تجديد وتنوير
جودت العاني: مقاربة.. بين فلسفة التنوير وفلسفة التحرير لـ(إيمانؤيل كانت)
مدخل: يريد إيمانؤيل كانت، تنويرًا وإصلاحًا للعقول أولاً، فيما الواقع يشترط إزاحة المستبد عن طريق الثورة لكي يبدء التنوير، والتنوير يستمر إلى نهاية التاريخ الذي لن ينتهي هو الآخر.!!
ما الفرق بين التنوير في الواقع، والثورة على الواقع؟ وإلى أي مدى يمكن، أو بالأحرى، بوسع البشر أن يستعملوا عقولهم من أجل رفض الوصاية على العقول؟
فالكثير من البشر غير معنييين بإستخدام عقولهم تبعاً لسياقات العادة والتكرار، والكثير من العقول تستخدم في أنماط التفكيرعالي التركيز ولكن في المفاصل الثانوية، والقليل القليل من العقول تجرؤ على الأستخدام الأساسي والأمثل والمفصلي، الذي يعالج وجود الانسان ومستقبله بالمنطق العقلي الواقعي.. ولكن، كم هي نسبة الأستخدام المُستَحضِر للعقول لفك المعضلات والمشكلات والإشكاليات التي تواجه الانسان في المجتمع؟
قد يستخدم الانسان نسبة عالية من قدرات العقل في مسائل ثانوية فيستهلك طاقته العقلية دون أن يقدم حلولاً لها، ربما.. ولأن هناك عقول، وهناك عواطف وإنفعالات وغضب.. فهل ينتظر العقل لكي يستنير حتى تولد الثورة، التغيير؟.. ولكن (Immanuel Kant)، يقول: (تجرؤوا على إستخدام عقولكم).!!
فالتنويرُ فعلٌ ذاتيٌ باطني وأخلاقي، وهو إنطولوجيا أساسية تتطلع إلى الحرية، حيث يتم الرهان على العقل.. ولكن إلى متى ينتظر الرهان هذا على العقل؟ وهل ينتظر ذلك تلقائيًا ذاتيًا قد يستغرق التنوير قرون وليس عقود، فيما الأستبداد يسود ويتشعب؟ والثورة تحتاج إلى إنفعالات وعقول في آن واحد لإزاحة المستبد وهو (الوصاية على العقول) التي تمنع التنوير.
ومن هنا فهل يمكن للثورة أن تخلق التنوير؟ وإذا كانت الثورة في نظر " كانت" غير شرعية، (لأن وجود الحاكم على رأس السلطة شرعيًا)، فهل يمكن ان تتحول الثورة الى تنوير بإتاحة الحرية للأنسان لكي يجرؤ على إستخدام عقله وكذا المجتمع؟
الرأس يجب ان يكون الأسمى للعدالة والقانون ويضمن الحق في ملكية ثروات الشعب ويمتنع عن الإستيلاء عليها.. وهنا يُسَلِم المواطن ضمنًا بأن الحاكم لا يقترف بحقه وبحق الوطن أي نوع من انواع الظلم.. وإذا ما وقع، فمن حقه ان يبدي إدانته ويحكم عليه بالعزل والإقصاء لأنه قد خالف العقد الأجتماعي.. ولكن ماذا لو كان الحاكم مستبدًا ومتسلطًا ومحتكرًا ومختزلاً لأرادة الشعب كما يتسائل كانت؟.
هنا يسقط التسليم الضمني بعدالة ونزاهة وإستقامة الحاكم، فينشأ عندئذٍ خيار التعديل أو الإقصاء القسري للحاكم.
فـ "إمانويل كانت" كان يشترط النبل في الحاكم والنزاهة والحق والعدالة.. هذه السمات تكسب الحاكم الشرعية ومن دونها فهو فاقد لها. وضمنيًا يؤيد "كانت" الثورة وليس ضدها، فهو ضد عنف الثورة. والثورة هل هي على (الوصاية على العقول) أم ثورة على (الواقع)؟
فالخطر هو الوصاية على العقول، كما يقول "كانت" وليس الوصاية على الأستبداد بنهب الثروات. فالثورة قد تجلب معها أحكامًا مسبقة أو أوهامًا قديمة تتحول إلى مكبوت آيديولوجي مختلف، كما يقول هذا الفيلسوف. والإصلاح هنا الذي يريده "كانت" تغييرًا جذريًا لأنماط التفكير العقلي وليس مجرد تغيير وترميم لنظام الدولة. فالاصلاح يلتقي مع التنوير. ومن هذا المفهوم يمكن للثورة أن تستخدم التنوير في إصلاح العقول طالما ان المستبد لا يريد عقولا صالحة ولا يريد اصلاحها ابداً.. هنا يكون إسقاطه ضروريًا لإصلاح العقول والخلاص من أجل التنوير.
ما هو التنوير؟، هو التحول من حالة عدم استخدام العقل إلى التجرؤ بإستخدامه كخطوة أولى مدخلية صارمة.. وإن عدم الأستخدام هو في حقيقته تقبل للـ(وصاية) الناتجة عن احتمالين: الاستبداد الذي يعمل على عدم إستخدام العقل، والتجهيل بدفع العقل الى خارج منطق العقل.. فيما تمثل الوصاية على العقل ونتيجتها القبول بالعيش تحت رحمة الوصاية، وهنا يتم تعطيل العقل أو تجميده، وكليهما يقعان خارج نطاق المنطق العقلي.
فالفرد من السهل أن يدخل التنوير بمفرده ويتشبع بالمعرفة، ولكن الشعب من الصعب أن يدخل التنوير بكليته إلا عن طريق الثورة المستنيرة.. والتحرر يشترط جمهور الناس وهو ممكن شريطة وجود الحرية، والحرية لا يمنحها المستبد، والجاهل لا يعرف إستخدام الحرية إلا من خلال ضوابط الحرية، التي يحددها العقد الأجتماعي للثورة.. والتنوير من الصعب ان يكون سريعا وعنيفا ودفعة واحدة.. والتجرؤ على استخدام الانسان لعقله يشترط ان يكون حرًا وبعيدا عن الوصاية والرقابة الدينية والدنيوية.. والوصاية هنا تعطيل عمل العقل سواء كان بسبب رجل السياسة الحاكم أو رجل الدين أو أي شخص آخر لديه سلطة إصدار القرار.. والتعطيل هنا، هو منع أو حرمان العقل من أن يتشبع بالمعرفة الصافية القائمة على معايير منطق العقل الواقعي، وإرغامه على منبع واحد قد يمثل إتجاهًا دينياً أو إتجاهاً إثنيًا غير منفتحاً.
وحماسة الثورة في رأي " كنت " تهب النفس دافعًا حيويًا من أجل تجاوز حدود التخيل البشري، في حين أن التعصب يتوهم المرء فيه أنه يرى شيئًا ما، في ما وراء المخيلة.. لكنه في الحقيقة لا يرى سوى أوهامه. كما يرى "كنت" أن الحماسة إنفعال سياسي أما التعصب فهو إنفعال ديني.. وهما في هذا العصر ديماغوجية سياسية صماء وأدلجة دينية مخادعة.
إن نجاح أية ثورة هو خروج جماعي من حالة الوصاية إلى حالة الطريق المؤدية إلى الحرية، حرية التنوير والبناء، فهو بهذا، يظهر شعبًا ما، قد تجرَأ على إستخدام عقله برفض الوصاية عليه.
فالتنوير لا يمكن أن يكون بُرْكة (راكدة) تتزود منها العقول لكي تستنير، فيما هي محكومة من لدن المستبد بالوصاية التعصبية الدينية والأصولية والإرهابية. فالغرض العقلي - حسب "كنت" - سواء كان إعتباريًا أم عمليًا، يتوحد في ثلاثة تساؤلات من شأنها تحريك العقل:
ماذا يمكنني أن أعرف؟
وماذا يجب أن أعمل؟
وماذا يُمَكِنني أن أعمل؟
وهنا يدخل "كنت" في مجال المعرفة وكذا الإمكان العملي بوصف هذا الإمكان إرادة حرة، فيما الإمكان الفيزيائي يرتبط بالغرائز.
وهنا، تأتي القدرة والرغبة في الإرتقاء من حالة الغريزة إلى حالة الإعتبار وتخليص الانسان من نوازع الرضوخ للغريزة، التي تتساوى هنا مع الجانب الاعتباري حين تخضع الأرادة لحالة (الوصاية) بتجريد الأنسان من حريته في استخدام عقله، فيما يؤكد المنطق العقلي بأن الأنسان حر ولا وصاية عليه، هي ذاتها الأستجابة المطلقة للغريزة، التي تخضع لآليات التكرار والأداء النمطي دون استخدام العقل.. فالوصاية القسرية للتطرف الديني ليست من مُسَلَمات العقل العلمي.
لماذا لا يتجرأ المرء على إستعمال عقله؟ أهو الخوف.. ولكن ممن؟ أهو الجهل.. ولكن لماذا؟ أهو التغييب بالغيبيات.. ولكن أين موقع العقل الذي يميز بين الخطأ والصواب، بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، بين الإلحاد والأيمان، بين الشرك واليقين؟، تساؤلات يجيب على مدخلاتها "كنت".. (عندما يحتل كتاب مكان العقل، وعندما يحتل مرشد روحي ديني مكان الوعي).. ولكن للتنوير سيرورة ينخرط فيها البشر بشكل جمعي.. وهو أيضًا فعل جمعي يجب إنجازه على نحو شخصي.. بمعنى، إن الثقافة الموضوعية هي خزان لكل الثقافات الذاتية وما تكونت أو تشكلت إلا منها ومن تراكماتها.. إذ تشكل الثقافة الموضوعية والثقافة الذاتية متلازمة صارمة لا فكاك منها، لأن الثقافة الذاتية تتزود من الثقافة الموضوعية، والأخيرة تتسع وتتعمق من تفاعلات الثقافة الذاتية.
والتنوير هل يقتصر على الفرد بصورة خاصة، أم أنه إستخدام عام يخص الشعب بإعتباره الأطار الذي ينتج الحداثة؟ وبالتالي هو التنوير الذي يقع بين الفرد والمجموع، يعد بحد ذاته مشكلة سياسية يجب أن تحل عن طريق المعطى العام وهو التطور.. وإذا ما تطور المجموع، تطور الفرد بالمحصلة.. وهل الفرد التنويري متفرج يكتفي بتأمل الفعل السياسي.. هذا الفعل، حتى لو كان كارثيًا ؟، فالتنوير الذي يضطلع به الفرد مهم مثل (فولتير ودانتي وشكسبير والبيركامو وجون بول سارتر وسيمون دي بوفوا وسبينوزا وباخ وهيجل وماركس وسورين كركغارد، إلخ)، هولآء افراد غيروا معالم التفكير وغيروا اتجاهات وثوروا واقعاً صعباً وفككوا نظماً فكرية وقادوا أمماً وشعوبا.. ولكن استغرق الأمر قرون وحقب من السنين.. هذه هي أحكام التنوير الفردي، أما أحكام الثورة على العقول المستبدة، لا تحدث إلا بتحييدها ومن ثم حرمانها من فرض وصايتها على عقول الجميع.
***
د. جودت العاني
20/03/2024