تجديد وتنوير
عدنان العتابي: افكارنا رهينة الانحياز التأكيدي
لا شك أن أصعب ما يواجه الإنسان، أيًا كانت عقيدته أو إيديولوجية، هو أن يعيد النظر في قناعاته التي نشأ عليها منذ الطفولة، تلك القناعات التي تشكلت بفعل البيئة وسلطة التلقين الاجتماعي.
نشأة الإنسان في مجتمع معين وسط طقوس وتقاليد وأعراف متوارثة، تجعل من قناعاته جزءًا لا يتجزأ من هويته الشخصية. وعليه يصبح التغيير أمرًا أشبه بمواجهة الذات، بل بمواجهة المجتمع ككل. وهذا التغيير، إن حدث، لا يأتي بلا ثمن، فهو يتطلب شجاعة استثنائية وقوة نفسية لتحمل الضغوط الاجتماعية، بل وحتى مخاطر النبذ والإقصاء.
البيئة لها سلطانها القوي على عقول الأفراد، فهي تُلقّنهم قناعات محددة وتُرسّخها باعتبارها حقائق مطلقة، يصعب التفريط فيها لاحقًا. تخيل شخصًا تربّى على عقيدة معينة، سمعها على المنابر، وقرأها في الكتب، ووجدها في كل زاوية من حياته اليومية. الآن، لو واجه هذا الشخص أدلة مناقضة لتلك العقيدة، فهل يمكنه التخلي عنها بسهولة؟.
الإجابة غالبًا هي لا. السبب لا يكمن فقط في ضعف الأدلة أو قوة الموروث، بل في الحاجز النفسي الذي يمنع الفرد من تقبل التغيير.
يحدثني أحد أصدقائي الأكاديميين، وهو باحث متخصص في التاريخ والسيرة روى لي تجربته في هذا السياق. يقول خلال عملي على أطروحة الدكتوراه، اكتشفت زيف العديد من الروايات التاريخية التي كنت اعتقد بصحتها. ورغم ذلك، لم استطع التصريح بهذه القناعات الجديدة خوفًا من أن اخسر مكانتي الاجتماعية أو أن اتعرض للتهم الجاهزة التي تُكال لكل من يخالف السائد.
لقد عاش هذا الباحث صراعًا داخليًا مريرًا؛ كان يدرك حقيقة الأمر لكنه لم يمتلك الجرأة الكافية للإفصاح عنها. بل حتى في أضيق دوائر أصدقائه المقربين، كان يشعر بالخوف وهو يعبر عن آرائه، وكأنه يخشى حتى من نفسه أن يعلن تغييرًا جذريًا في قناعاته.
هذا الصراع الذي عاشه صديقي ليس حالة استثنائية. الكثير منا، إن لم يكن الأغلبية، يعيش هذه المخاوف بدرجات متفاوتة. التغيير يعني التخلي عن ماضٍ طويل من التصورات والأفكار، يعني مواجهة المجتمع الذي لن يتردد في محاسبتك ومعاقبتك. البعض يُفضّل التعايش مع هذا الصراع بصمت، مستمرًا في اعتناق معتقداته القديمة ولو كانت خاطئة، فقط لتجنب المتاعب.
على الطرف الآخر، هناك من لا يعيش هذا الصراع على الإطلاق. هؤلاء هم من يتبنون معتقداتهم كمسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش، ويرفضون أي فكرة تخالفها دون أي تأمل أو مراجعة. هذه الحالة تُعرف بـ"الدوغمائية"، وهي نتيجة مباشرة للانحياز التأكيدي. هذا الانحياز يجعل الفرد يبحث فقط عن المعلومات التي تدعم قناعاته الحالية، ويُقصي كل ما يخالفها، مما يمنعه من رؤية الصورة كاملة.
لكن، هل يمكننا كسر هذه الحلقة؟ هل يمكن للإنسان أن يتحرر من أسر الانحياز التأكيدي؟ الإجابة هي نعم، ولكن الطريق شاق وطويل. تغيير القناعات يتطلب شجاعة استثنائية ورغبة حقيقية في البحث عن الحقيقة، بعيدًا عن ضغوط المجتمع وتقاليده. وهذا التغيير لا يعني التخلي عن كل ما نؤمن به، بل يعني اختبار معتقداتنا بصدق، والاعتراف بأننا بشر قد نخطئ وقد نصيب.
في نهاية المطاف، السعي نحو الحقيقة ليس مجرد خيار، بل هو واجب على كل إنسان. الإنسان الحر هو من يملك الجرأة لإعادة النظر في أفكاره ومعتقداته، ليس لأنه يريد التخلي عنها، بل لأنه يسعى لفهمها بعمق أكبر. التفكير النقدي هو السبيل الوحيد للوصول إلى قناعات واعية، لا مجرد قناعات موروثة لا يعلم المرء سقمها من صحتها.
ختاماً اقول ان التحرر من أسر الانحياز التأكيدي ليس مجرد ترف فكري أو مهمة سهلة، بل هو رحلة شاقة تتطلب شجاعة وإرادة قوية، ومواجهة الذات قبل مواجهة المجتمع. إن إعادة النظر في القناعات والمعتقدات ليست هدمًا للهوية، بل إعادة بناء لها على أسس أكثر قوة ووضوحًا.
لذا، فلنسعَ جميعًا لأن نكون أكثر انفتاحًا على الحقيقة، وأكثر استعدادًا للاعتراف بحدود معرفتنا. فالتفكير النقدي ليس أداة لهدم الموروثات، بل وسيلة لتنقيتها وإثرائها. ولعل أعظم ما يمكن أن نطمح إليه هو أن نكون في حالة بحث دائم عن الحق، غير متقيدين بخوف أو انحياز، مؤمنين بأن الحقيقة تستحق السعي مهما كان الثمن.
***
عدنان العتابي