اخترنا لكم
أحمد المسلماني: اقتـلــوا أينشتاين
في ذلك اليوم.. قامت الجماهير الغفيرة باقتحام منزل أينشتاين، وبعد تخريب كل ما فيه، سرقوا محتوياته، وكانت آلة الكمان التي يعزف عليها من بين المسروقات التي آلَمتْ العالم الكبير.
ليس هذا فقط.. بل تحوّلت الدعوة لقتله إلى لافتة شهيرة في عشرات الشوارع، حيث وضعوا صورته وكتبوا إلى جوارها: «لم يُشنق بعد»!
لم يقف الأمر عند الغوغاء الذين شكلّوا ثقافة القطيع في تلك الأثناء، بل إن نخبة من علماء ألمانيا وصل عددهم - حسب وثائقي بُث مؤخراً - إلى (100) عالم قاموا بالهجوم على أعمال أينشتاين العلمية، ودحض نظرياته. وقال العلماء: إنه مشروع إعلامي لا مشروع علمي، وأن حجم الدعاية وليس مستوى البحث هو الذي أدّى إلى ذيوعه وشهرته، واستنكروا الترويج لنموذج نظري افتراضي، لا دليل عليه، على هذا النحو الكبير.
بدورها أسقطت الحكومة الألمانية النازية الجنسية عنه، ورصدت مكافأة قدرها (20) ألف مارك لمن يقتل أينشتاين، وقد كان ذلك المبلغ باهظاً، لدرجة أن عالم الفيزياء الكبير قال: هل موتي يستحق كل هذا الرقم؟
إن هذه المشاهد مجتمعة تستحق التوقف طويلاً، كيف لهذا البلد الذي أنتج كل هذا العلم وكل هذه الفلسفة أن يهوي أمام قائدٍ تافه مثل أدولف هتلر؟ كيف لبلدٍ قدّم للعالم فلاسفة بوزن كانط وهيجل ونيتشه وكارل ماركس وانجلز وماكس فيبر، كما قدم جوته وبريخت وشوبنهاور، وبيتهوفن وباخ وشتراوس.. كيف لبلدٍ أبدع إلى هذا الحد في كل شئ تقريباً أن ينهار أمام غوغائي محدود التعليم، محدود المستوى الاجتماعي.. راح يتحدث عن القيادة العرقيّة للعالم.
لقد وصل الحدّ إلى مستوى الهذيان، راحوا يقولون إن أينشتاين قادم من سويسرا، ونسوا أن هتلر قادم من النمسا. ولو أن ذلك الهذيان كان في نطاق السياسة وتعبئة القطيع فحسب لكان الأمر مفهوماً، لكن أن يتصدّى عدد كبير من نخبة علماء الفيزياء الألمان لتسفيه أينشتاين والحطّ من شأنه، والسخرية من نظرية النسبية، واعتبار المكانة التي حازتها مجرد دعاية وعلاقات عامة.. وليس أكثر، فهذا كله يدعو للصدمة والذهول.
إن الظاهرة النازية هى ظاهرة مرعبة، ليس فقط على صعيد التاريخ، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وإذا كان مجتمع قوي، ونخبة رفيعة الشأن، وتاريخ معاصر يكتظ بالعباقرة، قد ركع على ركبتيه أمام سفيهٍ استخدم سفهاء، واحتل الدولة والمجتمع.. ثم قاد الجميع إلى الهاوية.. فما الذي عساه أن يحصّن مجتمعات أقل ثقافة، ونخب أقل كفاءة، وربما أضيفت إليها أزمة ندرة وشحّ الموارد ومشاكل المياه والطاقة.
إن المناعة الألمانية التي سحقتها النازية تدعو للقلق بشأن دول تمتلك مناعات أقل، وإمكانات لا تقارن حتى بإمكانات ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى أو الثانية.
إن مخاطر الديكتاتورية، وسطوة «الأنا الواحدة» على القرار.. هى مخاطر لا حدود لها. مكاسب الديكتاتورية وإن تعاظمت فهى لا محالة ذاهبة إلى الانهيار، ومكاسب الحرية وإن قلت هى قواعد قابلة للعلو في البنيان.
القوة والحرية وجهان لعملة واحدة.
***
أحمد المسلماني
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 30 أغسطس 2024