اخترنا لكم
محمد البشاري: الهروب إلى معرفة جديدة
لكل إنسان على وجه الأرض قصة هروب، حتى لو لم يتعرف عليها بعد، فهناك مَن يهرب من ماضيه، وهناك من يحاول التملص من حاضره، بل هناك أيضاً من يحاول أن ينجو من مستقبله.. ولذلك معان وتحليلات كثيرة لسنا بصدد نقاشها هنا.
لكن ما يلفتنا في هذا السياق هو الهروب الفلسفي والفكري والثقافي لدى المفكرين والباحثين بشكل عام، وفي هذا المقام المتصل بالقراءة المتأنية للتفكير الفلسفي حول المعرفة، نجد ملامح قصة الهروب لدى الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه ديكارت، واضحة ومنطقية، حيث جاءت الفلسفة الديكارتية اللاحقة لمنظومة الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية المنسجمة كخطوة نوعية مختلفة عن فلسفة العصور الوسطى التي ربما وضع فيها كلٌّ من أرسطو وأفلاطون أقصى تركيز لديهما مما جعلها تصل لمرحلة يمكن نعتها بالنضج.
وعليه، فإن فلسفة العصور الوسطى (الفلسفة السكولاتية المدرسية) المشبعة بالانطلاقات الكنسية، شكّلت أحد الدوافع التي جعلت من ديكارت يبني قصةَ هروبه من داخل تلك الدائرة غير المتناهية، ليرفض ما كانت عليه تلك الفلسفة، حيث تشكلت أولى ملامح هروب ديكارت من الواقع رافضاً الخضوعَ والتبعية للكنسية، والتي وجد فيها تحدياً لملكة الإبداع الموجودة لدى الإنسان، فاعتبرها بمثابة المركز في الموروث الذي لا بد من كسره، حيث لا يمكن استمرار خط الحياة تحت ضغط مكبح الإمكانيات والابتكارات الإنسانية، فاتجه بخطوة ذكية لنقد الفلسفة القديمة واعتبارها سبباً في استمرار ملامح الهيمنة وتقوية جذورها والإشارة إلى تداعياتها على الحرية الفردية.
ويُذكر أن الإنسان لا يمكنه الإعلان عن هروبه دائماً، بل أن ذلك الهروب ربما يبدو في الكثير من الأحيان ضمنياً وهادئاً في شكله الخارجي، لكنه مبني على العديد من التطورات والتغيرات في حياة الإنسان، حيث نجد أن ديكارت وضع العديدَ من المؤلفات والمقالات التي عبّرت بشكل واضح عن حالة الثوران التي كان يعيشها بداخله. ومن ذلك كتابه «قواعد لهداية العقل» الذي سطر فيه منهجاً جديداً مختصاً بتمحيص الدقة واليقين اللذين نجدهما في العلوم الرياضية. وهذا إضافة إلى مؤلفه «كتاب النور» الذي كان إدانةً لمصير الفيلسوف الإيطالي جاليليو الذي تسببت له اكتشافاته وأفكاره في حرب أعلنتها عليه الكنيسة.. وهذا بالإضافة إلى عدة مقالات مختصة بالفيزياء الرياضية، والتي كانت في مجموعها سبباً في كتابته مقاله الشهير «في المنهج» كخطوة لاحقة. ومن مقالاته «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة».. وغيرها من المقالات والكتب التي عُنيت بعلم النفس، مثل كتاب «في النفس»، والتي شكلت كلها مجتمعةً انعكاساً واضحاً للفكر الديكارتي المترابط والمتعمق والدقيق.
وفي هذا السياق، فإننا مدعوون لوقفة مع السلام الذاتي، نتمعن خلالها «قصة هروبنا»، حتى نستطيع تحديد بوصلتنا القادمة، وليكون ذلك الهروب مختوماً بقصة نجاة مكللة بالإبداع، تعود بالنفع على مجتمعاتنا وأوطاننا، فكل منا فيلسوف في مضمار اختصاصه!
***
د. محمد البشاري
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 مايو 2024