تجديد وتنوير
الحرية والشر
معظم الذين يرفضون الحرية، يبالغون في تضخيم الاستثناءات، حتى تنكمش القاعدة أو تتلاشى. وعلى العكس من ذلك، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة، وأن أي تقييد ينبغي أن يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة، فلا يتضخم إلى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر، أو يجعل الأصل أضعف أثراً من الفرع.
لا بد - على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية، مثل دعاتها، ينطلقون من موقف فكري أو اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم، وإنْ لم يقبلها الفريق المقابل.
وقد أشرت في مقال سابق إلى أن الشرائح المحافظة في مختلف المجتمعات، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني، لا أنها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلاً أن الماركسية الكلاسيكية اعتبرت الحرية لعبة برجوازية، وأن حاجة المجتمع الحقيقية، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم، حتى تحقيق المساواة بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعد الحرية أداة سخّرها أنصار الشيطان للتغرير بالأجيال الجديدة، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. وأحدث الأمثلة على هذا، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد «دوريات الأخلاق» في العاصمة الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة أجنبية، بينما كان المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.
كتبت سابقاً أنك لن تجد بين السياسيين والمثقفين أو الزعماء الدينيين من يعلن صراحة أنه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة، هو التركيز على الاستثناءات والحواشي وإكثار الكلام فيها، حتى تتضاءل القاعدة الأصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية أو فوائدها، ستأتيك عشرات الردود، من كل طرف، حتى ليخيل إليك أنها دفاع منسق.
الواقع أنها ليست منسقة، لكن المجتمعات المحافظة جاهزة دائماً للتعبير عن رفضها للتغيير وكل مداخله ومؤدياته، بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلاً:
أ- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.
ب- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع أو الدين. فحوى هذا الموقف أننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة أو تدعو لعلاقات اجتماعية جديدة.
ت- ردوداً تركز على مخاطر الحرية المطلقة، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام. فحوى هذا الموقف أن الإنسان بطبعه فاسد، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب، وأن الحرية تحرره من هذا الخوف.
ث- ردوداً تركز على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية، لا سيما السلوكيات التي يعدها عامة الناس نموذجاً لسقوط الأخلاق، مثل اللباس غير المحتشم، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد التي نعرفها، وتمرد الأبناء على الآباء... إلخ. فحوى هذا الموقف أن الإنسان سيخسر أبناءه لو قبل بمبدأ الحرية.
كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن نريد الحرية، لكن الحرية لا تريدنا، فهي لا تأتي دون أن ترافقها الشرور. الأفضل إذن التخلي عن هذه المغامرة مجهولة العواقب.
هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها العقل التقليدي، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة، ويستولي الشرح على المتن، «الاستحواذ على النص الأصلي المشع، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة»، حسب تعبير أخي د. معجب الزهراني.
***
د. توفيق السيف
كاتب ومفكر سعودي