اخترنا لكم

سالم سالمين النعيمي: القيود الفكرية في عصر السلاسل اللامرئية

في زمنِ الحرية المزعومة، حيث تختفي القيود الظاهرة، يطلُّ على العالم ما يمكن تسميته بعبودية جديدة، ترتدي ثوب التقدم، إنها «القيود الفكرية» التي تستعبد العقول قبل الأجساد، وتسرق إرادة التفكير بحرية، فهذه القيود المعاصرة هي تعبير عن حالة من التبعية العقلية والتوجيه القسري أو الناعم للفكر الإنساني، في تحول من عصرِ الأغلال الحديدية إلى عصرِ السلاسل اللامرئية، حيث تختطف عقولنا بلطف خادع عبر شاشاتٍ صغيرة نحملها في أكفّنا كل يوم، ليطغى علينا الإلهاء والتكرار والخوف كمنابر للاستعباد الحديث، والمثقف الموظف الذي حذّر منه «إدوارد سعيد» صار نموذجاً متجدّداً في عصرِ المنصات الرقمية، يبيع رصيده الفكري في مزاد المشاهير.

الأرقام ترسم خريطة المأساة، 78% من الشباب الغربي يتلقون أفكارهم عبر خوارزميات لا ترحم، و67% من النخبةِ الفكريةِ يعترفون بارتهانهم لضغوط المؤسسات، والجامعات التي كانت معاقل للتنوير صارت وكراً للقيود الأكاديمية، والإعلام الحر تحول إلى ماكينة «بروباغندا» ناعمة، حتى الدين والسياسة لم يسلما من تحويل النصوصِ إلى أقفال للعقل. والنتيجة؟ مجتمعات تشبه قطعان الماشية الفكرية التي تسبح في بحر المعلومات دون بوصلة.

فهناك قوى خفيّة تقنع ضحاياها بأنهم أحرار بينما هم مكبّلون بالقيود، هذا هو جوهر العبودية المعاصرة: أن تحمل سجنك في جيبك، وتقبل يد سجانك ظناً منك أنه محررك. فالخطر الوجودي ليس في الجهل، بل في الوهم بأننا نعرف وبأن الغموض هو بوابة الوضوح.

التحرر يبدأ بسؤال جريء: من تخدم الأفكار التي يعتقد البعض أنها تروق لهم أو تمثلهم؟ الشك الفلسفي ليس ترفاً، بل سلاحاً في معركة الوجود، فالتعليم الجديد يجب أن يصنع متمردين فكريين لا عبيداً ممتنين للأفكار الأكثر تداولاً وانتشاراً لنجوم عالم العلوم والمعارف والتقنيات المختلفة، وبالتالي استحالة مقاومة اقتصاد الانتباه، واقتصاد الانتباه: «هو نظام اقتصادي يعتمد على جذب انتباه المستخدمين لأطول فترة ممكنة، وغالباً ما يتم ذلك من خلال المحتوى الذي يثير المشاعر أو يسبب الإدمان، بهدف تحقيق أرباح من خلال الإعلانات أو بيع البيانات». ومن المهم استرداد ملكية العقول، بدلاً من أن تكتب في سجل عبيد العصرِ الرقمي: الحرية لم تعد حقاً يتم انتظاره، بل مسؤولية تتم صناعتها.

«القيود الفكرية» تسخّر الأوراق العلمية والتكنولوجيا المتقدمة، وتنشر البيانات والإحصائيات والبحوث الأكاديمية ليتنازل الفرد عن حقه في التفكير الحر، ويستسلم لسلطة المعرفة المعلّبة، ولا تتجلى القيود الفكرية فقط في الإعلام الموجه أو التعليم الذي يمجّد السلطة المعرفية التي لا تخطئ، وترسيخ رواية سطوة الذكاء الاصطناعي لإعادة نموذج التلقين، ولكن هذه المرة عبر الآلة، وطوفان من المعلومات يعجز العقل عن تصنيفها، فقد أصبح الإنسان اليوم عرضةً للتلاعب غير المرئي من خلال الخوارزميات الذكية، التي تقدم له ما يشبه الواقع.

فالمدهش أن القيود الفكرية تتم في الغالب برضا الضحية، بل وبشغف، فالأفراد يستسلمون للمحتوى السطحي، ويبحثون عن اليقينيات الجاهزة بدلاً من الخوض في معاناة التفكير، هنا يكمن الخطر الأكبر! لا يتم استعباد العقول بالقوة، بل بالإقناع، وبخلق بيئة تعزل الفكر الحر وتكافئ التبعية، والنتيجة؟ مجتمعات كاملة تدار معرفياً من مراكز قوة فكرية وإعلامية واقتصادية دون وعي من أفرادها، ويعزّز خطورة القيود الفكرية وتحول البحث العلمي والتعليم العالي إلى أدوات خاضعة. نشرت دراسة في مجلة «Nature» العلمية كشفت أن 31% من البحوث الطبية الممولة من الشركات تنطوي على تحيّز منهجي يخدم مصالح الجهات الداعمة، وهذا يعني أن ما نظنه «حقائق علمية» قد يكون تم إنتاجه لخدمة أهداف اقتصادية أو سياسية لا تمت للعلم بصلة.

كما أن بعض المؤسسات الدينية والسياسية تستغل هذا الواقع لتغذية عقل جماهيري مسيطر عليه، حيث تتم إعادة تدوير الخطاب والمفاهيم والمسلّمات لصناعة نوع من«الولاء الرقمي المقدس»، حيث يُمنع السؤال، ويجرم النقد، ويشيطن المخالف. القيود الفكرية بهذا المعنى تقتل القدرة على المقاومة، لأنها تغتال الفكرة في مهدها، فهي لا تريد إنساناً مدركاً، بل تابعاً، إنساناً لا يشك، لا يقارن، لا يبحث، ويمجد ما يستقبل. ولهذا فإن آثارها على الأمن القومي، والتنمية، والهوية الثقافية تعد مدمرةً على المدى البعيد، لأنها تنتج مجتمعاَ هشاً معرفياً يمكن التأثير عليه وتوجيهه بسهولة عن بعد.

***

سالم سالمين النعيمي

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 يوليو 2025 02:08

في المثقف اليوم