيري القديم. أما نحن فلا نزال نتخبط في معمعة المعركة ونحترق بحر نارها. هنا يكمن التفاوت التاريخي بين العرب والغرب.

يرى أركون أننا لا يمكن أن نفهم التراث الإسلامي بشكل صحيح إذا لم نقارنه بالتراثات الدينية الأخرى التي سبقته خصوصاً التراثين اليهودي والمسيحي. فعلى الرغم من كل الاختلافات الكائنة بينها فإنها تنتمي جميعاً إلى أرومة واحدة هي ما يدعوه العلماء: التراث الإبراهيمي التوحيدي. ولطالما دعا أركون الأقطار العربية إلى فتح أقسام لتدريس تاريخ الأديان المقارنة في جامعاتها من أجل فهم أوجه التشابه والاختلاف بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة الكبرى. فلكي نفهم أنفسنا جيداً ينبغي أن نفهم غيرنا. بمعنى آخر: سوف نفهم ديننا وتراثنا بشكل أفضل إذا ما قارنّاه بالأديان الإبراهيمية الأخرى واطَّلعنا عليها وعلى تجربتها التاريخية. نقول ذلك خصوصاً أن اليهود والمسيحيين الأوروبيين مرّوا بمرحلة الغربلة التنويرية بدءاً من القرن الثامن عشر، في حين أننا لم نمر بها نحن بعد. وهنا تكمن المشكلة بالضبط. ولكن المصيبة هي أن الإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين يعرقلون هذا الانفتاح ويقفون في وجهه بكل قوة لأنه يهدد مشروعيتهم ويكشف عن عيوبهم ونواقصهم. إنه يهدد مفهومهم القروسطي القديم للدين. لتوضيح ذلك سوف أضرب المثل التالي: عندما أنشأت الإمارات العربية المتحدة «بيت العائلة الإبراهيمية» على أرض جزيرة السعديات في أبوظبي أشاعوا أنها تريد تذويب الإسلام في دين غريب عجيب ما أنزل الله به من سلطان. وهذا غباء ما بعده غباء. هذا إن لم يكن تعبيراً عن سوء نية ومحاولة تشويش متعمدة ومقصودة. فالإسلام سيظل هو الإسلام، والمسيحية ستظل هي المسيحية، وقُلْ الأمر ذاته عن اليهودية. الأديان الكبرى تبقى هي هي إلى أبد الدهر ولكن مفهومها يختلف. فالمفهوم التسامحي المتنور للعصور الحديثة للدين غير المفهوم التعصبي أو الظلامي التكفيري للقرون الوسطى. والإمارات إذ شيّدت كنيساً يهودياً إلى جانب كنيسة مسيحية ومسجد إسلامي، كانت تريد إقامة الحوار والتآخي بين الأديان الثلاثة لا الخلط بينها. ومعلوم أنه «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان»، كما قال المفكر الشهير هانز كونغ. كانت الإمارات تريد أن تقدم صورة مشرقة عنَّا وأن تزيل تلك الصورة السوداء المرعبة التي لحقت بنا بعد ضربة «11 سبتمبر (أيلول)» الإجرامية الكبرى وما تلتها من تفجيرات وفظاعات في شتى أنحاء العالم. وقد قدمت بذلك أكبر خدمة للعرب والمسلمين. ولكن بدلاً من أن يشكروها راحوا يهاجمونها. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

مشكلة الإخوان والخمينيين هي أنهم يعتقدون أن مفهومهم الرجعي المتخلف للإسلام سوف يستمر إلى أبد الآبدين. ولكنهم واهمون. فحتى لو كانوا لا يزالون يحظون ببعض الشعبية في الشارع العربي أو الإيراني أو التركي بسبب جهل الجماهير وفقرها وأميَّتها إلا أنهم فاشلون في نهاية المطاف ومهزومون لسببين أساسيين: الأول هو أنهم يمشون ضد حركة التاريخ وضد روح الأزمنة الحديثة وجوهرها، بل حتى ضد جوهر الإسلام الحنيف ذاته إذا ما فهمناه على حقيقته. ثم إن الجماهير سوف تستنير وتتعلم وتتقدم ولن تبقى جاهلة إلى الأبد. والثاني هو أنهم يجهلون أو يتجاهلون سماحة التراث الإسلامي العظيم والنزعة الإنسانية والفلسفية العميقة التي كان ينطوي عليها إبان العصر الذهبي، ولكن ليس إبان عصر الانحطاط. ومعلوم أن هذه الحركات الإخوانية والخمينية وسواها هي الوريث المباشر لعصور الانحطاط الطويلة التي لم نستطع التخلص من براثنها حتى الآن.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: -5 أكتوبر 2025 م ـ 13 ربيع الثاني 1447 هـ

لطالما ارتبط اسم الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر بأسئلةً مزلزلة للبناء النظري الذي سبقه. انشغل مبكراً بالحقيقة وطوّر سؤالها ليكون مبناه كالتالي «ضرورة السؤال عن ماهيّة الحقيقة انطلاقاً من بدء تاريخ الحقيقة» كما هو عنوان الفصل الرابع من كتابه:«الأسئلة الأساسية للفلسفة-مشكلاتٌ مختارة من (المنطق)» والكتاب عبارة عن محاضرةٍ في فرايبورغ لدورة الشتاء عام 1937.

كتب هيدغر في الصفحات من (205) ومابعدها عن ضرورة: «تغيير اتجاه التساؤل النقدي عن الحقيقة نحو بدء تاريخ الحقيقة بصفته قفزاً مسبقاً إلى المستقبل، بوصفها ماجرّبه مفكروا اليونان من غير أن يسألوا عنه».

ثم يشرح كيف أن مفكري اليونان كانوا يعرفون الحقيقة بمعنىً مزدوج؛ أولاً: بصفتها «تجلي الكائن» أي عدم اختفاؤه، وثانياً: بصفتها توافق التمثّل والكائن، بصفتها صواباً، ثم يتحدّث عن معنى الصواب في سؤال الحقيقة.

هذا تفصيله طويل، ولكن يهمني هنا سريعاً كيف يمكن لسؤال الحقيقة أن يتمدد حتى وصل تأثيره لنقاش هيدغر المبكّر حول التقنية؟!

في الجزء الثاني من مؤلفه: «كتابات أساسية» خصص فصلاً بعنوان:«السؤال عن التقنية». وفي صفحة (154) يرى أن:«انتماء التقنية إلى مجال الحقيقة يثير في البداية استغرابنا، وهذا يعود إلى أننا نكون-عادةً-مأخوذين بالتقنية إلى حد أننا لانهتم إلا بما هو تقني، وما يهمنا عادة في التقنية هو منفعتها ومردوديتها، ووسائلها في الإنتاج وأساليبها في العمل والتنظيم، أما ماهيّة التقنية فلا نعبأ بها في العادة، إننا من شدة تعلقنا بالتقنية نُغفل السؤال عن ماهيّتها، والآن عندما تساءلنا عن ماهيّة التقنية وتابعنا التساؤل خطوةً خطوة وصلنا إلى الأمر الذي أثار استغرابنا وهو أن مجال ماهيّة التقنية هو الحقيقة».

هنا مربط الفرس لدى هيدغر بين الحقيقة والتقنية. وكلا النصّين حول الحقيقة والتقنية صدرا في الثلاثينيات؛ بمعنىً آخر فإن هيدغر يعتبر التقنية بماهيّتها متداخلة مع البحث في الحقيقة، وهذا لايعني أن نبحث في التقنية كتطوّر تكنولوجي بحت، وإنما أن نركّز على المعنى الأعمق الذي تبثّه في تحدياتها وتدخّلها بصياغة حقائقنا وأثرها في تبويب وجودنا.

في حوارٍ أجراه ريتشارد فيسر مع هيدغر بعنوان:«الفلسفة والمجتمع والتقنية والكائن». ترجمه الأستاذ إسماعيل المصدّق اختصر هيدغر ذلك الربط بقوله:«يجب أن أقول في البداية بأنني لست ضد التقنية...إنني أرى في التقنية، وبالضبط في ماهيتها، أن الإنسان يوجد تحت قوة تتحداه ولم يبق حراً إزاءها، وأن أمرا ما يعلن في ذلك عن ذاته، هذا الأمر هو علاقة للكون بالإنسان، وأن هذه العلاقة التي تختفي في ماهية التقنية ربما ستظهر للنور ذات يوم».

الخلاصة؛ أن هيدغر أعطى للتقنية ماهيّتها، وبالتالي فإن العمليّة الاستعمالية لمنجزها لن تمنحنا القدرة على فهم معناها. وهذا التحدّي الذي نعيشه الآن. لم تتقدّم البحوث الفلسفية بالشكل الكافي لمواكبة كل المستجدّات التكنولوجية لتجاوز معانيها الاستعماليّة إلى فهم ماهيّتها، ودرس علاقاتها بصياغة حقائقنا، وتداخلها مع وجودنا.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 سبتمبر 2025 23:45

 

الصادق النيهوم بدأ حياته في بيت قديم بسوق الحشيش في مدينة بنغازي. عندما كانت ليبيا تعاني وطأة الاستعمار الفاشي الإيطالي. انجذب مبكراً إلى قبس الكلمة. ضرب بقبضة يد يلفّها قفاز نسجه من لغة سكب فيها أفكاراً تهاجم الموروث المعتاد. ضرب على أبواب غرف عقول تمدد فيها الليبيون عقوداً طويلة من دون أن تطولها كوابيس الاقتراب من موروثات تكدَّست في الوعي واللاوعي المجتمعي. تحولت مقالاته بصحيفة «الحقيقة» التي تصدر في مدينة بنغازي، مطرقةً يُقرأ صوتها في كل أرجاء البلاد. درس من المرحلة الابتدائية إلى الجامعة على أساتذة كبار من مصر والشام، منهم ناصر الأسد، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة والأستاذ الشاعر علي محمد أحمد.

في جامعة بنغازي برزت شخصية الطالب الصادق النيهوم بلباسه الشبابي البسيط غير المعتاد، وأفكاره الجريئة في كل ما يُطرح في الأدب والفلسفة واللغة والتاريخ. نال الاهتمام والاحترام بين أساتذته وزملائه، وباشر في الكتابة الصحافية.

بعد تخرجه في كلية الآداب ببنغازي توجه إلى ألمانيا لدراسة فقه اللغة بمعهد غوته. لم يستطع الاندماج في المجتمع الألماني، فانتقل إلى جامعة القاهرة لمواصلة دراسة فقه اللغة، لكنه غادرها متوجهاً إلى اسكندنافيا واستقرَّ بها وتزوج بفتاة منها. أينما حلَّ كان قدّاحة نقاش، ومثاراً لاهتمام من اتفق معه أو اختلف. في فنلندا، بلد الثلوج والحرية والثقافة، بدأ الصادق يغوص من بعيد فيما تراكم على المجتمع الليبي من غبار موروث، وشرع في نشر مقالاته في صحيفة «الحقيقة». منحه صاحبها ورئيس تحريرها محمد بشير الهوني وشقيقه رشاد الهوني مساحة حرية شاسعة.

اقتحم النيهوم منطقة صلبة، لم يقترب منها أحد قبله في ليبيا. التدين الشعبي الذي يعبّر عنه باللهجة الليبية (الفقي)، وهو غير (الفقيه). الأول هو المدرس الذي يعلّم الصغار القرآن الكريم في الكتاتيب، ويضربهم بالفلكة، ويكتب الأحجبة للنساء، ويتعامل مع السحر والجان... إلخ، وكذلك خطباء المساجد الذين يعيدون كل جمعة ما قيل منذ قرون غبرت. اجترح لغة تمتزج فيها البساطة التعبيرية، وتقتبس من اللهجة الليبية المحكية في برقة، التي تمتاز بقفشات تجمع بين السلاسة الساخرة والتعجب. بدأت مقالاته تسطع على صفحات جريدة «الحقيقة»، وارتفع عدد قرائها وتوزيعها في كل أنحاء البلاد.

تحولت سطور مقالاته قذائفَ مدفعية تدكُّ ما كان من المحرَّم الاقتراب منه، بسلسلة مقالات بعنوان «الرمز في القرآن». قدّم الصادق النيهوم لما يمكن أن نسميه مشروعه الجريء في تفسير القرآن، الذي ركّز على دراسة الرمز في الآيات القرآنية، مستعيناً بالمراجع والقواميس العربية والأجنبية، والتفسيرات العربية المعتمدة للقرآن، التي اعتمد عليها في طرح رؤيته. بدأ النيهوم من سورة الكهف بهذه الآية: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) الكهف 25. وطرح السؤال: هل نام أصحاب الكهف ثلاثة قرون حقاً؟ أجاب بأن ليس ثمة شك أن المرء يستطيع أن يعتمد الإجابة، باعتبار أن المعجزة ظاهرة في معظم الديانات، وأن الله على كل شيء قدير، ولكن أليس ثمة طريق آخر؟ ويضيف، أنا سأفترض أن القصة بأسرها حادثة رمزية تهدف في الظاهر إلى الحديث عن بضعة من القديسين المطاردين في الجبال، وتهدف في الواقع إلى الحديث عن تاريخ المسيحية ذاتها، وهذا طريقي إلى ذلك الافتراض.

تناول في مقالاته عن الرمز في القرآن تاريخ ميلاد السيد المسيح، وتطور الديانة المسيحية عبر التاريخ. من أصحاب الكهف انتقل النيهوم إلى ذي القرنين، وطاف بين التفسيرات المختلفة التي وردت عنه. سورة الكهف وجد فيها ما يهبه فسحة يتفاعل فيها مع عنوان مشروعه، وهو «الرمز في القرآن».

ينتقل بعد ذلك إلى سورة آل عمران، ويسهب في الحديث عن السيدة مريم وطفولتها. يذهب إلى أن القرآن يروي قصة مريم في تتابع تاريخي واضح داخل النص نفسه، فيبدأ بقصة ميلادها ودخولها المعبد وكفالة زكريا لها، وتبشيرها بعيسى، وما أضافه على القصة من تأويلات.

بدأ القصف المضاد ضد ما ساقه النيهوم في رموزه. ردود عنيفة من الكتّاب والصحافيين ورجال الدين ومن الجامعة الإسلامية. أُجريت مقابلات إذاعية وصحافية معه، دافع فيها بكل ثقة وهدوء عما كتبه.

ما نقف عنده اليوم، أن الصادق النيهوم لم يُكفَّر أو يُفسَّق. ظلَّ يمشي في بنغازي وطرابلس حراً بقبقابه الخشبي، يحييه الشباب المعجبون بنجمهم، ويشارك في الملتقيات الوطنية والمغاربية. ماذا كان سيكون مصيره لو كتب ما كتب اليوم؟ أيكون مثلما لاقاه المفكر المصري فرج فودة والمفكر السوداني محمود محمد طه؟ كل ما حدث كان إيقاف صاحب «الحقيقة» محمد بشير الهوني لتلك السلسلة من المقالات.

***

عبد الرحمن شلقم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 12 ربيع الثاني 1447 هـ - 4 أكتوبر 2025 م

 

حديثنا الأساسي يدور حول النخب المثقفة في دول العالم النامي ودورها في تنمية أوطانها، وهذا يُبرز أمامنا سؤالاً محورياً حول من هي هذه النخب المثقفة؟ أو بصورة أخرى ما هو تعريف النخبة المثقفة؟ في الأدبيات العالمية المعاصرة لعلم السياسة وعلم الاجتماع يطلق تعبير النخبة المثقفة لوصف مجموعة من البشر الذين يرتبطون ببعضهم بعضاً عن طريق أعمالهم ونشاطاتهم الفكرية.

وخرج علينا الدارسون للنخبة - ومنهم كاتبكم - بمجموعة تعريفات تصب جميعها في ثلاثة أطر: يتعلق الأول باعتبار أن النخبة المثقفة هي تلك المجموعة التي يتعاون أفرادها في مجال الخلق المبدع للمُثل العُليا وقيم الحق والخير والجمال والعدالة، وحمايتها والمحافظة عليها.

أما الإطار الثاني منها، فيتعلق باعتبار أن النخبة المثقفة هي تلك المجموعة التي يضع أعضاؤها الأفكار لمواطنيهم ويقومون بتعميمها لكي تطال أكبر جماعة من البشر ويقومون بنشرها، وبابتكار الأفكار والمقولات والنظريات والأساطير المجتمعية الشعبية العامة، بالإضافة إلى قيامهم بالنقد العلمي الرصين والهادف إلى إصلاح شؤون المجتمع. ويتعلق الإطار الثالث باعتبار أن النخبة المثقفة هي تلك الفئة التي يشكل أفرادها فئة اجتماعية مميزة يمارس أفرادها دوراً محورياً في الحياة الاجتماعية من زاوية التحكم في مجالات التطور الثقافي لمجتمعاتهم ودون أن يكون لديهم بالضرورة سلطة سياسية.

وتوجد تعريفات أخرى ذات مستويات أعلى أو أدنى بما يتعلق بنطاق ودرجة الشمولية والرصانة والأهمية التي تحتويها. ويلاحظ بأن بعضاً منها تتضمن أفكاراً وطروحات لمفكرين وعلماء وذوي اختصاص يقدمون لمجتمعاتهم وللبشرية إبداعات رائعة، في حين أن جزءاً آخر منها يركز على اختلاف الوعي الاجتماعي والنظرة بين جماعات المثقفين.

تلك التعريفات تشير إلى أن النخب المثقفة تشمل أولئك الذين يبتكرون القيم الأدبية والعلماء الذين يخطون لمجتمعاتهم الاتجاهات الثقافية الخيرة في مجالات الحياة المختلفة، ويطبقون المعرفة العلمية والنظرية على القضايا العملية؛ والمفكرين الذين يقومون بتشكيل المفاهيم العامة والنظريات الاجتماعية والسياسية ونشرها أو المتخصصين في شتى العلوم الاجتماعية الذين يعملون على نشر أفكار بني البشر والتعليق عليها والإضافة لها وبنقد أعمال الآخرين الفكرية والثقافية والتعليق عليها بهدف تقويمها باتجاه الفائدة المجتمعية والإنسانية عامة، وبانتقاد مؤسسات المجتمع بغرض الإصلاح الهادف، وليس النقد من أجل النقد المجرد.

وبإلقاء نظرة ماسحة على النخب المثقفة في دول العالم النامي فسيلاحظ بأنها تحتوي على فئات مجتمعية أربع هي: موظفي الخدمة المدنية ممن يحملون درجات وظيفية عالية، وهي عادة ما يشغلها خريجو الجامعات من حملة البكالوريوس والليسانس والماجستير، ثم يأتي بعد ذلك حملة درجة الدكتوراه من أساتذة الجامعات وشاغلي الوظائف العليا كالوزراء ورؤساء المؤسسات الكبرى الحكومية.

وأخيراً يأتي أولئك الذين يشغلون المناصب القيادية في مؤسسات القطاع الخاص، كالرؤساء والمديرين العامين والتنفيذيين، ومن في مستواهم. وهؤلاء إما أن يكونوا ملاكاً للمؤسسات أو موظفين فيها. الفئات الأربع هذه تشكل جزءاً مهماً من النخبة المثقفة والفئات المتعلمة، ومن النخب المتخصصة التي تؤدي أدوراً رئيسة متميزة في المجتمع.

وما نطرحه في سلسلة هذه المقالات معتمدين على ما لدينا من مادة علمية، وما تحمله من ملاحظات وأفكار هي محاولة تهدف إلى ربط دور النخبة المثقفة بالأهداف والعناصر المحددة التي تخص مجتمعات دول العالم النامي بغرض فهم جهود عمليات التنمية والتحديث الجارية والدور والإسهامات الحالية والمستقبلية للنخب المثقفة في ذلك. وللحديث صلة

***

د. عبد الله جمعة الحاج - كاتب إماراتي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 26 سبتمبر 2025 23:30

الحديث عن الهوية لم يعد سؤالاً فلسفياً معزولاً عن رهانات الواقع، بل هو جوهر التحولات التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث تتقاطع فيه الموروثات العميقة مع رياح العولمة الثقافية والفكرية. إنّ الهوية، في جوهرها، ليست قالباً جامداً نحمله من الماضي كما هو، وليست كذلك قناعاً نرتديه وفق متطلبات السوق الثقافية العالمية، بل هي سيرورة مستمرة من إعادة التشكيل، تجمع بين الذاكرة الجمعية والانفتاح الواعي على الآخر.

فالمجتمعات الشرقية اليوم، وهي ترزح تحت ثقل تاريخ طويل من القيم الروحية والمرجعيات الدينية، تجد نفسها في مواجهة عقلانية حداثية غربية تشكّل خطاباً كونياً يدعو إلى الحرية الفردية، وإلى تحرير الفكر من القيود التقليدية. هذا التداخل بين المرجعيتين يولّد توتراً وجودياً وفكرياً: هل ننتمي لما كنّا عليه، أم لما نطمح أن نكونه؟ أم أنّ الانتماء ذاته فعل إبداعي لا يكتمل إلا بقدرتنا على الجمع بين الأصالة والمعاصرة؟

إنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في تعدد الهويات أو تنوّع مصادرها، بل في تحويل الدين أو التراث إلى أداة أيديولوجية مغلقة تُستعمل لتقييد العقل، وإخضاع الفنون والآداب والفكر لمنطق السياسة. فحين تتحوّل المرجعيات الروحية إلى وسيلة للصراع على السلطة، تنكمش الهوية إلى شعار، وتفقد بعدها الإنساني الشامل.

الهوية الحيّة، كما أراها، ليست انغلاقاً على الذات ولا ذوباناً في الآخر، بل وعيٌ نقدي يتيح لنا أن نتفاعل مع القيم الكونية للعقل والحرية والكرامة، دون أن نفقد صلتنا بعمقنا الروحي والأخلاقي. وهي في هذا المعنى ليست ثنائية «شرق/غرب»، بل مجالٌ رحب تتجاور فيه الرؤى، ويتقاطع فيه الإبداع الإنساني.

من هنا، يصبح التعدد خياراً وجودياً لا تنازلاً اضطرارياً، لأنّ الإنسان الواحد قادر على حمل أكثر من بعد، وعلى الانتماء إلى أكثر من أفق في الوقت ذاته. وفي زمن تتسارع فيه موجات العولمة، تظلّ مسؤوليتنا أن نحافظ على خصوصية هويتنا، لا بإغلاق الأبواب، بل بقدرتنا على أن نكون طرفاً فاعلاً في الحوار الحضاري، وأن نحوّل هذا الحوار من ساحة صراع إلى مجال للإثراء المتبادل.

إنّ تحرير الهوية من ثنائية الصدام أو الذوبان، وفتحها على أفق التعدد الواعي، هو السبيل لتجاوز الانقسامات الموروثة، ولتأسيس وعي إنساني قادر على مواجهة تحديات الحاضر دون أن يتنكر لجذوره. ففي النهاية، الهوية ليست مجرد بطاقة تعريف ثقافية، بل هي مشروع وجودي مفتوح، نصنعه نحن بقدر ما نصنع أنفسنا.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 30 سبتمبر 2025 23:25

 

خدمت أغراضاً مشخّصة في حقبة الحرب الباردة بخاصة

يمرُّ بي في قراءاتي اليومية المنتظمة حشدٌ من الأسماء في شتى الألوان المعرفية، ولو أردتُ الاستزادة في حقل من تلك الحقول المعرفية فلا بدّ من القراءة المعمّقة فيها. أوّلُ ما أفعله عند القراءة هو البحث في السيرة الخاصة بالكاتب. لو قرأتُ موضوعاً من غير معرفة مقبولة بكاتبه لما استساغت نفسي القراءة ولحسبتُها منقوصة وغير منتجة. المثيرُ أنني وجدتُ أنّ معظم من قرأت لهم -من علماء أو اقتصاديين أو سياسيين، إلخ- حازوا تدريباً فلسفياً -أو على الأقلّ ذائقة فلسفية رصينة- أعرف أنّها لن تكون مطواعة للمرء بغير كثير دراسة وقراءات متمرّسة. وكثيراً ما تساءلت: كيف للفلسفة التي يراها معظمنا حبّاً مجرّداً للحكمة أن تكون مطمحاً لكثيرين؟ ما سرُّها المكنون؟ كيف لهذا المنشط البشري المفترض فيه أن يتعالى عن الانشغالات العادية لمعظم البشر أن يكون جاذباً للدراسات الجامعية في عصر صارت الجامعات فيه تشكو قلّة تخصيصاتها المالية في حقل الإنسانيات عامةً وصارت منساقة لمتطلبات التقدم التقني الصارمة؟ بدا لي منذ زمن بعيد أن ثمّة قصوراً معرفياً مخفياً في فهمنا لكيفية تشغيل الماكينة الفلسفية في عصرنا. بعض أسباب هذا القصور قصديٌّ لا يُراد الكشف عنه لأنّه جزء من ألاعيب السياسة. نعم، الفلسفة ليست بنية فكرية معزولة عن السياسة والآيديولوجيا، وكثيراً ما خدمت أغراضاً مشخّصة في حقبة الحرب الباردة بخاصة.

لو استثنيْنا الجغرافيا الأميركية -بسبب خصوصية موضوعاتها ومقارباتها الفلسفية- من الخريطة الفلسفية العالمية فستكون الفلسفة متوزّعة بين اثنتيْن: الفلسفة القارية Continental Philosophy، والفلسفة التحليلية Analytic Philosophy. الفروقات بين الفلسفتيْن جليّة واضحة: الفلسفة القارية لها تقاليدها المطبوعة بمواريث الفلسفتين الألمانية والفرنسية، حيث يُسمعُ صدى الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والميتافيزيقا والتمثلات الرمزية للمعرفة واضحاً؛ في حين أنّ الفلسفة التحليلية ادّعت -أو أراد لها آباؤها المؤسّسون- أن تكون الفلسفة الحقيقية، وكلّ ما سواها زيف ووهمٌ كبير. شاعت تقاليد الفلسفة التحليلية في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما زالت مواريثها فاعلة في المشهد الفلسفي العالمي حتى اليوم.

سعى الآباء المؤسسون للفلسفة التحليلية لتكون الفلسفةَ الطاغيةَ في جامعات العالم الأنغلوساكسوني كما في فضاء الثقافة العامة تحت مسمّيات شتى: الفلسفة الوضعية المنطقية - فلسفة التحليل اللغوي... إلى جانب تأكيد هؤلاء الآباء أنّ الفلسفة التحليلية هي الفلسفة الوحيدة التي تستحقُّ أن تكون فلسفة علمية (أو داعمة للعلم ومحفّزة للتفكير العلمي)؛ فقد ادّعوا أنّ تقاليد الفلسفة التحليلية متعالية على الواقع ومجاوزة له، وذات صبغة حيادية تجاه المتغيرات السياسية والاجتماعية؛ وبالتالي فهي خالدة وأبدية على العكس من الفلسفات الأخرى التي تنشأ من النزوعات الفردية أو التأمّلات الشخصانية أو الدوافع المصطبغة بلون آيديولوجي محدّد المعالم والتوجّهات. الفلسفة فوق السياسة والآيديولوجيا ومحايدة في التعامل معهما: هكذا ادّعت الفلسفة التحليلية على لسان مؤسسيها.

كريستوف شورينغا Christoph Schuringa، بروفسور الفلسفة في جامعة نورث إيسترن في لندن، والمختصّ بالفلسفة الألمانية والدراسات الهيغلية، لا يتّفق مع رؤية الآباء المؤسسين للفلسفة التحليلية، وسعى لتفنيد رؤيتهم في كتاب حديث له نشرته دار نشر Verso عام 2025 بعنوان تاريخ اجتماعي للفلسفة التحليلية: A Social History of Analytic Philosophy.

يعلن شورينغا في مقدّمة كتابه أنّ هدفه ينطوي على فحص الكيفية التي تطوّرت بها الفلسفة التحليلية لا من الزاوية الفكرية فحسب بل من سياقاتها الاجتماعية والسياسية. بكلمات أكثر تأكيداً ووضوحاً: سعى شورينغا لبيان كيف أنّ الفلسفة -التي كثيراً ما تُقدّمُ على أنها محايدة أو «خارج التاريخ» أو «خارج السياسة» لا يمكن فهمها إلا في علاقاتها بالمؤسسات، وبالهجرة، وبالسلطة، وبالآيديولوجيا -أي في سياق الحراك الاجتماعي والفعالية السياسية، وليست تمثلاً لنزوعات فكرية خالصة.

***

كثيرةٌ هي الأفكار الجوهرية التي يسعى شورينغا لتأكيدها في كتابه هذا. منها أنّ الفلسفة التحليلية ليست غير سياسية Apolitical؛ إذ يؤكّد شورينغا أنّ الفلسفة التحليلية كانت دوماً متأثرة بالقوى الاجتماعية والسياسية حتى لو حاولت الفلسفة التحليلية أن تظهر بمظهر الاكتفاء الذاتي. مثلاً، بعد الحرب العالمية الثانية، ومع فترة صعود المكارثية في الولايات المتحدة، تراجعت الأشكال السياسية والحركات اليسارية داخل الفلسفة التحليلية بسبب الخوف من الملاحقة أو الانتقام السياسي. الفكرة التالية هي أنّ أصول الفلسفة التحليلية مختلطة ومتعددة المصادر، ونتاج حركات مختلفة، ومؤثّرات متعددة -أوربية بالتحديد- قبل أن تتوحّد في شكل تقريبي لتشكّل ما تُعرف اليوم بـ«الفلسفة التحليلية» كتيار مهيمن. هذه الحركة نحو التوحيد حصلت بعد الحرب العالمية الثانية.

الفكرة الثالثة التي يؤكّدها شورينغا هي دَوْرُ المؤسسات التعليمية والمؤسسات البحثية والدور الأكاديمي للجامعات في تعزيز وإشاعة سطوة الفلسفة التحليلية، حيث أصبح هذا التيار الفلسفي جزءاً من النخبة الأكاديمية في البلدان الناطقة بالإنجليزية (العالم الأنغلوساكسوني). هكذا صار التيار الفلسفي التحليلي لا يُطرح فقط على أنه موقف فكري بل بوصفه تشكيلاً مؤسساتياً راسخاً للقوة المعرفية. ثمّ يوردُ شورينغا فكرة أخرى هي خصيصة ملازمة للفلسفة التحليلية، وتكمن في قوة الاستمرارية والتجديد الفلسفي؛ ممّا جعل هذه الفلسفة قوية وقادرة على (إعادة اختراع نفسها). ليس بالضرورة أن يحصل هذا الأمر بإطلاق تيارات جديدة شامخة؛ بل بإعادة تأطير المشكلات، وبإدخال مناهج جديدة، أو بالانفتاح على التيارات الأخرى مع المحافظة على البنية المعرفية التأسيسية الأولى. بعد هذه الأفكار يشير شورينغا إلى فكرة أساسية مفادُها أنّ الفلسفة التحليلية خدمت كآيديولوجيا الوضع الراهن Status Quo Ideology؛ بمعنى أنّ التيار الفلسفي التحليلي يخدم -إلى حد كبير- النظام السياسي القائم من خلال طريقة تفكيره، وتركيب مؤسساته، وسلطته المعرفية؛ إذ إنه غالباً ما يميل إلى دعم الواقعيات السياسية والفكرية الليبرالية بوصفها (الافتراض الطبيعي المقبول والمفيد). هذا يعني بالضرورة استبعاد -أو على الأقلّ تهميش- التيارات السياسية النقدية أو الراديكالية كالماركسية مثلاً. تحصل المقاربة التهميشية عبر المبضع التحليلي من خلال إعادة دراسة هذه التيارات السياسية لتصبح أقلّ راديكاليةً لدى الجمهور العام. الفكرة الأخرى التي يؤكّدها شورينغا في كتابه (وقد تبدو غريبة بعض الشيء) تكمنُ في أنّ الفلسفة التحليلية، بفضل هيمنتها، تمارس دور استعمارٍ معرفي؛ أي عندما تدخلُ المناهج النقدية مثل: الغزو الاستعماري، والعدالة الاجتماعية، ونظرية العرق، والتأريخ الاستعماري، فإنها تتعرض لتأطير أو إعادة تكييف بحيث لا تهدّد الأسس الفكرية للنظام السياسي القائم.

***

بعد مقدمة مكتنزة بالمعرفة وممهّدة للكتاب، يقدّم شورينغا في الفصل الأوّل مسحاً تاريخياً لبدايات وأصول الفلسفة التحليلية؛ فيؤكّد أنّ هذه الفلسفة لم تولَد كتيار متجانس بل من جذور أوروبية متفرقة (فريغه، وراسل، وفيتغنشتاين، وتيّار الوضعية المنطقية). ثمّ حصل مع الحرب العالمية الثانية أن هاجر الكثير من الفلاسفة (وبخاصة من فيينا وألمانيا) إلى بريطانيا وأميركا؛ الأمر الذي ساعد على انتشار هذا النمط من التفكير الفلسفي. النقطة الأساسية في هذا الفصل هي أنّ الهجرة السياسية غيّرت الخريطة الفلسفية.

يتناول شورينغا في الفصل الثاني المعنون «الفلسفة والسلطة بعد الحرب» كيف أصبح التيار التحليلي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية هو المسيطر في الجامعات الأنغلوساكسونية، كما حصل ترسيخٌ لفكرة أنّ الفلسفة التحليلية «محايدة» و«علمية»؛ لكن هذه الحيادية نفسها كانت خياراً سياسياً لتجنّب الصراع الآيديولوجي وتحييد الماركسية. اختار شورينغا للفصل الثالث عنوان «المؤسسات الأكاديمية»، وأوضح فيه أنّ هيمنة الفلسفة التحليلية لم تكن مجرد تفوق فكري بل نتيجة بنية جامعية. الأفكار (الفلسفة، لا فرق) لا تعيش بغير دعم مؤسساتي راسخ وبنية أكاديمية متقدّمة. ركّزت أقسام الفلسفة في بريطانيا وأميركا على التحليل اللغوي والمنطقي، وهذا بدوره عزّز سلطة النخب الأكاديمية، وأقصى التيارات الأخرى (مثل الفلسفة القارية، والماركسية، والفلسفة النقدية). بمعنى آخر: المؤسسات كرّست «الاحتكار» الفكري للفلسفة التحليلية.

في الفصل الرابع المسمّى «الاستمرارية وإعادة الاختراع» يؤكّد شورينغا استمرارية التقاليد الفلسفية التحليلية الكلاسيكية؛ لكنّه يؤكّد في الفصل الخامس -الذي اختار له عنواناً كاشفاً (الآيديولوجيا المستترة)- أنّ الفلسفة التحليلية غالباً ما خدمت النظام الليبرالي القائم لأنها تتعامل مع مشكلات معرفية وتقنية أكثر من قضايا اجتماعية-سياسية مركّبة مثل العدالة أو السلطة، ولأنّها تعطي صورة أنّ «الموضوعية» هي الحل، مما يُضعف النقد الراديكالي للمنظومة السياسية.

أما الفصل السادس والأخير في الكتاب فقد خصّصه شورينغا لمعالجة موضوعات كثيرة تقع في نطاق الاستعمار المعرفي الذي كرّسته الفلسفة التحليلية.

***

كتاب شورينغا نمطٌ من المصنّفات الفلسفية التي أتمنّى أن تشيع بدلاً من الاكتفاء بالقراءات الكلاسيكية المعهودة التي تتناول تاريخ الفلسفة في ترتيب تحقيبي زمني أو موضوعاتي أو جغرافي. ذكّرني كتابُ شورينغا بالمقولة الشائعة بأنّ الفلسفة تحرّضُ على التفكير النقدي Critical Thinking. هذا صحيح في سياق الفكرة العامة؛ ولكن ماذا لو علّمك الفلسفة في المدرسة مدرسٌ غارق في الأصولية الآيديولوجية؟ الأمر رهنٌ بكل فرد منّا في نهاية المطاف، وهو وحده من يستطيعُ تحديد شكل القراءات التي تصنَّفُ أنّها «خارج صندوق» المشغل الفلسفي الكلاسيكي. هكذا تتضح الرؤية، وترتقي الذائقة الفلسفية ويصبح المرء جزءاً فاعلاً في الحراك الفلسفي العالمي.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط للندنية، يوم: 24 سبتمبر 2025 م ـ 02 ربيع الثاني 1447 هـ

المسافة الفكرية بيننا وبين أوروبا 200 سنة على الأقل

تشكل الرومنطيقية إحدى الحركات الكبرى في تاريخ الآداب الفرنسية. ولكنها، على عكس ما نظن، ليست حركة أدبية أو شعرية فقط. وإنما هي حركة فلسفية ضخمة رافقت كل الثورات السياسية الكبرى أو ما يدعى بربيع الشعوب الأوروبية. وقد ازدهرت الحركة الرومنطيقية وبلغت أوجها على أيدي كتاب كبار، ليس أقلهم شاتوبريان، أو فيكتور هيغو، أو جيرار دو نيرفال، أو ألفريد دوموسيه، أو لامارتين، أو سواهم... وعندما نقرأهم نجد الفكرة الأساسية التالية التي تهمنا نحن المثقفين العرب أيضاً: وهي أنها تربط بين اندلاع الحركة الرومنطيقية شعرياً وأدبياً واندلاع الثورة الفلسفية التنويرية الكبرى: أي ثورة الأزمنة الحديثة التي تحترم حقوق الإنسان وكرامته وتجلها وتقدسها أياً يكن. فهذه الثورة الكبرى أو القطيعة الكبرى قسمت تاريخ أوروبا إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. ولكن بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي عاش بينهما شهد كثيراً من التمزقات النفسية والانهيارات الداخلية والتذبذبات. إنه جيل العبور الصعب والاحتراق النفسي بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذه هي سمة العصر العربي المشتعل حالياً. مَن يستطيع أن ينكر ذلك؟ نعم، نحن جميعاً رومانطيقيون أو فجائعيون بشكل من الأشكال. نحن جميعاً منكوبون ومتمزقون في مجتمعات منكوبة ومتمزقة ومتذبذبة بين بين. ولن تستقر وتهدأ قبل وقت طويل. هذه صيرورة طويلة ومعقدة تتجاوزنا جميعاً. ومعلوم أن هذه التمزقات والانهيارات النفسية التي يشهدها المثقف العربي حالياً هي التي كان مثقفو أوروبا قد شهدوها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الفرنسية وفيما بعدها. بل واحترقوا بحر نارها. يقول شاتوبريان معبّراً عن هذه النقطة بكل وضوح:

(لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين، كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين. وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدتُ، وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة، والذي لن أراه بأم عيني).

وهذا تصوير من أجمل ما يكون لعملية النقلة أو القطيعة التي تمزقنا نحن الآن. نحن أيضاً لن نرى الشاطئ الآخر. لن نصل إليه مهما حاولنا. لا يزال بعيداً. سوف تصل إليه الأجيال المقبلة، فهنيئاً لها. ينبغي العلم بأن شاتوبريان وُلِد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الفرنسية الكبرى، ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة (1768 - 1848). وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي وُلِد فيه ونشأ وترعرع في أحضانه. وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي في معظمه. هذا في حين أن العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، تكنولوجيّاً، فلسفياً مضاداً للدين المسيحي عموماً، أو قل للأصولية المسيحية لكي نكون أكثر دقة؛ فالحداثة لم تكن ضد الدين في المطلق، وإنما ضد التصور الانغلاقي التكفيري القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلاً جديداً منعشاً جداً للدين المسيحي. وهو الذي أنقذ أوروبا من براثن العصور الوسطى والحروب الأهلية والمجازر. نقصد بذلك التأويل المستنير المتسامح المضاد للتأويل الأصولي القديم. ولكن ذلك لم يتم دون مخاضات عسيرة وصراعات هائجة بين الحزب الكاثوليكي الراسخ والحزب العلماني الصاعد. لقد شغل هذا الصراع المحتدم الضاري القرن التاسع عشر كله، بل وحتى منتصف القرن العشرين. وهذا الصراع أو المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن في العالم العربي حالياً. وبالتالي فالمسافة الفكرية بيننا وبين أوروبا هي 200 سنة على الأقل. ما عاشوه وعانوه قبل مائتي سنة نعيشه نحن الآن ونعانيه. لذلك قلت وأقول إن الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي. بينهما يوجد تفاوت تاريخي كبير. وينبغي أن نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حالياً. هذا لا يعني أننا سنقلدهم في كل شيء. أبداً. أبداً. فانحرافات الحداثة المادية الإلحادية وانزلاقاتها التي حصلت مؤخراً نحن في غنى عنها. ولا يمكن أن نقبل بها. وبالتالي فهذه القطيعة الكبرى التي نحلم بها لن تكون مع الدين ذاته ولا مع التراث العربي الإسلامي العظيم المفعم بالقيم الأخلاقية والروحية والإنسانية. وإنما ستكون فقط مع المفهوم الظلامي والتكفيري والإبادي للأصولية الدينية والفصائل المتطرفة.

لكن لنعد إلى الصعيد الأدبي والشعري المحض. في الواقع، فإن الحركة الرومنطيقية الفرنسية يمكن حصرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبالتحديد بين عامي 1800 - 1869. بهذا المعنى، فإن بودلير نفسه ينتمي إلى الحركة الرومنطيقية بالمعنى النبيل للكلمة، أو قل إنه يضع رجلاً هنا ورجلاً هناك: أي رجلاً في الحداثة ورجلاً فيما قبل الحداثة. وهذا يعني أن بودلير كان آخر الرومنطيقيين وأول الحداثيين. والأمر ذاته ينطبق على جيرار دو نيرفال الذي سبقه بسنوات قليلة. لقد أغلق بودلير المرحلة الرومنطيقية في الشعر، ودشن المرحلة الحداثية، دون أن يعني ذلك أن الرومنطيقية ليست حداثة؛ فالواقع أنها تمثل الحداثة الأولى والكبرى إذا جاز التعبير، بعدئذ سوف تجيء الحداثة الثانية التي لا نزال نعيش فيها حتى الآن. ولكن الحداثة الشعرية لم تكن شعرية فقط، وإنما فكرية أيضاً. لم تكن فقط كسراً للأوزان والقوافي، وإنما كسراً لكل الأفكار والحساسيات التقليدية المصاحبة لهما. كانت تنطوي على مضمون فلسفي عميق. ولهذا السبب كرهها التراثيون في العالم الفرنسي والعالم العربي على حد سواء وشنوا عليها الحملات الشعواء. بل واعتبروها وكأنها بمثابة انتهاك للمقدسات. ذلك لأنها كانت ثورة الشكل والمضمون في آن معاً. لقد كانت ثورة الحرية والانفجار الغاضب بعد طول احتقان. لقد كانت تحريراً هائلاً للطاقات المكبوتة. لقد أدَّت الحداثة إلى تحطيم الأشكال الكلاسيكية وانهيار القديم. بهذا المعنى، فالانهيارات شيء إيجابي جداً وخلاق ضمن حركة التاريخ. ولكن رافق كل ذلك نوع من الهلع والجزع أمام العالم الجديد الذي ينفتح أمام الشاعر على مصراعيه. لنستمع إلى أحد كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين، ألفريد دوموسيه، يتحدث عن تلك الفترة، عن تلك القطيعة المرة:

«واأسفاه! لقد انتهت أصولية الدين المسيحي الراسخة بعد الثورة الفرنسية. انتهى كل شيء كنا قد تربينا عليه طيلة قرون وقرون. ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من غياهب المجهول. وأما شمس المستقبل فلم تبزغ بعد. يا له من ظلام حالك يطبق على وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد سوف نكون قد متنا...».

وأما جيرار دو نيرفال فيعبر عن الفكرة ذاتها، قائلاً ما معناه: «لقد أصبح الإيمان الأصولي القديم مستحيلاً في هذا العصر. ونحن الذين وُلدنا في أيام الثورات الكبرى والأعاصير، حيث انهارت جميع العقائد التراثية الراسخة يصعب علينا أن نجد إيماناً جديداً... من هنا قلقنا ورعبنا. من هنا هلعنا».

بمعنى آخر: نحن جيل القطيعة الكبرى، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت والولادة في آن معاً. ولكننا واأسفاه سوف نشهد موت العالم القديم حتى النخاع، دون أن يتاح لنا أن نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد... هذا هو قدرنا ومصيرنا... نحن جيل التضحية وكبش الفداء. والعالم الجديد لن ينهض إلا على أنقاضنا. لا أعرف لماذا تذكرني هذه الفكرة بتلك الابيات الرائعة لخليل حاوي:

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديدْ

أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ

هل تنبَّأ خليل حاوي بتلك القطيعة الكبرى التي ستفرض نفسها علينا يوماً ما، شئنا أم أبينا؟ أقصد القطيعة بين القدامة والحداثة، أو بين الأصولية وما بعد الأصولية؟ هل أرهص بها؟ ولكن كل الشعر العربي الحديث أرهص بها. لماذا هاجت عليه الهوائج؟ وهي قطيعة إجبارية محتومة إذا ما أردنا الانتقال من عصر بن لادن وكهوف تورا بورا إلى عصر الهواء الطلق والحداثة والحرية؟ على أي حال، يبدو أن الشاعر اللبناني أحس بخطورة المسألة ورعبها، وربما لهذا السبب انتحر. مجرد افتراض لا أكثر.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 28 سبتمبر 2025 م ـ 06 ربيع الثاني 1447 هـ

كل شيء متوافر وكل شيء مفقود

عندنا كليات للطب في كل الجامعات تقريباً، فيها جميع التخصصات وعلى رغم كل ذلك فإننا لا نملك منظومة صحية في صحة جيدة (أ ف ب)

ملخص

عندنا أحزاب سياسية كثيرة، الوطنية والإسلامية والعمالية والاشتراكية، أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة، أحزاب بمقار ورؤساء أو أمناء عامين وبصفحات على الـ "فيسبوك"، لا يوجد فيها سوى صورة رئيس الحزب والعلم الوطني، لا نسمع خطاباتها العالية النبرة إلا في مواعد الانتخابات المحلية أو التشريعية، تصرخ لبضعة أيام، تنتهي الوليمة، ثم تعود لبياتها الشتوي في انتظار انتخابات مقبلة، نملك كل هذه الأحزاب والتي يفوق عددها عدد أحزاب كتاب الله، ولا نملك حياة سياسية معافاة وجادة.

هناك خطأ كبير يشبه كرة الثلج يكبر كلما تكور وتكور، يكبر أمامنا وفينا جميعاً، ونحن نتفرج.

شيء غريب يحدث في بلدنا الجميل: كل شيء متوافر وكل شيء مفقود، عندنا وزارة للصحة، وعندنا أطباء وطبيبات بالآلاف المؤلفة، أطباء عامون ومتخصصون، ولدينا مئات المستشفيات الجامعية الكبرى الجديدة منها والقديمة، وآلاف المستشفيات العامة، وآلاف العيادات متعددة الخدمات التابعة للقطاع العام، ومثلها أكثر تلك التابعة للقطاع الخاص: عيادات التوليد، وعيادات جراحة الأسنان، وعيادات الأمراض الداخلية، وعيادات أمراض الحساسية، وعيادات جراحة العظام، وعيادات جراحة العيون، وهلم جرا.

وعندنا كليات للطب في كل الجامعات تقريباً، فيها جميع التخصصات، وعندنا صيدليات مزروعة في كل ركن شارع، ومصانع للأدوية وأخرى لمكملات الأغذية، ومخابر للتحاليل الطبية المجهزة بأحدث الآلات التي تشتغل بالذكاء الاصطناعي، وعلى رغم وجود كل هذه الترسانة من المؤسسات ومن الكفاءات العلمية، وعلى رغم ما تقدمه الدولة سنوياً من موازنات ضخمة لتسييرها وتجهيزها وتجديدها باستمرار، على رغم كل ذلك فإننا لا نملك منظومة صحية في صحة جيدة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا كتّاب، شعراء وروائيون ونقاد وقصاصون يكتبون باللغات الثلاثة أو الأربعة، العربية والأمازيغية والفرنسية والدارجة، وعندنا سينمائيون حصدوا جوائز عالمية في مهرجانات مرجعية، وعندنا مسرحيون من القامات التي يخلدها التاريخ، وعندنا فنانون تشكيليون لوحاتهم محفوظة في أكبر متاحف العالم، من اليابان إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعندنا مراكز ثقافية في كل بلدية، ومراكز الشباب، ومكتبات للمطالعة العمومية ومكتبات البلدية ومسارح وقاعات للسنيما وأروقة للفنون التشكيلية، ومع ذلك لا نملك حياة ثقافية صحيحة متواصلة ومتجددة وجادة.

ما السبب ومن المتسبب؟

يحدث هذا منذ الاستقلال: عندنا أراض فلاحية واسعة بتربة خصبة ونادرة وتربة متوسطة وأخرى تتطلب التطبيب، أراض تكفي لتغطية حاجات القارة الأفريقية، وعندنا ماء ينزل من السماء بكمية معتبرة، وعندنا ماء ينام في باطن الأرض بحجم البحر، وعندنا سدود وحواجز مائية كثيرة، وعندنا مصانع لتحلية ماء البحر، وعندنا مهندسون فلاحيون بالآلاف في كل التخصصات، وعندنا وزارة للفلاحة بموازنة سنوية تفوق موازنة العامة لكثير من الدول المجاورة، وتمنح الدولة للفلاحين البذور والزرع والأسمدة مجاناً، وتخصهم بالقروض التي لا تتردد في مسحها، وتسهل لهم شراء الآلات الزراعية المطلوبة، وعلى رغم كل ذلك لا نملك فلاحة بمقاييس عالمية، ومع ذلك فنحن غير قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي في الخبز والحليب والذرة والبطاطا والثوم والبصل.

ما السبب ومن المتسبب؟

يا سبحان الله، عندنا جبال مبهرة وصحارى مدهشة وبحر بشاطئ طويل يفوق 1400 كيلومتر، وثلج على سلسلة جبال الشريعة وجرجرة والأوراس، ورمل كالتبر وغابات رز وواحات نخل وحقول لوز ومتحف مفتوح بآثار تعود لآلاف السنين، مساحته أكبر من مساحة كثير من الدول الأوروبية، ونملك تاريخاً عريقاً بمعالم عمرانية دينية ومدنية مميزة، وعلى رغم كل هذا الذي وهبتنا الطبيعة فإننا لا نملك سياحة قادرة على أن تكون قطباً اقتصادياً مؤثراً ومركزياً.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا حواضر عريقة، أو ما بقي منها واقفاً شاهداً، وعندنا مدن كثيرة ومتنوعة، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بحسب تصنيف الوزارة الوصية، عندنا مدن كولونيالية جميلة مدهشة شيدت بسواعد الجزائريين استعادوها من الاستعمار يوم الاستقلال وهي حقهم، أو ما بقي منها، وعندنا في كل مدينة قصبة عتيقة أو ما بقي منها، عندنا شوارع بأعمدة إضاءة عمومية تضيء مصابيحها أو لا تضيء، وأرصفة تصغر وتكبر وتختفي كما يرغب البقال وصاحب الخضراوات والمقهى والنجار وبائع الأثاث وبائع الساعات المهربة وبائع العطور المغشوشة، ومصلّح الهواتف المحمولة وبائع الأدوات المدرسية وبائع أعلام النوادي الرياضية، أرصفة تحفر على مدى العام، يعاد حفرها بين عشية وضحاها، شركة الكهرباء تحفر ثم تردم نصف الردم ولا تسفلت، ثم تجيء شركة الماء فتحفر ثم تردم ربع الردم وتضع قليلاً من القطران السائل الذي يذهب في نعال الخلق، ثم شركة الاتصالات الهاتفية تحفر من أجل مد حبال الألياف البصرية ثم تردم وتنسى جزء كبيراً خلف العمارات وفي الحديقة العمومية وفي موقف السيارات، ثم تأتي شركة لحفر قنوات الصرف الصحي تحفر هي الأخرى بدورها ولا تردم، لأن العقد الموقع معها لا يتضمن التكفل بعملية الردم، الجميع يحفر ويردم ويترك شيئاً غير كامل، والبلدية هي الأخرى تحفر لتستبدل بلاط الرصيف كل عام قبل غلق السنة المالية، والناس الجالسون في المقهى يثرثرون على الرصيف الذي استولى عليه صاحب المقهى، ينتقدون الحكومة ويسبون الوالي ويشربون القهوة ويتكلمون في هواتفهم ويتفرجون على الفيديوهات السخيفة والنكت البذيئة، وبهذا تبدو مدننا الكثيرة الكبيرة والصغيرة والمتوسطة شبيهة بهيكل عظمي لحيوان خرافي، نعم عندنا مدن ولكننا لا نملك سلوكاً مدنياً، عندنا مدن بلا ثقافة المدينة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا مدارس وثانويات بالآلاف، في المدن والقرى والمداشر، مدارس عمومية وخاصة، وعندنا أطفال جميلون وشباب مليء بالطاقة والذكاء، شأنهم شأن الأطفال والشباب في العالم، 14 مليون تلميذ رقم رهيب، يذهبون كل صباح إلى مؤسساتهم التربوية، يجد كل واحد من الـ 14 مليون مقعداً ومعلماً وكتاباً مدرسياً ووسيلة نقل، خصصت الدولة موازنة لوزارة التربية تفوق موازنة كثير من الموازنات العامة لدول في الجوار، وعلى رغم كل هذا الجهاز المادي والتأطير البشري فإننا لا نملك منظومة تربوية سليمة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا جامعات ومدارس عليا في كل مدينة وحتى في بعض القرى، نبتت كالفطر، وهذا شيء إيجابي جداً ما في ذلك شك، وعندنا آلاف مخابر البحث ومراكز البحث ومجلات البحث المحكمة، إلا أننا لا نملك فكراً جامعياً، لا نملك حياة جامعية، الجامعة تحولت إلى ما يشبه المدرسة أو حضانة للكبار والجميع فيها منشغل بالتوظيف وبالراتب.

ما السبب ومن المتسبب؟

نعم يا سيدي، عندنا مساجد تعد بالآلاف، والحمد لله، عددها بحسب وزارة الشؤون الدينية والأوقاف يقارب الـ 20 ألف مسجد، من دون حساب المساجد التي بنيت من دون رخص والمساجد الفوضوية وقاعات الصلاة في كل المؤسسات وفي المطارات، كل هذا العدد الهائل من بيوت الله يشرف عليه ويأطره مئات آلاف الأئمة والمرشدين والمؤذنين والخطباء، والذين لهم نقابة تدافع عن حقوقهم الدنيوية قبل حقوقهم السماوية، وقد سبقوا الفنانين والكتّاب في تأسيس نقابتهم، وعلى رغم هذا العدد الهائل من بيوت الله وهذه الصلوات التي تقام فيها خمس مرات في اليوم، على رغم كل ذلك فإننا لا نملك أخلاقاً.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا أحزاب سياسية كثيرة، الوطنية والإسلامية والعمالية والاشتراكية، أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة، أحزاب بمقار ورؤساء أو أمناء عامين وبصفحات على الـ "فيسبوك" لا يوجد فيها سوى صورة رئيس الحزب والعلم الوطني، لا نسمع خطاباتها العالية النبرة إلا في مواعد الانتخابات المحلية أو التشريعية، تصرخ لبضعة أيام، تنتهي الوليمة ثم تعود لبياتها الشتوي في انتظار انتخابات مقبلة، نملك كل هذه الأحزاب والتي يفوق عددها عدد أحزاب كتاب الله، ولا نملك حياة سياسية معافاة وجادة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا بنوك بأسماء مختلفة لكنها متشابهة، البنك الوطني والبنك الخارجي وبنك الفلاحة وبنك التنمية وبنك التوفير وبنك البركة وبنك البريد وغيرها، فيها أكياس متراكمة من الأوراق النقدية بالعملة الأجنبية وبالعملة الوطنية، وفيها موظفون وموظفات، ومديرون ومديرات، برواتب عالية وبربطات عنق، وعلى رغم كل هذا لا نملك ثقافة المال الذكي.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا قنوات تلفزيونية كثيرة خاصة وعامة، متشابهة كالتوائم أو كقطط الحمل الواحد لا فرق بين هذه وتلك، وعندنا صحافيون يحسنون العربية ومذيعات محجبات وأخريات طبيعيات وبرامج للطبخ والرياضة والمآسي والرقية والجن، عندنا كل هذا ولا نملك منظومة إعلامية جادة قادرة على تشكيل وعي نقدي جمعي.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا لغات كثيرة نتعلمها ونقرأ بها، نكتب بها ونعيش بها، الفرنسية والعربية الفصيحة والدارجة والأمازيغية بتنوعها القبائلي والميزابي والشاوي والتارقي، ونطمح إلى تعليم هذا الشعب الإنجليزية، لغة شكسبير نكاية في لغة موليير، ولنا كتّاب بهذه اللغات جميعها، كتّاب مشهورون في الغرب والشرق وآخرون أقل شهرة، ولكننا لا نملك تنوعاً فكرياً، الكل يفكر كالكل، الجميع يشبه الجميع.

ما السبب ومن المتسبب؟

السبب أننا أعطينا الأولوية لبناء الحجر قبل أن التفكير في بناء البشر.

***

أمين الزاوي كاتب ومفكر

عن موقع اندبندنت عربية، يوم: الخميس 25 سبتمبر 2025 0:10

ليس النص القرآني خطاباً من الإنسان إلى ذاته، ولا لغة ثقافية نتجت عن سياقها، ولا أثراً موقّتاً في زمنٍ عابر، بل هو تنزُّل من علٍ، يفيض من الغيب على التاريخ، لا ليذوب فيه، بل ليمنحه معناه. ومِن هنا، فإنّ كل محاولة لقراءة القرآن بوصفه «منتَجاً ثقافياً» هي، في عمقها، قراءة تنطلق من مركزية الإنسان لا مركزية الوحي، ومِن هيمنة التاريخ لا من سلطان الغيب.. فتؤول – ولو عن غير قصد – إلى نفيٍ صامت لقداسته!

إنّ أعظم ما يميّز النصَّ القرآني أنه مفارِق للتاريخ من حيث مصدره، ومتصِل بالتاريخ من حيث مخاطبته للإنسان. وهذه المفارقة هي ما يغفلها دعاة القراءة «التاريخية»، حين يجعلون من النص الإلهي مجرّدَ بنية لغوية ثقافية، تنتمي إلى القرن السابع الميلادي، وتعبّر عن تصوراته وقضاياه. بيد أنّ الوحيَ، كما يقدمه القرآنُ نفسُه، ليس ناتجاً عن الزمن، بل هو فاعل فيه، نازعٌ لأوهام العادة، ومنبِّهٌ للضمير، وصادعٌ بكلمة الحق، لا تابع لمزاج اللغة أو عرف الجماعة.

لقد نزل القرآن الكريم بالعربية، لكن اللسان لم يصنعه، بل اصطفاه الله له، كما قال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (الزخرف: 3). فالقرآن نزل بالعربية لا ليُختزل فيها، بل ليُعلِّمها، ويُهذّب بنيتَها، ويملأها بمدد الغيب. ومَن ظنّ أن اللغةَ تَحكم النصَّ، إنما يجعل مِن القالب سيداً على الجوهر، ومِن الوعاء مُنشئاً للماء، وهذا انقلاب في سلّم الفهم وفي منطق التدبر.

ثم إنّ القولَ بتاريخية النص لا يقف عند حدود اللغة، بل يمتد ليطالَ الدلالةَ. والحقُّ أن النصَّ الذي وصف نفسَه بأنه «كتابٌ مبين» و«نورٌ من الله» لا يمكن أن تكون دلالاتُه منقطعةً بانقطاع السياق الذي نزل فيه، وإلا انتفى وصف البيان. فكيف يكون بياناً لمن بعده إن كان لا يتجاوز زمنَ نزوله؟ إنّ مَن يتحدث عن «نهاية صلاحية الدلالة» إنما يُختزل الوحيَ في حدود الظرف، في حين أن الآيات قد بيّنت أنَّ في النص متجدداً لا ينفد: «وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (لقمان: 27).

إن الأزمةَ ليست في ثبات النص، بل في اضطراب القراءة، ولا في قدسيته، بل في تفريط العقول المعاصرة التي استبدلت خشيةَ الوحي بسلطة التأويل، ونصاعةَ البيان القرآني بتعقيد أدوات التفكيك الفلسفي. يقال إن القول بقداسة النص يفضي إلى تعطيل العقل، لكن الحقيقةَ أن مَن يؤمن بقدسية النص لا يقتل عقلَه، بل يطهّره من الادعاء، ويُعيده إلى موقعه كوسيط في الفهم لا كخالق للمعنى. إن منطق الغيب، لا منطق التاريخ، هو الذي يؤسس لسلطان الوحي. والقرآن لم يأتِ ليواكبَ التحولات الثقافية، بل ليعيد توجيهَها نحو غايات التزكية والتوحيد والعدل. والآيات التي نزلت في لحظات تاريخية مخصوصة لم تُربط بها ربطاً قطعياً، بل فُتح باب التدبر والتأويل على اتساعه، دون أن يُلغى البعد الثابت أو تُمحى القيم المطلقة.

أما مَن يجعل النصَّ مجردَ «منتَج ثقافي»، فقد وقع في إسقاط معرفي خطير، إذ جعل مِن الإنسان «مشرِّعاً على الله»، ومِن النص رهينةً لشرط النزول. وهذا قلبٌ لحقيقة الرسالة التي ما فتئت تذكِّر بأن الله هو الفاعل الأعلى، وأن الإنسانَ هو المتلقِّي المُكلَّف.

إن النص القرآني، في جوهره، تنزُّل لا تَأثّر، وبيانٌ لا وثيقةٌ، وهدايةٌ لا مادةُ تحليل.. ومَن يقرأه بوصفه منتَجاً تاريخياً قد يَفهم بعضَ وقائعه، لكنه يفقد روحَه، أما مَن يُنصت إليه كما أُنزِل، فلا يقف على معانيه فحسب، بل يُنصَف بها، ويُستنار بها، ويُطهَّر بها.

ولذلك، فإن تحرير القول في القرآن لا يكون بفصله عن السماء، بل عبر تأكيد ارتباطه بها. ومَن لم يَفهم هذه العلاقةَ، لن يفهم مِن القرآن إلا صوتَه، دون نوره.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 سبتمبر 2025

منذ بداياتها الحديثة في القرن الثامن عشر، ظلّت الرواية تُقرأ وتُكتب تحت لافتة الفن، بوصفها الجنس الأدبي الأكثر قدرةً على استيعاب الشخصيات والأحداث والأزمنة والفضاءات. وقد منحت القارئ متعة التخييل وفرصة التأمل في الحياة من خلال منظار خيالي، وجعلته يشارك في تجربة فنية تستدعي الحواس والخيال معاً. غير أن التاريخ الأدبي يكشف أنّ الرواية، في كثير من محطاتها، لم تكن تكتفي بمهمتها الجمالية، بل أدّت أدواراً تجاوزت الفن البحت، لتدخل في قلب النقاشات السياسية والاجتماعية، سواء كان ذلك تصريحاً أو إيحاءً ضمنياً. ومن هنا برزت الفكرة التي ألمح إليها عددٌ من الروائيين في تجاربهم، الرواية يمكن أن تكون أداة من أدوات الحوار الفكري، وأنها قد تسهم في تشكيل الوعي الجمعي بقدر ما تقدم متعة جمالية.

الرواية، في هذا المنظور، تتحوّل إلى منبر طويل المدى، يختلف عن الخطبة السريعة أو المنشور قصير العمر. فهي نص يمتلك أدوات الإقناع، حبكة متماسكة تمسك بالانتباه، وشخصيات تنمو وتثير التعاطف أو النفور، ولغة تجمع بين الإيحاء الفني والحِجاج الفكري. وحين يُوظَّف هذا البناء لخدمة قضية عامة أو للتعبير عن رؤية تجاه مجتمع أو سلطة، فإن أثره يكون أعمق من أي خطاب مباشر، لأن الرواية لا تخاطب العقل وحده، بل تنفذ إلى الوجدان، وتستثير الخيال، وتخلق تجربة شعورية تجعل القارئ يعيش الفكرة قبل أن يقتنع بها.

أمثلة ذلك عديدة؛ فهناك الرواية السياسية الصريحة التي تحوّل أحداثها وشخصياتها إلى مرآة مباشرة لواقع قائم، مثل روايات جورج أورويل: «1984» و«مزرعة الحيوان»، أو رواية آرثر كوسلر: «ظلمة عند الظهيرة» التي قدّمت نقداً داخلياً للنظام السوفياتي من خلال تصوير المحاكمات السياسية. هذه الأعمال لم تُكتب لمجرد إبراز براعة أسلوبية أو ابتكار شكلي، بل جاءت من شعور عميق بضرورة التدخل في النقاش العام وتحذير القراء من مسارات قد تقود إلى الاستبداد.

غير أن الدور السياسي للرواية لا يقتصر على الأعمال المباشرة، بل قد يظهر بصورة ضمنية أكثر عمقاً. فديستويفسكي، مثلاً، لم يكتب رواياته ليصدر بيانات سياسية، لكنه من خلال شخصياته الممزقة وأسئلته الوجودية الكبرى عن الحرية والسلطة والعدالة، فتح للقارئ مجالاً رحباً لتأمل هذه القضايا. وكذلك فعل نجيب محفوظ، الذي وثّق تحولات مصر السياسية والاجتماعية على مدى عقود، وجعل القارئ يعيش تفاصيلها من الداخل عبر شخصياته التي تمثل طبقات وشرائح المجتمع. في مثل هذه الأعمال، السياسة لا تظهر شعاراً، بل خلفية خفية توجه الأحداث وتشكل المصائر.

في المقابل، هناك اتجاه أدبي عُرف بـ«الفن للفن»، يرى أن القيمة الجمالية للرواية تكمن في استقلالها عن أي غرض خارجي، وأن إخضاع الفن لغايات سياسية يهبط به إلى مستوى الدعاية. لكن هذا الموقف يتجاهل أن كل عمل أدبي مرتبط، بشكل أو بآخر، بسياقه الزمني والمكاني. فالكاتب حين يختار موضوعاً أو شخصية أو أسلوباً لغوياً، فإنه يكشف عن رؤية للعالم، وهذه الرؤية قد تحمل أثراً سياسياً حتى لو لم يُصرَّح به. الرواية إذن ليست خطاباً محايداً بالكامل، لأنها تعكس قيماً وأفكاراً ووجهات نظر تسهم في تشكيل وعي القارئ.

حتى الروائي الذي لا ينتمي إلى حزب أو تيار سياسي، لا يعزل نصه عادة عن قضايا عصره، بل يتعامل مع الرواية باعتبارها وسيلةً لاستكشاف القيم والأفكار. فهي ساحة لاختبار المواقف والرؤى، قادرة على خوض معارك فكرية بأسلوب فني بعيد عن الخطابة المباشرة. القارئ حين يدخل عالَم رواية جيّدة لا يشعر أنه يتلقى تعليمات، بل يتعاطف مع شخصيات ويعيش أحداثاً، لكنه بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة قد يكتشف أن نظرته لقضية اجتماعية أو تاريخية تغيّرت بعمق.

التاريخ الأدبي يقدّم شواهد كثيرة على هذا التأثير. من كوخ العم توم لهارييت ستو، الذي ساهم في إذكاء الجدل حول العبودية في أميركا، إلى روايات أميركا اللاتينية التي وثّقت أجواء الديكتاتوريات وكشفت آليات القمع. وفي السياق العربي، نجد أن بعض الروايات عالجت تحولات المجتمع وظروف الاستعمار وما تلاها من تحديات بناء الدولة، مقدّمةً بذلك شهادةً فنيةً على مرحلة تاريخية فارقة. في كل هذه النماذج، لم يُلغَ الفن لصالح السياسة، بل منحت السياسة نفسها عمقاً وقوة عبر الفن.

إن القول إن الرواية ليست للفن وحده لا يعني اختزالها في السياسة، بل الاعتراف بأنها تحمل طاقة مزدوجة، جمالية تغذّي الخيال والحس الإنساني، وفكرية قادرة على المساهمة في تشكيل الوعي العام. والكاتب الذي يدرك هذه الازدواجية قادر على أن يقدم عملاً يعيش طويلاً في ذاكرة القراء، يجمع بين البهاء الفني والرسالة الفكرية.

وفي زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه وسائل الاتصال، تبقى الرواية، رغم بطء قراءتها، مساحة نادرة للتأمل العميق، ولرؤية السياسة من منظور البشر العاديين الذين يعيشون آثارها. هي فن أولاً، لكنها أيضاً أفق للتفكير، يسهم في ترسيخ الفهم والتوازن داخل المجتمع. ومن هنا تأتي أهميتها؛ فهي لا تهدف إلى إشعال الصراع أو الدعوة إلى التغيير الجذري، بل إلى تعزيز الوعي، وتوفير لغة مشتركة لفهم القضايا الكبرى، بما يجعلها رافداً من روافد الاستقرار والنضج الثقافي.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 22 سبتمبر 2025 م ـ 30 ربيع الأول 1447 هـ

 

في مقال بصحيفة «دي تاغس تايتونغ» الألمانية (26 أغسطس 2025)، تذهب الفيلسوفة النمساوية ايسولد شريم إلى أن الدول التي وضعت أسسَ النظام القانوني الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، تعمل راهناً على التحلل من هذه المرجعية المعيارية التي كرست قيمَ السلم والعدالة بين الأمم في الحقبة المعاصرة. في السابق، كانت مفاهيم والتزامات القانون الدولي تُرفع في وجه الأنظمة التسلطية الاستبدادية في الشرق والجنوب، واليوم أصبحت الأممُ الديمقراطيةُ الليبراليةُ هي التي تتنكر لهذه المعايير والمفاهيم، إلى حد التساؤل المشروع عن جدوائية هيئة الأمم المتحدة التي هي الحصن الحاضن لمنظومة القانون الدولي.

لقد انهار كلياً حلمُ «الأسرة الدولية»، أي فكرة تحالف الأمم الحرة، والتي جسدت مقاربةَ كانط الشهيرة حول «السلم الأزلي»، القائمة على بناء نسق فيدرالي عالمي يمنع الحربَ والعدوانَ والعنفَ بين الشعوب والدول.

وبطبيعة الحال، لم يَدع كانط إلى حكومة عالمية واحدة، بل اقترح حالةً قانونيةً تتناسب مع التعددية السياسية القائمة على المستوى الدولي، مِن منظور التضامن الإنساني الكوني. وبعبارة أخرى، فقد اعتبر كانط، على غرار جل فلاسفة الأنوار، أن شرطَ السلم بين البشر هو توطيد مثال الكونية الإنسانية، بدلاً من الهويات الانتمائية الخصوصية المغلقة التي تقود إلى التناحر والعنف.

والكونيةُ، كما تَصورها كانط وفلاسفة عصره، ترتكز على العقلانية والحوارية، وتستعيد مثال الكوسمبولوتية (أي العالمية) من حيث هي التعبير عن الرابطة الإنسانية المشتركة.

وما نلمسه اليوم على نطاق الحركية السياسية في الغرب هو الصدام بين نزعة قومية سيادية جلية لدى التيارات الشعبوية الصاعدة، ونزعة كوسمبولوتية (إنسانية كونية) تعود في مرجعيتها البعيدة إلى سياق التنوير والعقلانية الحديثة.

 في كتابها «أنا والآخر.. كيف تغيرنا جميعاً الحالةُ التعددية الجديدة؟»، تقف شاريم عند مظاهر التنوع في المجتمعات الحالية، من هجرات كثيفة وإعادة تشكل الهويات الثقافية والإثنية، مبيِّنةً أن تفتت الأنساق الشمولية وتجزؤ البُنيات الاجتماعية إلى حدود قصوى غير مسبوقة، وانفجار الكليات الانتمائية، كلُّ هذا يفرض العودةَ إلى الكوسمبولوتية الكانطية شرطاً أوحدَ لحل معضلة تنافر وتصادم المجتمعات البشرية. والكوسمبولوتية تَفترض الانفتاحَ والاعترافَ المتبادلَ، وأفقُها هو الكونيةُ المشتركة، في حين تؤدي النزعة القومية الهوياتية إلى الانغلاق والتعصب والإقصاء. ولا شك في أن المكسب الأخلاقي الأكبر للدول الليبرالية الحديثة هو صياغتُها مدونةَ حقوق الإنسان وما يرتبط بها من معايير القانون الدولي، وهي إذ تتنكر لها اليوم تفتح الطريقَ أمام عودة العنف الهمجي للمعمورة.

 وفي ضوء ملاحظات شاريم، يمكن أن نشير إلى مفارقة جلية تتجلى في تشبث بلدان الجنوب الشامل، التي توصف أصلا بغياب الديمقراطية وبانتهاك حقوق الإنسان، بقيم ومعايير القانون الدولي في دفاعها عن حقوقها ومصالحها على المستوى الدولي، في الوقت الذي ترى فيه القوى الليبراليةُ الكبرى في هذه القيم والمعايير عبئاً يقيد سياساتِها وقراراتِها في الساحة العالمية.

 وفي السابق، كانت شعوب الجنوب، بما فيها العالم العربي والإسلامي، تتحفظ على الأدوات القانونية الكونية من منظور الخصوصية الثقافية والاعتبارات السيادية، واليوم تَتهم الدولَ الليبراليةَ الغربيةَ بازدواجية المعايير، وتُطالبها بالوفاء بالتزاماتها في الملفات التي تتعارض فيها مصالحُها مع المرجعية الأخلاقية والقانونية الكونية.

 ومع الفظائع التي جرت أخيراً في غزة، قرأنا على نطاق واسع لبعض الأقلام المشهورة حول «خرافة» القانون الدولي، وضرورة القطيعة الكلية مع «الكونية الغربية»، بيد أن هذه النزعةَ العدمية تقوم على مفارقةٍ إشكاليةٍ وهي اختزال القيم الإنسانية الكونية في «مصدرها» الغربي، مع تبرير الخروج عليها بانتهاك «واضعيها»، بدلا من النظر إليها كتراث بشري مشترك، هو السلاح الوحيد المتاح لنا من أجل الدفاع عن قضايانا العادلة.

 وفي الوقت الذي انحاز فيه بعضُ السياسيين العرب خلال الحرب العالمية الثانية لألمانيا النازية، احتجاجاً على السياسات الاستعمارية البريطانية والفرنسية، ظهرت وجاهةُ المواقف التي اعتمدها بعض قادة الحركات التحررية في وقوفهم مع الحلفاء ضد الجنون الهتلري، كما هو شأن الملك المغربي محمد الخامس والزعيم التونسي الحبيب بورقيبة. كان بورقيبة يقول: «سأحرر تونس بفكر التنوير الفرنسي، لكي أبيّن للمستعمر أنه ينتهك أفكارَ الثورة التي حررت فرنسا نفسَها».

ما نخلص إليه هو أن المصلحة العربية تقتضي اليوم الدفاع عن فكرة الكونية الإنسانية، في تجسيدها القانوني والمؤسسي العالمي، رغم مظاهر انتهاكها وحالات التنكر المتزايد لها في الغرب الليبرالي. في هذا السياق، لا بد أن ندرك أن هذه الفكرة ليست إطاراً إجرائياً قابلا للقياس والضبط، بل فكرة مرجعية ومنظور قيمي توجيهي، وعندما نطالب بالتحلل منها نسقط في فخ الأيديولوجيات العدوانية الإقصائية التي هي الخطر الحقيقي الذي يهدد مصالحنا وحقوقنا المشروعة.

***

د. السيد ولد أباه

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 سبتمبر 2025 23:45

ترجع كلمة الحيرة إلى «حار البصر» إذا لم يهتد إلى سبيله، وحار المرء وتحيّر فهو حيران، بمعنى متردد ومضطرب ومرتبك، لا يدري وجه الصواب. ولم يخل القرآن الكريم من الإشارة إلى مفهوم الحيرة، بهذا المعنى، كما نلفى في الآية الواحدة والسبعين من سورة الأنعام، دلالة على «التبلّد في الأمر والتردّد فيه» كما يقول الأصفهاني في مفرداته، لكن رغم ما يوحي به هذا المعنى من دلالات قد تظهر في بادئ الرأي أنّها قدْحية، فإن مفهوم الحيرة في الثّقافة الفلسفية والصّوفية يظهر من المفاهيم الإيجابية الدّالة على انفتاح باب الحقائق، كما نجد في قول القائل «من حار وصل»، فطريق الحقيقة يمر بسبيل الحيرة ليس غير.

اشتهر الصّوفية بمدح الحيرة، فالحيرةُ عند ابن عربي هي «عينُ العلم»، وذلك عند اجتماع الأضداد، فتصبح الحيرةُ عند أهل العرفان غاية ومقصداً من المعرفة النّقلية والعقلية على السّواء، ولعلّ هذا المذهب يرى ضرورة بقاء العقل مُنْدَهِشاً والقلبَ مشُوقاً، في نجْوة عن التّقليد المُحْبط، والعقلانية الصارمة، وفصل القول الشّرعي. فنحن أمام عقل مُنْفتح وقلْبٍ طُلَعة إلى آفاق معرفة لا تتّسع لها حدود، فللحيرة ها هنا حركة دائرية يترجمها دعاء شهير للصّوفية: «اللهم زدني فيك تحيراً»، إذ كلما زاد العلم زادت الحيرة وتضاعفت. ولا يقول المرء هذَراً إذا زعم أن لا محرك للمعرفة إلا هذا الدّافع القوي، فالحَيْرةُ المتجدّدة مِهْمازُ كلّ ممارسة علمية جادّة.

يتأكَّد هذا عند مطالعة الحيرة عند الفلاسفة، حيث نلفاها منهجاً قبلياً للمعرفة، ذلك ما يمكن أن نفهمه من مذهب سقراط وأفلاطون وأرسطو في الدّهشة، ومن مذهب الغَزالي في أنّ الشّكوك موصلة إلى اليقين، وأن الذي لا يبدأ رحلته العلمية بحيرة الشّك لا يستطيع أن يمارس التفكير ليبصر الحقيقة، وهو نفس الشّعار المنهجي الذي رفعه أبو الفلسفة الحديثة روني ديكارت عندما اعتبر التّحرر من الأفكار المسبقة الطّريق الملكي إلى الحقيقة العلمية، ولا حياة خلال هذه الفترة إلا حياة حيرة ينفتح فيها العقل على الاحتمالات المختلفة قبل أن يجد طريقه إلى نفي الحيرة باليقين، وقد نفاها ديكارت بأفكار فطرية أشرق بها الحَدْسُ في عقله، كما نفاها الغزالي من قبله بنور قويّ قذفه الله في فلبه.

لكن قبل ذلك كانت الحيرة مالكة بزمام الفيلسوفين، ضدّاً على من جعل الحيرة مذهباً فلسفياً مثل صنيع الفيلسوف الفرنسي «مونتين»، الذي جعل الشكَّ تلك الوسادة التي لا تنام عليها، بزعمه، إلاّ الرؤوس المنظّمة.

يعلمنا مفهوم الحيرة أن طريق الفلسفة هو طريق المفارقات، وأنه لا يمكن إدراك حقيقة المفاهيم إلا بالنّفاذ إلى عمقها وتلمس ما يكتنفها من أضداد، عندها فقط نستطيع الإمساك بالمفهوم وفهم أبعاده بعيداً عن الفهوم السّطحية التي تقف عند الوِشاح الظّاهري للمفهوم فيحول دونَهُ ومعرفة حقيقة المفهوم وذَوْق حقيقته.

فالحيرة مأزق، والحلول التي تأتي بعد الاستبصار في المأزق، وتقليب وجوه النظر فيه، لا يمكن إلا أن تكون حلولاً ناجعة في الحقّ والجدوى، ولنا في الحيرة التي أحدثتها أزمة الأعداد الصماء عند فيثاغورس، والتي كانت السبب الأول لظهور الفكر الفلسفي، والحيرة التي أحدثها السفسطائيون والتي كانت سبباً في ظهور سقراط، الفيلسوف الأول، أجلى مثال على خصب الحيرة وثراء نتائجها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 سبتمبر 2025 23:45

 

يبدو النقاش حول مفهوم الحداثة وإشكاليات تبيئته خارج الغرب في حال تصاعد، وتزداد حدّة السجال مع كل هزةٍ أو تغيّر جذري صادم. بعض المفاهيم تكبر مع المجتمعات، ولكنها لا تشيخ رغم مرور الوقت، بل تعبّر باستمرار عن صلاحيتها للفهم والتطبيق، ولدينا في مفهوم «الحداثة» أكبر مثال على هذه الحالة. لقد تحدّى هذا المفهومُ كلَّ الهجمات التي نالتْه منذ «الحداثة البعدية» إلى الصرعات التقنية والتكنولوجية، وليس انتهاءً بتفجّر المفاهيم الانعزالية والانكفائية، كما جسدتها طروحتا «نهاية التاريخ» و«صراع الحضارات».

بمعنى أنه على الرغم من كل الخضّات التي حدثت، فقد بقيَّ مفهوم الحداثة على حيويته وقاوم كل عاتيات الرياح وجميع عوادي الزمن. وكما نعلم، فقد اعتبر البعضُ أن الحداثةَ ليست إلا مجرّدَ حقبة تاريخية، وبالتالي فمآلها إلى الزوال، كما يعبر عن ذلك الفيلسوفُ الإيطالي جاني فاتيمو في كتابه «نهاية الحداثة»، والذي درَس فيه العلاقةَ التي تربط بين نتائج كلٌ من الفيلسوفين فريدرك نيتشه ومارتن هيدغر، واعتبر نتائجهما مرجعاً ثابتاً لأطروحته، باعتبارها من الخطابات المؤسسة لفكرة نهاية العصر الحديث، ولحقبة ما بعد الحداثة.

وبصرف النظر عن ذلك القول الفلسفي، يمكن أن نتّجه نحو علاقتنا نحن المسلمين بالحداثة نفسها، لنرى هل بالفعل فشل العالمُ الإسلامي في التحديث وفي كسب رهاناته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كما يناقش المستشرق برنارد لويس في كتابه «الإسلام وأزمة العصر»؟! لويس، بعد رصده لإحصائياتٍ وأرقامٍ مرعبة حول البطالة واليأس والتطرف في العالم الإسلامي، قال بالنص: «ما لا يثير الدهشة أن يتحدّث كثير من المسلمين عن إخفاق التحديث، وأن يقابلوا الاختلافَ في تشخيص أمراض مجتمعاتهم بوصفاتٍ متباينة لعلاجها.

والإجابة بالنسبة للبعض هي بالمزيد من التحديث والقيام به على نحوٍ أفضل، بحيث يتوافق الشرق الأوسط مع العالم الحديث والعالم الآخذ بالتحديث. وبالنسبة للبعض الآخر فإن الحداثة نفسها هي المشكلة ومصدر كل بلاء». والحقيقة أن المشكلة مركبّة بين المفهوم ومستقبِليه، وهذا ما انتبه إليه المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه في كتابه «الدين في الديمقراطية»، إذ لم يطل الوصف، بل اختصر التاريخ السجالي بين العالم الإسلامي والحداثة مستشهداً بمقولة صموئيل هانتنغتون: «المسلمون يسعون إلى أسلمة الحداثة، بدلاً من السعي إلى تحديث الإسلام».

وفي الواقع، فإن هذه المقولة فيها تصعيد وتعميم على العالم الإسلامي، وذلك لسببين اثنين: الأول: أن من حاول أسلمة الحداثة أو اعترض عليها وشوّه معناها، وقطع طريقها.. هي جماعات أيديولوجية متطرفة اختطفت الوعيَ العام للمسلمين وملأتْه بأفكارٍ وخيالاتٍ عن مصائر التحديث وأثره الكارثي على الدين والأخلاق، وبالتالي فإن المسلمين العاديين هم رهائن لدى تلك الجماعات التي هيمنت على العديد من دول العالم الإسلامي ومجتمعاته.

ثانياً: وعلى الرغم من إشارة برنارد لويس حول أنماط تحديث بسيطة في العالم الإسلامي، فالواقع أنه تجاهل أنماطَ الحداثة المتوازنة في آسيا وفي دول الخليج، كونها كلها نماذج حداثة متوازنة وناجحة، وهذا يدلّ بوضوح على أن المسلم المعتدل ليست لديه إشكالية دينية مع الحداثة، إذ نجد أنه استوعبها وطبّقها على النحو الذي نعيشه اليوم. والخلاصة، أن مفهوم الحداثة يكبر ويتطوّر مع المجتمعات.. صحيح أنه تعرّض لزلازل وانتقادات نظرية كبرى، غير أنه بقي المفهومَ الأكثر راهنيةً وحيويّةً بالنسبة للمجتمعات البشرية حتى الآن.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 سبتمبر 2025 23:45

تعليقاً على موجة الاحتجاج العارم التي اجتاحت الشارع الفرنسي يوم 10 سبتمبر، قال رئيس الحكومة الأسبق الان جوبيه، إن ديمقراطية التمثيل الانتخابي غدت عاجزةً في الغرب الليبرالي عن ضمان حالة الثقة والاستقرار التي تقتضيها السلطة السياسية الفاعلة. وليست الحالة خاصة بفرنسا التي عُين فيها خلال ثلاث سنوات خمسة رؤساء وزراء، بل نلمسها في عموم الديمقراطيات الغربية التي عادةً ما تتحول فيها اللحظة الانتخابية إلى أزمة سياسية حادة، وتتزايد فيها الحركاتُ الاحتجاجية العنيفة التي لم يعد بالإمكان احتواؤها داخل النسيج المؤسسي القائم.

 ومن مظاهر هذا التحول الجذري انهيار الطبقة السياسية التقليدية، والعزوف عن الأحزاب والتنظيمات النقابية والمدنية، وصعود الزعامات الشعبوية، وتنامي حركات التطرف الراديكالي.

قبل سنوات كتب بيار روزنفالون عن هذه الظاهرة في كتابه «الديمقراطية المضادة»، مبيناً أن المجتمعات الليبرالية الغربية انتقلت من «ديمقراطية الثقة» إلى «ديمقراطية التمرد» التي تأخذ شكل رقابة واسعة على النظم السياسية والمؤسسية، بما يتجلى في أنماط جديدة من سياسة المواطنة، من بينها اليقظة المستمرة إزاء النشاط العمومي عبر فعاليات التنظيمات الحقوقية والأهلية، والحركة الاحتجاجية في الشارع، والتقويم الدائم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي واستطلاعات الرأي والتعليقات الظرفية.

 وبالنسبة لروزنفالون، لا بد من مراجعة أدوات ومفاهيم الشرعية من أجل التلاؤم مع هذا الوضع الجديد، الذي لم تعد فيه زمنية الحراك الانتخابي قادرة على ضبط إيقاع العمل السياسي، ولم تعد فيه الأحزاب والقنوات التداولية التقليدية كفيلة بتأطير النقاش العمومي الذي هو جوهر الممارسة الديمقراطية.

بيد أن المعادلة الجديدة تطرح تحدياً نوعياً على الفكرة الديمقراطية نفسها التي ظهرت حلا نهائياً لمأزق الشرعية السياسية في مجتمعات تسمها الفردية التعددية. فإذا كان من شأن الفردية الذاتية، التي هي الخلفية المعيارية للحالة الليبرالية والمضمون الحقيقي لمثال الحرية، أن تعزز الشعورَ بالاستقلالية إزاء السلط العمومية مهما كانت طبيعتها، فإن دوائر الاندماج الاجتماعي التي عوضت بها الدولةُ القومية الحديثة الانتماءات العضوية السابقة تحفظ الحدَّ المطلوب من الاستقرار الداخلي الذي تتطلبه الحركيةُ السياسية التداولية.

تلك هي مفارقة «الترابطية التنافرية» التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني كانط، واعتبر أنها الحافز للتقدم الإنساني في العصور الحديثة، ولا يمكن أن تتجسد إلا في أنساق قانونية ملزِمة تضمن العيشَ المشترك.

ولا شك في أن خصوصية المنطق الديمقراطي تكمن في أنه يعترف في آن واحد بأسبقية الحرية الذاتية على النظام الاجتماعي القائم، في الوقت الذي يضمن الولاء لدولة سيادية شاملة السلطة ويمنحها الشرعية المطلقة. ومن هنا التأليف المعقّد بين التصادمية الدائمة التي هي شرط التنافسية الديمقراطية (دون السقوط في فخ الفتنة والصراع الأهلي) والتضامن المدني على خلفية الاختيار الحر والبناء المؤسسي المستقر.

ما تعيشه المجتمعاتُ الليبرالية من أزمة داخلية خانقة حالياً ناتجٌ عن انهيار التوازنات المؤسسية والتنظيمية التي ضمنت لمدةِ عقودٍ معادلةَ الاستقرار السياسي وشرعية الحكم.

هذا التحول يفسَّر بعاملين أساسيين هما: شعورُ قطاع واسع من القاعدة الشعبية بأن مركز القرار لم يعد بيد الكتلة الانتخابية والسلطة السيادية، بل تتحكم فيه الدوائر التكنوقراطية والمالية المعولمة، مما أفقد الماكينةَ الديمقراطية نجاعتَها ودلالتها، وطغيان ما دعاه رجيس دوبريه «الآنية الاتصالية» بما تعنيه من هاجس الشفافية والمباشَرة إلى حد التشكيك الكامل في صدقية الخطاب السياسي ومواقف النخب الحاكمة، بما يُفقد الممارسةَ السياسيةَ ذاتها معناها وجدوائيتَها.

ما هو مستقبل الديمقراطية الليبرالية في هذا السياق الذي أشرنا إلى بعض محدداته؟ وهل أصبح التمرد بديلا عن الثقة في آلية الفعل السياسي في المجتمعات الغربية؟

لا ننفك نسمع عدة تصريحات لكبار السياسيين الغربيين، من رئيس الحكومة الإيطالي الأسبق ماتيو رنزي إلى الرئيس الفرنسي ماكرون، تحذِّر من كون البلدان الديمقراطية لم تعد قابلة للحكم، نتيجةً لخروج الشارع عن نطاق السيطرة والطاعة.

 وأمام هذا المأزق المعقد، هل يكون الحل هو الانتقال إلى نمط جديد من الديمقراطية يراجع نظمَها المؤسسية التمثيلية والتداولية والتشاركية وصولا إلى تصور جديد للشرعية السياسية (أطروحة وزنفالون)، أم أن الحل يمكن في الخروج من ديمقراطية التمثيل والانتخاب، التي غدت عاجزة عن ضبط رهانات التعددية الحرة في المجتمعات المعاصرة (أطروحة آلان باديو)؟

لا شك في أن هذا هو الإشكال الجوهري الذي سيحدد مستقبلاً صيغَ وآليات العمل السياسي في البلدان الليبرالية الغربية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 سبتمبر 2025 23:33

في مقالة أخيرة بعنوان «القديم والجديد»، يتساءل الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن: لماذا يتمكن الإنسان دوماً من وصف وتحليل الماضي دون أن يتمكن من تخيل الجديد؟ أغامبن يجيب عن هذا الإشكال المعقد بالقول: إن ضبط الجديد الحالي يتم حتماً من خلال الرجوع للماضي وإعادة تأويله. فالراهن هو في عمقه بقية باقية من الزمن المنقضي، أي ما لم يتم إنجازه أو ما نُسي أو ما ينتظر التفعيل والتحيين.لقد قامت الحداثة على وهم القطيعة مع الماضي، في حين أن ما نعتقد أنه معاصر ليس سوى ظل من الحقبة الفائتة، باعتبار أن الماضي هو مخزون إمكانيات الفعل غير المتحقق وليس المستقبل في ذاته هو صانع الجديد بل إن الذاكرة هي المحددة والحاسمة في ضبط وتوجيه الزمنية الحالية.

في هذا السياق، يستعيد أغامبن فكرةَ «الولادة الجديدة» لدى الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت التي تعني امتدادَ التقليد في الزمنية الطويلة، دون أن يكون عائقاً أمام التجديد والتحول. كما يستعيد أطروحةَ الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حول استقلالية النص إزاء شروط تشكله التاريخي، بما يسمح بالنظر إليه بعيون جديدة تمكّن من تحويله إلى نص معاصر جديد.

ما يخلص إليه أغامبن في مقالته المذكورة هو أن المعنى الوحيد للجديد هو الممكن (فالمستحيل ممتنع التحقق)، وإذا أصبح قائماً بالفعل تآكل وانقضى. ومن هنا فإن الأساس في رصد الحالي هو الماضي وليس المستقبل، أي ما جاز أن يكون ولو لم يتحقق، وبالتالي فالإنسان لا يبصر الجديدَ إلا بالانطلاق من ماضيه.

لا شك في أن أطروحة أغامبن مفيدة لنا في إعادة بناء سؤال التراث الذي سيطر على الفكر العربي منذ سبعينيات القرن الماضي. لقد برز هذا السؤال في الأدبيات التاريخانية المتأثرة بالمنهج الجدلي الماركسي، انطلاقاً من مفهومين أساسيين هما: مفهوم التقدم التاريخي الذي يعني النزعة الخطية الغائية المؤسسة لقوانين التطور الاجتماعي الكوني، والنظرة البنيوية المزدوجة للفكر بصفته انعكاساً للصراع الطبقي المجتمعي، بحيث يكون بنيةً فوقيةً تفسر بالرهانات المادية الإنتاجية التي هي البنية التحتية المحددة والمؤثرة. ووفق هذا التصور، فالتراث جزء من الماضي التاريخي المندثر، وليس له سوى قيمة معرفية محضة لا صلة لها بالواقع الراهن.

 ومع أن المدرسة التراثية العربية انتقلت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين إلى الانفتاح على المناهج الابستمولوجية والتأويلية الجديدة، إلا أنها حافظت على جوهر المقاربة الاختزالية للتقليد بتوظيفها مقولةَ «القطيعة الابستمولوجية» التي بلورها أصلاً الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في تاريخ العلوم وفي ضبط ارتباط المعرفة الموضوعية المخبرية بالتجربة العامة المباشرة، فأصبحت تَعني في نظريات نقد العقل العربي الاختلاف الجوهري بين الأنظمة المعرفية والأنساق الدلالية.

 ورغم هذا التصورات الانفصالية القطائعية، إلا أن المفكرين العرب المشتغلين بالمسألة التراثية خاضوا صراعات الحاضر على أرضية الماضي، فاحتفى حسين مروة وطيب تزيني بالنزعات «المادية» في الثقافة العربية الوسيطة، ودافع الجابري عن «عقلانية» ابن رشد ومنهجه «الأكسيومي»، ونوه أركون بالنزعة الإنسانية العربية القديمة.

ما تعبر عنه هذه المفارقة، أي رفض الماضي مع الرجوع الانتقائي إليه، هو الخلل المنهجي الكبير في مقاربة سؤال التقليد، بالنظر إلى الماضي كأفق منقض ومندثر، بدلاً من تصوره في دائرة الترابط التأويلي بين الذاكرة والتطلع التي هي محور القراءة الثرية للسردية الفكرية.

في أعمال جورجيو أغامبن نفسه حول التاريخ السياسي والقانوني الغربي، نجد تطبيقاً حصيفاً لهذه الجدلية التأويلية، مبيناً أن المفاهيم المؤسِّسة للحداثة الأوروبية، من مقولات السيادة والتمثيل والضبط والرقابة.. إلخ، ترجع في جذورها البعيدة لخلفيات لاهوتية وعرفية وقيمية قديمة، وإن تمت إعادة توظيفها وتأويلها في استراتيجيات ومواقف معاصرة.

لا نجد لدى مؤرخي السياسة والفكر في عالمنا العربي نماذج من هذا القبيل، بل إن أغلب من اشتغل بالمسألة التراثية يتأرجح بين وهم التماهي مع الأصل المنقضي الذي لا يمكن استكشافه في أفقه المرجعي الأول، ووهم القطيعة مع الجذور الثقافية في دلالتيها التاريخية والابستمولوجية (المعرفية).

في كتاباته التأويلية حول العهدين القديم والجديد، يعترف بول ريكور بأنه يقرأ النصوصَ المقدسةَ بعين الحاضر غير مستنسخ الموروث القديم، مردداً: إن المؤوِّل لا يمكنه التملص من تهمة «الخيانة»، لكن الفرق كبير بين الخيانة الضحلة العقيمة والخيانة الثرية التي تغني النص وتوسع إمكاناته الدلالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 سبتمبر 2025 23:30

 

أسترجع اليوم مسامرة شتوية في أحد مساءات ميشيغان عام 2009... دار حوار مع الصديق العزيز رائد الدحيلب، الذي كان وقتها مُبْتَعَثاً من «أرامكو» لإكمال درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية، وكان تركيزه البحثي على تقنية النانو. في تلك المسامرة، سألني صديقي: «لماذا تُحصَر أحاديث المثقفين في مجالاتكم (أي السياسة والاجتماع والأدب والتاريخ)، وتُغفَل المعارف الأخرى ذات الطابع العلمي التطبيقي كالرياضات والهندسة والطب؟».

أتذكر تعليقي الذي قلتُ فيه: تخيّل معي يا صديقي أنك في مجلس عامر، وصادفتَ شخصاً لا يفرق بين الإلكترون والنيترون يفتي في تقنية النانو بجهل فاقع، ولكن بلغة فصيحة؛ وعندما تحاول أن تبين المعلومة العلمية الصحيحة، فإن المجلس يَحْتَوِشُكَ مؤيداً لجهله على علمك؟

جاء الرد: «سأشعر بالغبن، وسأحار في الحضور: كيف يقدّمون كلام العامي على المختص في شأن لا يعرفون عنه الكثير؟».

هنا قلت: هذا بالضبط ما يحدث للمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية كل يوم، فاحمد الله أنكم معاشر المختصين في العلوم الطبيعية لا تواجهون ما نواجه.

أسترجع هذه القصة كلما رأيت شخصاً يبدي تقليلاً من أهمية دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ويصفها بأنه معلومات عامة يمكن لأي شخص أن يستوعبها دون أن ينفق سنوات من عمره في دراستها أكاديمياً. وغالباً ما تكون الحجة أن تلك الإنسانيات والاجتماعيات تتعامل مع مفاهيم مجردة، مثل الثقافة والسلوك الإنساني والعدالة الاجتماعية، يصعب تحديدها بشكل دقيق؛ مما يجعلها - في نظرهم - أقل علمية من «الطبيعية» التي تعتمد على التجارب المخبرية والأرقام. ويضيف أصحاب تلك النظرة أن هذه الحقول المعرفية تقوم على التحليل والتفسير، وتختلف النتائج باختلاف الباحثين؛ مما يجعلها تبدو أقل موضوعية مقارنة بالعلوم الطبيعية التي تعطي نتائج ثابتة يصعب تأويلها.

تلك الحجج تعكس ضعف إلمام أصحابها بحقيقة البحث العلمي. فالباحث يتعامل مع موضوعات وعيّنات بحثه بما يتناسب معها، ولا توجد قاعدة واحدة للتعامل مع جميع العيّنات. ومع تسليمنا بارتفاع مستوى دقة البحث والنتائج في مجال العلوم الطبيعية، فإننا يجب ألا نُغفل السبب وأنه يتعامل مع عيّنات غير مدرِكة أنها خاضعة للدراسة، فالجمادات والكائنات الحية غير البشرية لا تدرِك أنها موضع دراسة، وبالتالي لا تغيّر سلوكها أو حالتها عندما تشاهد الباحث يجري بحثه عليها. في المقابل، فإن البشر - حتى الأطفال الصغار - يدركون أنهم تحت الملاحظة، فيحاولون تعديل سلوكهم ليظهروا بمظهر أفضل.

تلك واحدة فقط من المشكلات التي تواجه الباحث في المجالات الاجتماعية، والتي تحتم عليه أن يستعمل مناهج بحثية قابلة للقياس، وتأخذ في الحسبان ارتفاع «هامش الخطأ» في النتائج، مقارنة بالعلوم الطبيعية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأبحاث الإنسانية والاجتماعية تقوم على تحليل النصوص المكتوبة للتوصل إلى نتائج تجيب عن الأسئلة البحثية. وكما نعلم، فالتعامل مع المنتج البشري يحتاج إلى أداة تحليل تتعلق بالـ«كيف» قبل الـ«كَمّ». ورغم ذلك، فإن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الإحصاءات وتحاول تفسيرها للخروج بنتائج تخدم صنّاع القرار.

على مستوى الأحاديث اليومية، يعتقد البعض أنهم لا يحتاجون إلى دراسة السلوك البشري، والتاريخ، والسياسة، والدين، واللغة؛ لأنها معارف بديهية، والتعمّق في دراستها ترفٌ لا يقدم ولا يؤخر في المحصّلة النهائية. وهذه المغالطة أشد من سابقتها، فالموضوع (الدين، أو السياسة، أو المشكلات الاجتماعية) متاح للجميع للحديث فيه؛ بسبب إدراك الناس علاقتَهم المباشرة بتلك الموضوعات، على عكس مستوى إدراكهم علاقتَهم بعمليات التمثيل الضوئي النباتي، أو حركة الإلكترونات في الذرة، أو حتى عملية نقل الصورة في كاميرات هواتفهم.

وإتاحة الموضوع لا تعني أن المتحدث خبير ليعطي نتائج وآراء حاسمة بكفاءة المختص. ولنستذكر فترة جائحة «كورونا» عندما أصبح كثيرون خبراء في التعامل مع الأعراض الصحية التي عصفت بالعالم، وكيف أدلوا بدلائهم في أمور لا يفقهون فيها.

خلاصة القول: إن الشأن العام - المتعلق بالعلوم الطبيعية أو الاجتماعية - متاح للجميع، ولكن الرأي العلمي الموثوق يؤخذ ممن تمرّسوا في المجال وأثبتوا جدارتهم. وإذا كان من حقنا أن نساوي بين شخص متابعٍ نشرات الأخبار عقوداً، وأكاديمي مختص في العلوم السياسية، بداعي أن الأحداث مُشاهَدة من الجميع، فإننا يجب ألا نستكثر على مَن عاش زمناً وجرب أدوية عدة للصداع أن يفتي لنا في أورام المخ.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 11 ربيع الأول 1447 هـ - 3 سبتمبر 2025 م

 

الهوية ليست كياناً صلباً يسكن أعماقَ الفرد أو الجماعة، بل خطاب يُعاد إنتاجه باستمرار وفق شروط المجتمع والسياق. هكذا أراد جان فرنسوا بايار أن يفكك أوهامَها في كتابه «أوهام الهوية». غير أن النقاش حول الهوية لا ينبغي أن يبقى حبيس النصوص الأكاديمية أو مساجلات الفلاسفة، بل هو سؤال حيّ يطرق أبواب واقعنا اليومي، ويعيد صياغةَ علاقتنا بذواتنا وبالعالم.

الهوية ليست معطى طبيعياً يُورَّث كما تورَّث الجينات، بل هي مشروع تاريخي وثقافي، يُبنى ويتحوّل، ينهار ويُعاد تركيبه. ما نعتقد أنه «أصل» ليس سوى سردية منتقاة، وما نتصوره «حقيقة دفينة» ليس إلا رواية تُخاطب حاجاتنا الراهنة، لتمنحنا وهم الثبات وسط سيولة الواقع. حين تتأزم المجتمعات، تتصاعد الأصوات المطالبة بالعودة إلى «الهوية الحقيقية»، في محاولة لتعويض القلق الجماعي عبر شعارات الانتماء. كلما ازداد الخوف من ضياع المكانة أو المعنى، زادت الحاجة إلى روايات تمنح اليقينَ، حتى ولو كانت وهميةً.

وهنا تكتسب مقولة بايار قوتَها: الهوية تُستدعى حين تكون مهددة، ويُحتفى بها حين تضعف.. إنها ملاذ نفسي بقدر ما هي أداة اجتماعية، ويمكن أن تتحول من رابطة وجدانية إلى وسيلة إقصاء وتمييز، من وعد بالانتماء إلى سلاح للفصل. المؤسسات، بدورها، تلعب دوراً محورياً في ترسيخ الشعور بالانتماء وتعزيز التصورات الجماعية عن الذات. فالمدرسة، مثلاً، تُدرّس سرديات وطنية مشتركة، ووسائل الإعلام تكرس صوراً عن «النحن» و«الآخر»، والقوانين تنظّم صفة المواطنة والانتماء. هنا لا يكون الأمر نقداً بقدر ما هو توصيف لوظيفة ضرورية، تجعل الهوية إطاراً جامعاً وحاملاً لمعنى العيش المشترك، بُغية ضمان استمرارية الجماعة الوطنية.

في زمن العولمة، كان يمكن أن نتوقع تراجعَ الحاجة إلى الهوية، بما أن الحدود الاقتصادية والثقافية تتلاشى، لكن الذي حدث هو العكس. كلما اتسع العالم بالاتصال والانفتاح، ضاقت المخيلة بالانغلاق على الهويات. وكأن العولمة، بما تثيره من قلق وضياع، تدفع الأفرادَ والجماعات إلى التمسك بما يبدو «أصيلاً»، ولو كان مجرد وهم. لذلك فإن الخطابات القومية والدينية والإثنية عادت بقوة، لا رغم العولمة، بل بسببها. وكأننا أمام مفارقة وجودية: كلما انفتحت الجغرافيا، اشتدت الحاجة إلى حدود رمزية تعيد للأفراد شعورَ السيطرة والمعنى.

وهنا تكمن خطورة ما يسميه بايار «وهم الهوية». فالهوية حين تتحول إلى سلعة أو شعار سياسي، تفقد تعدديتها، وتُختزل في رموز جاهزة تُباع في السوق وتُستعمل في الدعاية. الخطر ليس في الانتماء ذاته، بل في تحويله إلى شعار مغلق، يمنع التفكير في التعقيد، ويعطل إمكان التعايش. ما يدعو إليه بايار ليس نفي الهوية، بل تحريرها من وهم الأصالة المطلقة، وردّها إلى طبيعتها: عملية مفتوحة، مجال تفاوض دائم، فضاء للعيش المشترك لا جدار للعزلة. هذا التفكيك الفلسفي يقودنا إلى تساؤل أعمق: لماذا نحتاج إلى أوهام الهوية أصلاً؟

لعل الإجابة أن الإنسان لا يحتمل الفراغ، وأنه يسعى دوماً إلى يقين يمنحه الطمأنينة، حتى لو كان يقيناً مصنوعاً. لكن الطمأنينة التي تُبنى على الوهم لا تُعمر طويلاً، سرعان ما تنهار أمام صدمات الواقع. لذا فالتحدي ليس في الدفاع عن هوية بعينها، بل في الدفاع عن القدرة على التفكير في الهوية كمسار، كاحتمال، كقابلية للتجدد، بدلاً من تحويلها إلى وثن جديد.

إن ما يطرحه بايار يضعنا أمام مسؤولية مضاعفة في عالمنا العربي، حيث كثيراً ما يتم استدعاء الهوية لتبرير الانقسام، أو لإقصاء المختلف، أو لتثبيت سردية أحادية. المطلوب ليس التخلي عن الانتماء، بل استعادته في أفق مفتوح، حيث تُصبح الهوية جسراً للحوار، لا خندقاً للحروب الرمزية.

التفكيك الفلسفي لوهم الهوية ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة وجودية لمجتمعات تبحث عن معنى خارج ثنائيات قاتلة بين «الأصيل» و«الدخيل»، بين «النحن» و«الآخر». بهذا المعنى، فإن ما يقدمه بايار ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير النقدي في ما نظنه يقيناً. أن نتعلم كيف نرى الهويةَ لا كقدر محتوم، بل كفضاء للحرية، حيث يمكننا أن نعيد تعريف أنفسنا بلا خوف من الضياع، وبلا حاجة إلى التمسك بأوهام النقاء. فالهويات لا تحمينا بقدر ما تكشف هشاشتَنا، ولا تمنحنا اليقين بقدر ما تفضح قلقَنا. لكن ربما في هذه الهشاشة يكمن سر إنسانيتنا، وفي هذا القلق ينفتح أفقُنا نحو الآخر، ونحو ذات أكثر رحابة وانفتاحاً.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 سبتمبر 2025 23:45

 

في كتابهما الحواري الصادر مؤخراً باللغة الإنجليزية تحت عنوان «المساواة.. ماذا تعني؟ ولماذا هي مهمة؟»، يعالج الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي والفيلسوف الأميركي مايكل صاندل معضلةَ التفاوت الاجتماعي في الأزمنة الحاضرة من منظور مزدوج: التراكم الكثيف للثروة وأزمة الاعتراف.

بيكتي اشتهر سابقاً بكتابيه «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين» و«الرأسمال والأيديولوجيا» اللذين ولَّدا ردودَ فعل واسعة. وفي الكتابين ينطلق بيكتي من رؤية اشتراكية اجتماعية، وإن كان ينتقد بشدة التجربةَ الماركسيةَ السابقةَ بكل تأثيراتها السياسية والاقتصادية.

وفي الكتاب الجديد، يرى بيكتي أن التيار الاشتراكي، وإن كان قد انهار كلياً في أوروبا منذ بعض الوقت، إلا أنه حقق مكاسبَ باقيةً، من بينها التراجع النوعي لنسبة التفاوت الاجتماعي في كل بلدان القارة العجوز، إلى حد أن قطاعاتٍ حيويةً مثل الصحة والتعليم خرجت عملياً مِن منطق السوق، دون أن ينهار الاقتصاد، بل إن الإصلاحات الاجتماعية كانت دعامةً قويةً للنمو والثروة. إنها التجربة التي يمكن تمديدها إلى قطاعات أخرى، بما يقتضي تجاوزَ الحوار العقيم حول أولوية القطاع العام أوالخاص، والانطلاق من الحاجيات الموضوعية للسكان وتحديد الطرف الأجدر بتحقيقها. وفي الاقتصاد الجديد، نلاحظ أن إنتاج البضائع المادية تراجع جذرياً مقابل الخدمات التي أضحت محورَ المنظومة الاقتصادية، بما من شأنه تعزيز دور القطاع العام وتكريس الارتباط العضوي بين المطالب الاجتماعية والديناميكية الإنتاجية.

 المفارقة الكبرى هي أن التيارات الاشتراكية اعتمدت منذ تسعينيات القرن الماضي مبدأَ السوق الحرة والخصخصة الشاملة، فكانت النتيجة هي تدمير القاعدة الاقتصادية للمدن المتوسطة، مما انجرَّت عنه مشكلاتٌ اجتماعيةٌ حادةٌ كانت في مصلحة الأحزاب اليمينية الجديدة الصاعدة حالياً في جُلّ الدول الغربية. لقد انقلبت المعادلةُ الأيديولوجية التقليدية، فأصبحت التشكيلات اليسارية تدافع عن الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية، في الوقت الذي تتبنى التنظيمات الشعبوية الدفاع عن مصالح العمال والطبقات الوسطى ولو بشعارات واهية مثل محاربة الهجرة وتحصين الهوية القومية. في حين أن المطلوب اليوم هو الرجوع إلى خطاب المساواة الاجتماعية في مواجهة اختلالات الرأسمالية المعولمة.

وبالنسبة لبيكتي، لا يمكن تصور برامج اجتماعية ناجعة دون التحالف مع بلدان الجنوب التي تقود اليوم خطابَ العدالة من منظور عالمي يتجاوز الخريطة الطبقية المحلية. ومن هنا العودة إلى أطروحة ماركس القديمة حول ارتباط الاستغلال الطبقي بالتفاوت على المستوى العلاقات الدولية.

 لا تتعارض مقاربة صاندل مع ملاحظات بيكتي حول أزمة الاشتراكية وصعود اليمين المحافظ، لكنه ينطلق من اعتبارات اجتماعية قيمية تتناسب مع فلسفته في العدالة التي بلورها في عدة أعمال، من آخرها كتابه «استبدادية الاستحقاق» الصادر سنة 2020.

لا ينظر صاندل إلى التفاوت الاجتماعي من حيث هو نتيجة من نتائج الغبن الاقتصادي أو سوء توزيع الثروة، بل يعتبره مظهراً لأعراض تعاني منها البلدان الصناعية الحديثة، مثل الإذلال وهشاشة رابطة الاعتراف وطغيان الشعور بالتهميش والإقصاء. ومن هنا ضرورة بناء نزعة مواطنة مدنية إدماجية تكرس سياسة اعتراف وكرامة تستفيد منها القاعدة الاجتماعية العريضة وليس النخب المالية والإدارية المهيمنة وحدها.

ولئن كان صاندل يوافق بيكتي على أن اليسار الذي خلف الأنظمة النيوليبرالية التي حكمت في الولايات المتحدة وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي لم يغير نوعياً من جوهر السياسات الاقتصادية، إلا أنه يفسر هذه الظاهرة بعوامل سياسية فكرية تكمن في البحث ضِمن آليات السوق عن أدوات محايدة تجنب النقاش المعقد حول معايير الخير المشترك وقيم العيش الجماعي في سياقات متعددة ومتنوعة لا يمكن أن تتفق حول سقف مرجعي محدد.

في هذا الباب، ليس المشكل في انكماش القطاع العمومي ذاته، بل في تراجع النظم الإدماجية الاجتماعية التي هي المؤسسات الحاضنة للأفراد والضامنة لكرامتهم وحقوقهم، بما يعني بالنسبة لصاندل أن الفردية الاستهلاكية ليست خطراً على المساواة من المنظور التوزيعي وحده، بل هي أيضاً خطر على منطق التضامن الاجتماعي.

في هذا الكتاب المختصر، نقف عند جوانب هامة من الحوار الفكري الأيديولوجي الدائر راهناً في الغرب حول المساواة من حيث هي مقوم مركزي من مقومات الحداثة، في ما وراء الصراع الدائر حول المقاربتين الطبقية الاقتصادية من جهة والحقوقية الاجتماعية من جهة أخرى.

لقد ركزت فلسفات العدالة في العقود الأخيرة على إعادة بناء نظرية الحقوق السياسية والاقتصادية في السياق الليبرالي، بيد أن تحدي العولمة الرأسمالية فرض على الفكر الغربي الراهن العودة إلى مسألة المساواة في علاقتها المعقدة بالحرية الفردية والتضامن المجتمعي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

31 أغسطس 2025 23:45

في المشرق العربيّ اليوم، وعلى رغم ندرة النقاش الجدّيّ، غالباً ما تطلّ مسألة «الهويّة» برأسها لدى تناول مسائلنا. وقد يقول الوطنيّون جدّاً، والإنسانيّون جدّاً، إنّ هذه المسألة برمّتها سخيفة أو بدائيّة أو رجعيّة. ذاك أنّ ما هو إنسانيّ فينا ينبغي أن يسمو بنا عن هويّات جزئيّة، فيما على الوطنيّ فينا أن يمانع الانشداد إلى هويّات ما دون وطنيّة، كالدينيّة والإثنيّة والطائفيّة.

وقد يكون صحيحاً، من حيث المبدأ، أنّ تلك الهويّات تقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، كما تغلّب الرمزيّات والطقوس والشكليّات على حساب المعاني الكبرى التي أكّدها التنوير، وفي صدارتها وحدة الإنسان ووحدة إنسانيّته.

فحاملو الهويّة، بهذا المعنى، يرون العالم بوصفه حدوداً صارمة تُمسك بتلابيب الروح وبكلّ ذرّة من ذرّاتها. وهي حدود لا تستطيع التقنيّة تجاوزها، كما لا تستطيع الأفكار أو المصالح أو التجارب أو الأمزجة ذلك. فنحن، في عمق النظرة هذه، لسنا سوى انعكاس للجبال والأنهار والصحارى التي نقول إنّها صنعتنا وإنّها ماضية في صناعتنا إلى أبد الآبدين.

والراهن أنّ التشبّث بالهويّة، بوصفه استسلاماً للطبيعة، ينطوي على تشاؤم عميق بالبشر وإقرار بأنّهم كائنات محدودة التأثير والفعّاليّة، لا يفضي سعيهم الذاتيّ إلى نتائج يُعتدّ بها.

ثمّ إنّ الإصابة بتورّم هويّاتيّ يُفقر الشخص ويحرمه أبعاده الكثيرة، وكلّ كائن ينطوي على أبعاد كثيرة، جاعلاً منه مجرّد أبيض أو أسود أو مسلم أو مسيحيّ...، وذلك على مدى 24 ساعة كلّ 24 ساعة. فهو هكذا فحسب، وليس أيّ شيء آخر غير هذا، وعليه أن يشعر بأنّه كذلك، بهمّة ومواظبة لا تفتران، وأن يتصرّف بموجب هذا الشعور المُلزِم.

ومنذ الأزمنة السحيقة السابقة كثيراً على الحداثة، زوّدنا «سفر القضاة» التوراتيّ بما نسخر به من رمزيّات الهويّة وطقوسها، ومن الآثار المدمّرة المنجرّة عن ذلك. فقد افتُضح أمر قبيلة أفراييم لأنّها كانت تقول sibboleth بدل الكلمة العبريّة shibboleth، ما دفع قبيلة جلعاد لأن تقتل منها 42 ألف شخص جرّاء إنقاصها حرفاً واحداً.

وعلى هذا المنوال رسمت الدعابة المُرّة، في بدايات الحرب الأهليّة اللبنانيّة، هذا الانشطار الذي قد يسبّب الموت لمن يقول «بَنْدورة» بدل «بَنَدورة».

وقد يصحّ في الهويّة بعض ما يصحّ في المرأة، كما وصفتها سيمون دو بوفوار بعبارة شهيرة. فهي «لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة»، أي أنّ أسباباً اجتماعيّة وثقافيّة تشكّلها وتحدّد أدوارها أكثر ممّا يفعل قَدَر بيولوجيّ محكم ومسبق. ووفق هذا التصوّر يتّضح الفارق بين كون المرأة أنثى بيولوجيّاً وبين البناء الاجتماعيّ الذي يجعلها، بوصفها دوراً ووظيفة اجتماعيّين، امرأة.

لكنّ تلك التصوّرات لا تحلّ الكثير من المشاكل في الواقع الفعليّ، تماماً كما أنّ نظريّة «البناء الاجتماعيّ» لا تعزّي أحداً ولا تعني بتاتاً سهولة حلّ المشكلة وتجاوزها.

وبهذا ينطوي الإنكار المطلق للهويّة على وعظ غالباً ما يكون ساذجاً، وعلى لون من التفاؤل البسيط بالبشر وتعويل مبالَغ فيه على نجاحهم في ترويض الطبيعة والثقافة.

ولنتذكّر، وتحت أنوفنا عشرات الأمثلة، أنّ الواقع الفعليّ بالغ الخصوبة، لا في توليد الهويّات فحسب، بل في صبغها بالعدائيّة والتناحر. فالواقع نفسه، بوصفه ساحة تمييز وغلبة، هو الذي يقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، وينجح في ذلك، وهو الذي يزرع في واحدنا شرّاً يجعله يرى الآخر بوصفه شرّاً، وينجح أيضاً. وهذا وذاك يحصلان في منطقة أفلست فيها الهويّة الوطنيّة المزعومة ودولتها وتصدّع الإطار الوطنيّ للسياسة. وإذ يتبدّى، أقلّه في المشرق، أنّ شعوباً متناحرة عدّة تقيم تحت غلالة الشعب الواحد، تذوي الإيديولوجيّات الحديثة، كالقوميّة والاشتراكيّة وسواهما ممّا كانت الجماعات تستظلّ بها في عقود سبقت، ليصبح التعريف الأهليّ المحض هو نفسه إيديولوجيّة الجماعات.

ولسوف يكون سخيفاً وعبثيّاً مطالبة الجماعة المهدّدة بالموت أو الإبادة أن تردّ بإعلان تمسّكها بهويّة وطنيّة أو إنسانية، وأن ترفض التعامل مع «العدوّ القوميّ» فيما هو ينقذها من الموت الذي يهدّدها به «الأخ» الوطنيّ أو الإنسانيّ المزعوم.

وكانت هنه أرنت، في أحد مواقفها الشهيرة، قد طالبت اليهوديّ إذا هوجم كيهوديّ «أن يدافع عن نفسه كيهوديّ، لا كألمانيّ أو كمواطن عالميّ ولا كمتمسّك بحقوق الإنسان». وهو ما يصحّ، بطبيعة الحال، في الفلسطينيّ حين يُستهدَف كفلسطينيّ، وفي المسلم والمسيحيّ والكرديّ والعلويّ والدرزيّ وأيّ كان.

وأغلب الظنّ أنّ الاعتراف بالهويّات المظلومة وإشباعها يفيان بالغرض أكثر كثيراً ممّا يفعل إنكارها والتعالي عليها. فعبر إشباعها يمكن دفعها إلى الحدّ من إطلاقيّتها ومن انغلاقها وتفسيرها التاريخ انطلاقاً من حقبة بعينها هي حقبة احتدامها وتوتّرها. وعبر الإشباع نفسه تتراجع نظرتها إلى نفسها ككتلة صخريّة لا تقبل الانقسام، وإلى العالم بوصفه حرباً دائمة.

وحتّى إشعار آخر فإنّ صناعة الهويّات، بالقاتل منها والمقتول، أقوى صناعاتنا. وليس مفيداً ولا لائقاً أن يقف المرء على شوك ويظنّ نفسه واقفاً على حرير.

***

حازم صاغية

عن جريدة الشرق الأوسط يوم: الأربعاء - 04 ربيع الأول 1447 هـ - 27 أغسطس 2025 م

ليست الكارثة في أن يكون الإنسان مؤمنا، بل في أن يتحول الإيمان إلى أداة للهيمنة على العقول، ومقصلة معلقة فوق كل فكر حر. إن تديين المجال العام في مجتمعاتنا لم يكن يوما مدخلا إلى الخلاص، بل أصبح عائقا أمام نمو العقل وتمدده في آفاق البحث والمعرفة. فالعقل العربي المنهك أصلا بتراثه المثقل وجد نفسه مسجونا بين أسوار وصاية رجال الدين، لا يكاد يتنفس خارجها إلا ويتهم بالزندقة أو الخيانة

إنّ أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا اليوم ليس الفقر ولا الاستبداد وحدهما بل ذلك التحالف الخفي بين الدين والسياسة الذي يجعل من المجال العام ساحة لتصفية الحسابات باسم السماء. تديين الدولة ليس مجرد خطأ سياسي، بل كارثة حضارية متكاملة، لأنه يحول النصوص المقدسة إلى شعارات حزبية، ويستبدل سلطة العقل بسلطة الفتوى، ويقيد حركة المجتمع بحدود التأويل الضيق

لقد صارت السياسة في بلادنا منابر وعظ، وصارت الكوارث الطبيعية تفسر وكأنها رسائل غيبية، وصارت الأمراض تربط بالذنوب، والعلم يحاكم بمقاييس الفقه، حتى تحول العقل الجمعي إلى عقل قاصر، عاجز عن التفكير خارج الوصاية المقدسة. إن هذه الوصاية أفرزت وعيا مشوها، يخلط بين الخرافة والحقيقة، بين الطقس الديني والمعادلة العلمية، بين المجال الشخصي والفضاء العام

وحين يُحشر الدين في تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية، يتوقف العقل عن التفكير الحر، ويتحول المواطن إلى تابع يبحث عن رأي الشيخ لا عن “قرار الدولة”. وحين تتحول الكوارث الطبيعية إلى عقوبات إلهية، والأمراض إلى ابتلاءات أخلاقية، والسياسة إلى خطب وعظية، عندها ينهار معنى الدولة الحديثة، ويختزل الوطن إلى طائفة أو جماعة تتحدث باسم الله

اعتقد ان الفكر الذي يتصادم مع العلم، أيا كانت مرجعيته، لا يمكن أن يقود سوى إلى الخراب ذلك أن العلم ـ وهو ثمرة العقل الإنساني الحر لا ينهض إلا إذا أزيحت عن طريقه الأثقال التي تجره إلى الخلف. والتاريخ خير شاهد: فالأمم التي نزعت القداسة عن السياسة، وأبقت الدين في مجاله الروحي والأخلاقي، استطاعت أن تفتح أبواب النهضة وتشيد حضارات تحترم فيها إنسانية الإنسان.

إن فصل الدين عن الدولة ليس حربا على الإيمان، بل هو إنقاذ للإيمان من التوظيف القمعي. فالدولة التي تحكمها المرجعية الدينية المطلقة تلغِي التعدد، وتحول المختلف إلى عدو، وتجعل الحقيقة رهينة نص واحد أو تأويل واحد. أما الدولة المدنية، فهي التي تمنح الدين مكانته كقيمة روحية وأخلاقية، وتحمي في الوقت ذاته حق الفرد في أن يختلف، في أن يفكر، في أن يبتكر، وفي أن يعيش دون خوف من محاكم التفتيش الحديثة.

الفصل إذن ليس خصومة، بل توازن: توازن بين إيمان يخص القلب والضمير، وبين عقلٍ يعنى بتنظيم شؤون الدولة والحياة. بهذا وحده نستطيع أن نحرر العقل من عجزه المزمن، وننقذ السياسة من سطوة الخرافة، ونمنح الإنسان فرصة لأن يستعيد دوره كفاعل في التاريخ، لا كتابع لفتاوى تصادر مستقبله قبل أن يولد.

التجارب العالمية تؤكد أن الدول التي نجحت في التحرر من وصاية رجال الدين، لم تفقد إيمانها ولا هويتها، بل استردت عقلها الجمعي وقدرتها على الإبداع. أوروبا لم تنهض إلا بعد أن جردت الكنيسة من سلطة التحكم في العلم والسياسة. أما نحن، فما زلنا ندور في حلقة مفرغة: كل إصلاح سياسي يفرغ من مضمونه لأن الفتوى أقوى من الدستور، وكل مشروع علمي يقمع لأن العقل الفقهي أقوى من العقل التجريبي

فالدولة التي تحكمها مرجعية دينية مطلقة لا يمكن أن تعرف التعدد ولا أن تقبل المعارضة، لأنها تعتبر أي اختلاف خيانة للعقيدة قبل أن يكون اختلافا في الرأي

وكلمه اخيره هي إن إبقاء الدين في مجاله الروحي والأخلاقي وحصر الدولة في إدارة الشأن العام بالعقل والقانون، هو السبيل الوحيد لصون المجتمع من الانقسام، ولإعادة الاعتبار إلى الإنسان كمواطن، لا كتابع لسلطة غيبية. فالدولة بلا عقل تتحول إلى ثكنة مغلقة، والدين بلا حرية يتحول إلى أداة قمع

إن الأمم لا تبنى بالوصاية على العقول، ولا بخلط الدين بكل أمور الحياة بل تبنى بالعقل الحر والقانون العادل. وما لم نفصل الدين عن الدولة، سنظل ندور في فلك مظلم إن الدولة المدنية ليست ترفا فكريا، بل هي صرخة إنقاذ: إنقاذ للوطن من التفكك، وللدين من الابتذال، وللإنسان من العبودية. فإما أن نختار عقلنا وننهض، أو نبقى أسرى خطاب يقدس العجز ويؤبد الانهيار..

***

ابتهال عبد الوهاب

عن موقع: منبر العراق الحر، يوم 19/8/2025

 

هل وُجد الإنسان فعلاً على ظهر البسيطة منذ آدم عليه السلام، أم أن الإنسان هو اكتشاف حديث؟ نعم وُجد الإنسان مع آدم عليه السلام، ولعله ذلك الإنسان المفكر HOMO SAPIENS بعد أفول نجم الإنسان الصانع HOMO FABER الذي كان يفتقد القدرة على التفكير الصحيح، فأفسد في الأرض وسفك الدماء بشهادة الملائكة.

لكن الإنسان منذ أن وُجد وهو ينتج المعرفة عن ذاته، فكانت تصوراته مختلفة حسب مستويات وعيه وتفاعلاته مع المحيط بخيالاته الجامحة أولاً، خاصة في الأساطير التي قدمت لنا إنساناً يحُاكي الآلهة ويصاهرها ويصارعها، كما تحكي كثير من نصوص الإلياذة والأوديسا لهوميروس، وأنساب الآلهة لهوزيود، ألم يكن هرقل ابن الاله زيوس من سيدة من نساء العالمين، كما تقول الأسطورة اليونانية، فكان نصف إله يتمتع بقوة خارقة لا تضاهى. وللأساطير تصورات خارقة عن الإنسان، فكما أوجدت هرقل أوجدت آخيل الرجل الذي لا يقهره إلا من عرف حلقة ضعفه في عقبيه.

مع الفلسفة تم تجاوز هذه الخيالات، التي كانت لها معانيها ودلالاتها العميقة في ثقافة تريد تفسير الظواهر والأحداث، فلم تجد غير اللاعقل سبيلاً لإنتاج صورة عن الإنسان أبعد عن واقعه وبشريته.

 لكن مع ظهور العقل الفلسفي القائم على الخطاب التعليلي المحايث للظواهر والمستشرف إلى إضفاء نسق متماسك على رؤيته للعالم، بدا الإنسان ينتج صورة أقرب إلى الواقع عن شخصه. فأمام طموح الأسطورة الجارف لتفسير كل شيء، أقر سقراط بمحدودية الإدراك البشري، فجعل أهم خاصية للحكيم أن الحقيقة الوحيدة التي يعرفها أنه لا يعرف شيئاً، حاثّاً النّاس على استعمال عقولهم لإدراك الحقيقة دون التعويل على ما تعج به الأساطير من حقائق خيالية عن الإنسان، وأول حقيقة وجّه سقراط النّاس إليها هي حقيقة نفوسهم، فكانت عبارته الشهيرة الخالدة «اعرف نفسك بنفسك». وقد تابع أفلاطون نهج شيخه سقراط، ومحاورته الرائعة «فيدون» من أجمل المحاورات التي قدمت تصوراً عن الإنسان النَزّاع إلى الخلود.

لقد ظلّ المفكرون يستعملون المنهج التأملي القائم، بخاصة، على الاستنباط لتقديم حقائقهم عن الإنسان، ولعل البحث النظري في الإنسان سيبدأ مع «كتاب النفس» لأرسطو، الذي قدّم تصوراً متكاملاً عن الإنسان من حيث قواه النفسية المختلفة، وهو الكتاب الذي حظي بعناية الفلاسفة عبر العصور، وتكفي الإشارة هنا أن ابن رشد شرحه ثلاثة أنواع من الشروح، جامع، وتلخيص، وشرح كبير. وقد ظلّ هذا الكتاب المرجع الأول في معرفة الإنسان ذاته حتى بزوغ العصر الحديث.

لقد ظلّ الإنسان ينتج المعرفة عن ذاته، لكن التغير الأكبر الذي جاء به العصر الحديث أن الإنسان أصبح موضوعاً للمعرفة، إنه عصر العلوم الإنسانية، عصر بزوغ الإنسان وتبلور التصور العلمي عنه، فمع العلوم الإنسانية بزغ مفهوم الإنسان، ولأول مرة أُنْشِأت مختبرات لإخضاع الإنسان للمنهج التجريبي الذي قدم كشوفات مذهلة في فهم أسرار الطبيعة، فجيء به لكشف أسرار الإنسان، فظهر علم النفس ليقدم تصور الإنسان عن ذاته، وظهر علم الاجتماع، ليقدم تصور الإنسان عن علاقاته الاجتماعية، وظهر علم التاريخ ليقدم تصور الإنسان عن ماضيه، وغيرها من العلوم الإنسانية، التي توسلت بالمناهج الفيزيائية والإحصائية جعلت الإنسان بمنزلة الشيء الذي يدرس في نجوة عن عواطفه أو مشاعره، رغم أنه تبيّن فيما بعد حدود هذا المنهج، فظهرت مناهج أخرى اتخذت الإنسان موضوعاً للمعرفة، لكنها توسلت بمنهج الفهم لا التفسير، كما هو الأمر مع ماكس فيبر ودلتاي، وتتوسل بمنهج تأويلي جديد تجلى في الهيرمينوطيقا دلتاي وشلايماخر وهيدغر وبول ريكور.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 أغسطس 2025 23:30

يكثر الحديث في أيامنا عن الذكاء الاصطناعي من حيث كونه قلَب العلاقةَ التقليدية بين المعرفة والواقع، وأنشأ مسالكَ جديدةً في التربية والثقافة، بما شكّل تحولاً نوعياً في الوجود الإنساني. بعض الكتّاب احتفى بهذه التحولات الراهنة واعتبرها نتاجَ ثورة معرفية كبرى تتيح للإنسان المعلومةَ السهلةَ الشاملةَ، في حين رأى آخرون أنها كرست عالمَ التخيل الوهمي وما بعد الحقيقة.

وفي كتابه الجديد «اقتحام الواقع»، يبين عالم الاجتماع الفرنسي «جيرالد بروننر» أن هذه الظاهرة، وإن كانت لها خصوصياتها التقنية البارزة التي انجرت عن الطفرة المعلوماتية الرقمية، إلا أنها تندرج في مسار اجتماعي تاريخي طويل، هو ميل الإنسان إلى استبدال الواقع برغباته الذاتية. ومن هذا المنظور، يمكن فهم عدد من الممارسات البشرية الأخرى، مثل السحر والأسطورة والأيديولوجيا.. فكلها تعبّر عن هذا التوجه لبناء عالَم بديل عن الواقع القائم.

إلا أن التوجه الرغائبي أضحى أقوى في العصور الحديثة، إلى حد أن الكسيس دي تكوفيل اعتبر أن المجتمعات الديمقراطية المعاصرة تقوم على انزياح هائل بين الرغبات والواقع الذي يمكن أن تحققه فعلا، بما يولد حالة من الإحباط الواسع. وهكذا يلجأ الإنسان إلى اختراع عالَمه الخاص الذي يتوهّم تحقيقَ رغباته فيه. يقول بروننر، إن روسو انتصر على ماركس في انتفاضة 1968 التي هيمنت فيها ثقافة الرغبة على اعتبارات الواقع، فغدت الذاتية الراديكالية هي معيار الالتزام السياسي (أي الأنا الأصيل الذي أفسدَه المحيطُ الاجتماعي كما كان يقول روسو).

ما حدث راهناً هو أن التقنيات الرقمية أصبحت توفر بدائل فعلية عن الواقع. فمنذ عام 2016 غدت الروبوتات تنتج من المعلومات أكثر مما ينتج البشرُ، وهو الاتجاه الذي بلغ مداه مع الذكاء الاصطناعي الذي قضى كلياً على الواقع. فالتقنيات ما بعد الإنسانية تطمح اليوم إلى تحقيق حلم جلجماش في التغلب على الموت، في الوقت الذي استطاعت فيه الأيديولوجيا البيولوجية الجديدةُ القضاءَ على التمييزات الطبيعية بين الأنواع والأجناس والألوان، بحيث تحول الإنسان إلى كائن هوياتي متنقل بدون ثوابت محددة. بل إن الفروق بين الكائن الحي وغير الحي غدت غائمة، لأول مرة في تاريخ البشرية.

والأخطر من هذا كله غياب إجماع توافقي حول الواقع الموضوعي ونمط المعرفة العقلانية، بما يفتح ثغرةً خطيرة في الجهاز التصوري البشري. وليست هذه الرؤية خاصة بالنزعات اليسارية الراديكالية، بل نلمسها أيضاً في التيارات الشعبوية الصاعدة حالياً من حيث مقاربتها الحدسية المباشرة للعالم، والتي هي عكس الأفكار النقدية المتناسقة الدقيقة.

في خاتمة كتابه، يستشرف بروننر سيناريوهين أساسيين في رسم مستقبل العالم: إما أن يدخل الكون في الذات الحميمية الباطنية على شكل واقع افتراضي متخيل، بحيث يعتقد الإنسانُ أنه هو ما يرغب فيه، أو تقتحم الذاتُ الكونَ كلَّه كما يطمح إلى ذلك الاتجاهُ ما بعد الإنساني. وفي الحالتين، يختفي الآخر ويغيب المغاير، مع أن السعادة تقتضي العلاقة بالآخرين.

ما يخلص إليه بروننر هو أن «الحقل المعرفي»، وهو المجال التواصلي الذي تنتقل فيه الأفكار والمعتقدات والإشاعات والأخبار الزائفة، قد تغير نوعياً جرّاء الثورة الرقمية الاتصالية، بحيث لم تعد المعارف المشروعة مقننةً في تقاليد مؤسسية ضابطة، بل صارت المنتجات داخل هذا الحقل تنتقل دون قيود أو ضوابط. وهكذا استبدلت قيم الصدقية والبرهان بالانطباعات الشعورية والإحساسات العاطفية السريعة والرغبات الذاتية.

 ما نخلص إليه من عرض أطروحة بروننر هو أن حركية الذكاء الاصطناعي بقدر ما فتحت آفاقاً رحبة للمعرفة والعلم، ولدت تحديات جديدة، أخطرها ما يتعلق بالمحددات الابستمولوجية، أي ما يخص معايير الحقيقة والمعنى والمعقولية.

في بداية مسار الفلسفة خلال العصور اليونانية، ولّدت الثورةُ العلمية الأولى في تاريخ البشرية المتمحورة حول الرياضيات تحدياتٍ مماثلةً، وكان الإشكال الذي عالجه أفلاطون وأرسطو هو: كيف نصفي السيلانَ القولي لننقذ الحقيقةَ والمعنى؟

لقد اعتبر أفلاطون أن المسلك الوحيد هو الخروج من عالَم الحس إلى أفق الوجود العقلي، في حين أراد أرسطو اختراع الآلية المنهجية القادرة على رسم الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم (المنطق).

 والتحدي ذاتُه قائم في العصر الحاضر الذي انهارت فيه الوسائط الابستمولوجية والمؤسسية للمعنى، وانتفت الحواجزُ الموضوعية بين الواقع والتصور، في حين تحولت الفلسفة إلى ممارسة لغوية تأويلية لم تعد قادرة على الوفاء للمشروع الأفلاطوني الأرسطي الأصلي الذي هو ضبط العلاقة التطابقية بين الوجود والعقل.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

24 أغسطس 2025 23:45

ريجيس دوبريه يستعرض نقاطاً أمنت له السيطرة بلا منازع

يقول لنا ريجيس دوبريه في كتابه «ما تبقى من الغرب» ما فحواه: هناك عدة نقاط قوة يمتلكها الغرب، وهي التي تؤمن له السيطرة على العالم بدون منازع، وأولها ذلك التماسك الذي لا مثيل له بين كلا الجناحين الأوروبي والأميركي. وأكبر دليل على ذلك أنه أرعب روسيا ما إن اشتعلت الحرب الأوكرانية. ينبغي العلم بأن الولايات المتحدة تسيطر على الغرب كله من خلال حلف الأطلسي. وهذا الحلف يشكل أكبر قوة ضاربة في العالم. وهو الذي يرعب حتى الصين وروسيا. ولولاه لاستطاع بوتين اجتياح أوكرانيا كلها بأقصى سرعة.

أما نقطة القوة الثانية للغرب، فتتمثل في احتكار القيم الحداثية الكونية. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ما يلي: جميع الدول تتابع في الخارج مصالحها الحيوية الخاصة. وهذا شيء طبيعي. فمثلاً الصين المحرومة من المواد الأولية كالغاز والبترول تحرص أشد الحرص على تأمين شبكات تزويدها بها من شتى أنحاء العالم. إنها تمارس ما ندعوه بـ«الأنانية المقدسة» للدولة. والغرب أيضاً يمارس ذلك على أوسع نطاق. لكنه وحده الذي يتجرأ على تقديم مصالحه الشخصية وكأنها تعبر عن مصلحة البشرية بأسرها! إنه يغلف مصالحه الشخصية الأنانية بغلاف براق تحت اسم حقوق الإنسان. إنه يقدم نفسه على أساس أنه يمثل الضمير الكوني العالمي. وأكبر دليل على ذلك أن مقر الأمم المتحدة التي تجسد هذا الضمير العالمي موجود في نيويورك، لا في موسكو، أو بكين، أو طوكيو، أو نيودلهي... بالتالي فالغرب هو مركز العالم شاء الآخرون أم أبوا.

أما نقطة القوة الثالثة للغرب، فتتمثل في تخريج مثقفي العالم وكوادره العليا. ويرى ريجيس دوبريه أن الغرب يخرج كوادر العالم ونخبه الثقافية والسياسية بل وحتى العسكرية. وعلى الرغم من أن الأنظمة لا تنفك تدين الإمبريالية الأميركية وتشتمها على مدار الساعة فإن الطبقات البورجوازية العربية وغير العربية تفضل أن ترسل أبناءها إلى جامعات هارفارد أو بيركلي أو كولومبيا أو كامبردج أو أكسفورد أو السوربون.. إلخ.. فلا أحد يثق بشهادات الجامعات الشرقية. وحتى أمراء الصين الحمر الشيوعيون يرسلون أبناءهم إلى الجامعات الأميركية للتخرج! من يصدق ذلك؟ ينبغي العلم أن أميركا تستقبل كل عام 3000 من القادة الشباب، أو الذين تدعوهم كذلك. وهم صفوة الصفوة أو نخبة النخبة. ومن بينهم بضع عشرات من الفرنسيين وليسوا كلهم من أبناء العالم الثالث. وهي تدربهم في جامعاتها وتجبلهم بلغتها وتصهرهم بثقافتها. وعندما يعودون إلى بلدانهم بعد التخرج يصبحون امتداداً لأميركا في الخارج. إنهم يصبحون بمثابة سفراء غير معينين رسمياً، ومن بينهم رئيس أفغانستان السابق حميد كرزاي، ورئيس جورجيا ساكاشفيلي، وسلام فياض رئيس وزراء فلسطين السابق ومساعد المدير التنفيذي للبنك الدولي في واشنطن، وآخرون كثيرون. لقد خرّجت أميركا في العقود الماضية عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من كوادر العالم العليا، ومن كل الجنسيات، والأديان، والقوميات. وهو شيء لم تتجرأ عليه الإمبراطورية البريطانية حتى وهي في أوج مجدها وجبروتها، بالتالي فالإمبراطورية الأميركية لا مثيل لها في التاريخ.

أما نقطة القوة الرابعة للغرب، فتتمثل في تشكيل التيارات الفلسفية والحساسيات الفنية والأفلام السينمائية... إلخ.

بهذا الصدد ينبغي أن نقول ما يلي: أميركا لا تمتلك فقط القوة الخشنة الأخطر في العالم (أي القوة العسكرية) وإنما تمتلك أيضاً أكبر قوة ناعمة (أي القوة الثقافية). فالسينما الأميركية (هوليوود) والثقافة الأميركية والجامعات الأميركية.. إلخ تشكل أكبر جاذبية لأميركا في الخارج. من يستطيع أن يقاوم أفلام جون واين أو كلينت إيستوود أو هارسون فورد... إلخ؟ ليس أنا على أي حال. وقل الأمر ذاته عن الموسيقى الشعبية الأميركية والمشروبات الأميركية ولباس الجينز الأميركي وحتى مطاعم الماكدونالد المنتشرة في شتى أنحاء العالم. وهي تساهم في خضوع الآخرين لها دون أي مقاومة. من يقاوم الفن والعلم والجمال والمتعة والاستهلاك؟ ثم إن الضعيف المتأخر يقلد دائماً القوي الناجح كما يقول ابن خلدون. على هذا النحو تفرض أميركا هيمنتها على العالم من خلال القوة الخشنة والقوة الناعمة، على حد سواء.

ويمكن القول بأن «الكوكا كولا» ربحت حرب فيتنام بعد أن خسرها الجيش الأميركي! والجرائد الأميركية الكبرى تصوغ فكر قادة العالم وعقولهم لأنهم يقرأونها كل صباح، كما كان يفعل جمال عبد الناصر في وقته. صحيح أن تشومسكي كان مرفوضاً من قبل «النيويورك تايمز» ولكن ليس إدوارد سعيد! وعموماً فإن الغرب يسمح بحرية النقد والاعتراض والاختلاف. ففي الغرب كل الديانات لها الحق في الوجود وكل التيارات الفكرية والآيديولوجية بشرط ألا تدعو صراحة إلى الطائفية والعنصرية.

بقيت نقطة أساسية تمثل جوهر الحضارة الغربية، وتفسر سبب تفوقها على كل أمم الأرض. وهي مرتبطة بالنقطة السابقة أو تشكل امتداداً لها. ويلخصها ريجيس دوبريه بكلمة واحدة أو ثلاث كلمات: «امتصاص السلبية النقدية». ماذا يعني هذا المصطلح الخطير؟ ماذا يعني هذا المصطلح العويص؟ إنه يعني أن الغرب يمتص كل ما هو مضاد له ليس عن طريق قمعه وكبته، كما تفعل دول العالم الثالث، وإنما عن طريق تركه يعبر عن نفسه بكل حرية. وحتى ولو كان هذا النقد جارحاً له ومزعجاً جداً له فإنه يتركه يعبر عن نقمته. ولذلك تسمع الشتائم يومياً ضد الغرب في قلب الغرب! وكذلك المظاهرات. وهنا تكمن عبقرية الغرب، وديناميكيته، وصلابته. «فالأزمة التي لا تقتلني تقويني» كما يقول نيتشه. والنقد الذي لا يدمرني ينعشني ويحييني... أما ما يقتل الحضارات الأخرى فهو اللون الواحد والخط الواحد والفكر النمطي الواحد والقمع الديني والفكري والسياسي. تقريباً لا أحد يتجرأ على أن يفتح فمه في بعض البلدان!

ننتقل الآن إلى النقطة الخامسة التي تفسر سبب تفوق الغرب على جميع حضارات العالم ألا وهي الابتكارات العلمية والتكنولوجية.

في الواقع كان ينبغي أن نبتدئ بها، كما يقول ريجيس دوبريه. فالاختراعات العلمية والتكنولوجية الصارخة هي التي أدت إلى تفوق الغرب على كل النطاقات الحضارية الأخرى في العالم. والآن يحاول الجميع تقليدها. بل وقد حققت بعض الدول الأخرى نجاحات مهمة في هذا المجال. فيوجد الآن مهندسون هنود وصينيون أكثر مما يوجد مهندسون أميركان. ولكن هذا لا يعني أن أميركا أصبحت مسبوقة. فالواقع أن معظم جوائز نوبل للطب والفيزياء والعلوم والاقتصاد تذهب إلى باحثين أميركان أو غربيين عموماً. وبهذا الصدد ينبغي العلم بأن أميركا تشتري العقول الأجنبية برواتب ضخمة جداً إلى درجة أن الفرنسيين يشتكون منها. فهي تسرق عباقرتهم وعلماءهم. فما إن تسمع أميركا بباحث عبقري في أي دولة من دول العالم حتى تقدم له كافة التسهيلات لكي تغريه بالذهاب إليها والعمل في جامعاتها ومختبراتها. لهذا السبب تتفوق أميركا على كل أمم الأرض.

هناك خاصية أخرى تفسر سبب تفوق الغرب على جميع شعوب الأرض ألا وهي دولة الحق والقانون والمؤسسات. فحكم القانون هو المهيمن على الغرب، في حين أن حكم التعسف والاعتباط والاستبداد هو المهيمن على الشرق. ينبغي العلم أن أكبر رئيس دولة في الغرب خاضع لحكم القانون الذي يخضع له الكناس أو الزبال، وعندما ينتهكه فإنهم يسقطونه حتى ولو كان رئيس أعظم دولة في العالم. يضاف إلى ذلك أن الغرب يتبع قاعدة ذهبية هي السبب في تفوقه ونجاحه: وهي أنه يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وأما دول العالم الثالث فكلها محسوبيات ورشاوى ومحاباة للأقارب في التوظيف حتى ولو كانوا فاشلين أو غير أكفياء على الإطلاق... إلخ.

الميزة السابعة للغرب

أخيراً هناك ميزة سابعة للغرب ربما كانت أعظم ميزة. ما هي؟ إنها تتمثل في عبارة واحدة فقط: انتصار التنوير الفلسفي على الأصولية التكفيرية. هنا تكمن عظمة الغرب فعلاً. بدءاً من تلك اللحظة أصبح الغرب سيد العالم. لماذا؟ لأنه انتصر على نفسه بعد صراع طويل ومرير مع أصوليته الدينية. ومن ينتصر على نفسه ينتصر على العالم كله. هنا يكمن سر تفوق الغرب.

لا تعرف روسيا ولا الصين ولا العالم العربي الإسلامي شخصيات فكرية كبرى من أمثال ديكارت وكانط وهيغل وفولتير وجان جاك روسو وماركس ونيتشه وفرويد وبرغسون وبرتراند رسل وميشيل سير وهابرماس... إلخ. هؤلاء هم أساتذة العالم كله وليس فقط أساتذة الغرب. آخر فيلسوف كبير عندنا هو ابن رشد الذي تُوفي قبل 825 سنة. وهؤلاء تجاوزوا ابن رشد بسنوات ضوئية. هل عرفتم سبب التفاوت التاريخي بين العرب والغرب؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 20 أغسطس 2025 م ـ 26 صفَر 1447 هـ

 

يشهد عالمنا اليوم ثورة معرفية غير مسبوقة، تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعيد تشكيل أنماط الحياة والعمل والتفكير. هذه التحولات السريعة لم تقتصر على الاقتصاد والسياسة والعلوم، بل امتدت إلى ميدان القيم والدين، لتطرح على الفقه الإسلامي أسئلةً جديدة، ولتضع العقلَ الفقهي أمام تحديات لم يعرفها من قبل.

لقد اعتاد الفقهاءُ عبر القرون أن يستنبطوا الأحكامَ في بيئة معرفية واجتماعية يمكن استيعابها من خلال أدوات الاجتهاد الموروثة. أما اليوم، فنحن أمام وقائع هجينة، رقمية الطابع، تتجاوز الحدودَ المكانيةَ والزمانية، وتولِّد إشكالاتٍ فقهيةً لم يسبق لها مثيل: من العقود الذكية والعملات المشفرة، إلى الروبوتات والأنظمة الخوارزمية التي تتخذ قرارات تؤثر في حياة البشر. وفي خضم هذا المشهد، يبرز السؤال: كيف يمكن للعقل الفقهي أن يحافظ على أصالته، ويطور في الوقت نفسه أدواته ليتعامل مع هذا الواقع الجديد؟

 إن هندسة العقل الفقهي في زمن الذكاء الاصطناعي لا تعني القطيعةَ مع التراث، ولا الانبهار الأعمى بالتقنية، بل تعني بناءَ منظومة معرفية متكاملة تجمع بين رسوخ العلوم الشرعية، وفهم البيئة الرقمية، والوعي الأخلاقي، والبصيرة الاستشرافية. وهذه المنظومة تقوم على أربعة محاور أساسية.

 وأول تلك المحاور هو التأصيل الشرعي العميق، إذ لا غنى للعقل الفقهي عن الإحاطة بأصول الاستنباط ومقاصد الشريعة وفروع الفقه، مع القدرة على تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة. فالفقه بلا أصول يصبح ارتجالاً، والاجتهادُ بلا مقاصد يتحول إلى نصوص جامدة قد تعجز عن تحقيق المصلحة أو درء المفسدة.

 وثانيها الوعي الرقمي؛ فالفقه في عصر الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن ينعزل عن فهم التكنولوجيا التي تصوغ حياة الناس. والمفتي الذي لا يعرف كيف تعمل العقود الرقمية أو العملات الافتراضية أو تقنيات الذكاء الاصطناعي، لن يستطيع أن يتصور المسألةَ تصوراً صحيحاً، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وثالثها النزاهة الأخلاقية؛ فالفتوى ليست مجرد نتاج معرفي، بل هي أمانة ومسؤولية أمام الله والمجتمع. ومع انفتاح منصات الفتوى عبر الفضاء الرقمي، زادت الضغوط على الفقيه، سواء من الرأي العام أو من المصالح الاقتصادية والسياسية. وهنا تبرز أهمية الضمير الفقهي المستقيم، القادر على مقاومة الهوى والحفاظ على استقلالية الفتوى ونقائها.

أما المحور الرابع والأخير فهو البصيرة الاستشرافية، ذلك أن الذكاء الاصطناعي لا يطرح تحدياته على الحاضر فقط، بل يرسم ملامح المستقبل. والعقل الفقهي الرشيد هو الذي يدرك المآلات، ويقدِّر أثرَ الحكم قبل صدوره، مستفيداً من أدوات التحليل والتنبؤ المتاحة اليوم، ليضمن إسهام الفتوى في البناء والإصلاح، لا في زيادة التعقيد أو إحداث الضرر.

إن هندسة العقل الفقهي في هذا السياق ليست رفاهية فكرية، بل هي ضرورة ملحّة تفرضها مسؤولية صَون الدين وحماية المجتمع في زمن تتسارع فيه المتغيرات. وإذا لم يبادر الفقهاء والمؤسسات العلمية إلى تطوير مناهج التكوين الفقهي بما يتلاءم مع هذه التحولات، فإن فجوة الوعي بين النصوص الشرعية والواقع الرقمي ستتسع، وقد يملأها غير المؤهلين بفتاوى تفتقر إلى العمق والدقة.

لقد آن الأوان لأن ننظر إلى الفتوى بوصفها عملية مركبة، تتطلب عقلاً فقهياً مهندساً، قادراً على الربط بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وعلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي لا كخطر يهدد الدين، بل كأداة يمكن توظيفها لخدمة المقاصد الشرعية، وتيسير حياة الناس، وحماية القيم الإنسانية الجامعة.

إن التحدي الذي يواجهنا اليوم هو نفسه الفرصة التي يمكن أن تَصنع غداً أفضل، إذا ما أعددنا العقلَ الفقهي إعداداً يؤهله للقيادة في زمن الذكاء الاصطناعي.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 أغسطس 2025 23:45

 

هل تعود الحرب الأهلية قريباً إلى العالم الغربي؟ هذا ما يتوقعه دفيد بتز، أستاذ العلوم الدفاعية في الجامعة البريطانية، في مقال أخير في «المجلة الاستراتيجية العسكرية» (ربيع 2025). ووفق مقاربة بتز، تتجاوز نسبة هذا الاحتمال 90 بالمائة في كبريات الدول الغربية، بما فيها البلدان الرئيسية في غرب أوروبا. وليس الخطر الاستراتيجي خارجياً، بل هو داخلي بالأساس، ومن عوامله الرئيسية: التفكك الثقافي، والتراجع الاقتصادي، والقطيعة المتنامية بين النخب والشعوب، وانهيار البنيات التحتية.. إلخ. وحسب بتز، سيأخذ هذا السيناريو شكل التصادم الحضري الريفي، والانقسامات الاجتماعية الثقافية الحادة، والحرب الرقمية الإلكترونية.

وقد دخلت بعض الأحياء في كبريات المدن الغربية في هذا المسار فعلاً، فغدت مدار صراع صامت حول الهوية والانتماء والمصالح الحيوية، مما ينذر بفتنة عارمة. لن تبدأ هذه الحرب الأهلية على شكل انقلاب عسكري أو معركة حاسمة، بل من خلال انهيار تدريجي يفضي إلى حدث حاسم تنطلق معه المواجهة الجذرية.

ومن سمات هذا الانهيار تآكل الجسم الاجتماعي، وتزايد المناطق الخارجة عن دائرة السلطة ونطاق القانون، وضعف المؤسسات الأمنية والقضائية، وتردي البنيات الاقتصادية. ويمكن أن تحدث هذه الحرب الأهلية عن طريق أزمة اقتصادية حادة، أو عملية إرهابية عنيفة، أو خطأ أمني فادح، أو مشكل ما بعد انتخابي.. إلخ، وهي أحداث كثيرة الوقوع في السنوات الأخيرة.

والحرب الأهلية التي يتحدث عنها «بتز» هنا هي الأفق الذي كرست معه الحداثةُ السياسية القطيعةَ الصارمة. وفي كتابه «ستازيس» (عبارة يونانية تعني الفتنة الداخلية)، يبيّن الفيلسوفُ الإيطالي جورجيو أغامبن أن منطق الحرب الأهلية لا يزال حياً نشطاً في الحياة السياسية للمجتمعات الغربية المعاصرة، رغم المرجعية القانونية المؤسِّسة لنمط الشرعية السياسية القائم فيها.

 والحرب الأهلية، كما يتصورها أغامبن، تأخذ شكلَ سلطة الاستثناء الدائم الذي أصبح هو المعيار التشريعي المعتمد في البنيات القانونية والإدارية للدولة الحديثة. وفي هذا السياق، تلاشت الحدود بين الداخل والخارج والحرب والسلم، فغدت آليات الرقابة والضبط وعسكرة المجال العمومي من الميكانيزمات العادية للسلطة السياسية. وتلك سمات حرب أهلية صامتة تستهدف الوجود البيولوجي للبشر، وتعرِّض مجموعاتٍ متزايدةً منهم للملاحقة والرقابة (من المهاجرين إلى المنشقين والأقليات وضحايا الأوبئة والجوائح.. إلخ).

إنها حرب أهلية عالمية، تعيش في ظلها مختلفُ المجتمعات صراعاتٍ داخليةً مستمرةً، حيث يكون العدو هو المواطن ابن البلد نفسه وليس الدولة الأجنبية.

الفرق الأساسي بين أطروحة «بتز» ونظرية «أغامبن» هو أن الباحث الاستراتيجي البريطاني يوجه النظرَ إلى ظواهر التصدع والتفكك المتزايدة في المجتمعات الغربية، التي تعيش أوجهاً مختلفةً مِن الصراع الداخلي المتولِّد عن عجز الدولة المركزية عن احتواء الانشقاقات الناتجة عن عوامل التطور الذاتي والانفتاح الخارجي، بينما يركز أغامبن على تركيبة الدولة ذاتها من حيث مقوماتها القانونية والسياسية في تدبيرها للمجال العمومي وعلاقات مواطنيها في ما بينهم.

في الحالة الثانية، نلمس بعضَ المحددات النوعية المتعلقة بطبيعة الدولة الليبرالية الحديثة التي قامت على منطق الفصل بين الاعتبارات المعيارية الجوهرية والأدوات الإجرائية التنظيمية التي هي مجال الحوكمة القانونية والإدارية، وفي الحالة الأولى تَظهر المعطياتُ الراهنة التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة السيادية والعودة إلى وضعية «حرب الكل ضد الكل» التي تحدث عنها توماس هوبز.

ولئن كان الفيلسوف القانوني الألماني كارل شميت قد نبّه في منتصف القرن الماضي إلى أن منطق الدولة الليبرالية الحديثة يفضي ضرورةً إلى نمط جديد من الحرب أطلق عليه مقولة «الحرب الكلية»، فإن المفكر الفرنسي ميشال سر تحدث عن ما سماه ظاهرة «التاناتوقراطية» التي هي حصيلة اقتران العلوم والتقنيات والسياسة المؤدي إلى تكريس مخاطر الموت على نطاق واسع. وبالنسبة له، ليست الحرب حدثاً عارضاً أو احتمالاً نظرياً، بل هي نتيجة حتمية للاستخدام الممكن للأدوات التي أبدعتها الحداثةُ التقنية والسياسية. فعبر التقنيات الراهنة، أصبحت الإنسانية لأول مرة في وضع يخول لها أن تقوض التوازنات الطبيعية والاجتماعية الضابطة سابقاً للسلم الأهلي والمدني، بما ينعكس راهناً في الأزمات المناخية والصحية والأمنية التي تعصف بالدول الكبرى، من حيث كونها ستعرف أوضاعاً من الفتنة الداخلية لا تختلف في شيء عن الحروب الأهلية الفظيعة التي تشهدها بلدان عالم الجنوب الفقيرة.

ليست هذه الأفكار من شطحات الفلاسفة أو تشاؤم الباحثين الاستراتيجيين، بل إن بعض الزعامات السياسية الحالية، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمفكر الفرنسي جاك أتالي، نبّهت إلى جدية هذا الاحتمال الذي له مؤشراته الكثيرة في الواقع الراهن.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 أغسطس 2025 23:45

في النصف الأخير من القرن العشرين راجت أحاديث النهايات. نهاية الجغرافيا، ونهاية الإنسان، ونهاية الفلسفة، وهذه النهاية تحديداً أي نهاية الفلسفة هي ما سأشرحه بهذه المقالة.

كتب الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر كتابه بعنوان: «نهاية الفلسفة ومهمة التفكير» عام 1964. أسس لفكرته بتبريريْن اثنيْن، أولهما: أن الفلسفة قد بلغت ذروتها ولم تعد قادرة على تقديم المزيد من الإجابات حول الوجود.  ثانيهما: أن الفلسفة قد بلغت وهجها مع اليونانيين، وانتهت مع هيغل، وبالتالي لم يبق إلا «التفكير التأملي العميق»، وهذا الشطر الثاني من عنوان كتابه.

من بعده هرع الفلاسفة وبخاصةٍ الفرنسيين منهم بغية تحويل هذه الفكرة إلى نقطة تحوّل، ومن هنا بدأت أفكار فلاسفة الاختلاف الذين وجدوا في مفهوم «التقويض-Destruktion» أساساً لبناء مشاريعهم المتمايزة، ولكن الأرضية التي انطلقوا منها واحدة، صحيح أن نيتشه أثر عليهم ولكن تأثير هيدغر كان أكثر عمقاً، وأخصّ بذلك «جاك دريدا»، و«ميشيل فوكو»، و«جيل دلوز». لقد نزعوا عن الفلسفة هالتها. اعتبروها ساحة تمرين على فهم الأشياء كما في عنوان كتاب فوكو «الأشياء والكلمات»، وهو أهم كتبه. بينما جيل دلوز تساءل في كتابٍ مشترك مع فليكس غيتاري «ماهي الفلسفة» ثم أجاب: «هي صناعة المفاهيم».

 هذا الجوّ العام حول نهاية الفلسفة بالتأكيد خلق نظرياتٍ مؤثرة، ولكن الفلسفة خاتلتهم. ومجرد اشتغالهم بفكرة نهاية الفلسفة بطريقةٍ فلسفية يعني أن الفلسفة لم تنتهِ.

وظيفة الفلسفة باقيةٌ لأنها ساحة حربٍ نظريةٍ دائمة، كما يعبر الفيلسوف لويس ألتوسير في كتابه: «تأهيل الفلسفة للذين هم ليسوا بفلاسفة»، حيث كتب: «بالفعل ينبغي تَصوُّر الفلسفة، أي مجموع الفلسفات على اختلافها في كلّ حقبة، على أنّها ساحة حرب نظريّة. وكان كانط يطلق على الفلسفة السابقة، «فلسفة ما وراء الطبيعة» (الميتافيزيقا)، التسمية المذكورة تحديداً، (والتعبير له)، «ساحة حرب» (Kampfplatz)، كونه كان يطمح إلى تعميم «السلام الدائم» الذي تؤمّنه سيطرة الفلسفة النقديّة، (عن طريق تحقيق انتصار فلسفته هو دون سواها، ونزع سلاح الفلسفات الأخرى كافّة). ويقول: «ينبغي أن نضيف: إنّها ساحة حرب وَعِرة التضاريس، احتفرتها خنادق المعارك القديمة، وانتشرت فيها التحصينات الشائكة المهجورة التي احتُلَّت وتَكرَّر احتلالها، ساحة حرب حملت من الأسماء ما يحيي ذكرى المعارك التي تميّزت بشراستها، وتبقى عُرضة لانبعاث كتائب منبثقة من الماضي مجدَّداً، وملتحقة بالقوّات الجديدة التي تتقدّم».

الخلاصة، أن فكرة نهاية الفلسفة هي جزء من حيويّة المسار الفلسفي الدائم. إنها ليست مثل النهايات التي تتعلق بالاستراتيجيات أو الجغرافيا. الفلسفة فضاءٌ ممتد وله تحوّلاته وإرثه، وآية ذلك أن مقولات النهايات انتهت، وبقيت الفلسفة فعّالة ومفاهيمها مؤثرة على السياسات والعلوم بل وحتى على المستجدّات. الفلسفة بطبيعتها فضولية وهي الآن تتدخّل في موضوعاتٍ طبيّة وفنيّة وتقنيّة وآخرها صرعة الذكاء الاصطناعي الخارقة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يوليو 2025 23:45

في لحظاتِ الأزماتِ الكبرى، يتعلّقُ النَّاسُ بقشةٍ فكرية، يظنُّونَ أنَّها طوقُ نجاة، ويبدو أنَّ القشة التي تلوكها الألسنة هذه الأيام هي القول إنَّ العالم العربي ضحية الآيديولوجيا، وإن السبيل إلى الخلاص تكمن في التخلّي عن الأفكار الكبرى التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. غير أنَّ هذه مقولة زائفة، تستحق التمحيص الجاد. فالحقيقة أن العالم العربي، خلال مئة سنة ماضية، لم يُنتج آيديولوجيا واحدة متماسكة تفسّر عالمه، أو توضّح علاقة الفرد بمجتمعه، أو تربط النفس بالكون والدولة بالعالم. ما وُضع على واجهات الفكر كان إما مستورداً مشوّهاً، أو محاولات محلية سطحية، أو تلفيقات فكرية ادّعت الأصالة ولم تملكها.

إن ما نحتاج إلى التأكيد عليه هو أننا لم نكن يوماً ضحايا وفرة في الآيديولوجيا، بل كنا دائماً ضحايا غيابها. ضحايا فقدان الأفكار الكبرى، وضياع السرديات الجامعة التي تفسّر موقع الإنسان من الدولة والمجتمع. هذا المقال محاولة لتفكيك هذه الأكذوبة المتداولة، والتي باتت أشبه بحليّ «الفالصو» أو بالبضائع المقلّدة، كما يقول أصحاب العلامات التجارية الأصلية. وقد آن للأنظمة والدول أن تغلق شارع «الفالصو»، تماماً كما فعلت بلدية شنغهاي حين أغلقت سوق البضائع المقلّدة خلف فندق «الريتز».

أحد أبرز تجليات الزيف في العالم العربي هو تكرار مقولة إننا ضحايا الآيديولوجيا، مع أن الواقع يثبت أننا لم نعرف يوماً آيديولوجيا حقيقية حتى نُبتلى بها. ما عشناه قرناً من الزمان لم يكن صراع أفكار، بل هروب متواصل من إنتاجها. نعم، كانت هناك محاولات فكرية جادة، لكنها لم تُنتج نظرية كبرى. فعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري قدّما قراءة نقدية للتراث دون قطيعة أو تمجيد. وطه حسين، في كتابيه «في الشعر الجاهلي» و«مستقبل الثقافة في مصر»، وجّه نقداً للقومية المغلقة، ودعا إلى الانفتاح على المتوسط. وفهمي جدعان، في كتابه «المحنة»، مارس نقداً سياسياً ودينياً عميقاً. وحسن حنفي، في مشروعه عن «اليسار الإسلامي»، أعاد قراءة التراث كواقع تاريخي وظيفي. وهشام شرابي وفاطمة المرنيسي قاما بتفكيك البنى الأبوية السائدة... لكن كل هذه المشاريع، رغم قيمتها النقدية، لم تُنتج آيديولوجيا بالمعنى التفسيري الواسع.

ربما الاستثناء الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه هو كتاب جمال حمدان «عبقرية المكان» الذي يُعدّ أقرب ما يكون إلى تأسيس سردية مصرية خاصة، مستلهماً من فكرة «عبقرية المكان» (Genius Loci) التي هيمنت على الفكر الألماني، وظهرت بوضوح في كتابات هايدغر. ومع ذلك، لم يتحوّل هذا المشروع إلى نظرية سياسية واجتماعية شاملة.

ولذلك، فإنَّ الادّعاء بأن وفرة الآيديولوجيات هي ما أدى إلى انهيار الدول العربية، لا يصمد أمام اختبار التاريخ. انهيار الدولة في ليبيا واليمن وسوريا والصومال لم يكن نتيجة صراعات فكرية، بل بسبب غياب الرؤية الجامعة، والعجز عن إدارة التنوّع المجتمعي، وافتقار هذه الدول إلى آيديولوجيا توحّدها وتُضفي المشروعية على مؤسساتها.

والسؤال: ما الآيديولوجيا أصلاً؟ ببساطة، هي رؤية للعالم، تربط الفرد بجماعته، والمجتمع بدولته، والدولة بتاريخها ومستقبلها. هي النظام الرمزي الذي يفسّر لماذا نرى حكماً ما مشروعاً ونقبله، وآخر غير مشروع فنثور عليه. في الفكر الغربي الحديث، من ماركس إلى غرامشي، ومن ماكس فيبر إلى مدرسة فرانكفورت، كانت الآيديولوجيا شرطاً من شروط وجود السياسة؛ فلا دولة من دون سردية تبررها، ولا مجتمع من دون حلم مشترك يؤطره. حتى عند «الفلاسفة العرب» الكبار، من الفارابي إلى الكندي وابن رشد، نجد محاولات لبناء تصورات عن المدينة الفاضلة والحكمة السياسية، يمكن اعتبارها مشاريع آيديولوجية ضمن سياقاتها التاريخية، رغم أنهم لم يستخدموا هذا المصطلح.

أما في واقعنا الحديث، فقد تكرّست التشوّهات نتيجة غياب الفهم، وضعف التعليم، وهيمنة المجالس العامة على الثقافة السمعية. لهذا السبب ظنّ البعض أن عبد الناصر أو صدام حسين مثلاً كانا يمثّلان آيديولوجيا، في حين أنهما في الحقيقة كانا يمثّلان زعامة سلطوية فردية، لا تملك أي نظام إداري أو دستوري. لم تكن هناك أفكار ولا مشاريع، بل تكرار سلطوي جعل من أوهام الحكم سردية وطنية. وهذه ليست آيديولوجيا، بل زعامة بدائية أشبه بزعامات القبائل في المجتمعات التقليدية.

وفيما يخصّ التيارات الكبرى التي شغلتنا مثل الماركسية العربية أو الإسلام السياسي، فالأولى كانت استنساخاً هزيلاً لمقولات لا تناسب بيئتنا، كما ناقش عبد الله العروي مبكراً، وبيّن كيف أنها فشلت لأنها شتلة مستوردة غير قابلة للنمو في تربتنا. ماركسيتنا استخدمت أدوات تحليل طبقي في واقع لا طبقات فيه، ولا صناعة، ولا بروليتاريا. كانت ترجمة دون مشروع. أما الإسلام السياسي، الذي قُدّس في العصر الحديث، فقد بدأ واعداً، لكنه عجز عن تقديم نظرية سياسية حديثة. نصر حامد أبو زيد شرح هذا القصور الفكري بدقة، كما فعلت من قبله فاطمة المرنيسي التي رأت استحالة التقاء الفكر السلطاني مع مفهوم حديث للمواطنة.

الخلاصة أنه لم تكن لدينا آيديولوجيات لنتحدث عن فشلها أو عن أعبائها، بل نحن أمام فراغ فكري، سببه الأساسي عجز معرفي عميق. عجز في المؤسسات التعليمية، وفي الحريات العامة، وفي القدرة على إنتاج الأفكار. نحن بلا كتاب، وبلا معلم، وبلا مدرسة. نعيش عالماً بلا سردية، في زمن بلا مشروع أو مشاريع فكرية واضحة، أو بيئة قادرة على إنتاج أفكار محلية باسقة كنخيل البلدان.

***

مأمون فندي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الاثنين - 17 صفَر 1447 هـ - 11 أغسطس 2025 م

 

عوائق أمام استيعاب بعض مصطلحاته المحورية

في زمن تتكاثر فيه الفلسفات وتتعدد فيه القراءات لها، يظلّ اسم هيغل قائماً كقمة فكرية يصعب تجاوزها. فلسفته، التي شكّلت منعطفاً في تاريخ الفكر الغربي، لا تزال حتى اليوم تُثير الجدل وتُلهم وتُربك في آنٍ واحد. فمن جهة، يراه البعض ذروة الميتافيزيقا العقلانية، ومن جهة أخرى، يعتبر آخر الفلاسفة الذين سعوا لبناء نسق كلي للواقع. غير أنّ العودة إلى هيغل ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة لكل من يسعى إلى فهم تطوّر المفاهيم الكبرى مثل الحرية والتاريخ والذات والدولة والفن والدين ضمن بنية عقلانية متماسكة. لكن هذه العودة ليست سهلة، ففلسفة هيغل معقّدة من حيث اللغة والبنية، وتُثير حيرة حتى لدى القارئ المتقدّم.

من أبرز العوائق التي يواجهها المهتمون بفكره، هو صعوبة استيعاب بعض مصطلحاته المحورية التي تتكرر باستمرار، وتؤسّس لحركته الجدلية الكلية. فمصطلحات مثل «الروح»، و«الذات»، و«العقل»، لا تُستخدم عند هيغل بمعناها المألوف، بل تُعاد صياغتها داخل نسق خاص به، يجعل كل واحدة منها نقطة في مسار تطوّر الفكر نحو وعيه بذاته. ولهذا السبب اخترنا في هذا المقال أن نقف عند هذه المصطلحات الثلاثة تحديداً، لا لأنها الأكثر وروداً فحسب، بل لأنها تمثّل المفاتيح الجوهرية لفهم هيغل، وتشكل بنيته المفهومية العميقة التي يدور حولها مشروعه الفلسفي كله.

فالروح عند هيغل هي المفهوم الأوسع والأعمق، وهي ليست شيئاً خفياً أو دينياً بالمعنى التقليدي، بل هي الفكر حين يصير حيّاً، متعيّناً، مجسّداً في العالم، في الأخلاق، في القانون، في الدولة، في الدين، وفي الفلسفة. إنها حركة الفكر التي لا تبقى في الوعي الفردي، بل تتجسّد في التاريخ، وتظهر على ثلاث مراحل: الروح الفردية، وهي وعي الإنسان لذاته؛ والروح الموضوعية، وهي تحقق الفكر في المؤسسات الاجتماعية كالدولة والقانون؛ والروح المطلقة، وهي ذروة تطوّر الوعي، حيث يفهم الفكر ذاته بشكل صريح من خلال الفن والدين والفلسفة.

حين نعيش في دولة عادلة تقوم على القانون وتحترم حرية الأفراد، فذلك ليس مجرد وضع قانوني، بل هو تجلٍّ للروح التي اتخذت شكلاً مؤسسياً يُعبّر عن تطوّر الوعي الجمعي، تماماً كما أن الفن الرومانسي الأوروبي لم يكن مجرد تعبيرات فردية، بل كان تجلياً للروح الجمالية لعصر كامل. وانظر إلى إيطاليا، كيف تجسدت روحها في الفنون الجميلة، أكثر من تجسدها في الفكر. هناك بلاد أخرى تجسدت روحها في الدين بصورة أكبر، وهناك بلاد تجسدت روحها في الفكر والفلسفة أكثر مما نرى هذه الروح في الفنون.

أما الذات فهي ليست جوهراً ثابتاً كما تقرر الفلسفات القديمة، بل هي نتيجة لحركة جدلية. فهي الكائن الذي يُنتج ذاته عبر التجربة والنفي والعودة إلى الذات. الوعي لا يُعطى منذ البداية، بل يُكتسب ويتطور، والذات تبدأ بوصفها وعياً بسيطاً، ثم تصبح وعياً بالذات، أي ذاتاً تعرف ذاتها، ثم تتجاوز ذاتها لتندمج في الكل فتشارك في تشكيل الروح. مثال على ذلك نجده في صورة طالب جامعي يُدرك أنه «أنا» ويفكر في اختياراته وأفكاره، يعيش الذاتية، لكنه حين يدخل في المجتمع، ويتفاعل مع تاريخه ومؤسساته، فهو ينقل هذا الوعي إلى مرحلة الروح. وكذلك المؤمن حين يُفكّر في الله بوصفه يسمعه، فإنه يُمارس وعي الذات، لكنه إذا بدأ يرى الدين بوصفه ظاهرة تاريخية لها تطوّر ومعنى جمعي، يكون قد بدأ مسار تجاوزه نحو الروح.

وأما العقل، فليس عند هيغل العقل الأداتي أو الحسابي الذي نعرفه، بل هو القدرة على فهم الواقع من داخله، لا كفوضى، بل كنظام متماسك يتضمن التناقضات ويوحّدها. العقل يرى الترابط في كل شيء، ويفهم أن كل ظاهرة ليست منفصلة، بل مترابطة بتاريخها وسياقها. العقل يُقابل الفهم الذي يُجزئ ويُجرد، بينما هو يربط ويوحّد ويُظهر الضرورة. العقل هو ما يُمكّننا من أن نرى في التاريخ منطقاً داخلياً، وفي الصراع الأخلاقي بنيةً عقلانية، وفي الفن بنيةً رمزية تُعبر عن الوعي الجمعي. إن هيغل فيلسوف يبني نسقاً منطقياً يُظهر كيف أن الوجود يتحقّق عبر الصيرورة والتغير الذي لا يتوقف، وأن الحرية تنشأ من الضرورة. إنه يمارس فعل العقل. وكذلك من يُدرك في الفن بنية تتجاوز التعبير الفردي، أو في الدين تجربة جماعية لها تطوّر رمزي. بهذا المعنى، فإن الذات هي نقطة الانطلاق، والعقل هو أداة الفهم، والروح هي الذروة التي يتجلى فيها الفكر في العالم. الذات تُنتج وعيها عبر النفي والتجربة، والعقل يربط بين الأشياء ويفهم الضرورة في التناقض، والروح تُعبّر عن تحقق الفكر في التاريخ والثقافة والمؤسسات. هيغل لا يُقدّم هذه المفاهيم كتعريفات جامدة، بل كحركات فكرية حيّة تتداخل وتتكامل في سياق جدلي، لا يمكن اختزاله أو تجزئته، بل يُفهم كتطوّر شامل للوعي، من ذاته، بعقله، ليصير روحاً. في نهاية المطاف، لا يمكن فهم فلسفة هيغل من دون التوقف عند هذه المفاهيم الثلاثة: الذات، والعقل، والروح، التي تشكّل العصب الحي لنظامه الفكري. فهي ليست مصطلحات نظرية فحسب، بل حركات وجودية تتكامل داخل مسار الوعي. فالذات تبدأ، والعقل يربط، والروح تُحقّق. ومن خلال هذا التداخل الجدلي، يكشف هيغل عن منطق التاريخ ومعنى الحرية وتجلّي الفكر في العالم. وهكذا تصبح العودة إليه عودة إلى التفكير ذاته.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:  18:16-3 أغسطس 2025 م ـ 09 صفَر 1447 هـ

دفيد غودهارت فيلسوف بريطاني بارز، غدا له صيتٌ إعلامي واسع، وقد أصدر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «معضلة الرعاية»، يتناول فيه أثر السياسات الاجتماعية القائمة على المساواة بين الجنسين على وضعية الأسرة ومستقبل الخصوبة والإنجاب في المجتمعات الغربية الراهنة. لا ينفي غودهارت المكاسبَ الكبرى لسياسة المساواة الجندرية، من قبيل استقلالية المرأة القانونية والتربوية الاقتصادية، ونفاذها لسوق العمل، بما لهذه النتائج من آثار إيجابية على المجتمع بكامله، لكنه ينبه إلى بعض الآثار السلبية للراديكالية النسوية التي يميزها عن المطالب الحقوقية للمرأة.

ومن بين هذه الآثار النظرة السلبية للمحيط الأسري المستقر، وتثبيت نظرية الدخل الأسري المزدوج أفقاً أوحدَ للاقتصاد المنزلي، وتكريس النزعة الفردية المتطرفة المفضية إلى تدمير النسيج الاجتماعي وتفكيك البنيات التضامنية الطبيعية وتراجع نسب الإنجاب في البلدان الصناعية المتقدمة إلى حد النمو السالب في جل هذه الدول بما يعرض مستقبلَها للخطر الحقيقي. ما يميز غودهارت هو كونه لا يصدر في أفكاره عن توجه محافظ دينياً أو فلسفياً، بل يدافع عن قيم الحرية والتنوير والاستحقاق، لكنه يرى أن سياسات الرعاية الاجتماعية التي هي محور النظم العمومية في البلدان الغربية المتطورة أدت إلى اختلالات عميقة في بنية الأسرة والعلاقات بين الأفراد.

وفي هذا السياق، يكشف عن التصادم القائم حالياً بين مَن يسميهم «دعاة المساواة في العناية» الذين يرون أن مواقع الرجال والنساء قابلة للتبادل دون إشكال، فلا فرق نوعياً بين الجنسين، و«دعاة التوازن في العناية» الذين يؤمنون بفكرة المساواة لكنهم قلقون من تدهور وعدم استقرار الحياة الأسرية.

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أطروحة غودهارت تندرج في نطاق المراجعات الفلسفية الراهنة لمسار الحداثة والتنوير، والتي تقوم على مراجعة عميقة لمثال التقدم التاريخي من حيث كونه ليس مرجعيةً معياريةً كافيةً لتقويم المجتمعات وضبطها. هذه المراجعات ليست في ذاتها جديدة، بل يمكن إرجاعها إلى عصور الأنوار نفسها (لدى جان جاك روسو خصوصاً)، كما أنها برزت بقوة في النصف الأول من القرن العشرين في إطار مواجهة التيارات التسلطية النازية والستالينية (الظاهرة التوتاليتارية بلغة حنة ارندت).

لكن ما يميز النقديات الحديثة هو العودة إلى النقاش الجوهري حول الهوية الطبيعية للإنسان والتصورات البنائية للجسم الاجتماعي التي هي الخلفية العميقة لسياسات الاستقلالية والتحرر لدى العقل الليبرالي الحديث. ما فرض هذا النقاش الراهن هو الآثار المحورية للثورة التقنية الحيوية الكبرى التي عرفتها الإنسانية راهناً، في اتجاهين متلازمين هما من جهة انمحاء الحدود الراسخة بين الطبيعة والثقافة أو بين الآلة والإنسان، ومن جهة أخرى انهيار الحواجز بين المحلية الخصوصية والكونية المعولمة.

لقد كان من تأثير هذه التحولات إعادة طرح المسألة الجندرية، لا في أفق المساواة الحقوقية الذي هو مكسب ثابت من مكاسب الحداثة، ولكن من منظور الأمن الاجتماعي والاستقرار المدني. فعندما وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لدى مستهلِّ ولايته الرئاسية الثانية القرارَ التنفيذيَّ الشهيرَ الذي يحمل عنوان «الدفاع عن المرأة من التطرف الأيديولوجي بين الجنسين وإعادة الحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الفيدرالية»، لم يكن مذعناً للوبي الديني المحافظ الذي دعمه في الانتخابات، وإنما كان يَصدر عن الجدل المحتدم في بلاده بين موجة «اليقظة» التي قوضت كل التمييزات الطبيعية والموضوعية في الجسم الاجتماعي والحركة الحداثية التقليدية التي تعتبر أن مثل التغير والتحول لا بد أن يلتزما سقفاً معيارياً تحدده القيم الإنسانية الثابتة.

ومن هنا نستكشف الفرقَ بين الحركة النسوية الراديكالية التي اعتبرت أن التمييز بين الأجناس ليس سوى تركة ثقافية لا تقوم على محددات طبيعية، والنسوية الحقوقية التي تركز على قيم التكامل والتضامن داخل النظام الأسري. ما ترفضه النسوية الحقوقية في حركيتها الراهنة هو التضحية بمفهوم الأسرة من أجل المساواة الجندرية، بما ينعكس سلباً على وضعية المرأة ذاتها من حيث هي محور الخلية الأسرية التي هي مرتكز الاستقرار الاجتماعي.

لقد أصبح اليوم من العصي الجمع داخل المنظومة القانونية، للعديد من الدول الصناعية، بين حقوق المرأة وحقوق الطفل، بما يشكل ثغرةً خطيرة في البناء التشريعي والمعياري الراهن. الأمر هنا يتعلق بجدل لا يمكن أن يحسمه القانونيون والساسة، بل يتعين فيه الرجوع إلى القواعد القيمية العميقة للمجتمعات التي هي مستودع الذاكرة الإنسانية الطويلة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

10 أغسطس 2025 23:45

ما رأي القارئ الكريم لو أننا جعلنا عنوان هذه المقالة على صيغة سؤال فقلنا: هل الإنسان فعلاً كائن عاقل؟، خاصة أن لهذا السؤال ما يبرره على صعيد الفكر النظري.

تعددت تعريفات الإنسان، منذ أن بدأ سقراط يهتم بتحديد ماهيات الأشياء، وقد ورث أرسطو هذا المنزع، وعندما أراد أن يحدد ماهية الإنسان، جعل هذه الماهية نطقاً، فكان تعريفه الشهير «الإنسان حيوان ناطق»، تعريفاً بالجنس والفصل، على أساس أن الحيوانية جنس الإنسان، والنّطق هو ذلك الفصل الذي يفصله عن دائرة الحيوانية العجماء، فاعتبر أرسطو النّطق جوهر الكائن البشري. وقد نُظِرَ إلى النّطق من جهتين، جهة داخلية تختص بالتّفكير الذي ليس هو سوى حديث المرء مع نفسه، وجهة خارجية تختص بالكلام، باعتباره المعاني التي جاءت على ترتيب الملفوظات، والتي يريد المرسِل إيصالَها إلى مخاطَبه. وقد ظل هذا التعريف علَماً فلسفياً على هذا الكائن الفريد، حتى أننا وجدنا ديكارت يشرع أبواب العصر الحديث بـ«الأنا المفكر»، الدّال على الهوية الحقيقة للوجود الإنساني، فأصبح الكوجيطو دالاً على الماهية الحقيقة للإنسان، إذ لا وجود حقيقي للإنسان إلا من خلال التفكير فـ «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وقد اعتبر ديكارت العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي، ووضع له قواعد تنظم مناهج نظره، حرصاً منه على تسديد العقل وتحريكاً له نحو التّفكير الصّحيح.

وعندما جاء باسكال وتأمّل الإنسان، كان مما قاله: «أستطيع أن أتصور إنساناً بلا يد، ولا رأس، لكني لا أستطيع تصور الرجل ولا فكر له، فهو عندئذ حجر أو جماد»، وعندما تساءل: ما الإنسان؟، لم يجده سوى «قصبة مفكرة»، فالإنسان من حيث جسمه هو كالقصبة سريع السّحق، وأهون شيء يمكن أن يميته، «لكن الإنسان وإن سحَقه الكون، كما يقول باسكال، فهو لا يبرح أعظم قدراً مما يقتله، لأنه يعرف أنه يموت». إن قدر الإنسان عند باسكال في الفكر، ومن هنا يدعو، متّبعاً أستاذَه ديكارت، إلى العمل على حسن التفكير، إذ «كل قدر الرجل في فكره، والفكر إذن شيء عجيب لا يضاهَى من حيث طبيعته». كما يقول باسكال في خواطره.

وينتقد كلود ليفي ستروس هذا المنحى بانتقاده النّزعةَ الإنسانية التي حدّدت الإنسان في إطار ضيق جداً، في نظره، حين اعتبرته «كائناً مفكراً»، واعتبرته المصدرَ والمرجعَ لكل شيء، ويرى أن ما حصل في القرن العشرين من حروب طاحنة، بفظاعاتها الكبرى، ليس سوى نتيجة لأخطاء النّزعة الإنسانية، وريثة عصر الأنوار، في «تأليه العقل»، داعياً إلى تعريف الإنسان تعريفاً جديداً يُرى فيه «كائناً على قيد الحياة»، دفاعاً منه عن كل أشكال الحياة والمجتمعات الإنسانية.

حقاً، لم يكن تعريف الإنسان بأنه كائن مفكر هو التّعريف الوحيد للإنسان، فقد وجدنا مَن يعرِّفه «حيواناً سياسياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينظم حقلَه السياسي، ووجدنا مَن يعرفه «كائناً أخلاقياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينطلق من مبادئ أكسيولوجية ينظم بها سلوكَه الفردي والجماعي. ووجدنا مَن يعرفه «كائناً تاريخياً» على أساس أنه الوحيد الذي ينقل خبراته إلى الأجيال. لكن الرّجة التي سوف يحدِثها كلٌّ مِن شوبنهور بـ «إرادة الحياة»، وفرويد بـ «اللاشعور»، وداروين بـ«نظرية التطور»، سوف تعيد النظرَ في ماهية الإنسان بشكل يكاد يكون جذرياً، وسيترتب عن ذلك ظهورُ فلسفات جديدة ونظريات أخلاقية تُنظِّر لهذه الرجّة العلمية التي حدثت في الاقتصاد والبيولوجيا والتحليل النفسي. وما نراه اليوم من تغيرات في مجال الأكسيولوجيا ليس إلا نتيجةً لهذه الرجّة الكبرى في النّظر إلى الإنسان.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 أغسطس 2025 01:02

العالم الهولندي يرى أن الوعي هو الأساس الجوهري للواقع وليس المادة

في زمنٍ يكاد يهيمن المنهج المادي على الخطاب العلمي والفلسفي، يظهر صوتٌ مغاير، يجادل بأن الوعي هو الأساس الجوهري للواقع، وأن العالم المادي ينبثق من الوعي، وليس العكس. هذا الصوت هو برناردو كاستروب، الفيلسوف والعالم الهولندي الذي يدافع عن مدرسة فلسفية جديدة أسماها «المثالية التحليلية» تطرح فكرة جذرية قديمة-جديدة؛ الواقع ليس مادياً، بل عقلي في جوهره.

ولد كاستروب في نيتيروي بالبرازيل عام 1974، لكنه يحمل الجنسية الهولندية. وحصل على دكتوراه في الهندسة الحاسوبية من جامعة أيندهوفن، حيث ركز بحثه على الذكاء الاصطناعي والحوسبة القابلة لإعادة التكوين. ثم نال دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة رادبود، تناولت أطروحته فيها الأنطولوجيا وفلسفة العقل.

بدأ مسيرته المهنية في مؤسسات علمية رفيعة مثل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية بجنيف (CERN)، وبرز كعالم بارع في مجال النمذجة الحاسوبية. لكن اهتمامه لم يبقَ حبيس المختبرات وأروقة الأكاديميا. إذ شيئاً فشيئاً، أخذه عمله نحو الأسئلة الوجودية الكبرى؛ ما هو الوعي؟ ما هي المادة؟ هل يعكس العلم الواقع كما هو، أم هو مجرد تمثيل له؟ أسئلة دفعته إلى كسر الحدود بين العلوم النظريّة والفلسفة، وإطلاق مشروع فكري متكامل ونقد لاذع للفلسفة الماديّة، نشر في سياقه عشرات الكتب، والمقالات، ومقاطع الفيديو والبودكاست التي تشرح أفكاره للجمهور العريض.

مثالية كاستروب التحليلية تمثل في هذه اللحظة أعتى نقد موجه للفلسفة المادية التي تزعم أن العالم مكوّن من مادة فقط، وأن الوعي ظاهرة ثانوية ناتجة عن تفاعلات مادية في الدماغ. وفي كتبه مثل «لماذا المادية محض هراء؟» و«فكرة العالم»، يقدّم ما يسميه نظرية نقيضة تجعل الوعي أساس الوجود، وأن العالم المادي ليس إلا تمظهراً لهذا الوعي.

يستشهد كاستروب بما يُعرف في دنيا الفلسفة بـ«المشكلة المعقدة للوعي»، كما صاغها الفيلسوف ديفيد تشالمرز في مقالته الشهيرة بذات العنوان، التي تطرح سؤالاً تأسيسياً حرجاً؛ كيف يمكن للصفات الفيزيائية أن تشرح الخبرات الذاتية؟ كيف تفسر الكتلة أو الزخم أو التسارع مسائل مثل الإحساس بالحب، أو الخوف، حتى مذاق الفراولة؟ وجهة نظره؛ لا يمكنها ذلك، ولن يمكنها أبداً.

من هنا، يرى أن العقل لا يمكن أن يكون نتيجة للمادة، بل العكس؛ المادة هي مجرد شكل يظهر فيه العقل حين يُنظر إليه من الخارج. وكما أن الدموع على وجه الحزين لا تختزل الحزن ذاته، فإن الكون المادي لا يعكس جوهر الواقع، بل هو تمثيله الخارجي فقط.

ويقول كاستروب إن المادة، كما تفهمها الفيزياء الحديثة، لا تملك واقعية قائمة بذاتها. فهي تتحلل في النهاية إلى «حقول كميّة» مجرّدة، لا وجود محسوساً لها. بل إن هذه الحقول، كما يقول، «أدوات رياضية نفترض وجودها لأن العالم يتصرف كما لو كانت موجودة». أما الزمان والمكان، فهما أيضاً ليسا إطارين مطلقين كما ظنّ نيوتن، بل مجرد «طرائق معرفية» تساعدنا على فهم العالم، والفيزياء المعاصرة - خاصة مع نظريات النسبية العامة والجاذبية الكميّة – تؤكد ذلك؛ أن الزمان والمكان ليسا أساسيين، بل طارئان.

من هنا، ينتقد كاستروب الوضع الراهن، حيث يعامل كثير من العلماء الماديّة على أنها حقيقة لا جدال فيها، بينما هي مجرد فرضية تفسّر العالم بطريقة واحدة. لكنها، في رأيه، طريقة معيبة، تفتقر إلى التماسك، وتفشل في تفسير الوعي، وتقوم على نموذج كوني يعترف بأنه لا يفسّر سوى 5 في المائة من الكون، بينما يظل الباقي في ظلمة «المادة المظلمة» و«الطاقة المظلمة».

ومن هنا، يقدّم كاستروب استعارة بديعة؛ الواقع يشبه كتاباً مكتوباً بلغة مادية، لكنه يشير إلى ما هو خلفه، إلى المعنى. فإذا تعاملنا مع المادة بوصفها نهاية المطاف، أصبح العالم مسطحاً، خانقاً، خالياً من المعنى، أما إذا أدركنا أن المادة مجرد مظهر لعقلٍ كوني أعمق، أصبح الكون كله رسالة يجب فك شيفرتها.

في صلب رؤية كاستروب يقبع مفهوم الحب بوصفه القوة التي توحّد، وتقابل الخوف الذي يفرّق. عندما نؤمن بأننا كيانات منفصلة، نعيش في عزلة وانفصال. لكن إذا فهمنا أن كلّ ما نراه – من نجوم ومجرات إلى أجسادنا – ليس سوى تمثيل لمجال عقلي واحد شامل، فإننا نبدأ رحلة الاندماج من جديد في مصفوفة الكينونة، كما يسميها. وهذا الاندماج، في نظره، هو جوهر الحب.

وهو يعترف بأن نقل هذه الأفكار إلى جمهور علمي ليس بالأمر السهل. فالفلسفة تُجبره على استخدام لغة رمزية، بينما يتطلّب الخطاب العلمي دقة رياضية وتجريبية. واللغة، كما يقول، مشبعة بأطرنا المعرفية المسبّقة، فهي تُبنى على مفاهيم مثل المكان والزمان، ليست بالضرورة موجودة في الواقع الموضوعي. لذلك، فإن إحدى المهام الأساسية لديه هي تفكيك فكرة أن الإدراك يعكس العالم كما هو. لا، بل الإدراك مشفّر، انتقائي، متحيز. إنه واجهة تشغيل، لا نافذة شفافة. وهذا يجعل من التفكير الفلسفي الميتافيزيقي ضرورة، لا ترفاً.

يدرك كاستروب أن كلمة «ميتافيزيقا» قد تثير عند البعض صوراً روحية أو غامضة أقرب للصلاة والتصوّف، لكنه يُعيد تعريفها ببساطة؛ هي دراسة ما هو موجود. الفيزياء تدرس كيف تتصرف الأشياء، أما الميتافيزيقا فتسأل؛ ما هي الأشياء أصلاً؟

لكن هل تبقى هذه الأفكار طليقة سماء التجريد وملاعب الجدل الفلسفي فحسب؟ ليس بالضرورة. إذ يرى أن تبنّي هذا النموذج المثالي التحليلي للعالم يمكن أن يغيّر طريقة فهمنا للذات، وللرعاية الصحية. فإذا كنا في جوهرنا كائنات عقلية، لا مادية، فإن الصحة العقلية يجب أن تُعامل كأساس، لا كمجرد بعد ثانوي. وحينها، يصبح العقل وسيلة للشفاء، لا مجرد متلقٍّ للعلاج.

قد يتفق المرء مع كاستروب، أو يختلف معه. لكن المؤكد أن ما يقدّمه ليس مجرّد طرح فلسفي آخر، بل دعوة حقيقية لتوسيع أفق فهمنا للوجود، وإعادة النظر في كثير من البديهيات والمسلمات. ونصيحته؛ لا تأخذوا «الواقع» كما يُقدَّم لكم. راقبوا، واسألوا، وتأمّلوا. فقد تكون «المادة» مجرّد قناع يرتديه العقل.

***

لندن: ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 أغسطس 2025 م ـ 12 صفَر 1447 هـ

العالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة

النخب الفكرية حين تغرق في التراث تقوم بتحريك العامة (التواصل الاجتماعي)

ملخص: الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".

هل يعد الارتباط الهوسي والمهووس بالتراث وبالماضي كما هو عند العرب ومسلمي المشرق حالاً مرضية، هل هو رهاب من المستقبل؟ هل هو خوف من الآخر؟

فعلاً، هي حال غريبة تلك التي تتعامل بها النخب الفكرية والفلسفية والأدبية العربية والمغاربية الراهنة مع التراث الإسلامي، هذه الحال عاشها أجدادنا ومارسوها منذ نهاية القرن الـ18 ونعيشها نحن اليوم ويواصل عيشها الجيل الجديد، ودائماً بالحماسة نفسها، بل بتشنج، بل بتطرف يتزايد يوماً بعد آخر.

هل نحن مرضى بالماضي وهل لنا منقذ منه، على المدى القريب أو المتوسط؟

حين نريد أن نتحرر منه نتحدث عنه، وحين نريد أن نفتخر به نتحدث عنه، فهو في الحالين حاضر وضاغط وحاسم في تقرير مصيرنا وتحديد مستقبلنا.

حال الغرق في التراث هذه يعيشها تيار اليسار الفكري كما يعيشها التيار الإسلامي والليبرالي على حد سواء وربما قوة الحضور نفسها مع الاختلاف في شكل المداخل.

نحن على أعتاب الربع الثاني من القرن الـ21 وما زلنا نتخاصم حول أمور وقعت أو قيل إنها وقعت قبل 15 قرناً، في طرق إدارة الشأن العام والخاص وفي الاجتماع والوضوء واللباس والأكل والبنوك والزواج والطلاق والختان والحروب ونشوء اللغات ومفهوم العدو والصديق والآخر الذي ليس من ديننا ومتع الجنة وأهوال الجحيم.

سؤال النهضة الأول قام في مركزيته على مساءلة التراث وحوله، وعصرنا الذي هو عصر الذكاء الاصطناعي، أو هكذا يجب أن يكون افتراضاً، لا يزال يطرح السؤال نفسه وربما بطريقة أكثر تخلفاً وأكثر انغلاقاً وتطرفاً.

 نخبنا، حتى التنويرية منها، لم تتحرر من فخ "الاتباع" حتى وهي تختلف، حتى وهي تنتقد، لأن في اختلافها وانتقادها تكراراً لهوس معرفي تاريخي- ديني يدور في حلقة مفرغة أو يكاد.

وما زالت النخب الراهنة من الجيل الجديد تقرأ وتناقش وبحماسة تصل إلى حد الخصومة القبلية أو الطائفية أو الإثنية ما كتبه الجابري أو هشام جعيط أو حسين مروة أو الطيب تيزيني أو محمد عمارة أو حسن حنفي في مشاريعهم الفكرية حول التراث الذي يعود لـ15 قرناً، مع احترامي الكبير لجهودهم، وكأن ما تساءل عنه هؤلاء هو أمر حدث البارحة أو قبلها بقليل، وكأن هذا الذي حدث يهم العالم الذي يحيط بنا في فهم واجتياز محنة الفقر والحروب والمجاعة والعلوم واختلال المناخ ومحاربة الأوبئة واكتشاف الفضاء.

النخب في العالم الغربي، على اختلاف توجهاتها، وضعت بينها وبين ماضيها وتراثها مسافة للتأمل، لم تتنكر له ولكنها تحررت من ضغوطه، ودخلت معترك السؤال الجديد المرتبط بالعمل والإنتاج والعلم والحرية والديمقراطية والتداول على السلطة والتعليم والعمران والمساواة والموت والخلود.

إن هذا الذي تغرق فيه نخبنا الفكرية والفلسفية والأدبية منذ قرن ونصف القرن في علاقتها المتوترة مع التراث ومع الماضي تجده ينتقل وبصورة مباشرة إلى العامة ويتحول من نقاش معرفي، أو هكذا يفترض، إلى صخب سياسوي شعبوي لا جدوى من ورائه سوى تكريس الماضي بجراحه وانشقاقه كبديل عن الحاضر وكغشاء سميك يحول دون تأمل وقراءة المستقبل وصناعته ضمن عالم يحيط بنا يعيش على إيقاع حضاري وعلمي وتكنولوجي متسارع.

والعالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة تارة وببكاء على الأطلال تارة أخرى وبزهو منفلت ثالثة.

متأكد أن نخب العالم الحديث والمعاصر، هذا الذي من حولنا، ستستغرب من وضعنا لو أنها أدركت أننا ما زلنا نناقش قضايا حدثت أو روي أنها حدثت منذ 15 قرناً، وما زلنا نناقشها بكثير من الحماسة والخصومات التي تنعكس وبصورة مباشرة على القرارات السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والتربوية والعمرانية في بلداننا.

والنخب الفكرية حين تغرق في التراث، من باب التخمة الفكرية، تقوم بتحريك العامة على وسائل التواصل الاجتماعي فيختلط الحابل بالنابل وتسود الفوضى ويتزعزع الانضباط الذي هو من مسؤولية مؤسسات الدولة التي عليها أن تفرضه من خلال ترسانة من القوانين والمسطرات، فكلما شعرت الدولة ومؤسساتها بالخوف من العامة المنساقة وراء سراب الماضي، تبدأ بالتنازل والتراجع خطوة إلى الوراء في فرض الانضباط، وأمام هذا التراجع يبدأ النظام السياسي بممارسة سياسة قبض العصا من الوسط، ويبدأ بلعبة التوازن الداخلي المكذوب على حساب مستقبل التنمية المستدامة البشرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.

أعتقد، وأقول هذا بكل وضوح، بأنه وما دامت نخبنا الفكرية والأدبية الراهنة لم تتمكن من التحرر، المبني على القراءة والتجاوز، من هذه المشاريع الفكرية التي كتبها هؤلاء (حسين مروة ومحمد عمارة وحسن حنفي وهشام جعيط والطيب تيزيني وعابد الجابري وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد...) وتنتقل وبشجاعة إلى التأسيس لأسئلة جديدة تتقاطع مع أسئلة نخب العالم الذي نعيش فيه، أسئلة حول العلوم والتكنولوجيا والمناخ والحرية والديمقراطية وثقافة المؤسسات والمنافسة والمواطنة والمساواة والطب والفضاء والعمران والفنون الجميلة... إذا لم تحقق نخبنا ذلك، فإننا سنعيد إنتاج فكر منقرض وسنعيد بناء عقل منقرض وسننتج مواطناً معوقاً يعيش خارج التاريخ أو يمشي عكس التاريخ، يمشي سعيداً نحو هاوية الانتحار، وهو ما يحدث يومياً أمام أعيننا في مجتمعات الشرق الأقصى وشمال أفريقيا.

تحتاج النخب المعاصرة إلى خوض معركة فكرية شجاعة ومفتوحة لمواجهة الواقع المتردي، وأولى الجبهات التي تخوضها هي عدم السقوط في إرضاء العامة "الغوغاء" التي تعيش في حال من الغيبوبة التي زرعتها القوى السلفية، وثاني جبهاتها تنبيه الدولة وتذكيرها بمهماتها الدستورية المتمثلة في حماية المواطن والدفاع عن المواطنة، من خلال فرض الانضباط في المجتمع، والانضباط لا يعني مطلقاً القمع.

وما نلاحظه من فوضى في السلوك الاجتماعي الفردي والجماعي في القرى والمدن، وضمن المؤسسات وفي الساحات العامة، والمعروضة بوضوح على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة (فرض طقوس معينة في الشواطئ، حادثة تخريب تمثال امرأة عين الفوارة بسطيف في الجزائر، ما يحدث في كثير من المدارس من ممارسات لا علاقة لها بالتربية والتعليم، ما يقدم من برامج في كثير من القنوات التلفزيونية من دجل وخبل باسم الدين كما يفهمونه، فرض نوع من الألبسة على المواطنين، إطلاق فتاوى متعارضة مع فكرة المواطنة...) كل هذا يؤكد على غياب ثقافة الانضباط التي هي من مسؤولية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها.

وإن انزلاقاً، قد يبدو في البداية صغيراً أو تافهاً، فيمر من دون معاقبة ومن دون مساءلة، إلا أنه سيتحول لا محالة، مع مرور الأيام، إلى ما يشبه ظاهرة كرة الثلج، سيكبر ويكبر حتى يدمر العالم ويدمر الفرد ويهدد كيان الأمة ومؤسسات الدولة.

وهناك انزلاقات كثيرة داخل مجتمعاتنا، حيث اختلطت المهام والمهمات، فالمعلم أصبح فقيهاً والدجال أصبح طبيباً والعالم أضحى خاضعاً لجاهل من خريجي التسرب المدرسي وسائق التاكسي أضحى مفتياً والأحمق أصبح منظراً استراتيجياً... وفي ظل هذه الخريطة الاجتماعية الملغومة والمخلوطة يتحول أي نقاش حول الماضي أو حول التراث إلى لغو وهذر، يغطي على أي خطاب جاد ومجتهد يحاول أن يدخل في أسئلة العالم المعاصر، بل يعاديه ويكفره.

إن الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".

***

أمين الزاوي - كاتب ومفكر

عن صحيفة اندبندت عربي، يوم الخميس 7 أغسطس 2025 0:12

 

مؤخراً رجع المفكر الأميركي الشهير فرنسيس فوكوياما عبر مداخلة منشورة في صحيفة «persuation» الإلكترونية إلى محاضرة الفيلسوف الألماني ليو شتراوس التي ألقاها في الولايات المتحدة سنة 1941 حول «العدمية الجرمانية». شتراوس، في محاضرته التي كتبت في أوج العصر النازي، يرجع الحالة العدمية التي كانت تمر بها وقتها بلادُه إلى أزمة عميقة تطال الحداثة الغربية نفسَها التي تعاني حسب رأيه من مرضَي التاريخانية والوضعية وما يترتب عليهما من إلغاء القيم الأخلاقية والفلسفية المطلقة. ما يميز الحركية العدمية هو التمرد ضد قيم التقدم والرفاهية والحرية الفردية من منظور الدفاع عن الروح الحضارية الأصيلة للغرب.

والحل الذي يقدمه شتراوس هو العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية وإلى القانون الطبيعي، أي إلى أفكار العدالة والنظام السياسي لتجاوز الآثار السلبية لفصل المعايير عن الوقائع أو الأخلاق عن السياسة. في تعليقه على محاضرة شتراوس، يرى فوكوياما أن الديمقراطيات الغربية الراهنة تعيش الآن موجةً قريبةً من هذه الحالة العدمية التي اجتاحت أوروبا أوانها. فالحركات الشعبوية القومية الصاعدة تحمل بشدة على الليبرالية وترى فيها تكريساً للنزوع الاستهلاكي الاستمتاعي وتنكراً للقيم الأخلاقية والوطنية وتعبيراً عن الانحطاط الفكري والاجتماعي.

إلا أن هذه التوجهات الشعبوية العدمية لا تقدم بالنسبة له أي بديل موضوعي ولا تستند لرؤية إيجابية مغايرة، بل يمكن أن تفضي إلى أخطر أنواع الاستبداد والانغلاق، وفق السيناريو الذي ساد ما بين الحربين.

وفي حين كان شتراوس يرى أن على الليبرالية أن تستوعب بعض المصادر من خارجها، مثل الرجوع إلى أفكار الطبيعة الإنسانية والشرع الإلهي، يرى فوكوياما أن الليبرالية الإنسانية الحديثة قادرة على توفير القيم المرجعية للبشرية المعاصرة، من مقومات ناظمة مثل الكونية والتسامح والحرية.. إلخ. وهنا نلمس جانباً من التعارض الجذري بين الليبرالية المحافظة التي يتبناها شتراوس والليبرالية التقدمية التي يدافع عنها فوكوياما.

النزعة الأولى، وإن حافظت على جوهر الرؤية الليبرالية في مقوماتها السياسية والقانونية، إلا أنها ترى أنها تعاني من خلل أساسي يكمن في ضمورها القيمي من حيث سماتها التقنية النفعية مقطوعةَ الصلة مع التقاليد الروحية والثقافية العميقة.

ومن هنا مطالبة شتراوس بالرجوع إلى أفكار الفضيلة الأرسطية والعدالة الوجودية والسياسة المدنية، مع الحفاظ على تركة التنوير والحداثة.

وفوكوياما، ككل الليبراليين التقدميين، يرى في غياب أسس معيارية ثابتة ومطلقة للنظام الليبرالي الحديث دعامةً قوية لقيامه وتشكله، باعتبار أنه مكتفي بالإجراءات القانونية والصورية المنظمة للحقوق والحريات في تصوره الموضوعي للعدالة في مجتمعات متنوعة ومتعددة من حيث التصورات الجوهرية للخير الجماعي. ومن ثم فإن أي محاولة لفرض سقف أخلاقي أو روحي للقيم المدنية المشتركة، ينتهك مبدأ التعددية والحرية، ويفضي إلى تكريس الاستبداد باسم الدين أو الأخلاق. في أيامنا هذه التي لا يتردد الكثير من القادة السياسيين في الغرب عن التبشير بنموذج الديمقراطية غير الليبرالية، أي فصل اعتبارات الشرعية السياسية المؤسسة على الانتخاب والمشاركة عن قيم النظام الاجتماعي القائمة على الحرية والتعددية، يتوجب إعادة طرح الموضوع الفلسفي لليبرالية من منظور نقدي جديد.

ولا تكفي هنا العودة إلى أفكار ليو شتراوس التي تعبر عن مأزق تأويلي بخصوص ما سماه موجات الحداثة الثلاث، ولا معنى للاحتفاء بالمطرقة النتشوية التي بلورت في نهاية القرن التاسع عشر أعنف نقد لليبرالية الحديثة في أسسها العقلانية الديمقراطية نفسها، بل المطلوب هو إعادة تصور العلاقة التلازمية بين الليبرالية والديمقراطية التي تعرضت في السنوات الأخيرة لتصدعات خطيرة.

صحيح أن الديمقراطية من حيث هي تعبير عن فكرة السيادة الشعبية وأولوية المجال العمومي على حقل الحريات المدنية، لا يمكن استيعابها نظرياً وعملياً في الفكرة الليبرالية التي تحيل إلى قيم الذاتية والفردية، ومن هنا ظهرت تاريخياً أشكال من الديمقراطية غير الليبرالية والليبرالية التسلطية.

إلا أنما يميز الديمقراطيات الحديثة هو هذا التوجه الليبرالي، الذي سمح لها بأن تجمع بين معايير المشاركة ومنظومة الحريات والحقوق الفردية، بما يعني التلازم بين سيادة الدولة كتعبير عن الإرادة المشتركة والمواطنة الحرة المتساوية. خلاصة الأمر، أن النقد المحافظ لليبرالية كما طرحه ليو شتراوس خلال الحرب العالمية الثانية، وإن كان لا يزال مدار اهتمام فلسفي واسع في أيامنا، إلا أنه لا يتعلق في شيء بأزمة الديمقراطيات الراهنة، باعتبار أن مشكلها ليس نضوب الأفق القيمي والأخلاقي، ولكن الانزياح داخلها بين منطقها السياسي وأفقها الليبرالي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 أغسطس 2025 22:57

فيلسوف فرنسي يستعيده بوصفه «عاطفة ثورية»

في كتابه اللافت «فلسفة العار: عاطفة ثورية» الذي صدرت ترجمته للإنجليزية مؤخراً*، يخوض الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو مغامرة فكرية جدّ فريدة: استعادة العار من ظلال التحقير النفسي والمجتمعي، والبحث فيه بوصفه قوة أخلاقية وسياسية وتحررية. فمنذ بدايات الحداثة، ظل العار في الخطاب الفلسفي والنفسي الغربي إما مهمشاً وإما مختزلاً كأحد الأعراض المرضية، بينما يقترح غرو قراءة جديدة له، تستعيد قدرته على إشعال اليقظة، وكشف التناقضات، ودفع الذات والجماعة نحو الاعتراف، والتحول، والتغيير.

ينطلق الكتاب من تأسيس دقيق لفهم العار، عبر التمييز بينه وبين الشعور بالذّنب؛ حيث الشعور بالذنب يرتبط بفعل خاطئ تجاه الآخر، يمكن تبريره أو التكفير عنه، أما العار فهو متعلق بالذات نفسها، بهويتها، بكينونتها كما يراها الآخر. الذّنب يقول: «لقد أخطأت»، أما العار فيهمس: «أنا خطأ». ويرى أن هذا الفرق الجذري هو ما يجعل العار أكثر قسوة، وأكثر استعصاء على العلاج، ولكنه أيضاً أكثر صدقاً؛ لأنه يكشف هشاشة الإنسان أمام نظرة المجتمع والمعايير، وأمام ما يظنه المرء عن نفسه حين يتموضع في عيون الآخرين.

ويرسم الفيلسوف لقرائه خريطة تاريخية لتحولات العار من المجتمعات التقليدية التي كان فيها شعوراً جماعياً مرتبطاً بمفهوم الشرف والكرامة، إلى الحداثة حينما تم تفكيك الجماعة وتحويله إلى شعور خاص يُربط بالفشل الفردي، أو الانحراف عن المعايير التي تشكلها النخبة. ويشير في ذلك إلى أن هذه (الخصخصة) له لم تكن تجربة تحررية، بقدر ما كانت وسيلة جديدة للضبط الاجتماعي؛ خصوصاً في المجتمعات البرجوازية التي أعادت إنتاجه داخل الأسرة، وعبر الدين الرسميّ، والعلاج النفسي، والتعليم، بحيث يصبح النساء والفقراء والمهاجرون مثلاً أكثر عرضة له، لا بسبب أفعال اقترفوها؛ بل بسبب ما هم عليه: هويتهم، ولون بشرتهم، ومظهرهم، وأزياؤهم، وأصواتهم، وميولهم، وما إلى ذلك.

يخصّص غرو في نصّه فصلاً للحديث عن العار في العصر الرقمي، ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أعادت إنتاجه، ولكن بشكل سطحي واستعراضي، من خلال ما صار يعرف بـ«ثقافة الإلغاء» التي هي تعبير عن رغبة في القصاص الأخلاقي، ولكنها غالباً ما تتحول إلى مهرجان جماهيري للسخرية والتشهير، الغاية منه إذلال «الآخر» في الفضاء العام، لا مساءلته بالفعل، ما يجعله أشبه بطقوس تطهر جمعيّ: أداة فاعلة للتنمّر الأخلاقي لنبعد عن ذاتنا خطر الاتهام، عبر توجيهه إلى جانٍ مفترض، فنبقى «نحن» في منأى عن الشّبهة. وهكذا، أصبح العار أداة لتعزيز الهوية الفردية الزائفة، لا لبناء تضامن حقيقي.

في أحد أكثر الفصول إثارة للجدل، يقترح غرو إعادة توجيه هذا العار بدلاً من الفرار منه؛ إذ يمكن أن يكون منبعاً لغضب خلّاق ناتج عن الشعور بعدم العدالة، وعن الإحساس بأن ما يحدث لا يمكن احتماله. ولذلك فهو شعور لا يفتك بنا؛ بل يدفعنا إلى التعبير، وإلى الفعل، وإلى قول «لا». من هذا المنظور هو ليس نهاية للوعي؛ بل لحظة ولادته: عند إدراك أن الصمت لم يعد ممكناً، وأن التحمل لم يعد خياراً، وهكذا، يصبح وكأنّه نقطة انطلاق للتغيير، لا كارثة نفسية.

العلاقة بين العار واللغة محورٌ أساسي في فكر غرو. فهو يعتقد بقدرته على احتراف الصمت وتكميم الأفواه، ولكنه في الوقت نفسه يولّد رغبة في الإفصاح. وبين السكوت والقول تكمن مساحة التحول: فإما أن يغلق الأفواه إلى الأبد، وإما أن يكون دافعاً ثوريّاً للكشف، والبوح، والتصريح.

وفي هذا السياق، يستشهد غرو بتجربة الكاتبة الفرنسية آني إرنو –حائزة نوبل للآداب 2022- التي حوّلته إلى مشروع أدبي وسياسي، بالكتابة عن الفقر، والرغبة، والإجهاض، والعلاقات الطبقية، فصنعت من تجربة الشعور به شهادة ذاتية وجماعية، تعاقر الألم في قلب اللغة.

من الطروحات الأساسية في الكتاب أن العار لا يكون بالضرورة نتيجة لفعل مُرتكب؛ بل يمكن أن يكون شيئاً يولد الإنسان به؛ يرثه الأبناء عن الأمهات، ويحمله الفقراء دون أن يعرفوا بالضرورة أسبابه، وتضعه المجتمعات في عنق أقليات بأكملها. هذا ما سمَّاه غرو بـ«العار الموروث»، وهو عار غير مستحق، ولكنه يلاحق أصحابه كلعنة أبدية. ومن هذا المدخل، يغدو تجربة وجودية لا ظرفية، ونقطة تقاطع للفردي بالجماعي، وللنفسي بالسياسي، وللذاتي بالاجتماعي.

يقول غرو إن العار يُجرَّم في زمن السعادة الشكلية، وثقافة «التنمية الذاتية» المبتسرة؛ لأنه يُفقد الناس شعورهم بالكمال الزائف، ولكنه يعدُّ ذلك خيانة للصوت الداخلي الذي ما يلبث يقول للمرء إن هناك ثمّة ما لا يُحتمل، وما لا يمكن السكوت عنه. وفي هذا المعنى، يكون الشعور به بمثابة رفض للاستسلام، ومناهضة للاعتياد. ولذلك يقترح النصّ تبني أخلاقيات جديدة مقابل تلك القائمة على العقاب أو الثواب، تبدأ من الشعور بالعار، لا بوصفه انكساراً؛ بل بوصفه إحساساً بالمسؤولية، ليس تجاه القانون فحسب؛ بل تجاه الآخرين، وتجاه الذات. وبهذا المنطق، لا يعود شعوراً يجب التخلص منه، ولكن مهلة للتفكير، والتدبر، وإعادة النظر. فمن يشعر به، إنسان لم يمت قلبه بعد، حيّ بما يكفي ليغضب، وليرفض، وليتساءل، وربما ليغيّر ويتغيّر.

لعل أبدع الأفكار تلك التي تتعلق بالصداقة؛ حيث الصديق الحقيقي ليس فقط من لا يخجل المرء أمامه؛ بل من يقدر أن يخجل أمامه، فيبوح له بعاره دون أن يخشى حكماً مطلقاً أو إدانة. ويذهب في ذلك أبعد، ليعيد تعريف الفلسفة نفسها بوصفها «العار الكبير»: الفلسفة -كما مارسها سقراط- ليست تعليماً؛ بل إرباكاً، وليست إجابة؛ بل أسئلة محرجة؛ إذ تجعلنا نخجل من الجهل، ومن الكذب، ومن الشعارات الجوفاء، وتدفعنا إلى قول الحقيقة ولو أمام مرآة ذاتنا. ومن هنا فالشعور بالعار كما بوابة أمل، ووعد خلاص، وأفق لغد أكثر بياضاً.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:30 يوليو 2025 م ـ 05 صفَر 1447 هـ

وجدت أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف

بدايةً، لنستعرض تاريخ البابوية منذ القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين. وهي الفترة التي خاضت فيها الكنيسة الكاثوليكية البابوية أوج الصراع مع ذاتها قبل أن يتمخض ذلك عن حدث سعيد: ألا وهو تصالح المسيحية مع الحداثة بعد طول عراك وصراع. وهكذا انتقلت الكنيسة المسيحية من مرحلة الرفض المطلق للحداثة عام 1864 إلى مرحلة القبول المتصالح معها عام 1965. خلال قرن واحد فقط حصلت أشياء وأشياء و«جرت المياه من تحت الجسور»، كما يقول المثل الفرنسي. لتوضيح كل هذه الأمور دعونا نعود إلى الوراء قليلاً. في عام 1864 أصدر البابا بيوس التاسع رسالته الشهيرة التي أدان فيها العصور الحديثة جملةً وتفصيلاً. لقد أدان أخطاءها المزعومة كالعقلانية، والليبرالية، والاشتراكية، وحرية الضمير والمعتقد، وحرية التدين أو عدم التدين: أي حرية الالتزام بالطقوس والشعائر المسيحية أو عدم الالتزام بها على الإطلاق.

باختصار شديد لقد أدان هذا البابا الأصولي المتشدد الحضارة الحديثة بمجملها واعتبرها كفراً صراحاً ما بعده كفر. ماذا يفعل قادة الأصولية الإسلامية اليوم؟ ماذا تفعل الثورات المضادة السائدة حالياً في العالم العربي؟ عنيت الثورات الرجعية الظلامية التي تمخض عنها ما يُدعى بالربيع العربي؟ ولكن الفاتيكان تخلى الآن عن كل هذه الفتاوى المكفرة للحداثة. لقد تغير وتطور وتجدد. لندخل في التفاصيل أكثر. ينبغي العلم أن الفتوى اللاهوتية الكبرى التي سادت العصور الوسطى في أوروبا كانت تقول ما فحواه: «خارج الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية المقدسة لا نجاة في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله». وهذا يعني أنهم كانوا يكفرون جميع الأديان الأخرى، ما عدا المسيحية. بل وحتى داخل المسيحية ذاتها كانوا يكفرون كل المذاهب الأخرى ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي الفاتيكاني الذي يمثل الأغلبية أو الأكثرية العددية. ولذلك كان هذا المذهب يعتبر نفسه بمثابة الفرقة الوحيدة الناجية في المسيحية. بالتالي فكل ما عداهم كفار. وهذا التكفير كان موجهاً ضد المذهب البروتستانتي بالدرجة الأولى.

وقد ظل الأمر على هذا النحو طيلة قرون وقرون حتى انعقد المجمع الكنسي التحريري التنويري المشهور باسم الفاتيكان الثاني بين عامي 1962 - 1965. وهو المجمع اللاهوتي الكبير الذي صالح بين المسيحية والحداثة. لقد شكل ثورة لاهوتية حقيقية داخل المسيحية الكاثوليكية. ولذلك اعتبره البعض أهم حدث تاريخي يحصل في القرن العشرين كله. فقد اعترف الفاتيكان آنذاك بالمذاهب المسيحية الأخرى وتصالح معها بعد طول تكفير وزندقة وتحقير. ووضع بذلك حداً لحروب الطوائف والمذاهب المسيحية في أوروبا. كما وضع حداً لمقولة الفرقة الناجية الوحيدة داخل المسيحية. كل الفرق ناجية بشرط أن تصدق النيات وتحسن الأعمال. الدين حمال أوجه وتفاسيره متعددة ومختلفة بالضرورة. وهناك طرق عديدة تؤدي إلى الله لا طريق واحد. وفي النهاية الدين لله والوطن للجميع. بل وكل الناس الطيبين الفاعلين للخير هم من الفرقة الناجية أياً كانت أديانهم ومذاهبهم، أو حتى لو كانوا خارج نطاق كل الأديان والمذاهب.

هنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى وعقلية العصور الحديثة. هنا تكمن قطيعة الحداثة أو نقلة الحداثة التي لا تزال تستعصي علينا نحن العرب والمسلمين حتى اليوم. بل واعترف مجمع الفاتيكان الثاني بمشروعية الأديان الأخرى غير المسيحية وفي طليعتها الإسلام: العدو التاريخي. وكان ذلك حدثاً جللاً عظيماً. وقال البيان في تصريحه النهائي ما معناه: إننا نحترم المسلمين ونقدر إيمانهم بالله واليوم الآخر، ونريد أن نطوي صفحة الماضي السوداء الأليمة معهم نهائياً، ونفتح صفحة جديدة.. إلخ. من يصدق ذلك؟ وهذا يعني أنه حتى الثوابت اللاهوتية الأكثر رسوخاً وديمومة يمكن تطويرها أو تغييرها إذا لزم الأمر. حتى الفتاوى التكفيرية يمكن تجاوزها، ولكن في العالم المتقدم، وليس عندنا للأسف الشديد. ثم اعترف المجمع التحريري والتنويري الكبير المذكور باليهودية والبوذية والهندوسية. بل وفتح مكتباً للحوار مع «غير المؤمنين» أو غير المتدينين وهم معظم سكان الغرب حالياً. إنهم غير مؤمنين بالعقائد التقليدية ولكنهم مؤمنون بقيم الفلسفة التنويرية العلمانية الحديثة التي أسسها كانط مثلاً.

هناك إيمان واسع سعة الكون وغير منحصر بدين معين أو مذهب محدد. إنه «إيمان بلا حدود»، إذا جاز التعبير. مثلاً ابن عربي كان من هذا النوع. كان مؤمناً بالإسلام ويعتبره أفضل الأديان ولكن قلبه أو عقله كان يتسع للأديان الأخرى أيضاً. ولم يكن يكفرها أو يزدريها على العكس. كان يأخذ من كل دين جوهره أو قيمه الروحية والأخلاقية العليا. والدين بهذا المعنى واحد للبشرية جمعاء. فهناك نواة أخلاقية مشتركة لدى الأديان الكبرى كلها: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب.. إلخ. الوصايا العشر... نحن في العالم العربي أحوج ما نكون حالياً إلى هذه النظرة الواسعة للدين والتدين. وذلك لكي نخرج من انغلاقاتنا التعصبية المكفرة لأتباع الأديان الأخرى. وبهذا الصدد ينبغي أن نشيد كل الإشادة ببناء صرح شامخ للأديان الإبراهيمية الثلاثة في أبوظبي. وهو حدث غير مسبوق في العالم العربي.

وهكذا اعترف المجمع الفاتيكاني الثاني بحرية الضمير والمعتقد لأول مرة في تاريخ المسيحية. بمعنى أنه يحق لك أن تتدين أو لا تتدين، أن تؤدي الطقوس والشعائر المسيحية أو لا تؤديها، ومع ذلك تظل إنساناً كامل الكرامة والحقوق. وهذا متوافق تماماً مع القرآن الكريم. جاء في الذكر الحكيم: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وجاء: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ وجاء: لا إكراه في الدين. ولكن كل التيار الأصولي السائد عندنا حالياً قائم على الإكراه في الدين! وبالتالي فأين نحن من ذلك الانفتاح الديني للمجمع الكنسي الفاتيكاني الثاني؟ أين نحن من آيات القرآن الكريم؟ هيهات. وهذا الانفتاح هو ما يُدعى بالتسامح أو الحرية الدينية. لماذا فعل كهنة المسيحية وفلاسفتها كل هذه الثورة اللاهوتية عام 1965، أي قبل ستين سنة بالضبط؟ لأنهم وجدوا أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف. لقد أدركوا أنهم إذا ما استمروا على موقفهم القديم المتشنج من الحداثة التنويرية فإنها سوف تهمشهم وتهمش الدين كله معهم. والواقع أن الشعوب الأوروبية المستنيرة كانت قد ابتدأت تنصرف عن المسيحية أفواجاً أفواجاً بسبب مواقف الكنيسة المتزمتة ومعاداتها للحداثة الفلسفية والعلمية والسياسية. وبالتالي فقد كان ذكاء من رجالات الكنيسة أن يقوموا بهذه الثورة اللاهوتية التجديدية. فقد استعادت المسيحية رونقها وجاذبيتها بعدئذ ولم تعد منفرة بالنسبة للإنسان الأوروبي. وعلى هذا النحو أصبحت صورة بابوات روما والفاتيكان إيجابية ومشرقة جداً بعد أن كانت سلبية طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. والفضل في ذلك يعود إلى ظهور بابوات كبار منفتحين على روح العصور الحديثة ومكتسباتها التي لا تقدر بثمن. ولكن مع رفض شططها وسلبياتها وانحرافاتها.

وراح هؤلاء البابوات الكبار المتنورون يعتذرون عن ماضي الكنيسة المعادي للفلسفة والكشوفات العلمية. فقد اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992 عن محاكمة الكنيسة لغاليليو وترويعها الشديد له عام 1633. كما واعتذر عام 1997 عن مجزرة سانت بارتيليمي بحق «إخوتنا» البروتستانتيين. وهي المجزرة الرهيبة التي حصلت في باريس بتاريخ 26 أغسطس (آب) عام 1572. صحيح أن هذا الاعتذار جاء متأخراً جداً: أي بعد أكثر من أربعة قرون! ولكن اعتذار البابا الكاثوليكي على الرغم من تأخره أعطى صورة إيجابية رائعة عن الكنيسة الكاثوليكية وأثلج صدر البروتستانتيين. بل وتراجعت الكنيسة مؤخراً عن إدانة داروين ونظريته الشهيرة في التطور. وعقدت مؤتمراً علمياً ضخماً في الفاتيكان لإجراء المصالحة بين العقيدة المسيحية ونظرية داروين.. إلخ، إلخ.. وهكذا صالحت بين العلم والإيمان، وبين الدين والفلسفة. من قال بأن التطور في مجال الشؤون الدينية مستحيل؟ من قال بأن فتاوى القرون الوسطى التكفيرية تمثل ثوابت الأمة وسوف تظل تتحكم برقابنا إلى أبد الآبدين؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 يوليو 2025 م ـ 04 صفَر 1447 هـ

في المثقف اليوم