تجديد وتنوير

جودت العاني: التنوير مدخل للتطور والحداثة.. كيف؟

لا احد يرفض التنوير، عدا المتزمت والمتعصب والمغالي، لأسباب سنتعرض لها بالتحليل والتفسير. وقبل كل هذا وذاك، التنوير لا يلغي الدين ولا يلغي المذهب ولا يلغي القومية .. كما أنه ليس ضدها جميعاً .. فكيف نفسر ذلك دون الإساءة للدين والمذهب والقومية؟
ما هو التنوير ولماذا؟
التنوير ليس تغييراً، إنما هو تسليط الضوء على الجوهر دون أن يمسه، فالجوهري يبقى جوهرياً والتوصيفات تطالها التغييرات في الشكل لحماية الجوهر من الإقحامات والمدخلات الغريبة .. والتغيير هو عصرنة ما هو كائن وعدم تركه راكدا .. والمعنى في هذا المفهوم ان الجوهر الوجودي للدين والمذهب والقومية هو جوهر اساسي ولا غبار عليه أمام التحديث والعصرنة .. فالتنوير كفيل بأن يضع الجوهري في إطاره الصحيح دون المساس به أو الاخلال به .. والتنوير لا يتعرض للجوهر، كما أسلفنا، إنما يبعد عنه التقادم ويضع حوله مصدات للحماية من التشويهات التي تلتصق به عبر الزمن .. لأن اطروحات الحاضر تختلف عن اطروحات الماضي في (الزمكان)، ولا ريب في التنوير وهو يضفي شيئاً ويرصد مفردات الفكر الديني والمذهبي والقومي بصورة عصرية وحداثية، فهو مع الطرح ومن اجله حتى لا يفاجأ بالركود وتقادم الزمن من حوله .. فالعالم يتغير ومتطلبات العصر تتغير وتتحول الى معطيات ماضي الزمان لتأتي معطيات اخرى لهذا الزمان وهي لا تغير شيئاً في ذلك الجوهر، بل يقوم منهج التنوير بتوظيف معطيات العصر بتشذيب ما علق بالدين والمذهب والمسار القومي من مداخلات بعضها مسيئة والبعض الاخر مغرضة وشوائب تركها الزمن عالقة راكدة على حافات جوهر الدين والمذهب والمسار القومي.
فالتنوير تلبية لحاجات حياتية وتاريخية، لقد تعلقت بالدين عصبيات وهرطقات وتعلقت بالمذهب تكفيرات واقصاءات وتعلقت بالقومية تزمتات عالجها منهج التغيير الذي يرفض تجزئة الاشياء ويؤكد على حرية التعامل الانساني ويعتمد التعامل بالعدل والحق والانصاف وهو التنوير القومي .
فعند كل ظهور للتكفير والتعصب يظهر التنوير للحاجة لكي يضيء الطريق.. لأن العصبية في الدين آفة والعصبية في المذهب آفة وكذلك في القومية، وكل العصبيات والتعصبات هن (سلوكيات) يتعارضن مع (جوهر) الدين والمذهب والقومية.. فحين تدخل العصبية والتعصب الى الدين تمزق الدين وان تخليص الدين والمذهب والقومية من التعصب والعصبية يتحرر الانسان والمجتمع من الاقصاء والتهميش . ولكن، ما هو البديل الذي يمكن اعتماده ليتم تخليص الانسان والمجتمع من آفة التعصب والمغالات والتكفير؟
البديل هو الولاء للوطن الذي يجمع ولا يفرق ويضمن بتشريعاته القانونية ومؤسساته حقوق المواطنين على اساس العدل والانصاف والمساواة .. والأمثلة هنا كثيرة في هذا المنحى : فقد عاشت فرنسا زمناً مرعباً من هذه الافات التي اسفرت عن سفك الدماء وتشريد البشر فضلاً عن تدمير طال معظم مراكز الحضارة الفرنسية العريقة .. ففي داخل الدين المسيحي (الكاثوليك والبروتستانت) مذهبان في دين واحد، كانا يتصارعان صراعاً دموياً، إلا أن المتنورين من أمثال جان جاك روسو و روبسبير ولوك وجون بول سارتر و سيمون دي بوفوار وسبينوزا وسورين كريكجورد وكنط وغيرهم، قد وضعوا قواعد للفهم الموضوعي وقواعد للأخلاق، الأمر الذي انتهى الصراع إلى السلم الإجتماعي استمر حتى الوقت الراهن بغض النظر عن الحكومات الفرنسية التي تأتي وتذهب وكذلك الأحزاب، حيث يستند الجميع الى مبادئ السلم الاجتماعي .. وهي قواعد تحكم سلوك الجميع، ومع ذلك تحدث اضطرابات داخلية منضبطة ومسيطر عليها نتيجة احداث العالم الخارجي التي ترتبط بالمصالح الحيوية الفرنسية.
وما يفصح عنه التاريخ الفرنسي يعبر عن جزء مما عانته الدول الأوربية من صراعات دموية كانت أسبابها العصبيات المذهبية (البروتستانتية والكاثوليكية والأرثدوكسية والنعرات القومية) وتداخلات المصالح الاوربية والأمريكية والعالمية.
وكمرحلة من مراحل التطور في مجتمعات القارات الاخرى نرى مجتمعاتنا العربية والاسلامية تعاني حالياً من سلوكيات التعصب والتكفير والمغالات وأدوات هذه السلوكيات هي (الجهل والتجهيل، والتجويع والإفساد من جهة وتهميش الاخلاق وتفسيخها وتفكيكها وبالتالي تدمير منظومة القيم العربية والاسلامية).
هذه صورة موضوعية للواقع كما هو بدون رتوش، إنها الحقيقة، رغم أنها مره . إلا أنها تظل الحقيقة الشاخصة التي تستوجب التوقف عندها لتأملها ومن ثم معالجتها بطريقة تخدم الأنسان والمجتمع على خط شروع واحد.!!
***
د. جودت صالح
31/10/2024

 

في المثقف اليوم