تجديد وتنوير

زهير ياسين شليبه: رفاعة الطهطاوي نموذج للفكر الديني التنويري

موقف رفاعه الطهطاوي من المرأة 1801-1873

"الصداقة هي التي ينتج عنها بين الرجل وأهله كمال الاتحاد والائتلاف في جميع الحركات والسكنات، والأحوال والأطوار، مع ما ينشأ من ذلك من تقوية الجذب والمسامرة والمحادثة، والتبسم وإظهار التلطف والتعطف، من كل ما يؤثر في النفس تأكيد المحبة، فتستحيل إلى عشق الشمائل المعنوية التي تبقى في المرأة دائما ..." الشيخ رفاعه الطهطاوي.

يُعد الشيخ رفاعه الطهطاوي احد ابرز التنويريين العرب وإمام النهضة العلمية في مصر جنبا إلى جنب مع الأئمة الآخرين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي من الذين حاولوا تقبل الفكر الغربي ومكتسباته بدون التخلي عن القيم العربية والإسلامية.

يتفق اغلب الباحثين على أن حركة “اليقظة” أو التنويرية العربية الحديثة بدات بعد الحملة الفرنسية بقيادة نابلوين على مصر 1798 حيث أيقظت العرب من سباتهم بعد فترة طويلة من الانحطاط استمرت منذ سقوط بغداد على يد هولاكو.

إلا أن حركة اليقظة هذه وُلدت عرجاء بسبب الاصطدام الحربي بين الغرب والعرب ولم تكن وليدة تجاذبات وتأثيرات في ظل ظروف طبيعية وبدون مخاوف العرب والمسلمين من مكتسبات الغرب فلم تكن جماهيرية بل نخبوية محدودة على المفكرين.

وكان من الصعب الحديث عن اي مظهر من مظاهر التنويرية العربية بدون الإسلام، بل إن كل شيء كان يجب أن يتم ضمن إطار القيم الإسلامية.

ولهذا فإن هذه الحركة على العكس من التنويرية الأوروبية الغربية لم تفصل الدين عن مشاريعها في تاسيس الدولة العربية الحديثة  فنجم اختلاف أدى إلى ظهور تيارات متعددة ومختلفة بل متناقضة في بعض الأحيان مثل التيار الإسلامي الأصولي والتيار القومي الإسلامي والتيار القومي العلماني والتيار العثماني الذي نادى بالدولة العثمانية.

لكن هذه الحركة لم تكن حكرا على المسلمين بل بالعكس قدّم التنويريون النصارى العرب مساهمات كبيرة للغاية فيها فألفوا القواميس والكتب الموسوعية ويكفي ان نذكر البستاني على سبيل المثال وأن اللغة العربية حلت محل السريانية في ممارسة الطقوس الكنسية على يد المطران جرمانوس فرحات.

ونريد هنا في هذا المقال أن نلقي الضوء على شخصية رفاعة الطهطاوي وموقفه من المرأة وعلاقتها بالرجل باعتباره نموذجا يمكن أن يُحتذى به بالنسبة للمسلمين والعرب بشكل عام والمغتربين المسلمين في الدول الأوروبية بخاصة.

مما يجدر ذكره أن عدم تعلم لغة البلدان المضيفة وعدم الاطلاع على ثقافات شعوبها ومؤسساتها الديمقراطية والدستورية وعدم احترام المرأة  من قبل بعض الأئمة والمسلمين هي من أهم الحجج التي استغلتها الحملات الإعلامية ضد الجاليات المسلمة في الدول الإسكندنافية وبالذات في الدنمرك.

عيّنَ حاكمُ مصر وباني نهضتها الحديثة محمد علي باشا الشيخ رفاعة الطهطاوي إماماً للبعثة العلمية المتوجهة إلى فرنسا التي تكونت من طلاب علم سافروا لغرض الدراسة. لم يتعدّ واجب هذا الإمام مسائل الوعظ والإرشاد الديني لطلبة البعثة، إلاّ أنه بدأ بتعلم اللغة الفرنسية منذ اللحظة الأولى التي تحركت فيها الباخرة متوجهة إلى فرنسا وقرأ فولتير ومنتسكيو وراسين كما يبدو واضحا من مؤلفاته عن النهضة الفرنسية.

ولم يكتف بذلك بل ترجم وعرّبَ كتبا عديدة في الفكر والأدب والعلم من الفرنسية إلى العربية مثل نشيد فرنسا "المارسيليز" والدستورالفرنسي والقانون المدني الفرنسي وروح الشرائع لمونتيسكيو ورواية مغامرات تليماك لكاتبها المعروف فيلنون راغبا في أن تتطور أذهان الشباب ولأهميتها حسب رايه في تطور القصة في الأدب العربي.

رغم اختياره رواية تعليمية إلا أن هذا موقف مهم بحد ذاته إذ إن الأنواع السردية وبالذات الرواية والمسرحية لم تلقَ قبولا من قبل رجال الدين في تلك الفترة كونها تثير حسب اعتقادهم الشهوات واللذات وهي ظاهرة اتسمت بها أغلب آداب العالم في بدايات تكوينها.

مساواة المرأة بالرجل

يقول الطهطاوي عن هذا الأمر الذي حيّر المسلمين حتى وقتنا الحاضر رغم اليقظات والنهضات والصحوات:

المرأة مثل الرجل سواء بسواء، اعضاؤها كاعضائه، وحاجتها كحاجته...وكلما كثر احترام النساء عند قوم كثر أدبهم وظرافتهم، فعدم توفية النساء حقوقهنّ فيما ينبغي لهن الحرية فيه دليل على الطبيعة البربرية!”

أنظر: المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين الباب 2 الفصل 1

يجب أن نتذكر أن الطهطاوي كتب هذه الآراء في القرن التاسع عشر حيث لم تكن المرأة تعامل باحترام في أوساط عامة الناس ليس في الدول العربية فحسب بل في اكثر بلدان العالم  كما هو معروف.

كانت تسود المجتمع العربي رواسب ممارسات وعلاقات اقطاعية متخلفة والفقر والمرض والجهل وتفشي الأمية والتفسير الخاطىء للقرآن الذي ليس له علاقة حقيقية بنصوصه بحيث كانت المرأة تُعامل باعتبارها شيئاً يمتلكه الرجل.

بل إن رفاعة الطهطاوي لا يكتفي بطلب احترام المرأة إنما يطالب بتعليمها ولهذا الف كتابه الشهير "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" عام 1872 وكان يعد في ذلك الوقت ثورة كونه إماما دينيا يدعو لضمان حقوق المرأة ضمن إطار الإسلام.

يقول الطهطاوي في أهمية تعليم المرأة:

“إن تعليمهن في نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول المرأة على ملكة القراءة والكتابة، وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة، والاطلاع على المعارف المفيدة، هو اجمل صفات الكمال، وهو اشوق للرجال المتربين من الجمال، فالأدب للمرأة يغني عن الجمال، لكن الجمال لا يغني عن الأدب لأنه عرض زائل.

وأيضا آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيرا في أخلاق أولادها، إذ البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب وضبط أمور البيت والاشتغال بتربية أولادها، جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة على مجرد الزينة والتبرج و إضاعة الوقت بهذر الكلام والزيارات غير اللازمة ...” المرشد الأمين.

ويبرر ذلك بحجة أن العلم مجال مفتوح لكلا الجنسين وأنه ليس كالإرث في الشريعة الإسلامية التي يأخذ الذكر بموجبها ضعف ما تحصل عليه الأنثى.

ويستند في هذا على حديث نبوي شريف “كدليل على أن تعلّم النساء جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال لا بأس به لأن ذلك "في أصل الطبائع والغرائز ... فليتمسك كل من الفريقين: الذكور والإناث بالأحاديث الواردة في فضل التعلم والتعليم ...”.

المرأة والعمل:

والأمر الأكثر أهمية أنه طالبَ بعمل المرأة مثلها مثل الرجل فكتبَ:

“ يمكن للمرأة في اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل ألسنة النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون...” المرشد الأمين، الباب الثالث، الفصل الثالث.

علاقة الزوج بالزوجة:

يكتب الطهطاوي عن هذا الأمر بلغة جميلة وصريحة داعيا إلى الحب بين الزوج والزوجة والتعامل بالاحترام. وبرأيي أننا بأمس الحاجة إلى تدريس هذه النصوص في مدارسنا لتنشأة الأجيال الجديدة على هذه الأخلاق.

يقول الشيخ الطهطاوي “إن معرفة إرضاء أحد الزوجين للآخر فن نفيس، وإن كان صعبا في حد ذاته لأنه يستدعي كمال التربية والإنصاف بالعدل .... ومعرفة الاعتناء بالوسائل التي تستدعيها “الصداقة” بين الزوجين لاشتراكهما في المنفعة العمومية” المرشد الأمين، الباب السادس، الفصل الرابع.

لاحظ، إنه يؤكد على الصداقة وهي مفهوم آخر غير الولاء والطاعة والحب كونها (الصداقة) تتتميز بالاشتراك والنقاش والاختلاف بالرأي والتشاور والخ من ميزات التكافؤ والندية إلى حد ما.

يرى الطهطاوي أن “الصداقة هي التي ينتج عنها بين الرجل وأهله كمال الاتحاد والائتلاف في جميع الحركات والسكنات، والأحوال والأطوار، مع ما ينشأ من ذلك من تقوية الجذب والمسامرة والمحادثة، والتبسم وإظهار التلطف والتعطف، من كل ما يؤثر في النفس تأكيد المحبة، فتستحيل إلى عشق الشمائل المعنوية التي تبقى في المرأة دائم”. نفس المصدر، الباب الخامس، الفصل الثامن.

فعليهما أن يجتهدا في تحببهما لبعضهما حبا تاما. وأن لايذم أحدهما الآخر في غيبته. وأن لا يغضبا في وقت واحد. وأن لا يكلم أحدهما الآخر بصوت عال. ... وأن لا يفارق أحدهما الآخر ولو يوما واحدا من دون ان يودعه بكلمة محبة ... وأن لا يدعيا الشمس تغرب على غضب أو زلّة وأن لا يدعا زلة ارتكباها تمضي من دون إقرار بها وطلب السماح عنها. وأن لا يتأوها على ما فات، بل يرضيان بما يوجد. وأن يجعلا الصدق دأبهما في  في معاملة أحدهما الآخر”.  نفس المصدر.

ومن الطريف أن رفاعة الطهطاوي لا يكتفي بكل هذا بل يقرر أن يكتب تعهدا خاصا بزوجته بعدم زواجه من اي إمرأة أخرى ويعطيها حق العصمة ويعتبرها طالقا في حال حدوث ذلك.

يقول الطهطاوي في تعهده لزوجته: “ يلتزم كاتب هذه الأحرف، رفاعة بدوي رافع لبنت خاله ... الحاجة كريمة أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى ولا جارية أيا كانت، ... وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء، أو تمتع بجارية أخرى، فإن تزوج بزوجة أيّاً ما كانت ... كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين ... ولكنه وعدها وعدا صحيحا، ألا ينتقض ولا يخل، أنها مادامت معه على المحبة المعهودة، مقيمة على الأدامة، ... لا يتزوج بغيرها أصلا، ولا يتمتع بجوار اصلا، ... حتى يقضي الله لأحدهما بقضاء”.

وكأننا في حقيقة الأمر نجد هذا التنويري يربأ بنفسه عن حقه في تعدد الزوجات وكل أشكال الزواج الأخرى رافضا إياه أمام الملأ في وثيقة مكتوبة لرغبته في ان يكون عادلا منصفا لزوجته.

هذا هو الخطاب الديني التنويري الأول، الذي يختلف تماما عن كتابات الأجيال اللاحقة من رجال الدين السياسيين في الخمسينات حيث ظهر سيد قطب وفيما بعد حسن البنا زعيما الأخوان المسلمين في مصر، وآخرون غيرهم ممن كانوا أكثر تشددا ومارسوا العنف في التسعينات في الجزائر وجماعة طالبان والقاعدة التكفيرية المتطرفة، التي ذبحت الناس لمجرد الاختلاف بالرأي معهم ومنعت الأفغانيات من المدارس وهدمت الاثار، وما يجري الآن من تكفير العراقيين ووذبحهم وقتلهم لمختلف الذرائع والحجج.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم