تجديد وتنوير

منذ أطلق تيار التنوير صيحته التاريخية التي أذن بها الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والمنطقة تعيش على صدى خطاب التجديد تبشيراً ورفضا وقبولاً ورداً، وفي هذا السياق يمكن إدراج أكثر من ثمانين بالمائة مما يكتب في الشأن الإسلامي منذ أكثر من مائة عام!!

أما التحدي الذي يظهر أمام تيار التنوير فهو في الواقع التيارات الأصولية التي تعيش في لحظة محددة من التاريخ، وتعتبر أن أي توجه للتنوير هو عدوان على قرار الشـريعة اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

وهنا لا بد من القول بأن الأصولية مصطلح غربي، وقد اكتسب دلالة سلبية لأنه يطالب الواقع بالاحتكام إلى الماضي، الذي تحددت أصوله بنصوص سماوية غيبية يتعين التزامها ولا يصح تجاوزها، وهو تعبير صحيح عن الانحشار في زاوية محددة من التاريخ والاحتكام إليه، وهنا أود القول بأنني لا أعترض أبداً على العودة إلى عصر النبوة ولكنني أعترض على الفهم التقليدي للالتزام بتلك اللحظة التاريخية، بمعنى منع العقل من المبادرة والاختيار والاكتفاء بقواعد توليتارية شمولية يوتوبية على صيغة: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، ولو كان خيراً لهدوا إليه، وما ترك الوحي للعقل من عناء، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

يستند الفهم الأصولي إلى عمومات شديدة الصرامة ثم يجللها سرمدياً بدثار الغيب بحيث تستحيل مناقشتها أو الخوض في تأويل ظاهرها أو تخصيص عامها أو تقييد مطلقها أو حتى تنقيح مناطها، بحيث تصبح كليات شرعية لا تحتمل النقاش ومن السهولة بمكان إذن إلقاء الآخر المختلف خارج هذه الدائرة، حتى يتعين رفضه وانتباذه.

- قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات والأرض

- قل أأنتم أعلم أم الله؟

- وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم

- اتبع ما أوحي إليك من ربك

- اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء

- وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.

- فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.

وبالوسع أن نضيف أكثر من مائة نص كلها تحث على طاعة الله ورسوله وهو الأمر الذي تم اختزاله فيما بعد على شكل نصوص مطلقة منع فيها التأويل والتخصيص والتقييد، وأصبح أي إعمال للعقل في المسألة التشريعية نوعاً من العدوان على النص الحكيم، وهو ما أدى إلى تجنب كثير من الحكماء الدخول إلى تلك المنطقة الحمراء واجتنابها بالكلية.

إنني في الواقع لا أعترض أبداً على أي من هذه النصوص المعصومة، وبالتالي لا أعترض على العودة إلى فهم النبوة لهذه الحقائق ولكنني أعترض على السياق الذي وضعت فيه ممنوعة من التأويل والتخصيص والتقييد، ولا أجد في معرض الجدل هذا أفضل من أذكر بالمقابل طائفة من النصوص القرآنية والنبوية التي أمرت باستعمال العقل إلى الغاية ودعت إلى تغير الأحكام بتغير الأزمان ولكنها عوملت من التيار إياه بالتقييد والتخصيص والتأويل الذي يصـرفها عن أن تكون قواعد فكرية للحوار والمعرفة:

 لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي

- قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق

- فاعتبروا يا أولي الأبصار

- لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط

- إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي

وكذلك وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

- أنتم أعلم بأمور دنياكم

- إذا أمرتكم بالأمر من أمور دينكم فهو مني وأنا قلته وإن أمرتكم بالشيء من أمر دنياكم فإنما أظن ظناً.

- إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب

إن استعراض منهج النبي الكريم في عصـر الرسالة في وعيه بما هو ثابت وما هو متحول يجعلنا نقف مشدوهين أمام الإرادة العجيبة في التطور والتحديث التي ظهرت في عصـر الرسالة ففي إطار القرآن الكريم الذي هو المقدس الأول تم نسخ عشرين آية على الأقل خلال عشر سنوات من عمر الرسالة، وعدد مماثل من السنن النبوية، وفي هذا المنسوخ أحكام تتصل بالحدود والحكام والعبادات والمعاملات وسائر فروع التشريع، بل إن مسألة القبلة التي هي أوضح ملامح الشريعة ورموزها قد نسخت مرتين على الأقل فمضى الأمر في أول عصر الرسالة إلى استقبال الكعبة ثم بيت المقدس بعد فترة ثم عاد الأمر باستقبال الكعبة: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.

وفي نكاح المتعة تمت الإباحة مرتين والتحريم مرتين خلال عصـر الرسالة، وفي النهي عن ادخار لحوم الأضاحي، وتحريم تزويج الزانية والزاني على العفائف الذي نسخ فيما بعد.

وهكذا فإن أمر النسخ الذي هو أوضح أشكال المتغير في إطار النص وإن توقف عند موت الرسول الكريم ولكن الأمة مضت في إعمال قواعد أخرى تحقق الغرض نفسه من الاستجابة لمتغيرات الحياة في التشريع ولكن عبر تسميات أخرى كتخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر، وعلى سبيل المثال فإن حد القطع المنصوص عليه في القرآن الكريم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، تم تخصيص عمومه من خلال اجتهاد الفقهاء، ولم يمض عصر التدوين حتى نص الفقهاء على عدد من أنواع السرقة لا قطع فيها مع أنها مشتملة بعموم النص، فالنباش والطرار والمختلس والغال والغاصب والنشال والمكره لا يقام عليهم الحد رغم أنهم مشمولون بعموم النص، وذلك إعمالاً لقاعدة ادرؤوا الحدود بالشبهات، وتحقيقاً لعلة التشريع، ومضى الفقهاء إلى وضع أكثر من ثلاثة عشر قيداً على حد القطع بحيث لا يقام إلا في إطار ضيق جداً، وهو ما يفسر لك منطق البحث عن الغايات في الأحكام.

على كل حال فليس المضي في هذا البيان محض مطالع أصولية نسعى إليها، بقدر ما هو تقرير أن الثابت والمتغير في الشـريعة أفق استيعابي توحيدي يمكن أن يحقق اجتماع الأمة على ثوابت كلية تحقق الإعذار للمختلف.

وعلى ذلك مضـى الفقهاء يؤمنون بالعصر والزمان والمكان، ففي فقه الشافعي على سبيل المثال فإن الشافعي كتب فقهه في العراق في كتابه الحجة، ولكن ما إن تحول إلى مصـر حتى تبينت له مسائل كثيرة لم تكن بادية فيما قبل، وبالفعل شرع بكتابة فقهه الجديد في كتابه: الأم، وعندما انتهى الإمام من تحريره وقف بكل شجاعة وجرأة يقول: لا أحل لأحد أن يفتي بمذهبي القديم، بعد أن حررت المذهب الجديد، وليس هناك نظرياً أدنى شك أنه كان سيقف الموقف ذاته لو عاش عشر سنين أخرى، ودخل أمصاراً أخرى كالمغرب والأندلس مثلاً، وقد مضت الشافعية إلى ترك الفتيا بمذهب الشافعي القديم إلا في أربع عشرة مسألة، وقد كتب مؤخراً عبد العزيز قاضي زاده رسالة ماجستير استقصى فيها سائر المسائل التي يفتي بها الشافعية من المذهب القديم فكانت ثلاثين مسألة لا غير!!.

يمكن قراءة مشهد آخر لا يقل ألقاً عن موقف الإمام الشافعي في فقه الإمام الجليل مالك بن أنس عندما أتم إعداد كتابه الموطأ وهو من أوثق كتب السنة وأجمعها، حتى طار صيته في الآفاق وحين لقيه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أعجب بعلمه غاية الإعجاب وقال له فيما قال: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس ولكنك تكتم، وأمر أبو جعفر أن ينادى في المدينة: ألا لا يفتى ومالك بالمدينة. ثم قال والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه!! فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!! لقد كانت في الواقع فرصة تاريخية للإمام مالك بن أنس لو أراد أن يغتنمها حيث سيصبح حينذاك صاحب الكتاب الثاني في الإسلام وسينشر علمه في كل أفق بسلطان الدولة، ولكن الإمام مالكاً أظهر موقفاً حضارياً فريداً يوم رفض هذا العرض المغري المثير، وقال بمنطق ديمقراطي وحضاري فريد، لا يا أمير المؤمنين، لا تحمل الناس عليه، إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وقد حدث كل بما سمع، .....

إنه وعي آخر في ثقافة الثابت والمتغير جعلت إمام أهل المدينة يقف هذا الموقف الفريد، الذي قد يبدو مقاوماً لإرادة الخليفة في توحيد الأمة، ذلك أنه أدرك أن الوحدة الفكرية ليست قراراً سياسياً تتخذه السلطة، وأنه ليس من مقتضى التوحد إقصاء الفكر الآخر وإلزام الناس بالثابت من أفق واحد، في وعي فريد لحاجة الحياة إلى التطور والتحديث في كل أفق.

بالتأكيد لن تستطيع مقالة كهذه أن تعالج مسألة دقيقة وصاخبة كهذه المسالة، ولكن بإمكانها أن تطرح بعض التساؤل حول ثقافة الثابت والمتغير، وفق الآية الكريمة: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً فاستبقوا الخيرات، وكذلك الآية: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

إن فكرة الثابت والمتحول هي جزء من ثقافة الإعذار التي تهدف إلى توفير مظلة وافية يأوي إليها أكبر عدد ممكن من أهل لا إله إلا الله، ولا تضيق بأحد من أهل القبلة، وهي ترسم ملامح تيار الوسطية وهي بالتالي تحتاج إلى تحرير قابل للتطور أيضاً بحيث لا يصبح هذا التحرير نفسه عصياً على التطور والاستجابة لحاجات الحياة، وهنا فإنني أطرح معياراً للمناقشة والتساؤل في تعريف الثابت والمتغير، بحيث يكون الثابت من الأحكام هو ما انعقد عليه الإجماع بحيث لم ينهض إمام معتبر بالخلاف فيه، والمتغير هو ما تردد في قبوله إمام أو مذهب محترم، وبذلك فإن ما خالف فيه إمام معتبر لا بد أن يكون من باب المتغيرات، خاصة أن الأمة استمعت إلى خلافه وأعذرته في اختياره، وأقرت منزلته ومكانته على الرغم من اختياره هذا.

 وبتعبير رياضي فإن الثابت هو القاسم المشترك الأعظم بين أبناء الأمة اليوم، بحيث يكون كل خلاف فقهي أو تشريعي تعتمده مدرسة فقهية سائدة هو من باب المتغير، وبذلك فإن المذاهب التي تنتشر اليوم في العالم الإسلامي، وتتجه إلى القرآن الكريم هادياً ونوراً، فهي أهل أن تعيش في جنة الفقه الإسلامي وتسعد بالروح الغامرة في الإسلام التي تجتمع عليها القلوب والأفئدة. 

إن منطق الثوابت والمتغيرات ينبغي أن يتبرأ من الشخصانية والطائفة والفئة، ويحلق صوب المقاصد الكبرى للإسلام، ولا يقتضي ذلك مفهوم التذويب والصهر بحيث تنتهي الخصوصيات، وإنما هو إقرار بالخصوصية الناشئة لدى كل فريق، وفي الوقت عينه، بالروح الجامعة التي يأوي إليها الكل، فما كان ثابتاً في مدرسة فقهية معينة قد يكون من باب المتغير في مدرسة فقهية أخرى، وهو ما يعبر عنه عادة بلازم المعتقد ولازم المذهب، فقد لا يتم الاتفاق في إطار لازم المذهب ولكن يلزم الاتفاق في لازم المعتقد، وعلى منطق الثابت والمتغير أن يرتقي إلى أفق توحيد جمعي يتسع للكل ولا يضيق بأحد من أهل لا إله إلا الله.

لقد تمكن العقل الإسلامي اليوم من تقبل المنجز الحضاري القادم من جهات متعددة على الرغم من أنه إلى حد قريب كان يتعاطى مع هذه المنجزات بقدر غير قليل من الريبة، وكان الاستغناء عن القوم الكافرين يحمل الوعي الجمعي هنا على التنكر لكثير من المنجز الحضاري، وهو حس تحمل دعاة التنوير قسطاً غير قليل منه في تحارب الأمم الأخرى، ولم تتقبل أوروبا صورة كوبرنيكوس للمجموعة الشمسية ولا مناظير غاليلو وأوشك الرجلان أن يدفعا روحهما ثمناً له، على أساس أن النتائج الكوبرنيقية كانت تتناقض مع الموروث الثقافي الذي اكتسب طابع العصمة، ولم تتمكن مناظير غاليلو من تغيير قناعات الناس بالموروث المعصوم على الرغم من أنها قراءة مجردة بالعين الباصرة!!.

الأمر نفسه عانى منه المجتمع الإسلامي لدى العديد من المنجزات الحضارية ويمكن أن نشير هنا إلى عدد من النوادر المشهورة حول التلفون الذي كان يتكلم منه الشيطان، والتلفزيون الذي اكتسب في مرحلة ما اسم الأعور الدجال، والسيارة التي كانت تعاني هي الأخرى من الاتهام بأنها إعراض عما خلق الله من أنعام مباركة، إلى مضاهاة يقوم بها الكافرون!! وكذلك الفتاوى المتعددة التي صدرت عن مراجع دينية في الحجاز في السبعينات تستنكر استنكاراً شديداً وصول الإنسان إلى سطح القمر وتعتبر محاولة ذلك أو تصديق حصوله انتهاكاً للشـريعة!! وأذكر جيداً أن إمام مسجد النوفرة في حينا قبل عشـرين سنة على سبيل المثال كان يرفض استخدام المروحة الكهربائية بدافع من إحساسه بأن من الواجب الاستغناء عما يصنعه (الكافر)!

بالتأكيد لم يكن ذلك شأن المتنورين في أي من مراحل التاريخ الإسلامي ولكن هذا المشهد كان من الممكن قراءته في زوايا متعددة، وكان يشكل ظاهرة عامة في الوعي الاجتماعي، ولعل من أقربها وأوضحها الطريقة التي كان عدد غير قليل من علماء الفقه الإسلامي يواجهون بها مسألة التصوير الفوتوغرافي، فقد ظل التصوير الفوتوغرافي من وجهة نظر كثيرين لوناً من العدوان على الشريعة، وهو أمر يذكره ويعرفه كل متابع للشأن الفقهي في المجتمعات الإسلامية، وكانت بين أيدينا النصوص الكثيرة المتضافرة التي يدل ظاهرها على ذلك، مثل إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، وهو أمر مارسته حركة طالبان بامتياز حين منعت كل شكل من أشكال التصوير لذوات الأرواح!! ولكن الناس تجاوزت ذلك فيما بعد، وتم تأويل النصوص التي يدل ظاهرها على منع التصوير، ونحن نروي اليوم هذه المسائل على سبيل التندر والتعجب وهو أمر لم يكن وارداً على الإطلاق ربما قبل جيل واحد!!

على كل حال فالعقل الإسلامي اليوم تجاوز عموماً هذه المرحلة وأصبح جاهزاً لتقبل المنجز الحضاري أياً كان بلد المنشأ وثقافته، ولم يعد مهماً أن نسأل عن الاكتشاف العلمي والتكنولوجي هل هو من إعداد المسلم أو الكافر، لقد تأكدت صحة القاعدة الفيزيائية، وجربت فائدة هذا المنتج، ولا يشكل أي عقدة كونه من صناعة يهودي أو ملحد أو مؤمن!!

ولكن المسألة ليست كذلك حتى الآن في إطار السنن الاجتماعية، فهذه السنن الاجتماعية حتى الآن تعامل بريبة غير محدودة عندما ينظر إليها على أنها من كيد الكافرين لتحويل الأمة عن دينها وثقافتها، ولا يتعاطى العقل الإسلامي مع هذه السنن الاجتماعية بالطريقة نفسها التي يتعاطاها في ميدان السنن الفيزيائية. الديمقراطيات اليوم أصبحت إنجازاً إنسانياً ومن الواضح أنها نقيض الاستبداد ، وأن أصحاب العقول في العالم متفقون أن الديمقراطية هي حكم العدالة، وأن نضال الشعوب في سبيل الديمقراطية إنما هو سعي لإحقاق الحق ورد المظالم عن الناس ومقاومة الاستبداد والظلم، وهي من صلب مقاصد الأديان جميعاً، ولكن لا تزال الديمقراطية محل جدل غير قليل في الخطاب الأصولي، وثمة من يعتبرها نقيضاً مباشراً للشورى، ولم يشفع لها حتى الآن الإجماع البشري عليها، والأمر نفسه في إطار حقوق الإنسان، فإن نضال البشرية من أجل الانتصار لحقوق الإنسان التي تم إقرارها في يوم مبارك هو العاشر من يناير 1946، إنما يعتبر جهاداً في الدرب الصحيح، ولكن للأسف فإن كثيراً من التيارات الإسلامية تتعاطى مع هذه السنن الاجتماعية بالريبة والتردد والتخوين، مؤخراً قرأت ما كتبه أحد الأعلام الكبار حول ما أسماه ثالوث الشر المخيف، وراح يتحدث عن خطر هذا الثالوث الثقافي على الإسلام والمسلمين ، مبيناً أن التحذير من هكذا انحراف مهمة شرعية وواجب ديني، وحين خطوت معه خطوة أخرى لأقف على مغزى هذا الثالوث الأخطر في حياة المسلمين فوجئت بكل صراحة أن ثالوث الشر هذا هو بكل وضوح: المساواة والحرية والديمقراطية!!!

هكذا وبدون تردد يطرح حتمية المواجهة بين الفكر الإسلامي وبين الحرية والمساواة والديمقراطية!! ومع أنه كان متجهاً لإقرار أن الإسلام دين العدالة والتسامح والشورى ولكنها رأى في مصطلحات الحرية والمساواة والديمقراطية نقيضاً مباشراً لتعاليم الإسلام مع أن هذه المصطلحات اليوم تحظى بتأييد الشرفاء في العالم كما تحظى النظرية النسبية بتأييد الفيزيائيين، وكما يحظى كروية الأرض بتأييد علماء الفلك جميعاً.

إن علي أن أشير هنا أن الأمة الإسلامية في وعيها الأول بدلالات الكتاب الكريم لم تكن تتعاطى معه بالطريقة التغييبية التي نمارسها اليوم ، وهو أيضاً ما يدل له القرآن الكريم، فالقرآن الكريم واضح في أن سطور الكتاب الكريم على رغم عظمتها لا تحتوي كل كلمات الله ولا كل آياته، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عليم خبير، ومن المعلوم هنا أن آيات القرآن الكريم كلها يمكن أن تكتب بقلم واحد ولا حاجة لبحار من الحبر، ولا لأطنان من الأقلام، والمعنى نفسه يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.

إن التأكيد على هذه الحقيقة هو الذي جعل كثيراً من علماء الإسلام يتحدثون عن قرآن مسطور وقرآن منشور، فالمسطور هو هذا الوحي الذي تلقته الأمة بين دفتي المصحف، والمنشور هو هذا الكون الذي يقرأ الإنسان عجائبه في كل شيء، وربما قالوا وحي متلو ووحي مجلو، الأول تتلوه في صحائف الكتاب والثاني يتجلى في صحائف الأكوان، وهكذا فإن سنن الله في الآفاق وهو ما يتجلى في القوانين الفيزيائية والطبيعية والاجتماعية التي اتفقت عليها كلمة البشر، وقرأها الإنسان بوضوح في كتاب الكون المنشور، لها قوة الدليل في الكتاب المسطور.

***

د. محمد حبش

 

مقدمة: بين الرسالة والأداة

ليس من وظيفة الدين أن يؤسس سلطة، ولا من مهمته أن يُسيّر شؤون الدولة. الدين في جوهره دعوة للسمو الروحي، وتحفيز للأخلاق، وإطار للتأمل في الغاية والمعنى. لكن حين يُختطف الدين ويُحشر في أروقة الحكم، يتحوّل من رسالة إلى أداة، ومن دعوة إلى سلطة، ومن نور إلى عصا بيد الحاكم. في هذا السياق يصبح نقد "الدين السياسي" ليس خيارًا فكريًا، بل واجبًا أخلاقيًا وفكريًا، من أجل حماية الدين من التشويه، والناس من الاستغلال.

لم يكن اقتران الدين بالسياسة يومًا مجرد صدفة عابرة، بل ظاهرة متكررة في التجارب البشرية. فمنذ العصور القديمة كانت السلطة السياسية تبحث دائمًا عن شرعية عليا تُحصّن وجودها من النقد والمساءلة. في أوروبا العصور الوسطى مثلًا، تحوّل الدين الكنسي إلى غطاء للاستبداد السياسي، فخضع الناس لسلطة مزدوجة: سلطة الملك وسلطة الكنيسة، حتى جاءت حركة الإصلاح الديني والثورة الفكرية التي فصلت بين المجالين.

وفي التجربة الإسلامية، ورغم أن الإسلام في بدايته لم يقدَّم كدولة مؤسساتية، بل كرسالة دينية وروحية، إلا أن تطور الدولة الأموية والعباسية وما تلاهما جعل الدين جزءًا من شرعنة الحكم. فالمؤسسة الفقهية في كثير من المراحل التاريخية لم تكن مستقلة تمامًا، بل خاضعة أو متداخلة مع مشروع السلطة، تمنحه الغطاء، وتُعيد إنتاج خطاب "طاعة ولي الأمر" باعتباره واجبًا دينيًا.

حين نتحدث عن "الدين السياسي"، فإننا لا نقصد الدين في ذاته، ولا الممارسات الروحية أو الشعائر التي يقوم بها الأفراد والجماعات. بل نعني تحديدًا تحويل الدين إلى أداة سياسية عبر:

- تديين الدولة: حين تُصبح القوانين والسياسات العامة مُعرّفة حصريًا بمنظور ديني تفرضه السلطة.

- أسلمة السياسة: حين تستخدم الأحزاب والحركات السياسية الدين كأيديولوجيا للتعبئة وكسب الشرعية.

- احتكار الحقيقة: حين تحتكر فئة معينة – سواء دولة أو مؤسسة دينية رسمية – تفسير النصوص ومن ثم تُسكت الأصوات الأخرى.

الدين السياسي بهذا المعنى ليس إيمانًا ولا تجربة روحية، بل أيديولوجيا تُستعمل لإدارة الصراع السياسي، ولإضفاء القداسة على قرارات دنيوية.

تكمن خطورة تسييس الدين في أنه يُنتج نوعًا من "الاستبداد المقدس". فالسلطة حين تفرض قراراتها باسم الله، تُصبح عصيّة على النقد، وتحوّل أي معارضة سياسية إلى "كفر" أو "خيانة". هكذا يتضاعف القمع: فبدل أن يكون سياسيًا فقط، يغدو قمعًا روحيًا وأخلاقيًا يطال الضمائر والنيات.

إضافة إلى ذلك، فإن هذا التداخل يضر بالدين ذاته: إذ يفقد مصداقيته لدى الأجيال الجديدة حين يرونه أداة بيد الساسة، ويغدو عرضة للتآكل الأخلاقي لأنه يُستعمل لتبرير الظلم والفساد. وكثير من مظاهر العلمنة التي شهدها التاريخ الحديث لم تكن نتيجة عداء جوهري للدين، بل كرد فعل على استغلاله السياسي المتكرر.

في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر، تتجلى مظاهر "الدين السياسي" بأشكال متعددة:

- دول تُشرعن حكمها عبر مؤسسات دينية رسمية.

- أحزاب ترفع شعارات دينية لتبرير هيمنتها.

- جماعات مسلحة تحتكر "الشرعية الإلهية" وتُقصي الآخرين.

وفي كل هذه الصور، نجد أن الضحية الكبرى هي: حرية الإنسان، واستقلالية الدين، ومصداقية الخطاب الأخلاقي.

إن نقد الدين السياسي اليوم ضرورة ملحة، ليس لأنه يُعطل مسار السياسة فقط، بل لأنه يُعطّل إمكان تجديد الدين نفسه. ما دام الدين أداة للسلطة، سيظل أي إصلاح ديني مشبوهًا أو متهمًا، وسيظل العقل مُحاصرًا. وحده النقد الصريح والشجاع يمكن أن يفتح الباب أمام عودة الدين إلى جوهره: دعوة للسمو، لا وسيلة للاستغلال.

من الدين لله إلى الدين للسلطة

أ‌. الدين كتجربة حرّة

في أصل نشأته، كان الدين دعوة مفتوحة للضمير الإنساني، لا يحتاج إلى قوة قهرية أو جهاز سلطوي ليفرض نفسه. هو تجربة روحية تنبع من الداخل، حيث يجد الفرد في الصلاة والخشوع والذكر سبيلًا للسمو والتطهر، لا أداة للانضباط السياسي. الدين لله يعني أن العلاقة قائمة على الحرية: الإيمان خيار، والطاعة لله ليست مرسومًا سلطويًا بل انقيادًا قلبيًا نابعًا من القناعة.

هذا ما نلمسه في البدايات التأسيسية للأديان. فالمسيحية الأولى كانت حركة إيمانية صغيرة مضطهدة من قبل الإمبراطورية الرومانية، والإسلام في مكة كان دعوة أخلاقية وروحية تواجه الطغيان المكي من خارج بنية السلطة، لا من داخلها.

ب‌. الدين حين يلبس ثوب السلطة

لكن التحول يبدأ حين تكتشف الدولة أن الدين يملك قوة رمزية هائلة، وأن بإمكانها استثمار هذه القوة لبناء شرعيتها. هنا ينتقل الدين من فضاء الحرية إلى فضاء السلطة. لم يعد "نداءً من السماء" بقدر ما أصبح "مرسومًا من القصر"..يتجلى هذا التحول في ثلاث صور أساسية:

1. الصلاة كإعلان ولاء: حين تُحوَّل الجماعة الدينية إلى طقس سياسي. ففي الإسلام الأموي، صارت خطبة الجمعة تُفتتح بالدعاء للخليفة، لتصبح الصلاة فعلًا مزدوجًا: عبادة وبيعة.

2. الخطبة كمنصة دعائية: لم تعد موعظة لتذكير المؤمنين بالله، بل خطابًا رسميًا ينقل سياسات الدولة إلى الناس. وفي التاريخ الإسلامي، كان عزل أو تعيين الخطباء مرتبطًا بموقفهم من السلطان.

3. الفتوى كمرسوم قانوني: الفقيه لم يعد باحثًا حرًا عن الحكم الشرعي، بل موظفًا في جهاز الدولة يُنتج فتاوى تخدم حاجاتها.

ج. أمثلة تاريخية على هذا التحول

المسيحية مع الإمبراطور قسطنطين (القرن الرابع): انتقلت من ديانة مضطهدة إلى دين الدولة الرسمي. هذا التحول منح الكنيسة قوة هائلة، لكنه سلبها حرية الروح، إذ صارت أداة لإمبراطورية تريد توحيد شعوبها باسم الصليب.

الإسلام الأموي والعباسي: جرى تحويل خطبة الجمعة إلى أداة سياسية، بحيث تُلعن فيها المعارضة، ويُعلن الولاء للخليفة. الإمام مالك نفسه تعرّض للتعذيب لأنه رفض إصدار فتوى تجبر الناس على بيعة بعينها.

العصر الحديث: في الأنظمة الجمهورية ذات الطابع الديني (إيران مثلًا)، صار الدين مرجعية رسمية تفرض نفسها عبر أجهزة الدولة، لا عبر قناعة المؤمنين.

د. من المقدس الحر إلى المقدس المؤدلج

التحول من "الدين لله" إلى "الدين للسلطة" يعني أن المقدس لم يعد مجالًا للبحث عن الله، بل مجالًا لتثبيت الدولة. هنا نفرق بين:

- المقدس الحر: حيث يتوجه الإنسان إلى الله بعيدًا عن وصاية السلطة.

- المقدس المؤدلج: حيث يُختزل الدين في خطاب رسمي، ويُختطف الله ليُستخدم كحارس للعرش.

الفيلسوف سبينوزا تنبّه إلى هذه النقطة حين فرّق بين الدين بوصفه أخلاقًا تقود إلى الحرية، والدين بوصفه مؤسسة تابعة للسلطة تنتج الطاعة. وكانط ميّز أيضًا بين "الدين الأخلاقي" (القائم على العقل الحر) و"الدين الكنسي" (القائم على الطاعة العمياء).

هـ. النتائج المترتبة على هذا التحول

حين يتحول الدين إلى سلطة، يفقد جوهره الروحي، ويخسر المجتمع حريته في الإيمان. وتكون النتيجة:

1. قتل حرية الضمير: لم يعد الإيمان اختيارًا، بل واجبًا مفروضًا.

2. تسييس الطقوس: تتحول العبادة إلى إظهار ولاء سياسي.

3. عسكرة المقدس: يصبح الدين غطاءً للحروب والتصفيات الداخلية والخارجية.

كيف تُنتج الدولة رجال دينها؟

أ. من الفقيه الحر إلى الشيخ الموظف

في أصل الفكرة، رجل الدين ليس موظفًا لدى أحد؛ بل هو شاهد على الحقيقة، ومجتهد في النصوص، وناقد للسلطة إن انحرفت. لكنه حين يدخل في منظومة الدولة، يتحول من صاحب رسالة إلى أداة وظيفية. يصبح دوره ليس البحث عن الحق، بل تبرير الواقع. لا يعلو صوت الفقيه إلا إذا بارك الحاكم، ولا ينجو إلا الشيخ الذي يطيع.

هذا التحول البنيوي يجعل المؤسسة الدينية جزءًا من جهاز الدولة: ليست مستقلة، بل خاضعة، بل ومُنتَجة بشكل مباشر.

ب. آليات إنتاج "الشيخ الرسمي"

الدولة لا تترك رجال الدين ليكونوا أحرارًا، بل تصنعهم وفق حاجاتها. وهذا يتم عبر ثلاث آليات رئيسية:

1. الانتقاء والتعيين: الدولة تتحكم في المناصب الدينية العليا (المفتي، شيخ الأزهر، المرجعيات الرسمية، مجالس الإفتاء). ومن خلال آلية التعيين، تضمن أن من يصل إلى المنبر هو من ينسجم مع خطابها السياسي.

2. التأهيل الأكاديمي والإداري: الجامعات الدينية الرسمية (الأزهر، الحوزات الممولة من الدولة، كليات الشريعة الحكومية) لا تخرّج علماء مستقلين، بل موظفين مدرَّبين على الانضباط البيروقراطي. فيصبح تكوينهم الديني مشروطًا بلغة "الخدمة العامة" لا بحرية البحث.

3. العقاب والثواب: من يطيع: يُكافأ بالمنصب والراتب والظهور الإعلامي.

من يعارض: يُقصى أو يُشهر به أو يُحاصر ماليًا.

الاستقلال الديني يُعامل كتهمة، والاجتهاد الحر يُترجم إلى "خيانة"، والخروج عن الخط الرسمي يُسوَّق كفتنة أو زندقة.

ج. أمثلة تاريخية ومعاصرة

في العصر العباسي: ظهر "قاضي القضاة" كوظيفة رسمية، بحيث يُنتخب القاضي الأعلى بقرار من الخليفة، ليصبح الدين جزءًا من جهاز الدولة القضائي.

في العثمانيين: مؤسسة "شيخ الإسلام" لم تكن مستقلة، بل ذراعًا رسمية تصدر الفتاوى وفق مصالح الباب العالي.

في إيران المعاصرة: تمت تصفية أو تهميش مرجعيات كبرى مثل السيد شريعتمداري والطباطبائي القمي ومحمد رضا الشيرازي، لأنهم رفضوا الخضوع لمبدأ ولاية الفقيه. فالبقاء ليس للأعلم، بل للأكثر ولاءً.

في العراق: نرى كيف تحولت بعض المرجعيات إلى أدوات بيد أحزاب سياسية، تُستخدم فتاواها لتبرير صفقات السلطة أو منح الشرعية لمشاريع مذهبية.

في السعودية: المؤسسة الدينية الرسمية (هيئة كبار العلماء) ارتبطت تمامًا بخط الدولة، بحيث تتحرك الفتوى صعودًا أو هبوطًا مع اتجاهات السلطة.

د. التبعية مقابل الاستقلال

المسألة هنا ليست مجرد انحراف أفراد، بل بنية سلطوية: الدولة تنتج رجال الدين كما تنتج موظفيها الآخرين، وفق منطق الولاء لا وفق منطق المعرفة. ولهذا، نجد أن "العالم المستقل" مهدد دومًا بالتهميش أو الاتهام، بينما "العالم الموالي" يجد الطريق مفتوحًا أمامه.

وهنا تكمن خطورة الظاهرة: الدين نفسه يُختزل في خطاب موظف. الفقيه لم يعد مرشدًا للناس، بل موظفًا في قسم العلاقات العامة للسلطة.

هـ. النتيجة: قتل الاجتهاد

حين يُختزل الدين في مؤسسة رسمية، يُقتل الاجتهاد الحر. لا يعود هناك مجال للتفكير النقدي أو إعادة قراءة النصوص. المطلوب ليس "العالم المبدع"، بل "المكرر المطيع". وهكذا، تُغلق أبواب الإصلاح من الداخل، ويتحوّل الدين إلى خطاب جامد يعيد إنتاج السلطة ويمنع أي تغيير.

الدين حين يتحول إلى أيديولوجيا قمع

من أخطر تحولات الدين في المجال السياسي أنه يفقد بعده الروحي والأخلاقي ليُختزل في خطاب قمعي. فالدين السياسي لا يكتفي بأن يكون حارسًا للسلطة، بل يتجاوز ذلك ليصبح أداة أيديولوجية لإسكات الشعوب. أي أنه لا يُستخدم لحماية الإيمان، بل لحماية النظام القائم.

أ‌. القمع بالنصوص: بين التقديس والتوظيف

السلطة لا تحتاج دائمًا إلى السيف، بل يكفيها أن تجعل السيف "مقدسًا". وهنا تكمن خطورة التديين: تُستدعى النصوص الدينية لتبرير الطاعة وتحريم المعارضة، فيُصبح الخروج على الحاكم خروجًا على الله، ويُختزل الاحتجاج في كلمة "فتنة"، ويُجرَّم الإصلاح بوصفه "مؤامرة".

النص القرآني والحديثي ــ بما يملك من سلطة معنوية ــ يتحول إلى أداة ضبط اجتماعي، بحيث لا يكون الحاكم بحاجة إلى تبرير دنيوي، بل يستعير غطاءً مقدسًا يعفيه من أي مساءلة. وهذا هو ما يسميه ماكس فيبر "الشرعية التقليدية-الكاريزمية"، حيث تُستمد السلطة لا من الكفاءة أو العقد الاجتماعي، بل من نسبتها إلى المقدس.

ب‌. القمع الرمزي: من بورديو إلى الواقع الإسلامي

وفقًا لمفهوم العنف الرمزي عند بيير بورديو، فإن السلطة الأخطر ليست تلك التي تُمارَس بالعنف المادي، بل بالعنف الرمزي: أي حين يقتنع الناس بأن خضوعهم هو "طاعة لله"، وأن معارضتهم للحاكم "إثم". هنا يتحول القمع من فعل خارجي إلى قناعة داخلية، ويُعاد إنتاج الاستبداد من داخل وعي المجتمع نفسه. وهذا ما حدث في تجارب عديدة:

في العصر الأموي، جرى ترويج خطاب "طاعة أولي الأمر" حتى في ظل ظلمهم، مما حوّل الدين إلى آلية لضبط المجتمع.

في العصر العباسي، استُخدمت "محنة خلق القرآن" لتصفية المعارضين الفكريين باسم الدين، رغم أن القضية كانت سياسية بامتياز.

في أوروبا القرون الوسطى، وظّفت الكنيسة مفهوم "الحق الإلهي للملوك" لتجعل الطاعة للملك جزءًا من العقيدة الدينية.

ج. الأمثلة الحديثة: من الشرق الأوسط إلى العالم الإسلامي

إيران: أي احتجاج يُوصف بأنه "خروج على ولاية الفقيه"، فيُعتبر تمردًا ليس فقط سياسيًا بل عقائديًا، فتُسحق المظاهرات باسم حماية الدين.

السعودية سابقًا: رُوّجت فتاوى "تحريم الخروج على ولي الأمر" كذراع أيديولوجي لإخماد أي حراك، حتى المطالب الإصلاحية السلمية.

العراق: خلال انتفاضة تشرين، صُوّر المحتجون على أنهم "مؤامرة غربية" أو "منحرفون دينيًا"، ليُشرعن قمعهم عبر خطاب ديني-سياسي مزدوج.

د. المفارقة: الدين من تحرير إلى تقييد

الدين في جوهره رسالة تحرير: "فكّ رقبة"، "كلمة حق عند سلطان جائر"، "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". لكنه في ظل التحالف مع السياسة ينقلب إلى أيديولوجيا قمع، حيث تُقتل الحرية باسم الطاعة، وتُصادر الكرامة باسم الحفاظ على الوحدة، ويُعاد إنتاج الاستبداد بغطاء مقدس.

الدين السياسي عدو الإصلاح

أ‌. الإصلاح كحاجة دينية لا كترف سياسي

الإصلاح في جوهره ليس ترفًا فكريًا ولا مؤامرة غربية، بل هو ضرورة دينية وحضارية. فكل دين يحمل في داخله بذور الإصلاح المستمر، لأن النصوص تُقرأ في سياقات متغيرة، والواقع يفرض أسئلة جديدة لم يعرفها الأسلاف. الأنبياء أنفسهم كانوا مصلحين ضد جمود مؤسسات دينية سبقتهم. وبالتالي، يصبح الإصلاح تعبيرًا عن حيوية الدين وقدرته على التجدد.

لكن في ظل الدولة الدينية، يُختزل الإصلاح في كونه تهديدًا سياسيًا؛ لأن السلطة لا ترى فيه مشروعًا لبعث الروح، بل خطرًا على شرعيتها القائمة على قداسة غير قابلة للنقاش. وهكذا يُحوَّل المصلح إلى "خائن" والمفكر إلى "زنديق"، وتُغلق أبواب التجديد باسم حماية الدين.

ب‌. لماذا يُخيف الإصلاح الدولة الدينية؟

1. الإصلاح يفتح باب النقاش: الدولة الدينية تريد خطابًا نهائيًا، مغلقًا، لا يقبل إعادة القراءة. أي محاولة للنقاش تزعزع سلطة "الحقيقة الرسمية".

2. الإصلاح يُضعف الشرعية الرمزية: إذا كان النص قابلًا للتجديد، فهذا يعني أن قداسة السلطة القائمة عليه قابلة للتقويض.

3. الإصلاح يعيد الكلمة للعقل: الدولة تريد أن يكون المنبر الرسمي المرجع الأعلى، بينما الإصلاح يعيد الاعتبار لاجتهاد الفرد وحرية التفكير.

ج. الإصلاح في الإسلام الحديث: الداخل والخارج

منذ القرن التاسع عشر، برز اتجاهان إصلاحيان متوازيان في العالم الإسلامي:

1. إصلاح من داخل المؤسسة الدينية:

جمال الدين الأفغاني دعا إلى إحياء روح الإسلام في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي.

محمد عبده سعى إلى تحديث الفكر الإسلامي، وإعادة قراءة النصوص بروح عقلانية، وإصلاح مناهج التعليم الديني.

محمود محمد طه قدّم مشروعًا تجديديًا للشريعة يقوم على التمييز بين آيات المرحلة المكية والمدنية، لكنه أُعدم في السودان بتهمة الردة.

هؤلاء جميعًا كانوا ينطلقون من موقع ديني، أي من داخل فضاء الفقه والتفسير، ومع ذلك وُوجهوا بالتخوين والتكفير، لأنهم كسروا احتكار المؤسسة الرسمية لسلطة "التأويل المشروع".

2. إصلاح من خارج المؤسسة الدينية:

طه حسين دعا إلى قراءة نقدية للتاريخ الإسلامي والتراث الأدبي، مستعينًا بمناهج حديثة.

محمد عابد الجابري قدّم مشروعًا لفحص "العقل العربي" ونقد آليات إنتاج المعرفة في التراث.

فرج فوده طالب بفصل الدين عن الدولة بشكل صريح، فواجه حملات تكفير وانتهى باغتياله.

هؤلاء لم يتكلموا كفقهاء بل كمفكرين، ومع ذلك تعرّضوا لاتهامات أشد قسوة: التغريب، الخيانة، الكفر. لأن نقدهم لم يقتصر على النصوص بل تعدى إلى بنية التحالف بين الدين والسلطة.

د. الإصلاح الديني في أوروبا: درس تاريخي

تجربة أوروبا تكشف بوضوح أن الدين حين يُحتكر من قبل السلطة السياسية والدينية معًا، يصبح الإصلاح مستحيلًا إلا عبر صدام كبير.

الإصلاح البروتستانتي (لوثر وكالفن): بدأ كمطلب لاهوتي ضد بيع صكوك الغفران وسطوة الكنيسة، لكنه تحوّل إلى ثورة اجتماعية وسياسية قلبت الخريطة الأوروبية.

الكنيسة الكاثوليكية رأت في الإصلاح تهديدًا لهيمنتها المطلقة، فلاحقت المصلحين بالحرمان والقتل.

لكن مع الزمن، أدى الإصلاح إلى فصل نسبي بين الدين والسياسة، وإلى ظهور قيم مثل حرية الضمير وحق الاختلاف.

الدروس الأوروبية مهمة للعالم الإسلامي: الإصلاح لا يضعف الدين، بل ينقذه من التكلس والارتهان للسلطة. أما الجمود فهو الذي يحول الدين إلى أداة قمع، ويُفقده بريقه في عيون الناس.

هـ. كيف يتحول الإصلاح إلى "خيانة"؟

الدولة الدينية تصنع معادلة مقلوبة:

نقد الفقه = هجوم على الدين.

نقد التراث = إضعاف الهوية.

نقد المؤسسة الدينية = تفكيك الأمة.

نقد الحاكم = خروج على الله.

وبهذا، يصبح الإصلاح – في نظر السلطة – جريمة مركبة: سياسية ودينية في آن واحد.

و. النتيجة: موت الدين الحي

حين يُمنع الإصلاح، يتحول الدين إلى قوالب جامدة. يُستعمل في الخطب والإعلام كأداة طاعة، بينما الناس يفقدون إيمانهم بجدواه. وهكذا، بدل أن يكون الإصلاح وسيلة لإحياء الدين، يصبح غيابه وسيلة لقتله. الدين يفقد روحه، ويظل قائمًا كشعار سلطوي لا كإيمان حي.

بين لاهوت التحرير ولاهوت الطاعة

ليس كل حضور للدين في المجال العام يفضي إلى القمع. فالدين يمكن أن يتحول أيضًا إلى قوة مقاومة، وإلى مصدر إلهام للتحرر من الاستبداد. لكن المسألة تتعلق بكيفية قراءة النصوص، وبالبنية التاريخية والاجتماعية التي تحدد وظيفة الدين: هل يكون أداة لتحرير الإنسان، أم لتقييده؟

أ‌. لاهوت التحرير: الدين كقوة مقاومة

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، شهدت أمريكا اللاتينية بروز ما عُرف بـ"لاهوت التحرير"، وهو تيار مسيحي جديد قاده لاهوتيون مثل غوستافو غوتييريز (بيرو)، وكاميلو توريس (كولومبيا)، وليوناردو بوف (البرازيل).

هذا التيار انطلق من فكرة أن الإنجيل لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن واقع الفقر والظلم، وأن "ملكوت الله" ليس وعدًا مؤجلًا في السماء، بل مشروع عدالة على الأرض. لذلك، تبنى لاهوت التحرير موقفًا صريحًا إلى جانب الفقراء والمهمشين، وجعل من الدين لغة مقاومة ضد الديكتاتوريات العسكرية والرأسمالية المتوحشة.

الدين هنا لم يكن أداة قمع، بل أداة تحرر. الكنيسة لم تكن ذراعًا للسلطة، بل ملجأً للمضطهدين. النصوص لم تُقرأ لتكريس الطاعة، بل لإعلان الثورة: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ".

ب‌. لاهوت الطاعة: الدين كأداة انضباط

في المقابل، ظلّ حضور الدين في العالم الإسلامي (في أغلب تجلياته السياسية) أقرب إلى "لاهوت الطاعة" منه إلى "لاهوت التحرير". منذ العصور الأولى، جرى توظيف النصوص لإنتاج خطاب الطاعة والخضوع: "من خرج على إمامه فمات، مات ميتة جاهلية"، "اسمعوا وأطيعوا وإن ضرب ظهركم وأخذ مالكم".

هذه النصوص، بغضّ النظر عن سياقاتها التاريخية وتأويلاتها، استُخدمت لتكريس مبدأ الانضباط بدل مقاومة الظلم. فبينما كان الدين في أمريكا اللاتينية يُقرأ كنداء للثورة على الطغيان، كان في العالم الإسلامي يُقرأ ـ في كثير من الأحيان ـ كأداة لمنع أي خروج على الحاكم.

ج. لماذا أنتجت المسيحية لاهوت التحرير والإسلام لاهوت الطاعة؟

السؤال المحوري هنا: ما الذي جعل المسيحية الحديثة قادرة على إنتاج "لاهوت التحرير"، بينما ظلّ الإسلام السياسي في معظمه يكرر "لاهوت الطاعة"؟.يمكن الإشارة إلى عدة أسباب:

1. البنية المؤسسية: الكنيسة في أمريكا اللاتينية كانت مؤسسة قائمة بذاتها، لها استقلال نسبي عن الدولة، مما أتاح لها تبنّي خطاب مقاوم. بينما في التاريخ الإسلامي، غالبًا ما جرى إدماج الفقهاء في جهاز الدولة (القضاء، الإفتاء، الحسبة)، ففقدوا استقلالهم.

2. طبيعة النصوص والتأويل: النص المسيحي (خصوصًا الأناجيل) يركّز على البُعد الأخلاقي والاجتماعي، ما يترك مجالًا واسعًا للتأويل التحرري. أما النص الإسلامي، فبما أنه احتوى أيضًا على أحكام سياسية وفقهية، فقد أُعيد تأويلها تاريخيًا بما يخدم الاستقرار السلطوي.

3. التجربة التاريخية: المسيحية الأوروبية عاشت صراعًا طويلًا مع الدولة (خصوصًا بعد عصر الإصلاح الديني)، ما جعلها قادرة على تطوير خطاب نقدي تجاه السلطة. في حين أن الإسلام المبكر نشأ متداخلًا مع تجربة الدولة، فصار من الصعب الفصل بين "الديني" و"السياسي".

د. المفارقة الكبرى

هكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة عميقة: في أمريكا اللاتينية، الدين كان درعًا للفقراء وسيفًا ضد الطغاة، وفي العالم الإسلامي، غالبًا ما كان الدين درعًا للحكام وسيفًا ضد المعارضين. لكن هذه المفارقة لا تعني أن النص الإسلامي مغلق على الأبد، بل أن تأويله جرى في إطار بنية تاريخية سلطوية. ولو أتيح له فضاء حر ومستقل، لكان قادرًا على إنتاج "لاهوت تحرير" إسلامي، كما حاول بعض المفكرين المعاصرين مثل علي شريعتي، وعبد الكريم سروش، ومحمد مهدي شمس الدين، وغيرهم ممن سعوا إلى قراءة الدين كقوة تحرر لا كأداة استعباد.

لماذا نحتاج إلى نقد الدين السياسي؟

أ‌. لحماية الدين من التسييس

أول ما يكسبه الدين السياسي هو خسارة الدين ذاته. حين يتحول الدين إلى خطاب رسمي للدولة، فإنه يُجرّد من طاقته الروحية، ويُختزل في نصوص تبريرية تُستخدم عند الحاجة، ويُحوَّل إلى شعارات تُرفع لا إلى قيم تُعاش. وهكذا، يصبح الدين نسخة باهتة من ذاته، أشبه بظلّ باهت لفكرة عظيمة.

النقد هنا ضرورة، لأنه الوسيلة الوحيدة لوقف هذا التشويه. فالدين لا يُصان بالتحصين من النقد، بل يُصان بأن يُحرَّر من الاستخدام النفعي الذي يحوله إلى مجرد أداة.

ب‌. لحماية المجتمع من الاستبداد

الدين السياسي لا يكتفي بتشويه الدين، بل يمدّ أنيابه إلى المجتمع. حين يُقال للناس إن الحاكم يحكم "باسم الله"، تُغلق أبواب المحاسبة. وحين يُقال إن الاعتراض على الدولة هو اعتراض على "الإسلام"، يُصبح أي نقد خيانة، وأي إصلاح فتنة. بذلك، يصبح الدين السياسي درعًا للاستبداد: يحميه من النقد، ويمنحه قداسة كاذبة..ولذلك، فإن نقد الدين السياسي واجب اجتماعي، لأنه يحرر المجتمع من الخوف، ويفتح المجال للمساءلة، ويعيد السياسة إلى طبيعتها: مجال بشري خاضع للنقد والتغيير.

ج. لكسر احتكار الحقيقة

أخطر ما يفعله الدين السياسي أنه يختزل الحقيقة في خطاب رسمي واحد، يصبح الإمام الرسمي أو المرجع المقرّب من الدولة هو "المتكلم باسم الله"، يُقصى أي اجتهاد حر بدعوى أنه "خارج عن الجماعة"، يُسخَّر التراث ليكون ملكًا حصريًا للسلطة.

لكن الدين، في جوهره، خطاب مفتوح للتأويل، متعدد الأبعاد. وتاريخه يشهد على جدل واسع وتنوع في الفقه والكلام والتصوف والفلسفة. نقد الدين السياسي هو إذن نقد لادعاء احتكار الحقيقة، وفتح الباب لعودة التعددية التي هي روح الحياة الفكرية والدينية.

د. لفتح المجال للإصلاح

الإصلاح الديني والفكري لا يمكن أن ينمو في بيئة يهيمن عليها الدين السياسي، أي محاولة لإعادة قراءة النصوص تُتهم بالزندقة، أي اجتهاد يُعتبر تهديدًا للأمن القومي، أي فكر نقدي يُقدَّم كخيانة أو مؤامرة. النقد هنا لا يكون مجرد ترف فكري، بل هو شرط لتحرير المجال الإصلاحي من القيود. إذ لا يمكن لمجتمع أن يُجدد دينه ما دام محكومًا بخطاب سلطوي يدّعي أنه "التفسير الوحيد".

هـ. لأن الدين السياسي يتناقض مع روح الإيمان

الإيمان فعل حر. وإذا سُلبت الحرية، سقط الإيمان وصار مجرد طقس آلي. الدين السياسي يُفرغ الدين من محتواه الروحي لأنه يربطه بالإكراه، بينما النصوص المؤسسة تؤكد أن الإيمان لا يفرض بالقوة: "لا إكراه في الدين".

النقد إذن ليس مجرد معركة ضد سلطة سياسية، بل هو دفاع عن حقيقة الإيمان ذاته، فالدين الذي يُفرض بمرسوم ليس دينًا، بل أيديولوجيا سياسية مغلفة بعباءة الدين.

و. من أجل المستقبل

المجتمعات التي لا تجرؤ على نقد الدين السياسي تبقى أسيرة دورات متكررة من الاستبداد: يتقدم الحاكم باسم الدين، وتُقمع الحريات باسم الدين، وتنهار الثقة بين الناس والدين نفسه، ثم تنفجر المجتمعات في صراعات دامية بين دعاة التدين ودعاة التحرر.

نقد الدين السياسي هو استثمار في المستقبل، لأنه يمهّد الطريق لتوازن جديد: دين حرّ من السلطة، وسياسة بلا قداسة زائفة.

ي. خلاصة

إن الحاجة إلى نقد الدين السياسي ليست مطلبًا نخبويًا أو قضية أكاديمية، بل هي مسألة وجودية تمسّ صميم الدين والمجتمع معًا. هو دفاع عن الدين من التشويه، ودفاع عن المجتمع من الاستبداد، ودفاع عن العقل من المصادرة، ودفاع عن المستقبل من التكرار المأساوي.

بكلمة: إن نقد الدين السياسي ليس رفضًا للدين، بل إنقاذًا له، وإعادته إلى مكانه الطبيعي: مجال الضمير، لا أداة السلطة.

خاتمة: بين سلطة الله وسلطة الحاكم

حين نعيد النظر في العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، ندرك أن أخطر ما شهده تاريخنا لم يكن صراع المذاهب أو اختلاف الفقهاء، بل لحظة اختطاف الدين وتحويله إلى ذراع للسلطة. منذ أن صار "الإيمان" شعارًا للولاء، و"الفتوى" غطاءً للاستبداد، و"الخطبة" منبرًا للدعاية، فقد الدين جزءًا من معناه الأصلي: كونه فضاءً للحرية والبحث عن الله، لا أداة للسيطرة.

النقد الذي وجهناه هنا للدين السياسي ليس نزوة فكرية، ولا عداءً مع الدين، بل هو دعوة لإنقاذه من التوظيف. إن الدين، في جوهره، أسمى من أن يتحول إلى موظف صغير في بيروقراطية الدولة أو شعار أجوف على لافتة حزبية.

الله لا يحتاج إلى وزارة، ولا إلى حزب، ولا إلى خطاب رسمي. ما يحتاجه هو قلوب صادقة، وعقول حرة، ونفوس تبحث عن المعنى.

1. حين تختلط السلطتان

تاريخ التجارب البشرية – من أوروبا في العصور الوسطى إلى تجارب إيران والعراق ومصر وغيرها – يعلّمنا أن زواج الدين بالسياسة ينتج دائمًا كائنًا مشوهًا: دينًا بلا روح، لأنه مُختزل في خدمة السلطة. وسياسة بلا مساءلة، لأنها تحتمي بقداسة زائفة. بهذا الخلط، يُظلم الدين مرتين: مرة حين يُستعمل ضد خصوم السلطة، ومرة حين يفقد الناس ثقتهم به فيرونه مرادفًا للفساد والاستبداد.

2. الحرية جوهر الإيمان

الآية القرآنية "لا إكراه في الدين" ليست مجرد جملة بلاغية، بل قاعدة أنطولوجية: الإيمان لا يولد بالإكراه. كل دين يُفرض بالسيف يتحول إلى أيديولوجيا، وكل صلاة تُؤدى خوفًا من سلطة تفقد معناها، وكل فتوى تُستخدم لحماية حكم تفرغ من روحها.

من هنا نفهم أن نقد الدين السياسي ليس خروجًا عن الدين، بل دفاع عن الإيمان كخيار حر، وعودة إلى جوهر العلاقة الأصلية بين الإنسان وربه: علاقة بلا وسطاء سياسيين، بلا ابتزاز، بلا شعارات قسرية.

3. ضرورة النقد من أجل الإصلاح

أي محاولة لإصلاح الفكر الديني ستظل عقيمة ما لم تُفكّك أولًا شبكة المصالح التي تحكم العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة. فالإصلاح لا يخيف الدين، بل يخيف الدولة، الدولة تخشى إعادة قراءة النصوص لأنها تُعيد السلطة إلى العقل، الدولة تخشى تعددية الاجتهاد لأنها تُضعف هيمنة الصوت الرسمي، الدولة تخشى النقد لأنه يفضح تواطؤها باسم الدين، إذن، لا سبيل إلى إصلاح حقيقي ما لم نجرؤ على نقد الدين السياسي وتعرية بنيته الأيديولوجية.

4. نحو فصل لا يعني عداء

حين نقول "فصل الدين عن السياسة"، لا نقصد نفي الدين عن الحياة العامة، ولا عزله في الزوايا والمعابد. بل نقصد تحريره من سلطة الدولة، ومن تحويله إلى أداة هيمنة. فالدين يمكن أن يظل قوة أخلاقية ملهمة، يذكّر الإنسان بواجباته نحو الآخر، نحو العدل، نحو الفقراء والمظلومين. لكن هذه القوة الأخلاقية تذبل حين تُختزل في خطاب رسمي أو في مؤسسة تحتكر النطق باسم الله.

بكلمة أخرى: نحن لا ندعو إلى دين بلا حضور، بل إلى دين بلا وصاية سياسية.

5. المستقبل بين خيارين

المستقبل مفتوح أمام خيارين: إما أن يستمر تحالف الدين والسياسة، فنظل ندور في حلقة الاستبداد المقدس، حيث تُستغل النصوص لتكميم الأفواه وتكريس الجمود. أو نجرؤ على الفصل والتحرير، فنفتح الطريق أمام دين متجدد، وسياسة مدنية عقلانية، ومجتمع يتنفس الحرية.

التجارب التاريخية، من الإصلاح الأوروبي إلى محاولات الإصلاح الإسلامي، كلها تقول لنا شيئًا واحدًا: لا نهضة مع دين سياسي، ولا مستقبل مع قداسة زائفة للسلطة.

6. كلمة أخيرة

إننا إذ ننتقد الدين السياسي، فإننا لا ننتقد الدين بل نحميه من أن يكون أداة بيد الحاكم، لا ننتقد الإيمان بل نحميه من التشويه، لا ننتقد الروح بل نحميها من أن تُسجن في قفص السلطة. المؤمن الحقيقي لا يبحث عن "دولة باسم الله"، بل عن حرية تقوده إلى الله. والسياسي النزيه لا يتكئ على قداسة دينية ليبرر حكمه، بل يحتكم إلى عقد اجتماعي وشرعية مدنية.

بين سلطة الله وسلطة الحاكم مسافة هائلة. وحين تختفي هذه المسافة، يُفسد الحاكم الدين ويُفقد الدين معناه، ولذلك، فإن نقد الدين السياسي ليس خروجًا عن الدين، بل عودة إليه.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث

..........................

المصادر والمراجع

1. برهان غليون – نقد السياسة: الدولة والدين

2. عادل ضاهر – أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي

3. رشيد الخيون – مائة عام من الإسلام السياسي

4. سعيد عبد الله حارب – السياسة والدين بين المبادئ والتاريخ

5. أنتوني بلاك – الغرب والإسلام: الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي

6. مكرم عباس – الإسلام والسياسة في العصر الوسيط

7. مقال جدلية الدين والدولة في الفكر السياسي الإسلامي، حمزة بوملي

 

لا شك أن الفقه كان له دور عظيم في صنع الحياة، فلقد شهدت الحضارة العربية الإسلامية تنظيمًا لحياة المسلمين في العبادات والمعاملات وتحقيق مصالحهم. وكان القرآن والسنة النبوية والقياس والاجتهاد المنابع الرئيسة التي يستمد الفقهاء أحكامهم منها لتحقيق العدالة في المجتمع. ولم يكن الأصل هو التوسع في تفاصيل غير ضرورية ولا تتصل بحياة الناس بشكل مباشر [1]

لكن الأمر تطور حين ظهرت مدارس فقهية وظهر فقهاء الحياة الذين لم يتركوا كبيرة ولا صغيرة إلا وأفتوا فيها، متجاوزين نطاق العبادات والمعاملات الشرعية حتى وصل بهم المقام إلى تطبيق المنهج الفقهي في أنواع الطعام والملابس والعطور والعادات الاجتماعية المستحدثة.

شاهدت برنامجا لفقيه يدعي انه يفتي وفق فتاوى مرجع كبير في العراق، وكان يرد بكل جدية على أسئلة ( استفتاءات كما يسميها) من مثل: هل يجوز الاستعانة بالايفون وهو منتج لدول تعادي المسلمين؟ وكثير من مثل ذلك ...

لقد أشار إلى ذلك ابن خلدون منتقدًا الإيغال في تفاصيل وافتراضات ومبالغات استنزفت وقت علماء الدين وشتت جهدهم[2]. كما كتب شمس الدين في تحليله للفكر الفقهي الشيعي المعاصر أن التفات الفقهاء الى ما لا طائل منه من تفاصيل الحياة اليومية أدى إلى إغفال الجوهر الأخلاقي والسياسي للشريعة، وأن الفقه يجب أن يركز على إصلاح القلوب وتحقيق مصالح المجتمع بدل التوسع في الفروع غير المهمة [3] . كما لاحظ الحائري اليزدي أن التفصيل الفقهي في مسائل الحياة اليومية يجب أن يخضع دائمًا للمقاصد الكبرى للشريعة، وأن الفقهاء المفرطون يتورطون في إصدار الفتاوى التفصيلية يساهمون في تشتيت اهتمام الناس عن القضايا الأساسية للإصلاح الاجتماعي والسياسي [4] .

إن هذا الطريق يجعل الفقه منشغلًا بقضايا ثانوية، وهو ما يمكن تسميته بعبثية توجيه الفكر الديني نحو ما لا يضر ولا ينفع في الواقع اليومي للناس. إن حرف الشغل الأساسي للفقه نحو قضايا تافهة يؤدي إلى تعقيد الحياة وربما إلى شللها بدل أن يكون الفقه وسيلة لتسهيل الحياة ورعاية مصالح الناس. إن تطور فقهاء الحياة بهذه الطريقة أدى إلى ضعف في قدرة المجتمع على الاجتهاد المقاصدي، إذ جعل كل عمل مرتبطًا بالفقيه ورأيه، وكأن الأصل في كل فعل هو الحرمة ما لم يُصرح بالإباحة، وهذا ضد قاعدة الشريعة الرئيسة التي جاء مقصودها رفع الحرج عن المسلمين وتحقيق مصالحهم العامة. كما ذكر الشاطبي أن الهدف الاسمى  للشريعة هي اماطة المشقة عن المسلمين، وليس إنشاء شبكة من القيود التي لا دليل عليها ولا طائل منها [5] .

إن هذه الظاهرة لها أثر سيء على التفكير الاجتماعي، إذ أن كثرة التفصيلات الفقهية التي لا حاجة لها أدت إلى قلب الشريعة إلى مجموعة من القيود التي تتعلق بأشياء عادية في حياة الإنسان بدل أن يكون الدين وسيلة لتحرير الفكر وتبسيط الحياة، وهو ما يعيق أيضًا نمو المجتمعات الإسلامية في المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية، ويؤثر على الإنتاج العلمي والفكري للأمة حيث تتحول طاقتهم الفكرية والعلمية والبحثية إلى قضايا لا طائل منها ولا يمكن أن تسهم في تطوير الحياة. إن تفاصيل الحياة اليومية كثيرة جدًا ومتنوعة، ولا يمكن للفقه أن يلاحقها ويحقق فيها ثم يصدر رأيًا فقهيا فيها.

أن كثيرًا من فقهاء الحياة يكررون إصدار النمط نفسه من التقييد والتفصيل، حيث يتم إصدار فتاوى حول استخدام الهواتف الذكية والبرامج الترفيهية ووسائل التواصل الاجتماعي أو الأطعمة الحديثة أو التفاصيل المتعلقة بالترفيه، أو البت في علوم تطبيقية من مثل أبحاث الفضاء، وهو ما لا يمت بصلة مباشرة للعبادات أو المعاملات التي حددها الدين، بدل التركيز على تحقيق مصالح الأمة العليا وحماية حقوق الإنسان، وليس على تضخيم الفقه ليبقى بكل التفاصيل الصغيرة، مما يؤدي إلى تعطيل التفكير النقدي والاجتهادي، ويخلق جوًا من الخوف والارتباك لدى الناس الذين قد يشعرون أن كل تصرف يحتاج إلى إذن فقهي مسبق، وهو ما يناقض الهدف من الشريعة في التيسير ورفع الحرج.

لا يمكن أن يكون الدين أغلالًا على الإنسان في أنشطته اليومية، ولا مانعًا أمام الابتكار أو التقدم، او التفكير الحر بل يكون وسيلة لضبطه وتنظيم حياته بما يتوافق مع مقاصد الشريعة وغاياتها.

إن الاجتهاد ينبغي أن يكون مقاصديًا يوازن بين النص والمصلحة دون التورط في تفاصيل حياتية لا يحتاجها المكلفون، مع الأخذ بعين الاعتبار المستجدات التقنية والاجتماعية والثقافية بما يحافظ على روح الشريعة ويخدم الإنسان في واقعه اليومي المعاصر. وبناءً على ذلك، يظهر أن عبثية فقهنة الحياة ليست مجرد نقد نظري، بل لها آثار عملية ملموسة في المجتمع الإسلامي المعاصر، حيث ينشغل المكلفون بما لا حاجة له، ويستهلك العلماء جهودهم في مسائل تافهة، بينما تبقى القضايا الكبرى المتمثلة في التنمية المستدامة، العدالة الاجتماعية، الإصلاح السياسي، التعليم، التكنولوجيا، والصحة العامة خارج دائرة الاهتمام الفقهي العملي. ويؤكد هذا كله أن العودة إلى فقه المقاصد والاعتدال في التفصيل الفقهي هي السبيل الأمثل لإعادة الدين إلى وظيفته الحقيقية، ألا وهي تيسير حياة الناس وتحقيق مصالحهم، مع تعزيز ثقافة الاجتهاد النقدي والمسؤول الذي يوازن بين النص والمصلحة، ويعطي أولوية للقضايا الكبرى التي تمس حياة الأمة اليومية والوجودية [6].

***

د. عبد الله الجنابي

......................

قائمة المصادر والمراجع

[1] الشاطبي، أبو الحسن، الموافقات في أصول الشريعة، دار المعرفة، 1992، ص 286 .

[2] ابن خلدون. المقدمة، دار الفكر، 1983، ص 456.

[3] شمس الدين، محمد مهدي، الاجتماع السياسي في الإسلام، دار الساقي، 1992، ص 102.

[4] الحائري اليزدي، مهدي، الحكمة والحكومة، دار المعارف، 1995،ص 78 .

[5] الشاطبي، المصدر نفسه، ص 290 .

[6] ابن خلدون، المصدر نفسه، ص 456.

إن هذا الإسلام حمل تسميات متعددة، في البدء أطلق عليه بـ(الإسلام التغريبي) وهي تسمية تغمز من قناة كل القائلين به، وتشكك في إسلاميتهم الى حدٍ كبير، ومرة أطلق عليه تسمية بـ(الإسلام الحداثوي) ويراد به (الإسلام التقدمي) وهي تسمية قبالة (الإسلام الرجعي) الذي يمثله بعض الإسلاميين وهي بطبيعة الحال تسمية موجعة ومتكلفة للغاية، ولكن الاسم الجامع الذي اتفق عليه كتاب غربيون ومسلمون عرب، والذي سنعتمده هنا هو (الإسلام الليبرالي) الذي يبدو ظاهرياً أنهُ أكثر حيادية وعقلانية وأقل عدائية.

والأمر الجوهري الذي ينبغي لفت النظر إليه هنا أن الإسلام الليبرالي ما هو الإ قراءة حداثية للإسلام؛ ظهرت بعد التحدي الغربي ومشاريعه الثقافية المتعددة، وبعد فشل مشروع النهضة في العالم الإسلامي، واعتمد التأويل في قراءة (النصوص المقدسة) لأجل الانطلاق نحو فضاء (الحرية الفردية) أو (الحرية الدينية) من دون وصاية سدنة (الإسلام الفقهي) بحسب دعواه، ومرتكزه الرئيس استعارة أدوات ومفهومات ومنظورات التجديد الديني من الغرب لأجل إحداث التغييرات التي يعتقد بضرورة وجودها في العالم الإسلامي.

قبل التعريف بماهية الإسلام الليبرالي، الذي نفترض ويفترض الكثير من الباحثين والمفكرين وجوده في العالم الإسلامي عبر جملة مشاريع فكرية وشخصيات (حداثوية) ينبغي التوقف في البدء عند محطة أساسية، إلا وهي مسألة تطور الحركة الإسلامية، وانتقالها من طور آخر أمام التحدي الغربي، وكيف استطاعت صياغة خطاب إسلامي ليبرالي جديد.

إذ يشير الباحث تشارلز كورزمان Charles Kurzman الى التحولات والتطورات الفكرية التي شهدها العالم الإسلايم ضمن سياقات خطابات الحركات والمشاريع الإسلامية الجديدة، إذ يقول: ويُعد التشبع بالفكر الحداثي أهم ما يميز الحركة الإسلامية في العصر الحديث عن سابقاتها من حركات الإصلاح الإسلامية والتي لم تعرّف قيمها بالحديثة، وعن منافسيها مثل التقليدين الرافضين للقيم الحديثة. وأخيراً فقد ميز الفكر الحداثي الحركة عن اثنتين من الحركات التالية لها، واللتين اتخذتا مواقع الإسلام الحداثي في منتصف القرن العشرين، فمن ناحية نجد العلمانيين الذين انتقصوا من أهمية الإسلام في العالم الحديث، مفضلين عليه مبادئ أخرى مثل: القومية، أو الاشتراكية، أو غيرها من الأيديولوجيات؛ ومن الناحية الأخرى نجد الإحيائيين الدينيين الذين تبنوا القيم الحديثة مثل: المساواة الاجتماعية، والقانون الوضعي، وحق التعليم للجميع، لكنهم قللوا من قدر حداثتها مفضلين عليها مبادئ أخرى مثل: الأصالة، والأحكام الألهية. وكما تؤكد إحدى الدراسات، فإن تاريخ انحسار الإسلام الحداثي يرجع الى عام 1940م تقريباً، ...، وفي أواخر القرن العشرين انتعشت مرة أخرى أساليب الخطاب التي تتجمع بين الإسلام والحداثة، في توجه منبثق عن حركة الإسلام الحداثي الذي أطلق عليه بـ (الإسلام الليبرالي) والذي سعى لاستعارة مكانة الحداثين الأوائل وإنجازاتهم.

أن ما يحاول أن يقوله كورزمان أن العالم الإسلامي على الرغم من بزوغ معالم تحديث الإسلام فيه على عدة مستويات جراء حدوث جملة تغيرات عالمية، إلا أن هذا التيار خف مدة وضعف، ومن ثم استولى على الساحة اتجاهات متطرفة بين الاستغراق بالغربنة التامة (الأيديولوجيات الغربية)، وبين الإفراط في حماية الإسلام عبر حركات أصولية؛ ولكن وعلى الرغم من قوة هذه الاتجاهات وامتلاكها جمهور ودعم سياسي واسع، إلا أن عودة الإسلام الحداثي، والذي طاب له أن يسميه بـ (الإسلام الليبرالي)، حاول العمل على تطوير الإرث التحديثي للإسلام من جهة.

والعمل من جهة أخرى على إعادة بناء تأطيرات مفاهيمية ونظرية ومنهجية لأجل تحرير الفكر الإسلامي من ربقة النزعة الماضوية وطرز التفكير التقليدية المهمينة عليهن وعلى المؤسسات الدينية (مؤسسة الفقاهة)، التي مازالت تعيد إنتاج ذات المقولات الماضوية، من دون أن تعبئ أو تعير أهمية لاختلاف الزمان والمكان، وأحوال الإنسان المسلم أبان عصر النبوة أو عصر الفقهاء المؤسسين الأوائل. والذين انتجوا خطابات وفتاوى، مازالت تمارس التسيد في المشهدية الاجتماعية والثقافية الراهنة وعلى عدة أصعدة على الرغم من أننا نعيش (عصر السيولة) الذي تحدث عنه عالم الاجتماع المعروف زيجمونت بومان.

ويقول كورزمان في عمل سابق كان محرره كذلك، وكان عنوانه ومدار دراساته تحديداً حول (الإسلام الليبرالي) (Liberal Islam)، والذي أورد فيه الكثير من النصوص من أغلب بلدان العالم الإسلامي؛ وعلى الرغم من اطلاقه اسم (الإسلام الليبرالي) على هذه النصوص التي اختارها لمجموعة من الباحثين والمفكرين في هذا المجال، لكنه وضع محاذير عند استخدام مصطلح (الليبرالية) وللأسباب الآتية:

أولاً: الكتاب المذكورون في هذا المرجع لا يصنفون أنفسهم على أنهم ليبراليون بالضرورة (وهذا يعني أنه بإمكان الآخرين أن يضعوهم في هذا الفضاء).

ثانياً: يحمل مصطلح (الليبرالية) دلالات سلبية في بعض بقاع العالم الإسلامي، حيث يقنرن بالسيطرة الأجنبية والرأسمالية المطلقة، والتغني بالحقوق على نحو زائف، حتى معاداة الإسلام (إذن هي تسمية تثير الامتعاض والرفض عند بعض المسلمين عموماً وعند الكثير من الإسلاميين تحديداً).

ثالثاً: يجب أن تتعامل مع مفهوم (التيار الليبرالي في الإسلام على أنه وسيلة إرشاد وليس أصلاً ثابتاً لا سبيل الى تغييره).

ثم يذهب بعد ذلك الى التأكيد على خصوصية معنى الليبرالية لدى الباحثين والمفكرين المسلمين بوصفهم ليسوا نسخاً كاربونية عن (الليبرالية الغربية) إذ يقول: فمن الشائع لدى مُحللي التيار الليبرالي في الإسلام أن يقارنوا بينه وبين الليبرالية الغربية، وفقاً لمعايير الليبرالية الغربية، ومقارنة على هذه الشاكلة تلقى انتقادات،... ولكن بقدر تركيز دراسة التيار الليبرالي في الإسلام على البُعد الإسلامي الذي ينطوي عليه، أرى أنها تستطيع النجاة من مثل هذه الانتقادات. فالتشابه بين التيار الليبرالي في الإسلام والليبرالية الغربية لا يوحي بأن الليبراليين المسلمين ما هم إلا مجموعة من المبتذلين السخفاء الذين يتبعون سياسة التقليد الأعمى للتفكير الغربي، حيث إن كثيراً من أعمالهم ومؤلفاتهم تنبعُ من تفسيرات القران، ومن حياة الرسول، ومن حياة المسلمين الأوائل، إضافة الى أن هذه الأعمال والمؤلفات يظهر فيها التأثر الواضح بأشكال الجدل الإسلامي التقليدي.

تأسيساً على ما تقدم، نذهب للقول إن خصوصية مصطلح (الإسلام الليبرالي) تشترط تعاملاً خاصاً وحذراً، حتى لا يكون مطابقة أو مماثلة كلية مع توجهات (المركزية الغربية)، ونظرتها الخاصة بـ (الإسلام)، ولكن هل نجح الباحثون والمفكرون المسلمون الذين ينتمون الى هذا الحقل الجديد أن يكونوا بعيدين عن تلك المركزية ولاستعارات المستمرة منها ؟ وهل نجحوا في التخلص من تلك العقدة الفكرية (تقدم الغرب الساحر وضرورة تقليده والاحتذاء به)، تلك العقدة التي نصطلح عليها بـ (عقدة الخواجة)؟.

إن مجموع اشتغالات الإسلام الليبرالي عبر ممثليه من باحثين ومفكرين، إنما تدور في إنجاز خطاب إسلامي جديد حول مجموعة من القضايا والاشكالات الراهنة في العالم الاسلامي أمثال موضوعات (الحرية الفردية، التعددية الدينية وقبول الآخر، حدود الأخلاق، تحديث الشريعة والدولة المدنية، ... الخ) ان هذه الموضوعات تسعى لإحداث تغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية، بل واقتصادية كذلك، فالإسلام الليبرالي يمثل توجهاً فكرياً لمواجهة (الإسلام السياسي) من جهة و(الإًسلام الفقهي) من جهة أخرى عبر دعواه تقديم فضاء – معرفي – تداولي جديد.

أنهُ يمثل إسلام تقدمي بحسب قول أحد الباحثين، الذي وجد أنهُ اصطلاحاً بديلاً عن (الإسلام الليبرالي) الذي به حمولات سلبية، ولكن الجوهر والاشتغال هو واحد بالنسبة له إذ يقول: والمهم أن الإسلام (التقدمي) ليس أيديولوجية جاهزة، أو عقيدة معيارية شائعة، أو حركة أو مجموعة من المبادئ، ... ، وليس مذهباً فكرياً، لأنه أكثر من مجرد نظرية منهجية لتفسير الشريعة، والعقيدة، والأخلاق، والسياسية الإسلامية. إن نظرة المسلمين التقدميين الى العالم مؤسسة على أكثر من مجرد: هوية، ونصوص، وممارسات، وتاريخ.

فهو يسعى لإعادة قراءة الشريعة الإسلامية قراءة عصرية، متلائمة والمتغيرات والتحولات التي حصلت في العالم الإسلامي، ومركزاً في الوقت عينه على موضوعات عدة: المواطنة، حقوق الإنسان، إعادة صياغة القانون المدني بما يتلائم ومجريات العصر.

ولقد تحدث الكاتب المعروف وائل حلاق وتحت عنوان سياقات الحداثة واشتراطاتها التي فرضت تحدياً كبيراً لإعادة تكييف الشريعة، مما أنتج مجموعة من من المعالجات التي تصب تحت مظلة (الدين الليبرالي)، والذي صاغ منهجاً ليبرالياً خاصاً تبناه البعض، يقول عنهم: يشتمل النقد الموجة للمنهج الليبرالي (المحّرر) على فهمهم للوحي نصاً وسياقاً ولا تستند العلاقة بين النص المنزل والمجتمع المعاصر الى تفسير حرفي، بل الى تفسير روح النص والمقصد العام وراء لغة النصوص الخاصة. (ولذلك سمينا ذلك المنهج بالليبرالي)، ولا تستند كذلك الى مبادئ منفعية مثل الحاجة والضرورة، المبادئ التي يراها المتحررون ضيقة وغير إسلامية. ومع أن مصلحين قلائل اعتمدوا المنهج التحرري فإن المنهجية التي اعتمدها كل فهم تختلف عن الأخرى اختلافاً كبيراً. ويمكن القول أن قاسماً مشتركاً يجمع بينهم، سلبي أكثر مما هو إيجابي، أي إصرارهم على أن التفسير الحرفي التقليدي ليس وفيا للدين ولا يمكن أن يكيف الشريعة على الأوضاع المتبدلة دوماً

إن هذه الإطروحات نجد صداها في اشتغالات باحثين ومفكرين كثر، ربما كان أبرزهم المفكر التونسي الراحل محمد الطالبي (1921-2017) الذي حدد بوضوح معالم (الليبرالية الدينية) عبر تعريفها، منطلقاً في البدء من فكرة جوهرية، راهنية وهي اللوائح القانونية العالمية الجديدة، قائلاً: في وقتنا الحالي يجب الإقرار بأن الليبرالية الدينية هي شيء متأصل في جذور حياتنا اليومية، فمنذُ الإعلان العالمي لحقوق الانسان في عام 1945 وصار هذا المفهوم (الليبرالية الدينية) احد المفاهيم الجوهرية في القانون الدولي. ومن الناحية الأخرى، نحن نعيش في عالم تعددي، ومن المرجح أن سيستمر في ذلك على نحو متزايد.

وبنظره فإن الحقيقة الليبرالية الدينية، هي في الأساس الحق في أن يقرر المرء لنفسه، من دون أن نوع من أنواع الضغط عليه أو تخويفه أو ترهيبه، وهي الحق بأن تؤمن أو لا تؤمن، وكذلك الحق في أن يقرر المرء مصيره بوعي كامل منه. وبالطبع، الحق في أن يتخلص المرء من الأساطير الموجودة في العصور المظلمة، ناهيك عن أنها الحق في أن يعتقد المرء الدين بإرادته، وأن يقيم الشعائر وينطق الشهادتين بحرية تامة.

وفي السياق نفسه وجدَ المفكر الإيراني مهدي بازركان (1907 – 1995) في التأويل العصري للقرآن، أن الليبرالية اللتي يبحث عنها موجودة في القرآن ذاته من دون آثارها (الجانبية، السلبية) وهو يسعى للبحث عن الحرية الدينية وكيف تقترن بالتجربة الذاتية / الفردية، وهذا يعني أنه يقدم فهماً جديداً للدين يتلائم وجملة التغيرات المتدفقة في العالم وعلى عدة مستويات ومن دون وصاية لأحد الى أحد.

ولهذا فهو يقول: وإذا كان الدين أمراً داخلياً ويرتبط بملكات الإنسان الباطنية، ويشار في ذلك الى الكشف والشهود، فإنه لا يكون حينئذٍ مساويا لمجموعة من الأحكام والأوامر الظاهرية، ولهذا السبب، فإن بازركان ينتقد معادلة: أن الدين هو عبارة عن مجموعة الأحكام الفقهية. وهو يرى أن الأمة الإسلامية شهدت خمسة تطورات بعد رحيل الرسول (ص) لم تكن متناغمة مع جوهر الدين والتدّين. وكانت هذه التطورات عبارة عن: ظهور وتمايز فئتين في الأمة وهما: فئة الأشراف والكبار، وفئة الزهاد والعباد، وظهور طبقة رجال الدين، وتساوي الفقه والدين، وانتشار المنهج الفكري الصوفي والعرفاني، وتقابل وتعارض قطبين في الأمة وهو ما وقع في العصر الحاضر بين الاتجاه الديني ورواد الحداثة.

من الواضح إن بازرركان يعد الإسلام الفقهي مسؤولاً عن حالة الجمود والسكون في تجربة الإسلام من جهة، وتجارب الأفراد الدينيين من جهة أخرى، وأن الذي يُسهم في إحداث الحراك الروحي هو الإسلام الصوفي بوصفه يقدم تجربة الفرد بوصفها المعيار الأقوم للتدين، ولكونه ينطلق نحو أفق أرحب في ممارسة الحريات الدينية.

استنتج بازركان من قراءته للإٍسلام أنه درس لاينحاز الى عرق أو لون أو شعب، لذلك أتى إسلامه على درجة عالية من اللياقة والتهذيب، فهو لا يُقصي أحداً، ولا حتى أولئك الذين اتخذوا مواقف عدائية قد تكون آنية في مرحلة من المراحل ضد الدين والعلماء . فمن وجهة نظره، لا الرأسمالي، ولا المراة السافرة خرجا عن الإسلام. فالدين عنده أوسع وأرحب من أن يضيقه أحد، فالتضييق ناتج عن عقول ضيقة والسبب كون العلاقة بين الانسان وربه لا تتحمل وجود وسيط، فمثل هذا الوسيط، وهو دون شك ليس معصوماً، سيحيله في لحظة غير متوقعة الى جلاد.

ولهذا فقد رفض ضمناً وجود دولة دينية، ومنطلقاً من القرآن كذلك، لأن آياته بحسب رأيه لم تكن تعنى بهيئة وشكل الحكم، بل عنت أكثر بالأخلاق. اذ كان بازركان دائماً في أيام الشاه، وبعد الثورة الإسلامية، يجد في القرآن ما يساعده على طرح وجهة نظره في أن الأخلاق، والدعوة إليها أهم من وظيفة الحكم؛ حيث وجد أن القرآن يحتوي على (184) صفحة عن الأخلاق، بينما لا تحتوي بنود الشريعة على أكثر من (14) صفحة. ومن ثم أن قيام سلطة باسم الإسلام يديرها علماء الدين، قد نهض على النزر القليل من القرآن، فيما تجاهل القاعدة الأوسع، والأهم فيما يدعو إليه كتاب الله الا وهو التركيز على البعد الاخلاقي بالدرجة الاولى.

***

ا. د. جعفر نجم نصر

إن الإنسان لم يواجه محنة في تاريخه أشد مما يواجهها اليوم، ولا يظن البعض أننا نرمي إلى خطر أسلحة الدمار الشامل وملحقاتها، ولكننا نقصد ما هو أفدح من أسلحة الدمار والفتك التي باتت تهدده ألا وهي محنة العقيدة، محنة الروح من خطر الفلسفات المادية التي أصبحت تسود وتزحف وتحتل كل يوم موقعاً جديداً. لقد تجاهلت الفلسفة المادية كل القوى المعنوية، والقيم الإنسانية، وحصرت المشكلة كلها في لقمة العيش أو الجنس، ونسيت أو تناست أن عمل المعدة وشهوة الجنس تتساوى فيه مع الحيوان تمام المساواة، وأنهما ليسا أشد عراقة من المشكلات الإنسانية العليا ونفاذا إلى الصميم.

ومما يضاعف خطرها أنها لا تقف وحدها في الميدان ولكن تساندها قوتان لا نقلل من أهميتهما هما: الإيمان المغرور بالعلم، والاستغلال بنوعيه؛ المادي والمعنوي، والخطة الحصرية لمواجهة هذا التيار الجمعي الجارف شئ واحد هو المسئولية الفردية، هذه هي بداية الطريق في معركتنا الإنسانية القادمة، فليس الوعي الإنساني فرض كفاية، وإنما على كل فرد أن يحمل عبئه من الواجبات الإنسانية قدر جهده.

وما أحوجنا في ظل هذه الظروف المادية التي تكبل إنسانية الإنسان أن نقدم ملامح منهج ذي أسس إسلامية راسخة لمجتمع أفضل وما أحوجنا هذه الأيام لمنهج كهذه في ظل ظروف سياسية محمومة يسعى البعض بيننا لتقويض الوطن ومحاربة مؤسساته ومعارضة الرئيس بغير حجة أو دليل تحت دعاوى الديموقراطية والتعددية السياسية في الوقت ذاته الذي نرى فيه بعض رجال الدين يهرعون باتجاه السياسة متغافلين جل شأوهم وشأنهم الجليل وهو تبصير المسلمين بمعالم دينهم وشريعتهم السمحة.

ولعل أبرز مشكلات العصر الراهن مشكلة الجيل الحائر الذي فقد المثل الأعلى والهدف الصالح والغذاء الروحي والقدوة الحسنة والفكرة السليمة التي يمكن أن يجتمع عندها الشمل وتأتلف الكلمة وهو ما نفتقده بوضوح هذه الأيام بعدما تفرقت الكلمة بين تيارات إسلامية وجبهة إنقاذ وتيار شعبي وحركات ثورية تأتي من كل فج عميق وتهوي بنا إلى مستقر سحيق. و طالما يتعرض هذا الجيل إلى هزات عنيفة من اليأس والأمل والمفارقات الطريفة من الإقدام والتردد والصراع الأليم بين الواقع المر والحلم الذي نعيش فيه، ومن ثم فالواجب على رجال الدين أن يستنهضوا عزائم الشباب لتشخيص دائهم وتقديم العلاج الصحيح لهم، و ضياع الجيل الحالي مفاده أن المعنيين بعلاج الشباب روحياً يخطئون في تشخيص الداء ثم يضعون حلولاً غير عملية لمشكلات وهمية لم تقم على أسس من الدراسة الواعية والفحص الصادق العميق، وتكون النتيجة في تلك الحالة أن تذهب جهودهم سدى ويستسلمون لليأس بعد أن يبلوا البلاء الصادق في كدهم وجهدهم، وينفقون الأعوام الطوال في الجهاد والكفاح.

يمثل الشيخ الإمام محمد عبده نموذجاً خالصاً للشيخ المستنير والمحيط بتفاصيل فقهه، والمستنير في تحليله وتأويله لقضايا مجتمعه. وهذا ما يعكسه فهمه لصول الإسلام الحنيف من خلال استقراء الإشارات والتنبيهات حول هذه الأصول. وهذا الفهم يشكر خارطة إصلاح استشرافية للخطاب الديني الذي بات مضطرباً ومضطرماً بعض الشئ بفضل اللغط الراهن في هذا الخطاب ورؤيته وتعدد رسالاته.

وليس من العجب والدهشة ما نطالعه في كتابات الإمام عن رؤى تربوية إصلاحية رائدة، فالشيخ الإمام مثلاً يرى أن أهمية تدريس الكتب الأدبية تكمن في تنوير الأفكار وتهذيب الأخلاق، وهذه الفكرة ـ أقصد التنوير ـ ظلت محور اهتمام الإمام، فكم من مرة أشار إلى ضرورة الإلمام بالكتب الأدبية التي توضح أحوال الأمم، والتي تحث على الفضائل وتنفر من الرذائل وارتكابها.

بل يدهشنا الإمام إلى أكثر من ذلك، ويكاد يسبق كل الصيحات والأصوات العالية المعاصرة التي تنادي بضرورة تطوير وإصلاح التعليم في مصر، ولا أشك لحظة أن القائمين على عمليات التطوير الشكلية مهتمون بما كتبه وسطره الشيخ الإمام في ذلك الصدد. ولقد أشار أشار الشيخ الإمام رغم بُعد المسافة الزمنية إلى أن مشكلاتنا الحضارية تكمن في هذا القصور في التعليم الديني؛ إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد، وإما بالسلوك إليه من غير طريقه القويمة كما في بعض آخر.

والإمام محمد عبده في صراعه الشريف لمواجهة القصور في الخطاب الديني بوجه عام والتعليم الديني بوجه خاص، يحدد عدة أصول رئيسة للإسلام والتي من شأنها كفيلة بمعالجة هذا القصور والخلل سواء في الخطاب أو التعليم أو كلاهما معاً. فعلى سبيل المثال يرى الإمام محمد عبده أن النظر العقلي هو أول أساس وضع عليه الإسلام، حيث إن النظر السليم عنده وسيلة الإيمان الصحيح، ولا ريب في ذلك حيث إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يدعو إلى النظر في ما حولنا من موجودات وظواهر وأحداث كونية متعددة ومختلفة على أن يكون هذا النظر مصحوباً بالتأمل العقلي والتفكر، فهي دعوة إلى النظر الحسي والعقلي في نفس الوقت، يقول الله تعالى في سورة الأنعام: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) (الأنعام ـ50)، ولا ريب أن قوة الملاحظة والوقوف على ما يحدث حول الإنسان،وفهمه وتأمله ودراسته واستخلاص النتائج منه يؤدي إلى اليقظة العقلية وهي من أهم سمات التفكير العلمي السليم. وللإسلام الحنيف دور بارز في تنمية القدرات العقلية للإنسان مثل القدرة على الاستنتاج، والتأمل، والتفسير، وإدراك العلاقات....

ويكمل الشيخ الإمام محمد عبده الحديث عن أصول الإسلام، بقوله إن تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض لهو من أبرز أصوله، حيث يقول: " اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية: تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

والمستقرئ لتعاليم الإسلام وآيات القرآن الكريم يدرك على الفور أن الدين الإسلامي أعطى مساحة كبيرة للعقل وبيان أهميته ودوره في إدراك الحقائق والظواهر الكونية، والقرآن الكريم يحث الإنسان على استعمال العقل إلى أقصى حد مستطاع، ويشيد بمن يستعمله، ويعمل فكره في النظر والتدبر، واستخلاص البراهين والنتائج من المعلومات التي تتوافر لديه من الأمور الدينية والدنيوية. يقول الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب )  (ص: 29)، ويقول تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)  (العنكبوت: 43).

ومن الأصول التي اعتبرها الإمام محمد عبدة رئيسة وأساسية في الإسلام بل وأعده حكماً رئيساً من أحكامه وهو البعد عن التكفير، ويقول في ذلك " إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر ". وهناك قاعدة تقتضي بأن التكفير حكم شرعي من أحكام الدين له أسبابه، وضوابطه، وشروطه، وموانعه، وآثاره. وهذه القاعدة لا ترتبط بدين معين، أو مله بعينها، والتكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره اتلله الله المطلع على ما في الصدور، والشهيد على أعمال عباده من البشر، وثبوت الكفر على المرء أمر لا يثبت إلا بدليل شرعي متفق عليه، سواء من النص، أو بإجماع العلماء والفقهاء كافة، وليس القلة منهم.

وما أخطر التحديات التي تواجهنا هذه الآونة من باقة الأنفلونزا، والتيفوئيد، والحمى القلاعية، والكليبات الفاضحة، وعلاوة على ذلك استباق البعض في إلقاء تهم التفكير على الآخر، وكنت قديماً أسمع تهم التفكير تلصق بكبار المفكرين والأدباء والشعراء، أما اليوم فعلى العامة، والأدهش أن من يلقي هذه التهم ليس عالماً بالأدلة الشرعية الثابتة.

ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير هو " الورطة"، ولقد توعد رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بهؤلاء الذين يكفرون إخوانهم بقوله: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك". أما الآن فأصبح التكفير أسرع حكم يمكن أن يصدره إنسان على أخيه، وإذا كان التكفير قديماً سلاح خفي يستخدمه بعض المتطرفين في مواجهة خصومهم، فاليوم أصبح أداةً هجومية تستخدم قبل وأثناء وبعد الحوار مع الآخر، هذا إن كان هناك حوار من الأساس. وهذا السلاح كان قديماً يردده رجل على مرأى ومسمع قلة من الحضور ببلدة صغيرة، ثم يتناقل الخبر بصورة وئيدة ثقيلة حتى تصل لرجل يطالع حظك اليوم في شرفته، أما هذه الأيام فالنار تستعر بالهشيم سريعاً، من خلال المنتديات، والفضائيات، والمدونات، والرسائل الإليكترونية، والفيس بوك.

وأؤكد أن الإسلام في صورته الحقيقية قد دعا إلى احترام المرء لهوية أخيه المسلم، ليس هذا فقط بل ذهب بعيداً إلى الاحترام والإيمان بهوية الآخر، وفي ذلك نجد قوله تعالى: (مَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285).

وإذا سألت أحد رجال الدين المستنيرين عن الغلو في التكفير لذكر لك أن المجازفة بالتكفير شر عظيم وخطر جسيم، وقد ذاقت الأمم كثيراً من ويلاتها ووبيل عواقبها، وليدرك هؤلاء قول الله تعالى في تحذير عباده من الغلو في التكفير (فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة).

والمتأمل لهذا الأمر ـ الغلو في التكفير ـ يرى عواقبه التي تتمثل في استحلال الدم ومنع التوارث وفسخ عقد الزواج وتحريم إقامة الفرائض. ويدهشني كثيراً حينما أقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي يتخذه معظم السلفيون إماماً لهم حينما يقول: فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة ويبين له المحجة وإزالة الشبهة.

ويرى الشيخ الإمام أن قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من الأساس هو من أجل أصول الإسلام، ويؤكد الإمام محمد عبده أن الإسلام عمل على هدم بناء تلك السلطة، بل ومحا أثرها، ويشير إلى ذلك بقوله: " لم يدع الإسلام لأحد لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان مبلغاً ومذكراً لا مهيمناً ولا مسيطراً ". يقول الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ)(الغاشية:21ـ23)، .

ويدخل الشيخ الإمام وهو بصدد تحديد أصول الإسلام في معركة لا تبدو قديمة فقط بل هي معركة لا تزال مستمرة في وقتنا الراهن، ألا وهي ضرورة أن يفهم كل مسلم عن كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك.

ولكن نجد بعد تصاعد الشهود السياسي للتيارات الدينية أن منهم من يصر على أن يصبح مرجعية دينية فقهية أشبه بالمرجعيات الموجودة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية أو بجنوب لبنان من المرجعيات الشيعية التي تنتزع الحقيقة والبرهان بغير منازع، وهو ما يجعلها تفرض على المجتمع الانصياع التام لمقدمات ومعلومات وفتاوى لا تسير في اتجاهين ولا تقبل التفكير فيها مرتين.

وهذا ما يؤكد عليه الشيخ الإمام بصورة أخرى، حيث يرى أن الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، وهو لا يقصد بذلك الخلفاء الراشدين الأربعة، إنما هو يشير إلى منتزعي السلطان بدعوى الدين، حيث إن هؤلاء ليس من حقهم الاستئثار بتفسير القرآن والسنة دون العلماء، ولا أن ينفرد وحده بتلقي معالم وأحكام الشريعة، وهذا ما نجده في بعض التيارات الدينية المتشددة، حيث ترى أن لها حق الأثرة بالتشريع، ولهم في رقاب الناس والعامة حق الطاعة. ووفقاً لهذا المنطق فإن الحاكم ذا السلطان الإلهي هو مقرر الدين، وواضع أحكامه ومنفذها أيضاً.

ونجد الإمام يقررها صراحة بقوله " إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها أحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره ".

وتصل بنا القراءة في فكر الشيخ الإمام محمد عبده إلى الوصول لحديثه عن أصل راسخ ورئيس أيضاً في الإسلام وهو مودة المخالفين في العقيدة، وقد اقتصر الإمام في الحديث عن هذا الأصل بالإشارة فقط إلى المصاهرة أي إباحة الإسلام للمسلم بأن يتزوج امرأة كتابية مسيحية أو يهودية، وكيف جعل الإسلام من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها والقيام بفروض عبادتها، ونضيف على ذلك أن الإسلام الحنيف يسعى إلى تربية النشء والمسلمين على  عدم احتقار الآخرين، ويدعوهم إلى احترام غيرهم وتقدير عقائدهم دون إكراه أو تدخل، يقول تعالى:  (لا إكراه في الدين) (البقرة، 256).

وكان الإسلام بذلك من الأديان النادرة التي منحت أهل الديانات الأخرى ذمة الله ورسوله، لقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا غليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة،8).  ومن هنا فإن المسلمين طوال تاريخهم الطويل لم يظلموا ذمياً أو كتابياً، بل إن الأمر كان يوجه لجيوش المسلمين وعدم هدمها أو الإساءة إليها كما أن أصحاب الملل الأخرى ارتقوا مناصب مهمة في كثير من الدول والإمارات الإسلامية دون تعصب ضدهم أو إساءة إليهم، وأن المؤسسات التعليمية والمكتبات الخاصة لهذه الملل استمرت تؤدي عملها في ظل الحضارة الإسلامية دون مصادرة لها أو تعطيل لعملها.

والفهم الصحيح لركائز الإسلام يدرك أنه حدد بعض الملامح الرئيسة في التعامل مع المخالفين في العقيدة مثل حريتهم في اختيار عقيدتهم، حيث يرفض الإسلام أن يكره الناس على الدخول في عقيدة لا يرتضونها، فالإنسان بعقله الذي وهبه الله إياه، عليه أن ينظر أي طريق يسلكه من طريقي الهدى والضلال، وعلى المسلمين أن يبلغوا رسالة الإسلام إلى من عداهم، فإما أن يهتدوا ويختاروا طريق الخير وهو طريق الإسلام، وإما أن يختاروا الطريق الآخر.

وأنه لا يجوز الاعتداء على أنفسهم، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم)" من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً".وكذلك لا يجوز الاعتداء على أموالهم، أو أعراضهم.

وكذلك وجوب الدفاع عنهم ضد كل من يعتدي عليهم، سواء أكان هذا المعتدي من مواطني دولة أخرى، وهم ما يسمون في الفقه الإسلامي بالحربيين، أم كان من أهل الذمة، أم كان من المسلمين. ويجوز الأكل من ذبائحهم لقول الله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم. والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) (المائدة،5)  خضوع أهل الذمة وانقيادهم لأحكام الشريعة الإسلامية في ضمان الأنفس والأموال والأعراض، وأن تقام عليهم الحدود فيما يعتقدون تحريمه عليهم، ومما يعتقدون تحريمه الزنا والسرقة والقتل والقذف، فهذه الأمور وأمثالها يجب خضوعهم لأحكام الإسلام فيها.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل - أستاذ المناهج وطرق التدريس

كلية التربية جامعة المنيا مصر

 

لا يختلف مفهوم الطاعة عن دلالته اللغوية كثيرا، فهو يعني التسليم والانقياد، وتقترن الطاعة بالعبادة، ولكن الطاعة أعم وأشمل، والعبادة أخص، وقد تكون الطاعة سلوكا فرديا يؤديه الإنسان لله، أو طاعة لأبويه، أو من لهم مكانة محبة في نفسه، ولكن الطاعة منظومة ثقافية تأصلت على أساس من تراكماته المعرفية والسلوكية التي تمتد الى عمق التاريخ، وقد ترسخت في بنيات الوعي الجمعي، ومن ثم أصبحت إحدى العلامات الدالة على القيمة الاخلاقية التي يتحلى بها فرد أو مجموعة أو حزب أو كيان، ولكن الطاعة اصبحت عبئا ثقافيا يحد من فاعلية الانسان ويسلبه حريته ويعطل إمكاناته الفكرية والابداعية.

وقد لا نختلف كثيرا إذا أكدنا أنَّ الطاعة لها حضورها القوي في الفقه الإسلامي، وفي مجمل الخطابات الدينية، ولم يقتصر ذلك على الدين فحسب، بل اصبحت الخطابات السياسية دافعة الى التقيد بها والاخذ بأسبابها، بمعنى أنَّ الطاعة ليست سلوكا فطريا، وليست اداء بريئا، ولكنها طريق ممنهج الى ترسيخ التسليم والاستكانة لصياغة الإنسان، كي يتماهى مع السلطة ويعيد انتاج افكارها وتصوراتها، واكثر من هذا يدعو اليها وينفذ تطبيقاتها على أجيال لاحقة.

ويتميز العقل العربي بنفوره من تحمل المسؤولية الفردية، ويميل كثيرا الى الاندماج الكلي بالجماعة والوعي الجمعي، إذ تتشكل أفكار الإنسان وسلوكياته عبر هذا المحيط الجارف، على الرغم من انه لا يؤمن بما تمليه الجماعة أو الوعي الجمعي عليه، ويجنح ـــ غالباـــ الى ما يمكن تسميته " بالاتكالية على الاخر": فقيها، أو حاكما ،أو أبا، أو شيخا، أو نصا، الامر الذي يقود بالنتيجة الى التماهي بين سلطة الاخر الفقيه والأب من ناحية وسلطة النص من ناحية أخرى.

ولما كان النص يمثل مركزية مهمة في الوعي العربي الإسلامي، لان ثقافتنا ثقافة نص أساسا، فلذلك يتم هذا التلاحم مع التأويلات الدينية ـــ واغلبها سلفية ــــ وتصبح الطاعة جزءا من البنية الثقافية والسلوكية للإنسان الفرد، والجماعة، والطائفة، والحزب، ونحو ذلك.

ولما كانت ثقافتنا ثقافة نص ـــ كما أشرنا ـــ فأنها في الوقت نفسه ثقافة تابعة تقدس الماضي ورجالاته وسلوكياتهم ونصوصهم، ولان كثيرا مما يفرضه الاخر الحاكم والفقيه والأب، اصبحت له قدسيته، لذا وجب التقيد بالتابعية لهم في كل شاردة وواردة، ومن هنا جاءت فكرة " السمع والطاعة للحاكم وان جلد ظهرك وسلب مالك" وان تجاهد تحت امرته وان ارتكب الموبقات، وهذه الثقافة ترسخت في الوجدان العربي ولا يمكن التراجع عنها، وإنْ لم تصبح الطاعة خيارا فرديا فإنها تصبح فرضا تمليه السلطات الدينية والسياسية، والاجتماعية.

إنَّ الاجيال تتناسل وتتوالد وكأنها تحمل في جيناتها ذات الافكار السالفة، وتصر على تطبيقها، على الرغم من التغيرات الخارجية التي توهم بالانفصال عن الماضي، ولكنها في العمق تبقي كل شيء على ما هو عليه دون تغيير.

ويتحول الإنسان العربي الى مجرد متلق سلبي مطيع، ويقابله ويتحكم فيه: الفقيه العالم، والشيخ العارف، والاب المستبد، ويندمج المتلقون السلبيون (المطيعون) ضمن كتلة واحدة (تُؤمِّن) ـــ تقول آمين ـــ على ما يقوله الفقيه والشيخ والأب، ولذلك تجلت في مجتمعاتنا صوره الحاكم الفرد الراعي، ويقابله الرعية: الشعب (المطيع) القطيع.

وليس من قبيل المصادفة ان تتواطئ المؤسسة السياسية العسكرية أو شبه العسكرية غالبا مع المؤسسة الدينية، ويقود هذا الى استبداد مطلق، يغلق كل المنافذ امام محاولات الإنسان للخروج من شرنقة الانصياع والتسليم والطاعة المطلقة، واذا كان هناك في احد طرفي المعادلة استبداد السلطتين السياسية والدينية، فان هناك في المقابل خضوع بقناعة للقطيع.

ولن اكون مبالغا اذا قلت: إنَّ نزعة الاتكالية في العقل العربي اسهمت بشكل فاعل في تراجع التقدم الإنساني، وعطلت فاعلية الإنسان والمجتمع، وقدمت نماذج وهمية للخلاص، وهي نماذج خرافية في كثير من الأحيان، وبهذا فان الخروج من هذا المأزق يقتضي تحرير مفهوم الطاعة من كونه موضوعة ـــ ثيمة ـــ تعني الانقياد والاستسلام، ومن كونها عامة وجامعة، الى فردية وخاصة، وقبل هذا كله لابد من انتزاعها من قدسيتها الى افاق رحبة جديدة، تقود الى المساءلة والحوار، وليس التسليم والانغلاق.

***

د. كريم الوائلي

من يتأمل في أرشيفات المعرفة الدينيَّة، ويجوب تضاريس الملل والنِّحل، متنقلًا بين خرائط العقائد وممرات المذاهب، مُقتربًا من حنايا هذا الدين، ثم عائدًا إلى تخوم آخر، ومنحدرًا في دروب تلك الأيديولوجيا ليغادرها إلى فضاء مغاير، بوصفه شاهدًا حيًّا على هندسة الجماعات واصطفافاتها العقائدية والاجتماعية؛ سرعان ما يقفز أمامه تساؤل حادٌّ، يتسلّل من الملاحظة والتفكر ليستقر في التأمل: لماذا يسكن التطرّف العوام جميعًا، على اختلاف مللهم ونحلهم، وتباين مشاربهم الفكرية؟ فالسُّني العامي، والشيعي العامي، والمسيحي العامي، والمتصوف العامي، تمامًا كالسلفي، أو الشيوعي، أو حتى العلماني العادي، يشتركون جميعًا في سلوك ذهني واحد: التطرف من خلال الاعتصام بيقينٍ مغلق، والنظر إلى العالم من خلال نافذة ضيّقة يتوهّمون أنَّها تكشف لهم الحقيقة الكاملة. وكيف يمكننا أنّ نحلّل هذا السكون العميق، أو الثبات البنيوي الصلب، للتشنّج والانغلاق في نفوسهم؟

ومن الواضح أنّ ما أقصده بـ"العوام" هو المعنى المتعارف، ذلك الموقع الإدراكي الذي يُستخدم في الخطاب الفكري والديني والاجتماعي للإشارة إلى الجمهور غير المتخصص، أو الذين لم يتلقّوا تدريبًا عميقًا أو ممنهجًا في مجال معين، سواء كان دينيًا أو فكريًا أو علميًا. وهو ليس شتيمة أو تقييمًا أخلاقيًا، وإنّما وصف لحالة معرفية وسوسيولوجية. بمعنى أوضح أنّ الشخص يمكن أنّ يكون من طبقة مثقفة أو ميسورة، لكنّه عامي في تعاطيه مع الأفكار إذا كان تفكيره تلقينيًا، غير نقدي، ومبنيًا على التكرار لا على الفهم.

ويبدو أنّ الأمر لا يبدأ من العقائد ولاهوتها وهندستها، بل من الأعماق النفسية التي يتشكّل فيها الوعي الشعبي. فالعقل العامي لم يُربَّ على التفكير النقدي ولا على الشك الخلاق، فقد اعتاد أنَّ يرى في اليقين ملاذًا وعزاءًا نفسيًا، لا أداةً. إن الحاجة إلى الأمان المعرفي تُهيمن على هذا النمط من العقول؛ أمانٌ يعني وجود أجوبة جاهزة، مطلقة، غير قابلة للنقاش، تُسكِّن القلق، وتمنح شعورًا بالانتماء، وتُضفي وهمًا بالسيطرة على عالم معقد ومربك.

وهنا يتخذ التطرّف شكله الأكثر فاعلية: بوصفه راحة نفسية وعقائدية في آنٍ واحد. فبدل أنّ يكون الدين أفقًا مفتوحًا للفهم، يتحوّل إلى جدار يحمي من المجهول. وبدل أنّ تُخاض الأيديولوجيا كمجال للتفكير والتطوير، تُستخدم كقناع للهويّة والدفاع الشرس. لذلك حين تسكن الفكرة عقلًا لم يُدرَّب على التأمل الحر، تتحول إلى قيدٍ لا يُحتمل اختراقه. الجديد يُستقبل بوصفه عدوانًا، والمختلف يُعاد تعريفه كتهديد، والحوار يُستبدل بالحذف أو السخرية أو الإقصاء.

إن هذه الحالة تعيد إلى الأذهان مقولة أفلاطون في "أسطورة الكهف"، حين شبّه العامة بأسرى في كهف لا يرون من العالم سوى ظلال على الجدار، ويتوهّمون أنّها الحقيقة الكاملة. هذا هو العقل العامي الذي يرى في يقينه الراسخ الحقيقة، ويخاف من النور القادم من الخارج، تمامًا كما يخشى المتطرف أنّ يهتز عالمه المغلق أمام فكرة جديدة. وما يؤكده ديكارت في مشروعه العقلي حين جعل الشك أصلًا في المعرفة (أنا أشك، إذًا أنا أفكر، إذًا أنا موجود)، يرفضه هذا العقل رفضًا مطلقًا، لأنّه يرى في الشك تهديدًا لاستقراره وحالة الركود، لا بوابةً للحقيقة.

وإذا كان كانط قد وصف التنوير بأنّه " الخروج من القصور الذي اقترفه الإنسان في حق نفسه"، فإنّ ما نراه من العوام ليس سوى إصرار على هذا القصور، ورفض لتحمّل مسؤولية استخدام العقل دون وصاية. إذًا فالمشكلة ليست في العقيدة أو الإلحاد، ولا في الدين أو العلمانية، وإنَّما في نمط ذهني ثابت: عقل يُدرَّب على تكرار الجواب فقط، ليدفن الوعي تحت ركام ما يُسلم به من دون تساؤل حيوي وخلّاق. ولذا ترى العامة من الناس ينفرون من الإفصاح، ويتوجسون من المكاشفة، فينسجون مراوغة أو التفافًا شاحبًا أحيانًا.

إنّ ما يُظَنّ أنّه تباين بين العوام في الخطاب، لا يُخفي تماثلًا عميقًا في البنية الذهنية. فالمتطرف الديني، والعلماني المتشنج، والملحد الذي يُكفّر الإيمان باسم العقل والتجربة، والشيوعي الذي يرى غيره برجواريًا منحطًا، هؤلاء يشتركون في نمط واحد من التفكير المغلق. مشكلتهم تتجلى في الطريقة التي يُقابلون بها ما يجهلونه أو يختلف عنهم، لا في مضمون ما يؤمنون به.

ويمكن رؤية ذلك بوضوح في أمثلة واقعية ومعاصرة، فمثلاً، خلال الثورة- التمردات- الفوضى الثقافية أو الدينية في بلدان مختلفة، لم يكن معظم من اعتدى على العلماء والمفكرين فلاسفة أو منظّرين، بل كانوا "عوامًا ثوريين"، تلقوا شعارات جاهزة من منظوماتهم، فتحولت الأيديولوجيا إلى يقين مقدّس لا يُناقش. وكذلك في الأحزاب القومية أو الإسلاميَّة، كانت الجماهير تُقاد إلى أقصى درجات التطرّف القومي أو الديني ليس عبر التفكير، بل عبر الخوف والعاطفة واليقين المزيّف الذي قدّمته آلة الجماعة ودعايتها النفسية.

وفي مجتمعاتنا العربية، لا يخفى كيف أنَّ أكثر الجدل الطائفي أو السياسي أو العقائدي تطرفًا لا يصدر عن المتخصصين، قدرَ ارتباطه بالجمهور المتحفز؛ فهم يملكون "مواقف" أكثر مما يملكون "فهمًا". أي "إنهم يعتقدون، لا يفهمون" كما قال أرنست رينان ذات مرة. فقد يفجر أحدهم نفسه لاعتقاده لا لمعرفته، وفي مشهدٍ آخر، نجد بعض من يُسمّون أنفسهم "ملحدين جدد" يمارسون التطرّف ذاته الذي ينتقدونه، حين يحذفون المخالف، ويسخرون من الإيمان بدل مناقشته. كلا الطرفين يُعبّر عن "عقلٍ عامي"، حتى لو ارتدى قناع الفكر.

التعليم التقليدي يكرّس هذا الانغلاق، لأنّه يُقدّم العالم في صورة يقين وعزاء لا يحتمل الزحزحة، ويصوغ المفاهيم الكبرى- كالله، والوطن، والتاريخ، والهوية، والدين، والمذهب، والجماعة- في قوالب صلبة، لا تسمح بالتأويل أو التفكيك. يُربَّى الأفراد على أنّ السؤال تمرّد وقح، والشك مرض وسواسي، والاختلاف خيانة وخروج عن الجماعة. وهكذا يُنتج العقل العامي كائنًا يُفضّل الأمان الزائف على المغامرة الفكرية، واليقين الساذج على القلق المعرفي.

التطرّف إذًا يُولد من خوف متجذّر في الأعماق. إنَّه رد فعل غريزي لعقل ضعيف أمام التعقيد والتشابك. إنَّه محاولة بدائية متواضعة لترتيب عالم شديد السيولة بقواعد صلبة ومقولات مطلقة. وكما أنّ الحنين إلى المطلق يغري النفوس القلقة والمغتربة، فإن الوعي بالتعدد والتعقيد والاشتراك في المنافع الفكرية المتراكمة وحده هو القادر على تحريرها.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة- قسم الفقه وأصوله

يُمثّل الفهم والتأويل أحد أبرز الإشكالات الفلسفية والمعرفية التي تصدّت لها الحداثة الغربية بمقاربات عميقة امتدت من النزعة الديكارتية إلى النسيج الهيرمينوطيقي المتطور، فيما بقي العالم العربي والإسلامي أسير دوائر تأويلية مغلقة، تتكرّر فيها آليات الفهم وتُعاد ضمن أطر تقليدية لا تتجاوز حدود التفاسير القديمة والمرجعيات الثابتة. ومن هذا المنطلق، تطرح الحاجة نفسها بإلحاح إلى عصرنة هيرمينوطيقا النص المقدّس بوصفها مدخلاً لاستعادة المعنى وتجديد صلة الإنسان بالنص في ضوء الزمن المتحوّل.

ـ الهيرمينوطيقا الغربية ومأزق اليقين الديكارتي

لقد أسّس رينيه ديكارت لتيار معرفي يقوم على البداهة واليقين، وهو ما مهّد لبروز النموذج العلمي الحديث بوصفه الضامن الوحيد للمعرفة المُحكمة. في هذا السياق، تمَّ تهميش كل ما يتعلّق بالفهم الذاتي والتأويل بوصفه غير قابل للاختبار التجريبي، ومن ثمّ غير جدير بالمشروعية العلمية. إلا أنَّ هذا الرفض للتأويل لم يستمر طويلًا، فسرعان ما جاءت أعمال شلاير ماخر ثم دلتاي لتنقل الهيرمينوطيقا من هامش الفلسفة إلى قلبها، بوصفها فعلًا تأويليّاً لا يستقيم إلا داخل سياقات الفهم الإنساني.

وجاء هانز جورج غادامير، المتأثر بهيدغر، ليُضفي على الهيرمينوطيقا بعداً أنطولوجيّاً عميقاً، حيث لم يعد التأويل أداة لفهم النص، بل أصبح تعبيراً عن وجود القارئ ذاته. في كتابه "الحقيقة والمنهج"، يرى غادامير أن الفهم ليس نشاطًا محايداً، بل هو اندماجٌ للأفقين: أفق النص وأفق القارئ، في لحظة تاريخية مخصوصة. ومن هنا، لم تعد الحقيقة نتيجة تطبيق المنهج، بل نتاج حوار دائم بين الذاتي والتاريخي، بين اللغة والتأويل.

ـ الفجوة العربية: نص ساكن وقارئ غائب..

في المقابل، لا تزال التأويلات الدينية العربية أسيرةَ الموروث التفسيري التراثي، الذي لا يعترف لا بتعددية المعنى، ولا بانفتاح النص على احتمالات زمانية متغيّرة. فقد تمّ تجميد النص المقدّس في قوالب تفسيرية وضعها أسلافٌ عاشوا ضمن شروط تاريخية، اجتماعية، سياسية وفكرية مختلفة تمامًا. هؤلاء، أمثال ابن كثير، الطبري، والجلالين، قدّموا اجتهاداتهم في تأويل النص القرآني ضمن أفقهم الثقافي، لكن تمّت معاملتها بعد ذلك بوصفها حقائق نهائية لا تقبل المناقشة أو التحوير، وكأنّ النص المقدّس توقّف عن الحياة بعدهم.

هذه الممارسة ليست بريئة معرفيًّا، بل هي فعل إقصائي يعطّل النص ويجرّده من حيويّته. فالقراءة التي لا تُحدث قطيعة مع المألوف، هي قراءة ماضوية لا تشتبك مع الحاضر، بل تعيد إنتاجه ضمن منطق الاجترار والتقليد. وبهذا، نصبح أمام نصٍّ يتكلّم بلسان الماضي، وقارئٍ يطلب منه أن يُنقذ الحاضر.

ـ الحاجة إلى تأويل زماني: تحرير النص من إسار الجمود

عصرنة الهيرمينوطيقا تعني أوّلًا استعادة النص المقدّس ككائن حيّ، يعيش ويشتبك مع الحاضر، ويُحدث أثرًا في المستقبل. نحن لا ندعو إلى تحريف النص أو شطبه، بل إلى إعادة تأويله ضمن سياقات معرفية وحداثية جديدة، قادرة على احتضان المغايرة، واستيعاب الحراك التاريخي الذي يعيشه الإنسان المعاصر. فالنص الإلهي، بحسب ما تذهب إليه الهيرمينوطيقا الفلسفية، لا يتكشّف دفعة واحدة، بل يفتح نفسه في كل مرة على أفق جديد من المعنى، بحسب ما يتوفّر للقارئ من أدوات فكرية ووجودية.

ولعلّ أبرز إشكاليات الهيرمينوطيقا العربية، هو تعاملها مع التأويل بوصفه تابعًا للإجماع، وليس كفعل حرّ ينبع من وعي القارئ ومسؤوليته. التأويل الأصيل ليس خيانة للنص، بل فعل إخلاص له، لأنه يحاول أن يستنطقه لا أن يعيد تلاوته.

ـ التأويل المعاصر: من ريكور إلى فاتيمو

لقد فتح التأويل الغربي أفقًا عظيمًا من القراءات الحداثية للنصوص، سواء أكانت دينية أو فلسفية أو أدبية. بول ريكور قدّم نموذجًا فذًا في التعامل مع النص الديني من خلال مفهوم "الرمز"، معتبرًا أنَّ الرمز يُنتج معانيه ضمن أفق التأويل، ولا يُختزل في قراءة حرفية أو دوغمائية. أما جياني فاتيمو، فقد دعا إلى تأويل غير سلطوي للنصوص، ينطلق من ضعف الحقيقة لا من قهرها، ويدعو إلى إنزال النص من مقام القوة إلى مقام الحوار.

في حين بقيت الثقافة العربية المعاصرة في تأويلها للنصوص المقدّسة رهينة نزاع بين خطابين: خطاب سلفي متصلّب، وخطاب حداثي غالبًا ما يتم تهميشه أو تخوينه.

ـ نحو هيرمينوطيقا عربية راهنة

الرهان الآن هو في بناء تأويل عربي يستوعب التراث ولا يتقوقع فيه، يتّصل بالواقع دون أن يبتذله، يستحضر مناهج الغرب النقدية دون أن يغترب عنها. نحن بحاجة إلى تحرير النص من سلطة الحراس الذين منعوا أسئلة الحداثة من الاقتراب منه. فكما أنَّ النص المقدّس وحيٌ، فإنَّ التأويل اجتهاد بشري، ولا يمكن أن يحتكر الإنسان المطلق في فهم ما هو إلهي.

إنَّ عصرنة هيرمينوطيقا النص المقدّس تعني قبل كل شيء: إعادة الإنسان إلى مركز المعنى. فالمعنى لا يكون إلا في أفق الكينونة، والزمن، والمكان، والتاريخ. وكل تأويل لا يحمل قلق الحاضر وأسئلته، هو تأويل ميت، ولو استشهد بألف من المفسرين.

خاتمة:

ليست الهيرمينوطيقا فعلًا معرفيّاً فحسب، بل هي ضرورة وجودية لتجديد العلاقة مع النص. وإذا كان الغرب قد أنجب أمثال ريكور، فاتيمو، دورتي، فلِمَ لا نُنجب نحن نماذج جديدة تحاور النص في أفق العصر؟

لن يكون لهذا ممكنًا إلا إذا تحررنا من الخوف، وامتلكنا الجرأة لنفكر خارج سياق التكرار. فالنص الذي لا يُقرأ من جديد، هو نص ميت.

وعلينا أن نقرر: إما أن نؤوّل، أو نُؤوَّل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

في كل مرحلة من التاريخ الإسلامي، كانت هناك أصوات ترفع راية "الإصلاح الديني"، بدافع استعادة روح الدين الأولى، أو استجابة لتحديات العصر، أو رفضًا للفساد الديني والسياسي. ومع ذلك، بقيت تلك الأصوات تغرد في هوامش الوعي، تصطدم بجدار من الرفض أو التجاهل، ثم تُطوى سيرتها في ركن منسيّ، أو تُحاكم بوصفها تهديدًا للمقدّس.

رغم مرور قرون من المحاولات والتجارب، ما زال السؤال المؤلم يلاحق الوعي الإسلامي:

- لماذا يفشل الإصلاح الديني دائمًا؟

هل الخلل في النصوص؟ أم في طرق تأويلها؟

هل العطب في المصلحين؟ أم في الجماهير؟

أم أن البنية العميقة للسلطة الدينية والسياسية لا تسمح بأي إصلاح جذري؟

الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز سرد الوقائع أو التذكير بسير الرموز، لتلامس جوهر الأزمة في داخلنا: في طريقة فهمنا للدين، وحدود حرية التفكير في بيئة تستمد شرعيتها من التقليد لا من العقل، ومن الطاعة لا من المساءلة.

لقد تحوّلت الدعوات الإصلاحية في أغلب التجارب إلى خطر يجب تحييده، أو صوت يجب تشويهه، أو شذوذ يجب إخراجه من الجماعة، لا لأنّها لم تكن صادقة أو ضرورية، بل لأنها اصطدمت بجدار الثوابت المصنوعة، والمصالح المقدّسة، والوعي المشروط بالخوف.

هذا المقال ليس عرضًا تاريخيًا لمراحل الإصلاح، بل محاولة لفهم العوامل البنيوية والفكرية التي تجعل مشاريع الإصلاح، مهما اختلفت أسماؤها، تتحوّل غالبًا إلى تجارب معزولة، تُوأَد قبل أن تُزهر، وتُعامل كرجس يجب اجتنابه.

الإصلاح يهدد بنية المصالح

الإصلاح الديني لا يعني تجميل الخطاب أو تحديث الفتاوى بلغة معاصرة، بل هو في جوهره زلزال يهزّ مراكز الفهم والتفسير والتأثير؛ إنه تغيير في معادلة السلطة والشرعية والوعي. لذلك يُنظر إلى أي إصلاح ديني حقيقي بوصفه تهديدًا وجوديًا، لا فكرة قابلة للنقاش.

إن الإصلاح الديني، حين يكون جادًا، يربك ثلاث قوى متشابكة ومترابطة:

1. المؤسسة الدينية، التي راكمت نفوذها التاريخي من خلال احتكار التأويل، وفرض نمطٍ معين من التدين، وتكريس الطاعة كفضيلة، والسؤال كخيانة.

2. السلطة السياسية، التي وجدت في الدين أداة فعالة للضبط الاجتماعي، وتبرير الاستبداد، وقمع المعارضة تحت لافتة "الخروج عن الجماعة" أو "نشر الفتنة".

3. الوعي الشعبي، الذي أُشبع بالخضوع للمألوف، وتمّ تطبيعه على رفض النقد، والتبرّم من الأسئلة، والارتياح لعالم خالٍ من القلق الفكري.

هنا، لا يظهر المصلح بوصفه مجددًا أو مفكرًا، بل كمشاغب أو مشاكس أو مثير للفتنة، لأنه يزعزع السائد، ويهدم البُنى النفسية والرمزية التي اعتادها الناس، ويهدد مصالح طبقة كاملة بنت سلطانها على الجمود.

تاريخيًا، كانت العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية قائمة على مقايضة صامتة:

- "أمنحك الطاعة والشرعية، وأمنحني الحماية والهيبة."

وهذا التحالف جعل من الإصلاح خطرًا مزدوجًا، يُنظر إليه لا كمسعى فكري، بل كفعل تمرد على منظومة متكاملة تُقدّم نفسها بوصفها "الدين".

الإصلاح إذًا لا يُرفض لأنه باطل، بل لأنه يفتح أبوابًا مغلقة، ويعيد الأسئلة إلى الواجهة، ويُخرج المؤسسة من منطقة الأمان التي طالما أقامت فيها باسم القداسة والتقليد. ولهذا، حين يُطرَح خطاب إصلاحي حقيقي، فإن أول ما يتحرك لمواجهته هو تحالف غير معلن بين: حراس الدين، حماة السلطة، أنصار العادة.

لا شيء أخطر على البنى الراسخة من فكرة جديدة تحمل وعيًا حرًّا، أو من مصلح يرى أن الدين يجب أن يُحرّر من قبضات المصالح لا أن يُعاد ترميمها.

الجمهور يستثقل التفكير

ليست كل مقاومة للإصلاح الديني نابعة من السلطة أو المؤسسة، بل كثير منها يصدر من الجمهور نفسه، الذي يرى في أي محاولة للمراجعة تهديدًا لطمأنينته النفسية وهويته الدينية.

الإصلاح يتطلب شروطًا صعبة: مساءلة الموروث، تفكيك المسلّمات، نقد القداسة الزائفة، استبدال الطاعة بالمسؤولية.

لكن المجتمعات المتدينة في أغلبها تربّت على الخوف من السؤال، والتوجس من التفكير، والخضوع للموروث بوصفه مقدسًا غير قابل للنقاش. في هذه البيئة، يُصبح التسليم هو الإيمان، والشكّ كفرًا، والتفكير تمرّدًا.

حين يظهر صوت إصلاحي، لا يُستقبل كدعوة للتجديد، بل كعدوان على الثوابت. تُرفع في وجهه عبارات جاهزة:

- "أنت تشكك في الدين"،

"من أنت لتفهم؟"،

"هذه أفكار مستوردة"،

"لا تثير الفتنة"،

"هذا ليس وقت الأسئلة".

هكذا يُحوَّل العقل الجماعي إلى سجن طوعي، نُغلق أبوابه من الداخل باسم الإيمان، بينما الإيمان الحق لا يخشى التفكير، ولا يهرب من النقد، ولا يُهادن الجهل. هذا العداء للسؤال ليس جديدًا، بل يتكرّر كلما حاول شخص أن يسأل السؤال الأول:

- "لماذا نفعل ما نفعل؟ وهل هذا ما أراده الله، أم ما صنعه الناس باسم الله؟"

لكن الجمهور، المرهق من تناقضات الواقع، والمنهك من الصراع بين الدين والتحديث، غالبًا ما يختار الراحة الذهنية، فيلوذ بالموروث، ويستسلم للرموز، ويجد في الصمت عبادة.

إن المصلح الديني لا يُقابل فقط بسيف السلطة، بل أيضًا بعصا الجماعة، التي تعتبر كل مساس بالمألوف خطرًا على وحدتها، أو طعنًا في إيمانها، أو تعدّيًا على مرجعياتها.

وهنا تتجلى المفارقة: الجمهور الذي يحتاج إلى الإصلاح، هو أول من يقف ضدّه، لأنه لا يريد أن يفكر خارج ما تعلّمه، ولا أن يرى خارج ما أُرشد إليه.

إن الإصلاح الذي لا يبدأ من تحرير الإنسان من الخوف من التفكير، سيظل يدور في دائرة مغلقة، مهما كان عمقه أو صدقه أو جرأته.

الإصلاح يتعثر داخل أدوات التراث ذاته

كثير من المشاريع الإصلاحية في التاريخ الإسلامي لم تُواجه فقط بالرفض من الخارج، بل تعثرت من الداخل، لأنها حاولت إصلاح البنية التقليدية بأدواتها ذاتها. لقد وقع كثير من المصلحين في فخ التوفيق بين روح التجديد وهيكل الجمود، فتبنوا نفس المنهجيات التي أنتجت الأزمة، ثم استغربوا لماذا لم يتغيّر شيء.

بدل أن تكون مشاريعهم ثورة على أنماط التفكير المغلقة، تحوّلت إلى ترقيعات معرفية، حاولت أن تُرضي الجميع، ففقدت القدرة على إقناع أحد. إن المشكلة ليست فقط في الموروث، بل في طريقة التعامل معه. فقد لجأ بعض المصلحين إلى نفس الأدوات القديمة:

- نفس طرائق الاستدلال بالنصوص بمعزل عن السياق.

- نفس المفاهيم المستهلكة: "الفرقة الناجية"، "أهل السنة والجماعة"، "الخروج عن الحاكم"، "الطاعة المطلقة".

- نفس اللغة الفقهية الصارمة التي تقيس الحياة على مقولات الحلال والحرام، لا على معيار الحرية والكرامة والعقل.

والأخطر من ذلك أن بعض الإصلاحيين سَعَوا إلى إقناع المؤسسة التقليدية بصلاحية إصلاحهم، فاضطروا إلى ليّ أعناق المفاهيم، وتجميل أفكارهم بلغة ترضى عنها السلطة الدينية، فخسروا زخم الثورة، ودخلوا في لعبة المصالح التي كانوا يريدون خلخلتها.

لقد تحوّل كثير من الخطاب الإصلاحي إلى عملية ترويض للقديم، لا مساءلة له، وبدل أن يكون الإصلاح مشروعًا معرفيًا يفتح آفاقًا جديدة، أصبح أشبه بمحاولة تجميل البناء الآيل للسقوط.

الإصلاح لا يمكن أن ينجح ما دام محبوسًا داخل نفس الأدوات التي صادرت حرية العقل في الأصل.

لا يمكن لعقل يريد التحرّر أن يستند إلى نفس المسلمات التي كبّلته، ولا يمكن لفكر نقدي أن يستخدم مفاهيم بُنِيت أصلًا على قمع السؤال. التحرر يبدأ حين نجرؤ على إعادة بناء المنهج، لا مجرد تغيير النتائج، وعلى تفكيك آليات إنتاج الفهم، لا إعادة ترتيبها. أما أن نطلب من القديم أن يجدد نفسه من الداخل، دون تغيير الأدوات، فهو كمن يطلب من السلاسل أن تفتح الباب.

المصلحون لم يُنصفهم أحد

حين نقرأ تاريخ الإصلاح في السياق الإسلامي، لا نجد سجلًّا من الانتصارات، بل نطالع تاريخًا حافلًا بالخذلان، وقصصًا متشابهة من القمع والنفي والتكفير والاغتيال الرمزي. لقد كانت سيرة المصلحين، في الغالب، سيرة من ساروا عكس التيار، ودفعوا الثمن وحدهم، بينما الجمهور الذي دافعوا عنه تفرّج بصمت، أو انضم إلى جوقة الإدانة.

- في كل مدرسة أو مذهب، هناك رموز حاولت أن تطرح أسئلة صادقة، وأن تجدد الفهم، وأن تقرّب الدين من الإنسان، لا من السلطة، لكن نهايتهم كانت واحدة: العزلة أو التشويه أو الموت المعنوي.

- في المذهب الشيعي:

الشيخ محسن الأمين العاملي: جُرّح وهوجم لأنه انتقد الغلوّ في الشعائر، ودعا إلى تنقية الممارسات من الطقوس التي تُسيء إلى صورة المذهب.

محمد رضا المظفر: حاول تحديث مناهج الحوزة العلمية في النجف، وكتب في المنطق وأصول الفقه بروح جديدة، لكن مشروعه أُهمل ولم يُورّث.

السيد محمد كاظم شريعتمداري: وقف في وجه ولاية الفقيه دفاعًا عن استقلال المرجعية، فكان جزاؤه الإقامة الجبرية والتشويه والعزلة حتى الممات.

علي شريعتي: جعل من الدين مشروع تحرر وعدالة، لكنه وُوجه بتكفير المحافظين وريبة العلمانيين، ومات غريبًا قبل أن يرى ثمار أفكاره.

السيد محمد حسين فضل الله: طُعن في عقيدته واتُّهم بالانحراف لأنه دعا إلى خطاب عقلاني، وأعاد قراءة التاريخ الإسلامي بجرأة.

آية الله كمال الحيدري: اليوم يُحاصَر ويُتهم ويُشيطن لأنه يراجع البنية العقائدية بأسئلة نقدية، تحاول أن تُحرّر الدين من الاستلاب المذهبي.

- في المذهب السني:

أبو حنيفة: رُفض وأُهين وسُجن لأنه رفض مسايرة السلطة الأموية والعباسية، وتمسك باستقلالية الفقه.

ابن رشد: نُفي وأُحرقت كتبه لأنه دافع عن العقل ضد النقل الجامد، وسعى لتأسيس منهج فلسفي إسلامي عقلاني.

جمال الدين الأفغاني: تنقل من بلد إلى بلد بسبب رفضه الاستبداد الديني والسياسي، وكان مشروعه أوسع من حدود عصره.

محمد عبده: رغم دعوته الرصينة لإصلاح الأزهر وتجديد الفقه، واجه سيلًا من الهجمات والتشويه، حتى من داخل المؤسسة التي أراد إصلاحها.

- في المدرسة العقلانية والمعتزلة:

واصل بن عطاء وعبد الجبار: قدّما فهمًا عقلانيًا يقدّم العدل والعقل على ظاهر النص، فتم تصنيفهم كزنادقة، وأُقصيت مدرستهم من الوعي العام.

في التصوف:

الحلاج: دفع حياته ثمنًا لجرأته الروحية، أُعدم بتهمة الزندقة، رغم أن كلماته كانت صرخة إنسان يبحث عن الله لا عن السلطة.

ابن عربي: اتُّهم بالحلول ووحدة الوجود، لكنه في الحقيقة كان ينادي بتوحيد الإنسان لا تأليهه، وبالرحمة لا بالإقصاء.

- في المدرسة الإباضية:

نور الدين السالمي: دعا إلى فقه متجدد وتعليم عصري، لكن أفكاره بقيت في الهامش، ولم تحظَبما تستحق من اهتمام أو تفعيل.

كل هؤلاء، على اختلاف مشاربهم، اتحد مصيرهم: التهميش، التخوين، الاضطهاد، ثم التمجيد بعد الموت وكأنهم لم يكونوا خصومًا للنظام القائم، بل أبطاله. المفارقة أن كثيرًا من هؤلاء يُعاد الاعتراف بقيمتهم بعد وفاتهم، ويُحتفى بأفكارهم بعد أن تكون قد خُنقت وهم أحياء.

- يُقتل المصلح باسم الدين، ثم يُقدَّس في كتب التاريخ

يُقصى لأنه يزعج، ثم يُروى باعتباره مفكرًا رائدًا، بعدما أصبحت أفكاره غير قادرة على التغيير.

وهكذا، لا يُنصف المصلح في حياته، بل يُحوَّل بعد موته إلى ذكرى رمزية تُجمَّد وتُستخدم كديكور على جدران المؤسسة ذاتها التي قاومها.

المجتمع لا يطيق الصراحة

حين يجرؤ المصلح على طرح مراجعة جذرية، أو يُعلن عن تفكير خارج السياق المألوف، يُقابل – حتى من أقرب الناس إليه – بجُملة مألوفة:

- "هذا ليس وقته."

وكأنَّ للصراحة مواسم محددة، وللصدق أوقاتًا مشروطة.

في الواقع، أحد أكبر العوائق أمام أي إصلاح حقيقي ليس فقط المؤسسة، ولا الجمهور الرافض للتفكير، بل البيئة الاجتماعية المحافظة بطبعها، التي تؤمن بـ"التغيير المؤدب"، وتخشى الصدام مع المقدس. هذه البيئة تطالب المصلح بأن يكون:

- هادئًا في الطرح.

- تدريجيًا في النقد.

- مطواعًا في اللغة.

- غامضًا في الرأي.

أي أنها تطلب منه أن يقول الحقيقة، دون أن يُزعج أحدًا بها. أن ينتقد الخطأ، لكن بطريقة لا تُفهم، وأن يدعو للإصلاح، بشرط ألا يهزّ القناعات، وألا يُحرج الجماعة، وألا يُخالف المزاج العام.

في ظل هذه العقلية، تُفرض على المصلح وصاية خطابية تمنعه من أن يكون صريحًا في تقييم الواقع، أو واضحًا في تشخيص المرض، لأن الصراحة تُفهم كوقاحة، والوضوح يُقرأ كتحدٍّ، والجرأة تُعدّ خروجًا على الأدب الجماعي.

ولهذا، فإن كثيرًا من المصلحين انتهوا إلى أحد مصيرين:

1. الصمت الاختياري، حفاظًا على سلامتهم أو على الحد الأدنى من تأثيرهم.

2. العزلة القسرية، حيث يُدفعون إلى هوامش الحياة الثقافية، ويتم نسيانهم عمدًا.

تحت هذا الضغط الاجتماعي، تتحوّل المفاهيم الكبرى – كالحرية، والنقد، والعدالة، والعقل – إلى شعارات مُعقّمة، يتغنّى بها الجميع، لكن لا يريد أحد تطبيقها حين تُهدّد راحته الفكرية أو العقائدية.

حتى مناصرو الإصلاح – حين يُختبرون – يُطالبون المصلح بالتراجع، ويخافون من الارتباط به، وينصحونه بـ"التأني"، أو "اختيار الكلمات"، أو "عدم المواجهة المباشرة"، وكأن الإصلاح ممكن دون صدام، أو كأن الثورة على الفكر السائد يمكن أن تمرّ بلا مقاومة.

وهكذا، يُترك المصلح وحيدًا، يُساء فهمه وهو حي، ويُجرَّم وهو ينطق، ثم تُكتَب عنه قصائد الرثاء بعد موته، وكأنه لم يكن منبوذًا يومًا ما.

- لقد اعتاد المجتمع أن يخشى من يُفكر بصوت مرتفع، وأن يُطوّق كل فكرة جريئة بخطاب ناعم يُعيدها إلى القفص، ثم يبتسم لها من بعيد.

إن البيئة التي لا تحتمل النقد، لا تحتمل التغيير، وإن المجتمع الذي يقدّس الصمت باسم الحكمة، يساهم – من حيث لا يدري – في استمرار التكلّس والجمود.

إصلاح بلا تحرر إنساني... عبث

كل إصلاح لا ينطلق من تحرير الإنسان، هو مجرد عبث لغوي، أو هندسة شكلية لنظام فكري مأزوم.

الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الكتب، ولا من إعادة ترتيب المفاهيم، ولا من تزيين الخطاب، بل يبدأ من تحرير الإنسان من الخوف، من القيد، من التبعية، ومن وهم الطمأنينة داخل القفص.

ما لم يتحرر الإنسان من:

- الخوف من التفكير،

- الرهبة من السؤال،

- الخضوع لسلطة تُقدّم نفسها باسم الله،

- وصاية الجماعة التي تفرض عليه نمطًا موحدًا من الإيمان...

فلن يُكتب لأي مشروع إصلاحي أن ينجح، حتى لو امتلك أعظم الأفكار، وأصدق النيّات.

التجديد ليس مجرد "تليين" للخطاب أو تحديث للمصطلحات، بل هدم للبنية القديمة التي بنت مفهوم التدين على الطاعة، لا على الوعي، وعلى التلقين، لا على التأمل.

ولذلك، لا معنى لإصلاح ديني: ما دام الإنسان يُربَّى على الخوف من الاجتهاد، ويُحرَّم عليه التفكير خارج حدود الموروث، وتُخنق بداخله كل نزعة نحو الحرية الفردية والكرامة الذاتية.

الإصلاح الديني، في جوهره، معركة لتحرير الإنسان قبل تحرير النص. ولا يمكن لمشروع تجديد أن ينجح ما دام السلطان الديني والسياسي والاجتماعي جاثمًا على صدر الفرد، يحدد له ما يؤمن به، وما يقرأ، وما يعتقد، وما يشك فيه.

في أوروبا، لم تبدأ نهضة الفكر الديني إلا حين تفكّكت البنية السلطوية الكنسية، وتحرر العقل من الخوف، والضمير من القمع، والفرد من هيمنة الجماعة. حينها فقط أصبح ممكناً للإنسان أن يرى الدين من جديد، لا كعُصبة رجال يتحكمون به، بل كفضاء روحي أخلاقي يُعبّر عن حريته لا عن قيده.

وما لم نصل إلى تلك اللحظة الفارقة، التي يُعاد فيها تعريف العلاقة بين الإنسان والدين من خارج الهيمنة والوراثة والتخويف، فإننا سنظل نعيد إنتاج الفشل ذاته، حتى ونحن نُطالب بالإصلاح.

- "تحرير النص من سلطة التأويل، لا يكفي ما لم يتحرر الإنسان من سلطة الخوف."

ختاماً: لا إصلاح بلا وعي... ولا وعي بلا تحرر

الإصلاح الديني ليس بيانًا بلاغيًا، ولا ندوة أكاديمية، ولا خطبة عاطفية؛ إنه مسار طويل من الوعي المؤلم، والشجاعة النادرة، والتمرد الأخلاقي على القوالب الجاهزة. ولذلك، فهو لا ينجح بالخطب، ولا يتحقّق بالتمنّي، ولا يُفرض من فوق. بل يولد من الأعماق المهملة، ومن العقول التي قررت أن تفكر رغم الخوف، وتشكّ رغم التلقين، وتصدق رغم التكفير.

الإصلاح لا يعني التمرد لأجل الصدام، بل لأجل استعادة المعنى. لأجل أن يعود الدين كما بدأ: قوة روحية تُحرّر الإنسان، لا تُقيّده. رسالة أخلاقية تعيد التوازن بين الإيمان والحرية، لا أن تصنع من الطاعة بديلاً للعقل.

لكن كل إصلاح يبدأ من فرد حرّ، يرفض أن يكون عبدًا للماضي، أو تابعًا للقطيع، أو صدى لغيره. يبدأ من عقل يملك: شجاعة السؤال، حرية النقد، جرأة التحرر من التقديس الزائف.

أما المجتمعات التي تخشى الصراحة، وتُرهب الاختلاف، وتحتفي بالسكوت على الخطأ باسم الوحدة، فهي بيئات تُجهض الإصلاح قبل أن يُولد، وتستدعي الفشل باسم الحذر، وتستبدل التجديد بالشعارات.

- الإصلاح الديني لا يفشل لأنه مستحيل، بل لأنه لا يُراد له أن يُنجز.

لأنه حين يُفكّك سلطات الوهم، تُفقد امتيازات كثيرة، ويُسحب السقف من فوق رؤوس المستفيدين من الجمود.

إنّنا لا نحتاج إلى مصلحين أكثر، بل إلى جمهور مستعد أن يفتح عينيه، ولو على الحقيقة المُرّة. إلى مؤمنين يعرفون أن الدين لا يُقدَّس بالصمت، بل بالمراجعة، وأنّ الشك ليس خيانة، بل طريق الإيمان الحقيقي.

فلنبدأ من هنا: من تحرير العقل من الخوف، ومن تحرير الدين من السلطة، ومن تحرير الذات من الاستسلام. عندها فقط، لن يفشل الإصلاح.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

تتحقّق مصداقية الإصلاحيين متى كانوا قادرين على تجاوز الطروحات المستهلكة والإجابات الجاهزة، التي تقفز على معطيات التاريخ وتتجاهل الواقع؛ فالإصلاحي هو القادر على طرح الأسئلة المؤجّلة، والتفكير بصوت مقروء، يشارك العامة والخاصة المسكوت عنه من قضايا إصلاح الفكر الديني، إيماناً منه بحقّ الجميع في المعرفة، فلا أمل في الخروج من تلك الهوّة الحضارية والانخراط في العصر، والإصغاء إلى استفهاماته وتحدياته بوصاية نُخبوية؛ بل بمشاركة مجتمعية تستعيد الفريضة الغائبة، فريضة التفكير والتساؤل، حتى يكون التقييم والمراجعة والتغيير الذي تحتاجه أيّة أمة تريد أن تصنع حضارة، وأن تعود مرّة أخرى إلى التاريخ.

ومن هؤلاء الإصلاحيين؛ الشيخ محمود شلتوت، الذي أكّد دوماً أنّه باحث، وأنّ طرحه لا يعدو عن كونه رأياً واجتهاداً، ومحاولة للفهم، لا تزعم الوصول إلى الحقيقة، التي تظلّ نسبية، نختلف حولها اختلافاً مشروعاً، ونسعى لمقاربتها بالقدر الممكن علمياً وإنسانياً.

لم يتوقّف الشيخ الأزهري عن تلك الآلية القادرة دائماً على تصحيح الأخطاء والتقدّم نحو مزيد من الاجتهاد بما يجعل الإصلاح فعلاً مستمراً

ولأنّنا، على حدّ تعبير علي شريعتي: "لا نرى الفكرة إلا إذا كانت صادرة عن كتلة"؛ فالواقع أنّنا إذا لم نجد الكتلة صنعناها، فنجعل أفكار الكاتب حزمة واحدة، تميل به إلى كتلة اليمين أو اليسار، الحقّ أو الباطل، الخير أو الشرّ، تلك الإثنوية التي تغتال الإصلاح في مهده؛ فأدرج الشيخ شلتوت في كتلة "المنحرفين" عن صحيح الإسلام، عند أتباع الوهابية، الذين صنّفوه ضمن طائفة "العصرانية"، التي يرونها تعظّم العقل البشري على حساب النصوص الشرعية، سيما السنّة، وصنّفه محمد عمارة ضمن كتلة "الإحياء والتجديد"، التي ترفض الجمود والتقليد، وتدعو إلى التجديد والإصلاح؛ انطلاقاً من الوسطية والعقلانية المؤمنة، وصنّفه آخرون ضمن دعاة النهضة بمفهومها العام.

وخروجاً على منطق الكتلة المحيط بنا؛ الذي يمثّل الاستسلام له إحدى إشكالياتنا الثقافية، ودون الدخول في معارك التصنيف الفكريّ، التي جعلت ابن تيمية يعيش بيننا سلفياً محافظاً زمناً، ثم يُبعث الآن من جديد وسطياً إصلاحياً، نكتفي بالإشارة إلى أنّ الجيل الذي ينتمي إليه الشيخ؛ هو الجيل الثالث من إصلاحيّي الأزهر، الذين دعوا إلى ضرورة إصلاح الفكر الديني.

فكما كان رفاعة الطهطاوي، والشيخ حسن العطّار، ومرتضى الزبيدي؛ من أهم ممثلي الجيل الأول، وكان الشيخ محمد عبده، وعبد اللّه النديم، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد العزيز جاويش؛ من أهم ممثلي الجيل الثاني، كان الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، من أهم ممثلي الجيل الإصلاحي الثالث.

ارتبط الشيخ شلتوت بصداقات قوية ووشائج فكرية عميقة، بتلامذة الإمام محمد عبده؛ فهو أحد نبهاء مدرسة الإمام، رغم أنهما لم يلتقيا، فالتقى بمن حضروا دروسه وتتلمذوا على يديه، ورأوا عن قربٍ الجروح النفسية التي أصابته من ضراوة معارك الإصلاح، ولم يكن التلميذ أفضل حالاً من أستاذه، الذي عاصر هو الآخر الركود الفكري في أبشع صوره، على حدّ تعبير شلتوت، حتى "امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل، التي هي محلّ خلاف، ضنا بسمعتهم الدينية، فوقف العلم، وحُرمت العقول لذّة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية".

فالأستاذ والتلميذ عاشا حقبة واحدة؛ تحدّث عنها شلتوت في الذكرى الثلاثين لرحيل الإمام محمد عبده، بقوله: "كانت بيئة الشيخ عبده هي البيئة الأزهرية التي تكوّنت في أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة، وكان طابعها الركود الفكري، والتعصب المذهبي، والتقديس للآراء والأفهام، والسموّ بها عن النّقد، ومحاربة كلّ رأي جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد في دين الله، وحرّمت الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية، وقاومت مَن حاول الخروج عليها في ذلك زماناً طويلاً".

يكن الشيخ محمود شلتوت من الذين يكتفون بالتأمل الوعظي للنصوص؛ فالتحديات التي تُواجه الفكر الديني تفرض أسئلة أكثر تعقيداً من الإجابات الجاهزة، التي عادة ما يردّدها الوعّاظ، ولا يكتفي بها الباحثون؛ فتناول الشيخ القضايا كباحث يتخذ من آراء القدامى والمحدثين فروضاً بحثية تحتاج إلى الاختبار والمناقشة، فكان السؤال البحثي عند الشيخ محمود شلتوت ثورة على الجمود والتقليد، بما ينطوي عليه من فراغ فكري، فلا أمل للانعتاق من المأزق الحضاري الذي تردّينا فيه، دون تجديد وإصلاح حقيقيَّين، يبدآن بمساءلة الفكر الديني، على غرار أسئلة الشيخ الأزهري محمود شلتوت:

ما هو الحدّ الفاصل بين العقيدة واللاعقيدة؟ هل العقل هو السبيل إلى ثبوت العقيدة أم الأدلة النقلية؟ وإن صحّ أنّ الأدلة النقلية تثبت بها العقيدة فأيّ أدلة نقلية؟ هل المسائل الخلافية التي تزدحم بها ما يطلق عليها "كتب العقيدة" من كتب المتكلّمين يصلح أن نُطلق عليها مسائل في العقيدة؟ كيف نعرف أصول الدّين التي يجب الإيمان بها؟ هل اختلاف أهل الحديث (أهل السنّة) وأهل التوحيد والعدل (المعتزلة) يستلزم أنّ أحدهما على صواب والآخر على خطأ في مسألة الخلاف؟ ما الذي خلّفه التعصب المذهبي؟ كيف خلق الإنسان حراً في فعله، مختاراً، غير مقهور ولا مجبور؟ وكيف لا تتعارض حرية الإنسان في حياته وقدرته على الاختيار مع القضاء والقدر؟

هل يُمكن أن يتحقق الإجماع؟ ما حجم الجناية التي مارسها البعض على العقل بحرمانه من لذّة البحث باسم الإجماع؟ هل العمل الذي تلقته الكافة عن الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع هو الصورة الوحيدة التي يُمكن أن نُطلق عليها إجماع؟ ما تفسير ظاهرة شيوع القول بالإجماع بعبارات من قبيل: "وهذا موضع إجماع العلماء رغم استحالة تحققه؟

هل في الإسلام لأحد اختصاص بحقّ التفسير والفهم يتميّز به عن غيره من المسلمين؟ ما وظيفة القاضي والحاكم والمفتي في الإسلام؟ هل الفتوى ملزِمة؟ هل يقبل الدين الإسلامي ألقاباً مثل: "شيخ الإسلام"، و"الملا"؟ من أين أتي اختلاف الباحثين في الرأي التشريعي؟ وكيف لا توجد سبيل للاتفاق؟ وكيف نجعل هذا الاختلاف مثمراً؟

هل كلّ ما أثِر عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- شريعة من الله تعالى لها صفة الدّوام إلى يوم الدين؟ هل يُعقل أن يمنح الأنبياء حقّ الاجتهاد في بدايات التاريخ الإنساني، ويُحرم منه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في مرحلة النضج الإنساني؟ هل بعض الأحكام الصادرة عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- ليس لها صفة التشريع فهي تصرّف سياسي دنيوي (زمني) بمقتضى ولاية الأمر يجوز مخالفته؟ هل الأحكام الصادرة عن الرسول الكريم في فضّ المنازعات بين المتخاصمين لها صفة التشريع العام؟ هل ما رُوي عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- فيما يتعلق باللباس والأزياء يدخل في باب التشريع؟

هل عرف العرب كلمة "السنّة" قبل الإسلام؟ هل تتفق السنّة في وصايا الرسول الكريم وصدر الإسلام مع السنّة في مفهوم الأصوليين أم أنّ لها دلالة أخرى مختلفة؟ هل استعمال الفقهاء لمصطلح السنّة يتفق مع استعمال الأصوليين؟ ما الفروق بين القرآن والسنّة وما الأثر التشريعي الناتج عن هذه الفروق؟ هل السنّة في جميع أقسامها صالحة للتشريع؟ وهل ما يصلح منه للتشريع يحمل أحكاماً عامة تُلزم المسلمين في كل زمان ومكان أم يندرج بعضه في دائرة الخاص؟ كيف أثّرت الأسلوبية العربية في اختلاف العلماء حول دلالة سنّة الأحكام؟

كيف أسّس عمر -رضي الله عنه- فقه المصلحة؟ كيف تعلّم عمر أنّ القرآن الكريم يُعلّل الأحكام بالمصالح، ويربط بينهما وجوداً وعدماً وبقاءً وانتهاءً؟ كيف تُشارك الأمّة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في جانب من الرسالة وهو جانب الفهم والبيان والدعوة والإرشاد؟ كيف كان فقه عمر أبعد ما يكون عن هذا النوع الذي أودعه الناس بطون الكتب، ولا من هذا النوع الذي تجلت فيه روح العصبية الحادة، ولوته الاتجاهات الطائفية، والنزعات المذهبية؟ كيف كان فقه عمر أبعد ما يكون عن هذا النوع الذي جافى الحياة الواقعية في كثير من صوره ومسائله، أو ذاك النوع الغامض الذي التوت مسالكه، وتعقّدت أساليب؟

هل دم المرأة يعادل دم الرجل؟ وكيف أنّ المرأة تساوي الرجل في الشهادة؟ وما تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾؟ كيف يمنح الإسلام المرأة أهلية التصرف في سائر العقود المدنية، ثم هو -في الوقت نفسه- يحرمها في أكثر المذاهب الإسلامية من مباشرة حقّ الزواج لنفسها ولغيرها؟ هل الإسلام يرى المرأة مخلوقاً يُقاد بفكر الرجل ورأيه؟ هل المرأة مسؤولة عن نفسها مسؤولية مستقلة عن مسؤولية الرجل؟ هل شرّع الإسلام الكسب للنساء كالرجال، وأنه ليس للرجل أن يسلب المرأة من العمل الذي خلقت له؟ كيف أنّ المهر ليس ثمناً أو مقابلة شيء في المرأة كما يظنّ كثير من الناس؟ كيف قرّر الإسلام للمرأة حقّ الملكية الصحيحة الخالصة من رقابة الزوج وهيمنته؟ كيف جعل الله تعالى درجة للرجال على النساء بعد تساويهما في الحقوق والواجبات؟ وهل هي درجة لا تعدو أن تكون درجة إشراف ورعاية؟

بهذه الأسئلة، وغيرها، حاول الشيخ محمود شلتوت أن يُوقظ الفكر الإسلامي من سباته العميق، فلازمت الشيخ عبر مسيرته حالة من "التساؤل المستمرّ"، و"المراجعة الدائمة"، فلم يتوقّف عن تلك الآلية القادرة دائماً على تصحيح الأخطاء، والتقدّم نحو مزيد من الاجتهاد، بما يجعل الإصلاح فعلاً مستمراً لا يتوقف، يبدأ من الحاضر والراهن، وينطلق إلى الماضي والتراث، ثمّ يرتد إلى الحاضر مرة أخرى، في حركة لا تهدأ ولا يقرّ لها قرار، إنها حركة الوجود والمعرفة التي تؤكد الحياة وتنفي سكون الموت.

***

د. عبد الباسط هيكل

 

لا شك أن أصعب ما يواجه الإنسان، أيًا كانت عقيدته أو إيديولوجية، هو أن يعيد النظر في قناعاته التي نشأ عليها منذ الطفولة، تلك القناعات التي تشكلت بفعل البيئة وسلطة التلقين الاجتماعي.

نشأة الإنسان في مجتمع معين وسط طقوس وتقاليد وأعراف متوارثة، تجعل من قناعاته جزءًا لا يتجزأ من هويته الشخصية. وعليه يصبح التغيير أمرًا أشبه بمواجهة الذات، بل بمواجهة المجتمع ككل. وهذا التغيير، إن حدث، لا يأتي بلا ثمن، فهو يتطلب شجاعة استثنائية وقوة نفسية لتحمل الضغوط الاجتماعية، بل وحتى مخاطر النبذ والإقصاء.

البيئة لها سلطانها القوي على عقول الأفراد، فهي تُلقّنهم قناعات محددة وتُرسّخها باعتبارها حقائق مطلقة، يصعب التفريط فيها لاحقًا. تخيل شخصًا تربّى على عقيدة معينة، سمعها على المنابر، وقرأها في الكتب، ووجدها في كل زاوية من حياته اليومية. الآن، لو واجه هذا الشخص أدلة مناقضة لتلك العقيدة، فهل يمكنه التخلي عنها بسهولة؟.

الإجابة غالبًا هي لا. السبب لا يكمن فقط في ضعف الأدلة أو قوة الموروث، بل في الحاجز النفسي الذي يمنع الفرد من تقبل التغيير.

يحدثني أحد أصدقائي الأكاديميين، وهو باحث متخصص في التاريخ والسيرة روى لي تجربته في هذا السياق. يقول خلال عملي على أطروحة الدكتوراه، اكتشفت زيف العديد من الروايات التاريخية التي كنت اعتقد بصحتها. ورغم ذلك، لم استطع التصريح بهذه القناعات الجديدة خوفًا من أن اخسر مكانتي الاجتماعية أو أن اتعرض للتهم الجاهزة التي تُكال لكل من يخالف السائد.

لقد عاش هذا الباحث صراعًا داخليًا مريرًا؛ كان يدرك حقيقة الأمر لكنه لم يمتلك الجرأة الكافية للإفصاح عنها. بل حتى في أضيق دوائر أصدقائه المقربين، كان يشعر بالخوف وهو يعبر عن آرائه، وكأنه يخشى حتى من نفسه أن يعلن تغييرًا جذريًا في قناعاته.

هذا الصراع الذي عاشه صديقي ليس حالة استثنائية. الكثير منا، إن لم يكن الأغلبية، يعيش هذه المخاوف بدرجات متفاوتة. التغيير يعني التخلي عن ماضٍ طويل من التصورات والأفكار، يعني مواجهة المجتمع الذي لن يتردد في محاسبتك ومعاقبتك. البعض يُفضّل التعايش مع هذا الصراع بصمت، مستمرًا في اعتناق معتقداته القديمة ولو كانت خاطئة، فقط لتجنب المتاعب.

على الطرف الآخر، هناك من لا يعيش هذا الصراع على الإطلاق. هؤلاء هم من يتبنون معتقداتهم كمسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش، ويرفضون أي فكرة تخالفها دون أي تأمل أو مراجعة. هذه الحالة تُعرف بـ"الدوغمائية"، وهي نتيجة مباشرة للانحياز التأكيدي. هذا الانحياز يجعل الفرد يبحث فقط عن المعلومات التي تدعم قناعاته الحالية، ويُقصي كل ما يخالفها، مما يمنعه من رؤية الصورة كاملة.

لكن، هل يمكننا كسر هذه الحلقة؟ هل يمكن للإنسان أن يتحرر من أسر الانحياز التأكيدي؟ الإجابة هي نعم، ولكن الطريق شاق وطويل. تغيير القناعات يتطلب شجاعة استثنائية ورغبة حقيقية في البحث عن الحقيقة، بعيدًا عن ضغوط المجتمع وتقاليده. وهذا التغيير لا يعني التخلي عن كل ما نؤمن به، بل يعني اختبار معتقداتنا بصدق، والاعتراف بأننا بشر قد نخطئ وقد نصيب.

في نهاية المطاف، السعي نحو الحقيقة ليس مجرد خيار، بل هو واجب على كل إنسان. الإنسان الحر هو من يملك الجرأة لإعادة النظر في أفكاره ومعتقداته، ليس لأنه يريد التخلي عنها، بل لأنه يسعى لفهمها بعمق أكبر. التفكير النقدي هو السبيل الوحيد للوصول إلى قناعات واعية، لا مجرد قناعات موروثة لا يعلم المرء سقمها من صحتها.

ختاماً اقول ان التحرر من أسر الانحياز التأكيدي ليس مجرد ترف فكري أو مهمة سهلة، بل هو رحلة شاقة تتطلب شجاعة وإرادة قوية، ومواجهة الذات قبل مواجهة المجتمع. إن إعادة النظر في القناعات والمعتقدات ليست هدمًا للهوية، بل إعادة بناء لها على أسس أكثر قوة ووضوحًا.

لذا، فلنسعَ جميعًا لأن نكون أكثر انفتاحًا على الحقيقة، وأكثر استعدادًا للاعتراف بحدود معرفتنا. فالتفكير النقدي ليس أداة لهدم الموروثات، بل وسيلة لتنقيتها وإثرائها. ولعل أعظم ما يمكن أن نطمح إليه هو أن نكون في حالة بحث دائم عن الحق، غير متقيدين بخوف أو انحياز، مؤمنين بأن الحقيقة تستحق السعي مهما كان الثمن.

***

عدنان العتابي

 

لا احد يرفض التنوير، عدا المتزمت والمتعصب والمغالي، لأسباب سنتعرض لها بالتحليل والتفسير. وقبل كل هذا وذاك، التنوير لا يلغي الدين ولا يلغي المذهب ولا يلغي القومية .. كما أنه ليس ضدها جميعاً .. فكيف نفسر ذلك دون الإساءة للدين والمذهب والقومية؟
ما هو التنوير ولماذا؟
التنوير ليس تغييراً، إنما هو تسليط الضوء على الجوهر دون أن يمسه، فالجوهري يبقى جوهرياً والتوصيفات تطالها التغييرات في الشكل لحماية الجوهر من الإقحامات والمدخلات الغريبة .. والتغيير هو عصرنة ما هو كائن وعدم تركه راكدا .. والمعنى في هذا المفهوم ان الجوهر الوجودي للدين والمذهب والقومية هو جوهر اساسي ولا غبار عليه أمام التحديث والعصرنة .. فالتنوير كفيل بأن يضع الجوهري في إطاره الصحيح دون المساس به أو الاخلال به .. والتنوير لا يتعرض للجوهر، كما أسلفنا، إنما يبعد عنه التقادم ويضع حوله مصدات للحماية من التشويهات التي تلتصق به عبر الزمن .. لأن اطروحات الحاضر تختلف عن اطروحات الماضي في (الزمكان)، ولا ريب في التنوير وهو يضفي شيئاً ويرصد مفردات الفكر الديني والمذهبي والقومي بصورة عصرية وحداثية، فهو مع الطرح ومن اجله حتى لا يفاجأ بالركود وتقادم الزمن من حوله .. فالعالم يتغير ومتطلبات العصر تتغير وتتحول الى معطيات ماضي الزمان لتأتي معطيات اخرى لهذا الزمان وهي لا تغير شيئاً في ذلك الجوهر، بل يقوم منهج التنوير بتوظيف معطيات العصر بتشذيب ما علق بالدين والمذهب والمسار القومي من مداخلات بعضها مسيئة والبعض الاخر مغرضة وشوائب تركها الزمن عالقة راكدة على حافات جوهر الدين والمذهب والمسار القومي.
فالتنوير تلبية لحاجات حياتية وتاريخية، لقد تعلقت بالدين عصبيات وهرطقات وتعلقت بالمذهب تكفيرات واقصاءات وتعلقت بالقومية تزمتات عالجها منهج التغيير الذي يرفض تجزئة الاشياء ويؤكد على حرية التعامل الانساني ويعتمد التعامل بالعدل والحق والانصاف وهو التنوير القومي .
فعند كل ظهور للتكفير والتعصب يظهر التنوير للحاجة لكي يضيء الطريق.. لأن العصبية في الدين آفة والعصبية في المذهب آفة وكذلك في القومية، وكل العصبيات والتعصبات هن (سلوكيات) يتعارضن مع (جوهر) الدين والمذهب والقومية.. فحين تدخل العصبية والتعصب الى الدين تمزق الدين وان تخليص الدين والمذهب والقومية من التعصب والعصبية يتحرر الانسان والمجتمع من الاقصاء والتهميش . ولكن، ما هو البديل الذي يمكن اعتماده ليتم تخليص الانسان والمجتمع من آفة التعصب والمغالات والتكفير؟
البديل هو الولاء للوطن الذي يجمع ولا يفرق ويضمن بتشريعاته القانونية ومؤسساته حقوق المواطنين على اساس العدل والانصاف والمساواة .. والأمثلة هنا كثيرة في هذا المنحى : فقد عاشت فرنسا زمناً مرعباً من هذه الافات التي اسفرت عن سفك الدماء وتشريد البشر فضلاً عن تدمير طال معظم مراكز الحضارة الفرنسية العريقة .. ففي داخل الدين المسيحي (الكاثوليك والبروتستانت) مذهبان في دين واحد، كانا يتصارعان صراعاً دموياً، إلا أن المتنورين من أمثال جان جاك روسو و روبسبير ولوك وجون بول سارتر و سيمون دي بوفوار وسبينوزا وسورين كريكجورد وكنط وغيرهم، قد وضعوا قواعد للفهم الموضوعي وقواعد للأخلاق، الأمر الذي انتهى الصراع إلى السلم الإجتماعي استمر حتى الوقت الراهن بغض النظر عن الحكومات الفرنسية التي تأتي وتذهب وكذلك الأحزاب، حيث يستند الجميع الى مبادئ السلم الاجتماعي .. وهي قواعد تحكم سلوك الجميع، ومع ذلك تحدث اضطرابات داخلية منضبطة ومسيطر عليها نتيجة احداث العالم الخارجي التي ترتبط بالمصالح الحيوية الفرنسية.
وما يفصح عنه التاريخ الفرنسي يعبر عن جزء مما عانته الدول الأوربية من صراعات دموية كانت أسبابها العصبيات المذهبية (البروتستانتية والكاثوليكية والأرثدوكسية والنعرات القومية) وتداخلات المصالح الاوربية والأمريكية والعالمية.
وكمرحلة من مراحل التطور في مجتمعات القارات الاخرى نرى مجتمعاتنا العربية والاسلامية تعاني حالياً من سلوكيات التعصب والتكفير والمغالات وأدوات هذه السلوكيات هي (الجهل والتجهيل، والتجويع والإفساد من جهة وتهميش الاخلاق وتفسيخها وتفكيكها وبالتالي تدمير منظومة القيم العربية والاسلامية).
هذه صورة موضوعية للواقع كما هو بدون رتوش، إنها الحقيقة، رغم أنها مره . إلا أنها تظل الحقيقة الشاخصة التي تستوجب التوقف عندها لتأملها ومن ثم معالجتها بطريقة تخدم الأنسان والمجتمع على خط شروع واحد.!!
***
د. جودت صالح
31/10/2024

 

اختلف الباحثون العرب والمستشرقون حول تحديد بداية الأدب العربي الحديث ومراحله وغالبا ما جرى الخلط بينه وبين الحركه التنويريه التي سميت باليقظة العربية تارة وبالانبعاث العربي تارة اخرى.

فالأدب العربي الحديث هو المكتوب ضمن مفاهيم وقيم وفنون وأنواع أدبيه جديده ذات طابع عالمي ومحلي شاعت في العصر الحديث، التي يمكن تحديد ظهورها ببداية اللقاء العربي الغربي وحدوث التمدن العربي، اي في بداية القرن التاسع عشر بعد أن تهيأت له الظروف الموضوعيه والذاتيه بعد الحمله الفرنسيه وبداية حكم محمد علي باشا الذي استمر من1805 إلى1848، وان التنويرية تشكل أهم مراحله الاولى وأساس.

تشبه التنويرية العربية فترة الرينسانس الأوربية، ولكنها ليست مرادفة لها، ولا نريد أن نذكر كل المصادر التي تناولت مراحله، بل نكتفي بالقول إن أغلب الباحثين اعتبر الأدب الحديث مرحلةً واحدةً سميت باليقظة العربية أو الانبعاث العربي ولم يميز بعضُهم بينه وبين الفترة التنويريه، التي نود أن نتحدث في مقالنا الحالي عن بداياتها واتجاهاتها.

لا بد لنا هنا من الإشارة إلى كتاب الدكتور محمد الكتاني الذي ميز التنويريه عن النهضه في الأدب الحديث، والشئ نفسه يقال إلى حد ما بالنسبة إلى كتاب أندريه ميكال. (انظر الهوامش)

كذلك، ينبغي الإشارة إلى أن بعض مؤرخي الأدب العربي اعتمد في حديثه عنه على أحداث محليه أو إقليميه في مصر أو في هذا القطر العربي او ذاك، ناسين أنه في مصر والشام لم يكن خاصاً باهلها فحسب، بل هو عام لكل القراء العرب ولم يكن من نتاج المصريين لوحدهم، بل السوريين اللبنانيين وغيرهم من العرب والمسلمين والنصارى مثل ولي الدين يكن وجرجي زيدان، حيث كانت مركز الحضاره العربيه والإسلاميه وكل حدث يهزها يؤثر في كل العالم العربي*.

يرى د. أحمد هيكل بأن الأدب العربي الحديث يبدأ من الحمله الفرنسيه الى مابعد ثورة 1952 ويقسم هذه المرحلة الطويله الى عدة فترات دون أن يكرّسَ حقبةً تخص التنويريه العربيه بالذات، الا انه يخصص فترةً لولاية إسماعيل حتى ثورة عرابي (1863-1882).

ويعتبر د. عمر الدسوقي الحمله الفرنسيه بداية الأدب الحديث، بينما نجد ان العديد من مؤرخي الأدب العربي الحديث اعتبر منتصف القرن التاسع عشر بداية لكتبهم ولم يميزوا بين التنويريه والنهضه. انظر:

د. عمر الدسوقي. تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر الى قيام الحرب الاولى، وكتابه المعروف: في الأدب الحديث.

واعتبر أندريه ميكال في كتابه «الأدب العربي. تونس 1973» الحمله الفرنسيه بداية الانبعاث التي تبلورت في فكر رفاعه الطهطاوي وفي عهد محمد علي باشا.

ونشير الى كتاب «الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث» للدكتورمحمد الكتاني الذي ميز بين عصري الانبعاث والنهضه معتبرا كتاب «الوسيله الأدبيه» للشيخ حسين المرصفي أبرز علامة في مرحلة الانبعاث ورائدها البارودي.

تميزت “الوسيله الأدبيه” عن الكتب النقديه القديمه من حيث أسلوبها الجديد في دراسة البلاغه التي اصبحت لدى المرصفي وسيلة لمعرفة الصور الأدبية وليست غاية بحد ذاتها، وانتقد القدامى والمعاصرين في طريقتهم لدراسة البلاغه: هذا يشبه كذا، او استعار كذا لكذا، ورأى ان الناقد يجب ان يعين القارئ في الوقوف على مواطن الحسن في الكلام، إلا أنه رفض الخروج عن الاصول في ميدان اللغة العربية، ومع ذلك يعد مجددا في مجاله، فهو الذي قال: “ليس كل ما فيه الكاف أو كأن يعد في نظر اهل صناعة الكلام...تشبيها، وإنما التشبيه ما جلت فائدته وحسن موقعه من غرضه...”الوسيله الأدبيه” حسين ج 2 ص 17.

يقسم بروكلمان الأدب العربي الى خمس مراحل يسمي الأخيرة منها بالأدب الحديث و«مرحلة البعث السوري اللبناني المصري من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر»، ويسميها نالينو «البعث الاخير من ظهور محمد علي 1805 حتى العصر الحالي. أما نيكلسون فانه يعتبرها ممتدة «من الفتح المغولي حتى عصرنا الحاضر»، ويميل شارل بيلا الى تسميتها ب «عصر البعث من الحمله الفرنسيه».420 mohamad abdah

ويميز أغلب المستشرقين الروس مثل كريمسكي وهو من المستعربين الاوائل الذي سمى المرحلة الاخيره ب “الانبعاث“، وكراشكوفسكي ودولينينا وغيرهما بين الأدب الحديث والانبعاث او مرحلة اليقظة العربية من جهه والتنويريه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من جهة أخرى، ومنهم من كرس بعض مقالاته وبحوثه لكل مرحلة من هذه المراحل.

وقع معظم مؤرخي الأدب بخطأ ربط الحركة الأدبية واتجاهاتها بالاحداث السياسيه بطريقة ميكانيكيه لا تميز بين الحدث السياسي والعامل الفكري او الايديولوجي وبين الثانوي والرئيس.

ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بأن تعريب الانجيل عام 1840 وتأسيس جامعة القديس يوسف ونشاطات الأب جرمانوس فرحات في ميدان اللغة العربية ومؤلفات بطرس البستاني بدءا من القاموس المحيط مرورا بدائرة المعارف وانتهاءا بتعريب “الإلياذه” وغيرها لها أهمية كبيرة لا تقل عن الأزهر الشريف ولا يمكن لأي باحث في الأدب العربي الحديث أو التنويريه العربيه بالذات أن يتغافل عنها.

ومهما اختلف النقاد في تحديد بداية التنويريه العربيه لكن النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو بدايتها الاولى، وتتسم بالمقامات التي بقيت على أساليب العصور الوسطى وكتب الأدب الوعظي التي تشتمل على مختلف المواضيع الفلسفيه والاخلاقيه.

انتشرت في هذه الفتره مقامات ناصيف اليازجي (1800-1871) وعبد الله فكري، وكتاب «الساق على الساق في ماهو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق (1834-1890) الذي يتضمن معلومات عن السيره الذاتيه، وملاحظات الطريق وأربع مقامات منفصلة عن بعضها بعضا.

وقد بقي الشعر حتى ما قبل منتصف القرن التاسع عشر تقليدياً، إلا أن محمود سامي البارودي أقدم على بعث الشعرالعربي القديم مع ظهور بعض المحاولات التجديديه في الشام. ولا يمكن الحديث عن ريادة البارودي لحركة البعث الشعري دون الإشارة الى دور كتاب “الوسيله الأدبيه” للسيد حسين المرصفي الذي نقل النقد من النظره اللغويه الجامده إلى المفاهيم الجماليه وهو ما لم يتميز به النقد العربي التقليدي آنذاك.

شهدت هذه الفتره بدايات ظهور المسرح العربي وبرز مارون النقاش في الأوساط المسرحيه ووضع مسرحيات مولييرعام 1847، أما الصحافه وفنونها فقد ظهرت قبل ذلك إلا أنها تطورت في هذه الحقبة.

ونعتقد أن السبعينات هي البداية الحقيقيه للادب التنويري العربي لتميزها بالتطور الاقتصادي والثقافي في مصر الخديوي إسماعيل الذي حكم في (1863-1882)، وبدأت في هذه الفتره تتبلور افكار «التجديد الإسلامي» وتعاليمه وقويت الحركه القوميه العربيه.

وكان إسماعيل يعد نفسه حامي الثقافه والديمقراطيه، ولهذا ليس صدفة أن يهاجر الأدباء والصحفيون السوريون إلى مصر فأصدروا الصحف مثل التي صدرت “الاهرام” عام 1879وغيرها من المجلات منافسين بذلك المصريين في تنشيط الحركة الأدبية. وعمل إسماعيل على تأسيس المسرح المصري فظهرت فرقتان: فرقة يعقوب صنوع في القاهره، وفرقة أديب إسحاق وسليم النقاش في الإسكندرية وظهرت في الشعرالكلاسيكي بعض ملامح الموضوعات الجديده.

هذا في مصر، أما في الشام، فإن ستينات القرن التاسع عشر شهدت تطورا ونموا واضحا للحركة التنويريه، وازداد في نهاية هذه الحقبة نشاط الجمعية العلمية السورية وظهرت مجلات أدبيه جديده مثل «الجنان» للبستاني.

ووُضعت أول مسرحيه عربيه عن الرجوله والصدق واتجه الشعر العربي الكلاسيكي نحو موضوعاتٍ معاصرةٍ كما يبدو ذلك في نتاجات ابراهيم اليازجي (1847-1907) الذي دعا للتخلص من الاضطهاد التركي.

أما الانواع النثريه التقليديه مثل مقامات محمد مبارك الجزائري فقد بقيت تمارس حضورها جنباً إلى جنب مع الكتب الوعظيه ليوسف صروف وإلياس سماحه وفرح أنطون. وظهرت في السبعينات انواع نثريه جديدة تجسدت في نتاجات سليم البستاني الروائيه الاجتماعيه والتاريخيه وبعض القصص والكثير من تراجمه التي نشرت في «الجنان» ويتاثر به بعض الكتّاب مثل صالح نخله مؤلف «قصة فؤاد وحبيبته رفعت».

في الثمانينات شهدت الحياة المصريه ركودا ملحوظا، ففشلت ثورة عرابي وانتهت بالاحتلال البريطاني وأغلقت العديد من الصحف والمجلات الوطنيه ونُفي المشاركون في الثوره بمن فيهم الأدباء الى الخارج.

أما سوريا فقد انعكس عليها انتصار الرجعيه التركيه وازداد الظلم والاضطهاد وكثر عدد المهاجرين الشاميين الى مصر من الذين لم يعادوا البريطانيين ولعبوا دورا كبيرا في الحركه الأدبيه المصريه في الثمانينات والتسعينات.

تميزت هذه الحقبه عن السبعينات بتوسيع الديمقراطيه وزيادة التوجه نحو الغرب وتوسع الترجمه ونقل الكتب بما فيها المسرحيات من اللغات الاوربيه الى العربيه.421 farah intoan

لا بدّ من القول بأن مرحلة التنويريه تميزت ايضا بمساهمات مجلة «المقتطف» لصاحبها يعقوب صروف الكبيرة في نشر الثقافة الاوروبية. اما صحيفتا «المؤيد» ومجلة «المنار» لصاحبهما الشيخ محمد رشيد رضا (1898) فكانتا تمثلان الاتجاه الإسلامي العقلاني ووقفتا على الضد من مجلة «المقتطف».

للقصة التنويرية دورها في هذه الفترة حيث تستمر تقاليد سليم البستاني القصصيه في التطور، إلا أن الروايه التاريخيه تطورت وتفوقت على الوعظيه بسبب الهدوء السياسي.

فرواية الثمانينات كلها ماعدا «الحضاره الإسلاميه في بغداد» لجميل المدور كانت مكرسةً لموضوعات عائلية سبق للبستاني أن تطرق اليها وكانت لها أهمية خاصه في تلك الفترة حيث التغييرات الاجتماعيه»، وينشر نجيب غرغور محرر مجلة «حديقة الأدب» البيروتيه ومجلة «أبو نواس»1895 رواياتِه المختلفه.

أما أهم النتاجات النثريه التنويريه في الثمانينات فهي «علم الدين» لعلي مبارك 1882، والحضاره الإسلاميه في بغداد لجميل المدور1888. تُعد «علم الدين» شكلا معصرنا للأدب الوعظي في أربعة اجزاء من النثر المسجوع يتكون من 125 محاورة بين الشيخ علم الدين ومستشرق إنجليزي في رحلة الى مصر ومنها الى إنجلتره.

ويرى بعض الباحثين أن هذا العمل فيما إذا اعتبرناه «رحله» يتفوق نسبياً على «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي وقصص فرح انطون التي كتبت في شكل الرحلات.

الشيء نفسه يقال بالنسبة لكتاب «الرواية الإيقاظية، البصره، 1919» للكاتب العراقي المحامي والصحفي الحاج سليمان فيضي، والتي عدها بعض الباحثين العرب والمستشرقين، من أولى الاعمال النثرية او الروائيه في الأدب العراقي. أما «الحضاره الإسلاميه» للمدور فهي رحله تعبيريه في شكل تحل فيه الرسائل محل الحوارات ذات اهميه معرفيه وفي الحقيقه أن المضمون هنا تاريخي مأخوذ من مرحلة هارون الرشيد.

وهو مشبع بالروح الوطنيه والافكار التنويريه ويعد خطوة جديدة في تطور الروايه التاريخيه. وهكذا فإننا نلاحظ أن الثمانينات شهدت البحث عن أشكال نثريه جديده في الأدب التنويري.

في تسعينات القرن تظهر “الهلال “لصاحبها جرجي زيدان وتنتشر رواياته التاريخيه انتشاراواسعا وتعود الحياة الأدبيه المصريه الى حيويتها وتزدهر في هذه الفترة الروايه التاريخيه ويتأثر بها العديد من الكتاب مثل يعقوب صروف في نتاجات: «المصريه» 1905 و«الأمير اللبناني» 1907 وفتاة الفيوم 1908 وغيرهم من أمثال فائز خليل حمام ونسيم الأزعر ومحمد بن معلوف وفريد عطية إضافة إلى أعمال كُرست للثوره التركيه التي قامت بها جماعة تركيا الفتاة.

أما المسرح فيتطور بظهور مسرحيات نجيب الحداد (1899-1867) المتطوره نوعيا مقارنةً بمسرحية خليل اليازجي عن الرجوله والصدق واعمال محمد عثمان جلال على خلق مسرح باللهجة العامية فنقل بعض «ملاهي» موليير الى العاميه إلا أن الحظ لم يحالفه لأن الناس لم يتعودوا بعد على هذا النوع من المسرحيات.

حصلت الصحافه على فرصه جديدة للتطور فبرز شوقي وإبراهيم، وتجسدت مفاهيم النضال من أجل الاصلاح الاجتماعي في اعمال مثل «طبائع الاستبداد»1901 لعبد الرحمن الكواكبي و«تحرير المرأه» لقاسم أمين وكتابات مصطفى كامل التي دعا فيها الى النضال ضد الانجليز، وولي الدين يكن الذي كتب ضد السلطان عبد الحميد، والسوريين الذين ايدوا شباب تركيا الفتاة.

تكمن أهمية كتاب مثل "طبائع الاستبداد" كونه فضح هذه الظاهرة بغض النظر عن ادعاءات الحاكم بالتدين والورع ومؤلفه شيخ إسلامي. أما قاسم أمين فإنه رفض الحلول الجزئية لموضوع المرأة ونادى بتحريرها وكأنها سجينة فعلا.

لا بدّ من الإشارة الى ان روايات المدرسة المصريه وسلسلة المقامات، التي تتحدث عن مصر المعاصره كانت مشبعة بالروح الوطنيه والانتقادات الاجتماعيه الحادة مثل «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي 1906، و«ليالي سطيح» لحافظ ابراهيم 1907، و"ليالي الروح" لمحمد لطفي جمعه 1912.

استمرت الروايه الاجتماعيه السوريه أيضا في التطور، ومن أبرز ممثليها: نيكولا حداد ومحمد معلوف، وظهرت في مجلات مصر وسوريا قصص قصيره تطرقت إلى موضوعات معاصره، ولكنها غير متكامله من الناحية الفنية.

يُعد فرح أنطون 1874-1922مؤلف الروايات الفلسفيه من أبرز كتاب الأدب العربي في القرن العشرين إضافة الى جرجي زيدان، ويمثّل قمة المدرسة السوريه. وقام المنفلوطي، ذروة المدرسة المصريه، بكتابة التحقيقات القصصيه وترجم العديد منها والروايات وعُرف بأسلوبه الذي كان يتلائم مع عصره داعيا للافكار التنويريه الفرنسيه بعد إعادة تفسيرها حسب المفاهيم العربيه. ويترسخ الشعر الوطني على أحمد شوقي وحافظ أبراهيم اللذين تغنيا بأمجاد مصر القديمه وكرسا قصائدهما لأحداث سياسية واجتماعيه عاصروها.

يحصل شوقي على لقب أمير الشعراء وحافظ ابراهيم على لقب شاعر النيل، بينما يزدهر الشعر في العراق على يد الرصافي والزهاوي والكاظمي والشبيبي ليتوج بظهور محمد مهدي الجواهري الذي يلقب بشاعر العرب الأكبر.

تبدأ تحولات في فن التشخيص أو النظاره العربي “المسرح العربي” فتظهر فرق أشرف عليها المغنيان المعروفان: سليم حجازي ومنيره المهديه إضافة الى المسرح الكلاسيكي الذي أسسه حداد.

اهتم الفنانون بالأغنية القومية والرقص الشعبي، إلا انهم لم يبالوا كثيرا بالمستوى الفني مما أدى إلى تأخرالمسرح. وتعد فرقة جورج عبيد التي تأسست عام 1912 من أولى الخطوات نحو المسرح الواقعي وبهذا يبتعد المبدعون بالتدريج عن الفكر التنويري متجهين نحو الواقعيه. تتبلور في السنوات الاولى من القرن العشرين نواة المدرسة الأدبية المصرية التي لعبت دورا كبيرا في الحياة الثقافيه المصريه بعد الحرب العالميه الاولى. وكانت العناصر الأدبيه الشابه مفعمةً بالحيوية وبأفكار تدعو إلى تأسيس الثقافة المصريه الوطنيه من الذين تجمعوا حول صحيفة احمد لطفي السيد التي اصدرها عام 1907 والتي كان سعد زغلول قريبا منها.

صدرت في عام 1914 "زينب" كأول قصه لهذه المدرسة الجديده للكاتب محمد حسين هيكل التي أنهت العصر التنويري وابتدأت عصر الواقعيه او ما يسمى بالأدب الواقعي وبها تنتهي فترة الأدب التنويري وسنتحد ث عن اتجاهاتها.

مقارنة بين التنويريتين العربية والغربية:

سبقت مصر وسوريا الدول العربية الأخرى في توجهاتها منذ بداية القرن التاسع عشر نحو المدنية والتاثر بالغرب، وقد سميت هذه الفترة في العديد من الكتب ب "النهضة" أو "اليقظة". تتلخص أفكار اليقظة عموماً في بعث الأمجاد العربية واستعادة قوة العرب ونهضتهم السابقة عن طريق القضاء على كل مظاهر التخلف المتجسدة بثالوثه: الفقر والمرض والأمية بعد نشر العلم والمعرفة والتخلص من التعصب القبلي والطائفي والخرافات وضرورة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

هذا هو المفهوم العام لأهداف النهضة العربية، إلا أن المعنى الضيق يعني ايضاً التقدم الثقافي عن طريق بعث التراث العربي القديم واستخدامه لضرورات العصر الحديث في مجابهة العدو الخارجي.

إن هاجس الخوف على مقومات الشخصية العربية والحفاظ على الأصالة العربية لم يترك مفكري اليقظة العربية في أغلب مؤلفاتهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات النسبية بين بعض التنويريين المسلمين والنصارى العرب.

على الرغم من أن العرب ومشايخهم سمعوا دوي المدافع الفرنسية قبل أن يقرأوا "روح القوانين" لمونتيسيكيو ولا غيره من التنويريين الذين كان الفرنسيون يتغنون بهم، ومع ذلك كانوا يفكرون بضرورة التقدم مهما كان الثمن غالياً، إلا أن لهذا التطور العربي وجهاً آخرَ يجمع بين التمكن من نجاحات التمدن الأوروبي الغربي والعلم والأدب والحفاظ على مقومات العروبة والأصالة والإسلام وصد محاولات الغرب الاستعماري آنذاك لتمزيق النسيج العربي أو المسخ والتماهي الاجتماعي والفكري والثقافي معه.

علينا هنا أن نتذكر أن أوروبا لم تجابه هذا الخطر الخارجي كحال العرب والمسلمين عندما بدأت فيها التنويرية أو ما يصطلح عليه بالأنوار "رينيسانس"، فالكتّاب الغربيون كانوا أيضاً نتاج ظروف اقتصادية جديدة، ولهذا كانوا أكثر شعوراً بالحرية والثقة بالنفس من التنويريين العرب والمسلمين.

كذلك نجد أن المفكرين العرب لم يكونوا إلا بذورَ بناءٍ فوقي جديد يفتقر إلى قاعدة اقتصادية واجتماعية وسياسية فبقيت حركتهم معزولةً عن المجتمع، على عكس التنويريين الغربيين الذين كانوا كتّاباً منتجين يجسدون تطور مجتمعاتهم الاقتصادي والاجتماعي والفكري.

نستطيع القول إنّ العالم العربي سار تقريباً بنفس طريقة الغرب لولا هذين الاختلافين بينه وبين أوروبا الصناعية الاستعمارية التي كانت تعد نفسها لمرحلة "غزو" على كل الأصعدة بما فيها الثقافي، أدّى إلى حدوث ردة فعل لدى المسلمين والعرب الذين كانوا أمام خيارات ثقافية ومصادر علمية متعددة كان عليهم تعلمها وإتقانها وتقبلها والتعايش معها وتفسيرها حسب مفاهيم عربية وإسلامية للاستفادة منها في حماية النفس من التحديات الجديدة ومن أجل البقاء والسباق مع أوروبا، أو على الأقل هكذا كانت النوايا والأهداف لدى بعض التنويريين بغض النظر عن اتجاهاتهم.

هكذا تكوّن بالتدريج امتزاج التقاليد الثقافية الذي أصبح اساساً للتنويرية العربية التي ازدهرت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين 1870-1900.

بالنسبة لمصر فإنها بدأت تجربة التمدن منذ أيام علي بيك الكبير (1728- 1773)، الذي أعلن استقلال مصر وانفصالها عن الإمبراطورية العثمانية عام 1769، إلا أنها كانت محدودةً فأكملها فيما بعد محمد علي باشا (1769-1849) وجاء بمشروع نهضوي مهم كان يمكن أن يُكتب له النجاح ويشمل قطاعات واسعة من المجتمع لولا وقوف الدول العربية الأخرى ضده، بل يمكن القول القضاء عليه.

وهنا تكمن أهمية المقارنة بين اليقظة العربية في القرن التاسع عشر، وبدايات النهضة الغربية التي ظهرت في القرن السادس عشر، وبدء استعدادها للتوسع والسيطرة كان نتيجتها القضاء على الدولة العثمانية وتقسيم ولاياتها العربية حسب معاهدة سايكس بيكو المعروفة.

على الرغم من اوجه الشبه العديدة بين هاتين التنويريتين، إلا أننا يجب أن نتذكر بأن اليقظة العربية ظهرت ليس كنتيجة لتطورات اقتصادية واجتماعية كتلك التي حدثت في أوروبا، بل كحافز بالدرجة الأولى للوصول إلى مصاف الدول الصناعية الغربية المتطورة والحصول على مكتسباتها بدون المساس بمقومات الشخصية العربية والمسلمة، وهذا أمر صعب، اصطدم بمفاهيم الأنوار الكبيرة، وهنا يكمن أهم سبب من اسباب فشل التنويرية العربية حيث بقيت محدودة ضمن البناء الفوقي المتجسد في أوساط  بعض المتعلمين والمفكرين والأدباء المتنورين فحسب، ولهذا لم تصل إلى مستوى المشروع الفكري الجماهيري.

نعتقد انه من العبث أن يحاول بعض الكتّاب المتخصصين بالفكر التنويري العربي التقليل من شعور المثقفين العرب والمسلمين بالخطر الخارجي القادم من أوروبا على مسار اليقظة العربية وتحديد اتجاهاتها وتناقضاتها.

فالتنويرية العربية هي في حقيقة الأمر رد فعل محدود على نظيرتها الأوروبية، التي رسخت العلوم الطبيعية والإنسانية بعد الثورة الصناعية وتطور العلاقات الإنتاجية والمجتمعية، من أجل بناء دولة مدنية قوية قادرة على استيعاب تطورات العصر وأحداثه السياسية ودرء الخطر الخارجي المتمثل بالأصولية الدينية بشكل عام، والإسلام بالذات بسبب رواسب الحروب الصليبية، والسيطرة على المستعمرات الجديدة.

التنويريةُ الأوروبية ظهرت كنتيجةٍ للتطور الصناعي والاقتصادي كما أسلفنا، وكانت تهدف إلى الانعتاق من الفكر القديم والانطلاق من أجل الحصول على مكتسبات جديدة، متوجهة بذلك عن طريق القوة ايضاً إلى دول المسلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالذات بسبب ثرواتها الطبيعية وأهميتها الحضارية وموقعها الجغرافي.

ولهذا فإن الحركة التنويرية العربية لم تتنكر للفكر الأوربي السائد، لكنها لم تتقبله بدون شروط كما حدث في نظيرتها الأوروبية التي كانت تعيد إنتاج نفسها وتتطور وتعد نفسها للاستعمار وليس في موقع الدفاع عن النفس كما هو الحال بالنسبة للعرب والمسلمين اينما كانوا، وهنا يكمن السبب في عدم تمكنها من إنجاز مهماتها، وتجاوز مرحلتها.

فالتنويرية الأوروبية نتاج التطو الاقتصادي، ولم تأتِ من دول "عدوّة" لها، على عكس نظيرتها العربية حيث كان عليها أن تقبل الفكر المدني الجديد القادم من دول "صليبية"!

فالتنويري العربي والمسلم كان مشغولاً بمهمة التخلص من التخلف والدفاع عن الأمة وفكرها وقيمها بسلاح التنويري الأوروبي لكن عبر تحليل دقيق ضمن حضارته وديانته، ولم تكن النهضة الأوروبية بالنسبة له إلا حافزاً من أجل اللحاق بالغرب والتغلب عليه، هذا ما كان يثير حفيظة الغربيين، وهي عقدة بقوا يعانون منها حتى وقتنا الحاضر. أي إن فكرة التوجه نحو الغرب كانت تقبل من قبل المفكرين العرب والمسلمين بحذر شديد، أو بشروط كثيرة ومختلفة تضمن الحفاظ على كل ما له علاقة بالأصالة والتقاليد والشريعة.

أما على الصعيد الداخلي فإن المجتمعات العربية لم تكن متماسكةً ولا متطورةً، لا من حيث بنيتها الاقتصادية ولا بنائها الفوقي، فهي، أو على الأقل الطبقة الوسطى،  لم تكن متمكنة من المقاومة أو الصمود امام أوروبا الصاعدة، التي كانت أيضاً متخوفة أو حذرة من الإسلام، لولا ظهور بعض التنويريين العرب أمثال الإسلامي الوسط والمعتدل رفاعة الطهطاوي (1801-1873) ورائد "الجامعة الإسلامية" جمال الدين الأفغاني (1879-1939) والشيخ المعتدل محمد عبده (1849-1913) ومؤلف "طبائع الاستبداد" عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) وصاحب "تحرير المرأة" قاسم أمين (1863-1903) والشيخ علي يوسف (1863-1913) وخير الدين التونسي ومحمد قبادو وكتاب آخرين مزجوا بين العصرنة والأصالة.

لقد اتفقت رؤية أغلب هؤلاء التنويريين العرب مع أهداف محمد علي باشا والخديوي إسماعيل 1863-1879) اللذين لم يعارضا المشروع التنويري طالما أنه يخدم مصالح الحكم.

علينا أن نتذكر بأن الحكّام آنذاك لم يكونوا في حقيقة الأمر تنويرين على الطريقة الأوروبية بكل معنى الكلمة مهما ادعوا بالتوجه النهضوي. بالنسبة لمحمد علي باشا، الذي حكم مصر اربعين عاماً بدأه بمجزرة القلعة الشهيرة، فقد عمل على التحرر من الدولة العثمانية ونقل النموذج الأوروبي إليها، وهي تجربة الانفصال فريدة بغض النظر عن كونها "استنساخ "، وليست وليدة تطور المجتمع المصري، ولهذا لم يكتب لها النجاح، ايضاً بسبب التأثيرات الاستعمارية مما أدى إلى إثارة الروح القومية والدينية لدى المصريين المسلمين الذين أصبحوا أكثرارتباطاً بالتقاليد الإسلامية.

وفي الوقت نفسه نجد أن الأقباط والشوام اللبنانيين والسوريين، والنصارى منهم بالذات من الذين هربوا من اضطهاد السلطان عبد الحميد إلى مصر والمهجر الأميركي الجنوبي والشمالي كانوا أقرب من التنويريين المسلمين إلى التنويرية الأوروبية وأفكارها كما سنلاحظ لاحقاً.

ورغم أن اللقاء بين الشرق والغرب لم يكن دائماً سلمياً كما ألمحنا، حيث تم على يد نابليون بونابرت وحملته (1797)، إلا أن محمد علي باشا أرسل فيما بعد البعثات العلمية إلى فرنسا الغازية، وأدخل مطبعة بولاق عام 1822 وشجّعَ الترجمة إلى العربية، وهذه من أهم مظاهر اليقظة العربية في مصر، لكنها تبقى في حدود التأثر بالغرب.

وبقيت تساؤلات من قبيل كيف يمكن تحقيق المدنية بما فيها وضع المرأة والاستفادة من المدنية الأوروبية ونمط الحكم الذي يجب أن يسود؟

فهل يجب أن يكون النظام على أساس قومي عربي أو إسلامي إقليمي وما هي صفات الحاكم الذي يجب أن يتولى إدارة بلاد المسلمين وماهي طرق القضاء على التخلف؟ وماهي نوعية علاقة العرب بالغرب النصراني؟

كل هذه الأسئلة جسدّت اهم المعضلات والمهمات التي كانوا يحلمون بتحقيقها ويواجهونها ويضعونها نصب أعينهم، بل إنَّ نقلَ النموذج الأوروبي إلى مصر كان من أهم أهداف محمد علي باشا المشتركة، لكنها مع ذلك بقيت حركة محدودة في أوساط الطبقة الوسطى في المدن الكبيرة، ولم تشمل كل المجتمع ولهذا بقيت ناقصة أو متقلبة عرجاء!

إلا أننا يجب أن نؤكد بأن كل هذه الأهداف والمظاهر المتطلعة نحو التمدن الغربي لم تتم بمعزل عن استيقاظ الوعي القومي العربي وبداية الإحساس بضرورة الانعتاق  والتحرر من قيود الجهل والتخلف والاستعمار فبرزت اسماء عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول والبستاني الكبير واليازجي وإسحق ومراش وغيرهم، وبرز دور الصحافة منذ تأسيس "الوقائع المصرية" عام 1828 مع مساهمة السوريين واللبنانيين في إصدار صحف أخرى في مصر بعد أن لجأوا إليها هربا من استبداد العثمانيين الأتراك وتعاملهم السيء معهم في عهد السلطان عبد الحميد (1876-1909).

ورغم اتفاق أغلب التنويريين العرب نصارى ومسلمين ومن الأديان والأقليات القومية والمذاهب الأخرى على أهداف وطروحات فكرية واضحة، إلا أنه ليس من الصعب تصنيفهم ضمن تيارات مختلفة مثل الاتجاه العقلاني الذي كان ممثلوه يدعون إلى تقليد النموذج الغربي وعلى اتصال وثيق بالغرب المسيحي حيث كان أغلبهم من النصارى الشوام المقيمين في مصر.

أما أهم مبادئهم فتتلخص في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وهي نداءات مأخوذة من المبادىء الليبرالية والدساتير الغربية، وتغيير أخلاقيات المجتمع وجعلها تعتمد على أساس علمي وعقلاني، وتعليم أفراد المجتمع ضمن نظام تعليمي عصري يختلف عن اسلوب الأزهر والكتاتيب، ونقل الثقافة الغربية بشكل واسع وجماهيري كما تمثل ذلك بوضوح في دعوات يعقوب صروف وجرجي زيدان والكاتب الساخر صاحب "الجاسوس على القاموس" احمد فارس الشدياق وغيرهم.

***

شهدت سوريا قبل مصر ظهور مثل هذه الافكار التي تبلورت فيما بعد بالحركة التنويريه، فالمدن السوريه اللبنانيه كانت مرتبطه بالغرب، وإن اول مدرسة خاصه بالسوريين المارونيين فتحت في روما عام 1584، وأول مطبعة ظهرت فيها قبل مصر بمائة عام وأن الإرساليات التبشيربه المسيحيه بدأت اعمالها منذ 1536 حتى القرن التاسع عشر. وفي الحقيقه ان دور هذه الإرساليات كان يتجسد في جمع المعلومات والتجسس لصالح دولها الاستعماريه لتسهيل مهماتها وخططها في الغزو. انظر: مصطفى خالدي، عمر فروخ. المبشرون والإمبرياليه في الدول العربيه. موسكو 1972 باللغه الروسيه.

إذا أردنا الحديث عن بواكير اليقظه السوريه اللبنانيه فعلينا ان نبدأ بالمدارس الإكليريكيه المسيحيه أو ما يسمى بتيار الإكليروس المسيحي وبشخصية جرمانوس فرحات (1760-1732) القاموسي، النحوي مؤلف كتاب "بحث المطالب" في اللغه، والشاعر الذي انتقل من قول الزجل الموزون على الطريقة السريانيه الى النظم باللغه العربيه وبفضله حلت العربيه محل السريانيه في الكنيسه وتاسست المكتبه المارونيه في حلب. (انظر بالتفصيل عن البيئه السوريه والإكليروس الأدبي: د. حلمي مرزق. مقدمه في دراسة الأدب الحديث. بيروت 1980).

وإذا كان الازهر قد شهد البدايات الاولى للنشاطات الأدبيه وإذا كانت دمياط قد شهدت ظهور جماعة من الأدباء اهتمت بالترجمه منذ ايام محمد علي بك الكبير فإنّ «قاعة العمود» من قصر الأمير بشير شهدت لقاءات أعلام تلك الفتره من الذين اهتموا بالبحث في المخطوطات والتراث العربي وجرفتهم مشاعر القوميه العربيه وتعلقوا بالعواصم العربيه إلا أنهم لم ينقطعوا عن الاتصال بالغرب وبمؤسساته والجامعه الأميركيه في بيروت التي تاسست عام 7751.

وكما ظهرت في مصر دعوات لإصلاح التعليم وإدخال العلوم «المحرمه» من قبل محمد عبده، نجد أن التنويريين النصارى هم أيضا خرجوا على الإكليروس الأدبي الكنسي التقليدي ودعوا الى فصل الدين عن العلم والالتقاء بالفكرالغربي. فالغالبيه العظمى من المثقفين السوريين في القرن التاسع عشر والعشرين انحدرت من طبقات الإقطاعيين والليبراليين والتجار ودرست في المدارس التبشيريه او في المدارس الوطنيه ذات المواصفات الغربيه التي فتحت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل مدرسة بطرس البستاني التي اسسها عام1863 كرد فعل على احداث فتنة الجبل1860 التي زعزعت الايمان بالمدارس الدينيه.

لقد كان هؤلاء المثقفون السوريون رغم مشاعرهم الوطنيه جماليا وفكريا مرتبطين بالغرب ارتباطا وثيقا، وكانت المدارس تعطيهم تصورات عن الآداب الأوربيه والامريكيه، وتعلّمهم اللغات الأجنبيه التي ساعدت الطلبه في الاطلاع على الكتب والاعمال السياسيه والاقتصاديه والفكريه الاوربيه.

كمثال على ذلك نذكر احمد فارس الشدياق الذي لجأ الى الأميركان هربا من الموارنه الذين قتلوا اخاه اسعد الشدياق في فتنة الجبل وارسلوه الى مصر ومالطا وألّف كتاب «الواسطه في معرفة مالطا» ثم عمل في لندن وباريس وأسلم في النهايه على يد باي تونس ثم سافر الى الاستانه وعاد بعدها الى مصر منهيا بذلك ارتباطه بالغربيين الذين علموه واحتضنوه. لكن هذا لا يعني اتفاقه التام مع نمط الحياة الأوروبيه اوالتفكير المادي الغربي بشكل عام وبخاصة بالنسبة لاولئك الذين سافروا الى اوروبا وكشفوا خباياها.

(انظر: احمد فارس الشدياق “كشف المخبا في اوروبا” و” الساق على الساق في ما هو الفارياق او “أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام”. القاهره 1919

وإذا كان الغرب قد جاء بنفسه الى منطقة الشام من خلال بعثاته التبشيريه الاوروبيه والاميركيه التي احتضنت مئات الطلبه النصارى، فإن مصر بعثت بطلابها الى فرنسا يرافقهم شيخهم رفاعه الطهطاوي ليعينهم في الأصول الدينيه وليعود في الوقت نفسه الى بلاده بمعلومات كثيره أعجب فيها شيخ الازهر انذاك حسن العطار الذي شجعه على كتابتها ونشرها.

هذا يعني ان الفئات المثقفه من الطبقات الوسطى او البرجوازيه من المجتمع المصري اصبحت تعي اهمية الإصلاحات وضرورة التخلص من حكم الاستبداد العثماني فكانت تبحث عن ملاذها الفكري لدى التنويريين الغربيين. إلا أن اوروبا المعاصره والقرن التاسع عشرلم ينل اعجابها كماهو الحال بالنسبة للقرن الثامن عشر او التنويريه الفرنسيه لانها كانت تنسجم مع مهمات القرن التاسع عشر العربي في التخلص من التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي الذي يتجسد بالقوانين القديمه التي لم تعد تلبي حاجات المواطنين الروحيه.

ومن الجدير بالذكر ان هذه الظاهره بقيت مزمنة في الأدب العربي الحديث في بداية القرن العشرين حيث ظل الأدباء العرب يتأثرون بأدب اوروبا القرن التاسع عشر بسبب انسجامهم مع افكار النتاجات الأدبيه والشخصيات الروائيه والمسرحيه والقصصيه.

يبقى التيار السلفي الإصلاحي الذي مثله جمال الدين الافغاني ومحمد عبده  والكواكبي وغيرهم من ابرز الاتجاهات واعمقها تأثيرا في الحركة التنويريه العربيه باعتباره تجسيدا لإفراز الظروف الموضوعيه التي مر بها العرب والمسلمون ويعكس اهمية الدفاع عن مقومات الشخصيه الإسلاميه وتكوين الأصاله الإسلاميه ومقاومة الغزو الثقافي الاوروبي عن طريق تقديم فكر ديني وسياسي وقومي وادبي  يعتمد على السلف الصالح للإسلام  المتمثل في القرآن الكريم والسنه مع ضرورة الاجتهاد وحضور العقل في تفسير الظواهر الجديده والجمع بين منجزات العلم الحديث والأصاله الإسلاميه.

وقد حدد الإسلام كل الحركه الفكريه للمجتمع، فهذا رفاعه الطهطاوي أعجب في كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريس. 1834 مطبعة بولاق، بالتقدم والحريه والمساواه في المجتمع الفرنسي واوروبا لكنه عمل في الوقت نفسه على العودة الى نصوص قرآنيه باعتبارها المرجع الوحيد لإعادة تفسيرالظواهرالاجتماعيه.

وهكذا فإن أية حركة تنويريه لم يكن من الممكن لها ان تنتشر انتشارا واسعا إن لم تكن في إطار الدين الإسلامي، ولكننا نشير هنا الى ان بداية حركة الإصلاح الإسلاميه في سبعينات القرن التاسع عشرلم تكن بمعزل عن النزعات التنويريه الاوربيه او بدون التاثر بها، بل كانت حركة تنويرية بروح إسلاميه او حركة إصلاح إسلاميه بثياب تنويريه تحت شعار العوده الى السلف الصالح التي سميت بالتجديد الإسلامي او الصحوه الإسلاميه بزعامة جمال الدين الافغاني (1838 - 1897) وشيخ الازهر محمد عبده (1849 - 1905). وأصبحت مصر بجامعها الأزهر مركزَ التنويريه العربيه الإسلاميه وارتبط أغلب كتابها به.

ولا بد من القول إن ممثلي جيل حسن العطار (1776-1834) وحسين المرصفي (ت1889) وغيرهما من مشايخ الازهرلم يؤلفوا الكتب الإسلاميه الفلسفيه الجديده ولم يصدروا الصحف والمجلات، بل هيئوا الظروف امام المسلمين الآخرين من الأجيال الجديده للظهور بفلسفه إسلاميه جديده فكتب الطهطاوي «تخليص الابريز في تلخيص باريز» بتشجيع منه وكان الكواكبي (1849 - 1902) واحدا من أبرز مفكري التجديد الإسلامي.

تاثر هذا الفكر التنويري الإسلامي الجديد أيضا تاثراً كبيراً بالفكر الاجتماعي الغربي فقد تقبل المسلمون المصلحون فكرة «الانسان الطبيعي» وحقوقه في الحريه والمساواه والقوانين العقلانيه التي تنسجم مع ظروف حياة المجتمع والتي تحافظ على الحقوق الطبيعيه للإنسان وفكرة بناء المجتمع على أسس عقلانيه بشكل عام.

(راجع عبد الرحمن الكواكبي. طبائع الاستبداد).

اعتقد المصلحون المسلمون بأن كل الافكار التقدميه موجودة في القرآن الكريم ولهذا فإنهم لم يعتبروا اعتمادهم على افكار التنويرين الغربيين اقتباساً، بل هو بعث للإسلام، فلم يترجموا الكثيرمن مؤلفات الفرنسيين في هذه الفتره، وعند شرحهم مبادئ هؤلاء الكتاب التنويريين الأوربيين لم يشيروا الى المصادر التي استقوا منها هذه الافكار.

إن الفكرة الأساسيه التي اعتمد عليها المصلحون المسلمون هي إحياء التقاليد الحسنة عند المسلمين وبعث التراث العربي، وهي مهمة مشتركة بين الأزهر وجامعة القاهره (تأسست عام 1908) والكتّاب النصارى الذين كانوا يتحركون بدافع قومي عربي. وعلى الرغم من كثرة المدارس الرسميه الوطنيه المصريه التي فتحت في القرن التاسع عشر وعلى الرغم من انها استخدمت التجربة الاوربيه، الا أنها حافظت على التوجهات التربويه الدينيه وهنا يكمن الفرق بين التجربتين المصريه والسوريه اللبنانيه، حيث بقيت الاولى وثيقة الصله بالشرق على عكس الثانيه التي تاسست بتاثير البعثات التبشيريه النصرانيه وبقيت اجيالها متعلقة باوروبا رغم مشاعرهم القوميه كما سبق وان قلنا.

إلا ان هذا الاختلاف في التوجهات والتفصيلات والانتماءات الدينيه والطائفيه لا يعني انتفاء التعاون بين التجربتين الإسلاميه المصريه والعقلانيه السوريه فأفكار العلامه التنويري جمال الدين الافغاني التنويريه دعت الى إصلاح الإسلام بالدرجة الاولى باعتباره شرطا اساسيا لتحرير الشعوب الإسلاميه من المستعمرين وتوحيدها والعمل على إنجاز المشروع الحضاري الذي سيعود بالخير على كل العرب مسلمين ونصارى، وهو لم يكن متزمتا ولهذا نلا حظ ان كتّاباً تنويريين نصرانيين مثل اديب اسحق ويعقوب صنوع وجميل المدور عدّوا أنفسَهم تلامذة له وأيدوا فكرته في توحيد كلمة العرب ضد الأوروبيين. فالجميع يؤمن بالله وبكتبه السماوية وخلقه الحياة، ولكن اغلبهم من يقرأنها تطورت فيما بعد ضمن قوانينها الخاصه وان الخالق لا يتدخل في تفصيلات الحياة اليوميه وهنا يكمن جوهر الدعوه لتنقية الدين سواء كان الإسلام او النصرانيه من كل المظاهر الاخرى اوالخرافيه التي لا علاقة لها في حقيقة الأمر بالكتب الالهيه.

وهي قريبه الى فلسفة الديسيم (الربوبية) الإلهيه التي تؤمن بخالق كل الكون وتطور الحياة تطورا مستقلا فيما بعد وتنبذ الخرافات والقوى الخرافيه وقد انتشرت في اوروبا القرن السابع عشروالثامن عشر. أنظر كتاب المستعربة آنّا دولينينا المشار إليه.

وإذا كان التنويريون المسلمون قد اهتموا بالشكليات الدينيه فإن النصارى ركزوا على المناقشات الفلسفيه والفكريه ولكن بدون صبغة دينية نصرانيه، مع المحافظة على الموقف الإيجابي من الإسلام، بل إنهم افتخروا بالماضي الإسلامي والعداله الحقيقيه التي أقامها المجتمع الإسلامي الاول (راجع كتابات جميل المدور، جرجي زيدان، وسليم البستاني وغيرهم).

عندما يغلف التنويري النصراني افكاره التنويريه بالصبغة المسيحيه، فإنه يستمدها من رينان، الذي رفض الأفغاني آراءَه في محاضرة ألقاها في السوربون، أو تولستوي الذي قدم للعالم مسيحيه جديده ضمن افكاره التولستويه العامه فهي ليست رسميه، بل منتقاة. راجع: فرح أنطون. القدس الجديده.

فكان يهم التنويري بالدرجة الاولى، العربي مسلما كان ام نصرانيا، التوجه نحو الدين الحقيقي كي لا يتهم بالكفر تذمرا من الممارسات الدينية وكان ينادي بالأصاله وهي في حقيقة الامر تعبيرعن الاحتجاج ضد الظروف الدينيه والعلميه والاجتماعيه المتخلفه في الازهر وخارجه، كتلك التي تحدث عنها عبد الرحمن الجبرتي (1825-1754) في منتصف القرن الثامن عشر حيث كان علماؤه يجهلون المعرفه بالرياضيات، بل إنه كتب ايضا عن قصة استغرابه من رؤية احدى التجارب الكيميائيه في أحد المعامل الفرنسيه واندهاشه بها. انظر: الجبرتي. عجائب الآثار في التراجم والاخبار.

تحدث الجبرتي بسخريه عن علماء الازهر الذين التقوا بأحد الولاة العثمانيين وأبدوا عدم معرفتهم بالرياضيات عندما سألهم عنه وعن العلوم بشكل عام.

ولا بد لنا في هذه المناسبه من الإشارة الى ان الشيخ محمد عبده فرّ من "الكتّاب" عندما كان طفلا لعقم الدراسة فيه ونفي فيما بعد الى قريته بسبب افكاره التقدميه الإصلاحيه ونفي الى لبنان لمشاركته في ثورة عرابي ثم أضطر للخروج من إدارة الازهر بسبب عدم تمكنه من مواصلة جهوده في تدريس العلوم المحرمه في الازهر التي ادخلها بقانون خاص أصدره عام 1895. ولولا الخطر الاستعماري الغربي في الوطن العربي لما فكر محمد عبده بالتحفظ إزاء المدنية الغربيه التي دعا اليها، ولكن شريطة عدم الإخلال بالأصاله الإسلاميه، لكنه لم يكف عن الدعوة الى اقتباس كل ما يمكن من الغرب الذي عانى من اضطهاده لشعبه وولّد لديه في نهاية الأمر رد فعل تجسد في عودته الى السلف الصالح.

ورغم انتقاد الكواكبي للسلطان عبد الحميد واستبدادِه، ودعوته لتأسيس دولة عربية، الا انه رفض العنصر الاوروبي وابدى مشاعرَ معاديه تجاهه واعتبره مادي الحياة، قوي النفس شديد المعامله حريص على الانتقام، ولكنه تاثر بنظمهم الدستوريه. انظر: الكواكبي. طبائع الاستبداد، أم القرى. الأعمال الكامله.

كل هذه المحاولات الإصلاحيه التعليميه لدى المسلمين والنصارى تدل على رغبتهم الصادقه في الخلاص من التخلف والتوجه نحو تاسيس النظم السياسيه والأخلاقيه والاجتماعيه الجديده، ففرح أنطون مثلا لم يكتف بالدعوة على ألسنة أبطاله الى التسامح الديني والانبهار بديمقراطية الإسلام كما فعل غيره من الكتاب النصارى الآخرين، بل إنه قارن بين محمد وعيس المسيح عليهما السلام مؤكدا على ان دعوته كانت مؤيدة من الخالق. انظر: فرح انطون. القدس الجديده. ص44-45

ولم يكن النصارى أقل مرتبة اقتصاديا او علميا او اجتماعيا لا سيما وانهم سيطروا على التجاره مع اوروبا بسبب صلاتهم المتنوعه معها فتختفي بالتدريج فكرة تفوق المسلم على النصراني. وعلى الرغم من الاخذ والرد بقضية دعوة جرجي زيدان الى قسم التاريخ الإسلامي عام 1909 إلا انها في نهاية المطاف تمت بعد سنتين. انظر: كراشكوفسكي. الروايه التاريخيه في الأدب العربي المعاصر. الأعمال الكامله بالروسيه.

هذا الاهتمام من قبل النصارى العرب بالإسلام وتاريخه يدل على بداية تكوين فكرة القوميه العربيه غير الدينيه، تُعد من اهم مقومات الحركة التنويريه واقسامها في ظل النضال من اجل الاستقلال القومي، فناصيف اليازجي (1800-1871) صاحب المقامات المعاصره التي جمعها في «مجمع البحرين» اثبت قدرة عاليه على الكتابة باللغة العربيه ومعرفة عظيمه بتاريخها وتفصيلاتها، إضافة الى أراجيزه في الصرف والإعراب والبيان دحض فكرة «اللغة العربيه لا تتنصر» مؤكدا انتمائه القومي العربي. استمرت هذه الحالة حتى السبعينات قبل الثورة الإيرانية والصحوة الإسلامية الجديدة وبروز التشدد الإسلامي.

قدّم اليازجي بمؤلفاته خدمات جليلة للغة العربية وآدابها وثقافتها وهويتها المعاصره وحركة شعبها القوميه العربيه التي ساهم فيها النصارى مساهمة كبيرة، بل وقياديه في اغلب الحالات جنباً الى جنب مع المسلمين وغيرهم.

ومن المفيد أن نقول هنا إن دور المسيحيين القيادي للقومية العربية استمر حتى وقتنا المعاصر.

إذا أردنا ان نعيد الى الأذهان الجمعيه العلميه السوريه التي تأسست عام 1847 في بيروت لنشرالعلوم وتنشيط الفنون بين الناطقين بالضاد فاننا نجد ثلاثةً من أبرز التنويريين العرب النصارى هم الشيخ ناصيف اليازجي وبطرس البستاني (1883 - 1819) وميخائيل مدور كانوا من انشط اعضائها فإن الاختلافات الدينيه بين المسلمين والنصارى لم تعق تقارب التنويريين العرب الذي هو في حقيقة الأمر من اهم مهمات الفكرالتنويري.

كما أشرنا سابقا الى ان اهتمام اغلب النصارى بالفكر الغربي لا يعني نكرانهم للثقافه العربيه، بل بالعكس كانوا يشعرون بضرورة تغذيتها بالافكارالجديده من اجل الحصول على العلوم الحديثه وتغيير نمط التعليم المتخلف وتحويله الى نظام متقدم.

ألّف بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد بن ابي شديد بن محفوظ بن ابي محفوظ البستاني الذي أتقن العربيه والسريانيه والايطاليه واللاتينيه كتبا لا يمكن لاي باحث عربي اليوم ان يستغني عنها مثل «دائرة المعارف» وقاموسه العربي «محيط المحيط» و«قطر المحيط» وكتبه التنويريه مثل «تعليم النساء» والكتابات التعليميه المخصصه للطلبة والشباب مثل «مصباح الطالب في بحث المطالب» و«مفتاح الصباح في الصرف والنحو» و«كشف الحجاب في علم الحساب» وترجمته لرواية «روبنسن كروزو» وغيرها من المؤلفات ذات الاهمية البالغه بالنسبة لتلك الفترة بالذات لكونها تتضمن معلومات اساسيه لا يمكن لطلاب العصر التنويري الاستغناء عنها.

لعلّه من المفيد ان نذكر أن هجرةَ الشاميين الى مصر في سبعينات القرن التاسع عشر وثمانيناته أهم عامل قرّب أغلب التنويريين المسلمين والنصارى العرب ومن الطوائف والاقليات القوميه والدينيه الاخرى في بعض الأحيان، وجعلَ الرعيل الاول من هؤلاء التنويريين يرفض ارتباط العرب بالغرب أو تركيا وظهرت لاول مرّه في بعض مؤلفاتهم فكرة القوميه العربيه.

كانت صحف اديب اسحق عشية ثورة عرابي تنشر مقالات الأفغاني ومحمد عبده اللذين عملا فيها، ونشر الشاعر التركي المسلم ولي الدين يكن مقالاته في صحيفة «المقطم» التي كان يصدرها يعقوب صروف (1873-1912)، بينما كان النصراني جميل المدور يعمل في جريدة «المؤيد» لسان حال المسلمين المجددين. كان هؤلاء الكتاب يدعون الى تآلف أفضل التقاليد العربيه الصادقه في الديانتين السماويتين من جهة وفي الفكر الاوروبي، الا ان قسما منهم أكد على الفكر العربي الإسلامي كما هو الحال عند الكواكبي، واهتم آخرون بالقوميه العربيه حسب المفاهيم الاوروبيه مثل فرح انطون.

إلا أنهم جميعا التقوا حول الأهداف المشتركه في النضال من اجل حرية الوطن وازدهاره وتقدمه والتخلص من التقاليد الباليه والخرافات ولهذا بالذات أدركوا اهمية المعرفه باعتبارها الطريق الوحيد للوصول الى التقدم الاجتماعي.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

......................

الهوامش والملاحظات:

- د. احمد هيكل تاريخ الأدب العربي الحديث.

- د. عمر الدسوقي. تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر الى قيام الحرب الاولى، وكتابه المعروف:

- في الأدب الحديث. جزءان. القاهره 1980 وطبعات اخرى مختلفه. -  - عبد الرحمن ياغي. حياة الأدب الفلسطيني.د. سامي الكيالي. الأدب العربي المعاصرفي سوريا.1850- 1950 وهناك كتب كثيره أرّخت للادب العربي الحديث كله مثل:

- أنيس المقدسي. اتجاهات الأدب الحديث، أنور الجندي. النثر العربي المعاصر1840-1940 أندريه ميكال. الأدب العربي. تونس 1973

- حسين المرصفي. الوسيله الأدبيه. ج 2ص 17

-  شارل بروكلمان. تاريخ الأدب العربي.

- نيكلسون. تاريخ الأدب العربي من الفتح المغولي حتى عصرنا الحاضر.

- شارل بيلا. عصر البعث من الحمله الفرنسية.

- كراتشكوفسكي. الرواية العربية التاريخية.

- آنّا أركادينا دولينينا. الرواية التنويرية العربية في سوريا ومصر.

وقد اعتمدت على هذا الكتاب بشكل خاص لأني كنت أرغب بترجمته، في إعداد هذا المقال وتدريس مادة الأدب العربي الحديث للسنة الرابعة في كليات الآداب والتربية.

 

موقف رفاعه الطهطاوي من المرأة 1801-1873

"الصداقة هي التي ينتج عنها بين الرجل وأهله كمال الاتحاد والائتلاف في جميع الحركات والسكنات، والأحوال والأطوار، مع ما ينشأ من ذلك من تقوية الجذب والمسامرة والمحادثة، والتبسم وإظهار التلطف والتعطف، من كل ما يؤثر في النفس تأكيد المحبة، فتستحيل إلى عشق الشمائل المعنوية التي تبقى في المرأة دائما ..." الشيخ رفاعه الطهطاوي.

يُعد الشيخ رفاعه الطهطاوي احد ابرز التنويريين العرب وإمام النهضة العلمية في مصر جنبا إلى جنب مع الأئمة الآخرين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي من الذين حاولوا تقبل الفكر الغربي ومكتسباته بدون التخلي عن القيم العربية والإسلامية.

يتفق اغلب الباحثين على أن حركة “اليقظة” أو التنويرية العربية الحديثة بدات بعد الحملة الفرنسية بقيادة نابلوين على مصر 1798 حيث أيقظت العرب من سباتهم بعد فترة طويلة من الانحطاط استمرت منذ سقوط بغداد على يد هولاكو.

إلا أن حركة اليقظة هذه وُلدت عرجاء بسبب الاصطدام الحربي بين الغرب والعرب ولم تكن وليدة تجاذبات وتأثيرات في ظل ظروف طبيعية وبدون مخاوف العرب والمسلمين من مكتسبات الغرب فلم تكن جماهيرية بل نخبوية محدودة على المفكرين.

وكان من الصعب الحديث عن اي مظهر من مظاهر التنويرية العربية بدون الإسلام، بل إن كل شيء كان يجب أن يتم ضمن إطار القيم الإسلامية.

ولهذا فإن هذه الحركة على العكس من التنويرية الأوروبية الغربية لم تفصل الدين عن مشاريعها في تاسيس الدولة العربية الحديثة  فنجم اختلاف أدى إلى ظهور تيارات متعددة ومختلفة بل متناقضة في بعض الأحيان مثل التيار الإسلامي الأصولي والتيار القومي الإسلامي والتيار القومي العلماني والتيار العثماني الذي نادى بالدولة العثمانية.

لكن هذه الحركة لم تكن حكرا على المسلمين بل بالعكس قدّم التنويريون النصارى العرب مساهمات كبيرة للغاية فيها فألفوا القواميس والكتب الموسوعية ويكفي ان نذكر البستاني على سبيل المثال وأن اللغة العربية حلت محل السريانية في ممارسة الطقوس الكنسية على يد المطران جرمانوس فرحات.

ونريد هنا في هذا المقال أن نلقي الضوء على شخصية رفاعة الطهطاوي وموقفه من المرأة وعلاقتها بالرجل باعتباره نموذجا يمكن أن يُحتذى به بالنسبة للمسلمين والعرب بشكل عام والمغتربين المسلمين في الدول الأوروبية بخاصة.

مما يجدر ذكره أن عدم تعلم لغة البلدان المضيفة وعدم الاطلاع على ثقافات شعوبها ومؤسساتها الديمقراطية والدستورية وعدم احترام المرأة  من قبل بعض الأئمة والمسلمين هي من أهم الحجج التي استغلتها الحملات الإعلامية ضد الجاليات المسلمة في الدول الإسكندنافية وبالذات في الدنمرك.

عيّنَ حاكمُ مصر وباني نهضتها الحديثة محمد علي باشا الشيخ رفاعة الطهطاوي إماماً للبعثة العلمية المتوجهة إلى فرنسا التي تكونت من طلاب علم سافروا لغرض الدراسة. لم يتعدّ واجب هذا الإمام مسائل الوعظ والإرشاد الديني لطلبة البعثة، إلاّ أنه بدأ بتعلم اللغة الفرنسية منذ اللحظة الأولى التي تحركت فيها الباخرة متوجهة إلى فرنسا وقرأ فولتير ومنتسكيو وراسين كما يبدو واضحا من مؤلفاته عن النهضة الفرنسية.

ولم يكتف بذلك بل ترجم وعرّبَ كتبا عديدة في الفكر والأدب والعلم من الفرنسية إلى العربية مثل نشيد فرنسا "المارسيليز" والدستورالفرنسي والقانون المدني الفرنسي وروح الشرائع لمونتيسكيو ورواية مغامرات تليماك لكاتبها المعروف فيلنون راغبا في أن تتطور أذهان الشباب ولأهميتها حسب رايه في تطور القصة في الأدب العربي.

رغم اختياره رواية تعليمية إلا أن هذا موقف مهم بحد ذاته إذ إن الأنواع السردية وبالذات الرواية والمسرحية لم تلقَ قبولا من قبل رجال الدين في تلك الفترة كونها تثير حسب اعتقادهم الشهوات واللذات وهي ظاهرة اتسمت بها أغلب آداب العالم في بدايات تكوينها.

مساواة المرأة بالرجل

يقول الطهطاوي عن هذا الأمر الذي حيّر المسلمين حتى وقتنا الحاضر رغم اليقظات والنهضات والصحوات:

المرأة مثل الرجل سواء بسواء، اعضاؤها كاعضائه، وحاجتها كحاجته...وكلما كثر احترام النساء عند قوم كثر أدبهم وظرافتهم، فعدم توفية النساء حقوقهنّ فيما ينبغي لهن الحرية فيه دليل على الطبيعة البربرية!”

أنظر: المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين الباب 2 الفصل 1

يجب أن نتذكر أن الطهطاوي كتب هذه الآراء في القرن التاسع عشر حيث لم تكن المرأة تعامل باحترام في أوساط عامة الناس ليس في الدول العربية فحسب بل في اكثر بلدان العالم  كما هو معروف.

كانت تسود المجتمع العربي رواسب ممارسات وعلاقات اقطاعية متخلفة والفقر والمرض والجهل وتفشي الأمية والتفسير الخاطىء للقرآن الذي ليس له علاقة حقيقية بنصوصه بحيث كانت المرأة تُعامل باعتبارها شيئاً يمتلكه الرجل.

بل إن رفاعة الطهطاوي لا يكتفي بطلب احترام المرأة إنما يطالب بتعليمها ولهذا الف كتابه الشهير "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" عام 1872 وكان يعد في ذلك الوقت ثورة كونه إماما دينيا يدعو لضمان حقوق المرأة ضمن إطار الإسلام.

يقول الطهطاوي في أهمية تعليم المرأة:

“إن تعليمهن في نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول المرأة على ملكة القراءة والكتابة، وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة، والاطلاع على المعارف المفيدة، هو اجمل صفات الكمال، وهو اشوق للرجال المتربين من الجمال، فالأدب للمرأة يغني عن الجمال، لكن الجمال لا يغني عن الأدب لأنه عرض زائل.

وأيضا آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيرا في أخلاق أولادها، إذ البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب وضبط أمور البيت والاشتغال بتربية أولادها، جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة على مجرد الزينة والتبرج و إضاعة الوقت بهذر الكلام والزيارات غير اللازمة ...” المرشد الأمين.

ويبرر ذلك بحجة أن العلم مجال مفتوح لكلا الجنسين وأنه ليس كالإرث في الشريعة الإسلامية التي يأخذ الذكر بموجبها ضعف ما تحصل عليه الأنثى.

ويستند في هذا على حديث نبوي شريف “كدليل على أن تعلّم النساء جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال لا بأس به لأن ذلك "في أصل الطبائع والغرائز ... فليتمسك كل من الفريقين: الذكور والإناث بالأحاديث الواردة في فضل التعلم والتعليم ...”.

المرأة والعمل:

والأمر الأكثر أهمية أنه طالبَ بعمل المرأة مثلها مثل الرجل فكتبَ:

“ يمكن للمرأة في اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل ألسنة النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون...” المرشد الأمين، الباب الثالث، الفصل الثالث.

علاقة الزوج بالزوجة:

يكتب الطهطاوي عن هذا الأمر بلغة جميلة وصريحة داعيا إلى الحب بين الزوج والزوجة والتعامل بالاحترام. وبرأيي أننا بأمس الحاجة إلى تدريس هذه النصوص في مدارسنا لتنشأة الأجيال الجديدة على هذه الأخلاق.

يقول الشيخ الطهطاوي “إن معرفة إرضاء أحد الزوجين للآخر فن نفيس، وإن كان صعبا في حد ذاته لأنه يستدعي كمال التربية والإنصاف بالعدل .... ومعرفة الاعتناء بالوسائل التي تستدعيها “الصداقة” بين الزوجين لاشتراكهما في المنفعة العمومية” المرشد الأمين، الباب السادس، الفصل الرابع.

لاحظ، إنه يؤكد على الصداقة وهي مفهوم آخر غير الولاء والطاعة والحب كونها (الصداقة) تتتميز بالاشتراك والنقاش والاختلاف بالرأي والتشاور والخ من ميزات التكافؤ والندية إلى حد ما.

يرى الطهطاوي أن “الصداقة هي التي ينتج عنها بين الرجل وأهله كمال الاتحاد والائتلاف في جميع الحركات والسكنات، والأحوال والأطوار، مع ما ينشأ من ذلك من تقوية الجذب والمسامرة والمحادثة، والتبسم وإظهار التلطف والتعطف، من كل ما يؤثر في النفس تأكيد المحبة، فتستحيل إلى عشق الشمائل المعنوية التي تبقى في المرأة دائم”. نفس المصدر، الباب الخامس، الفصل الثامن.

فعليهما أن يجتهدا في تحببهما لبعضهما حبا تاما. وأن لايذم أحدهما الآخر في غيبته. وأن لا يغضبا في وقت واحد. وأن لا يكلم أحدهما الآخر بصوت عال. ... وأن لا يفارق أحدهما الآخر ولو يوما واحدا من دون ان يودعه بكلمة محبة ... وأن لا يدعيا الشمس تغرب على غضب أو زلّة وأن لا يدعا زلة ارتكباها تمضي من دون إقرار بها وطلب السماح عنها. وأن لا يتأوها على ما فات، بل يرضيان بما يوجد. وأن يجعلا الصدق دأبهما في  في معاملة أحدهما الآخر”.  نفس المصدر.

ومن الطريف أن رفاعة الطهطاوي لا يكتفي بكل هذا بل يقرر أن يكتب تعهدا خاصا بزوجته بعدم زواجه من اي إمرأة أخرى ويعطيها حق العصمة ويعتبرها طالقا في حال حدوث ذلك.

يقول الطهطاوي في تعهده لزوجته: “ يلتزم كاتب هذه الأحرف، رفاعة بدوي رافع لبنت خاله ... الحاجة كريمة أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى ولا جارية أيا كانت، ... وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء، أو تمتع بجارية أخرى، فإن تزوج بزوجة أيّاً ما كانت ... كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين ... ولكنه وعدها وعدا صحيحا، ألا ينتقض ولا يخل، أنها مادامت معه على المحبة المعهودة، مقيمة على الأدامة، ... لا يتزوج بغيرها أصلا، ولا يتمتع بجوار اصلا، ... حتى يقضي الله لأحدهما بقضاء”.

وكأننا في حقيقة الأمر نجد هذا التنويري يربأ بنفسه عن حقه في تعدد الزوجات وكل أشكال الزواج الأخرى رافضا إياه أمام الملأ في وثيقة مكتوبة لرغبته في ان يكون عادلا منصفا لزوجته.

هذا هو الخطاب الديني التنويري الأول، الذي يختلف تماما عن كتابات الأجيال اللاحقة من رجال الدين السياسيين في الخمسينات حيث ظهر سيد قطب وفيما بعد حسن البنا زعيما الأخوان المسلمين في مصر، وآخرون غيرهم ممن كانوا أكثر تشددا ومارسوا العنف في التسعينات في الجزائر وجماعة طالبان والقاعدة التكفيرية المتطرفة، التي ذبحت الناس لمجرد الاختلاف بالرأي معهم ومنعت الأفغانيات من المدارس وهدمت الاثار، وما يجري الآن من تكفير العراقيين ووذبحهم وقتلهم لمختلف الذرائع والحجج.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

تعاني الطبقة السياسية الشيعية بشكلٍ خاص، ومجمل الإدارات الشيعية على نحوٍ عام من افتقاد الإرث التاريخي في ممارسة الحكم وآليات المنظومات التي تتكفل ببناء نسقٍ ناظمٍ لفلسفة إدارة الدولة ومؤسساتها،لذا، لم يجد الشيعي سوى الفقيه وإرثه مجالا حيويا يستند إليه في ممارسة السلطة وما يتناسل منها، هذا الإرث قُدّم تاريخيا بوصفه البديل عن الفضاء الدولتي القائم على بنى مؤسسية ذات طابع متسم بالاستقرار والديمومة، فضلا عن الطابع التراكمي الذي يسم هذا المجال، واختلافه عن المسار القطعي الذي تتصف به الممارسة الفقهية ذات التوجه الفردي .

 نظرت الطبقة السياسية الشيعية إلى الدولة بمنظار تعاطي الفقهاء ورسائلهم، وهو منظور يعتمد على الجانب الافتراضي أكثر من اعتماده على الجانب الواقعي، فمن يطالع رسائل الفقهاء يجد أنّ البناء الشرطي للقضايا مبثوث و واضح على نحوٍ لا لبس فيه، واسلوب الشرط هو أسلوب قائم على الافتراض بالدرجة الأساس،فضلاً عن أسلوب (يجب، ولا يجوز) وهذه تعابير المعجم الفقهي استجلبها الساسة الشيعة كساند للافتراض في فهمهم للإدارة وكيفية تطبيقها،كلّ هذا يُفهم لغياب الأرث التاريخي، لكن طبيعة العمل السياسي المرتبط بالواقع أكثر من ارتباطه بالافتراضات كشفت عن فشل هذا التعاطي في فهم سياقات بناء الدول وكيفية تطويرها،لاسيما أن هذه الطبقة استجلبت النظام الزبائني الذي مارسه الفقيه تأريخياً- أعني في توزيع العطايا على وجه التحديد- مع وجود طبقة اوليغارشية مغلقة، ستواجه هذه الثنائية خواء طريقة التعامل مع بناء الدولة مع أول اختبار واقعي – نقيض الافتراض الذي قدموه في إدارة الدولة- والذي يتمثل في هبوط أسعار النفط على نحو حقيقي و واقعي عاجلا أم آجلاً ليقع المحذور وانكشاف الغطاء الزائف(الريع) الذي تلتحف به هذه الطبقة آخذة معها شعبا بأكمله رهينة فضاءات لا دولتية تبثّ على نحوٍ مكثّف، وثمة نقطة أخرى تعزز طبيعة التصور الذي أعنيه في استجلاب أدوات الفقيه من قبل الساسة الشيعة يتمثل في رؤية المنظومة السياسية الشيعة للمواطن بوصفه (مُكلّفاً لا مواطناً) – بحسب المنظومة الاصطلاحية الشيعية- الأمر الذي يستضمر غياب الممارسة النقدية لمجمل الرؤى والاطروحات التي تُبثّ من قِبلِه،قياساً على قارىء الرسائل العملية الذي يتمثل بكونه متلقيا لعلم ِ الفقيه ومعرفته، وإذا ما عنّت للفقيه مستجدات أخرى فمن الطبيعي أن يتحول ما هو حرام إلى حلال وما على مقلديه إلا السمع والطاعة، وهو ما عمل به ساسة الشيعة على الدوام، من دون الالتفات الى مسألة جوهرية تكمن في ان ممارسة الفقه تقوم الافتراض أساسأ، وأن التعاطي الحقيقي للدولة يقوم على الوقائع أصلاً ولا سيما الجانب الاقتصادي، قد يُشكل على هذا الطرح أن القانون يقوم على جانب افتراضي، أقول :ما يفترق هنا، قيام القانون على افتراضات متناسلة من وقائع هذا أولاً، فضلاً عن أن القوانين تكون وليدة الواقع لا وليدة الافتراضات التي تنحصر في زوايا محددة.

***

د. مؤيد عبد صوينت

 

"تبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الادنى وهذا هو الطريق.. والصراط.. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق".. مصطفى محمود..

بينما نبحر في تعقيدات الإيمان في عصر يتسم بالتنوع والانحرافات المجتمعية، يصبح من الضروري بشكل متزايد الشروع في رحلة من التأمل والاستقصاء، من خلال استكشاف تقاطع الإيمان والعلم والمعتقد من خلال عدسة علم الدين المعرفي وسوسيولوجيا الدين، يمكننا الكشف عن رؤى عميقة تعمق فهمنا للروحانية وترشدنا للكشف عن سبر غور تجربتنا الدينية.

حيث يشير كيلي جيمس كلارك في كتابه " الله والدماغ: عقلانية الاعتقاد" من خلال "قراءة لتجارب الاقتراب من الموت، مروراً بالجين المسؤول عن الدين، ووصولاً إلى ما سمي بخوذة الله، يتتبع الكاتب، تطور البحوث العلمية فيما يتعلق بالاعتقاد، كما أنه يقف مع التفسير التطوري لنشوء المعتقد الديني، ويكشف قصور كل ذلك، سواء فيما يتعلق بنظرية التطور، أو بعض النظريات الفلسفية التي كانت بمثابة سند لتلك النظرية، ويركز دوماً على مسألة مهمة، وهي من الذي يسبق دوماً، الدليل أم الإيمان؟ بمعنى هل جميع المعتقدات التي نمتلكها، والمعلومات سواء فيما يتعلق بالكون، بالناس من حولنا، بالعالم الشاسع، بكمية هؤلاء الناس، هل كل هذا نملك عليه حججاً قاطعة، أم أننا في جزء كبير من كل ذلك نعتمد على التصديق فقط، من غير دليل، وهذا التصديق مبني على مسألة أساسية وهي الثقة"، يهدف هذا العنوان والهيكل إلى التقاط جوهر استكشافك للعلاقة بين الدين والمعتقد والبحث العلمي، ويقدم رؤى وإرشادات مثيرة للتفكير للتغلب على تعقيدات الإيمان في العالم الحديث، تجبرنا رؤيته على مواجهة محدودية معرفتنا وهشاشة يقيننا، وتحثنا على اعتناق غموض الإيمان بينما نبحر في مياه الحداثة المضطربة.

عندما نتأمل كلمات كلارك والأسئلة العميقة التي يثيرها، نتذكر التشابك المعقد بين العقل والوحي، والدليل والحدس، في هذا المشهد المتغير باستمرار من الإيمان والفهم، نحن مدعوون للشروع في رحلة اكتشاف الذات والبحث - رحلة تبدأ بمعرفة الذات وأدنى مكان لها، وتصعد نحو الحقائق المتعالية التي تغرينا في طريقنا الى الهجرة الكبرى إلى الحقيقة.

وفي هذا الصدد نعود لنتفحص صدى السلوكيات الاجتماعية والروحية التي تعكسها مواقع التواصل الاجتماعي في شهر رمضان وهيكلية المعتقد الديني، حيث تبرز لنا " أزمة الاعتقاد " كيف أفرغ هذا الطقس الروحي من محتواه وملئ بسباق درامي واستعراضي مقيت حيث الدراما الرمضانية المدجنة بسيناريوهات تعبر عن تفاعل معقد بين الرموز الدينية والتوترات السياسية والاعتبارات القانونية ومع ذلك، مع تشابك هذه العناصر بشكل متزايد، أصبح التمييز غير واضح، مما تركنا مشوشين والتي لاتقل مقتاُ عن الطقوس الفيسبوكية والاستعراض بالشهر الكريم، وهذا يدعونا لتفحص مسائل الاعتقاد وفروض الايمان، خاصة بعد عن عرج المسجد كمؤسسة دينية رمزية عن تشكيل دور مؤثر في هذه الاجواء الروحانية ليتحول المشهد برمته الى مجالس للطعام والبذخ والاستعراض.

ومن منظور اجتماعي، يعكس هذا الاتجاه تحولات أوسع في القيم المجتمعية وتسليع الالتزام الديني، ويؤدي تآكل الهياكل الدينية التقليدية إلى ظهور أشكال جديدة من التعبير والجماعات، وغالباً ما يتم ذلك عبر المنصات الرقمية ومع ذلك، فإنه يثير أيضًا تساؤلات حول صحة وعمق التجربة الدينية في مجتمع يزداد سطحية ويحركه الاستهلاك.

فإن تشابك الدين والمعتقد يوفر رؤى جديدة، ويدعونا إلى إجراء فحص نقدي للقوى التي تشكل حياتنا الروحية والأعراف المجتمعية من خلال التحليل الاجتماعي، يمكننا كشف تعقيدات الإيمان في العالم الحديث، وتسليط الضوء على ديناميكيات تكوين المعتقد والتعبير عنه في مشهد ثقافي دائم التطور.

وفي ظل هذا التشابك بين المعتقد والاجتماعي والسياسي دعونا نتساءل عن كيفية بناء المعتقدات؟ يعتبر الأيمان هو حجر الزاوية في الأدراك البشري وهو قوة عميقة تشكل تصوراتنا وقراراتنا وأفعالنا، ومع ذلك تحت قشرة اليقين تكمن شبكة من نقاط الضعف، وتنشأ هشاشة المعتقد من التفاعل بين العوامل النفسية والاجتماعية والوجودية، الإيمان في جوهره هو بناء معرفي يزود الأفراد بإحساس بالمعنى، والتماسك، والقدرة على التنبؤ في عالم فوضوي، من الإيمان الديني إلى الأيديولوجية السياسية، توفر المعتقدات إطارًا لفهم الواقع والتعامل مع تعقيدات الحياة ومع ذلك، فإن هذه الوظيفة بالذات تجعل الإيمان عرضة للتآكل عندما يواجه أدلة متناقضة، أو روايات متنافسة تعكس أزمات سياسية، أن فهم ديناميكيات هشاشة المعتقد يقدم نظرة ثاقبة لتعقيدات الإدراك البشري وتحديات التنقل في عالم تعددي، إن احتضان هذه الهشاشة بالوعي والتسامح يمكن أن يمهد الطريق لفهم أعمق، واحترام متبادل، ومرونة فكرية في السعي وراء الحقيقة والمعنى.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بابل

(الروايات غير الثابتة المنسوبة للنبي في الإسلام) نموذجا

الأديان تَنشأ كتلةً مكثّفة من المفاهيم والتصورات عن الحياة، وتقدم لمعتنقيها إجابات عن أسئلة كبرى، والتي في ضوئها يؤطّر الفرد حياته، ولهذه التصورات مصادر شتى تستقي الأديان منها مادتها بحسب طبيعة كل دين.

وفي الإسلام تعد الروايات المنسوبة للنبي، والتي دُوّنت رسميا في مصنّفات في فترة تقرب من ٣٠٠ سنة بدءا من قرن ونصف من وفاة النبي، الفترة التي شهدت فتنا كقطع الليل المظلم بين المسلمين أنفسهم، كمقتل عثمان بن عفان، وموقعة الجمل، ومعركة صفين، والنهروان، ومقتل علي بن أبي طالب، وقيام الدولة الأموية، ومقتل الحسين حفيد النبي، وضرب الكعبة بالمنجنيق، ومقتل عبد الله بن الزبير، وقيام الدولة العباسية، وغيرها الكثير، بكل ما فيها من الفظائع السياسية والاجتماعية، بحسب سردية الطبري في تاريخه - الذي تناول أحداث أول ثلاثة قرون - وابن كثير في البداية والنهاية - الذي تناول أحداث قرابة ثمانية قرون - وغيرهما من أهل التواريخ والسير.

إذن عندنا أحداث وقعت في عهد النبي في مدة زمنية بواقع ٢٣ سنة، والتي تنتهي بوفاة النبي في ١١ه، ثم بدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري التدوين الرسمي الفعلي لتلك الأحداث النبوية في صيغة روايات في غضون ٣ قرون! فمثلا مصنّفات الكتب التسعة - التي تمثل لبّ الروايات - كانت في فترة تتراوح من ١٥٨ه (السنة التي فرغ فيها مالك من موطئه في أحد الأقوال) وحتى ٣٠٣ه وفاة النسائي. وإنه بين وفاة النبي وبين التدوين الرسمي فاصل زمني ممتد مشبع بالفتن الكبرى التي رزح تحت وطأتها المسلمون، حيث انتقلت فيه الروايات شفهيا قبل تدوينها في سلسلة بين الثلاثية وحتى التساعية من الرواة في المتوسط بين صاحب المدونة الروائية والنبي.

هذه الروايات - بالصفة المذكورة - لها كِفلٌ كبير من حقل مصدرية التصورات الدينية لدى المسلم، ليس من حيث حيّزُها فحسب بل وحتى حاكميتها على غيرها، ولكن تلك الروايات منها الثابت ومنها المردود بحسب القناعة الدينية، ولدى كل مسلم وتيار ديني ينتمي إليه توزيعة مختلفة لهذين الصنفين من الروايات، فمثلا الروايات الضعيفة أو الموضوعة عند البعض هي صحيحة ثابتة في اعتبار البعض الآخر، وهذه إحدى حالات الافتراق بين المنطقة الروائية وبين القرآن من حيث الإجماع على حدود النص، ففي حين تُعرف حدود القرآن ومجمع عليها، لا توجد حدود للروايات الثابتة، وهي غير مجمع عليها بطبيعة الحال، بل وغير مستقرة! فالرواية التي يُحكم عليها بالثبوت اليوم قد يحكم عليها بعدمه في الغد لعلةٍ يتم الاطلاع عليها، ناهيك عن أنّ أغلب الروايات لا يدري المسلم حكمها من حيث الثبوت وعدمه، وأقصى ما يفعله هو قياسها مع أشباهها من تصوّراته التي ولّدتها روايات أخرى.

لو دقّقنا النظر في عنوان هذا المقال لوجدناه يقصر النظر على تأثير الروايات (غير الثابتة)، وليس الروايات بشكل عام، وهذا يعني أن الروايات المردودة رغم أنّها غير ثابتة لكنّ لها تأثيرا خفيا في بناء التصوّر لدى المسلم سواء في التدين الشعبي أو التدين النخبوي، خصوصا تلك الروايات أو بقايا مادّتها التي تشيع في البيئة التي يترعرع فيها، وتلك التي صاحبت العقود الأولى من حياته قبل أن يغير قناعته في ثبوتها لسبب أو لآخر، فتنسلّ مادتها في الإدراك منذ سماعها باعتبارها مقدسة، وتبقى جاثمة على صدر الوعي بإسقاطاتها في ميدان الحياة، حتى بعد الاطلاع على زيفها، فالمعتقدات المتأصّلة التي يولّدها المقدّس لا تزول كليا في لحظة واحدة، ومع ذلك فهناك تفاوت في التأثير بحسب الطبائع الذهنية والوجدانية وماهية موضوع الرواية وعلائقها.

وهناك جانب من الروايات المردودة تبقى معتبَرة مع أن أشباهها مردود في اعتبار التيار الديني سواء من ناحية إسنادها أو متنها، فمثلا تيار ديني ما يرى أن العقائد لا تُستقى من الروايات الآحادية الثابتة إلا استئناسا - أي إلا مع وجود آية قرآنية تعضدها - ولكن لا يمكن الاستدلال بالرواية استقلالا على أمر عقدي، فتجده لا يعبأ بكثير من الروايات العقدية لهذا السبب، إلا أنه في الوقت نفسه تجد غالبية أتباعه مقتنعة تماما بموضوع منكر ونكير في مساءلة القبر! والذي أصله رواية غير ثابتة منسوبة للنبي، فتجد مادة هذه الرواية مختمرة في وعيه الديني وخوفه وفهمه لما بعد الموت، وحين يسمعها من أفواه الواعظين تسيل مدامعه، فيرى نفسه كم هو قريب من ربه، بل ويعظ بها غيره على وجه الترهيب، ولك أن تختبر مَن حولك في التدين الشعبوي لتجد هذا الموضوع مسلّمة لا ريب فيها تماما كحقيقة أن الشمس تطلع في النهار. هذا مثال عابر ضمن جملة مهولة من مثيلاتها من الروايات غير الثابتة التي تشكّل جانبا مخيفا وهائلا من وعي المسلم تجاه الحياة بمواضيعها الشائكة والمعقّدة.

إن ما تفعله الروايات غير الثابتة في بناء التصورات لا يقف عند حدّ الانكفاء على مفاهيم ذاتية مجردة، بل تلقي بظلالها على تصوّرات المسلم تجاه مفردات الحياة وفهم الكون والماورائيات؛ الأمر الذي يجعله يتعاطى مع من وما حوله وفقها، فتتحكّم تلك الروايات بكيفية تعامله مع مختلف أطياف الناس كالآخر المختلف والأنثى ودائرته القريبة من عائلة وأحباب وزملاء وأصدقاء، وبكيفية نظرته للقيم كالعدل والحرية، وللعلم الذي تتصادم نتائجه مع المخلّفات الروائية التي أفرزتها الروايات غير الثابتة، ولقوانين بلاده التي تتعارض مع مضمونها.

إن أخطر وظائف الروايات غير الثابتة المنسوبة للنبي هي عرقلة حركة النمو الإنساني لدى المسلم عبر تصوّرات يرى ويفهم بها الحياة، فكم من (ممارسات ونمط تفكير) لدى المسلم لا يقوم بها إلا بناء على قناعة تسلّلت إليه من رواية غير ثابتة كانت نتاج وهْم راوٍ أو وضْع راوٍ آخر! فكيف إن علمت أنّ هناك اتجاها معمولا به في التساهل في التصحيح بل وإباحة الوعظ بالروايات الضعيفة المتصلة بالترغيب والترهيب، وحتى بدون بيان ضعفها، ولك أن تتخيّل السيل العارم من الأفكار التي تصاحب تلقّي تلك الروايات!

***

بقلم: محمد سيف

مدخل: يريد إيمانؤيل كانت، تنويرًا وإصلاحًا للعقول أولاً، فيما الواقع يشترط إزاحة المستبد عن طريق الثورة لكي يبدء التنوير، والتنوير يستمر إلى نهاية التاريخ الذي لن ينتهي هو الآخر.!!

ما الفرق بين التنوير في الواقع، والثورة على الواقع؟ وإلى أي مدى يمكن، أو بالأحرى، بوسع البشر أن يستعملوا عقولهم من أجل رفض الوصاية على العقول؟

فالكثير من البشر غير معنييين بإستخدام عقولهم تبعاً لسياقات العادة والتكرار، والكثير من العقول تستخدم في أنماط التفكيرعالي التركيز ولكن في المفاصل الثانوية، والقليل القليل من العقول تجرؤ على الأستخدام الأساسي والأمثل والمفصلي، الذي يعالج وجود الانسان ومستقبله بالمنطق العقلي الواقعي.. ولكن، كم هي نسبة الأستخدام المُستَحضِر للعقول لفك المعضلات والمشكلات والإشكاليات التي تواجه الانسان في المجتمع؟

قد يستخدم الانسان نسبة عالية من قدرات العقل في مسائل ثانوية فيستهلك طاقته العقلية دون أن يقدم حلولاً لها، ربما.. ولأن هناك عقول، وهناك عواطف وإنفعالات وغضب.. فهل ينتظر العقل لكي يستنير حتى تولد الثورة، التغيير؟.. ولكن (Immanuel Kant)، يقول: (تجرؤوا على إستخدام عقولكم).!!

فالتنويرُ فعلٌ ذاتيٌ باطني وأخلاقي، وهو إنطولوجيا أساسية تتطلع إلى الحرية، حيث يتم الرهان على العقل.. ولكن إلى متى ينتظر الرهان هذا على العقل؟ وهل ينتظر ذلك تلقائيًا ذاتيًا قد يستغرق التنوير قرون وليس عقود، فيما الأستبداد يسود ويتشعب؟ والثورة تحتاج إلى إنفعالات وعقول في آن واحد لإزاحة المستبد وهو (الوصاية على العقول) التي تمنع التنوير.

ومن هنا فهل يمكن للثورة أن تخلق التنوير؟ وإذا كانت الثورة في نظر " كانت" غير شرعية، (لأن وجود الحاكم على رأس السلطة شرعيًا)، فهل يمكن ان تتحول الثورة الى تنوير بإتاحة الحرية للأنسان لكي يجرؤ على إستخدام عقله وكذا المجتمع؟

الرأس يجب ان يكون الأسمى للعدالة والقانون ويضمن الحق في ملكية ثروات الشعب ويمتنع عن الإستيلاء عليها.. وهنا يُسَلِم المواطن ضمنًا بأن الحاكم لا يقترف بحقه وبحق الوطن أي نوع من انواع الظلم.. وإذا ما وقع، فمن حقه ان يبدي إدانته ويحكم عليه بالعزل والإقصاء لأنه قد خالف العقد الأجتماعي.. ولكن ماذا لو كان الحاكم مستبدًا ومتسلطًا ومحتكرًا ومختزلاً لأرادة الشعب كما يتسائل كانت؟.

هنا يسقط التسليم الضمني بعدالة ونزاهة وإستقامة الحاكم، فينشأ عندئذٍ خيار التعديل أو الإقصاء القسري للحاكم.

فـ "إمانويل كانت" كان يشترط النبل في الحاكم والنزاهة والحق والعدالة.. هذه السمات تكسب الحاكم الشرعية ومن دونها فهو فاقد لها. وضمنيًا يؤيد "كانت" الثورة وليس ضدها، فهو ضد عنف الثورة. والثورة هل هي على (الوصاية على العقول) أم ثورة على (الواقع)؟

فالخطر هو الوصاية على العقول، كما يقول "كانت" وليس الوصاية على الأستبداد بنهب الثروات. فالثورة قد تجلب معها أحكامًا مسبقة أو أوهامًا قديمة تتحول إلى مكبوت آيديولوجي مختلف، كما يقول هذا الفيلسوف. والإصلاح هنا الذي يريده "كانت" تغييرًا جذريًا لأنماط التفكير العقلي وليس مجرد تغيير وترميم لنظام الدولة. فالاصلاح يلتقي مع التنوير. ومن هذا المفهوم يمكن للثورة أن تستخدم التنوير في إصلاح العقول طالما ان المستبد لا يريد عقولا صالحة ولا يريد اصلاحها ابداً.. هنا يكون إسقاطه ضروريًا لإصلاح العقول والخلاص من أجل التنوير.

ما هو التنوير؟، هو التحول من حالة عدم استخدام العقل إلى التجرؤ بإستخدامه كخطوة أولى مدخلية صارمة.. وإن عدم الأستخدام هو في حقيقته تقبل للـ(وصاية) الناتجة عن احتمالين: الاستبداد الذي يعمل على عدم إستخدام العقل، والتجهيل بدفع العقل الى خارج منطق العقل.. فيما تمثل الوصاية على العقل ونتيجتها القبول بالعيش تحت رحمة الوصاية، وهنا يتم تعطيل العقل أو تجميده، وكليهما يقعان خارج نطاق المنطق العقلي.

فالفرد من السهل أن يدخل التنوير بمفرده ويتشبع بالمعرفة، ولكن الشعب من الصعب أن يدخل التنوير بكليته إلا عن طريق الثورة المستنيرة.. والتحرر يشترط جمهور الناس وهو ممكن شريطة وجود الحرية، والحرية لا يمنحها المستبد، والجاهل لا يعرف إستخدام الحرية إلا من خلال ضوابط الحرية، التي يحددها العقد الأجتماعي للثورة.. والتنوير من الصعب ان يكون سريعا وعنيفا ودفعة واحدة.. والتجرؤ على استخدام الانسان لعقله يشترط ان يكون حرًا وبعيدا عن الوصاية والرقابة الدينية والدنيوية.. والوصاية هنا تعطيل عمل العقل سواء كان بسبب رجل السياسة الحاكم أو رجل الدين أو أي شخص آخر لديه سلطة إصدار القرار.. والتعطيل هنا، هو منع أو حرمان العقل من أن يتشبع بالمعرفة الصافية القائمة على معايير منطق العقل الواقعي، وإرغامه على منبع واحد قد يمثل إتجاهًا دينياً أو إتجاهاً إثنيًا غير منفتحاً.

وحماسة الثورة في رأي " كنت " تهب النفس دافعًا حيويًا من أجل تجاوز حدود التخيل البشري، في حين أن التعصب يتوهم المرء فيه أنه يرى شيئًا ما، في ما وراء المخيلة.. لكنه في الحقيقة لا يرى سوى أوهامه. كما يرى "كنت" أن الحماسة إنفعال سياسي أما التعصب فهو إنفعال ديني.. وهما في هذا العصر ديماغوجية سياسية صماء وأدلجة دينية مخادعة.

إن نجاح أية ثورة هو خروج جماعي من حالة الوصاية إلى حالة الطريق المؤدية إلى الحرية، حرية التنوير والبناء، فهو بهذا، يظهر شعبًا ما، قد تجرَأ على إستخدام عقله برفض الوصاية عليه.

فالتنوير لا يمكن أن يكون بُرْكة (راكدة) تتزود منها العقول لكي تستنير، فيما هي محكومة من لدن المستبد بالوصاية التعصبية الدينية والأصولية والإرهابية. فالغرض العقلي - حسب "كنت" - سواء كان إعتباريًا أم عمليًا، يتوحد في ثلاثة تساؤلات من شأنها تحريك العقل:

ماذا يمكنني أن أعرف؟

وماذا يجب أن أعمل؟

وماذا يُمَكِنني أن أعمل؟

وهنا يدخل "كنت" في مجال المعرفة وكذا الإمكان العملي بوصف هذا الإمكان إرادة حرة، فيما الإمكان الفيزيائي يرتبط بالغرائز.

وهنا، تأتي القدرة والرغبة في الإرتقاء من حالة الغريزة إلى حالة الإعتبار وتخليص الانسان من نوازع الرضوخ للغريزة، التي تتساوى هنا مع الجانب الاعتباري حين تخضع الأرادة لحالة (الوصاية) بتجريد الأنسان من حريته في استخدام عقله، فيما يؤكد المنطق العقلي بأن الأنسان حر ولا وصاية عليه، هي ذاتها الأستجابة المطلقة للغريزة، التي تخضع لآليات التكرار والأداء النمطي دون استخدام العقل.. فالوصاية القسرية للتطرف الديني ليست من مُسَلَمات العقل العلمي.

لماذا لا يتجرأ المرء على إستعمال عقله؟ أهو الخوف.. ولكن ممن؟ أهو الجهل.. ولكن لماذا؟ أهو التغييب بالغيبيات.. ولكن أين موقع العقل الذي يميز بين الخطأ والصواب، بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، بين الإلحاد والأيمان، بين الشرك واليقين؟، تساؤلات يجيب على مدخلاتها "كنت".. (عندما يحتل كتاب مكان العقل، وعندما يحتل مرشد روحي ديني مكان الوعي).. ولكن للتنوير سيرورة ينخرط فيها البشر بشكل جمعي.. وهو أيضًا فعل جمعي يجب إنجازه على نحو شخصي.. بمعنى، إن الثقافة الموضوعية هي خزان لكل الثقافات الذاتية وما تكونت أو تشكلت إلا منها ومن تراكماتها.. إذ تشكل الثقافة الموضوعية والثقافة الذاتية متلازمة صارمة لا فكاك منها، لأن الثقافة الذاتية تتزود من الثقافة الموضوعية، والأخيرة تتسع وتتعمق من تفاعلات الثقافة الذاتية.

والتنوير هل يقتصر على الفرد بصورة خاصة، أم أنه إستخدام عام يخص الشعب بإعتباره الأطار الذي ينتج الحداثة؟ وبالتالي هو التنوير الذي يقع بين الفرد والمجموع، يعد بحد ذاته مشكلة سياسية يجب أن تحل عن طريق المعطى العام وهو التطور.. وإذا ما تطور المجموع، تطور الفرد بالمحصلة.. وهل الفرد التنويري متفرج يكتفي بتأمل الفعل السياسي.. هذا الفعل، حتى لو كان كارثيًا ؟، فالتنوير الذي يضطلع به الفرد مهم مثل (فولتير ودانتي وشكسبير والبيركامو وجون بول سارتر وسيمون دي بوفوا وسبينوزا وباخ وهيجل وماركس وسورين كركغارد، إلخ)، هولآء افراد غيروا معالم التفكير وغيروا اتجاهات وثوروا واقعاً صعباً وفككوا نظماً فكرية وقادوا أمماً وشعوبا.. ولكن استغرق الأمر قرون وحقب من السنين.. هذه هي أحكام التنوير الفردي، أما أحكام الثورة على العقول المستبدة، لا تحدث إلا بتحييدها ومن ثم حرمانها من فرض وصايتها على عقول الجميع.

***

د. جودت العاني

20/03/2024

كشفت حالة الفوران التي تشهدها الظواهر الدينية عن تخبّط في الوعي بحقل المقدّس وقضاياه في البلاد العربية. وهو تخبّط يعود في عمقه إلى عدم تطابق أدوات المعرفة مع حقل المعرفة. حيث يستحضر "العقل الخامل" أدوات معرفية لاغية أو محدودة الأثر، متوهّماً قدرتها على فهم "الكائن المتدين" وحلّ إشكالياته العصيّة. فما الذي فات الدارس العربي ليلج طور الحداثة في فهم الدين والتحكم بتشظيات المقدّس والإحاطة بتحولاته؟

المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي

بدءاً يتلخّص الإسهام العلمي للمناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، وِفق ما أوضحه الفرنسي ميشال مسلان في كتاب "علم الأديان" (مشروع كلمة، 2009)، في التركيز على متابعة العلاقة الأفقية وتخطّي العلاقة العمودية في علاقة "الكائن المتدين" بالمقدّس. بوصف علم اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق... ذلك أن المقاربات اللاهوتية تجيب عن سؤاليْ: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر. وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تحضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية.

ولتتّضح معالم النهجين، أعود إلى التطرق إلى خاصيات مجالات اللاهوت، أو لنقل "العلوم الشرعية" بصيغة إسلامية. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تُعبّر عن وجهة نظر المؤمن "الداخلية". حيث أن أصل كلمة "teo-logia" إغريقي، وفي مدلولها العربي تعني "خطابا حول الله"، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة القضايا الفقهية والمسائل التشريعية، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الصلات بين العبد وخالقه، بغية تقديم نظام أخلاقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي.

المناهج الحديثة ضمن السياق العربي

لو عدنا إلى أوضاع التوتر التي احتضنت المناهج العصرية، لتبيّنَ لنا حدّة تأثير الصراعات على السياقات العلمية، لا سيما في فرنسا إبان الثورة. مع خفوت ذلك التوتر في أوساط أخرى ساهمت في منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتية. وعلى العموم ثمة تقليدان في معالجة الظاهرة الدينية من منظور علمي، أحدهما فرنسي "Sciences religieuses"، والآخر ألماني "Religionswissenschaft". ترافق منشأ الأول مع غلق كليات اللاهوت التابعة للدولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. إذ جاء تدريس "تاريخ الأديان" في فرنسا، في 24 فبراير 1880، تعبيرا عن قطيعة مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية.

ولو تمعنّا أوضاع الدراسات الدينية العربية نلحظ هزال الأدوات العلمية في فهم الظواهر الدينية. إذ نجد المقارَبة الإيمانية (المقاربة الشرعية)، هي المهيمنة على النظر. ولا تزال المعالجة للدين وللكائن المتديّن مطروحة، على الوجه الأغلب، ضمن رؤية داخلية، ولا يمكن الحديث حتى الراهن عن خطّ منهجيّ تاريخيّ أو سوسيولوجيّ أو أنثروبولوجيّ. فالمبادَرات فردية ومحدودة ولا ترد ضمن تراكم علمي وأكاديمي في دراسة الظواهر الدينية. وأبرز مظاهر هذا الوهن، ما يطفو من خلط في المصطلحات المتعلقة بدراسات الأديان والدراسات اللاهوتية في اللسان العربي لدى كثيرين، مثل عدم التفريق بين علم اللاهوت وعلم الأديان، وتاريخ الأديان ومقارنة الأديان، وعلم اجتماع الأديان وأنثروبولوجيا الأديان. حيث لم يطوِّر الدارس الانفصال المطلوب، فضلا عن حالة التقمّص الحاصلة مع المعتقد الذاتي. لكن رغم ما هو سائد، لا يعني أن تحقيق الانفصال متعذّر، فبلوغ النضج المعرفي في العقل الديني، هو رهين وعي الدارس بالبنى الاجتماعية التي احتضنت تلك العلوم بشتى تفرعاتها.

إذ ينظر علماء الاجتماع إلى الدين اليوم بمثابة مؤسسة، تطوّرت بموجب حاجة اجتماعية. والمسار الذي يتبعه هؤلاء العلماء يتمثّل في تتبّع التواشج بين البنى الاجتماعية والسلوكات الدينية، بقصد تسليط الضوء، من جانب، على الاعتقادات الدينية، إن كانت -بشكل ما- مشروطة بالنظام الاجتماعي، ومن جانب آخر، لرصد الآثار العمليّة للدين في النظام الاجتماعي. هذا وقد ظهر علم الاجتماع الديني كمحاولة لفهم دور الدين في هندسة المجتمع، وحافظ على ذلك الاهتمام ضمن دراسة آثار سياقات التديّن.

والأمر ذاته يتعلق بالأنثروبولوجيا الدينية. فمع الرواد الأوائل إدوارد تايلور وجيمس جورج فريزر تركّز الاهتمام في دراسة الأديان البدائية، وتمحور الانشغال حول أصول الدين وتطوراته. وهو ما جرى هجرانه لاحقا نحو أسئلة اجتماعية مع برونيسلاو مالينوفسكي وإيفانز بريتشارد، إبان فترة ما بين الحربين، هدفت إلى تتبّع الوظيفية السوسيولوجية الدوركهايمية، أي الوظائف التي يتخذها الدين في علاقته مع مختلف المؤسسات الدينية والممارسات الاجتماعية. والجلي في خضمّ هذه التحولات أنّ مناهج قراءة الظاهرة الدينية في الزمن المعاصر ما عاد يشغلها سؤال المنشأ، أعني منشأ الشعور الديني أو منشأ الاعتقاد، وأضحى الهاجس يحوم حول "الإنسان المتدين" وبالمثل "الإنسان غير المتدين" داخل تفاعلات التاريخ الراهن، إذ ثمة إعادة ترتيب للأولويات.

وفق هذا التمشّي يجرّنا الحديث عن الظاهرة الدينية إلى إدراج الموضوع ضمن إطار عامّ ألا وهو "الظواهرية الدينية"، بوصفهِ الإطار الأشمل والأوسع لاختبار الظواهر. إذ يعود مصطلح "ظواهرية الدين" إلى الهولندي بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي، مدرِّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه: "مدخل إلى تاريخ الأديان". فأمام إدراكه أنّ مقصدَ الظواهريّة لا يقتصر على متابعة العينيّ والمرئيّ، أي ما يظهر إلى العلن، جرى تفريعُ الانشغال إلى ضربين أساسيَيْن: "الظواهرية الدينية الوَصْفيّة" و"الظواهرية الدينية الفَهْميّة"، وهذه الأخيرة هي ما حاول فان دير لاو تأسيسها، معتبرًا أنّ المكوث عند التقرير الوصْفي، دون الولوج إلى غور الظواهر، يُبقي الدارس في حيز وصف الظاهرة الدينية دون فهمها. وبالتالي السؤال العميق المطروح أمام الظواهرية الدينية هو سؤال الفحوى والدلالة في شأن معنى الظاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصدُ الحالة وتوصيفها، ما افتقر الحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللسان العربي كلمة الظاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقية (phainomenon)، التي تعني حرفيّا ظاهر الشيء، والمصطلح كما هو مخاتل في اللغات الغربية، هو بالمثل في العربية.

فحين نتطرّق إلى الظاهرة الدينية كمَلْمح من ملامح تجربة التديّن، نحن لا نتحدّث عن "المقدَّس" كجوهر مفارَق، ندرك طيْفه الجليل والساحر والمهيب ولا نعاين أثره، كما بيَّن رودولف أوتّو في كتاب "المقدّس"؛ ولكن نعمل جاهدين على حصر الرصدِ والبحثِ في عنصر محدّد. بيْدَ أنّ المسألةَ التي نعالجها لا تتعلّق بمنهج الظواهرية ومدى وُعوده وإمكانياته، وإنما يأتي توظيف الأمر لغرض التوضيحِ في سياق حديثنا عن سُبل فهم "الحدث الدينيّ"، "التجلّي الدينيّ"، "الظاهر الدينيّ"، "الواقع الدينيّ" المتعلق بالأديان. فـ "عالِم الدين" بمفهومه الحديث يعيد الظاهرة الدينية إلى جذور دُنْيوية، وبإيجاز يسعى إلى تناول الظاهرة الدينية بمثابة واقعة منزوعة القداسة؛ في حين عالم الدين بمفهومه الكلاسيكي فهو يعيد الظاهرة الدينية، في جانبها "الإيجابي"، إلى قوّة مفارِقة، وما خالَف منها النظرة الإيمانية إلى النفس الأمّارة بالسوء، وإلى الزيغ والهوى، وإلى وساوس الشيطان، وما شابه ذلك.

***

د. عزالدين عناية

شهدتْ مساحةُ المُقدّس بعد 2003 امتداداً هائلاً، يكاد يوازي - إن لم يكنْ قد  تجاوزَ- مساحات التقديس طوال القرون السابقة، ليشكّل منظومة شُبه متكاملة لسبغِ مفاهيم ذاتِ حمولاتٍ دلالية بعينها وتوظيفها بعيداً عن الحقولِ الِبكرِ التي صيّرتها واستمدت حقلها المعرفي من ينابيعها التأسيسية الاولى . يستندُ -عادةً- الوصف بالمقدس إلى سردياتٍ رمزيةٍ سابقة تُبرر استعمال هذا التكثيف الدلالي بوصفه يمتلك طابعاً استبعادياً لما سواه، هذه السرديات بطبيعتها تستضمر بُعداً ايديولوجيا تحاول بثّه وتسويغه وحمايته بكتلة دلالية من الألفاظ المُنتزَعة من سياقها الاستعمالي، وبعبارة لسانية: ما تَسِميهُ اللسانيات ب(أثر المعنى)، فاللسانيون ما انفكّوا من الإلحاح على فكرة أن معنى الكلمة يجب أن يسْمحَ بفهم الآثار التي ينتجها توظيفه السياقي، والتتبع التاريخي لجذر (المقدس) المزواج بين اللغة والدلالة، يجد أن اللحظة القرآنية الحاسمة في طبيعة الارتباط الدلالي وأثره في بلورة اللغة العربية بصيغتها المعطاة يرصد أن لفظَ المقدّس قد اُستعمل لوصفِ أرضٍ مخصوصة (3) مرات جاءت في خطاب من الباري لموسى (ع) في خطاب سياقي ديني بحت، ما أحاول قوله هنا، أنّ ترحيل هذا المفهوم بكلّ حمولاته الدلالية خارج سياقه الاستعمالي للحظة القرآنية بلا ضابط معرفي أدى إلى إعادة صياغة بشريّة لهذا المفهوم حملت طابعاً نفعياً احتكارياً، وهذا الاستعمال هو أقرب إلى حقل العلمانية منه إلى الأصل الديني القائم على التعبّد والعلاقة بالمقدس بوصفه المتعالي والطاهر، فالشعور بالمقدس تعرّض للتوظيف في مجالات سياسية بمعطيات دينية وهو توظيف نفعي دنيوي يرتدي جلباب الدين بمطالب مُعلْمَنة، يتبلور هذا المُشْكل في سياق التدافع الحاص في الفضاء السياسي الذي تشهده المنطقة والعراق على وجه خاص، فالدولة لا يمكن أن تُعيدَ إنتاج نفسها تحت فضاء التنافس مع المُقدّس البشري، وفي قدرتها على تسويق معنى للحياة في ظلّ اتساع الشعور بالخواء عبر توظيف المُقدّس وتكاثره من قبل فاعليين عملوا على اختراع مقدّسات لا - مكانية بوصفها أدوات تُستعمل للحصول على مطالب ترتبط ومفهوم العلمنة على نحوٍ لا شكّ فيه، هذا الاستعمال يجعل من خضوعهم للمساءلة أمراً في غاية الصعوبة وإن كان على المستوى التساؤل الذي يهدفُ للفهمٍ لا غير، فضلاً عن شيوع نزوع احتكاري لإطلاق هذا التوصيف من قبل جماعات الإسلام السياسي ونُدرته في أدبياّت الاتجاهات الإسلامية الأخرى، ليغدو هذا المفهوم المرتبط بالُطهرانية وسيلة من وسائل التنافس السياسي في ضوء التداخل الشديد الحاصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، إذ يجري استعمال الدلالات بقصدٍ معاكس لاستعمالها التداولي الذي يرتبط بإدخال المقام مرتكزاً أساسياً للتوظيف المعرفي الذي يحاولُ حصرَ المعاني وفق ضوابط مُحدِّدة بعيدا عن الذاتية والاستعمال المخاتل، هذا الاستعمال الذي لا يُصرّح بغايته الحقيقية في علْمنةِ مفهوم المقدّس ونقله من حقل إلى حقلٍ آخر مع الاحتفاظ بحمولاته الدلالية وتوظيفها في الفضاء الدنيوي العام والسياسي على نحوٍ خاص .

***

د. مؤيد عبد صوينت

 

يبدو للتتبع التاريخي الرائز للمقولات الشيعية إمكانية الكشف عن نسق مضمر من المضامين المنغرسة في الهيكل البنيوي للأدبيات الشيعية، وهو ما يفسر على نحو واضح طبيعة الثنائيات الحاكمة للفاعلية الشيعية ولاسيما في عراق ما بعد 2003، وإذا كانت الثنائيات متعالقة بشكل منهجي مع المقولات البنيوية، فإن طبيعة الثنائيات الشيعية هي أقرب إلى البناء الموازي منه إلى المقولات المنهجية للبنيوية، هذا البناء يقوم على ثنائية المركز- البناء وما يساوقها من اجتراح شيعي مواز، ففي حين يوسم القران الكريم بمركزية محورية في المعتقدات الإسلامية قدّم الشيعة الدعاء بوصفه مساراً موازياً كجانب تعبدي مع القران الكريم، فمن النادر أن تجد بيتاً شيعياً لا يحتفظ بكتاب أدعية –مهما كان سنده وصحة ما ورد فيه- بجانب القران الكريم، ومع أن القران الكريم ذكر الزكاة في عشرات الآيات إلا أن البناء الموازي قدّم الخُمس المذكور في آية واحدة مُختلف في تفسيرها كسلوك تعبدي يوازي الزكاة بل لعله أكثر أهمية في الادبيات الشيعية، ورغم أن الحج من فروع الدين عند الشيعة الا انهم قدموا الزيارة بوصفها البناء الموازي لفريضة الحج، وسطروا عشرات الروايات في فضل الزيارة رغم أن الحج مذكور في القران الكريم لا الزيارة، ويمكن تعميم هذا المعطى على ثنائية عيد الغدير بإزاء عيد الفطر والأضحى، والقسم بأبي الفضل العباس إزاء القسم بالله، هذا الإرث التاريخي انعكس على السلوك الشيعي تجاه الأسئلة الجوهرية التي واجهت التجربة الشيعية عند تعاطيها مع الواقع العملي وليس التعبدي فقط، فقدمت الأدبيات الشيعية الحوزة بوصفها بناءًا معرفيا موازيا للجامعة، وقدمت المرجعية بوصفها بناءًا موازيا للسلطة، وقدمت مدير مكتب الوزير بوصفه بناءًا موازيا للوزير، وقدمت الهيئات الاقتصادية بوصفها بناءًا موازيا للمالية -الدولة، وقدمت الفصائل المسلحة بوصفها بناءًا موازياً للجيش النظامي، وهذا البناء الموازي يمكن تتبع تمفصلاته حتى في ثنائية المسجد- الحسينية، ولعله يفسر الى حدّ ما قيام العشوائيات في المناطق الشيعية بدلا من بناء مدن حقيقية جديدة رغم أن مساحة الأرض المستغلة واحدة! فضلا عن تقديم الفاعل الشيعي لكل ما هو رثّ من أشخاص –سياسيين وإعلاميين – كبناء مواز للنخب والمؤسسات.

***

د. مؤيد ال صوينت

في المفهوم: ينصرف مفهوم التنوير من حيث المبدأ برأيي، إلى ضرورة اعتبار أن العقل الإنساني وحريّة الإرادة الإنسانيّة، هما المنطلق أو المصدر الرئيس لكل النشاط الفكري والعملي لحياة الإنسان، وبالتالي تأكيد ذات الإنسان واستقلاليتها، هذا إضافة إلى ضرورة الإقرار أيضا، بأن الظواهر بعمومها الطبيعيّة والاجتماعيّة المحيطة بالإنسان أو التي ينشط فيها لإنتاج خيراته الماديّة والفكريّة، هي ظواهر لا تقوم على الثبات والإطلاق، بل تقوم على الحركة والنسبية.

والتنوير وفقا لهذا المعطى، موقفا إشكاليّاً من حيث تحديد بدايته الزمانيّة والمكانيّة، وبالتالي تحديد مصدره الحضاري، بالرغم من كونه كشروع حضاري قد نمى وترعرع وتبلور في الغرب، وشكل فيما بعد أحد المكونات أو المقومات الرئيسة للحضارة الغربيّة في شقيها المادي والفكري معا .

من هذه المعطيات الأوليّة يمكننا القول: إن إرهاصات التنوير الفكريّة الأوليّة نجدها في الشرق، مثلما نجدها في الغرب أيضا، غير أن القطع الحضاري الذي حصل في السياق العام لسيرورة وصيرورة تاريخ شعوب الشرق استطاع أن يشكل فواصل واضحة المعالم ما بين معطيات حضارتي الشرق والغرب الفكريّة والعمليّة معا، ونظرا للظروف التاريخيّة الكثيرة التي منحت الغرب استقراره، ثم نموه وتطوره، فقد أعطي لحضارة الغرب بناء على هذا النمو والتطور سبقاً حضارياً كبيراً على  حضارة الشرق لازلنا نعيشه حتى هذا التاريخ، بالرغم من إيماننا بمسألة التلاقح الحضاري الذي تم بين الشرق والغرب عبر تاريخ التفاعل والصراع بين الحضارتين. لذلك بالعودة إلى بواكير الفكر العربي قبل الميلاد، نجد في الحقيقة ما يؤكد على أن الشرق قدم بعض البدايات الفكريّة التنويريّة، وهذا ما نجده مثلا في ملحمة "جلجاميش"، وهو الذي تعب من البحث عن سر الخلود ولم يحققه، فلجأ بعد عجزه إلى " نوتابتشم" يشكو همه، فرد عليه " نوتابتشم" قائلا:

متى بنينا بيتا يقوم إلى الأبد ؟ .

متى ختمنا عقدا يقوم إلى الأبد؟.

لم يكن هناك دوام وخلود منذ القدم !(1).

كما نجد مثل هذه البدايات التنويريّة في الوقت ذاته في الحضارة الغربية، وفي فترة ما قبل الميلاد أيضا، فهذا هيراقليطس يقول: (كما أنك لا تستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين فكذلك هي الحياة) .

عبر كل هذه المقولات وغيرها الكثير، نجد إشارات فكريّة عقلانيّة واضحة كل الوضوح قد تضمنتها هذه المقولات، وما يؤكد تلك  الملامح الفكريّة التنويريّة في هذه المقولات، هو ذاك التوجه العقلاني فيها الذي يؤكد على وعي الإنسان لواقعه عبر تجربته ومحاكمته العقليّة وتعامله مع المحيط المادي والفكري الذي أوجده بنفسه بعيدا عن أي اتكاء على فكر ديني، أو امتثال لقوى خارج نطاق وعي ومعرفة الإنسان بمحيطه وتجربته الحياتيّة الخالصة .

أما في القرون الوسطى فقد وجد في الشرق الكثير من الفلاسفة العقلانيين التنويريين ويأتي على رأسهم " ابن رشد" و"ابن حزم"، والفارابي، والكندي، وابن خلدون، مثلما وجد في الغرب توماس "الايكويني" و" المدرسيين"، الذين تأثروا بفلسفة " ابن رشد"، وهؤلاء جميعا وقفوا ضد القوانين والنصوص الجامدة في الفكر الديني، إيمانا منهم بالحركة والتطور ودور العقل الطبيعي لدى الإنسان.(2).  وفيما بعد جاءت الحركة الإنسيّة في أوربا التي جعلت الإيمان بالله قائماً على العقل الذي يدفع بدوره إلى ضرورة الإيمان بأهم خلق الله، وهو الإنسان وقدرته المبدعة على تشكيل هذه الحياة وإعمارها. وهذا الموقف للحركة الإنسيّة شكل فيما بعد فكريّا وعمليّا، حالة القطع مع الحضارة الشرقيّة من جهة، ووضع الأسس الثابتة لعصر التنوير في أوربا، الذي تبلور تماما مع القرن الثامن عشر الذي عرف بعصر التنوير من جهة ثانية .

عموما، لقد اشتمل مشروع التنوير في أوربا وفي إطاره العام على مجمل مفردات ما سمي بالحداثة والعقلانيّة والعلمانيّة والمجتمع المدني. أو بتعبير أخر، نستطيع القول: لقد خرج من عباءة التنوير الأوربي كل تلك الرؤى والمواقف الفكريّة والسياسيّة ممثلة، بالحريّة والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة والحق الطبيعي والدستور وحق الانتخاب والترشيح وتحرير المرأة والتعليم وسيادة واستقلال العقل والإيمان بالسببيّة والتجريبيّة والحسيّة وحرية الإرادة ورفض الوساطة الكهنوتية بين الله والإنسان وتأكيد الفردانيّة، وغير ذلك من رؤى وأفكار وقوانين راحت تعبر عن طموحات تلك القوى الاجتماعيّة المقهورة التي خضعت مئات السنين للسلطة الاستبداديّة التقليديّة، ممثلة بسلطة (النبلاء والكنيسة والملك). والتي أفرزتها – أي الرؤى والأفكار - تلك التحولات التاريخيّة العميقة التي انتابت أوربا منذ بدء انطلاقة الثورة الصناعيّة في القرن السابع عشر، هذه الثورة التي تمثلت بتطور الصناعة المانيفاكتوريّة وتحسن التجارة، وحصول حراك اجتماعي في بنية المجتمع الأوربي، مثله الفلاحون اللذين راحوا يهجرون الأرض ليلتحقوا بالمدينة وصناعاتها، الأمر الذي ساعد على تشكل الثروة المنقولة على حساب الثروة الثابتة (الأرض)، وبالتالي تشكل طبقتي العمال والرأسماليّة، اللتين راحتا تنافسان القوى الاجتماعيّة التقليديّة (النبلاء ورجال الدين والملك) على السلطة والمكانة الاجتماعيّة، هذه المنافسة التي توجت بثورات اجتماعية عديدة كان أهمها (الثورة الفرنسيّة)، التي مثلت عمليا انتصار الطبقة البرجوازيّة وحليفتها الطبقة الرابعة (العماليّة) على السلطة الاستبدادية ودحر القوى التقليدية، منتجة بذلك مرحلة تاريخيّة جديدة هي المرحلة الرأسماليّة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ.

بيد أن الملفت للنظر هو أن هذه الرؤى والأفكار التنويريّة لم تستطع أن تصمد عمليّا أمام مصالح الطبقة الرأسماليّة الضيقة والأنانيّة، هذه الطبقة التي راحت تفرغ هذه الرؤى والمواقف التنويريّة من مضامينها العمليّة، لتدفع بها باتجاه الشعاريّة، وبما يخدم مصالحها هي فقط دون النظر إلى مصالح القوى الاجتماعيّة المسحوقة التي زاد سحقها وقهرها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي واغترابها وتشيؤها واستلابها أكثر بكثير مما كانت عليه في المراحل التاريخيّة السابقة للرأسماليّة.

على العموم، لقد قلنا قي موقع سابق، إن ما قدمته الحركة الإنسيّة ثم عصر التنوير في أوربا من رؤى وأفكار تنويريّة، ومبادئ وتطبيقات عمليّة نهضويّة في مجال الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، ساهم في خلق حالة من القطع المعرفي والعملي معا بين حضارتي الشرق والغرب، كان من أهم نتائجه، هو تمايز الحضارة الغربيّة فيما بعد عن الشرقيّة،  وكانت أهم ملامح هذا التمايز هي:

في الجانب الثقافي (الفلسفي): كانت دعوة إلى العقلانيّة والوضعيّة. وفي الجانب السياسي: كانت دعوة إلى الديمقراطيّة والسلطة الدستوريّة ودولة القانون. وفي الجانب الاقتصادي: كانت دعوة إلى الحريّة الاقتصاديّة ومبدأ المنافسة الحرة. وفي الجانب الأخلاقي: كانت دعوة إلى التركيز على الفرد والمنفعة الدنيويّة. أو بتعبير آخر، إن ما امتاز به الغرب عن الشرق هو العمل على دعوة الفرد كي يأخذ مصيره بيده، ويتسلط على قدره بدلا من تسلط قدره عليه، أي أن يقوم بانتزاع الخير من الطبيعة، وإخضاع هذه الطبيعة لمشيئته من أجل تحقيق حريته وسعادته.

إذا كانت هذه هي معطيات التنوير في الغرب، فما هي  إذن معطياته وتجلياته في الشرق عموما ومنه وطننا العربي على وجه الخصوص؟.

معطيات وتجليات التنوير في عالمنا العربي:

يبدو أن سؤال النهضة والتنوير في وطننا العربي لم يزل هو ذاته السؤال الذي طرحه "الطهطاوي" عام /1834/ في كتابه (تخليص الإبريز..)، وهو ذاته السؤال الذي طرحته مجلة (الجنان) عام/1870/ (من نحن؟)، أو "سليم البستاني" (لماذا نحن في تأخر؟)، وكذلك أسئلة كل من " أديب اسحق، الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، قاسم أمين، شبلي شميل، أنطون فرح، ألقاسمي، الريحاني، رفيق العظم، سلامة موسى، التيزيني، الجابري، العروي، ياسين الحافظ، وغيرهم الكثير من المفكرين العرب، منذ بداية القرن التاسع عشر وصولا إلى بداية القرن الواحد والعشرين.

نقول: إذا كانت أسئلة النهضة والتنوير ظلت هي ذاتها تُطرح منذ أن بدأ العرب عبر كتابهم ومفكريهم يحسون بحالات التخلف المزري الذي يعيشونه، مقارنة بالغرب الذي أخذوا يلمسون حالات تطوره وتقدمه عبر مشاهداتهم المباشرة واطلاعهم على أدبياته الفلسفيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فإن الإجابات عن هذه الأسئلة كانت مختلفة ومتفاوتة في طبيعتها وإدراكها لعمق أزمة التخلف التي تعيشها أمتنا العربيّة عند هذا الكاتب أو المفكر أو ذاك. وعلى الرغم من أن طبيعة الإجابة وتحديد مكامن الأزمة، قد ارتبطت بالمواقف الفكريّة أو الأيديولوجيّة للكتاب العرب ومفكريهم الذين انقسموا ما بين أصولي ديني متطرف، وجد العلة في الابتعاد عن الأصول الدينيّة، والرافض في الوقت نفسه لأي انفتاح على الغرب الكافر حسب رأيه. أو رجل دين معتدل آمن بضرورة الوقوف عند معطيات الحضارة الغربيّة والأخذ منها ما هو نافع لهذه الأمّة وغير ضار بدينها وأخلاقها. وبين كاتب ومفكر علماني آمن بالفكر القومي واليساري وضرورة الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه فيما يخدم نهضة هذه الأمة وتقدمها.

نقول: بالرغم من هذا التفاوت بين حضارة الشرق والغرب، إلا أن هناك قناعة مشتركة لدى الكثير منهم بأن هذه الأمّة مأزومة بتخلفها الشمولي، هذا التخلف الذي عبر عن جانبه الفكري والاجتماعي والسياسي الشيخ "رشيد رضا" عام /1898/ بقوله: (.. حتى أصبح الجبر توحيدا، وإنكار الأسباب إيمانا، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفرا وإلحادا، وإبداء المخالفة في المبدأ دينا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافة صلاحا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية، والذل والمهانة تواضعا، والخنوع للذل والاستسلام للظلم رضا وتسليما، والتقليد الأعمى لكل متقدم علما وايقانا.)(3). أما عن جانبه الاقتصادي فقد عبر عنه المفكر النهضوي "فتحي زغلول" عام/ 1899/ بقوله ": (.. نحن ضعفاء في كل شيء تقوم به حياة الأمم، متأخرون في كل شيء عليه مدار السعادة.. ضعفاء ي الزراعة، ضعفاء ي الصناعة، وليس منا إلا الفعلة والعتالون ومنفذو إرادة الأجنبي، ليبقى هو، ونموت نحن ليحيى، هذه المعامل الفسيحة والمصانع العظيمة التي أقيمت بين بيوتنا كلها للأجنبي.. – ثم يتابع – نحن ضعفاء في التجارة، ضعفاء في العلم، اللهم إلا علم مداره جهل حقائق الأشياء في الوجود، أما المفيد فيه فقد اقتصرنا على ما يختص بعلاقة الإنسان بربه، والباقي حكمنا عليه كله بالإعدام) (4).

هذا في الوقت الذي أبصر فيه الكثير من هؤلاء الكتاب والمفكرين النهضويين العرب الأسباب الحقيقية الكامنة وراء أزمة التخلف هذه، فكانوا بدورهم يقترحون الحلول المناسبة لتجاوزها، ولكن كلاً من موقعه الفكري والطبقي ودرجة ونوعيّة ومرجعيّة ثقافته. الأمر الذي جعلنا نعمل على اصطياد هذه الأسباب والحلول اصطيادا في تلك المواقف الفكريّة النهضويّة التنويريّة التي جاءت متفرقة هنا وهناك عند هؤلاء الكتاب لنصل إلى نتيجة في هذا السياق تشير، إلى أن أهم أسباب الأزمة مجتمعة هي: التخلف الاقتصادي عموما – زراعة وصناعة وتجارة- لا سيما سيادة أنموذج الاقتصاد الريعي والأبوي، وضعف التطور التكنولوجي والعلمي، وغياب الأنظمة الدستوريّة ودولة القانون، وسيادة الطبيعة الاستبداديّة لأنظمة الحكم القائمة على مفاهيم "الدولة المملوكيّة"، والأميريّة الإقطاعيّة العسكريّة ومرجعياتها التقليديّة - العشيرة والقبيلة والطائفة –، إضافة لسيطرة الغرب بشكل مباشر أوغير مباشر على الأنظمة السياسيّة العربيّة ومقدرات الشعوب وربطها بالمتروبول، وعدم امتلاك هذه الأمّة للكثير من العلوم البرانيّة التي يقوم عليها مدار حياة الأمم على حد تعبير" الطهطاوي"، وقد حددها آنذاك بـ/14/ علما نذكر منها،علوم التربية والحقوق الطبيعيّة والوضعيّة والعلوم العسكريّة وعلم الميكانيك وعلم الكيمياء..الخ، وهناك أيضا غياب القوى الاجتماعية الواعية لذاتها المناط بها العبء النهضوي والتنويري (الطبقة الواعية لذاتها)، واقتصار هذا العبء على شرائح الانتلجنسيا التي غالبا ما دخلت وتدخل في حالات صراع مع السلطات السياسيّة القائمة، وهناك غياب دور المرأة واضطهادها تحت ظل سيادة المجتمع الذكوري، وانتشار الأميّة بكل دلالاتها ويأتي على رأسها أميّة الحرف، وغياب الحريات في كل اتجاهاتها بدءا من حريّة الرأي، مرورا بالحريّة السياسيّة وصولا إلى الحريات الإبداعيّة في الأدب والفن، وغياب التفكير العقلاني والنسبي، وانتشار التفكير الجبري ولامتثالي والاطلاقي، إضافة إلى انتشار الفقر والظلم والاستبداد، وغياب الرأي والرأي الآخر ومقومات الحوار الإبداعي المثمر، وغير ذلك الكثير من الرؤى والأفكار التي حددت معوقات التنوير والنهضة العربيّة .

أمام هذه المعطيات التي حددت أساب أزمة التخلف العربي، نجد في المقابل تلك الرؤى والأفكار النهضوية التنويرية التي راحت تطرحها النخب المثقفة ذاتها من كتاب ومفكرين عرب، وفي الفترة ذاتها أيضا كما أشرنا في موقع سابق، والتي نستطيع تحديد أهمها بالتالي:

الدعوة إلى تطبيق شعارات الحريّة والعدالة والمساواة، ووضع دساتير وضعيّة للبلاد تتناسب وتطلعات الشعوب في تحقيق حالة المواطنة، والتخلص من الأميّة، وتعميم المدارس لنشر التربية والتعليم بين أفراد الشعب، إضافة إلى تطوير الاقتصاد من خلال تنمية الزراعة والصناعة والتجارة، والمطالبة بحريّة الرأي والصحافة، والتأكيد على حريّة المرأة ومساواتها بالرجل، ومحاربة الاستعمار بكل أشكاله وأساليبه، والدعوة إلى العلمانيّة والحد من نفوذ القوى التقليديّة في المجتمع العربي من عشائريّة وطائفيّة وقبليّة ومذهبيّة، ونشر وتعميق الممارسة الديموقراطيّة السياسيّة والاجتماعيّة، والتصدي للفكر الرجعي ولامتثالي بكل أشكاله وأصوله، والعمل على نشر وتعميق الفكر العقلاني والعلماني، والتمسك بالقيم الدينيّة العقلانيّة السمحة، وكذلك الدعوة إلى الوحدة العربيّة ومحاربة التجزئة والاستغلال الاجتماعي والاقتصادي وتطبيق العدالة، وغير ذلك من القضايا التي شكلت المعطيات الفكريّة للمشروع التنويري النهضوي العربي.

على العموم، إذا كانت هذه هي معطيات التنوير في الفكر العربي ممثلة في حواملها الاجتماعيّة النخبويّة وشعاراتها أو رؤاها وأفكارها، وبالتالي ظروفها الموضوعيّة، فإن إشكالاتها تكمن كما يبدو لنا في طبيعة هذه المعطيات ذاتها، وبخاصة على مستوى حواملها الاجتماعيّة، التي لم تستطع أن تقدم مشروعاً فكريّاً متكاملاً ومتجانساً بل ومنسجماً مع ذاته ومع الظروف الموضوعيّة المحيطة بهذا الحامل، كون هذه الحوامل لم تنشأ عن خلفية أيديولوجية أو عقيدة أو ولاءات سياسيّة وطبقية واحدة، أو حتى تحقيق تصور منسجم تجاه جملة الظروف التي كانت ولم تزل تعيشها البلاد العربيّة.

إن فقدان هذا الانسجام في التصور والهدف والعقيدة الفكريّة والطبقيّة لدى هذه الحوامل الاجتماعيّة، جعلها في واقع أمرها تلهث وراء الحدث السياسي، وبالتالي التقلب في رؤاها ومواقفها الفكريّة بما يتفق وطبيعة هذا الحدث السياسي القائم أو ذاك، لذلك غالبا ما نجدها تميل تارة إلى العقلانيّة والعلمانيّة في حالات الانفراج السياسي وتطبيق الدستور من قبل السلطات القائمة، و نجدها تارة أخرى تميل إلى القوميّة والوطنيّة في حالة المد القومي، أو تميل إلى النزعة العثمانية / التركية عندما تفرض سياسة التتريك، أوهي مع الاستبداد المستنير في حال سيادة الحكم المطلق، وغير ذلك. هذا ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى مسألة مهمة بالنسبة للفكر التنويري النهضوي العربي، التي تشكل أيضا أحد إشكالات هذا الفكر ولم تزل، وهي أن معظم هذه الأفكار التنويريّة لم تكن نتاجا طبيعيّاً للواقع العربي، وإنما هي في معظمها رؤى وأفكار التنوير الغربي التي تأثر بها الكتاب والمتنورون العرب الذين درسوا في الغرب، وعملوا على نقل وترجمة  قسم كبير منها بشكل ميكانيكي إلى الساحة الثقافيّة والسياسيّة العربيّة، لذلك ظل في الواقع قسم كبير منها مفارقا لظروف الواقع العربي الموضوعيّة والذاتيّة معا، الأمر الذي يجعلنا نجد أن قسماً كبيراً من هذه الرؤى والأفكار الذي طُرح منذ بداية القرن التاسع عشر، لم يزل هو ذاته يُطرح حتى هذا التاريخ من القرن الواحد والعشرين، وهذا بالذات ما طبع المشروع التنويري النهضوي العربي بطابع الشكلانيّة، وَحَوَلَ الكثير من شعاراته العقلانيّة إلى شعارات وصفية لا أكثر.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.................................

الهوامش:

1- عويد . عدنان - (التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب). إصدار دار التكوين، دمشق، 2011.   ص6 .

2- الافـكار والمفـكرون في فـترة العصور الوسطى، المرجع الالكتروني للمعلوماتية –

https://almerja.com › readin

3- المصدر ذاته، ص11.

4- المصدر ذاته، ص12

لاستزادة في هذه الدراسة، يراجع كتابنا: (التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب). إصدار دار التكوين – دمشق – 2011.

قد لا اكون مبالغا اذا قلت ان عصر التنوير في التاريخ العربي الاسلامي قد بدأ مع واصل بن عطاء، (700 – 748م)، حين حاول الموازنة بين طرفين متعارضين، معتمدا التفسير العقلي للظواهر، فلقد شاع حينذاك كلام كثير حول مرتكب الكبيرة (القتل، الزنا ..) هل هو مؤمن ام كافر، اذ ذهب فريق الى ايمانه وذهب اخر الى كفره، وكلاهما اخذ بأحد طرفي المعادلة التي ترى الاشياء بيضاء بياضا تاما أو سوداء سوادا تاما، في اطار مثالية مطلقة، وحين جاء رجل يسأل الحسن البصري في مجلسه في البصرة، وكان واصل في حينها تلميذا لدى الحسن البصري، هل مرتكب الكبيرة مؤمن ام كافر؟ تصدى له واصل بن عطاء فقال : ليس يؤمن وليس بكافر، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، اي بين منزلتي الكفر والايمان .

ومن هنا بدأ العصر الفعلي لزمن التنوير العربي / الاسلامي، لان واصل بن عطاء ارتكز الى العقل في تحديد الملامح لمرتكب الكبيرة . ان المنزلة بين المنزلتين مقولة عقلية تتوسط بين طرفين متعارضين،ولعلها تذكرنا بمفهوم الاوساط اليونانية، بان الفضيلة تقع بين رذيلتين، فالكرم يقع وسطا بين رذيلة البخل ورذيلة الاسراف .

وهذا موقف اشاده مفكر تجاسر على موقف استاذه الفكري، الامر الذي يقتضي الانفصال عن مجلس استاذه وحلقته العلمية، لان سلوك الانسان وليد تفكيره، ومن ثم اشاد واصل بن عطاء مجلسا خاصا به، وتبعه على الفور عمرو بن عبيد، وبذلك تأسست المعتزلة حول نواة (المنزلة بين المنزلتين) .

كان فكر المعتزلة يوافق العلم والعقل، بخلاف الفكر السلفي المتدهور الذي يحاول ابقاء الامور كما هي عليه باعتماد الثبات على النقل دون تحليل أو تفكيك .

واذا كان التنوير الغربي قد نشأ انطلاقا من معرفة الذات، اي البدء بالذات الى الاخر، والى العالم، مرورا بالكوجيتو الديكارتي (انا افكر اذن انا موجود) فان التنوير العربي / الاسلامي نشأ حول مقولة (المنزلة بين المنزلتين) التي تخفي وراءها موقفا خاصا لمفكر يشبه ربما الكوجيتو الديكارتي.

***

الدكتور كريم الوائلي

ترجمة عن الألمانية: رضوان ضاوي

تركزّ الفيلسوفة الإسبانية مارينا غارسيس Marina Garcés 1 في أعمالها على التفكير النقدي المعاصر، فكرّست له أيضاً عملها الجديد الذي تُرجم إلى اللغة الألمانية في 2019 بعنوان "التنوير الراديكالي الجديد"2. وتمارس غارسيس في هذا البحث نقدها للتفسير الأيديولوجي للعقل ضمن تقليد مدرسة فرانكفورت، وتلوم هذا التفسير الإديولوجي للعقل بأنه هو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم: إلى نقطة تاريخية للمعرفة العامّة بالدمار الذي يعرفه العالم. في مدخل هذا الكتاب، تقتبس المؤلفة الإسبانية من العمل الأساسي لثيودور فـ. أدورنو / ماكس هوركهايمر "جدلية التنوير" النص التالي: "لقد سعى التنوير بمعناه الأوسع للفكر التقدمي دائمًا إلى هدف إزالة الخوف من الناس واستخدامهم بوصفهم سادة. لكن الأرض الكاملة المستنيرة تضيء في ظل علامة شرور غالبة"2. كل المعرفة المتاحة لنا كافية لإبطاء العمليات التي بدأت. ولهذا تقترح المؤلّفة تنويرها الراديكالي الجديد: "أنا أؤيد استئناف الكفاح ضد السذاجة وسرعة التصديق والإيمان بحرية وكرامة التجربة الإنسانية؛ أي أن الإنسان قادر على أن يتعلم الدروس من نفسه".(Garcés S.14)

يتنبأ هذا العمل بانقضاء زماننا الصالح للعيش، وبمعرفة ذلك نعاني من أكبر عجز: ألا وهو عدم القدرة على التدخل في ظروفنا المعيشية. نحن الأشخاص الذين وقعوا هنا في نوع جديد من العبودية من خلال مجتمع المعرفة والمعلومات، لم يعد بإمكاننا مواكبة التعقيد الذي نخلقه بأنفسنا. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحررنا من هذا العجز "... هو صراع الفكر ضد المعرفة الراسخة وسلطاتها، صراع الفكر الذي يبلّغ القناعة التالية: يمكننا أن نصبح أفضل من خلال التفكير، وأن ما هو جدير حقاً بالتفكير هو ما يساعد عليه بطريقة أو بأخرى". (Ebd., S.48)

بالنسبة لغارسيس، محاربة السذاجة تعني محاربة المطالبة بالسلطة. وللقيام بذلك، وفقًا لتقليد أدورنو/ هوركهايمر، يجب أن يتعرض العقل نفسه للنقد. في هذا السياق، من المهم التشكيك في تعريفنا للمعرفة، وفهم وتحسين علاقتنا بالبيئة؛ هذه هي المعرفة. (Ebd., nach S.61). تصف الناقدة الإسبانية ما يولده علمنا من معرفة، وما يؤدي إلى الشعور بالعجز عندنا، بـ"الأمية المستنيرة". (Ebd., S.72) يجب أن نعيد الاتصال بالعالم الذي سمحنا لأنفسنا بالانفصال عنه. وفقًا لغارسيس، فإن الآليات التي تمر دون أن يلاحظها أحد لتحييد النقد هي: "الاهتمام المشبع، وتقسيم الجمهور، وإقرار وتثبيت اللغات التقنية، وسيادة تحليل البيانات من أجل تحسين العالم. " (Ebd., S.79) الانتباه المتخم يدل على التشبع الزائد. مرشحاتنا لم تعد تعمل. نحن غارقون في بحر المعلومات. العجز والارتباك وفقدان البوصلة والاكتئاب هي ظواهر العصر. تفتيت المعرفة، وتبني الآراء الجاهزة نتجت عن هذا الحمل الزائد. وإذا ظهر ما يسمى بـ "الفقاعات"، حيث يتحرك المرء بينما يؤكد باستمرار نفس المحتوى، فإن هذا يمكن مقارنته بالتغاير الكانطي، وهو تعريف الأجنبي الذي نختاره بأنفسنا. كل هذا يسير جنبًا إلى جنب مع تثبيت اللغات التقنية وتوحيدها في المجالات العلمية، مما يجعل كل علم على حدة يفقد إمكانية التواصل مع باقي العلوم.

الحل إذن في المدينة الفاضلة من وادي السيليكون. هنا يتم تفويض الذكاء إلى ذكاء اصطناعي، الذي يجب أن يكون أقل عرضة للفشل من الذكاء الإنساني. ومع ذلك، وفقًا لغارسيس، هناك شيء واحد لا يستطيع هذه الذكاء فعله: التشكيك في ذاته بشكل نقدي. وإذا كان هناك اقتراح تطلعي، فإنه يعتمد على حقيقة أن الإنسان - بغض النظر عن مدى محدودية استخدامه - قادر على الأقل على الحكم على نفسه بشكل تأملي ونقدي ذاتي، وإجراء تحولات في النموذج، وتقديم تفسيرات أخرى للإنسان والعالم. لذلك فهو مطالب بإعادة التفكير، والتفكير التقدمي بوصفه نقداً؛ أي التنوير الراديكالي الجديد.

في هذا الكتيب تم سرد الكثير من الأمثلة: العصور القديمة، والنهضة، والعصر الحديث؛ والشعارات، والطاوية، والعلم؛ وروسو، وأدورنو، وهوركهايمر وغيرها. يعتبر هذا الكتيّب ممتعًا للغاية ومحفزًا للغاية، ويحاول في 120 صفحة استخدام نظرية العلم ونظرية المعرفة بأكملها بوصفها نموذجاً لانتقاد المواقف الراهنة، وهو طموح مشروع رغم الحيّز القليل المكرّس لهذا المشروع النقدي. ومع ذلك: "العلوم الإنسانية التي تمر بمرحلة انتقالية، بدلاً من العلوم الإنسانية المحتضرة." (المرجع نفسه، ص. 95). هذا يعني أن هناك حاجة إلى نقلة نوعية. وربما يمكننا أن نتطلع إلى المزيد من المنشورات لهذه الفيلسوفة الإسبانية. فرضيتها الرابعة حول العلوم الإنسانية المتغيرة تقول: "إن أهم حقيقة معرفية في عصرنا -من أجل المصير المشترك للبشرية- هي إعادة اكتشاف استمرارية الطبيعة - الثقافة". (Ebd., S.116, Hervorh. Im Original).

***

.................

مصدر النص:

https://literaturimfenster.blog/2020/01/12/marina-garces-neue-radikale-aufklaerung/

هوامش:

1- الفيلسوفة الإسبانية مارينا غارسيس أستاذة الفلسفة المعاصرة في جامعة سرقسطة.

2- Marina Garcés: Neue radikale Aufklärung. Verlag Turia + Kant, Wien, 2019. Originalausgabe: Nova il lustració radicale, Barcelona 2017.

3- Theodor W. Adorno/Max Horkheimer: Gesammelte Schriften, Band 3, Suhrkamp, 1997, S.19.

 

طبيعة الإنسان وحدوده لا تمكنه " أن يعربد مع الله دائمًا" كما يقول حافظ الشيرازي، ولا يمكنه أن يعيش التعارض والتصادم المستمر مع الحياة وتساؤلاتها الحرجة وقضاياها وهو يتسلح بمدونات ومعارف لبت طموحات عصرها، ولكنها تضخمت بالتدريج وتجاوزت حدودها في اللامعقول وصلاحيتها في البقاء، فينبغي لها أن تنحسر وتطوق، ليكتشف الإنسان مجاله الدينيَّ وحدوده وإيمانه مرة أخرى، بلغة التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي.

يشتغل الباحث المعاصر في مجال العلوم الدينيَّة بحقول ومنهجيات متنوعة، يستهدف غايات عدّة أبرزها تجديد الإيمان، وبالمجمل يعمل بمسارين: الأول: ينغمس في التراث ليعيد إظهاره من جديد، وكل ما يتطلبه هذا الأمر هو التوغل في وسط الركام الهائل للمدونات- الكلامية والفقهية والتفسيرية وو- والغرف منها بوصفها الإطار المرجعي في التفكير والحياة، من دون أن يسمح لنفسه باختبار قدرتها على الوفاء بوعودها باستيعاب متطلبات الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في سياقات الحاضر واشتراطاته. والبحث في زوايا هذه المدونات وتأثيرها على صناعة التوحش والكراهة أو الاغتراب أو هشاشة التفكير وأنساقه المضمرة. فتجده مفتشًا ومنقبًا في الأرشيفات والمخطوطات القديمة، ومعلقًا عليها بالأسماء والالماحات والأماكن والأحداث، ومحققًا لبعضها على الطريقة الفيلولوجية القديمة، وبذلك يُعيد رسم اللوحة نفسها التي رسمها التراث مع توضيحات وترميمات هنا وهناك. فتستزف الطاقات ويجف النص بالتكرار المزمن لمعاني مطوقة مسحوبة من الماضي.

وأما المسار الثاني: فهو الذي يرى في الدين ضرورة لاعتبارات مختلفة إِلَّا أنّه يدرك أن الدين وقع في التباسات التاريخ واللغة والفكر والتجربة، وتفاعل معها، فانصهرت فيه الآفاق المعرفية والأزمان معًا على حد تعبير غادامير. وبذلك يشتغل على ترجمة لغة التراث ومنهجياته ومدوناته إلى لغة المرء الخاصة أو لغة الواقع الخاص. فيميل إلى إحياء التراث بلغة ثانية ومنهج مختلف، فيختار التأليف النقدي مستخرجًا من ملفات التاريخ ووثائقه الأسس الفكرية والنظريات والأصول والمسالك ويخضعها للبحث الدلالي واللالسني وللتحقيب التاريخي لفك جدلية النص والواقع فيها. وهذا يستوجب منه الاطلاع على الإنتاج الدخلي، والإنتاج الخارجي. فيمارس اجتهاده الداخلي بمتابعة ما هندسه القدماء من نظريات واصطلاحات ومناهج. واجتهاد خارجي يتتبع فيه الإنتاج الهائل في العلوم المتداخلة من ألسُنية وانثروبولوجية وسوسيولوجية وعلم النفس والنقد الأدبي والتاريخ وو. ليدخل بذلك المتخيل وتأثيراته، والأسطورة وسلطانها في الجوانب الانفعالية وتداخلها في المعتقد الديني، أو الحقائق السوسيولوجية الكبيرة والتي عاشت مهملة منسية في الدراسات. وهذا يعني أن الباحث المعاصر انتقل من المدونات المكرسة للايديولوجية ولو بمستوى ضمني إلى المدونات الخاضعة للتفهم والنقد والقطيعة. ومن ثَّم، فان الاطلاع على الآخر وما قدمه أصبح ضرورة من ضروريات الدين وفهمه.

والمسار الثاني في خطوته الأولى يتحتم عليه تجاوز الأحكام المسبقة على الآخر، وزحزحة النموذج الجاهز، والسلبية الموروثة في الحكم، بفتح المسارات والآفاق القائمة على الدراسات العلمية المقارنة لتجاوز روافد المعنى – الدينيَّة والعلمانيَّة- للدخول في معطيات المعرفة التكامليّة المتنوعة برؤية تاريخيّة نَقْديّة. عندها يمكن أن نجد الباحث الجاد يدافع عن العلمانيَّة وينقدها أيضًا، ويدافع عن النموذج الإسلاميَّ وأنسنتة وتجربته الروحية الكبيرة، مع تركه لمسافة نقدية يسمح من خلالها للنظر في قيمته وبنيته وأدواته وحجم التوظيف الأيديولوجي في تراثه. وهذا يساعد على تقريب المسافة بين علوم الدين ومعارفه وبين معارف الإنسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهر الدينيّة وتمثلاتها في النصّ والتجربة.

والمحزن- في ثقافتنا الحالية- أن هناك الكثير من الارتياب بفعالية هذا النوع من الدراسات، وتعرضها وأصحابها لأحكام التَشنيع والعيب، والتشكك في مشروعيتها، قد يبلغ حدّ التكفير أحيانًا، لأن حجم الممنوع التفكير فيه غير قليل فلا زالت جامعاتنا ومكتباتنا ومؤتمراتها تعيش تحت وطأة الكتابات التشريفية والتفخيمية والتجبيلية التي تقوم على الأجر والثواب. نعم قد تبدو بعض الآراء غريبة وغير مألوفة على القراء الذين ينتسبون إلى حضارة مغايرة، وإلى فكر ديني مخالف، ومع ذلك فهي تمثل اجتهادات البشر اعتمادًا على الأديان السماوية، أو استقلالًا عنها. قد تخطئ، وقد تصيب، لأنها تصورات إنسانية تعكس أوضاع الإنسان وأنماط حياته وطبائع العمران. ألم يلمح ابن خلدون إلى أن أنماط الفقه ترتبط تارة بالحضارة وتتلون بها، وتارة بالصحراء والبداوة، ولا بد من التفريق بينهما.

مؤشر الدراسات يؤكد أن أبرز عوامل تهافت الدول والحضارات هو انعزالها وعدم اتصالها مع حضارات أخرى والانتفاع بتجاربها الفكرية والعلمية. فديمومتها بمقدار اتصالها وإفادتها من الآخر دون التموضع والسكون في بيئة ثقافية محدودة. يقول الدكتور محمد عابد الجابري:" كان من الممكن في العصور الماضية, أن تقوم حضارة وتنمو بفعل تطورها الداخلي ثم تتوقف وتنقرض. قد تدخل في اتصال مع حضارات أخرى ولكن اتصال محدود كما هو شأن حضارات الشرق القديم."(1)

نمط الحياة اليوم يختلف عن السابق، لم يعد الإنسان كما عرفته الفلسفات القديمة، كائنًا عاقلًا يلبث حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء، أو يكون جزءًا لشيء، بل صار الإنسان في المفهوم الحديث كأنه جزءٌ من كل. أنه سندبادي، يتلقى مختلف الثقافات في الآن نفسه، من دون أن يغادر موطنه. أنه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسها هلامية، حدودها واهية، أمكنتُها متداخلة، ثقافاتها ملونة، هويتها تركيبية(2).

ولذلك يقول طه حسين- في مقدمته لرواية آلام فارتر لجان غوته- وهو يتحدث عن أهمية الترجمة: " لعل حاجتنا إلى النقل والترجمة لم تبلغ قط من الشدة ما بلغته اليوم، فنحن في عصر انتقال من طور إلى طور. وأخص ما يميز عصور الانتقال الظمأ إلى العلم بكل شيء، والرغبة في تعرف كل شيء. يسأم الشعب في هذا العصر ما ألف قراءته من كتب.. وقد كان يحسب نفسه كل شيء فإذا هو يشعر بأن على الأرض شعوبًا أخرى تقاسمه الحياة وتشاطره ما اشتملت عليه من لذة وألم، ومن سعادة وشقاء، وأن هذه الشعوب قد اتخذت لنفسها من نظم والسياسة والاجتماع، ومن مناهج البحث والتفكير، ما لم يألفه ولم يهتدي إليه(3)."

فلا مفر للإنسان من معرفة الآخر، وفهم تجربته ووعيها والإفادة منها، بل وتقييم تجربته بالنسبة لتجارب الآخرين، يقول السيد محمد حسين الطباطبائي متسائلًا: " يقول بعضهم: " إن جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة (عليه السلام) فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة ؟ "فيجيب في بعض أجوبته اللذيذة: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والإعراض عن الحق بغضًا لحامله ليس إلَّا تعلقًا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليهم السلام.(4)" إن هذا النص الذي يحرر فيه الإنسان من التصورات الضيقة والموروثة ليصبح أكثر قدرة على مواجهة مشاكل الحياة ومفارقاتها جدير بالتأمل والتعزيز، "فمن يعرف لغةً واحدةً لا يعرف أي لغةً." كما قال غوته (شاعر ألمانيا وفيلسوفها). نعم من يعرف ثقافة وحضارة ودين ونمط حياة واحد لا يعرف أي دين أو تجربة حقيقية. وهذه المعرفة التواصلية ليست لتسجيل النقاط والإدانة كما يجري في المناوشات الكلامية التي يحترفها البعض كمهنة، بل البحث عن إنسانية إيمانية متدفقة بالجمال والقبول بالآخر وعبور التراث المحنط والغليان الأيديولوجي الذي تعيشه مجتمعاتنا، ليُهيئ بذلك البناء التحتي للتعدد والكثرة وللتعايش والحوار في أكثر من مجال وصعيد.

في السابق كانت اتجاهات التسامح تدعو إلى تحمل الآخرين والصبر على وجودهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية، أما اليوم فالعالم يتقدم خطوة إلى الإمام ليتجه- وبسرعة- نحو الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف، ويريد فهمه وتحليله على ما هو عليه، ليتسع التعدد فيه إلى ما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقيقة نفسها. ومن أبرز مباني ومرتكزات هذه القراءة هو في تنوع الفهم الديني فيها وتكثره. " ففهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة (5)."

فهذه أوربا لم تخرج من مسلماتها التراثية وتستفيق إِلَّا بعد أنّ فجرتهُ من الداخل بالتنقيح والنقد والإفادة من الآخرين وعلومهم، والاعتراف بشجاعة عن انتهاكاتها الدينيّة." فالحركة المتواترة لتاريخ الغرب وقوتها تكمن في قدرتها على الخروج من الأزمات ليتقدم كثيرًا حتى يواجه عائقًا جديدًا. على عكس العقل الدوغمائي الذي يبدو وكأنه يستغل لحظات تأزم القيم والإيديولوجيات من أجل إعادة التأكيد على صحة مبادئه وعدم المساس بتعاليمه التي تشمل كل ثوابت الوضعية الإنسانية مثل الحياة والحب والعدالة والأمل وأنساق اللامساواة والنفوذ والعنف والإيمان والموت وو. هذا ما يسمى بـ "عودة الديني" بأشكال مختلفة حسب الظروف التاريخية والأوساط الاجتماعية الثقافية (6)."

من يقرأ الفكر الدينيّ الغربيّ ومراحل تطوره وإصلاحه يدرك حجم الانفتاح على الآخر وتجاوزه بالنقد والقطيعة. وبلمحة سريعة ترجمة الفكر الديني الغربي أجزاءًا من كتاب الشفاء لابن سينا من المنطق والطبيعيات والإلهيات وإحصاء العلوم للفارابي، وينبوع الحياة لابن جبرول، ورسالة العقل والمعقول للكندي، ورسالة قسطا ابن لوقا في الفرق بين النفس والروح، ومقاصد الفلاسفة للغزالي، وكتب الفلك لمحمد البتاني، وأحمد بن كثير الفرغاني، وأبي معشر وغيرهم، بل ورأى أساتذة أكسفورد(1352) في كتاب "المناظر" لأبن الهيثم نموذج العلم الذي فاق طبيعيات أرسطو. وأصبحت الفلسفة الأوربية في القرن الثالث عشر هي مواقف متنوعة من أرسطو وابن سينا وابن رشد. وحركة الإصلاح الديني في الوعي الأوربي لم تكن بعيدة عن النموذج الإسلامي الذي انتشر في الفلسفة المدرسية المتأخرة، ومنذ الاتصال بالمسلمين عبر الحروب الصليبية ونقل العلوم الإسلامية، فقد تعلم لوثر العربية، وظل النموذج الإسلامي القائم على العلمانية وغياب الكهنوت أحد نماذج الإصلاح المسيحي واليهودي(7).

هذه المسيرة الطويلة من التأثر والإفادة تجاوزتها أوربا بالاجتهاد والنقد والنقاش ونحن لا زلنا لم نتجاوز الغزالي والمفيد والعلامة الحلي وابن تيمية، لنضعهم على محك النقد التاريخي الصارم لنتبين التركيبات التيولوجية بكل أنواعها (علم الكلام، والفقه، والحديث، والتفسير وو).

والمؤسف أنّ ثمة قطيعةً معرفيةً ساكنة فينا تعيشها قراءاتنا ومؤسساتنا الدينيّة مع الآخر ومنتجه الفكري فما زلنا نعتقد- توهمًا- أن علومنا تمتلك مفتاح المغاليق لكل شيء، فيما العالم مستغرق في بحوثه العلمية ومنهجياته التي قطع فيها أشواطًا للعمل والاشتغال على إعادة الاعتبار للإنسان والمجتمع بكلا بعديه المادي والروحي لتعينه على مفارقات الحياة.

ومثال صغير للتدليل على قطيعتنا مع الآخر ومنجزه ما سمعته قبل أيام من أحد الاخوة (من الوسط الحوزوي) يقول: أن أحد زملائي سأل أحد الأساتذة المرموقين في المجال الفلسفي (وهو الشيخ جوادي آملي) سأله عن نظرية جون لوك في مجال نظرية المعرفة. ما رأيها فيها ؟ فقال له: بأنه لا يملك اطلاعًا عن واقع عصر النهضة الأوربية، وعليك بالذهاب إلى الشيخ مصباح اليزدي."

إن هذا الحدث يمكن عدّه ظاهرة متوفرة تحكي مقدار القطيعة التي تعيشها الأوساط العلمية مع الآخر وحداثته ومكتسباته وفكره وتجربته. وتعكس حجم المطالبة بخصوصيّة إسلاميّة وأصالة عقلية مطلقة يتجنب فيها ما أبدعه التفكير الغربي والبحث العلمي الحاصل خارج دائرة المعارف الإسلاميَّة. إن هذا الرفض لا يخرج عن محددات الرؤية الأيديولوجية ولا علاقة لها بالواقع التاريخي والفكري، لأن المفكرين القدماء كالغزالي وابن رشد وابن سينا والخواجة الطوسي وو أقبلوا على تكشيف علوم الأوائل ولا سيَّما الفلسفية اليونانية مع علومهم الدينية، وتفحصوها جيدًا، ولم يعيبوا على الذين تبنوا هذه العلوم إِلَّا فيما يتعلق بالقضايا الحرجة كالسببية أو خلق العالم وبعث النفوس ونحوها.

ومن المفارقة أن منطق أرسطو المستعار من الغرب (اليوناني) في الماضي، والذي مازلنا نتعامل مع منطقه بوصفه مسلمات نهائية، نجد أشدّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربية الحديثة والمعاصرة. وكأن معطيات العقل التي استوردها الآباء من أوروبا أمس يحرّم على الأبناء التعاطي معها في صيغتها المتطورة اليوم بعد مرور أكثر من 2300 عام على تأليف أرسطو ( 384 ق.م  - 322 ق.م) لمنطقه في أثينا. لو صحّ توصيف كلّ توظيف للمعرفة المنتجة في الغرب بأنه ضرب من التغريب، فذلك يعني أن كلّ الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام أمس، يمكننا نعتهم بالتغريبين، ذلك أن منطق أرسطو اليوناني وفلسفة أفلاطون، والأفلاطونية الجديدة، أفاد منها ووظّف مقولاتها الكلّ، كلّ على وفق متطلبات ونوع كتاباته، أي ستندرج تحت هذا التوصيف مؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وحتى الغزالي المناهض للفلسفة والفلاسفة، وغيرهم(8).

وأيضًا يمكن أنّ نسجل معاناة أخرى أصيب بها الفكر الإسلاميَّ وهي عدم القطيعة مع أُطُر التفكير القديمة المحنطة في تراثه وجهازها المفاهيمي " فما زال أغلب الفكر الديني الإسلامي يتحرك في دائرة الأحكام الموروثة عن الأدب البدعوي والقصصي التاريخي. لذا فإن الحدود الاجتماعية والسياسية والطقوسية والقانونية التي رسمها القرآن الكريم، ولا سيَّما في السور المدنية، بين المؤمنين والمشركين وبين المسلمين وأهل الكتاب، وبين المؤمنين الصادقين والمنافقين، وبين المجاهدين في سبيل الله والقاعدين عن الجهاد من الرجال والنساء، لا تزال مطلوبة لتؤمن للناس مكانة قانونية ودينية تتلاءم مع تعريف القانون الذي ساد خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة. إن الصرعات الجارية منذ السبعينات بين مؤيدي التطبيق الحرفي للنص وقوانينه من دون النظر إلى تاريخيته وبين الذين يريدون الخروج من الانغلاق العقائدي تهدف إلى الوصول إلى الحكم أكثر من السعي إلى تحقيق روحانية دينية(9)."

بموازاة تخندق التفكير الكلامي وقوالبه تحرر تفكير التصوف الفلسفي من تلك القوالب الجاهزة منذ زمن وصار يفكر فيها من الخارج لا بمنهج التفكيك التاريخي ومجالاته واشتراطاته وآفاقه التي تتخطى الفهم الحرفي، بل من خلال محاولة التواصل مع " مصدر المعرفة" بدلًا من الانشغال بنصوص الشريعة التي رأى فيها تعبيرات لغوية تتسم بالغموض والإجمال في حالات كثيرة، ولا سبيل لجلاء غموضها وإزالة إبهامها وتفصيل مجملها إلا بمعانقة مصدرها من خلال تجربة تترسم خطى التجربة النبوية التي هي أصل "الوحي" المعبر عنه بالنصوص. ومن الضروري لفهم ذلك الانشغال الصوفي بمعانقة المصدر بدلا من الانشغال بتأويل التعبير، أن نتأمل ما آلت إليه عمليات التأويل من اختلافات وصراعات من شأنها أن تشوش على المؤمن البسيط صفاء المعنى الديني الذي لا غنى عنه له(10).

وكلامنا هنا عن التصوف الفلسفي الذي يختلف عن "التصوف السني" الذي هو تصوف طُرُقي ينشغل بالعبادة والزهد، ولا يمكن أن نصفه بالخط المثقف أو الفكري، لأنه عبارة عن استعادة، بل وحتى تكرار لما هو موجود في الكتب المدرسية، وكتب الموجزات والخلاصات الشائعة. إنه عبارة عن شروحات وحواشي تدرس للطلاب في الطريقة أو الطرق الصوفية. وهذه التعاليم لا تحتوي في الحقيقة على أي تفكير شخصي ناهيك بالفكر النقدي(11).

ومن ثَّم، فان من شروط التنقيب المعاصر هو البحث عن استراتيجيات تفادي الانغلاق في أنماط إيمانية لها مدلولها الاجتماعي وتجاربها التاريخية، فلا بد من استئناف التفتيش عن منابع المعنى العميقة للدين نتجاوز فيها سياج التأويل ومتاهاته الذي صنعته رؤية المدونات التراثية التي كفت ولبت حاجات عصرها ومفارقاته. ويبقى السؤال الأهم عن المراحل الفكرية والتاريخية والثقافية للتشكل البشري التي ينبغي على العقل الإسلامي أن يستوفيها بالوعي والنقد والتخطي حتى يكتسب المؤهلات والوسائل الملائمة في بناء مشروعه العقلانيّ المعاصر لإدارة الحياة الإنسانيّة بكل أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة التي تضفي على الحياة معنى؟

لقد تحررت أوربا من تاريخها المسيحي وتجاربه ومساراته نحو الحداثة، وصولًا إلى ظهور "لاهوت للحداثة" يحاول التكييف مع العالم المعاصر من خلال اللاهوت المسيحي نفسه. في حين أن أبحاثنا في هذا الحقل ضعيفة وقاصرة عن تلبية الانتقال بالمراجعة والاحتواء.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل - كلية العلوم الإسلاميَّة

..................

(1) إشكاليات الفكر العربي المعاصرة ,الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، الطبعة الأولى، 185 .

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، 65.

(3) غوته، آلام فارتر، ترجمة: أحمد حسن الزيات، الناشر: دار الرافدين- بيروت، الطبعة الأولى- 2019م، 9.

(4) الميزان في تفسير القرآن، 5/ 258.

(5) ينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33، والصراطات المستقيمة، الناشر: دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى -2009م، 17.

(6) محمد أركون، الأنسَنةُ والإسلام- مدخل تاريخي نقدي، ترجمة: محمود عزب، الناشر: دار الطليعة- بيروت، الطبعة الأولى- 2010م، 163.

(7) د. حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، 70.

(8) عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، دار المصورات، الخرطوم، ص 47 – 48.

(9) محمد أركون، الأنسنة والإسلام، 163-164.

(10) نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلَّم ابن عربي، الناشر: مؤمنون بلا حدود- الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 25.

(11) ينظر محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي- الرباط، الطبعة الأولى- 2014م، 126- 127.

يقع التسامح الدينيَّ في منطقة مستبعدة من التفكير وغير منظر لها بشكل نقدي إِلَّا مؤخرًا، تحت تأثير العقل الحديث المشتغل على التحليل المكثف لهيبة النصوص التأسيسية وإعادة النظر في قراءتها بعيدًا عن البنية الدامجة التي شكلت محددات العقل الديني وأحاطته بسياج دوغمائي، بواسطة "مديري أمور التقديس" بتعبير ماكس فيبر مع ان التسامح الديني قضية معاشة في الواقع بصورة ضمنية. وهذا ما يستوجب التفريق بين العقل الديني الذي خضع للتراث وسيطر عليه، وبين العقل الحديث ورهاناته والحدود الفاصلة بينهما، وما يمكن تلمسه في قضية التسامح والإسقاطات التاريخية فيه.

التسامح أنواع: فمنه دينيّ، ومنه سياسيّ، ومنه اجتماعيّ، ومنه أخلاقيّ، وغير ذلك. وما يعنيا هنا في هذه المقالة هو التسامح الدينيَّ، ولذلك لا بد من بيان المراد منه وفقًا لبعض النظريات أو الاتجاهات وموقفها من التسامح الدينيَّ، وبالمجمل ثمة اتجاهات، ومنها:

الاتجاه الأول: الانحصاري "التطويقي" لا يرى موضوعًا للتسامح من الأساس، وهذا هو السائد فعلًا على مستوى أديان العالم، والذي كانت له الكلمة الفصل في الألفيات الماضية. فهو يرى أن الحقيقة والنجاة والخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة موجودة في دين واحد ومحدد. ولعل تمثلاته تأتي بكلمات من قبيل قوله تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". أو كما جاء في المسيحية: " لا أحد يمكنه أن يصل إلى الرب إلَّا عن طريقي أنا " أو "لا صلاح خارج الكنيسة".

الاتجاه الثاني: النسبية الدينيَّة، وهو الاتجاه الذي يقر بأن كل دين يكشف عن جانب من جوانب الحقيقة، ولهذا كانت الأديان كلها ضرورية من أجل تحصيل الحق بأكمله. فالأديان جميعها مآلها ومرجعها إلى أمر واحد، أما الاختلافات البارزة على السطح فليست سوى مجرد مظاهر وظواهر سطحية لا تعبر عن أي افتراق في العمق، وهذا معناه أن الأديان جميعًا قابلة بل هي فعلًا منصهرة في بوتقة واحدة ولا تحكي بالتالي إلا عن أمرٍ واحدٍ. وهذا المعنى يمكن تلمسه عند محيي الدين بن عربي.

الاتجاه الثالث: القائلون بتساوي الأديان يؤكدون التسامح الدينيَّ، لأن كل دين حَسَن وحق. فكل دين حسن من حيث إنه يرضي نزعات أتباعه. ولا يوجد في نظرهم دين واحد يحتوي على كل الحق. وحتى لو وجد فليس من الممكن تمييزه بقين قاطع. وهذا ما ذهب إليه عدد من فلاسفة الغرب ومنهم الفيلسوف والمتكلم المسيحي المعاصر "جون هيك". ومن الساحة الإسلاميَّة الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه " الصراطات المستقيمة.

الاتجاه الرابع: السماح السلبي للشر. يؤكد أن ما يتسامح فيه ليس خيرًا و فضيلة، ولهذا فإنه لا ينطوي على استحسان، كما أنه ليس شرًا مطلقًا، ولهذا لا ينطوي هذا السماح على استنكار مطلق. ولما كان السماح سلبيًا، فإنه ينطوي مع ذلك على إقرار بالاستهجان، وإن كان في الباطن لا في الظاهر. ولهذا كان التسامح في الكنيسة أمرًا تمليه الظروف، وليس عقيدة. فإن اقتضت الظروف- السياسية غالبًا- أن يتسامح مع المذاهب والأديان الأخرى، لأن عدم التسامح سيؤدي إلى شرور أكبر. فإن من المستحب وليس من الواجب التسامح (1).

ولهذا قال القديس توما الأكويني: " إن الحكومات الإنسانية يجب عليها أن تتوافق مع الحكومة الإلهية التي هي صادرة عنها. لكن على الرغم من أن قدرة الله ورحمته لا نهاية لهما، فإنه أبقى على وجود بعض الشرور في العالم، وكان في قدرته أن يمنعها، لأن منعها سيؤدي إلى فقدان خيرات أكبر أو إحداث شرور أكبر. "

ويذكر مثالًا لذلك أن الكنيسة الكاثوليكية تستفيد فائدة حقيقة من ترك اليهود يمارسون شعائرهم، لأن هذه الشعائر في نظره هي بمثابة شهادة حية على حقيقة الدين المسيحي.

بناءً على هذه الاتجاهات يمكن القول أن ثمة تسامح شكلي، وتسامح موضوعي. فالتسامح الشكلي هو أن تترك الأديان الأخرى وشأنها. ونقيضه هو إرغامها على الخضوع لهيئة دينية معينة. أما التسامح الموضوعي: فلا يقتصر على مجرد احتمال وجود الأديان الأخرى وشعائرها، بل هو أساسًا الاعتراف الايجابي بالأديان الأخرى على أنها مذاهب ممكنة لعبادة الله.

أما من حيث من يتجه إليهم التسامح فينقسمون إلى فريقين: أ- أتباع الأديان الأخرى. ب- أتباع الفرق المختلفة داخل الدين الواحد.

في السابق كانت اتجاهات التسامح تدعو إلى تحمل الآخرين والصبر على وجودهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية، أما اليوم فالعالم يتقدم خطوة إلى الإمام ليتجه- وبسرعة- نحو الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف، ويريد فهمه وتحليله على ما هو عليه، ليتسع التعدد فيه إلى ما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقانية نفسها.

ولا بأس ببيان أجمالي وتوضيحي عن أبرز مباني هذه الحقانية (وهي الاتجاه الثالث)، ثم نفرد الملاحظات والمناقشات التي صوبت اتجاهها لمقالة أخرى تتبعها.

يعتمد توزع الحقانية وعدم تطويقها في دين أو مذهب معين على جملة من المرتكزات، وفي الأصل تقوم على دعامتين: الأولى: التنوع في الأفهام والتفاسير بالنسبة للمتون الدينية. والثانية: التنوع في تفسيرنا للتجارب الدينية. وهذا التكشييف عن المتون لا يكون على شكل واحد بل يتميز بالتنوع والتعدد.

فيما يخص ببيان المبنى الأول يوضحه د. عبد الكريم سروش فيقول: " فهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة (2)."

ولا يوجد أي دين طيلة تاريخه من دون هذه الكثرة والتنوع في افهام أتباعه، والشاهد على ذلك تاريخ الملل والنحل وعقائها. فكل فرقة ترى لنفسها الحق والصواب من دون غيرها، ولم يتبادر إلى ذهن أحدهم أن لهذا التعدد والتنوع غير قابل للاجتناب في التفاسير والافهام معنى ومدلولا آخر أيضًا، فلا يمكن قبول مفهوم أننا ولحسن الحظ على حقّ وأننا من أهل الهداية والنجاة، ومن سوء حظ الآخرين أنهم على باطل ومن أهل الضلال وأنهم لم يفهموا الدين الحق وبذلك انحرفوا عن جادة الصواب (3).

وأما المبنى الثاني: وهو تعدد تفاسير التجارب الدينية: يقول د. عبد الجبار الرفاعي حول التجربة الدينية وبيانها: "التجربة الدينية تعني مواجهة الله وإدراك حضوره، والمثول في حضرته، وتحسس هذا الحضور وتذوقه روحيًا. هي نحو تجلّ وجودي للإلهي في البشري. وبتعبير المتصوف الهندوس رادهكر شنان: "أقوى برهان على وجود الله هو إمكان تجربته وإدراك حضوره. فالله مُعطي تجريبي، ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية". التجارب الدينية متنوعة، كتجربة الانجذاب والهيبة، تجربة الاعتماد، تجربة الأمل، تجربة الحب، و...الخ. الإيمان الدينيَّ يرتكز إلى هذه التجارب، والنوع الأعمق والأشدّ لهذه التجارب ماعاشه الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسون؛ إذ كانت لهم تجارب عميقة جدًا، وقريبة غاية القرب من الألوهية. التجارب الدينية أعمق من مستويات الأديان، فهي النواة المركزية للأديان (4)."

وأوّل من غرس بذور التعددية في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلًا وأنبياء مختلفين وتجلّى لكل واحد منهم بمظهر خاص وبعث كل واحد منهم إلى مجتمع خاص ورسم تفسيرًا للحقيقة المطلقة في ذهن كل واحد منهم يختلف عن الآخر. وبذلك فُعَّلت ظاهرة تعدد الحقانية. وعلى الرغم أن الأنبياء كانوا يعيشون في مراتب مختلفة. وهكذا كل شخص يرى الحقيقة وتتجلى له من زاوية معينة وبمقدار استعداده، يمثل جلال الدين الرومي لهذا المعنى بقوله:

إن صوت الناي الذي ينفخ فيه العازف.

إنما يخرج الصوت بمقدار الناي لا بمقدار العازف.

فكل واحد منا كالناي جالس على مشرعة الحقيقة، وهذه الحقيقة تروي قصتها من خلال ألستنا وأفواهنا، فلو كانت أفواهنا بمقدار عرض الفلك فانها مع ذلك تضيق عن بيان الحقيقة كاملة.

والسر في اختلاف الأديان لا يكمن في اختلاف الظروف الاجتماعية أو التحريف الذي طرأ على الأديان واستلزم ظهور دين آخر، بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود، فكما أن عالم التكوين متنوع فكذلك عالم التشريع متنوع أيضًا (5).

يستوحي الفيلسوف المسيحي المعاصر " جون هيك" هذا المبنى من تفكيك " عمانوئيل كانت" واستلهمه لشرح هذه النظرية من خلال التفريق بين الواقع والظاهر، ووفقا لذلك فالمتدين إنما يتكلم عن الشيء في مرحلة ظهوره في أفق الإدراك، أي في الأفق المفاهيمي الحكائي، لكن حكاية ذلك بالمطابقة عن الشيء في أفق نفسه أمر آخر، ولا يقصد هنا النسبية بل المقصود أن رتبة الفهم العقلي أو الإدراكي متورطة وملتبسة باعتبارات خاصة بها.

ومن هنا يعتقد بعض المفكرين الغربيين كالفيلسوف الانكليزي والتر استيس بأنَّ البوذية دينٌ ألهيٌ، بمعنى اعتقادها بالله، كل ما في الأمر أنها لا تعرف تفسير تجربتها الدينية في قالب مفهومي بالقدر الذي وفقت فيه الأديان الأخرى نظرًا لمحدودية موقعها، فهي كافرةٌ نظريًا مؤمنةٌ عمليًا، كأي فرد منا هو جاهل بالأوكسجين قبل اكتشافه لأنّه لم يفسره نظريًا ومفهوميًا لكنه يلامس الهواء يوميا ويستنشقه.

وثمة مبنى ثالث لهذه النظرية لا ضير من عرضه: وهذا المبنى يمكن بيانه من خلال الاستناد إلى اسم " الهادي" لله تعالى، فهنا لو نسأل: قلنا إن الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والأقوام المتدينة" مع إخراج غير المتدينين" الذين يبلغ عددهم مليارات الأفراد، واعتبرنا أتباع هذا المذهب (الشيعة) هم الأقلية، وقد نالوا الهداية الإلهية وسائر الناس سلكوا طريق الظلال والكفر (في نظر الشيعة)؛ أو قلنا إن الأقلية من اليهود، وهم (12) مليون يهودي، هم المهتدون، والآخرين ليس لهم حظ من الهداية والنجاة، ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية متجسدة على أرض الواقع؟ وأين يتجلى اسم الهادي على مستوى الخارج؟ وكيف يمكن نصدّق أنّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) بمجرد أن وضع رأسه على وسادة الوفاة فإن العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الإلهية وأهدروا بذلك جميع أتعاب النبي الأكرم. إن هذه الرؤية لا تعني أن يتخلى أتباع الأديان والمذاهب المختلفة عن العمل بمعتقداتهم وشعائرهم الدينية وفرض نمط من الأعمال الدينية على الجميع من دون مبرر، بل في لزوم النظر إلى الكثرة واختلاف الشعائر والعقائد من زاوية أخرى، فلا نحصر جوهر الهداية الإلهية في التعاليم الكلامية أو الفقهية. ولا يعني هذا المبنى سوى الإذعان برحمة الله الواسعة والاعتراف بنجاح الأنبياء في مهمتهم الرسالية وضعف كيد الشيطان، ورؤية رحمة الله الواسعة منبسطة في جميع أرجاء عالم الوجود (6).

إلَّا أن هذه الرؤية في مبانيها قد نقدت وصوبت اتجاهها ملاحظات هامة وصارمة وجديرة بالتأمل. نعرض لها في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة.

..................

 (1) مقدمة عبد الرحمن بدوي، جون لوك، رسالة في التسامح، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الأولى- 2006م، 8.

 (2) ينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33.

 (3) عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، 19.

 (4) الإيمان والتجربة الدينية، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الأولى- 2015م ،9.

 (5) ينظر: عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، 28- 33.

 (6) ينظر: المصدر نفسه، 47- 50.

إذا كانت مهمة المثقف الدينيَّ هي معرفة التراث ومقولاته وأدوات الاجتهاد فيه وألا يخدش الروح الإيمانية ويتعامل معها باحتقار ودونية ويقفز عليها بأسلوب متسرع وفج، فإن المهمة المقابلة التي تقع على عاتق المؤسسة الدينيّة ورجالها أنَّ يبرهنوا على إيمانهم ببراهين توازي متانة الالتزام المطلوب من المكلفين، ومعززًا بالانفتاح على مكتسبات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة التي تكشف مناطق مهملة ومهمة في الاجتهاد، وتدخل التساؤلات الضرورية بخصوص الإنسان والمجتمع والتاريخ والمعنى.

ان القبول بالتراث الدينيّ من دون فحص وتفتيش وتحقيب تاريخي قبول مذموم، لأن هذا التراث ببيانه وعرفانه وبرهانه- بتعبير محمد عابد الجابري- نشأ بتموضعات زمنية لها ظروفها وثقافتها، بعبارة أخرى: نشأ تراثنا الدينيّ في التاريخ ولبس لباس اللغة التي تحمل هوية تاريخية، ومن ثَّم، فإن على الباحث والمفكر ان يلقي عن هذا التراث لباس التاريخ، ليكشف روح المعنى اللاتاريخي فيه، وهذا ما يمكن تسميته بالإيمان الجديد.

كمثال لذلك العقائد الإسلاميَّة هل نشأت جملة واحدة ناجزة وكاملة ونهائية أم صيغة على التدريج والترقي؟ ومن المسؤول عن هندسة العقائد الإسلاميَّة؟ وما أثر الجدل المذهبيّ والدينيّ مع الآخر في نشأتها وتطورها إلى القرن السابع الهجري؟.

وما علاقة العقائد باجتماع الناس؟ وكيف آلت العقائد إلى الجمود والتوقف عن النمو؟ وكيف تحول علم الكلام من أداة للحوار والسجال مع الآخر الدينيّ إلى علم معبأ بسجالات مذهبية ومدرسية شكلتها الأطر الثقافية والسياسية للجماعة الإسلامية الأولى، وعبرت بها عن نفسها واشتغلت على بسطها ونقلها إلى البلدان، وخلفتها ميراثا للأمم. وثمة عدد غير قليل من الأسئلة المهمة في نشأت العقائد وتطورها.

عندما تأتي وتكتشف ان عدد من الأمور الإيمانية فرضيات لم تنشأ بصيغة تأبيدية وفعل ناجز من لحظته، وإنما تبلورت واتخذت شكلها المحدد بفعل الواقع ودلالاته ماذا نصنع هل نرجع عقولنا إلى الله (بگريزها) ؟

ولذا ينبغي أن نعيد تراثنا الديني إلى معترك الحياة الاجتماعية ونخلع عنه جلباب التقليد والتقادم ونختبره بأسئلة العصر وقضاياه من غير حرج. فما الضير ان يتطور إيمان الناس كما جاز ذلك لأسلافهم؟

يقول السيد المرتضى (ت436هجري ): " ونقسم بالله تعالى على من تأمله ان لا يقلدنا في شيء من مذهبه أو أدلته ويحسن الظن بنا، فيلقي النظر والتصفح والتأمل تعويلًا على أنا قد كفيناه ذلك وأرحناه بما تكلفناه من تعبه ونصبه، بل ينظر في كل شيء نظر المستفتح المبتدئ1 ."

ونصّ السيد المرتضى يمكن أن نبني عليه فكرة التراكم والترميم في تحقيبات الفكر الدينيّ المفضي إلى التعويض. فالانتقال من زمن الاجتهادات القديمة وأدواتها المدرسية التي لبت متطلبات وجود الإنسان في تلك العصور إلى مرحلة المناهج الحديثة القائمة على إعادة النظر في مضامين الأدلة الدينية من الأساس ونقدها وتحليلها بعمق وامتحانها بالتساؤلات الضرورية التي تشتغل على تكشيف الانحرافات الأيديولوجية التي رافقت صناعة المعرفة الدينية وهندستها، يعدّ مرحلة مستمرة تقوم على القطيعة والاتصال. قطيعة مع الميت والمتيبس منها أو القاتل، واتصال مع النشط والمنشط فيها. وبذلك هي مرحلة امتدادية للاجتهادات القديمة المستنيرة وإنضاج لها، وليس قطيعة تامة معها كما سعت بعض الدراسات الحديثة التي لم تدخل معترك التراث بأحداثه وتفاصيله ومذاقاته بدقة، ولم تجوس في تجربته التي امتدت منذ الدعوة في عهودها الأولى وانتهاء بسقوط الخلافة العثمانية 1923م.

وقد شخص محمد أركون أن من كبوات العقل الإسلامي ولاهوته القروسطي أنه عاش قطيعتين ولا زال يعاني منهما حتى اليوم. القطيعة الأولى: داخلية، والثانية خارجية. لقد انقطع الفكر الإسلامي في المرحلة العثمانية عن أفضل ما أنتجه الفكر الإسلامي ذاته في القرون الهجرية الستة الأولى من تاريخ الإسلام (حتى وفاة ابن رشد). ومن المعلوم أن هذه المرحلة قد تميّزت- بالجملة- بالتعددية العقائدية، والنزعة الإنسانية الحرة، والكوسمبوليتية العرقية- الثقافية.. وكلها أشياء ساهمت في خصوبة الفترة الكلاسيكية وازدهارها، وكلها أشياء أُهملت، أو نُسيت تمامًا بعد دخول المرحلة السلجوقية أولًا ثم العثمانية ثانيًا.

وأما القطيعة الثانية فكانت مع الخارج، أي مع أوربا. فقد نام الفكر العربي- الإسلامي وجمد ولم يعد يعرف ماذا يحصل حوله من اكتشافات علمية وتطورات فلسفية. وهكذا تشكلت الحداثة المادية والفكرية بمنأى عنه2 .

وهذه الانتقالة (من الاجتهادات القديمة إلى المناهج الحديثة) شرطية في المعرفة الحديثة، وأعني أن المعرفة الحديثة لا تتم إلَّا بالنظر وإعادة النظر، والتحليل ونقد النقد، والانفصال والاتصال مرة أخرى. وهي حق مشروع لكل شخص بعد أن يتقن أدوات المعرفة.

والنظر والنقد ينبغي أن يدخل في عمق المباني والأصول والقبليات وتحقيبها ومواجهتها، لا كما يحاول أن يصور بعضهم أن النقد متوفر في الأوساط الدينيّة من خلال ما يتجاذبه الفقهاء أو طلاب المؤسسات الدينية في مباحثاتهم للفروع ونقاشهم لها، مع أنهم يشتركون ويجمعون على آلاف الفرضيات الإيمانية وتقديسها، من دون مراجعة لتموضعاتها التي لعبت دورًا فيها.

ومسيرة التحديث الديني لا ترى سلطة لأحد في تقرير العقائد والإيمان والهداية، فهذا الإمام محمد عبده (ت1905م) في معرض حديثه عن نفي القتال لأجل الاعتقاد يقول: " يقولون: ان لم يكن للخليفة ذلك السلطان الدينيّ أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام ؟ وأقول: ان الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنيَّة قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره3 ."

يقرَّ الفقهاء ان اجتهاداتهم قد يصيبها الخطأ والتقصير، ولا سيَّما في مسائل السياسة وقضايا المجتمع المعقدة، ولكن الدور الذي لعبته المقولات الكلامية وعلم أصول الفقه في تأصيل دور الفقيه ومساحة تداخلاته قد اضطلع بمهمة صناعة مخيال فعال ومحرك للعقل الديني وتاريخه دفع بتنحية هذا الإقرار، وتحويل نصوصهم وقناعاتهم إلى نصوص قانونية، وكل ما يقع خارجها جهالة وضلالًا.

نكمل تحليل ذلك- إن شاء الله- في الحلقة الثالثة.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة

.....................

الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: أحمد الحسيني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، 1411هـ ، 607.

قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة،195- 196.

الإسلام والنصرانية، الطبعة الثالثة، القاهرة - ١٩٢٢م، ٥٩.

 

"هناك سحر حقيقي في الحماس. يوضح الفرق بين الرداءة والإنجاز".*

هل هناك متسع من النقد داخل واقعنا العربي؟؟ نقد أنيق وحر ونزيه، ليس ذلك النقد الذي يبعث التشاؤم أو يربك الحرية أو يشكك في كل فكرة خارج الصندوق، نقد يرتب الوعي في إدراك الضروريات وإزاحة العشوائيات وتحقيق النباهة في المجتمع ويصنع واقع الإنجاز الحضاري الأمثل..

إن مجتمعا لا يناقش ماهية النقد البناء داخل الأسرة وفي المدرسة وفي دور العبادة والجامعة والإعلام والمؤسسات العمومية هو مجتمع تسيطر عليه الرداءة!!

ردُؤَ (في معجم اللغة العربية المعاصر)

ردُؤَ يَردُؤ ،رداءةً، فهو رديء•

 رَدُؤ الطَّقسُ فسَد :-ردُؤ خطُّه، - اشتكى من رداءة البضاعة.

* ردُؤ الرَّجُلُ: صار وضيعًا خسيسًا :- فلانٌ رديء السُّمعة/ الطّبعِ.

إذن بلحاظ الحال هناك رداءة شاملة لكل مناحي الواقع وبنسب عالية بين واقع عربي ومسلم وآخر، والمجتمع الذي أفراده يستغرقون في الماضي ويعتاشون بثقافة الشطارة أو الأسطرة واللصوصية المصادق عليها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، هو مجتمع تائه وخارج العصر بكل معنى العصر، لا تغني عنه شيئا الناطحات والتكنولوجيات والمؤتمرات والشعارات والوزارات والفعاليات الاقتصادية وغيرها، لأن الوعي الاجتماعي مخدر بالماديات ومعطل بالكماليات ومبرمج بالايديولوجيات، هناك بعض المعاملات المهمة في مقاربة الوعي السليم لدى أي مجتمع من المجتمعات:

أولا: التربية على الحوار الموضوعي البناء

ثانيا: الاعتراف بالنقائص والعمل على تجاوزها بإدارة عقلانية واستراتيجية

ثالثا: احترام التخصص والاستفادة من الآخر

رابعا: وهو الأهم تقديس القيم الإنسانية لا الاوهام القبلية والطائفية وتضخيم الأشخاص والأطلال بخطاب شعبوي يستخف بالعقول والحقائق..

هذه بعض الركائز التي تبعث لدى الفرد مستوى راق من التفكر بغض النظر عن خصوصياته وهويته ومتبنياته، الأهم أنها تشكل مربعا لمرآة النظر في المجتمع الذي يعيش فيه وتؤسس لديه رحلة السؤال المصيري في معادلة السباحة في محيط الحقيقة بوسائل متطورة ومعاصرة من أجل تجديد المعنى والمبنى والمنهج في حياته..

بالكاد هناك عدة ظواهر تقزز في واقع كل منا، تندرج ضمن إشكال تاريخي عربي: لماذا تمدن غيرنا وتخلفنا نحن؟ هذا السؤال الذي اتفق عليه بعض علماء الدين التجديديين ومفكرو ما سمي بالنهضة، هذه الظواهر هي بمثابة شوائب طفت على السطح، وجذورها سرطانية في نظام الرداءة الذي يتحكم في كل مباني الفكر والتعليم والتربية والإعلام والتحزب والتمذهب والتطرف، هذا النظام الذي اول من صنعه هم أدعياء الوعي الثقافي والديني والحضاري ووووو، عندما تكون السلوكيات الفاسدة مستشرية فلا حياة للمجتمع، يكفي أن تناقش واحدا من أدعياء الأكاديمية عربيا أو أشباه الفقهاء في مسائل الوعي والضميرو الكرامة، إلا وتجد نفسك مغضوبا عليك ومن الضالين، هناك افتراق تاريخي بين الفكر والأخلاق أو القيم، أعني انفصام في نظام النظر في واقعنا العام، مثقف ينافق وفقيه يفتي بالتكفير وطبيب يتاجر ومعلم عنصري وبقال غشاش وإعلامي كذاب وموظف خائن وتاجر جشع، هذه الرداءة محلها من الإعراب نظام تفكير فاسد، يحافظ على التخلف الاجتماعي بحيث يبقى سلم القيم هو المصالح الذاتية والفئوية والحزبية والطائفية والتجارية بدلا عن مقاصد الأخلاق كما رسم معالمها القرآن في إدارة الرقي لدى المجتمعات واختصرها بقيمة التقوى..

مجتمع الرداءة متحور كالفيروسات والسرطانات الخبيثة، قد يعطي سعة في الثقافة لكنه يحددها بقائمة مخرجات لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، أي الإبداع ضمن سلطته الفلسفية وقيمه النفعية..

مجتمع الرداءة لا يقبل الحوارات الاجتماعية العادلة، لأنها موضوعية وواقعية ومنصفة وتهدف للتعاون المجتمعي لدى كل مكوناته، لا أتحدث هنا عن الديمقراطية أو الشورى بمفهومها التراثي، وإنما عن كرامة الأفراد الإنسانية وحرمتهم الوجودية والفعلية في المجتمع، هذه الفكرة لا تدرس أو تعلم أو تقرأ وإنما تعاش ويتعبد بها بين الناس، فعندما تنظر لكل الوجودات الإنسانية داخل مجتمعك على أنها ذات كرامة وخصوصية تاريخية، حينها ستنتبه أن الرداءة هي جذر ما نراه يوميا من جرائم العنف والظلم والتكفير والاقصاء والإفساد والخيانة والتبعية وتقديس غير المقدس وتحطيم مشاريع الإصلاح وقطع الطريق أمام الأحرار واحتكار حقيقة الوطن والدين وتوحيد الله والإخلاص له، هنا نلتقي بفكرة التواضع والتعارف والتسامح لنكتشف نور التعاون الإبداعي في مجتمع النزاهة والصلاح والإحسان..

قد تكون هناك بقع ضوء داخل ظلام الرداءة لكنها هافتة وتقنية أو ترقيعية حتى لا نقول اشهارية من قبيل العمل التطوعي أو النشاط الرياضي أو المهرجانات والمعارض للتسوق الثقافي والاقتصادي، لكن روح الحياة في المجتمع مخنوقة، هناك كبت واكتئاب ونكوص وامراض نفسية تجاوزت الطبقات الهشة أو المتوسطة والجماعات المنغلقة والأحزاب المهووسة بالمال العام ، لتستقر في مراكز الإجتماع العام، من خلال الأمراض الأخلاقية التي تنتشر في دوائر التأثير الاجتماعي من قبيل مؤسسات الصحة والتربية والتجارة والإعلام والدين وهلم جرا، الضوء الخافت لا يكاد يرى في ظل انتشار سواد الرداءة في المجتمع..

مجتمع الرداءة بالمختصر هو نتيجة من معادلة "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إسمها التغيير السلوكي المعرفي للجماعات سواءا في الحياة العامة أو الطوائف أو الأمم، لأن الرداءة أنانية وتشاؤم ونرجسية ، بينما الوطن يكون قويا بالتعاون والتكافل والتفاؤل والتسامح والتعاطف والتكريم التفاعلي في كل مناحي الفعل الاجتماعي...

مجتمع الرداءة مغلوب على أمره لأن عقله بيد سماسرة الأديان والأيديولوجيات والتاريخ والرياضات اللا اخلاقية والمولات التجارية والقنوات الإعلامية ..

مجتمع الرداءة خشبة مسرح على سطح محيط من المظالم، إنه مجتمع ألف الاوساخ النفسية والفساد الأخلاقي حتى ضاق ذرعا بقيم التقوى والإحسان والنزاهة والكرامة والعفة والأمانة، مجتمع محركه الوحشية المتغلفة بأغلفة التدين المغشوش والحداثة المنسوخة، مجتمع يتوهم أنه يتطور في العمران والخدمات والثقافة والإعلام والفن والرياضة ويكرم من يحمده ويبجله لكنه في الحقيقة هو كما وصفه القرآن: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 188]

في مجتمع الرداءة الفرد يتدين ويتفقه عجبا وكسبا للوجاهة ويتثقف لينصت له الناس في المجالس ويتوظف ليتحكم في معاملات البشر، ويتزين لغة وهنداما ومعرفة لينخدع الموظفين والطلبة والبسطاء بمظهره بينما واقعا أصفار وراء بعضها تزيد المجتمع تيها واغترابا عن فرصة نهوضه الحضاري، هنا في هكذا مجتمعات أخلاقيات المهنة والنظام العام والمواطنة وحقوق الإنسان والتأليف والنشر وبراءات الاختراع والأعراف كل هذا لا اعتبار له واقعيا، إنه منطق"غاية الرداءة تبرر ترويج خطاب الشكليات.."

هذا المجتمع هو كل تلك الحركة الاجتماعية المتهافتة والمدافعات العبثية والإدعاءات الوهمية للقوة والإدارة والتنمية والإنتاج العلمي والوجاهة الدولية بينما الإنسان نواته الأساسية سلعة للترويج والبرمجة والمزايدة، إنه مجتمع الاستعباد الجديد، مجتمع الرداءة مجتمع مهدد في كل لحظة مجتمع ضحية بأعطاب محركاته العملية التي قتلت القيم الإنسانية في تعاملاتها واستبدلتها بالتمويه والتشويه والتسقيط والتسفيه لكل من يفكر في الإصلاح والتجديد والتنوير بعقل عملي أخلاقي..

يبقى أن مجتمع الرداءة هو أساس ثقافة التغيير عندما ينظر إليه نظرة وفق نظام إدارة الكوارث وتنمية الجودة واقتصاد المعرفة وتربية الضمير الحقوقي لدى الأجيال القادمة قبل الضمير الفقهي الفارغ من منهج لأتمم مكارم الأخلاق وتطوير العدالة التنظيمية واخلاقيات المواطنة في الادارة والشارع...

مجتمع الرداءة لا ينقلب الى الصلاح بمجرد الضبط الاجتماعي والقهر الإداري ومكافحة النتائج ولكن عندما تستقل السلطة التربوية عن التلقين وترسخ لدى الأجيال منهج التعليم النفسي السلوكي، عندها تتضح الآفاق ويصبح النظر لسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان والنرويج واسبانيا ونيوزيلندا، شيء عادي لأن الحكمة هناك حكمت كل الوطن وأكرمت إنسانها، ولابد للحكمة عندنا أن يعود نورها ليملأ أركان كل شيء فينجلي ليل الرداءة والتفاهة والاستحمار..!!

اما بعد مجتمع الرداءة هو أكثر المجتمعات قابلية للاستعمار والاستدمار، مالم يتجاوز مأزق النفاق الاجتماعي الذي هو بالأساس مشكل سيكولوجي معرفي سلوكي يمكن تقليص تأثيراته من خلال تأكيد الذات لدى الفرد وتنمية إرادته في الإنجاز الاجتماعي عبر قنوات التعليم والتربية والإعلام والفن والحوارات والنقاشات الفكرية وعبر الأنشطة الثقافية للناشئة بمشاركة أولياء أمورهم وفي كل هذا لابد من صحة المبتغى وفعالية المنهج تنظيرا وتطبيقا كما حددها المفكر مالك بن نبي رحمه الله في شروط النهضة...

بكلمة الرداءة ظاهرة مرضية ككل الأمراض التي تصاب بها المجتمعات، فقط هي بحاجة لجد وإجتهاد ثقافي معرفي لاكتشاف الأدوية المناسبة لتطهير المجتمعات العربية من سلوكيات النفاق التي دمرت كل مشاريع الإنجاز والنهوض والتقدم..

***

أ‌. مراد غريبي

.................

* نورمان فنسنت بيل:كاتب أمريكي معروف بتخصصه في حقل التفكير الايجابي

أنا ممَّن يدَّعي أنَّ النهوض الاجتماعي يتطلَّب تجديداً في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم أنَّ التأثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة، يستدعي على الدوام جدلاً حول التجديد في الدين، وما إذا كان في الأصل، قابلاً للتجديد أم لا، وما إذا كان التجديد يتناول الأصول أم الفروع أم الأدوات والمظاهر.

ومن هنا، فإنّي أدعو القارئ العزيز إلى تقبل نقطتين، أوجز الأولى في «أنَّ لكل جيلٍ من أجيال المسلمين حقاً ثابتاً في إعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية، وإنتاج نموذج التدين المناسب لزمنه، من دون التزام ما أنتجته الأجيال السابقة». أما النقطة الأخرى، فخلاصتها أنَّنا في حاجة إلى التمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن أنْ نسميَها دينية، وهي مجال اشتغال أحكام الشريعة، ودائرة خارج الدين، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والأخلاقية.

كلتا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الإصلاحي. يقول التقليديون بأنَّ كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة، موجودٌ على شكل حكم مفصل أو قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد بأي دور أو تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بأنَّ الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة، أو أنَّها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعلَّ بعض القراء الأعزاء قد صادف كتباً تحمل عنواناً مثل «البديل الإسلامي»، «قال الإسلام قبل ذلك»، «هذا الدين للقرن الواحد والعشرين»... إلخ.

يعتقد أكثر الناس أنَّ هذه حقيقة ثابتة. فإذا قلت لهم إنَّ هذا غير صحيح، حسبوك تتَّهم الإسلام بالنقص والعيب، وجادلوك دفاعاً عن الدين، وليس نقاشاً في الفكرة.

وكنت فيما مضى أذهب المذهبَ نفسه. ثم اكتشفت أنَّ بعض العلوم لم تكن موجودة أصلاً في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاماً لشيء لا يمكن تصوره، فضلاً عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز، فأجابني بالجواب المعروف، وهو أنَّ ما لم يرد حكمُه في الكتاب والسنة، فإنَّ حكمه يستمدُّ من أقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة، فلاحظ في لهجتي شيئاً من السخرية، فتمالك نفسه وأجاب أنَّها مباحة، فجادلته بأنَّ الإباحة ليست حكماً؛ لأنَّ القول بأنَّ الإباحة حكم، تكلف من غير داع، ولا طائل تحته، وأنَّ القول الصحيح هو أنَّ لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة، فإن وافقتني، فإنَّ القول بشمولية الشريعة لا يصحُّ.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين، أولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بأنَّ آيات مثل «... مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ» و«... تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ»... وأمثالها تدلُّ على أنَّ كلَّ شيء في الحياة له حكم في الكتاب أو السنّة، حتى أرش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد ردَّ عليه الشيخ أحمد النراقي قائلاً، إنَّ سياق الآيات يدلُّ على أنَّ في الكتاب تبييناً لكل شيء يجب بيانُه ولا يصحُّ السكوت عنه، لا أنَّه يبين كل شيء على الإطلاق. والدليل هو ما نراه فعلاً من آلاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها، وهي تتزايد يوماً بعد يوم. وإلى هذه الناحية أشار أبو الفتح الشهرستاني في «الملل والنحل» حين قال، إنَّ النصَّ محدودٌ والحوادثَ غيرُ محدودة، فكيف يستوعبُ المحدود ما لا حد له ولا حصر؟

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

معظم الذين يرفضون الحرية، يبالغون في تضخيم الاستثناءات، حتى تنكمش القاعدة أو تتلاشى. وعلى العكس من ذلك، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة، وأن أي تقييد ينبغي أن يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة، فلا يتضخم إلى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر، أو يجعل الأصل أضعف أثراً من الفرع.

لا بد - على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية، مثل دعاتها، ينطلقون من موقف فكري أو اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم، وإنْ لم يقبلها الفريق المقابل.

وقد أشرت في مقال سابق إلى أن الشرائح المحافظة في مختلف المجتمعات، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني، لا أنها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلاً أن الماركسية الكلاسيكية اعتبرت الحرية لعبة برجوازية، وأن حاجة المجتمع الحقيقية، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم، حتى تحقيق المساواة بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعد الحرية أداة سخّرها أنصار الشيطان للتغرير بالأجيال الجديدة، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. وأحدث الأمثلة على هذا، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد «دوريات الأخلاق» في العاصمة الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة أجنبية، بينما كان المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.

كتبت سابقاً أنك لن تجد بين السياسيين والمثقفين أو الزعماء الدينيين من يعلن صراحة أنه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة، هو التركيز على الاستثناءات والحواشي وإكثار الكلام فيها، حتى تتضاءل القاعدة الأصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية أو فوائدها، ستأتيك عشرات الردود، من كل طرف، حتى ليخيل إليك أنها دفاع منسق.

الواقع أنها ليست منسقة، لكن المجتمعات المحافظة جاهزة دائماً للتعبير عن رفضها للتغيير وكل مداخله ومؤدياته، بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلاً:

أ- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.

ب- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع أو الدين. فحوى هذا الموقف أننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة أو تدعو لعلاقات اجتماعية جديدة.

ت- ردوداً تركز على مخاطر الحرية المطلقة، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام. فحوى هذا الموقف أن الإنسان بطبعه فاسد، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب، وأن الحرية تحرره من هذا الخوف.

ث- ردوداً تركز على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية، لا سيما السلوكيات التي يعدها عامة الناس نموذجاً لسقوط الأخلاق، مثل اللباس غير المحتشم، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد التي نعرفها، وتمرد الأبناء على الآباء... إلخ. فحوى هذا الموقف أن الإنسان سيخسر أبناءه لو قبل بمبدأ الحرية.

كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن نريد الحرية، لكن الحرية لا تريدنا، فهي لا تأتي دون أن ترافقها الشرور. الأفضل إذن التخلي عن هذه المغامرة مجهولة العواقب.

هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها العقل التقليدي، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة، ويستولي الشرح على المتن، «الاستحواذ على النص الأصلي المشع، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة»، حسب تعبير أخي د. معجب الزهراني.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

من طبائع الأمور ان يكون "علم الدين" اكبر حجما من النص الديني. لأن الشرح والتفسير اوسع دائما من النص المراد شرحه وتفسيره.

هذ الأمر جار في كافة العلوم والفنون. انظر مثلا الى "المعلقات السبع" التي اشتهرت في الجاهلية. انها سبع قصائد، تحويها ثلاثون صفحة على الأكثر. لكن شروحاتها والابحاث التي كتبت حولها تتجاوز – حسب ما قرأت - ثلاثين كتابا. ولعلها تزيد عن ذلك. انظر ايضا الى كتاب جون رولز "نظرية في العدالة" الذي ضم نظريته المشهورة في بضع صفحات، لكن مبرراتها وأدلتها جاوزت الخمسمائة صفحة. اما ما كتبه باحثون آخرون حولها او تحت تأثيرها، فقد تجاوز 100 كتاب، فضلا عن مئات المقالات.

من هنا فليس غريبا ان تجد 300 تفسير للقرآن في اكثر من الف مجلد. اما كتب الفقه فعددها بالآلاف. وقد اطلعت على تطبيق الكتروني، جمع ما يزيد عن الف مجلد لفقهاء من مذهب واحد، فكيف بكتب الفقه كلها.

يوما ما، في القرن السادس الميلادي، كان علم الدين محصورا في الكتاب والسنة، اي ما يعادل خمسة مجلدات (بمعايير اليوم). اما الآن، فالمنشور في هذا الحقل يجاوز آلاف المجلدات.

ذكرت هذه المعلومات كتمهيد للقول بأن غالب النقاشات في الحقل الديني، تتناول آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، اي الآيات والروايات التي تدل مباشرة على حكم شرعي. والمشهور ان الآيات المقصودة تبلغ 500 آية، أي نحو 8 بالمائة من مجموع آيات القرآن. اما أحاديث الأحكام فقد نقل ابو يعلى الفراء عن الامام احمد بن حنبل انها 1200  أي نحو 15 بالمائة من مجموع ما يصنف ضمن الاحاديث الصحيحة.

معنى هذا الكلام ان تسعة أعشار ما يقال او يكتب في أمور الدين ينتمي الى دائرة "علم" الدين وليس الى الدين نفسه. انها بعبارة أدق حواش وشروحات وتفسيرات واجتهادات حول النص الديني، وهي جهد بشري يتأثر بالمستوى العلمي لكاتبه او قائله، وظرفه الزماني والمكاني، وبمقدار ما يتوفر له من مراجع، فضلا عن همومه وانشغالاته الذهنية. انها علم البشر وليست علم الله ولا هي عين الدين.

اما التوسع المستمر في علم الدين، فمرجعه هو التحول المستمر في مجتمع الانسان، في ثقافته واقتصاده ومنظوماته القيمية وسلوكياته. كل تحول يطرح أسئلة جديدة، تستدعي اجتهادا جديدا، فتضاف شروحات وتفسيرات ونقاشات جديدة.. وهكذا. ولعل ما كتب ونشر في حقل العلوم الدينية، خلال الخمسين عاما الأخيرة، يعادل جميع ما كتب منذ القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن العشرين.

هذا المجموع الضخم ليس جزء من الدين ولا هو امتداد لمقدسات الدين، بل هو علم انتجه البشر في سياق سعيهم لادراك الحقيقة او الاقتراب منها. والعجيب في الأمر ان بعض العامة يظن ان كتاب التفسير وكتاب الفقه وكتاب الحديث وكتاب العقيدة، يظنها مقدسات، ويغضب اذا انتقدها الناقدون او خطأوها. اما العلماء انفسهم، سيما المتبحرين منهم، فيرون النقد حياة للعلم وسببا في ازدهاره. وكم من النظريات الهامة في الحقل الديني اغفلت وكادت ان تموت، لولا اقلام الناقدين التي كشفت عن تميزها ودقة مقولاتها.

ان تقديس العلماء وكتبهم يوشك ان يجمد علم الدين، بل ربما يميته. بينما النقد يجدد حياته ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال، فان علم اليوم مثل علم الامس، ليس دينا ولا هو امتداد للدين، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم، لا اكثر ولا أقل.

***

توفيق السيف

 

أي حديث عن الحرية في مثل مجتمعنا يستدعي التذكير بأنَّها حق أصلي لكل إنسان بما هو إنسان؛ أي قبل أن يكون عضواً في جماعة، أو مؤمناً بدين، أو خاضعاً لقانون. لا بد من التذكير أيضاً بأننا لا نتحدث في فراغ؛ بل عن الحرية في مجتمع يحترم نفسه ويحكمه القانون. مقصودنا إذن هو الحرية التي يضمنها القانون، وليس الحرية المضادة للقانون.

ما الحاجة للتذكير بهذا، مع أنه من قبيل البديهيات؟

واقع الأمر أن «الحرية» ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعاً أن الحرية قيمة عُليا، وهي من المسلّمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الإنسان والجماعة إليها، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم؛ لكنني -مع ذلك- أدّعي دون حرج، أن مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا، ولا تصنفها بين المسلّمات. وهي تقول ذلك صراحة، أو تقوله مداورة، حين تدّعي أنه لا يوجد معنى دقيق للحرية، أو حين تشدّد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي أو انتشار الفساد الأخلاقي.

هذا يظهر غالباً حين يعيق المجتمع رغبة الأفراد في التعبير عن أنفسهم بطريقة غير مألوفة، الأمر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.

التصادم بين الرغبة في الاستمرار التي يعبر عنها العرف الاجتماعي، وإرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الأفراد للتحرر من ذلك العرف، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:

المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية أن النظام الاجتماعي هو الأصل، وأن سعادة الإنسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا إلى معنى احترام الأعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقاً لهذه الرؤية فإن للفرد حقوقاً يستمدها من عضويته في الجماعة، ولذا فإن تمتعه بها، ومن بينها ممارسته لحريته، يجب ألا يُعارِض -بأي شكل- العرفَ الاجتماعي أو إرادة المجتمع.

أما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة، فحواها أن الحرية حق أصلي للإنسان، وهي من لوازم إنسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الإنسان مطلقة، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها؛ كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة أو خروج عن الأصل، فيجب تقييده بقدر الضرورة؛ كي لا يتحول إلى قاعدة بذاته.

فكرة التزاحم، لا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة؛ لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة إلى معيار للفصل في تنازع الإرادات بين الأفراد، أو بينها وبين أعراف المجتمع ومصالحه، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم «مبدأ ميل» أو «مبدأ الضرر».

صنف ستيوارت ميل الأفعال إلى نوعين: فعل يتعلَّق أثره بالفاعل دون غيره، مثل التدين أو الإلحاد، والعمل أو ترك العمل، فهذه وأمثالها أفعال لا ترضي بعض الناس؛ لكنها لا تضر أحداً غير الفاعل. أما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضرراً جسيماً على الآخرين، كالدعوة لكراهية الملونين أو أتباع الأديان الأخرى. رأى ميل أن الحالة الأولى لا تبرر للمجتمع ردع الفاعل، حتى لو كان فعله مناقضاً لأعراف الجماعة أو إرادتها، بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيها (التحريض على الكراهية) نوعاً من العدوان، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في كل نقاش حول علاقة الدين بالعقل/ العلم، ستواجه أشخاصاً يكتبون عبارة مثل «العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح» ثم يمضون غير عابئين، وكأن المسألة قد حلت وانتهت. أصحاب هذه العبارة لا يستهدفون التأكيد على قيمة العقل. هذه مناورة بسيطة تؤدي - موضوعياً - إلى تأكيد أولوية النص، وكونه معياراً حاكماً على عمل العقل. ولهذا أيضاً؛ فإنَّ أكثر من يستعملها في النقاش، هم الإخباريون، الذين ينكرون – من حيث المبدأ – أي دور للعقل في التشريع.

واقع الأمر، أن النص قد يخالف العقل/ العلم في مواضع عديدة: مخالفة في الحقيقة، بمعنى أن جوهر مراد النص معارض للثابت علمياً أو منطقياً، أو مخالفة في الواقع، بمعنى انتماء كل من مضمون النص والعلم، إلى أفق تاريخي أو نسق ثقافي مختلف.

وقد ضربت مثالاً في مقال سابق، بالرواية القائلة بأنَّ الأرض مستقرة فوق بحر، تحمله صخرة على قرن ثور. ونعرف أنَّ هذا يتناقض مع ثابت علمي، بلغ الآن مرتبة الحقيقة. أمَّا الاختلاف بحسب الواقع، فنراه في تحديد قيمة الأفعال، مثل استعباد البشر الذي كان في زمن النص فعلاً عادلاً/ حقاً، فبات اليوم فعلاً ظالماً/ باطلاً، في عرف أهل الشريعة وعند عقلاء العالم كافة. إنَّ التعارض الواقعي – مثل التعارض الحقيقي – يستدعي تهميش أحد الطرفين واستبعاده، والا تحولت عقولنا إلى صندوق المتناقضات.

والذي أراه، أنَّ القول بعدم التعارض بين العقل/العلم وبين النص، مجرد تسويغ للرؤية الداعية إلى تأويل التعارض، بتصنيفه كفهم خاطئ (لأنَّ عقلَ الإنسان ناقصٌ وعاجزٌ عن إدراك الحقائق). أو لعلَّها تمهيد لإلزام العقل اتّباعَ النقل على أي حال، كما هو الجاري بين أهل الفقه التقليدي. فإذا أثبت العلم شيئاً يخالف ما دلَّ عليه النقل، تركنا العلم وتمسَّكنا بمفهوم النقل/ الرواية، نظيرَ مثال قرن الثور السابق الذكر.

ومن هنا، فإنَّ جدل العلاقة بين النقل والعقل/ العلم، لن يصل إلى قرار، ما لم نرجع به لبداية مختلفة، تعالج ما أظنّه عاملاً خفياً وراء تعقيد المسألة، وأعني به إشكالية موقع الإنسان في الدين. تتلخَّص هذه الإشكالية في موقف الدين من ثلاثة أسئلة:

أولها: هل الفطرة الأولية للإنسان صالحة أم فاسدة. أي: هل يميل – بطبعه - إلى الشر والفساد أم يميل للخير، بمعنى: لو تُرك الناس وشأنهم، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل، أم يتعاونون لدرء الشَّر وتنظيم علاقتهم ببعضهم.

الثانية: هل ينظر الدين للإنسان كفاعل عاقل ذي إرادة واختيار، وهل هو حر في الفعل كي يتحمَّل مسؤولية أفعاله وقراراته، هل هو قادر على الاختيار العقلائي والأخلاقي. وإذا توصل بعقله إلى فهم شيء أو قرَّر شيئاً، فهل لهذا الفهم والقرار قيمة واعتبار في الشرع، أم هو لغوٌ لا قيمة له. الاختيار العقلائي يعني الفهم المسبق لمحتوى الأفعال التي سيقدم عليها، وحساب نتائجها، ثم اختيار الفعل المؤدي إلى نتائج قابلة للتبرير الأخلاقي، أي نافعة له وغير ضارة لمن حوله وما حوله.

الثالثة: هل يتساوى الناس كافة في الصفتين السابقتين، أي في طبعهم الأولي وفي قدرتهم على تشخيص الخير، واتخاذ قرار بناءً عليه، أم أنَّهم يولدون بصفات متفاوتة؟.

معالجة هذه الأسئلة هي المدخل الصحيح في رأيي، للنقاش حول علاقة الدين بالعلم وعلاقة النقل بالعقل. آمل أن أعودَ لتوضيح هذا المسار في كتابة آتية.

***

كاتب ومفكر سعودي

محمد زكاريلا بد لنا ونحن نفكر في مشروع إصلاحي حقيقي، أن نعيد الاعتبار لما أسسه، وقعّد له جهابذة الإصلاح والمشروع النهضوي، منذ القرن التاسع عشر، في غرب العالم الإسلامي ومشرقه. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نؤكد على هذا المطلب الأساس الذي لا نزال نعيش وطأة تجاهله، ومن يدعي أن بوسع العرب والمسلمين اليوم تحقيق نهضتهم من دون إحداث إصلاح جوهري في مستويات كبرى، كمن يسلم بإمكان تحقيق الحرية والديمقراطية من غير نضال ضد الاستبداد. هي تركيبة كليَّة تفرض نفسها على الإنسان والاجتماع، ولا حِوَل عنها. كان الفكر الإصلاحي، منذ نشأته، على دراية بالرهانات الكبرى التي هو مدفوع إلى تحقيقها، ومن غير شك؛ فإنه لخّص، على مدًى طويل، على من هم في دواليب القرار حلولاً لمعضلات قلما انتبهوا إلى أثرها. ولربّما كان للتاريخ دوره الحاسم في تحديد أشكال حضور الفكر الإصلاح في الوطن العربي، إلا أن آثاره لا يمكن نفيها أو تغييبها، مع فارق ملحوظ في شكل الإصلاح لدى كل مشروع على حدة، أ ينبغي أن يكون تربويا أفقيا أم رأسيا سياسيا. وهو ما يدفعنا إلى التفكير في مجموعة من الأسئلة الجوهرية: إلى أي حدّ يمكن اعتبار الإصلاح مشروعا لم يكتمل بعد؟ وما هي مستويات التفكير فيه؟ وهل الإصلاح ذو منظور واحد أم أنه متعدّد الأصوات؟

يُتَداولُ مفهُوم “الإصلاح” – في اللُّغة العربيَّة – أكثر من غيره من المفاهيم، ولربَّما فاق بريقهُ فيها ما عاداه كالحريَّة، والديمقراطية، والإنصاف، والعدالة الاجتماعيَّة. ترجعُ الرغبَةُ في الإصلاح، إلى فهمٍ تكوَّن لدى الإنسان العربي المعاصر، عن واقعه، ومصيره؛ حيثُ لا يكادُ أن يتجاوز معضلةً حتى تواجههُ أخرى، وهو في حاله تلك غير قادر على الحراك، فتتساوى عندهُ مستوياتُ الإصلاح، ويصيرُ “إصلاحُ النفس” عينهُ إصلاحاً للمجتمع، والاقتصادِ، والسياسية. لم يحملِ الإصلاحُ في معناه التداولي العربيّ معنى التَّغيير الجذري الذي يهدفُ إلى اقتلاع مكامن الخللِ، بقدر ما كان الهدفُ منه “التقويم“، وفي أفضل الأحوال استبدال الأجزاء المعطوبة داخل آلة باليَة.

ليس الاصلاحُ رغبةً متمخِّضةً عن ترفٍ لدى المجتمعات العربية، ولا هو بالفضلة التي تزيدُ عن حاجته، وإنَّما والحالُ هذه أضحى من المسائل التي لا غنى عنها. لكنَّ “الإصلاح” لا يصيرُ فعلاً واقعيًّا إلا متى حرَّكتهُ إرادةٌ مجتمعيَّةٌ، يشاركُ فيها الفاعلون السياسيّون بالقدر نفسه الذي يشاركُ به أفرادُ الشعب، متجاوزين الوضع الصوريّ الذي أنتجته “الديمقراطيَّات المعطوبة”. وبه تصيرُ العمليَّة الإصلاحيَّة جزءاً من مشروعٍ، شاملٍ، هدفُهُ الوحيدُ هو النهوضُ بالمجتمع من دواليب التَّخلُّف والبحث عن سبُل التَّقدُّم، ومن أجلِ تحقيقِ تلك الغاية، كان لزاماً البحثُ عن الأسبابِ الذاتية للتَّقدُّم، وهي – في الغالب – أسبابٌ ذاتيَّة؛ فبالقدر نفسه الذي تكونُ به الأسبابُ الذاتيَّةُ عاملاً من عواملِ التَّخلُّف، فإنَّ فيها ما يتيحُ إمكانيات التَّقدُّم وسبل الإصلاح.

ما من نموذجٍ يمكنُ اتِّخاذهُ معياراً في الإصلاح، حتَّى وإن كان رائداً في الوقت الرَّاهن؛ لإنَّ شروط الإصلاح ينبغي أن تستنبت داخل المجتمع الذي يعنيه التَّغيير، وإن طُبِّقت عليه نماذجُ برَّانيَّةٌ فإنَّها ستقابلُ بالرَّفض، وإنْ قبلت، فإنَّ قبولها ظاهريٌّ لا يغيِّر من الجوهر شيئاً. تبيئةُ المضامين الإصلاحية، إذن، ضرورةٌ لا محيد عنها حتى وإن بدى لنا المجتمع مُتَهيِّئاً لقبولها. ما تخوضُه المجتمعات العربيَّة، اليوم، من تخبُّطاتٍ في المسألة الإصلاحيَّة مردُّه إلى عدمِ الحسمِ في مقولات الإصلاح ونماذجه؛ حيثُ استبدلت تلك المجتمعاتُ أطراً مؤسساتيةً تقليدية، بأطر مؤسساتية عصرانية، من دون أن تُتجاوزَ المُعضلاتُ الكبرى التي تواجهُ العربَ منذ مراحل ما بعد الاستعمار، وعلى رأسها، الوحدة، والتخلف، والحرب، والنزوح، والطائفية. إلخ.

تجاوز المسألة الإصلاحية نحو أفق التَّحديث، مصادرةٌ على المطلوب؛ حيثُ تطلبُ النتائجُ من دون مقدِّمات، ولكن أيُّ إصلاح هذا الذي ينبغي التفكيرُ فيه، أو التفكير من خلاله؟ لا بدَّ أن يطلب الإصلاحُ في مستوياتٍ؛ أوَّلها، وجوديٌّ محضٌ يرتبطُ بإدراكِ الفرد العربي لانتمائه التاريخي والهوياتي الممتدِّ، وتجاوزُ مجملِ الصراعات التي تُدخلهُ في نفق أيديولوجيٍّ ضيق؛ فالمتأمِّل في حال العرب اليومُ سيجدُ أنَّهم يملكون مقوماتِ الوحدة الوجودية والثقافية التي لم تكن متوفرةً لدى نظرائهم الأوروبيين حين فكّروا في إنشاء اتحادهم؛ وثانيها، معرفيّ تقاني، ألا ترى معي أنَّ النهضة الصناعية التي حدثت في مصر الحديثة، كان مردُّها إلى دافع معرفي وإقبال على تطوير التقنيات، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى اليابان، وغيرها من الدُّول الآسيوية، وعليه فلا وجود لإصلاح حقيقي من غير معرفة؛ وثالثها، استشرافيّ، يدفعُ بتلك المجتمعات الساعية إلى الإصلاح إلى وضع خطط استراتيجية تمكنها من توقع المستقبل والعمل على بنائه.

لا تقاس تجاربُ الأمم على بعضها البعض قياس مماثلة، ولا ينبغي أن يُتخذ من تاريخ الأمم معيارا لتحديد سبل التّقدم والتقهقر. غير أن للفكر زمنه الخاص الذي يحدّد من خلاله آفاق التجربة الإنسانية، ويؤطر به حركة الوعي في اتجاه التطوّر الذي تُلحظ نتائجه ماديًا ومعنوياً. فالحداثة على المنوال الغربي نتيجة لمجموعة من العوامل التي، تظافرت مع بعضها البعض، أو لنقل إن الحداثة هي اللحظة التي تم فيها الوعي (مع التّشديد على معنى الوعي) بما أنتجه العقل الغربي خلال مراحل نهضته، أي أنه لم يجر التحوّل نحو الحداثة إلا بإعلان، تحقق بضرورة استيعاب اللحظة النهضوية، المتصلة بإصلاح المنظومة الدينية، هذا الرهان الكبير مثل، لوحده، غايةً لدى فلاسفة الحداثة والأنوار بعدهم. لكن الحداثة على المنوال الغربي ليست معياراً، ولا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام حجة لدى التيارات المحافظة التي تهوي بالغرب إلى مستوى الشيطانية، وإنما غايتنا هنا موضوعية تفكر في الظاهرة كما هي، فإذا تبين بالبرهان أن طريق الحداثة لا يشق إلا بالإصلاح، فقد تبين أيضا أن الحداثة هي الطريق نحو التقدم؛ إذ الطريق هو نحو التقدم هو ما يحدد أشكال التفاوت بين المجتمعات. لكن هل نحنُ، اليوم، قادرون على فتح الورش الحداثي في أوطاننا العربية؟ وهل استنفذنا إمكانيات الإصلاح؟

قد يبدو الجواب عن السؤال أعلاه محبطاً؛ لأن الوقائع تخبرنا بأننا لم نستنفذ بعد ممكنات الإصلاح، أو لعلنا أحوج الناس إليه اليوم. لم يتحقّق المشروع الإصلاحيّ لأسباب ذاتية وأخرى موضوعيّة، وأما الذاتيّ فما اتصل بعدم قدرة العرب والمسلمين اليوم على مجابهة الإشكاليات الهوياتية الكبرى، وعدم قدرتهم على إعادة الاعتبار للمقومات الحضارية والروحية في ابتعاث وعي جديد يمكنهم من مواكبة واقع يتغير، أضف إلى ذلك أن ثمة غيابا للعامل المعياري والقيمي من معادلة الإصلاح. وأما الموضوعي فيتصل بطبيعة التحوّلات التي شهدتها الدول العربية والإسلامية في ظل الحربين العالميتين ومسائل الاستعمار وقضايا التحرّر، إلى درجة غاب معها أي انخراط في واقع الأمة وصارت كل دولة منشغلة بمشاكلها القطرية، وعضد ذلك كله استنبات الكيان الصهيوني في منطقة تعطلُ إمكانيات الوحدة. تلك عوامل ساهمت بشكل مباشر، أو غير مباشر، في تحديد معالم الإصلاح والمشروع النهضوي، ولم يعد ممكنا التفكير في تطويره، بل أمسينا، والحال تلك، أصحاب سياسات الغالب عليها ردود الأفعال، وليست مشاريع ذات نفس إصلاحي يخترق العقود، وعابر للأوطان.

كان الإصلاحُ، وما يزال، مطلباً رئيساً، منذ أواخر القرن الثامن عشر، ولكن توقَّفت عجلتهُ – في العالم العربي – نتاجاً لمتغيرات سياسية عاشتها المنطقة، ولا تزال، لكن ألا يزال بإمكان العرب اليوم استنهاض الهمم من أجل خوض غمار التجربة الإصلاحية؟ هل من الممكن التفكير في أفق جديد للتجربة السياسية؟ هل مطلب الدَّولة الحديثة يمكن استدماجه ضمن منظور الإصلاح؟ كيف يمكن أن يكون الإصلاح مقدّمة لنهضة حقيقية في الوطن العربي؟ هل بوسع الإصلاح أن يكون ممهداً لرؤية وحدويَّةٍ قوامها التغيير نحو الأفضل؟

تلك الأسئلة هي بمثابة إحراجات تضعُ نفسها أمام، المواطن العربي، بوصفه إنساناً له تاريخٌ حافل بالإنجازات، وله ما يؤهله لكي ينهض في وجه التحدِّيات الدّاخلية، والخارجية.

***

زكاري محمد

 

جعفر نجم نصرلا يمكن أن تستقيم العبادة من دون معرفة لدى العابد ازاء معبوده، فالاديان تأسست على العقائد ومعانيها ودلالاتها ثم جاءت الشعائر أو الطقوس بعد ذلك، فمعرفة الحق سبحانه هي ما يبتنى عليها جوهر الاسلام برمته، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب في خطبة محورية له: (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له...)، وفي السياق ذاته يرد الحديث القدسي: كنتُ كنزاً مخفياً لم أعرف فأحببتُ ان اعرف فخلقت الخلق فتعرفتُ إليهم فعرفوني).

فالمعرفة أصل العبادة، ولا يمكن أن تصح العبادة وتدرك معانيها وفلسفتها الخاصة بكل ركن من أركانها من دون مقدمات وأسس تقوم عليها تمنحها التفسير والمغزى أو المعنى أو الغاية، فضلاً عن دقة التأدية الباطنية والروحية قبل الاداء الجسدي.

والأجيال الشبابية هي بين امرين في سبيل تحصيل هذه المعرفة الدينية المعمقة، فبين جهد ذاتي وسعي خاص لمعرفة ذلك، وهذا الأمر مما يؤسف له محدود للغاية جداً، اما الامر الآخر هو عبر وجود مرتكز مؤسسي يؤسس لخطاب معرفي/ ديني، وبذلك يسهم في اعداد وعي ديني خاص.

ولقد كانت هنالك تجربة مهمة وثرية للغاية قامت بالأمر الثاني في أحلك الظروف وأشدها آنذاك، وهي تجربة حسينية الإرشاد التي تم انشائها في مدينة (طهران) في أواخر خريف 1963م، والتي أسست بدعم مالي من احد التجار الكبار (محمد همايون) وبالتعاون مع المفكر الإسلامي البارز المرحوم الشيخ مرتضى مطهري، وهي جاءت بعد تطور جهود معرفية لشخصيات اكاديمية وحوزوية أرادت تقديم الإسلام بنحوٍ عصري جديد عبر المحاضرات والندوات والمباحثات الفكرية المتقدمة.

وهي خلاصة نهضة معرفية جديدة انطلقت بداية عام 1960 عبر انشاء (مركز نشر الحقائق) في مدينة مشهد، و(جمعية المحاضرات الشهرية لتبيان الطريق الصحيحة للدين) وكانت بدعم من متبرعين من رجال البازار الاثرياء.4090 حسينية ارشاد

كانت حسينية الإرشاد تضم شخصيات فكرية مرموقة أمثال (أبو الفضل موسوي الزنجاني، ومحمود الطالقاني، ومحمد تقي جعفري، ومحمد البهشتي) والذين تحالفوا مع مثقفين اسلاميين ذوي تعليم اكاديمي عال، إذ سعوا لتقديم نسخة تأويلية جديدة للإسلام ازاء النسخة الكلاسيكية السائدة آنذاك، بعبارة أدق: كان مرتضى مطهري يواجه بعض الشخصيات الحوزوية التقليدية التي لم تكن تواجه التحديات الفكرية والاجتماعية التي عصفت بالعالم الاسلامي بعد تمدد الليبرالية المتوحشة، والمد الالحادي الجارف وغيرها من التحديات المتعددة.

نجحت حسينية الإرشاد بكسب الجيل الشبابي الذي يحمل تصورات خاطئة وتقليدية عن الاسلام وعن المباحث الدينية بوجه عام، واستطاعت ان تضم شخصيات معرفية لكي تحاضر على منصتها، وكان في طليعتهم آنذاك علي شريعتي الذي استطاع تقديم سلسلة محاضرات دينية مهمة.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهت حسينية الإرشاد من جهة مراقبة جهاز السافاك ابان عصر الشاه، فضلاً عن الاختلافات الادارية الداخلية، وما أثارته محاضرات علي شريعتي من خطاب معرفي جديد ازداد حوله سوء الفهم واللغط ، إلا ان حسينية الإرشاد ظلت إحدى المصادر المعرفية الدينية التنويرية آنذاك، والتي استطاعت تقديم الاسلام بلون عصري جديد يواجه كافة التحديات الاجتماعية والفكرية.4091 حسينية ارشاد

السؤال الذي يطرح الآن: هل يمكن استدعاء وإحياء هذه التجربة في العراق راهناً؟ وما هي السبل في تحقيق ذلك؟ ان الاجابة عن هذين السؤالين صعبة ومركبة للغاية، ولكن نحاول ان نقدم تصوراً أولياً عن ذلك:

أولاً: إن تحول المساجد والحسينيات إلى منصات معرفية ممكن عبر مبادرة الحوزة لذلك، بشرط منحها الاستقلالية وفتح قنوات تواصل مع الجامعات لأختيار الانسب والاكفأ لهذه المهمة الصعبة.

ثانياً: إن الاجيال الشبابية في حالة بحث عن لون معرفي عصري للإسلام، وان الخطابات التقليدية لم تعد تنسجم مع تحولات الذهنية، فاللغة الوعظية لم تعد نافعة أبداً بالنسبة له، ويريد لغة التفسير لما يجري على المستوى الاجتماعي والفكري والاخلاقي، وهذا لا يمكن ان يقدمه الا خطاب معرفي عصري جديد يعتمد الموجهات الفكرية المنهجية العصرية من جهة، والموجهات النصية (القدسية) من جهة أخرى عبر استدماجها بنحو عقلي وموضوعي.

ثالثاً: إن الموارد المالية التي يقدمها التجار العراقيين في المناسبات الدينية ولتأدية الحقوق الشرعية، ممكن أن تصرف في سبيل دعم هكذا أنموذج معرفي جديد، وهذا الأمر لا يتم من دون توجيهات حوزوية مباشرة.

رابعاً: إن مراكز الابحاث والدراسات الحوزوية هي نخبوية للغاية ولا تصل إلى الجيل الشبابية ابداً بنحو ميسر من جهة خطابها ومادتها العلمية، أما المراكز العلمية التابعة للاحزاب فهي مؤدلجة ومصلحية ولا غاية لها سوى تلميع قادتها وكسب الاتباع ولا هم معرفي حقيقي لها أبداً وهي مراكز لذر الرماد في العيون لأجل ايصال فكرة مؤداها: نحن مع المسيرة المعرفية العالمية ولدينا منطقنا العلمي الرصين كذلك!!؟.

اعتقد ان المرحلة الراهنة مرحلة حساسة وخطيرة على مستويات متعددة وهذا الأمر تجلى في فتن دينية وانحرافات اخلاقية وفوضى سلوكية وحتى معرفية لدى عددا كبيرا من الشباب، ومن ثم فأن استدعاء تجربة حسينية الإرشاد مسألة مهمة. صحيح لا يوجد تاجر بعقلية محمد همايون الذي تبرع بأموال طائلة لشراء قطع أرض وبناء الحسينية واستمرارية الدعم والإدارة، وصحيح لا يوجد لدينا أمثال شخصية المرحوم مرتضى مطهري أو المرحوم علي شريعتي، وبالتأكيد ان شبابنا ليس بمستوى حماس ورغبة الجيل الذي التف حول خطابات حسينية الإرشاد، ولكن إلا يمكن ان نصنع هكذا نماذج؟ أليس الأمر منوط على تجسير العلاقة بين الجامعة والحوزة والمجتمع؟ أليس الامر يحتاج إلى خطابا معرفيا جديدا لدى الوعاظ وخطباء المنابر؟ وذلك لأن الاسلام ليس هو تجربة دينية مرت في حركة التاريخ وانتهت كما أفهم بل هو حركة مستمرة-متدفقة-ومتجددة ومن ثمّ فأن الامر يتطلب تجديدا للقوالب المعرفية لثوابت الاسلام، واقصد رؤية تأويلية عصرية ..وهذا الامر مرتكز على تجديد الخطاب.

***

ا. د. جعفر نجم نصر

 

يعدّ الدين وتمظهراته من أهم العناصر والمقومات التي بقيت حاضرة من العصور القديمة ولا زالت لابثة في هذا العصر المتدفق بالحداثة والسرعة. فكل شيء يكاد اليوم أن يكون جديدًا، إِلَّا الدين الذي بقي ممسكًا بروابط الاتصال في المجتمع ومحدداته، إذ لا زالت تأثيراته حاسمة في قلوب الناس وقناعتهم الإيمانية، ولا يطوق هذا الأمر بالتجربة الإسلاميَّة ومجتمعاتها. فكل المجتمعات لعب الدين فيها الدور الفاعل في صياغة نظم العقائد والقوانين وتبريرها. إِلَّا أنّ الإشكالية المعاصرة بدأت عندما اصطدمت الرؤية الدينيَّة- التي تشكلت بتجارب تاريخيّة- مع عناصر من الحداثة لا يمكن اجتنابها.

والتي عُبر عنها بصدمة الحداثة التي تعدّ إحدى لحظات الفكر الإنساني التأسيسي، واللحظة هنا بمعناها الفلسفي الهيغلي، أي المرحلة الفاصلة والأساسية، وليست العابرة.

وقد بلورت هذه اللحظة معالجات تراوحت بين القطيعة مع هذا الطرف أو ذاك، أو تأويلات تارة للرؤية الدينيَّة، وتارة لعناصر الحداثة.

وعلى حد تعبير " وايد هيت" الفيلسوف الإنكليزي فإن العالم الجديد قد مثل كارثة بالنسبة إلى المتدينين والعلماء، ولكنه في ذات الوقت وفر فرصة كبيرة لمزيد من التمعن في طروحات كل منهما وإعادة النظر في مقولاتهما.

نعم فهو فائدة من جهة اختبار قدرة التراث الديني في حل المشاكل وتحريك عجلة الإيمان والتنمية ودفع الوجود البشري نحو الخيار الأفضل. وكارثة من جهة أخرى وذلك عندما زحزحت الحداثة واشتغلت على اسقط عدد من المقولات الإيمانية بل ودعت لمسح الطاولة، والتحرر من أوهام المعابد. وهو ما دفع البعض- ولا سيَّما في أوروبا ونزاعها مع المسيحية وتحت نشوة الانتصارات المعرفية المتتالية ضد الرؤية الدينيَّة الكنسية- إلى الظن بأنهم قد حسموا النزاع  وان تجريد الغيبي الميتافيزيقي من أذهان البشر وعقولهم أصبح هينًا. غير ان للحداثة سلبيات ومخالب تحت كفوف من حرير وفي شتى المجالات، والتي لعبت دورها في عرقلة هذا المشروع. وهي كثيرة بعضها يتعلق بأصالة الوجود الدينيّ في أعماق الإنسان واستحالة الالتفاف عليه، وبعضها يتعلق بمعالجات تركت تداعياتها في التشكل البشري، فمثلًا المبادئ الدينية التقليدية المتعلقة بالموت والحياة ، والجنس، والنسل، والزواج، والحرية الجنسية، ومكانة المرأة في المجتمع وو، قد أصبحت مُنتهكة، أو ملغاة تمامًا من قبل التحديدات البيولوجية الجديدة (1).

ولهذا دعا المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه إلى ضرورة تنشيط مصطلح فيبر الشهير:" خيبة العالم" بمعنى أن العالم الأوربي قد أصبح خاويًا أو خائبًا بعد انحسار التقديس عنه، أي بعد انحسار المسيحية وصعود الوضعية والعلمانية. فالشخص الدينيّ الذي تربى منغمسًا في أحضان العاطفة الدينية أصبح بعد الثورة الحديثة مواطنًا مستقلًا محميًا من قبل القانون. وهذه نقلة نوعية كبرى. وأصبح بمقدوره أن يوجه أعماله باتجاه خدمة مصالحه الشخصية فقط دون التفكير بأي شيء يتعالى عليه أو يتجاوزه. بل وأصبح قادرًا على التخلي عن جميع تضامناته العائلية. ولهذا تجد الدراسات والمراكز الحديثة صعوبة في بلورة أخلاق جديدة متلائمة مع المجتمعات الحديثة وحاجاتها ومتطلباتها. نعم لم تنتهي مدة من الزمان في أوربا حتى تبين لها أن القطيعة التامة مع التراث الدينيّ ومسح كل شيء مقالة نرجسية ولا مقوم علمي لها.

ومن إفرازات الحداثة التي لا تقل سلبيتها عن القطيعة التامة، هو ما عاشته الشعوب العربية- الإسلامية وهي ظاهرة فرض الحداثة وتصديرها بعناوين وسبل إكراهية لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية وو، وقد ساهمت بشكل فج في توليد خط مضاد أصولي بدءًا من الإخوان المسلمين وانتهاء بالحركات الأكثر هيجانًا وعنفًا وتكفيرًا كالقاعدة وأخواتها، كما في باكستان ومصر والجزائر والعراق وو. والتي عبر عنها بتعسف برنارد لويس عندما وسمها بـ (عودة الإسلام). وكأن المعبر عن الإسلام- بنزعاته الروحية والإنسانية- هذه الحركات المسكونة في العنف والقتل الجوال.

أما ثمار الحداثة الفكرية وخدماتها في وجهها الآخر المحدث في حقل التراثيات الدينية وتغذية الإيمان فهي غير قليلة، إذ تسعى إلى تكشيف المناطق المستبعدة من التفكير أو "المستحيل التفكير فيه"، أو "اللا مفكر فيه" بتعبير محمد أركون. لتعمل على سد بعض الثغرات في التراث الديني والكشف عن بعض الحلقات الضائعة فيه، وغربلته وتجديده، لينعكس ذلك على تجديد الإيمان وتوسعته، من دون التنكر للرمزية الدينية التي لا تزال تعيش عليها التشكيلات البشري للمجتمعات سواء كانت هذه الرمزية جيدة أم سيئة، الأهم أن توجه الدراسات والبحوث إلى المعقولية الانثروبولوجية من الرمزية الدينية لنمسك بالجانب المتنور من التدين.

ومن هنا يأتي السؤال: هل لنا أن نلتزم بأي فهم للدين وتراثه في هذا العالم المتسارع الذي يتجه بنا إلى ما هو أحدث وأفضل من مناهج التفكير والحياة ؟ الجواب العلمي سيكون بالنفي المطلق، لأن الإنسان المعاصر لا يمكن له أن يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه الإنسان القديم ويفهمه. وإذا لم تسعفه القراءة التبجيلية الوعظية التقليدية للدين فأمامه طريقان لا ثالث لهما:

الأول : أن يتخلى عن الدين نهائيًا، وبالتالي يخسر الخصائص والمزايا الايجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (وهو المقدار المتيقن). فتخلي الإنسان عن الدين يغلبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والتوتر.

الثانية: أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد قادر على الصمود والاستجابة للمعطيات الحديثة. نعم الفهم التقليدي كانت له في حينه معطيات إيجابية وحسنة، ولكنه اليوم غير جدير بالانحياز له. لعدم توفر المصلحة والحقانية فيه (2).

ومن أبرز شروط الفهم الجديد، أو التحديث الجديد، أو الإيمان الجديد الذي يراد له أن يبقى حيًا وأن يستمر في الإشعاع هو في قدرته على نقد التراث الديني وزحزحته وتفكيكه بقوة وصرامة للخروج منه باضاءات إنسانية وروحية بعيدًا عن الأوهام والتخيلات.

والنقد- باشتراطاته العلمية الصارمة- وهاجس الإبداع هما الفضاء المناسب لولادة أفكار مدهشة وفائقة ومختلفة عن السائد. وبغير هذا الفضاء لا يمكن إجراء تعقيلات منظومية لقوانين الفهم الدينيّ وتحديثها.

أما الكتابات التبجيلية والوعظية الرائجة في المكتبات والجامعات وحلقات التدريس والمجالس الدوغمائية قد أغلقت كل ما كان مفتوحًا ومنفتحًا فخنقت هذا الفضاء وضيقته، وهو ما انعكس على سرعة التحديث الإيماني وعمقه وحضوره.

المعادلة كالآتي: نقد + هاجس الإبداع= تحديثات واستطلاعات واكتشافات تستوعب المفارقات المعاصرة. وتقدم صورة واقعية وموضوعية عن الدين وتراثه، فهي تعطي الأولوية إلى التحليل والانفصال والاتصال والنظر وإعادة النظر وو.

مع بيان أن النقد المنبثق من داخل التراث الديني بعد الخروج عليه وإعادة النظر فيه، يكون إدراكه للحقائق أكبر وأعمق من النقد المسلط من الخارج أو الدخل. فهضم التراث بتاريخه وقوانينه وآثاره وفنونه وتحسهها تأتي كخطوة أولى، والخروج على هذا التراث وفحصه وتحقيبه وتفتيح التباساته وما علق به من محددات ليست من صميمه وجوهره تعد المرحلة الثانية، وهي أهم من الأولى.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلامية

...................

(1) ينظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، 218.

(2) ينظر: مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، 34- 35.

 

عبد الجبار الرفاعييتكلم المستبدّ كثيرًا بالسياسة والدولة والقانون والوطنية، ويشغل الناسَ بالشعارات الصاخبة، لكنه عمليًّا يعبثُ بالحياة السياسية فيهشّمها، ويبدّد مواردَ الوطن بالنهب والحروب العبثية، ويفكّك الأسسَ المركزية للدولة.

المستبدّ غيرُ واقعي، المستبدّ لا يعرف منطقَ التسويات، المستبدّ لا يلجأ للحوارِ والتفاوض إلا في حالةِ الهزيمة والسقوط في مأزقٍ قاتل، بعد أن يخسر كلَّ شيء لحظةَ انسداد كل آفاق الحل الدبلوماسي العملي للأزمة، كما حدث في خيمِة صفوان عند هزيمةِ صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وتوقيعه صك الاستسلام، ورضوخِه للتنازل عن كلِّ شيء. تم توقيع وثيقة استسلام صدام حسين بعد تدمير العراق، بعد مغامرته الطائشة في احتلال الكويت وهزيمته الشنعاء أمام قوات التحالف في 3 مارس "آذار" 1991، في اجتماع خيمة صفوان بين ممثلي صدام حسين وقائد قوات التحالف الجنرال شوارتزكوف.

السياسي الذكي هو الواقعي الذي يمتلكُ حكمةً وبصيرةً تمكنّه من حلِّ أزماتِ ومشكلات بلده في محيطه الإقليمي وفي علاقاته الدولية بدبلوماسية هادئة، وتجفيفِ منابع الحرب وحماية السلام، وتوظيف طاقاتِ المواطنين وموارد الدولة في البناء والتنمية المستدامة.

السياسةُ في الاستبداد مهنةُ من لا مهنةَ له. أما العلماءُ والخبراءُ المختصون في الدولة، والنظم السياسية والمالية، والإدارة، والاقتصاد ومختلفِ العلوم والمعارف الحديثة ذات الصلة، فلا حضورَ لهم في بناءِ الدولة وإدارتها، وإن حضروا لا يمتلكون سلطةَ اتخاذِ قرار، ويظلّ دورُهم هامشيًا، يضعهم المستبدّ حيثما يشاء فيما يشبه الديكور لسلطته.

المستبدّ يستثمرُ التراثَ والهوياتِ العرقية والمعتقداتِ الدينية وكلَّ ما يرسّخ تسلَّطه بدهاء، فيثير فزعَ الجماعات والطوائف ويستعدي بعضَها ضدَّ البعض في الوطن الواحد، بإذكاءِ الضغائن والأحقادِ الراقدةِ في الذاكرة العتيقة، وتفجيرِها بصخبٍ دعائي يثير غرائزَ الثأر والانتقام، ويزجّ الطوائفَ والإثنياتِ في نزاعاتٍ لا تنتهي، يجيّش فيها الكلَّ في مواجهة الكلِّ.

قوةُ الدولة في عالَم اليوم تعكسها قدرتُها على: تحييدِ الأعداء، واكتساب الأصدقاء، والاستثمارِ في العلوم والمعارف والتكنولوجيات الجديدة والذكاء الصناعي والأمن السيبراني، واستيعابِ الخبراء المتخصّصين في مختلف العلوم والمعارف الحديثة وتوظيف خبراتهم في التنمية الشاملة، وصياغةِ وتنفيذ الخطط الاستراتيجية والبرامج التربوية والتعليمية والاقتصادية، وكلِّ ما تتطلبه عمليةُ التنمية.كما تعكسها قدرتُها على: تدبيرِ الاختلاف، وإدارةِ التعدّد، وحمايةِ التنوع، واعتمادِ المصالح المتنوعة في العلاقات الدولية، وحسمِ النزاعات المحلية والاقليمية بشكلٍ سلمي.

سرُّ التخلف في وطننا العراق يكمن في تواصل الاستبداد، وتمويهه في التعبير عن نفسه بأنماط وأقنعة ودرجات مختلفة، الاستبداد يضرب كلَّ مفاصل الحياة ويحدث شللًا في كلِّ المؤسسات العامة والخاصة، ويحدث اختلالاتٍ في حياة الفرد والعائلة، تتسبّب في خلق شخصية مأزومة. الاستبداد يتغلغلُ في النفس البشرية ويلبث قابعًا في أعماقها، ويترسب في البنية اللاشعورية للمجتمع، ويعيد إنتاجَ العلاقات وكلَّ شيء على وفق ما يرمي إليه، بنحوٍ يجعل الناسَ مستعدين للاستعباد، ومذعنين للاستبداد بشكلٍ طوعي حتى بعد موت المستبد.

الاستبدادُ يبرعُ في الترويضِ والتدجين ولا يكترثُ بالتربية. في التربيةِ يكون الكائنُ البشري فاعلًا، في الترويضِ يكون الكائنُ البشري منفعلًا. التربيةُ تبتني على مسلّمةٍ ترى كلَّ إنسانٍ نسخةً ذاتَ تميّزٍ وفرادة، تمتلكُ طاقةً جوانيةً ينبغي أن تنبعث، كي تتشكّلَ شخصيتُه المستقلة. الترويضُ يبتني على مسلّمةٍ ترى الناسَ أشياءَ تأخذ شكلَ القالبِ الذي تنسكب فيه، لذلك ينبغي أن يصير الكلُّ نسخةً واحدةً، تتماثل ملامحُها، تتشابه مواصفاتُها، تحاكي خصائصُها غيرَها.

الترويضُ عمليةُ تدجين تنقضُ فلسفةَ التربية وأهدافَها في بناءِ الإنسان وتأمينِ سلامته النفسية، وتكريسِ سكينته الروحية، وإحياءِ ضميره الأخلاقي، وتحطيمِ أغلال عقله وفك قيود تفكيره. تنشدُ التربيةُ إيقاظَ الطاقة الكامنة في روح وقلب وعقل هذا الكائن، فيما ينشدُ الترويضُ تنميطَ شخصيته وسكبَها على شكلِ قالبٍ متحجّر لا يتبدل.

تعمل السلطةُ في الاستبدادِ على أن تعتمد التربيةُ في العائلة والمدرسة والمجتمع التلقينَ والتدجين. يشلّ التلقينُ العقلَ ويعطِّلُ التفكيرَ، ويطفئ الروحَ ويميتُ الإيمانَ الحرّ. بالتلقينِ والتكرار تظهر الأوهامُ والخرافات والأكاذيب كأنها حقائق. الحقيقةُ هي ما يظهره التكرارُ على أنه حقيقة، وما يحسبه الذهنُ حقيقة، وإن لم تكن كذلك في الواقع. معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهامٌ وأكاذيب وسيناريوهات ومعتقدات افتعلتها أذهانٌ محترفة.

لا تنشدُ التربيةُ والتعليمُ في الاستبدادِ تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الخطأ، والحقِّ في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشدُ تكريسَ الطاعةِ العمياءِ والإذعانِ والرضوخِ والعبوديةِ الطوعية، عبر تنميطِ شخصية التلميذ، وإنتاجِ نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصية وبصمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبدادُ بوصفه نتيجةً طبيعيةً لكلِّ ذلك.

تشدّد كلُّ برامج وتعليمات وقرارات المستبدّ على ترويضِ الكائن البشري وتدجينِه على التكيّفِ الاجتماعي بالإكراه، ويعتمد في ذلك أداتين: التلقينَ الرتيب المتشابه المُمِل حدّ الضجر، والتخويفَ والعقاب الأليم والبطش على أية مخالفة مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يتمادى المستبدّ في ذلك فيحاسب ويعاقب حتى على ما يخمنه من نوايا مضمرة.

الأخلاقُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، إنها أخلاقٌ يتوارى فيها الضميرُ الأخلاقي، بعد أن يخضعَ سلوكُ الإنسان لإكراهٍ يفرض عليه مواقفَ وسلوكًا مضادّا يحجب ما يخفيه من قناعات. يشيع في الاستبدادِ النفاقُ السلوكي، الظاهرُ في شخصية الإنسان يُكذِّب الباطن، والباطنُ في الشخصية يُكذِّب الظاهر. الاستبدادُ من أخبث خطايا السلطة، لأنه يفسد كلَّ شيء يستحوذ عليه، وهو بطبيعته لا يبقي شيئًا في حياة الفرد والمجتمع من دون أن يستحوذَ عليه.

تشيعُ في فضاءِ الاستبدادِ حياةٌ دينيةٌ مسجونةٌ بمعتقداتٍ ومفاهيمَ مغلقة، تتغلغل في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، وثقافةٌ دينيةٌ لا تعرف معانيَ الحرياتِ والحقوق. الإنسان الذي يعيش في نظامٍ مستبدّ يعيش قلِقًا خائفًا مذعورًا، وبدلًا من أن يكونَ الدينُ في حياته مُلهِمًا لطمأنينة القلب وسكينة الروح، ومصدرًا لإيقاظِ الضميِر الأخلاقي، يتحول الدينُ إلى مصدرٍ للتخويف والقهر والإذعان والتركيع والاكتئاب.

السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة. السياسةُ فعلٌ مجتمعي، الاستبدادُ يختزل المجتمعَ كلَّه بفردٍ واحد، يحتكرُ كلَّ شيء بيده. يحيك المستبدّ نسيجًا متشابكًا متشعّبًا وعرًا مركبًا معقدًا للسلطة، يبدأ فيها كلُّ شيء منه وينتهي كلُّ شيء فيه، بل يختزل المستبدّ المجتمعَ كلَّه بشخصه، بنحوٍ يفضي فيه نحرُ المستبدّ إلى نحرِ المجتمع.

المستبدّ يحتكر الفضاء العام، يحتكر كلَّ شيء في شخصه، يختصر الدين والثقافة والقيم والسياسة وكلَّ شيء فيه. الاستبداد حكم الفرد، يختصر هذا الفرد كلَّ شيء في حياة الناس بتفكيره ومعتقداته ورؤيته للعالَم وثقافته وقراراته، لا تفكيرَ خارجَ تفكيره، لا معتقدَ خارجَ معتقداته، لا رؤيةَ خارجَ رؤيته للعالَم، لا ذوقَ خارجَ ذوقه، لا ثقافةَ خارجَ ثقافته، لا قرارَ خارجَ قراراته. للسلطة المستبدّة بنية هرمية خاصة، تنتج نمطَ علاقات تسلطية في العائلة والقبيلة والحزب والجماعة والمؤسسة مثلما تنتجه هي أيضًا.

يتحول الماضي في الاستبداد إلى ماضي المستبدّ، الحاضرُ حاضرُ المستبدّ، المستقبُل مستقبلُ المستبدّ، الأيامُ أيامُ المستبدّ، الفرحُ فرحُ المستبدّ، الحزنُ حزنُ المستبدّ، الثقافةُ ثقافةُ المستبدّ، الآدابُ آدابُ المستبدّ، الفنونُ فنونُ المستبدّ. في الاستبداد تسودُ الرتابةُ والتشابهُ والتكرار، يغدو الزمنُ تكراريًا، الحاضرُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الماضي، المستقبلُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الحاضر. يبدأ كلُّ شيء من حيث انتهى، ينتهي كلُّ شيء من حيث بدأ، البداياتُ تكرّر النهاياتِ، النهاياتُ تكرّر البداياتِ. في الاستبدادِ كلُّ شيء يتكرّر، وتتوقف حركةُ التطور، لأن قوانينَ التطور ينفيها الزمنُ التكراري. التكرارُ يبدّد الشغفَ في الحياة، وتندثر معه قدرةُ الكائن البشري على الخلق والإبداع. في الاستبدادِ يكون كلُّ شيء كفيلم يكرّر نفسَه آلافَ المرات، يتوقف الزمنُ الشخصي، ويمسي الإنسان كائنًا محنطًا.

السياسةُ فنُ إدارة التسويات، لا سياسةَ بلا تسويات، السياسي الواقعي يلتقط لحظةَ التسوية، الواقعيةُ السياسيةُ تعني البراعة في إدارة التسويات. منطقُ التسويات غائبٌ لدى المستبدّ، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء أو أن يخسرَ كلَّ شيء. غيابُ التسويات يعني غيابَ المضمون العقلاني للسياسة. السياسيُ الواقعي هو من يلتقط اللحظةَ المناسبةَ للتسوية. منطقُ التسويات غائبٌ لدى أغلب السياسيين في بلدنا، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء، أو أن يخسرَ كلَّ شيء.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

مجتمعاتنا وشعوبنا كبقية المجتمعات والشعوب، التي تبرز فيها ظواهر ومشكلات عديدة، وعلى المستوى الواقعي فإن جميع الأمم تعاني من ظواه ر سلبية تعيشها أو تعانيها، لأن هذا من طبع الأمور، وذلك لوجود إرادات كثيرة ومصالح متنوعة، وميولات وأهواء متباينة، كل هذا يفضي إلى وجود مشاكل وأزمات، وهذا ليس خاصا بمجتمع من المجتمعات.. وإنما هي حالة عامة وشاملة، تشمل جميع الأمم والمجتمعات، بصرف النظر عن الأيديولوجيا التي تحملها هذه المجتمعات والأمم.. 

فالمجتمعات الإنسانية، ليست مجتمعات من الملائكة بدون أهواء وغرائز، وإنما هي مجتمعات تتزاحم فيها الإرادات والمصالح، وبعض أطرافها بفعل غريزة حب الأنا والأنانية المفرطة، يلجأ إلى أساليب ملتوية لضمان مصالحه أو تحقيقها في الوجود الخارجي، مما يضر بشرائح اجتماعية أخرى..

والأيديولوجيا والمنظومات العقدية والأخلاقية، مهما كان تأثيرها على المجتمع وأفراده، إلا أن أقصى ما تقوم به، هو إدارة هذه الإرادات والمصالح على نحو تقل أو تتضاءل فيه المشاكل والأزمات، إلا أنه ليس بمقدورها إنهاء كل المشاكل والأزمات.. 

وإنما هي تضبط سلوك الإنسان، وتعمل على تهذيبه، وتعلي من شأن الاعتبارات الدينية والأخلاقية.. ولكن البشر بطبعهم يتفاوتون في مدى التزامهم بهذه الاعتبارات والمقتضيات الدينية والأخلاقية.. ونحن هنا لا نبرر لأحد عدم التزامه بحقوق الآخرين، وإنما نعمل على تفسير هذا السلوك الاجتماعي، دون إعطاء أحكام قيمة عليه.. لأننا نعتقد أن التفسير السليم والدقيق للظواهر الاجتماعية المختلفة، هو الذي يفضي إلى اتخاذ مواقف أو تبني آراء ورؤية صحيحة تجاه هذه الظواهر الاجتماعية.. وثمة مسافة من الضروري إدراكها بين التبرير والتفسير، فالأول يسعى بكل ترسانته النظرية والعقلية لتصحيح أي تصرف أو موقف يقوم به هذا الفرد أو تلك الشريحة أو الجماعة بدون أية صفة معيارية تحدد أو تنظم عملية صناعة الرأي أو اتخاذ الموقف..

أما التفسير فهو ينطلق من رؤية متكاملة، تستهدف ليس إدانة هذ االتصرف أو رفض هذا الموقف، وإنما تستهدف تفسير وتحليل هذا الرأي أو الموقف.. 

 فالتفسير يتجه إلى معرفة ما يجري، بينما التبرير يتجه إلى توفير غطاء ديني أو معرفي أو اجتماعي لما يجري..

لهذا فإننا تجاه ظواهرنا الاجتماعية والإنسانية، ليس أولويتنا تحديد موقف منها، وإنما هو البحث عن تفسير علمي ودقيق لها، حتى ولو كان هذا التفسير، لا ينسجم وميولاتنا النفسية والفكرية.. فقناعاتنا وأفكارنا، ينبغي أن لا تتحول إلى حجاب يحول دون فهم ما يجري من أحداث وتطورات وظواهر مجتمعية.. وانطلاقا من هذه الرؤية، نود الاقتراب من بناء تفسير مواقف بعض علماء الدين ورجاله تجاه الظواهر البشرية المختلفة التي تجري في مجتمعهم.. 

فالمجتمع الإنساني كما قلنا آنفا، مليء بالإرادات والتناقضات والمصالح، والمجتمع الإنساني هو أشبه ما يكون بالبحر والمحيط العميق، فلو نظرنا إلى سطحها نجده هادئا ويدفع نحو التأمل الهادئ، ولكن في جوفه ثمة صراعات متعددة بين الأسماك الكبيرة والصغيرة وما أشبه ذلك.. 

فمجتمعنا كالبحر فلو نظرنا إليه نظرة سطحية، نجده هادئا ورتيبا ،وكأنه يعيش ويسير وفق خط مستقيم لا يحيد عنه قيد أنملة.. ولكن حين التعمق في قضايا المجتمع المختلفةنجده كيفية المجتمعات الإنسانية، مليئا بالآراء والطموحات والإرادات المت باينة والمصالح المتناقضة والقوي يسعى بدون وجه حق وبالالتواء على القوانين والإجراءات المتبعة لتوسعة مصالحه، وإخضاع إرادة ومصالح غيره إلى إرادته ومصالحه.. ولكن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد، تبرز حينما تنبري بعض الشخصيات للتعبير عن رفضها للتحليل الاجتماعي لهذا الواقع، بدعوى أن مجتمعنا ليس كبقية المجتمعات، وأن خصوصيتنا التاريخية والدينية، ترفض هذه النزعة ف التحليل، كما أنها شكل من أشكال تشويه هذا المجتمع سواء في أخلاقه أو مدى التزامه بالضوابط الشرعية والأخلاقية والقانونية.. ومن جراء هذه المقولات والتبريرات، لا ينمو لدينا حقل الدراسات الاجتماعية، وذلك لأن الخطاب السائد على هذا الصعيد هو ان مجتمعنا نموذج تاريخي، لا يمكن أن يقع في هذه الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات الإنسانية قاطبة.. 

وثمة أطراف عديدة، تشترك في صناعة هذا الخطاب التبريري، الذي يريد اقناعنا بطريقة أو أخرى، أن ما يجري في بقية المجتمعات الإنسانية من تحولات وتطورات وتدافعات، لا يمكن أن تجري في مجتمعنا بدعوى خصوصية هذا المجتمع الدينية والتاريخية والاجتماعية.. وبعيدا عن الدوافع التي تدفع جميغ تلك الاطراف، للإلتزام المطلق بمقتضى الغيرية المطلقة بين مجتمعنا وبقية المجتمعات، ما نود أن نقوله: كيف نفسر موقف هذه الأطراف، مع تنوع مواقعهم الإجتماعية والاقتصادية، وتعدد ميولاتها الفكرية.. حي التأمل  في هذه الظاهرة نجد وبشكل مكثف، أن عقدة الحراسة، هي التي تجمع بي جميع هذه الأطراف، وهي أي عقدة الحراسة، هي التي تدفع الجميع إلى تبني هذا الرأي والموقف.. فشعور الإنسان بأنه المسئول عن حراسة هذا الشيء أو تلك القضية، هو الذي يدفعه إلى حراسة هذا الشيء، دون الالتفات إلى طبيعة التطورات والتحولات والعناصر الإيجابية فيها.. ويبدو أن الرافضي لمشروع التجديد والتطوير في مجتمعاتهم، يعود  أحد أسباب رفضهم إلى شعورهم بدور الحراسة، وأن هذا التجديد والتطوير يهدد ما أوكلوا أنفسهم بحراسته.. لذلك لا يمكن إطلاق فعل الإبداع والتجديد ف أي بيئة اجتماعية، إلا بإنهاء عقدة الحراسة لدى مختلف شرائح المجتمع.. فالمجتمع لا يبحث عن حراس له، بل يبحث عن شركاء متفاعلون مع قضاياه المختلفة.. 

وعلى المستوى الديني فإن عقدة الحراسة، تساهم مساهمة كبرى في زيادة الخوف والتوجس من أي نزعة تجديدية أو مشروع إصلاحي، كما أنها هي التي تدفع البعض لتبني مواقف عدائية ومتطرفة من الآخر المختلف والمغاير.. 

لذلك فإننا نعتقد أن هذه العقدة، تتجمع فيها الكثير من الخيوط الرافضة لحركة التطور والتقدم، والكابحة لفعل الإصلاح والتجديد في المجتمع.. 

فالتحرر من عقدة الحراسة هو السبيل، لإطلاق طاقة المجتمع بكل فئاته وشرائحه صوب الإبداع والتجديد والقبض الحقيقي على أسباب التقدم في مختلف مجالات الحياة..

***

أ‌. محمد محفوظ

المثقف العراقي (أنموذجا)

لعل الذي تستهويه منهجية المقارنة والمضاهاة، وهو يتابع معطيات الحراك الثقافي والنشاط الفكري، لدى كل من بلدان المشرق العربي ونظيرها بلدان المغرب العربي، لابد له أن يلاحظ وجود ظاهرة لا تفتأ تتعمق على مستوى بنى الوعي وتترسخ على صعيد انساق الثقافة، تنبئ بوقوع تفاوت في تمثل الأفكار الجديدة، وحصول اختلاف في استيعاب المنهجيات المستحدثة. ليس فقط فيما يتعلق بالتوجهات الثقافية العامة للنخب الفاعلة على جبهتي الفالق الجغرافي، لاسيما لجهة التعاطي مع الموضوعات المرشحة للبحث والدراسة فحسب، بل وفيما يتصل بمستويات التطور المعرفي لتلك النخب من جهة، وتنوع مقاربات خيارها المنهجي من جهة أخرى أيضا". ففيما تبقى المواضيع ذات المنزع السياسي / الإيديولوجي، تتصدر اهتمامات المثقفين المشرقيين بشكل عام، فان المواضيع ذات الطابع الثقافي / السوسيولوجي، تحتل الصدارة في أجندة نظرائهم من المثقفين المغاربيين على نحو خاص. وذلك لأسباب ذاتية ودواعي موضوعية، نعتقد أنها تشكل – بتضافرها وتفاعلها – العوامل الأساسية في تبلور تلك الاتجاهات والمعطيات، المؤثرة في أشكال توزعها وأنماط انتشارها. ومن ثم تعطينا المسوغات الواقعية والمبررات العقلانية، التي من خلالها ننسب للمثقف المغاربي أفضلية معرفية على نظيره المشرقي، الذي لم يبرح يعاني لوثة سحر الايديولوجيا وخطابها السجالي، سواء بنسختها القوموية الفجة، أو بطبعتها الماركسوية الكاريكاتورية، أو بواجهتها الاسلاموية المؤسطرة. ولعل هذه الوضعية الإشكالية هي ما سوّغ للباحث العربي (عاطف عصيبات) نفي إمكانية وجود (انتلجنسيا) عربية بالقول (ليست هناك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب. وأقصد بالانتلجنسيا هنا تلك الفئة الاجتماعية المنظمة، التي تقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم، ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاته. فبدلا"من وجود انتلجنسيا عربية، كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة).

الظاهرة الكولونيالية والانتلجنسيا الوطنية 

يكاد أغلب الكتاب والباحثين من العرب والغرب، يجمعون على حقيقة تاريخية مفادها؛ إن مجتمعات العالم العربي بشقيه المشرقي والمغربي – ناهيك بالطبع عن بقية مجتمعات العالم الثالث – كانت في غالبيتها المطلقة، قبل أن تتعرض لصدمات الظاهرة الكولونيالية المتعددة، وتعاني اختراقات أفانينها المتنوعة، مجتمعات راكدة تاريخيا"ومتأخرة حضاريا"ومتخلفة اجتماعيا". لاسيما وان رواسب قرون العثمنة ومخلفات قيمها التقليدية، كانت قد خلعت عليها نوعا"من التجانس الاستاتيكي، لا في مجال علاقاتها وعاداتها وسلوكياتها فحسب، بل وفي مجال ذهنياتها وفكرياتها وذاكراتها أيضا"، وبالتالي فان قاعها السوسيولوجي (= البنية التحتية) أضحى  نوعما واحدا"،  وان إيقاعها الابستمولوجي (= البنية الفوقية) بات إلى حدّ ما متشابها". لاسيما وان (العرب – كما لاحظ رائد الفكر القومي العروبي (ساطع الحصري) – اعتبروا حكم السلاطين العثمانيين استمرارا"مباشرا"للخلافة الإسلامية، وإنهم لم يشعروا بأنهم شعب مستعمر تابع لسلطة أجنبية). بحيث لم تأخذ إجراءات الهيمنة الاستعمارية في حينها، إلاّ القليل من الوقت والشحيح من الجهد، حتى تغدو السيطرة تبعا"لذلك شاملة أفقيا"وتامة عموديا"، بعد أن كانت تلك الشعوب والمجتمعات المستهدفة، لا تزال في طور الذهول جراء صدمة القوة العسكرية الساحقة، وفي مرحلة الانبهار بالتفوق التكنولوجي الكاسح. بيد انه وان تشابهت تجارب مجتمعات المشرق والمغرب العربيين، من حيث وقوعهما ضمن دائرة نفوذ القوى العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين المنصرمين، فضلا"عن تساوي حظوظهما لجهة الخضوع لهيمنة الظاهرة الكولونيالية، وما تمخض عنها من تبعات سياسية بعيدة المدى وتداعيات اجتماعية عميقة الأثر. فان مظاهر الاختلاف ومعالم التباين بينهما، سرعان ما تطفو على السطح وتغدو من سماتها الغالبة، حين نعتزم التوغل في تدقيق التفاصيل والتعمق بفحص المعطيات، المترتبة عن تلك الظاهرة في كلا الشطرين. ولعل من أبرز تلك الاختلافات والتباينات، الطبيعة النوعية للإستراتيجية السياسية الفرنسية، مقارنة بنظيرها الإستراتيجية السياسية البريطانية، من حيث نمط الثقافة الفرانكفونية التي جسدتها الأولى في بلدان المغرب العربي، وما يقابلها من نمط الثقافة الانكلوسكسونية التي بلورتها الثانية في بلدان المشرق العربي. ففي الوقت الذي مارست فيه الكولونيالية البريطانية، وهي تجتاح مناطق حصتها في مجتمعات الشرق، الغافية على أمجاد ماضيها المعفر بالأساطير؛ أنشطة تفكيك البنى السوسيولوجية المتكلسة، وتفتيت المكونات الانثروبولوجية المتحجرة، وتشطير المنظومات السيكولوجية المتصلبة، عبر سياسات (فرق تسد) سيئة الصيت والذكر، للحيلولة دون أن تفيق هذه المجتمعات من سباتها، وتستطيع التغلب على كبوتها، ويكون بمقدورها التخلص من خرافاتها. هذا من جهة، وعمدت، من جهة أخرى، إلى  إبقاء مظاهر التخلف الاجتماعي قائمة، وترك معالم التأخر الحضاري سائدة، والحفاظ على بؤر الجهل الثقافي رائجة. باستثناء ما كانت الحاجة اللوجستية تضطرها للقيام بتدريب البعض هنا وتعليم البعض الآخر هناك، ضمن حدود مرسومة وضوابط مدروسة، بحيث يتسنى  لها  تحقيق أكبر عائد مصلحي ومردود اقتصادي بأقل كلفة سياسية وعسكرية ممكنة، كما وبلوغ أعلى مستوى هيمنة إستراتيجية وجيوبولتيكية بأدنى قياس زمني متاح. ولهذا فقد استخلص أحد الباحثين في شؤون الشرق الأوسط  (دريير)، وهو يتحدث عن التجربة المصرية في هذا المضمار، ملاحظة مفادها إن (المستعمرون الانجليز وحفائهم الطبقيون من الملاك العقاريين والرأسماليين المصريين، لم يعتنوا بتطوير التعليم العام. كان جزء كبير من الاعتمادات المخصصة من ميزانية الدولة، يصرف على إعالة الجيش والبوليس والمحاكم وما شابهها من مصروفات). ولعل هذه السياسة البرغماتية قصيرة النظر وبعيدة الأثر، قد ساهمت باكرا"لا في إحياء النزعات القبلية / العشائرية، وترسيخ الولاءات الدينية / الطائفية، وتكريس الانتماءات المناطقية / الجهوية فحسب، وإنما لعبت دورا"مسرّعا"في تشكيل الأحزاب الطفيلية، ونمو الإيديولوجيات الخلاصية، وانبعاث التطلعات العسكرية. مما حدا بتلك القبائل والفصائل والطوائف والأقوام كلا"على شاكلته، لاستثمار رصيد نخبها السياسية والثقافية والفكرية؛ لا من أجل قمع تلك النزعات البدائية وردع تلك التطلعات التعصبية، وبالتالي تذليل الخلافات وتعقيل الاختلافات،  التي كانت – ولا زالت – تعزل هذه الجماعة عن تلك، وتنأى بهذا الطرف عن ذاك. وإنما للاستعانة بها لتفعيل عواقب الأولى وتهويل مثالب الثانية، ومن ثم زيادة التصدع في الكيان الاجتماعي، ومضاعفة التشرذم في المدماك الثقافي، وتعميق الهوة في السستام النفسي، وتأبيد القطيعة في المتخيل الجمعي. من هنا فان بواكير نشأة المثقف المشرقي، كانت مصممة بالأساس لأغراض الحجاج الإيديولوجي، بدلا"من الاحتجاج المعرفي. ومنذورة بالأصل لغايات التجهيل السياسي، بدلا"من التحليل السوسيولوجي. ومجيرة بالفطرة لمصالح الأقوام والقبائل والطوائف، بدلا"من مصالح الوطن الواحد والتاريخ المشترك والثقافة الجامعة. ولعل العالم الانثروبولوجي (جيرار ليكلرك)، لا يجانب الصواب حين أشار في بحثه عن (سوسيولوجيا المثقفين)، إلى أن:  (ثمة خصوصية لا يمكن التنازع فيها، أنها خصوصية المثقفين الأوروبيين (الغربيين) مقارنة بخصوصية المثقفين (المشرقيين)، أو مثقفي العالم الثالث كما كان يقال سنوات 1960 – 1970، آسيا، أفريقيا، والإسلام. إذ كانت ولادتهم نتيجة تطور بطئ ومسار علمنة محلية داخل أوروبا. أما ولادة المثقفين غير الغربيين،  فقد حصلت نتيجة القطيعة المفاجئة مع الثقافة المحلية (التقليدية)، ونتيجة علمنة آتية من الخارج، وغالبا"ما أخذت طابعا"صداميا"). هذا في حين سعت الكولونيالية الفرنسية وبشكل محموم، ليس فقط إلى احتلال البلدان المغاربية احتلالا"عسكريا"مباشرا"، بقصد استغلال مواقعها الجيوبولتيكية ونهب ثرواتها الطبيعية واستثمار طاقاتها الديموغرافية فحسب – كما ديدن القوى الاستعمارية في كل زمان ومكان – وإنما عمدت، علاوة على ذلك، إلى إلحاقها ثقافيا"ودمجها لغويا"، عبر نسخ ثقافاتها المحلية، ومسخ شخصياتها الوطنية، وإقصاء لغاتها القومية، وطمس هوياتها الدينية، للحد الذي اعتبرتها – بالنسبة للحكومة الفرنسية وقتذاك - بمثابة جزء من مقومات سيادتها الوطنية، وعنصر من مكونات مجالها الحيوي. ولهذا فقد جعلت من اللغة الفرنسية (لغة المحتل)، اللغة الرسمية في التعامل السياسي والتواصل الاجتماعي، فضلا"عن اتخاذها معيارا"إلزاميا"وشرطا"إجباريا"، لمن كان يرغب في اعتلاء سلم الترقي الوظيفي والتقدم العلمي. كما حاولت توطين قيم الثقافة الفرانكفونية الموسومة بالطابع اللائيكي الحاد، والتي لم تلبث أن حفرت لها أخاديد في بنية الوعي الجمعي الفضفاضة، لاسيما بعد أن وجدت لها صدى لدى معظم قادة الحركات الوطنية، والذي تمثل بسعيها لامتلاك ناصية تلك اللغة والعوم وسط تياراتها، وذلك من خلال هضم الطروحات التنويرية التي تنطوي عليها، واستيعاب الدلالات العقلانية التي تحتكم إليها، لكي يصار إلى استخدامها في مقارعة سلطات الاحتلال بسلاحها ذاته، جنبا"إلى جنب مع بقية الوسائل النضالية الأخرى. وهو الأمر الذي أوجد – لاحقا"- رهطا"من المثقفين المغاربيين، الذين سيشايعون مذاك تيارات الثقافة الفرنسية، ويستمرأوا التتلمذ على أفكار فلاسفتها الكبار، ويتشربوا بصرعاتها ما قبل وما بعد الحداثية، ويستأنسوا بزخم منهجياتها البنيوية والألسنية والتفكيكية والتأويلية وسواها. ولذلك فقد لاحظ المؤرخ العربي الدكتور (ألبرت حوراني) من خلال كتابه (تاريخ الشعوب العربية)، إن هذا الأمر أفضى إلى (تطور جيل جديد تعوّد على القراءة، كثير منهم كانوا يقرأون بلغات أجنبية. وفي حاولي منتصف القرن التاسع عشر كانت اللغة الفرنسية قد حلت محل الايطالية كلغة مشتركة للتجارة في المدن. الإلمام بالانكليزية بالكاد كان موجودا"في بلاد المغرب وكان أقل انشارا"من الفرنسية). وحيث إن اللغة – أية لغة – ليست مجرد عبارات يتلفظ بها المرء للتعبير عن نفسه، أو جمل يفصح من  خلالها عن لواعج ذاته، إنما هي – بالأساس – أفكار يتفاعل معها، وقيم يتشرب بها، ورموز يندمج فيها، وثقافة يعتمد عليها، وحضارة ينتسب إليها.  فانه مع اتساع رقعة اللغة الفرنسية داخل رحاب الجغرافيا المغاربية، فضلا"عن ازدياد عدد المتعاطين لها والمنخرطين بها، سواء أكان عن طريق المخاطبة / المشافهة، أو من خلال المفاكرة / المكاتبة، فقد بدأت تتآكل – عند النخبة المثقفة والمتعلمة تحديدا"- أسس الدعوات الطوباوية والخطابات الإيديولوجية، التي كانت تحتل المسرح السياسي المعروف، وتغطي المشهد الثقافي المألوف، لتحل مكانها أنماط جديدة من التفكير المنطقي والتحليل العلمي، القائمة على أساليب الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتأويل. (ففي الجزائر وتونس والمغرب – كما يؤكد الباحث المغاربي الدكتور (محمود الذوادي) – كان من وظائف اللغة الفرنسية (وما زال) بث القيم والتقاليد والفلسفات الغربية بين فئات هذه الشعوب خاصة المتفرنسة منها). وهو الأمر الذي عزز لاحقا"، ليس فقط مكانة اللغة الفرنسية بين الشرائح المتعلمة والمثقفة، لكي تصبح الوسيلة المعرفية المعتمدة لولوج عالم الفكر الغربي الشاسع، والسياحة بين تضاريسه المتعرجة والنهل من معينه الثر فسحب، وإنما لتوطين سساتيمه الفلسفية بكل جذريتها، وتمكين نظرياته الاجتماعية بكل جرأتها، وتجذير صرعاته المنهجية بكل جسارتها أيضا". وهو الأمر الذي سوف يسوق المثقف (المغاربي) – خلافا"لقرينه (المشرقي)، الذي رانت على تفكيره مظاهر الدعة والعطالة والترهل - إلى الميل بنشاطه الفكري وإبداعه الثقافي؛ نحو استلهام الأحداث الفعلية بدلا"من الاستسلام للأضغاث الوهمية، والركون إلى السوسيولوجيا الواقعية بدلا"من الافتتان بالايديولوجيا الطوباوية، والانتحاء صوب المنهجيات التفكيكية والتأويلية والجينالوجية، بدلا"من الانكفاء نحو التنطعات الترقيعية والانتقائية والتلفيقية، والتطلع نحو تحليل المعطيات الواقعية بدلا"من التموضع خلف التصورات الافتراضية، والسعي لتفكيك الأنماط الذهنية بدلا"من تسليك الأوهام الخرافية، والمثابرة على نقد الأصوليات والعصبيات المتحجرة بدلا"من تمجيد الحركات الراديكالية والجماهيريات العدوانية، والتماهي بالقيم العقلانية والعلمانية والحداثية بدلا"من التعاطي بالنزعات الأسطورية والغيبية والرجعية. وفي هذا السياق، فقد أدلى المفكر المغربي الدكتور (عبد الإله بلقزيز) بملاحظة مفادها انه (كان الباحثون المغاربة، ثم الجزائريون والتونسيون، أبكر من شغل ميدان نظرية المعرفة وفلسفة العلوم والايبيستمولوجيا في نطاق الدرس الفلسفي الجامعي – في البلدان العربية – قبل أن ينتقل هذا الانشغال إلى ميدان البحث والتأليف.  وليس من شك في إن الانجذاب إلى هذا الميدان المعرفي إنما كان بأثر من الدراسات الايبيستمولوجية المزدهرة، لحظتئذ، في أوروبا، وفي فرنسا على نحو خاص : التي قرئت في المغرب العربي على نطاق واسع ودرست في أقسام الفلسفة في الجامعة، بل وانتشر تأثيرها خراج الجامعة، فامتد إلى الدرس الفلسفي للبكالوريا، قبل أن يبدأ الاهتمام بها في الاضمحلال والخفوت في نهاية الثمانينات). هذا في حين قننت أنماط الثقافة الانكلوسكسونية توجهات المثقف العراقي – باعتباره الممثل الأبرز للانتلجنسيا المشرقية – وأطرت وعيه، ضمن دائرة ضيقة من الاهتمامات الفكرية والمعرفية، بحيث لم يتعدى حقل التاريخ المؤسطر والتراث المؤمثل، التي لم يلبث صداها وقد انداح  في أروقة تجمعاته الثقافة وتنظيماته الحزبية على شكل إيديولوجيات؛ ليبرالية ممسوخة وموجهة، أو قومية رومانسية متعصبة، أو دينية ارتدادية مجاهدة، أو شيوعية طفولية مغامرة. بعبارة أخرى سيق للتموضع في أطر من التفكير والتنظير، لم ترقى به إلى مستوى من النضج المعرفي والتطور المنهجي، بحيث يتمكن من إدراك طبيعة الواقع الاجتماعي كما هو، لا كما يعتقده أو يتمناه، فضلا"عن اكتناه الأواليات التي تتحكم بسيروراته، واستشراف الآفاق التي ستئول إليه تفاعلاته. ولهذا فقد أحسن المؤرخ العراقي الدكتور (سيار الجميل) الوصف حين كتب يقول (إن انتلجنسيا العراق المخضرمة، بنية فكرية ذات نظام شبه معرفي ومؤدلج، تتوافر فيه الشروط الكاملة لتفكيك خطابه المتنوع على نحو ابستمولوجي، يسعى لفهم الواقع الذي دفع بتلك النخبة كي تعمل من وراء الستر، أو بشكل علني على تحقيق الحلم القومي للأمة العربية قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم السعي إلى تكوين العراق، نظرا"لما حدث في مداخلات الحرب، وما أعقبها).  

ابتلاء المشرق باعتلاء العسكر للسلطة

لسنا هنا بصدد إلقاء اللوم على مجتمعات المشرق العربي، كونها شكلت تأريخيا"(الحاضنة) السياسية والاجتماعية، لتوالد وتناسل الظاهرة العسكرية على مدى عقود ما بعد الاستقلال، والسعي، من ثم، لمحاولة تبرئة مجتمعات المغرب العربي من مساوئ تلك الظاهرة، التي تسللت، في غفلة من الزمن، إلى حقل السياسية لتحكم قبضتها على عناصر السلطة التي فيه، وتتحكم بمصادر الامتيازات المترتبة عليه، والإيحاء، تبعا"لذلك، بانفراد بلدان المشرق بهذا الضرب من الأنظمة الطغيانية. لا مشاحة من القول إن مجتمعات المغرب العربي، كانت قد عرفت خلال تاريخها السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، هذا النمط من الأنظمة وخبرت طبيعتها التعسفية، وهو الأمر الذي ما انفكت آثاره شاخصة لحدن، لاسيما بالاحتكام إلى تجارب كل من تونس وليبيا والجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. إلاّ إن مجتمعات المشرق العربي لم تكن فقط السبّاقة باختبار هذا النوع من الحكم فحسب، وإنما كانت من حيث تواتر حصول هذه التجربة واستمرار معطياتها، تحتل الصدارة في هذا المضمار. ولعل الباحث العربي (منذر سليمان) يلامس الحقيقة عندما يقول (وربما ساعد ارث الانتداب الفرنسي والبريطاني العسكري وقبله الحكم العثماني العسكري، في ترسيخ حفر صورة مبهرة للبذلة العسكرية والنجوم اللامعة التي ترافقها. وتدافعت هذه الصورة عبر الأجيال المتعاقبة تمنح مرتدي البذلة مكانة خاصة تستوجب الاحترام والمهابة، وترمز إلى السلطة والنفوذ والامتيازات، وتنتزع الإعجاب والاعتزاز. وليس مستغربا"في هذه الحالة أن يكون مفهوم النخبة أو الصفوة في المخيلة الشعبية العربية،  منذ أواسط القرن العشرين قد انحصر بمرتدي البذلة العسكرية، أكثر من أقرانه من  نخب الفكر والثقافة والآداب والعلوم والطب والهندسة. وجاءت الانقلابات العسكرية على أيدي الضباط لتزيد من ترسيخ هذه المخيلة). وللوقوف على أسباب حصول هذه الحالة ومعرفة دوافع اتخاذها هذا المنحى، فان عودة إلى طبيعة الظاهرة الكولونيالية وما تمخض عنها كفيل بإعطائنا تفسيرا"معقولا"لذلك. فبينما عقدت الكولونيالية الفرنسية العزم على إلحاق بلدان المغرب العربي ضمن إطار ممتلكاتها لما وراء البحار، وبالتالي التخطيط للبقاء في هذه البلدان إلى مشاء الله، فإنها عمدت إلى التقليل من شأن الجيوش الوطنية الفتية، واستمرت مواظبة على سياسة تهميش دورها وإضعاف سلطتها وتقليص نفوذها. وبالتالي فقد راهنت على طبيعة النخب التي أبصرت نور السياسية حديثا"، في ظل قوانين الاحتلال وشروطه الاجتماعية والثقافية، لاسيما وان هذه الأخيرة نجحت نسبيا"في التعامل مع ما يطرحه الواقع الجديد، من تحديات سياسية وإشكاليات اجتماعية وتهديدات ثقافية، على خلفية ما تحصل لها من وعي وما تراكم لديها من معارف، نتيجة لاحتكاكها المباشر وغير المباشر بأنماط الفكر الغربي وأشواط الحضارة الأوروبية، ناهيك بالطبع عما تبلور لديها من سياقات تاريخية وأنظمة معرفية، ساهمت بهذا القدر أو ذاك على إضفاء الطابع العقلاني على العلاقات والفكريات، مثلما المدني على السياسات والمؤسسات، للحد الذي قلما تقاطعت توجهات السياسة الوطنية واعتبارات السلطة المحلية، مع تطلعات الثقافة الإنسانية وإرهاصات الفكر العالمي  وتشوفات الوعي الكوني. هذا إذا لم تحاول تلك السلطات من استمالة نخبها الثقافية الصاعدة وكوادرها الفكرية الواعدة، للاستفادة من خبراتها والاستئناس برأيها والاستقواء بعطائها، وذلك لزيادة الانطباع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، من أن حكومات ما بعد الاحتلال أضحت مهتمة بتطوير الثقافة وتشجيع المثقفين، ليس فقط على ارتياد مجلات معرفية متنوعة والتحليق بفضاءات فكرية متعددة فحسب، وإنما لأجل أن يتاح لأرباب الفكر والثقافة، توسيع مداركهم وتنويع معلوماتهم. وهو الأمر الذي أفضى باكرا"إلى تقديم خيارات الجماعات المدينية المتعلمة لاستلام دفة السلطة وإدارة شؤون المجتمع عقب الاستقلال من جهة، والى تحجيم تطلعات المؤسسات العسكرية من التدخل في أمور السياسية والتأثير على توجهات المجتمع من جهة أخرى. (وهكذا يتبين – كما أوضح أستاذ علم الاجتماع الدكتور (عبد الصمد الديالمي) – إن السوسيولوجيا في بداياتها في المغرب كانت مؤسسة إدارية سياسية في خدمة الحماية. فالعلاقة بين السياسة (الاستعمارية) والسوسيولوجيا علاقة جدلية، علاقة أخذ وعطاء، علاقة يؤثر داخلها كل طرف على الآخر : السياسة تحدد خطوط البحث السوسيولوجي، والسوسيولوجيا تزكي، معرفيا"القرارات السياسية). هذا في حين إن الأمور ستأخذ منحا"آخر تماما"، فيما لو نظرنا إلى الشطر المشرقي من هذه المسألة، حيث إن الإستراتيجية البريطانية التي حكمت شعوب المشرق العربي، بوحي من ثقافتها الانكلوسكسونية الرامية ليس فقط إلى؛ تأبيد التخلف الاجتماعي، وتجنيد التوتر السياسي، وتوطيد التأخر الاقتصادي فحسب، بل وإلى تجميد الحراك الثقافي، وتخليد السكون المعرفي، وتسييد الجهل الفكري أيضا". بمعنى أنها حسمت أمرها واتخذت تدابيرها حيال الشرائح المثقفة والفئات المتعلمة، لجهة تهميش دورها رغم ضعفه، وتقليص نفوذها رغم هزاله، وتحجيم تأثيرها رغم ضحالته من جهة، ومحولة وجهة اهتمامها، من جهة أخرى، نحو استقطاب العناصر العسكرية التي لفضتها جبهات القتال ضد الدولة العثمانية، على أمل تعزيز مراكز المؤسسة العسكرية وبناء نواة الجيش الوطني. بيد أن هذا الأمر لم يكن بدافع الحرص على مصالح البلاد ومطامح العباد، وإنما لتكليف تلك المؤسسة للقيام بدور الوكيل التابع، لكي تمارس ضبط الحراك السياسي، ولجم الاحتقان الاجتماعي، وكبح الغليان الديني. الذي كان في أطوار التفاقم ومراحل التأزم، على خلفية إحياء النزعات المذهبية والفزعات القبلية والنعرات العشائرية، التي برعت سلطات الاحتلال البريطاني في توظيفها على أسوأ ما يكون،  فضلا"عن استثمار خلفياتها المؤسطرة ورموزها المؤمثلة، في السيكولوجيا الاجتماعية العراقية المتشظية أصلا". وهكذا فقد كان (اتجاه الاستعمار البريطاني في العراق – كما استخلص الباحث المصري الدكتور (مجدي حماد) – إلى تركيز الأمور حول شخص الملك فيصل، وعرقلة قيام منظمات سياسية فعالة. وكان الجيش العراقي هو القوة الوحيدة المنظمة. ولذلك فحينما مات فيصل، قفز الجيش إلى مقدمة العوامل المؤثرة في تطور الحياة السياسية في  العراق). وإذا ما عمدنا إلى المقارنة الموضوعية بين الموقف الذي اتخذته كلآ"من السلطات العثمانية السابقة ونظيرها السلطات البريطانية اللاحقة، إزاء السياسات المصاغة للتعامل مع ظواهر من مثل؛ القومية / العنصرية، والدينية / الطائفية، والفبلية / والعشائرية، والجهوية / المناطقية، فان أفضليات الأولى تكاد تتغلب على الثانية بأشواط. ففي الوقت الذي حاولت فيه السلطات العثمانية القضاء على نفوذ القبائل وتقليص سيطرتها الجغرافية، ناهيك عن مغامرة إشراكها بأمور السياسة وقضايا السلطة، فان سلطات الاحتلال البريطاني عمدت ليس فقط إلى إبقائها ناشطة في محيطها وفاعلة في علاقاتها فحسب، وإنما بادرت إلى تشجيعها على مزاولة العمل السياسي وحثها على ولوج عرين السلطة، لا بل أنها أقدمت على مأسسة كيانها عبر التشريعات التي وضعتها والقرارات التي اتخذتها. ولعل كل ذلك كان بدافع تسهيل مهمتها الاستعمارية، وتقوية سلطتها السياسية، وتأمين أطماعها الاقتصادية من جهة، وإضعاف المقاومة المحلية، وتفكيك العلاقات الاجتماعية، وقمع التطلعات الإصلاحية، ووئد التوجهات الفكرية من جهة أخرى.  وهو الأمر الذي سيفضي – من جملة ما أفضى – إلى استحالت العلاقات الإقطاعية، القائمة على الاقتصاد الريعي المحلي والروابط الأبوية، التي كانت سائدة في أغلب مناطق العراق  لفترة ما قبل الاحتلال، إلى العلاقات (شبه الرأسمالية) القائمة على اقتصاد السوق العالمي والصلات السلعية، بحيث تحول شيخ القبلية أو العشيرة من مالك زراعي (إقطاعي) يحتكم لأعرف القبلية وعادات العشيرة، إلى تاجر عقاري (برجوازي) يخضع لقوانين السوق وعلاقاته البضاعية. وبالتالي هيأت الظروف الذاتية والموضوعية لاستشراء ظاهرة الهجرة المتفاقمة من الريف إلى المدن، تلك الظاهرة التي عمت مدن بلدان المشرق بصورة عامة، ومدن العراق على وجه الخصوص، لاسيما العاصمة بغداد التي تضاعفت أعداد الوافدين إليها بمتوالية هندسية على مرّ الأيام والسنين. ولأن التوجه المركزي لسلطات الاحتلال السابقة، فضلا"عن سلطات الاستقلال اللاحقة، كان يرمي إلى تعزيز مكانة الجيش في المجتمع لضبط حالات الفوضى ولجم مظاهر التفكك من جانب، وتقوية نفوذه في السياسة لتدارك ميل الدولة إلى الضعف في الأداء والعجز في المواجهة من جانب ثان. وعليه فقد سمح هذا الإجراء باستقطاب المزيد من الراغبين للانخراط بهذا المسلك الجاذب ماديا"والمغري معنويا"، بحيث حصل تحول نوعي في التركيبة الطبقية والبنية الثقافية للمؤسسة العسكرية العراقية، قاد في نهاية المطاف إلى مضاعفة حصة العناصر المتريفة إلى نظيرها المتمدينة. وهو الأمر الذي جعل من المؤسسة العسكرية منذ البداية، لا تحتل الصدارة في اهتمامات المجتمع السياسي فحسب، وإنما تلعب الدور الرئيسي في أنشطة المجتمع المدني أيضا". ويمكن القول مع المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية الدكتور (خير الدين حسيب) انه (إلى حدود عام 1941 كان الجيش هو مطمح أنظار الشباب. الذهاب إلى الكلية العسكرية كان مصدرا"للفخر والاعتزاز، وكان يستقطب كفاءات عالية. لكن الوضع تغير بعد عام 1941. وبشكل خاص بدأت تأتي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ونتيجة انتشار التعليم في العراق، أعداد متزايدة من خريجي الثانويات من المناطق الريفية، إمكانياتها المادية محدودة جدا"ومستواها العلمي محدود كذلك. والذي لا يستطيع منها الالتحاق بكلية أخرى فيها أقسام داخلية، يأتي إلى الجيش للالتحاق به. فالكلية العسكرية استقطبت مجموعة من  التلاميذ أغلبهم من الريف ومستواهم دون الوسط. لذلك كان تكوينهم الثقافي محدودا"، وعندما أتت ثورة 1958، جاءت مجموعة من الضباط وبينهم عدد غير قليل من أبناء الريف. هؤلاء جاء معهم تدريجيا"آخرون وزادت العملية بالانقلابات وزادت نسبة العسكريين. وحصل بذلك ترييف واسع نسبيا"للسلطة... وفي هذه الفترة بات في وسع الضابط أن يصير وزير خارجية، وزيرا"للداخلية، أو للصحة أو المواصلات أو الزراعة.. الخ. وفي هذه الفترة كلها كان الرؤساء عسكريين). وهكذا فقد أسهمت الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بالمجتمع العراقي، في عسكرة الحياة السياسية (أحزاب سياسية وقوى اجتماعية ومنظمات مهنية)، لا بمعنى أنها لم تحابي العناصر العسكرية وتتملقها للانخراط ضمن تنظيماتها فحسب – وهذا ما سيفعله الجميع بلا استثناء – وإنما بمعنى عسكرة الفكر السياسي في تعاطيه مع الواقع الاجتماعي من جهة، وجعل الايديويولوجيا، من جهة أخرى، مدججة بقيم التغالب في العلاقات والتكالب في الامتيازات والتصالب في التوجهات، بحيث أصبحت الكراهية المتبادلة والعنف البيني هي من السمات الغالبة على الحوار بين الفرقاء. كما أنها (ردكلة) – أي جعلها راديكالية – البيئة الثقافية (بنى الوعي وأنماط الفكر وأنساق الثقافة)، لا بمعنى ترويجها لمظاهر التعصب والتطرف على المستوى الاجتماعي، كما لو أنها من خصائص الطبيعة الإنسانية وشفرة جبلتها. ولكن بمعنى حضها على ممارسة هذا الضرب من التصور البدائي والسلوك العدواني، واعتباره صفة معيارية لتجسيد قيم  الشجاعة السياسية والرجولة القبلية والفحولة الذكورية. ولعل هذه الخلفية المركبة من شظايا السوسيولوجيا وبقايا الانثروبولوجيا وخفايا السيكولوجيا، تفسر لنا أسباب ابتلاء بلدان المشرق عامة والعراق خاصة، بظاهرة تكرار الانقلابات العسكرية واستمرار تحكم العسكر بمقاليد السلطة وتقاليد السياسة. ولذلك فقد (أثبتت التجربة – كما شخّص الأكاديمي والباحث المصري الدكتور (جميل مطر) – إن المجندين أو المرشحين لوظائف الضباط من (المواطن الريفي المنتقل حديثا"إلى المدينة) و(المواطن المديني المنتقل حديثا"إلى الطبقة الوسطى)، هم بين الأكثر احتمالا"أن يكونوا من الانقلابيين، أو الضباط المسيسيين). ولأن أصولها رثة  وتطلعاتها راديكالية وقيمها تفاضلية، فان العقلية العسكرية المتريفة تمقت الثقافة وتزدري الانتلجنسيا، من منطلق إن الأولى تحاول علمنة الدولة التي تتزعم سلطتها، وان الثانية تتوخى عقلنة المجتمع الذي تتحكم بمصيره. ولهذا فقد شخص المفكر (عبد الإله بلقزيز) طبيعة العلاقة بين السياسة والثقافة بالقول (لا تنظر السياسة بعين الرضا للثقافة على خلفية الشعور -  الذي لا يخلو من صحة – بأنها تمثل سلطة موازية تضاهي قوتها ماديا"ورمزيا". وهو ما يتضافر مع وعيها إن مشروع سلطة السياسة جديدة يبدأ دائما"من  مدخل ثقافي). وإذا كان لابد من اللجوء إلى الثقافة لتلميع صورتها وتسليع موقفها، فينبغي حينئذ أن تنطلق من منظور إيديولوجيا السلطة وإلاّ فلا. وإذا كانت الضرورة تستلزم الاستعانة (بالانتلجنسيا) لتزويق سياستها وتسويق خطابها، فالمفروض أن تكون ضمن طاقم النظام وتحت وصايته وطليعة ديماغوجيه وإلاّ فبدونها. وهكذا يكون المثقف المشرقي قد وضع بين شقي رحى؛ إما إن يكون بوق للسلطة ومهرج للنظام، يلهج باسمه يؤدلج بفكره ويحاجج بمنطقه، وإما إن يقع تحت طائلة المحضور السياسي والإيديولوجي، وبالتالي الاختيار بين انغلاق المحجر أو انعتاق المهجر. وفي ضوء التجربة السياسية لبلدان المشرق العربي، فان الغلبة كانت ولا تزال للخيار الأول للأسف، بحيث اقترنت صفة (الإيديولوجي) بالمثقف المشرقي أكثر من نظيره المثقف المغربي، وهو ما شكل المثقف العراقي مثاله البارز ونموذجه الصارخ !!.

إيديولوجيا من غير إيديولوجيين 

لعل الانطباع الذي يرجّح تكوّنه لدى القارئ سيكون مؤداه؛ إن الموضوع يرشح بمظاهر الاستنكار للايديولوجيا  والاستهجان للإيديولوجيين. وهو في حقيقة الأمر انطباع مغاير بالكامل لوجهة النظر التي نتبناها، ليس فقط ضمن إطار هذا الحيز المتواضع من الكتاب، وإنما نشايعها باستمرار كقناعة راسخة وموقف ثابت، تتمحور حول ضرورة الفصل والتمييز ما بين الايديولوجيا كنظام معرفي يحايث الواقع الموضوعي ويستبطن الوعي الاجتماعي من جهة، وبين الإيديولوجيين كجماعة سوسيولوجية تتعاطى هذا الضرب من النشاط الفكري والانخراط السياسي من جهة أخرى. فبقدر ما يحافظ المثقف على المسافة الافتراضية التي ينبغي عدم تجاوزها، والفاصل المتخيل الذي يتوجب عدم إهماله، بقدر ما تكون الايديولوجيا حقل أفكار نسبية قابلة للنقد والمساءلة، وتصورات مؤقتة مرشحة للجرح والتعديل، ورؤى آنية مباحة  للتفكيك والنقض، وقيم مطاوعة معرضة للتشريح والتنقيح. وبقدر ما يستحيل الإيديولوجيين إلى شريحة مثقفة (انتلجنسيا)، تتعامل بالأفكار العلمية على سبيل التفاعل، وتتعاطى بالمعرفة العقلانية على سبيل التواصل، وتنخرط بالمنهجيات النقدية على سبيل التداول، واضعة نصب عينها بديهية / مسلمة، صاغها المفكر الجزائري الدكتور (عبد الله العروي) مفادها؛ إن (الثقافة لا يمكن أن تتقلص إلى الايديولوجيا)، وإلاّ انقلبت الموازين واختلت المعايير وانتفت الحقائق. فالايديولوجيا وفق هذا المنظور الذي نعتمده هنا، لا تعد شي نافل لا قيمة له ولا جدوى منه، بل تمسي ضرورة لا غنى عنها؛ لفهم تناقضات الواقع، وإدراك تخندقات المجتمع، واستشراف إرهاصات الوعي، واستيعاب ارتكاسات السيكولوجيا. أنها وكما جادل الأكاديمي والباحث الفرنسي (فرناند دومون) (انجازات لا تلخص العلاقات الاجتماعية التي تتعهدها ولا تستنفدها، بل على العكس، تقتبس العلاقات الاجتماعية عناصر انبعاثها الخاص من الايديولوجيا. فالايديولوجيا عمل تأليفي، لا لأنها تكشف عن نمط مجرد يحلل كلية معينة كما تدعي النظرية أنها تفعله، وإنما لأنها وظيفة إنشاء الكلية). وعليه فمن الخطل أن يناهض المرء الايديولوجيا بصفتها تلك، وإلاّ فانه سيساق للوقوع في حبائل الايديولوجيا ذاتها، من حيث كونه يؤدلج مواقفه منها وتصوراته عنها وإسقاطاته عليها. كما انه من الخطأ الاعتقاد بأن  الايديولوجيا (وعي زائف) – كما حاول البعض توظيف هذه المقولة الماركسية في غير سياقها التاريخي وخارج إطارها السوسيولوجي – يحيد بالمرء عن وضوح الرؤية وسلامة التفكير وسداد الرأي، حين يتعلق الأمر بترسيم الوقائع على حقيقتها وتقييم الأحداث وفقا"لماهيتها. فالايديولوجيا وان اتشحت بالرموز وتجلت عبر المجرد، فهي – أولا"وأخيرا"- تعبير عن وجود قائم وإشارة إلى واقع حي ودلالة على  كينونة فاعلة. ولطالما اخفق الباحثين والمعنيين في الكشف عن سرّ العلاقة القائمة بين أنظمة الحكم  التسلطية في بلدان المشرق، وبين الولع باحتضان شتى أصناف الايديويولوجيات التوتاليتارية؛ الليبرالية / البرجوازية، والقومية / الوحدوية، والشيوعية / الأممية، والإسلامية / الطوباوية، ليس من منطلق الاعتناق لمبادئها والإيمان بفلسفتها والدعوة لقيمها والانخراط ببرامجها، ولكن من باب التوظيف لرصيدها والاستثمار لتأثيرها والاستغلال لخلافاتها. على خلفية إدراك تلك الأنظمة افتقارها للشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية، التي تضفي على سياساتها العشوائية طابع الواقعية، وعلى مواقفها المرتجلة سمة العقلانية، وعلى علاقاتها الانتقائية صفة الإنسانية، لاسيما وان معظمها دلف إلى رواق السلطة عن طريق (الثورة) المتحالفة مع العسكر، أو الاستعانة (بالانقلاب) العسكري المباشر والصريح. ولذلك فهي بحاجة ماسة دائما"؛ إلى ما يستر عيوبها ويخفي حماقاتها ويطمطم انحرافاتها ويبرر مظالمها، طالما أنها تحتضن أقليات قرابية، وتمثل جماعات قبلية، وتناصر توجهات تعصبية، وتشايع أحزاب فئوية، وتتبنى تطلعات عدوانية. ولذلك فليس (كالمثقف المؤدلج) من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة ويجيد هذا الدور، خصوصا"وان الأرضية التي يقف عليها وينطلق منها، لا تمثل القاعدة الشاملة للمجتمع الذي حافظت السلطة على تصدع كيانه، ولا تعبر عن إرهاصات الوعي الجمعي الذي ثابرت الايديولوجيا على إبقاءه شعثا". من حيث إن طبيعة الفكر الذي يحمله ينطوي على تناقض بين حقائق الواقع والافتراضات المتكونة عنه، وان ماهية الثقافة التي يختزنها تعكس القطيعة بين وقائع المجتمع والتصورات المترتبة عليه، وان خاصية الوعي التي يضمره يجسّد الشقاق بين السياق التاريخي والتوقعات المؤملة فيه. ولما كانت الأنظمة السياسية المتريفة محكومة بجملة من القيود الذهنية الصدئة، والضوابط العرفية المتخلفة، والمسبقات الرمزية المؤسطرة، فهي لا تحتاج بالعادة إلى مفكرين عقلانيين بقدر ما تحتاج إلى ديماغوجيين مضللين، مثلما لا يعنبها إنتاج مثقفين نقديين بقدر ما تفبرك دعاة ايديولوجين، فان الانتلجنسيا المشرقية التي تبرعمت تحت ظلال تلك الأنظمة وتشكلت بين جناح رعايتها، نادرا"ما يجتذبها العمل على نقد الأفكار البالية التي تتغذى عليها، بقدر ما ترغب في تكريس أنماطها وتقديس قيمها، وقلما تستدعيها الحاجة إلى مساءلة الوعي الشقي الذي تقتات منه، بقدر ما تسهم في ترسيخ أشباحه وتعميق أوهامه. وإذا ما أخذنا هذه الحيثيات والمعطيات بنظر الاعتبار، وحاولنا وضعها في إطار مقارن بواقع المجتمع العراقي – موطن المثقف المشرقي بامتياز – فإننا سنلاحظ من جهة، وجود فرط في الإيديولوجيات؛ الدينية والقومية والماركسية والليبرالية والاشتراكية، وفائض في الإيديولوجيين من  كل صنف؛ المتأسلمين / الطائفيين، والقومجيين / الشوفينيين، والمتعلمنين / المتعولمين، هذا بالإضافة إلى الجاهزين عند الإشارة والموضوعين تحت  الطلب. كل ذلك مقابل إصرار واضح على التفريط بالايديولوجيا الوطنية، التي تجعل من الثقافة العراقية الشاملة وعاء تصب فيه جميع تيارات الثقافة العراقية، بكل ألوانها وأنواعها وأشكالها وأنماطها وأنساقها وقيمها. وبما إن (انتقال المثقف – كما يؤكد المفكر (عبد الإله بلقزيز) – من لحظة المعرفة الخالصة إلى لحظة المعرفة المجنّدة، (يمثل) انتقال من الوضعانية – ذات الإيحاء الأكاديمي الكثيف – إلى الايديولوجيا)، فان المثقف المشرقي / العراقي سيبقى - بصرف النظر عن مستواه العلمي /الأكاديمي، وغناه المعرفي / الثقافي وانتسابه الحزبي / السياسي، وانخراطه المهني / الوظيفي – رهين سحر الايديولوجيا وفتنة إغوائها، أكثر مما سيكون قرين أطر السوسيولوجيا ومحنة ضرورتها، طالما يحاجج بالأولى ويحتج بالثانية، ويلهج بالأولى ويضج بالثانية، وينهج بالأولى ويلج بالثانية !!!. ولأنه سليل ملاحم السرديات الأسطورية، ووريث أجيال الحاضنات الإيديولوجية، وربيب أنظمة السلطنات التوتاليتارية، فقد لبث المثقف العراقي / المشرقي – رغم كل أنواع المصائب وأشكال النوائب – يؤدلج الواقع ويؤمثل الوقائع، خشية افتضاح خوائه الفكري وجدب مخزونه المعرفي، وتهرؤ عدته المنهجية، إذا ما لامس خشونة معطيات الأول  واصطدم بقساوة تداعيات الثانية. ولهذا فليس من المستغرب إن يوصف – في بعض الأحيان – بكونه (مثقف) مخضرم، للدلالة على خاصية السيولة التي يتمتع بها، حيال التبدلات السياسية والتحولات الاجتماعية والانزياحات القيمية، لا بالمعنى الزمني /  التاريخي، وإنما بالمعنى الثقافي / الفكري. وهو الأمر الذي قيض له ليس فقط النأي عن مخاطر الاحتكاك بمحارم السلطة أو الاقتراب من نواهيها فحسب، بل والاستفادة من إعراضها عن مطارته والتضييق عليه في أسوأ الأحوال، أو استقطابه وإدراجه ضمن أجهزتها الإيديولوجية والإعلامية ومن ثم الإغداق عليه في أحسنها. ولذلك يبدو إن هناك عقد (غير معلن) بين المثقف العراقي / المشرقي من جهة، وبين الأنظمة السياسية المتريفة، تمتنع هذه الأخيرة، وفقا"لبنود هذا العقد الافتراضي، من التعرض لهذا النمط من المثقفين المشايعين (المؤدلجين) – حتى وان لم ينتموا لفكر السلطة -  مقابل التزام الطرف الآخر (المثقف) عدم (دس أنفه فيما لا يعنيه)، والإشاحة عما لا يرضيه، والإعراض عما لا يغنيه. وبالتالي البقاء ضمن حدود الحكمة التي تقول؛ لأعيش أنا وليكن من بعدي الطوفان !!.

 

ثامر عباس

 

عبد الجبار الرفاعيكرّس الشيخ جودت سعيد حياتَه لمناهضة كلّ أشكال العنف. وظل يتحدثُ ويكتبُ عن أن اللاعنفَ ضرورةٌ تسبقُ كلَّ عملية بناء للإنسان والعيش المشترك وسلام المجتمعات والأوطان. كان مصرًا على مواقفه يكرّرها بلا ملل في مختلف المناسبات، وهو يستضيء بقول محمد إقبال: "ولحرفٍ واحد ألف مقال"، ويؤسّس عليه ليقول: "وكذلك الفكرة الواحدة كي تستوي على قدميها تحتاج إلى ألف مقال"[1].

تطور موقفُ جودت سعيد فرأى اللاعنفَ أساسًا ينبغي اعتمادُه في مختلف المواقف، واتخاذُه مبدأ شاملًا في الحياة، وكرّس جهودَه في الكتابة والخطابة من أجل توضيح ما يرمي إليه. يلخص جودت سعيد دعوتَه للاعنف في بعض كتاباته الأخيرة بـكلمتين، هما: "موت الحرب"، وهذا شعار رومانسي متخيل نتمناه جميعًا، ومازالت البشريةُ وستظل تحلم فيه حتى آخر إنسان يعيش على الأرض. لا يدلّل عيشُ الإنسان وصراعاتُه وحروبُه منذ أول عائلة في الأرض على واقعية شعار: "موت الحرب"، بدأ القتلُ بابن آدم الأول وسيبقى القتلُ إلى أن يموت أو يُقتل ابنُ آدم الأخير.

"موت الحرب" يُذكِّر القراءَ بمقولات: موت الله، موت الميتافيزيقا، نهاية التاريخ، وغير ذلك. الواقع يتنكّر لهذه الدعاوى، التاريخ يمضي عبر صيرورة متواصلة ولن يقف عند نهايٍة مادام هناك إنسانٌ في الأرض، الميتافيزيقا لن تموت مادام هناك عقلٌ يتسائل عن معنى الوجود والمبدأ والمصير، "اللهُ حيٌّ لا يموت" ما يموتُ هو صورُ الله المشتقة من الظلم والاضطهاد والاستبداد والطغيان. لن تموتَ الحربُ ولن يختفي العنفُ مادام هناك إنسانٌ يعيشُ في الأرض. "موتُ الحرب" بشرى سارة، لكن هذه البشرى تقفز للنتائج دون المرور بالمقدّمات. إثباتُها يتطلب أن نكتشف ما يختبئ في أعماق الإنسان أولًا، وندرس تاريخَ العنف والحروب في مختلف مراحل تاريخ الإنسان ثانيًا. ونختبر ما تستبطنه النفسُ الإنسانية من استعدادات ودوافع كامنة للتعصب والكراهية والشرّ، وتأثيرَ نمط عيش الإنسان، ونوعَ ثقافته، ومستوى تطوره الحضاري في إنتاج العنف. الإنسانُ هو الكائنُ الأكثر غموضًا والأعقدُ والأغربُ، والأشدُّ شعورًا بالألم في العالَم.كلّما اكتشف الإنسانُ سرًا وحلَّ لغزًا في طبيعته، وظنّ بأنه أدرك حقيقتهَ بتمامها، رأى سرًا خفيًا لم يكن يعرفه من قبل، فيعود ليعلن عن جهله بالمعرفة الكاملة للإنسان[2]. لم يتحدث جودت سعيد عن الخوف والقلق والألم الذي يستعر في باطن أكثر الناس، ولم يتنبه في كتاباته لبواعث العنف المستترة في النفس الإنسانية، وما تثيره الغيرةُ والتنافسُ والشعورُ بالإحباط عندما تستفزّ الإنسانَ نجاحاتُ غيره وتفوقُهم ومنجزاتُهم. ولم يتحدث عن التمثلات الرمزية للعنف وتعبيراته اللفظية وغيرها، وحضوره بأشكال مختلفة تتنوع بتنوع الأديان والثقافات والحضارات.

3369 جودت سعيدعندما نتأمل النفس الإنسانية نرى بواعث العنف كامنة فيها، منها الحاجة للتملّكِ في حياة الإنسان، وهي ضروريةٌ لاستمرار الحياة، ومواصلة العمل والمثابرة والانجاز. التملّك يشعر معه الإنسان بنوع من الأمان والثقة والسلطة. هذه الحاجة إذا لم تخضع لقوانين عادلة لا تقف عند حد نهائي، بل تنقلبُ الحاجةُ للتملّكِ إلى مشكلة لحظةَ تتضخم ليصبح موضوعُها امتلاك البشر بدلًا من امتلاك الأشياء، ومصادرة حرياتهم وحقوقهم، والتسلط عليهم والتحكم بمصائرهم. الشغف بالسلطة المطلقة ناتج عن حاجة الإنسان للخلود، لذلك عندما يستحوذُ شخصٌ على مثل هذه السلطة يستعبد كلَّ مَنْ يتسلط عليه، ويمارس كلَّ أشكال العنف ضده حين يشاء، وذلك يجعله يعيش حالة زهو واحساس هائل بالمتعة لا يجدها في غير السلطة.

وإن كان شعارُ "موت الحرب" ليس واقعيًا، غير أنه يكشف عن تشبّع روح جودت سعيد بالسلام في باطنه وظاهره، ويعبّر عن أمانيه الإنسانية المتفائلة، أكثر مما يتكشف فيه الواقعُ المركّب المتشابك، وما يباغت الإنسانَ فيه من عنف ينبعث من شتى العوامل، وما يهدّد الأمنَ البشري من حروب مريرة،كانت ومازالت وستظل تواكب تاريخَ الإنسان. العنف بما هو ظاهرةٌ مجتمعية بدأت بظهور الإنسان في الأرض. مادام هناك إنسانٌ هناك تنافسٌ ونزاعٌ وصراعٌ على الاستئثار بالسلطة والثروة واحتكار المعرفة وغير ذلك، ذلك هو وقودُ العنف والحرب. لا تخمد الحربُ إلا بتسويات واقعية تحسم النزاعاتِ سلميًا في بعض الحالات.

"موتُ الحرب" أمنيةٌ مستحيلة التحقّق مادام الإنسانُ إنسانًا. الحربُ ليست طارئةً في التاريخ، قوةُ العنف واستمرارُ الحروب قاد فلاسفةَ التاريخ للقول بأنها عاملٌ أساسي في نشأة الحضارات وازدهارها وانهيارها. ‏لولا حروبُ أوروبا الاستعمارية وإخضاعُ ‏مساحات شاسعة من الأرض لهيمنتها ونهبُ ثروات أهلها في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، ‏لم تحدث الثورةُ الصناعية ولا التقدّم الذي وصلت إليه أوروبا ‏في العصر الحديث. لولا الفتوحاتُ الإسلامية ما ساد الإسلامُ في العالم القديم من الأندلس إلى حدود الصين.

في كتابات جودت لم يتميز بوضوح العنفُ الذي تعتقد الجماعات الدينية المقاتلة بأنه أحدُ أهداف الدين المحورية، عن العنفِ بدوافع غير دينية، الناتجِ عن بواعث الغيرة والتعصّب العميقة في شخصية الإنسان، والصراعاتِ على السلطة والثروة وشبكات المصالح المختلفة. عقائدُ القتل مشتقةٌ في الأديان من طريقةِ تعريفها للدين، وفهمِها لوظيفته في الحياة، وكيفيةِ تفسيرها لنصوصه، ونظامِ إنتاجها للمتخيَّل، وطريقة تعريفها لنفسها في فضاء المتخيَّل. قبضةُ المتخيَّل شديدةُ الوطأة، يفرضُ المتخيَّلُ حضورَ الماضي بشدّة، وإذا طغى الماضي يحجبُ الحاضرَ والمستقبل. ‏النزاعاتُ والكراهيات والعنف والحروب تعيشُ على كراهيات وإكراهات المتخيَّل.

مَنْ يريدُ تحريرَ التديّن من العنف عليه أن يحدّد أولًا تعريفَه للدين، وكيفيةَ تفسيره لنصوصه في ضوء ما ينشده من الدين ثانيًا، والتخلّص من تعليم المقولات الكلامية للتكفير والفرقة الناجية والفرق الهالكة في معاهد التعليم الديني التقليدية والجامعات الإسلامية الحديثة، وما يبتني عليها من فتاوى الارتداد والتكفير. لا يمكن تحريرُ التديّن من العنف مالم يتأسّس ذلك على: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"[3]، وما ينطق بمضمونها في القرآن الكريم، بشرط وضع أسس لكيفية التعامل مع الآيات المعارضة لمضمونها. وتوظيف آراء وفتاوى المجتهدين المواكبة للحياة في التعليم الديني، مثل قول الشيخ محمد عبده: "إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتملُ الكفرَ من مائة وجه ويحتملُ الإيمانَ من وجهٍ واحد حُمِل على الإيمان، ولا يجوزُ حملُه على الكفر"[4].

كلُّ مَنْ يحاولُ أن يؤسّسَ للسلام في الدين عليه أن يُعيدَ تعريفَ الدين، ويكتشفَ رسالتَه في حياة الإنسان، وأفقَ انتظار الإنسان منه. بلا إعادةِ تعريف الدين، وعدمِ بيان حدود وظيفته في الأرض بشكلٍ واضح، تظلّ دعواتُ السلام يلفّها الغموضُ واللاواقعية، ولا تخرج عن كونها شعاراتٍ حالمةً في واقعٍ يتكلمُ لغةً ويخضعُ لمعاييرَ ترفض لغةَ السلام ومعاييرَه. الدينُ -كما أفهمه – حياةٌ في أُفق المعنى، يوقظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يحتاجه الإنسانُ كي يشعر بالأمن والسكينة. في ضوء هذا التعريف لن يجدَ العنفُ موضعًا بما هو مقوّم للدين، ولا يكون العنفُ مكونًا أساسيًا له، بل ينقضُ العنفُ تعريفَ الدين، ويُعطِّل المعنى الذي يُلهِمُه لحياة الإنسان[5].

النوايا الطيبة والقناعاتُ والتفكيرُ الرغبوي لا تغيِّر الواقعَ المرير. النصوصُ الدينية المنتقاة وحدَها لا تكفي لتغيير الواقع.كان جودت سعيد كغيره انتقائيًا، يلتقط آيةً من القرآن الكريم أو حديثًا من مصنفات السُنة النبوية الشريفة، ويغضّ النظرَ عما يعارض الآيةَ أو الحديث الذي يستدلّ به. ركزَّ جودت على حديث جاء فيه: "قلت يارسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي، وبسط يده ليقتلني؟! قال: فقال رسول الله: كن كابن آدم"[6]. في الوقت الذي يلتقط جودت هذا الحديث، لا يضع قاعدةً تعالج أحاديثَ شهيرة تدعو للقتال والجهاد في مصنفات الحديث، وهكذا أمثالها في آيات القرآن، ولا ينظر لأحكام الجهاد المتوارثة في مدونة الفقه. اتخذ جودت: "كن كابن آدم" شعارًا استند إليه في أحاديثه وكتاباته، ولم ينشغل بإعادةِ تعريف الدين، وبناءِ قاعدة تحلّ التعارضَ بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى العديدة المخالفة له في دلالتها، ولم يؤسّس قاعدةً ترجّح دلالتَه وتتخذها أصلًا ينفي دلالةَ كلّ ما يعارضه.

الثغرةُ المنهجية في هذه الكتابات وأمثالها أنها لم تنشغل ببناءِ رؤيةٍ منهجية شاملة لكيفيةِ تفسير آيات الجهاد والقتال والحرب في القرآن الكريم وبيانِ موقف المسلم اليوم منها. لم تتأسّس هذه القناعاتُ على رؤيةٍ نظرية ومنهجٍ واضح للتعامل مع آيات القرآن الكريم والسُنة الشريفة التي تتحدث عن الجهاد وحمل السيف، ولم تنشغل ببيان كيفية التعامل مع الأحاديث المتنوعة في هذه الأبواب من مصنفات الحديث، لذلك تظلّ المواقفُ في كتابات جودت سعيد وغيره انتقائية، تفتقر لبناء رؤيةٍ شاملة يمكن اعتمادُها أداةً محورية لتفسيرِ مثل تلك الآيات في القرآن وفهمِ تلك الأحاديث في السُّنة.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

.......................

[1] سعيد، جودت، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، ص 16.

[2] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.

[3] البقرة، 256.

[4] عبده، محمد، الإسلام بين العلم والمدنية، ص76 ــ 77، دار المصري للثقافة والنشر، دمشق.

[5] الرفاعي، عبدالجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.

[6] سعيد، جودت، مصدر سابق، ص 234.

 

الصفحة 1 من 3

في المثقف اليوم