اخترنا لكم

رضوان السيد: الأخلاق والقانون.. والاعتبارات القيمية

في زيارات البابا فرانسيس لدولٍ في شرق آسيا، تكررت في خطاباته أطروحات الأخوّة والمحبة والأمن والاستقرار. وقد لفتت انتباهي في الأسبوع الماضي خطاباتُه في إندونيسيا، وفي هذا الأسبوع خلال زيارته لسنغافورة يلفت الانتباه اهتمامه بالأخلاق والقانون، واستطراداً علائق الأمرين بالدين. وظائف القانون معروفة، وهي تتلخص بحفظ حقوق المواطنين وواجباتهم في أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وعلى درجات الحفظ أو الإضاعة تترتب آثارٌ تحسم فيها القوانين التي تطبق على المواطنين بالتساوي.

ويرتبط ظهور القوانين وتطورها بظهور الدول وإداراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل للقانون وظائف أخلاقية؟ ما طُرح الموضوع هكذا، بل بطريقة معكوسة، أي هل تأسس القانون أو يتأسس على الأديان والأخلاقيات؟ المرجعيات الكبرى للقوانين ثقافة المجتمعات، وفيها الأديان والأعراف والعادات. لكن فيها أيضاً الاختيارات المأخوذة من الخارج أو من الجوار إذا كانت هناك حاجة ملحة أو ضرورات التلاؤم مع السياقات الإقليمية والعالمية.

القوانين الأوروبية الحديثة التي تأثرت بها سائر القوانين، في الغرب والشرق، تهتم بسلطة إنشاء القانون من المجالس التشريعية، وتظل الإدارة السياسية تلعب فيها دوراً رئيسياً لأنها هي التي تقترحها على البرلمانات والهيئات الأخرى، وهي التي تتولّى الإشراف على إنفاذها.

ولا تتوخى السلطة أن تعكس الإرادة العامة للمجتمعات فقط، بل قد تكون لها مقاصد إرشادية أو توجيهية أو إصلاحية أيضاً كما هو معهود في القوانين وتعديلاتها دائماً أو إنتاج قوانين جديدة. إنّ البحث المستجد في الأخلاق والقانون افتتحه جون راولز، فيلسوف القانون الأميركي، في كتابه «نظرية العدالة» (1971). وللعدالة في جذورها البعيدة والقريبة أصول أخلاقية، والمشهور أنها بين الفضائل الأربع التي ذكرها أفلاطون في القوانين أو النواميس، وذكرها أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس».

ومع أرسطو ظهرت نظرية الوسط بين الإسراف والاستهتار في كل القيم التي تتطلب الانضباط الشديد حتى لا تتصدع فتصير ظلماً أو انفلاتاً في هذا الجانب أو ذاك. تصغي القوانين وتستجيب للمصالح والتلاؤمات.

ويريد راولز أن تتدخل الدولة بدوافع أخلاق «الإنصاف»، كما يسميها، لصالح الفئات الضعيفة والأقل حظاً في المجتمع. وهو يرى أن ذلك ممكن ومطلوب بخاصة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. وطوال خمسين عاماً ظلّت دراسات راولز موضع نقاش كبير وجدي ليس حول اعتبار الأخلاق في اشتراع القوانين فقط، بل وأيضاً في جواز تحول الاعتبارات الأخلاقية إلى قوانين. ليس هنا المجال لدراسة علائق الأديان بالقيم والأخلاق. لكنّ المعروف أنّ الأديان والأخلاق هي قوىً ناعمة، يعتمد تأثيرها على القناعات العميقة للأفراد والجماعات. وهي تؤثر بأشكال مباشرة وغير مباشرة في صناعة القوانين.

لكن ليس من المستحبّ أن تتحول الأديان والاختيارات الأخلاقية إلى قوانين. وذلك لأنها تصبح مفروضةً ويصبح لها معارضون ليسوا من أهل الدين والتدين أو ليسوا من أهل هذا المذهب الأخلاقي أو ذاك. في زيارته لسنغافورة واجه البابا فرنسيس مجتمعاً مختلطاً من الناحية الدينية، ليس إسلامياً ولا مسيحياً. ولذلك استدعى المفاهيم العامة للعدالة والسائدة على مستوى العالم. لكنه ما رأى تحويلها إلى قوانين، بل اكتفى بالنصيحة باعتبار الإنصاف وأخلاقيات إنسانية الإنسان.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، ليوم: 14 سبتمبر 2024 23:47

 

في المثقف اليوم