اخترنا لكم
عبد الله الغذامي: الهوية.. الدين واللغة
علاقتنا مع هوياتنا الجذرية تتشكل بصيغ متعددة بين الخوف على الهوية وبين الثقة في الهوية، وفي ذلك نرى علاقتنا مع الدين واللغة، فبعضنا يميل للتسامح والتسهيل، ويقابله فريق يأخذ بالتشدد والتمسك. كل هذا تبعاً لنظرة كل فريق لمعنى الهوية إما بوصفها مرجعيةً قارةً مستقرة وتكون هنا مرجعيةً تقتضي الرجوع إليها والاتجاء إليها وقت الخوف على الهوية نفسها أو الخوف على الذات، وهنا تتحرك الهوية وقت الأزمات، والوجه الآخر يرى أن الهوية قيمةٌ حيةٌ تنتعش كلما تحركت وتفاعلت وتزداد قوتها تبعاً لتحركها وسيرورتها، وفي ذلك نرى التشدد النحوي مثلاً يتساوى مع التشدد الفقهي، وكلاهما يَنظر إلى الدين أو اللغة على أنهما مرجعيةٌ يركن إليهما ونعود لأي منهما لتحصين أمر ديننا أو أمر لغتنا. وكلما خفنا على أحدهما تشبثنا بجذره الأصلي لكي نحميه من جهة ونحتمي به من جهة أخرى والقضية هنا هي حماية أو احتماء، ويقابل ذلك التسامح في الفقه أو في النحو عند من يرى أن الدين بوصفه للعالمين فهو إذن خطابٌ حي وحيوي وتفاعلي، وكذلك ينظر للغة بوصفها لساناً حياً لأحياء يعيشون زمنهم وليس زمن سلفهم، سلف الاحتجاج، تبعاً لكون اللغة ذات مرجعية جاهلية من حيث الشعر الذي هو ديوان العرب ومقولة ابن عباس إذا عجزتم عن فهم شيء من كتاب الله فارجعوا لشعر العرب (أي الجاهليين)، وعبر واحدة من هاتين الرؤيتين تنقسم علاقتنا مع الهوية، ويجري الخلاف والاختلاف بين أنصار التشدد بما أنه تشبث بالجذر، ومن هنا تحدث السلفية الدينية أوالسلفية اللغوية، في حين يأتي التسامح وطلب التيسير بما أن الهوية قيمة متحركة تتجدد عبر معاني الإنجاز والقوة المعنوية للأمة. وغالباً يزيد التشبث بالهوية وقت الأزمات بينما تظهر الراحة والانفراجة وقت شعور الذات بقوتها وصلابة واقعها ولن تكون في هذه الحالة بحاجة للاستعانة بالماضي للتقوي على الحاضر.
فالتفكير المتشدد يصدر عن خوف، ومن ثم يتشبث بالجذر ويتحول الجذر عنده لكتلة صلدة وربما متجمدة، بينما التفكير الحر فمنفتح وتفاؤلي، والهوية الجذرية عنده ثابتة وأيضاً متحولة، وعلامة ذلك تجربة العصر العباسي والثورة الثقافية في مطالع ذلك العصر، حيث نشأت علوم لم تكن من علوم العرب الأولى، مثل علم الكلام وعلم الفقه وعلم اللغة، وهي علوم قامت لخدمة القرآن الكريم عبر معارف طابعها التجدد والتنوع مما يجعل القرآن يعيش بين عقول متفتحة تحمل رسالة الدين وتوسع فضاءات المعاني والمعارف، ولا يخدم القرآن الذي من شرطه العالمية (العالمين) إلا أن تنفتح لغة العرب وعقول ثقافتهم لتعيش أزمنتها وليس ماضيها.
***
د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي