تجديد وتنوير

الحسين بوخرطة: الحاجة إلى عصر أنوار جديد

في مقالتي السابقة حول "قيمة الإنسان الكونية في زمن الغطرسة"، أوضحتُ كيف استقر في مسار التفكير الفلسفي الحديث استنتاج جوهري مدعوم ببراهين عقلانية، مفاده أن قيمة الإنسان تكمن في كونه غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة، وأن هذه القيمة تُبنى على الوعي والمشاركة والتضامن. وقد دعوت آنذاك إلى استنهاض الهمم من جديد لرفع الشعار النضالي الإنساني الرافض لمنطق الغطرسة الذي يُشيِّئ الإنسان، مؤكدًا أن الاعتراف المتبادل بالقيمة الإنسانية واستعادة الرشد الفلسفي هما السبيل لجعل الإنسان كائنًا له كرامة غير قابلة للتصرّف، بما يضمن للبشرية النجاة في مواجهة التحديات المعاصرة.

لقد برزت عبر العالم اعترافات فكرية متزايدة بضرورة جعل الفرد فاعلًا منتجًا داخل أمته، وربط هذا الهدف بالإرادة السياسية للدولة، بحيث يتصدّر سلم أولوياتها وشعاراتها وبرامجها. فلم يعد مقبولًا بعد اليوم إغفال حقيقة أن تقوية هوية الفرد معطى جوهري في حياة الشعوب، وأنها لا تنفصل عن ترسيخ ملكة التفكير العقلاني كما صاغها ديكارت. وهكذا أضحى واضحًا أن الدولة، باعتبارها الجهاز المؤسساتي المدبّر لحياة الأفراد والجماعات في نطاق زمني وجغرافي محدّد، تتحمّل مسؤولية كاملة في بناء ذوات مجتمعية تتقارب، في حدّها الأدنى، مع مقتضيات العقلانية، وتعمل على صناعة "أنا أعلى" محفِّز على العطاء وترسيخ الحرية المسؤولة. فالإنسان، في النهاية، يجب أن يكون قادرًا على قول: "أنا أريد" مع تسويغ عقلاني، و"أنا لا أريد" على أساس مبرّر فكري واضح.

إن التجارب التاريخية تبرّر هذا الطرح؛ فما يعيشه الفرد من التزامات وإلزامات وضرورات ليس من اختراعه، بل مصدره خارجي كما أكّد ديكارت. وهويته ككائن متفوّق على باقي الكائنات تجد جوهرها في قدرته الدائمة على التفكير، ومراجعة تراكماته، والإبداع والاختراع، وصناعة أحداث التاريخ النافعة.

ومن خلال المفارقات الفلسفية، يظل الإنسان ذلك الكائن المتميّز المثقل بالإلزامات والحتميات المتنوّعة، بما فيها المعطيات الفيزيائية والسوسيولوجية والسيكولوجية. فهو يعيش في إطار بحث دائم عن فنّ العيش والحق في الحياة، في سياقات لا تتيح له هوامش حرية كافية لتكثيف إنتاجاته، إلا عبر الشك والتفكير العقلاني المستمر.

لقد اعتبر باروخ سبينوزا أن الحرية المزعومة للفرد تخفي اضطراره، فشبّه الإنسان بكرة تتدحرج من جبل وتظنّ نفسها حرة، رغم أن مسارها محدَّد مسبقًا. فالإحساس بالعطش والبحث عن الماء تحكمه الضرورة، والطفل يولد مضطرًا للارتماء على ثدي أمه. بل إن "الأنا الأعلى" الاجتماعي كثيرًا ما يمنع الفرد من التصريح بحقائق تخص حياته، إلا إذا كسرت الخمرة قيوده النفسية أو خضع لتنويم مغناطيسي. ومن هنا، خلص سبينوزا إلى أن منابع الصمود تتجلى في قوة الارتباط بين الفكرة والرغبة.

ونجد صدىً مشابهًا عند سيغموند فرويد، صاحب القولة الشهيرة: "إن لم تختر ما الذي تريده من الحياة، فإن شخصًا آخر سيختار لك ذلك". فوظيفة الأنا، في رأيه، محصورة في تلبية مطالب "الهو" ضمن حدود ونواهي وإكراهات "الأنا الأعلى"، وهو ما يجعل فكرة الحرية الفردية محلّ إشكال.

إن استحضار مفارقات هذين الفيلسوفين يبرز بما لا يدع مجالًا للشك أهمية بروز مفهوم الدولة كفاعل محوري في صياغة الحقائق النسبية وتجويد أسس العيش المشترك. فالدولة العاقلة والمفكّرة مسؤولة عن الاستقراء المعرفي المستمر لأحداث التاريخ، وعن استخلاص الدروس المنطقية من الماضي لتهيئة بيئة تدفع الأفراد والجماعات إلى التفكير الخلّاق والإبداعي من أجل توسيع مجالات الحرية والإنتاج. فكما أن منع تساقط الأحجار من القمم مسؤولية تقنية وأمنية للدولة، كذلك حماية الفرد من تدحرجات الإكراهات مسؤولية سياسية وفكرية ومؤسساتية بامتياز.

ويزكّي هذا الطرح جان بول سارتر بقوله: "على المرء أن يظهر قوته حتى لا يكون مضطرًا لاستعمالها". فالإنسان، عنده، يتمتع بحرية مطلقة، منفتح على إمكانيات متعدّدة، وهو مسؤول عن تحديد مصيره واختياراته. لكن، أمام هذه الحرية الوجودية، يظل تجاهل الدولة لمعيار الجودة في إنتاج نخبها علامة على جهلها بمقوّمات وجودها واستمرارها. لقد صار إنتاج مصادر القرار والآمرين بالصرف للميزانيات في مختلف مستويات الدولة هاجسًا مقلقًا، نظرًا لما يتطلّبه من قواعد صارمة تضمن نسقًا معياريًا لإنتاج الجودة في السياسات العمومية، بما ينعكس على سعادة المجتمع وتوسيع هامش الحرية والمساواة. أما حين يتجاهل صانعو القرار حقيقة أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، فإن النتيجة تكون انسدادًا في الحريات واكتظاظا في السجون، وهو ما يعكس فشل الدولة برمّتها.

وعليه، يمكن القول في خلاصة هذا المقال إن الإنسان يعيش فعلًا تحت وطأة إكراهات وضرورات تتفاقم حدتها بازدياد اختلالات الدولة وفشلها في انتقاء الفاعلين المؤهلين لتدبير الشأن العام. وفي هذا السياق، أبدع الفيلسوف إيمانويل مونييه مفهوم "الحرية المشروطة"، مؤكدًا أن إمكانيات تفوّق الشخص بعقله وحدسه هائلة، وأن حريتنا هي حرية إنسان "في موقف". فالحياة، عنده، تراكم أحداث تستدعي التفكير وإبداع المواقف الإيجابية. لكن الخطر الأكبر يكمن في تعطيل التفكير أو انقطاعه، كما حذّر ديكارت. أما جون لوك فقد رأى أن الإنسان يولد صفحة بيضاء بدماغ مبرمج جزئيًا، فتتحمل المؤسسات، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة وعلاقتهما بالدولة، مسؤولية تنشئته على التفكير العقلاني، بما يؤسس للحرية والمردودية والحقوق والواجبات.

لقد أقر مونييه بأزمة الإنسان المعاصر وتفاقم الانزلاقات التي تهدد مصيره، ودعا مبكرًا إلى ثورة "شخصية ومجتمعية" تتجاوز الشموليات، مؤكدًا أن حرية الفرد مشروطة بوعيه لذاته وعلاقته بالآخرين، وأنها تقتضي الانفتاح على الغير وتحمّل مصائرهم.

إننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى "عصر أنوار جديد"، تتكامل فيه حرية الفرد مع مسؤولية الدولة، ويُستعاد فيه المعنى الأصيل للإنسان: كائن عاقل، مبدع، ومصير مشترك.

***

الحسين بوخرطة

في المثقف اليوم