تجديد وتنوير
عماد بزي: مشروعية سؤال الأنوار في العالم الإسلامي
في هذه المقالة هناك محاولة للإجابة عن الأسئلة التالية:
1) هل تُعتبر فلسفة الأنوار حركة فكرية تختص بالبلدان الغربية أم أنها تُعنى بالوضع الإنساني ككل وأن مفاهيمها وانشغالاتها لها علاقة بمختلف المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك البلدان العربية والإسلامية؟
2) هل الأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي تستوجب طرح سؤال الأنوار؟
3) هل تُعتبر العلمانية الثقافية شرطا من شروط تحقق الأنوار؟
٤) هل توجد في المصادر الإسلامية الأساسية مفاهيم ومبادئ تنفتح على قراءة تحبّذ الانعتاق المعنوي وتحقيق الرشد، واللذان يختصران فلسفة الأنوار؟
ما الأنوار؟
تُعتبر فلسفة الأنوار حركة فكرية بدأت مع عصر النهضة في أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر وبلغت سؤددها الفلسفي في القرن الثامن عشر على أيدي فلاسفة أوروبيين أبرزهم إيمانويل كانت (وليس كانط حسب تعريف الإخوة المغاربة). وفقا لتوصيف كانت لفلسفة الأنوار فإنها تهدف الى رفع الوصاية المعنوية عن فكر الإنسان وعدم إعطاء الآخرين حق التفكير بالنيابة عن الفرد. فالناس تعرف الحقيقة ولكن تخاف من إتخاذ موقف أخلاقي تأسيساً على ما عرفته من حقائق بسبب تخويف رجال الكنيسة لهم من أن التفكير الحر، خصوصا ذلك الذي يحرّر الإرادة، يؤدي بالإنسان الى الهرطقة والضلال والنار. وهكذا كان آباء الكنيسة يمارسون سلطة معنوية على عقل الإنسان الأوروبي تمنعه من السيادة على عقله لأهداف جلّها دنيوي وسلطوي. وبسبب ذلك كانت اوروبا في القرون الوسطى تسبح في الظلمات حيث تنتشر الخرافات التي تروّج بإسم الدين وتتعطّل الطاقات والإمكانيات المودعة في فطرة الناس بسبب هذا الكبح الداخلي والتخويف الباطني من إنعتاق الإنسان وسيادته على عقله.
يُطلِق كانت على حالة الانعتاق المعنوي من سلطة الآخرين مصطلح "الرشد" والذي يختصر فلسفة الأنوار. فإنسان ما قبل "الرشد" يعيش حالة من الطفولة المعنوية إذ يشعر داخليا أنه بحاجة لإذنٍ من الآخرين لتوجيه تفكيره لكي يكون آمنا، ووفقا لاصطلاحنا "مبرئ الذمة": إذن الأب على صعيد العائلة وإذن رجل الدين على صعيد المجتمع وإذن الحاكم على صعيد الدولة. وأكثر من حالة الطفولة المعنوية فإننا لو اعتبرنا أن حقيقة الإنسان تتمثّل في حرية الإرادة واستقلالية العقل والسيادة على الوجدان فإن انسان ما قبل الأنوار لم يولد بعد بسبب تعطل المزايا التي تحدّد إنسانيته وتميّزه عن باقي المخلوقات. (ولنا أن نقارن هذا التوصيف للرشد مع الطرح القرآني للحياة الحقيقية التي يمنع من تحققها التقليد وإطاعة "ساداتنا وكبراءنا". وقد يشكّل ذلك مدخلا مهما لفهم إسلامي لفلسفة الأنوار، بل للتصالح معها وتبنّيها).
هذا الانعتاق التدريجي من سلطة رجال الدين سوف يؤدي لاحقا الى بروز ظاهرة من أبرز سمات الحداثة ألا وهي ظاهرة التمايز (differentiation) حيث تمتاز الحقول الاجتماعية عن بعضها البعض وتصبح قائمة بذاتها وتبني علاقة مستقلة مع الحقول الاجتماعية الأخرى وتتوّج هذه العملية بفصل الدين عن الدولة.
إن مفهوم الرشد يسير جنبا الى جنب مع فلسفة الذات (subjectivity) والتي تعني إتّساع إشراف الذات الإنسانية على ذاتها وعلى ما حولها بحيث يصبح الأنسان حرّا، ناقدا، فاعلا في المجتمع، هادفا الى تغيير محيطه لصالحه ولصالح مجتمعه، مهتما بحقوقه أكثر من إهتمامه بواجباته. إن حرية الفكر وحرية النقد وحرية الفعل هي المبادئ التي سوف تؤسس عليها لاحقا حقوق المواطنة وبزوغ فجر العصر الحديث.
ان مبدأي الرشد ونموّ الذات الإنسانية يمثلان روح الحضارة الحديثة وأساس نهضة الغرب واللذان سمحا للدول الغربية بتحقيق هذا التقدم الهائل في شتى الميادين والتسيّد على العالم بحيث أضحت الحضارة الغربية هي الحضارة الرائدة والمهيمنة في شتى الميادين. ولذا يُعتبر تجاهل هذين المبدأين المهمّين بمثابة العيش خارج حركة الحياة والترجّل من قطار العصر. ولقد بدأ بعض المثقفين الجادين في العالم الإسلامي بالتنبه الى أهمية هذين المبدأين وموقعهما في المنظومة الفكرية الإسلامية وما إذا كانت القراءات الجديدة للمصادر الإسلامية الأساسية تنفتح على فهم يستسيغ الحوار معهما وتوظيفهما في عملية النهوض المنشودة في العالم الإسلامي. ولعل المفكر المرحوم محمد إقبال هو أبرز من تنبّه إلى أن فلسفة الذات تمثّل روح الحضارة الحديثة وأساس نهضتها فراح يأصلها في المصادر الإسلامية أو بالأحرى راح يستحضر المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي تؤيد فلسفة نهوض الذات، أو (خودي) بالتعبير الفارسي، زاعما أن التأصيل الحقيقي لفلسفة الذات في الواقع الإسلامي لن يؤدي الى النهضة المنشودة فحسب بل الى تلافي المخاطر والانتهاكات التي نتجت عن نمو الذات الغربية التي أدّت، إضافة الى التقدم العلمي والتقني والفكري... أدّت الى استغلال الأمم الأخرى وتدمير البيئة في حين أن المبادئ الإسلامية كالعدل والرحمة والائتمان تجعل الإنسان المسلم لا ينمّي ذاته على حساب الآخرين.
واقع الحال في العالم الإسلامي
ونحن إذا ما نظرنا إلى أوضاع العالم الإسلامي نجد أن سمة التأخّر والانحطاط هي أكثر ما يميّز تلك المجتمعات. فنحن نقع في أسفل السلّم وفقا لكل مؤشرات التنمية والأرقام في هذا المجال مرعبة. فإذا أخذنا من باب المثال بلدا مثل إسبانيا، والذي يُعتبر متأخّرا نسبيا وفقيرا نسبيا إذا ما قيس ببلدان أوروبية اخرى أمثال بريطانيا وألمانيا وفرنسا، نجد أن الناتج القومي الاجمالي (GDP) لإسبانيا أعلى من الناتج القومي الإجمالي للبلدان العربية مجتمعة بما في ذلك البلدان المصدّرة للنفط. من جانب آخر نجد أن "إسرائيل" تنفق على البحث العلمي أكثر مما تنفقه دول العالم العربي مجتمعة، وأن بلدا مثل بلجيكا، والذي يبلغ تعداد سكانه حوالي أربعة عشر مليون نسمة، يترجم كتبا من وإلى لغته الأم اكثر مما يترجمه العالم العربي مجتمعا. هذا بالإضافة الى تفشّي الظلم والدوس على حقوق البشر وسرقة أموال الناس من قِبل أنظمة صنعناها نحن استنادا لأيديولوجيات قومية أو يسارية أو دينية.
هذه الأوضاع والأرقام المبيّنة أعلاه لم تأت من فراغ بل إن أسبابها تقبع في بنية العقل العربي-الإسلامي الذي عجز عن الانتاج والابتكار والمساهمة في الحضارة العالمية منذ قرون واكتفى إما باجترار ما تركه الاقدمون أو نقل ثمرات الفكر الغربي وتسويقها على أنها ابتكارات محلية أو القيام بمحاولات هجينة للجمع بينهما تُنتج ما يُطلق عليه داريوش شايغان "الانفصام الثقافي للشخصية".
ويبدو أن مشكلة العقل الإسلامي تكمن في التالي:
معوّقات العقل الإسلامي
1) غياب الرشد وغلبة الوصاية على عقل الإنسان المسلم من قِبل الأب على صعيد العائلة والزعيم أو رجل الدين على صعيد المجتمع والحاكم على صعيد الدولة، فالأب يخوفنا من العقوق إذا ما استعملنا عقولنا بطريقة مستقلة خصوصا إذا كانت تحُدّ من سلطته شبه المطلقة على افراد العائلة، والمعمم يخوّفنا من الوقوع في الضلال إذا ما حاولنا أن نفهم ديننا ونطبقه وفقا لفهمنا الخاص، والحاكم يخوّفنا من الوقوع في الفتنة والفوضى إذا ما ثرنا على ظلمه وطغيانه. وهكذا تُنتج أمّةٌ مشلولة، منزوعة الإرادة، تعيش حالة من الطفولة المعنوية، يقرّر مصيرها أفراد عوضا عن اشتراك كافة قطاعات المجتمع في البت في الشؤون المهمة والمصيرية. هذه الوصاية المعنوية على العقل هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن غياب التفكير النقدي في مجتمعاتنا، والتي تعتبر من السمات الرئيسية للدول المتقدمة.
2) عدم التّحلي بالشجاعة العلمية في عملية البحث العلمي والتي تتطلب الإذعان للحقيقة حتى ولو كانت تخالف المسلّمات الفكرية والعقدية. فنحن عندما نبدأ بعملية البحث العلمي تكون الأجوبة معدّة سلفا في أذهاننا وتُختصر عملية البحث بمحاولة إيجاد مصاديق لها في الواقع الخارجي وأحياناً كثيرة تطويع الواقع لكي ينسجم معها. ولذلك يكثر في أبحاثنا وفي ثقافتنا بشكل عام التمويه والازدواجية والتقية والمصادرة ولي عنق الحقيقة. وهذا من اكثر الأمور التي تعيق البحث العلمي والابتكار والاكتشاف. فإذا كان الانسان يعتبر أنه قابض على الحقيقة فما هو الشئ الجديد الذي يمكن أن يكتشفه أو يضيفه إلى صرح المعرفة؟
3) الخوف من اقتحام الأماكن المبهمة والمشكلة في تراثنا خشية أن تُفضي الى نتائج لا تنسجم مع المسلّمات الفكرية، وإعتماد التاريخ الأسطوري عوضا عن التاريخ الموضوعي والعلمي. وهكذا تُنفى هذه الأمور المبهمة والمظلمة في فكر الإنسان المسلم الى مستوى اللاوعي وتصبح من "اللامفكّر فيه" أو "ما يستحيل التفكير فيه".
4) غلبة الاهتمام البياني والبلاغي في الخطاب الفكري بحيث أن الخطاب ينبغي أن ينسجم إما مع قوالب لغويّة تضفي عليه محسّنات بديعيّة وأحيانا سجعيّة على حساب الحقيقة، أو أن ينتهي إلى قوالب فكرية محددة سلفا.
هذه العوامل المذكورة أعلاه لا بدّ أن تنتج أمّة خاملة، متثائبة، قليلة الإنتاجية، تلقي بأزماتها ومشاكلها على عاتق الغيب. ولكن، وبالرغم من هذه الأوضاع التي يمرُّ بها العالم الإسلامي، والتي أقل ما يقال عنها أنه لو أتيح للغالبية من أهله أن يتركوا بلدانهم ويهاجروا الى بلدان لا تُداس فيها حقوقهم وكراماتهم لفرُغ العالم الاسلامي من أهله أو كاد، بالرغم من هذا كله، هل توجد في القرآن مفاهيم ومبادئ يمكن استثمارها لصالح خروج الانسان المسلم من حالة الخضوع والوصاية وتحقيق الانعتاق المعنوي والرشد الفكري اللذان يعتبران الاساس الناجع للنهضة الحقيقية، لأن مشكلتنا لا تكمن في عدم وجود المؤسسات والقوانين لأنه يوجد لدينا مؤسسات حديثة لا تسري فيها روح الحداثة ودساتير وقوانين وبرلمانات لا تسري فيها روح الديمقراطية؟
في رأي كاتب هذه السطور أن هناك مفاهيم في القرآن تنفتح على قراءة تحبذ الرشد المعنوي بشكل لا لبس فيه والتي يمكن أن تتلخص بالأمور التالية:
مصادر التنوير في القرآن
1) خلافة الإنسان
من المفاهيم المهمة التي يطرحها القرآن مفهوم خلافة الإنسان وأن المشروع الإلهي يهدف إلى جعل الإنسان ممثلا لله على الأرض وحاملا لهذا المشروع مما يمنحه مسؤولية كبيرة ويعطيه دفعا كبيرا ويزوده بطاقة معنوية هائلة إذ يعتبر نفسه سفيرا لله في الأرض، ساعيا إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي تتمحور حول إقامة العدل وتهيئة الظروف الملائمة لاستثارة الطاقات الكامنة والاستعدادات الكبيرة المودعة في فطرته. وربما لا يلتفت الكثيرون أنه وفقا للفهم القرآني فإن الإنسان هو الذي يُعتبر خليفة الله في الأرض وليس النبي أو الإمام أو المرجع، فاءن هذه الفئات الثلاث قد تتبؤ مقام الخلافة بشكل مؤقت، إعدادي، ريثما يحقق الإنسان سيادته على نفسه ويخرج من حالة الحضانة المعنوية. ووفقا لهذا الفهم صيغ كتاب الشهيد محمد باقر الصدر (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).
٢) ختم النبوة
يمثّل موضوع ختم النبوة حدثا فريدا في تاريخ البشرية والذي يؤذن بخروج الإنسان من حالة الوصاية، فبعد إنقطاع. الوحي لا يحق لبشر أن يحكي عن الله وأن يعتبر أن كلامه صادر عن الله، وفقا لمحمد إقبال. وهذا يعطي دفعا كبيرا للإنسان لأخذ زمام المبادرة وإعمال عقله ومحاولة تحقيق المشروع الإلهي وفقا لما يستجدّ من أمور ويتغير من ظروف.
وحتى في حياة النبي، وفقا للمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يمكن للإنسان المسلم أن يتصرّف وفقا لإرادته دون حاجة لإذن النبي في أمور ثلاثة مهمة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشورى والواجب الكفائي.
٣) غلبة المنهج الاستقرائي على المنهج الاستدلالي
من الأمور الغريبة والبالغة الأهمية في القرآن غلبة المنهج الاستقرائي على المنهج الاستدلالي في موضوع المعرفة. فمن معالم المنهج الاستدلالي أن ينطلق الانسان من فكرة ما أو نظرية ما في ذهنه ثم يفتّش لها عن أدلة في الخارج. وهذا المنهج المعرفي لا يخلو من لوثة الايديولوجيا ومحاولة تطويع الواقع لينسجم مع القناعات المسبقة. وخلافا لذلك فإن المنهج المعرفي في القرآن يدعو، وفي آيات عديدة، الى التأمّل والمقارنة والتجربة والاستنتاج أو أخذ العبرة، وهذه الأمور تُعدّ من مقومات المنهج الاستقرائي. ومن الغريب ايضا أن علماء الغرب في ما مضى من قرون أخذوا هذا المنهج العلمي عن علماء المسلمين وأسّسوا عليه حضارتهم حيث تمكنوا من إحراز تقدّم علمي هائل سيطروا على العالم من خلاله. ويبدو أننا نحن المسلمون أهملنا هذا المنهج وحاربنا رديفه على الصعيد الفلسفي المتمثّل بالفلسفة الرشدية التي تحاول أن تُعلي من شأن العقل وجعله يقوم على قدميه دون الحاجة الى عكّازة ميتافيزيقية، فحصل عندنا هذا التأخر والانحطاط.
٤) غلبة فلسفة الصيرورة على فلسفة الوجود:
من الآثار السلبية للفلسفة الاغريقية، الأفلاطونية بشكل خاص، على مجمل تجليات الفكر الاسلامي فلسفة الوجود التي تعتبر أن العالم الحقيقي والواقعي هو في مكان آخر غير العالم الظاهري الذي نعيش فيه وأن هذا الأخير ليس إلا انعكاسا وصدىً لذلك العالم الواقعي والذي يسمونه تارة بعالم المثال وأخرى بعالم الملكوت. فإذا كان الانسان يعتقد أن الأمور المهمة والمصيرية قُررت في عالم آخر سابق على العالم الذي نعيش فيه، أو موازٍ له بطريقة ما، فإن هذا يدع إلى الخمول والتواكل وعدم الانتاجية وإلقاء الأمور على عاتق الغيب. وهذه المفاهيم تسرّبت الى المنظومة الفكرية الإسلامية، خصوصا العرفان، حيث يصرّح أحد أساطين هذا الفن " إن الناس تخاف من خاتمة هذا الأمر ونحن نخاف من بادءته. هذا في حين أن المفهوم الصحيح ينبغي أن يكون أن الانسان يصبح قريبا من الله أكثر من خلال التحول والتبدل والنمو والتطور بحيث أنه يخرج من قشرة التبعية والقصور ويصبح لائقا بحمل المشروع الالهي. ومن الأمور المفيد استحضارها في هذا المجال أن العالم المسيحي في القرون الوسطى كان متأثرا ايضا بهذا المفهوم وأنه لم يحقق نهضته وحداثته لاحقا إلا بعد أن تخلىّ عن هذا النظام الفلسفي واصبح ينظر الى العالم الذي نعيش فيه على أنه العالم الحقيقي والواقعي.
خاتمه
يعيش العالم الاسلامي اليوم فترة انتقالية تنشد فيها شعوبه التغيير في شتى الميادين. ولقد قامت مشاريع نهضوية مختلفة في العالم الاسلامي من أجل التغيير ذات خلفيات قومية واشتراكية ودينية لم تفلح في إيجاد النظام السياسي العادل، مع أنه يُسجّل للحركات الاسلامية غير التفكيرية أنها كانت الأنجع في مقاومة العدو الخارجي وأن الدولة الدينية في إيران لحد الآن هي الأنجح في مقاومة المشروع الغربي الاستعلائي، مع عدم قدرتها على إيجاد النظام الداخلي العادل الذي يمثّل طموحات الشعب. وينبغي عدم التقليل من الإنجاز المتمثل بالوقوف في وجه المشروع السلطوي الغربي لأربعة عقود إذا أخذنا بالاعتبار أن الإتحاد السوفيتي الذي كان يمتلك إمكانيات هائلة عسكرية واقتصادية وجيواستراتيجية، والذي كان يمتلك جهازا أمنيا واستخباراتيا يسخر من الأجهزة الأمنية الغربية مجتمعة، لم يستطع الصمود أمام النظام الغربي وتهاوى في النهاية وتلاشى.
ونحن إذا نظرنا الى خلفيات النهضة الغربية التي بدأت قبل حوالي خمسة قرون نجد أن العوامل التي كانت مسؤولة عن تأخر الغرب والمتمثلة بالقصور المعنوي والوصاية وخضوع الذات الغربية للتوجيه من خارج ذاتها نجد أن هذه العوامل تمثل حالة تعتري كافة المجتمعات البشرية ولا تختص بالانسان الغربي فحسب وأن ما يقابلها من رشد معنوي وتسيّد على الذات والتي شكّلت أساس نهضته هي ايضا تُعنى بالوضع الانساني ككل وأن الأخذ بها قد يعتبر بداية الطريق باتجاه التحرر والانعتاق اللذان يؤديان في نهاية المطاف الى النهوض بالمجتمعات والخروج من حالة التأخر والتبعية. ولقد حاول كاتب هذا المقال أن يشير فيما تقدم الى أن القرآن يحتوي على المصادر الروحية والفكرية التي تحبّذ الخروج من حالة الطفولة المعنوية وأخذ زمام المبادرة والاضطلاع بمسؤولية حمل المشروع الالهي الذي يعطي دفعا هائلا لنمو الذات وتحقيق الرشد.
ولعل الطرح القرآني في ما يتعلق بالحياة الحقيقية والذي من بعض تجلياته عدم إطاعة "السادات والكبراء" وتحطيم الأصنام التراثية والسلطوية على أنواعها والتي تحول بين الانسان والحقيقة يلتقي في أوجه كثيرة مع مفهوم الرشد الذي يعتبر بمثابة البنية التحتية لنهوض الغرب (وهذه المسألة بحاجة الى بحث وتأصيل أكثر).
إن كل كلام عن دولة القانون وحقوق المواطنة واستقلالية القضاء والتي تُختصر بالنظام الديمقراطي دون البحث في المسائل السابقة الذكر والمتمثلة بالرشد ونمو الذات وتأصيلهما ضمن المصادر الدينية الرئيسية هو بمثابة النقش على الماء أو الكتابة على الرمال التي سرعان ما تتلاشى وتنمحي. وبناءً عليه، ينبغي العمل على إقامة ورشة فكرية كبيرة لتبيان ماهية سؤال الأنوار وموقعنا منه.
د. عماد بزي