اخترنا لكم

فؤاد زكريا: مرض عربي اسمه "الطاعة"

لو تساءل المرء عن الصفة الأخلاقية التي يراد من الإنسان العربي أن يتحلى بها في كافة مراحل عمره، وفي جميع الميادين التي يتعامل معها خلال حياته الخاصة والعامة، لكانت هذه الصفة على الأرجح، هي الطاعة.

إن الطاعة، في ثقافتنا العربية، فضيلة الفضائل، وهي الضمان الأكبر المتماسك والاستقرار في المجتمع، وهي الدعامة الأساسية لاستتباب الهدوء والسلام بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين كافة المؤسسات التي ينتمي إليها الإنسان العربي خلال مراحل حياته المختلفة. والطاعة هي الفضيلة الصامدة، التي كان يعتز بها التراث العربي في أقدم عصوره، وما زالت في نظر كتابنا وموجهينا ومعلمينا المعاصرين وساماً على صدر كل من يتحلى بها. إنها في كلمة واحدة، الفضيلة التي تبدو، في نظر الثقافة العربية، صالحة لكل زمان ومكان.

فضيلة أم رذيلة؟

والفضيلة التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال تسير في الطريق المضاد لهذا التراث الأخلاقي والاجتماعي الراسخ، المتأصل، القديم العهد. ففي رأيي أنه إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا أمام التحديات، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب، إنها، بغير تحفظ، رذيلتنا الأولى، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا.

وأستطيع أن أقول إن تنشئة الإنسان العربي ترتكز، في مراحلها المختلفة، على تثبيت هذه القيمة الخلقية والاجتماعية وغرسها بطريقة راسخة حتى تصبح، في النهاية، جزءاً لا يتجزأ من تركيبه المعنوي. فمنذ سنوات العمر الأولى تعمل الأسرة على أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة "طاعة"، وتقدم "طاعة الوالدين" على أنها قمة الفضائل العائلية، بل إن الأبناء حين يكبرون، ينسبون نجاحهم إلى "دعاء الوالدين" الذي حلت بركاته عليهم لأنهم كانوا أبناء "مطيعين". ويعمل تراث شعبي كامل على ترسيخ فكرة الطاعة بين الأبناء والآباء، وكأنها هي النموذج الأعلى للسلوك الأسري المثالي، وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال، تكون النتيجة الطبيعية هي جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه، وتفاخر بشعار رجعي متحجر هو: "وينشأ ناشئ الفتيان فينا .... على ما كان عوده أبوهُ"!!.

أما العلاقة بين الزوجين فإن أساسها الذي تفرضه التقاليد، وتحاصر به المرأة من كافة الجوانب، هو طاعة المرأة لزوجها. إن الزوج هو الآمر، وهو الممسك بالدفة، أما الزوجة فإن سيلاً عارماً من الأدبيات والتراث الشعبي والنصائح الموروثة يؤكد أن فضيلتها الكبرى تكمن في كونها زوجة "مطيعة". فإذا خالفت أوامر "الزوج القائد" أو حاولت الإفلات من قبضته فهناك دائماً بيت الطاعة، أعني سجن التمرد.

فصام:

وحين ينتقل الطفل العربي من خلية المجتمع الصغرى، أعني الأسرة، ليبدأ في الاندماج في مجالات أوسع وأكبر، يجد نظاماً تعليمياً يقوم، من أوله لآخره، على مفهوم "الطاعة". فأسلوب التعليم لا يسمح بالمناقشة المستقلة، وإ،ما يفترض ضمناً أن التلميذ كائن مطيع، جاء ليستمع باحترام وإذعان، ولا يراد منه إلا أن يردد ما تلقاه، ويكرر ما حفظه عن ظهر قلب. وعلى الرغم من تلك التلال الهائلة من البحوث والتقارير والتوصيات، التي تصدر عن أساتذة التربية وأخصائييها في كل عام، والتي تدعو كلها إلى نظام في التربية ينمي الملكات الابتكارية والإبداعية، ويؤكد الشخصية الاستقلالية والقدرة على مواجهة المواقف غير المألوفة، الخ ... فما زال التعليم عندنا نصياً، يحتل فيه "الكتاب المقرر" مكانة قدسية، ولا يقوم المعلم فيه إلا بدور الكاهن الذي يحض سامعيه على الالتزام بكل حرف في "الكتاب". وتعمل المؤسسة التعليمية ذاتها على توطين فيروس "الطاعة"في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، فإذا بمعاييرها لتقييم أداء التلاميذ ترتكز كلها على الترديد الحرفي للمعلومات المحفوظة، وتعطي أعلى درجات التفوق "للتلاميذ المجتهدين". وهي في قاموسنا التعليمي لا تعني إلا "الحافظين" وتعاقب كل من يبدي رأياً ناقداً أو مخالفاً فننزله أسفل سافلين. والأدهى من ذلك والأمر، أن أساتذة التربية وأخصائييها، الذين يرون كارثة التعليم المرتكز على "الطاعة" بأم أعينهم في كل لحظة، لا يتوقفون عن التحليق في عالمهم الخيالي، وإصدار الأبحاث والنشرات الداعية إلى تعليم إبداعي مبتكر، ولا يحاول أحد منهم أ، يقترب من السؤال الأساسي والجوهري: ما هي الأسباب الحقيقية لهذا "الفصام" بين كتاباتنا وواقع التعليم؟ وكيف نقيم جسوراً بين ما ندعو إليه، على الورق، وما يحدث في قاعات الدرس؟ وكيف نخطو، ولو خطوة واحدة، في سبيل عبور الهوة بين التعليم الإبداعي الذي نحلم به، والتعليم المذعن المطيع الذي أنشب أظافره في جميع مؤسساتنا التربوية، بدءاً من الروضة حتى الدراسات العليا في الجامعة؟

وحين ينتقل الشاب العربي إلى مرحلة الحياة العملية، يجد علاقات العمل مبنية، في الأساس، على مبدأ الطاعة، فعلاقته بالمسؤول هي علاقة "رئيس بمرؤوس" وهو في ذاته تعبير يحمل دلالات بليغة. فكلمة "الرئيس" مشتقة من "الرأس"، أي أن المسؤول في أي موقع للعمل هو رأس العاملين فيه، وهو أعلاهم مقاماً، كما أنه عقلهم المفكر. وأهم الصفات التي تعبر عن تقدير المجتمع للموظف العربي، والتي تؤهله للارتقاء في منصبه، هي أني كون "موظفاً مطيعاً"، يستجيب للرؤساء (أي يحني رأسه الصغير أمام الرؤوس الكبيرة) ولا يناقشهم. وأسوأ أنواع العاملين، حسبما تذكر معظم "التقارير السرية" التي يتولى فيها المديرون تقويم عمل مرؤوسيهم، هو أن يكون ناقداً متمرداً "غير مطيع".

وفي السياسة والحكم:

ولكن أهم الميادين التي ينخرط فيها الإنسان العربي بعد أن يبلغ مرحلة النضج، هو ميدان السياسة والحكم، وهنا يصبح مبدأ الطاعة، في وطننا العربي، هو السائد والمسيطر بلا منازع.

فالأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لا تريد من المواطن إلا أن يكون "مطيعاً" لأوامر الحاكم، وأداة "طيعة" في يده، وقد تتخذ هذه الدعوة إلى الطاعة شكلاً سافراً، فتتولى أجهزة الإعلام المأجورة أو المنافقة تصوير الحاكم بأنه مصدر الحكمة ومتبع القرار السديد، ومن ثم فأنكل ما على المواطنين هو أن يوكلوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه، فهو الذي يفكر بالنيابة عنهم، وهو الذي يعرف مصلحتهم خيراً مما يعرفون، وهو الذي يعفيهم من مشقة اتخاذ أي قرار. وفي مقابل ذلك فإن أي نقد أو اعتراض أو تساؤل يوصف بأنه "عصيان"، هو إثم لا يغتفر. فكبيرة الكبائر هي "شق عصا الطاعة" (لاحظ الارتباط، في التعبير اللغوي التراثي، بين "الطاعة" و"العصا"!)، وجريمة الجرائم – كما كان يؤكد دائماً أحد الحكام العرب – هي "رذالة المثقفين"، أي مما حكتهم وتساؤلاتهم في الأمور التي ينبغي أن يترك زمامها للحاكم.

ولكن دعوة الحكام إلى الطاعة قد تتخذ طابعاً غير مباشر، حين يصبح الشعار الذي يسود المجتمع هو "الاتحاد والنظام"، أو حين يطلب إلى الشعب الاستغناء عن ديمقراطية النقد والمعارضة، والاكتفاء "بديمقراطية الموافقة"، أو حين تخنق كل صيحة احتجاج بحاجة أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". على أ، أشهر هذه المحاولات المستترة لتأكيد مبدأ الأمر والطاعة في علاقة الحاكم والمحكوم هي تحويل هذه العلاقة إلى رابطة عائلية، بحيث يصبح الحاكم "كبير العائلة"، وينظر إلى المجتمع كله على أنه "عائلة واحدة"، أو ما يسمى – في مصطلح العلوم الاجتماعية – باسم "النظام الأبوي أو البطريركي" (وكلمة بطريرك ... الانجليزية مشتقة من اللفظ اللاتيني باتر Pater ويعني "الأب").

ذلك لأن السمة المميزة لعلاقة رب الأسرة بأفرادها هي أن له عليهم حق الطاعة. وهكذا فإن الحاكم، حين يصبح "كبير العائلة" أو "رب الأسرة الواحدة"، يطالب لنفسه بحقوق الأب، الذي لا يخضع لمحاسبة أبنائه، والذي تطاع أوامره، مهما كانت قسوتها، برضاء واختيار، والذي ينبغي أن تقابل صرامته بالحب، لأنها تستهدف دائماً صالح "العائلة"، والأهم من ذلك أن "الأب أو "الكبير" هو الذي جمع الخبرة والمعرفة والرأي السديد، وكل من عداها أقل منه قدرة، ومن ثم ينبغي أن يترك القرار له وحده، وعلى الآخرين أن يسعدوا ببقائهم في الظل. حتى لو بدا أن في قراراته ظلماً أو عدواناً، فإن ذلك يرجع إلى جهلهم بمصالحهم الحقيقية، التي يعرفها "الرجل الكبير" خيراً من أي فرد من أفراد "الأسرة".

انتزاع جذور النقد:

أما في الأنظمة التي تستولي على الحكم بانقلابات عسكرية، وما أكثرها في وطننا العربي، فإن مبدأ الأمر والطاعة يصبح هو المسيطر بلا منازع. ذلك لأن تكوين شخصية الضابط أو الجندي المحارب، في الجيش يعتمد أساساً على تعويده أن يصبح إنساناً مطيعاً، وانتزاع كل جذور النقد والتساؤل من شخصيته. فالجيش مؤسسة تقوم كلها على ترتيب هرمي يسود الرتب المختلفة فيه نظام صارم من الأمر والطاعة. ومن المؤكد أن هذا النظام قد أثبت فعاليته في المهمة الأساسية التي تضطلع بها الجيوش وهي القتال في سبيل الوطن، دفاعاً أو هجوماً، بدليل أن معظم جيوش العالم كانت وما تزال تأخذ به. ولكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين ينقل هذا النظام الصارم من ميدانه الأصلي، ويصبح أساساً لحكم مجتمع كامل، بحيث تغدو علاقة الحاكم بالمحكوم مماثلة لعلاقة الضابط الآمر بالجندي المطيع. فمثل هذه العلاقة تؤدي حتماً إلى تخريب عقل المواطن وضياع قدرته على المشاركة في حل مشكلات مجتمعه، وتولد لدى الحاكم إحساساً متضخماً بذاته، حتى ليتوهم أن الوطن قد تجسد في شخصه. وما أكثر ما يمكن أن يقال عن النتائج المأساوية المترتبة على تطبيق الأنظمة العسكرية الصارمة على مستوى المجتمع بأكمله، وتحويل مؤسسات الدولة إلى نماذج مبكرة للثكنات الحربية. ولكن يكفينا، تحقيقاً لأهداف هذا الحديث، أن نشير إلى أن مبدأ الطاعة هو القيمة الأساسية والفضيلة الكبرى لرجل الجيش، وهو الذي يغدو مسيطراً حين يدار المجتمع بأكمله على النسق المطبق في المؤسسة العسكرية.

إن الطاعة وباء لا يفلت منه أحد، وإذا أطلقت لها العنان أصابت عدواها الجميع. ذلك لأن كل ما يفرض الطاعة على من هم دونه، يجد نفسه مضطراً إلى طاعة من يعلونه. فالأب الذي يمارس سلطات دكتاتورية على أبنائه وزوجته، يجد نفسه خاضعاً مطيعاً في عمله، ومقهوراً مكبوت الحرية على يد حاكمه. وفي جميع الأحوال يظل التسلسل مستمراً، فلا أحد يفلت من ذل الطاعة، ولا أحد يتنازل عن أية فرصة تسنح له كيما يمارس متعة فرض أوامره على غيره. حتى الحاكم المطلق يظل حبيس جبروته، لا ينام مطمئناً، ولا يسافر أو يتحرك إلا تحت أعين حراسه، ولا يملك في لحظة واحدة أن يعصى أمراً لمن يتحكمون في شؤون أمنه وسلامته.

التمرد .. قيمة أيضاً:

وهكذا ففي كل مجال من مجالات الحياة يجد الإنسان العربي مبدأ الطاعة مفروضاً عليه، يدفعه إلى المسايرة والخضوع والاستسلام، ويقضي على كل إمكانات التفرد والتمرد في شخصيته. إن الطاعة تحاصرنا من كل جانب، وتلازمنا في جميع مراحل حياتنا، وتفرض نفسها حتى على من يدعون "الثورية" في مجتمعاتنا.

على أنك حين تطيع، لا تكون ذاتك، بل تمحو فرديتك وتستسلم لغيرك. وأكاد أقول إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا "مطيعين": فالمصلحون الذين غيروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم في عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التي كان يسير عليها أسلافهم. وهكذا فغن كل شيء عظيم أنجزته البشرية كان مقترناً بقدر من التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة. وأكاد أقول إن الإنسان لم يكتسب مكانته في الكون إلا لأنه رفض أن "يطيع" الطبيعية ويستسلم – كما تفعل سائر الكائنات الحية – لقواها الطاغية. وهكذا فإن الإنسان الذي يعرف معنى وجوده هو ذلك الذي يهتف في اللحظات الحاسمة من حياته: أنا متمرد إذاً أنا موجود.

***

د. فؤاد زكريا

خطاب إلى العقل العربي، د/ فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1990. نقلا عن موقع الأنطولوجيا، يوم: Sep 29, 2020

في المثقف اليوم