مرايا فكرية

مرايا فكرية

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة عشرة مع الدكتور سامي محمد عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (5)

س35: أ. مراد غريبي: يُقال الفلسفة غالباً ما تكشف الكذب والكبت والنكوص، ترى لهذا السبب يخشى كهنة المعبد من الفلسفة، وماذا عن فلسفة الكذب بإسم الدين وهل الحيل اكتسبت المشروعية والشرعية من هذه الطبخة الكهنوتية؟

ج35: د.سامي عبد العال: علاقة الفلسفة بالكذب علاقة " عتيدة وطريفة " في الآن نفسه مع دوران التاريخ والأفكار على مدار العصور. وليكُّن فهم هذه العلاقة بمثابة الوتر المشدود تجاه جوانب السؤال المتباينة. لأنّ الفَهم تأويلٌ لا يخطئ معنى ما قد يكون مقصوداً. كل كذب يعود على شتى فاعليه بمغامرة الظهور والإنكشاف. وليس كل انكشاف مرفوضاً مثلما أنَّ كل حق قد لا يكون مقبولاً.  إن "الكذب ليست له أُرجل " كما يقال ذات عبارة شائعة. ومع ذلك يحتاج إلى فيلسوفٍ قصّاص للأثر. مهمة ضاربة في اعماق السياقات والموروثات، الأثر بصمات رمزية عبر أي فضاءٍ يحتمل فضول الإنسان. ونظراً لكون الفلسفة لا تعادي أحداً، فيجب أنْ يكون الشرح من جنس الفكرة المُحايدة. أي سأحاول طرح فكرة الكذب وتحليل إمكانياته كما هو.

الكذب مادة إنسانية ( هيولى بلغة أرسطو) تدخل في نسيج الأفكار ولحمة الحياة المشتركة. إنه احدى مفارقات الإنسان من حيث هو كائن يقول الحقائق ويطلق الأكاذيب معاً. إشكالية متموضعة بما هي كذلك دون حل. لقد أخذ الكذب حركته من وجود الإنسان لا العكس. جميع ما ينتمي إلينا لا يخلو من سمات كاذبة صغُرت أم كبرت. استعمال الأشياء، الأفكار، التصورات، الاستعارات، اللغة، الأفعال البشرية، الاحلام.. جميعها مسائل راشحةٌ بمعانٍ ليست لها.

الفلسفة- وربما الفلسفة وحدها - تمتلك" ترسانةً فكريةً " لكشف الكذب. جميع ما مرّ من تاريخها كان مُفسراً لماهية الكذب قولاً أو نسقاً. بعبارةٍ يجب أنْ تكون واضحةً: أن الفلسفة كفكرٍ يُشرّع للعقول والمجتمعات الحرة هي محاولة دؤوبة لقول الحقيقة. ولكن الهاجس الدائم هو: أية حقيقة هي المقصودة عندئذ؟ ما الظروف والشروط المؤسسة لها؟ وبخاصة أنَّ الحقيقة تُكتّشف بجهدٍ جهيد. وكذلك قد تكون الحقيقة مُلقاة لدرجة الاهمال بين أشياءٍ كثيرةٍ. الأهم هو كيفية صياغتها أو تقديم أشكالها الأكثر تأثيراً. فلا توجد حقيقة في العراء. وأيضاً لا تدع الثقافة مساحة الظهور أمامها بصورة تلقائية. لعلَّ أية حقيقة حين تبدو واضحة إنما هي مرحلة مؤقتة لن تستطيع التواجد باستمرار. وتخضع لشتى صنوف التغطية والحجب. طبيعة الحقيقة: أنْ تُوجد حيث لا توجد، أن تتجلى حيث تختفي، لكنها- مع ذلك- ما فتئت تطل برأسها حين تشعر بالأخطار.

كان لا بد لكل تفلسف أنْ يدرك ضمنياً: ما معنى الكذب falsehood؟ ما فحوى أنْ يكذب الإنسان؟ وحتى عندما تبحث الفلسفة في الأكاذيب، فهي تتساءل: ما حقيقة الكذب؟ أيتحول الكذب إلى حقيقة أم لا. الحقيقة مبنيةٌ في سرها على التحرش بمقولات الكذب. لأنّ من أسباب الحقائق: أنْ تقول ما حدثَ أو ما يحدثُ أو ما لم يحدث على وجه التحديد. تبقى كل حقيقة مدفوعةً بقول ذاتها اتساقاً مع أصلٍ ما. التفلسف ينقبُ عنها ذات اليمين وذات اليسار باحثاً عن القيود المحيطة بها، ولماذا لا تظهر (أو تتمنع) خلال سياق أو آخر؟!

وفي غير حالةٍ، ربما لا تُعنى الفلسفة بما هو خفيّ إلاّ عندما يكون الكذب طقساً عاماً، حين يصبح نفقاً من جنس الأفكار السائدة، أي إذا كان الكذب أحدَ شعائر الحياة العامة. خلال متون الكذب وحواشيه، تنبت الفلسفة كالأعشاب البرية، مثل نباتات ليلية تتفتح تحت جُنح الظلام. وقد تخرج كنباتات نهارية في وضح الألق والأضواء (لنتذكر الفيلسوف ديوجين اللائرثي الباحث عن الحقيقة في نهارات أثينا اليونانية). الفلسفة تعقد العزم على نقد المُضاد للتفكير الواضح. التفكير الواضح هو ما يقال بجلاء أمام عقول الآخرين. وتستطيع أن تتعايش مع جميع الأجواء، لأن الفلسفة ما وجدت إلاّ لتعلن صوت العقل. والعقل لا يموت، لأنه ضد الفناء، حتى لو خفت تريده في يوم من الأيام.

من جانبٍ آخر، لا تدع الحقيقة نفسها ملكاً لأحدٍ، رغم أنَّ الفلسفة لا تفترض ذلك ولا تطمح إليه. ولكن قد تزعم بعض الفلسفات أو الايديولوجيات امتلاك الحقيقة مباشرة ولا شيء غير الحقيقة. وهي بهذا الزعم تقدِّم دعوةً مفتوحةً لاختبار صدق أفكارها. كأنَّ الفيلسوف يقف أمام قوة العقل كوقوفه أمام قاضٍ لمُحاكمة تاريخيةٍ. ويمتثل لما يُملّىَ عليه من قضايا وموضوعات. أما هيئة المحكمة فهم اشخاص اعتباريون، هم العقول الفلسفية الكبرى ضمن إنسانيتنا الحرة. يتبلور طريق الفيلسوف أثناء البحث عن الحقيقة متبادلاً طرحَ الأسئلة والأجوبة مع العقول الأخرى. لكن عليه في الوقت نفسه أنْ يدحض شيئاً ويرفضه كما يقول أرسطو. شيء يتلقى كافة الحجج والتحليل والتفنيد. وتصبح للتفلسف صفةُ إقامة الحُكم، اتخاذ القرارات وحيثيات البت في المسائل الشائكة... مع ضرورة تقديم القرائن والبراهين إزاء الادعاءات والمزاعم.

أثناء الحوار الفكري يحمل كلام الفيلسوف دلالة "حلف اليمين" وسط شهادة الآخرين، وذلك وفقاً لنظام يضبط آلية المحاكمة فلسفياً على الملأ. إذ ذاك تنحل تجربة الحلف باليمين داخل تفاصيل رؤيته الفلسفية، سيكون مأخوذاً بمهابة (كلية) الموقف وصرامة الردود وصياغة الحجج، منتقلاً بكل حذرٍ من خطوة إلى أخرى، مخافةَ الانحراف ومحاولاً الامساك باللغة قدر المستطاع. فليس هناك شيء مما يطرحه إلاَّ ضمن نسقه العقلي. إنَّه- من ثم- سيناقش موضوعات الفكر بخطاب ضامن ليقينه. اليقين بقدرة الخطاب على الاتساق تبعاً لمعايير التفكير. فليست التقاليد الفلسفية إلاَّ دروباً للأفكار وتدقيقاً للمعاني.

إذن بنفس درجة الحقيقة، الفلسفة معنيّةً بما ليس حقيقياً. لأنَّ الأمر ليس اختياراً بين هذا وذاك (بين الحقيقي والزائف). الحالتان ليستا واضحتين تمام الوضوح. هناك تفكير في شيءٍ ما من حيث حضور النقيض خلال وجوده الخاص. لا شيء منفصل هناك تمام الانفصال دون نقيض. على الأقل من زاوية افتراض معرفة الأشياء بأضدادها كما يُقال. ليس بإمكان الإنسان التعرف إلى الحياة دون الموت، ولا إدراك الواقع دون المثال ولا تأكيد الثابت بخلاف المتحرك ولا الكلام عن الوعي دون الغريزة.

ليس الكذب طرفاً في ثنائية يحضر أحدهما حين يغيب الآـخر، لكنه عمل وآلية وخطاب وممارسات، وأكثر من هذا: إنّه نظام للتفكير يمس رؤى العالم والحياة والتاريخ. وقد يأخذ منحى الحقيقة ذاتها. فيعبر مثلاً عن وجه الحقيقة في ثوب خادع حينما يمثل اساءة طرحها، وحينما يقصد بها التغطية على أشياءٍ أخرى. وبالرغم من كونها حقيقةً صادقةً إن كانت كذلك إلاّ أنها تُطرح وفقاً لمعطيات اللغة خلال المجال العام. أي وجود الحقائق ضمن وسيط تقني يسمح عن قصد بإفراط المعاني أو العكس. فلم تعد الحقيقة حقيقةً إنما هي صورتها، بلاغتها عندئذ. باختصار ليست هي الـ"هي".

إنْ لم تكن هذه بمثابة فكرة الكذب، فما طبيعته ومشروعيته وحدوده؟  أسئلة ذات طابع جذري تتيح ايجاد (مساحة عمل) للفلسفة. مساحة تفلسف تدعونا لممارسة دوره باستمرار. إنَّه يضعنا في قلب توتراته مشدودين بخيوط من حرير مع تصوراتنا. فالفلسفة تجدد مهمتها كلما كانت ثمة ماهية تقتضي التحديد ولا نعرف كيف. أهي تُقلِّب الإمكانيات، أهي تضرب في الجذور، أهي تلتقط المشترك والمستقر تحت الأسطح؟ إنّها كل ذلك.. ولا سيما مع اعتبار الكذب فعلاً إنسانياً له أبعاد كثيرة. كما أنَّه يقدم وجهاً، بل وجوها للحقيقة. فليس الكذب هو معدوم الحقيقة... إنه يوازيها. بل لعلّه فعل يغرقها في أساليبه. ولهذا يختلف عمل الفلسفة عن طبيعة الاعمال الأخرى. لأنّ عملها حفرٌ ومساءلة وتنقيب في اللا مفكر فيه واستقصاء وقياسُ أبعادٍ ومسح وترميم أفكار وفلاحة مفاهيم، كما أنّ التفلسف يُؤصل دون أصالةٍ غير قابلة للتغير. وقد لا تكون تلك الأشياء ذات دلالة كليةً للتفكير إلاَّ من جهة كونها رغبات. ومن زاوية تكشُفها في لحظات إغواء قصوى كما يغوينا الكذب تجاه دروب نوعيةٍ في الحياة.

وقد يقول بعض الفلاسفة كلاماً عن جوهر الحقيقة وسلطتها. غير أنَّ القول يعد قولاً في الكذب أيضاً. لأنَّه ينفي ويثبتُ بالوقت ذاته. يثبت حقيقةً لها مجالها وآفاقها وينفى (يُكذِّب) شيئاً ما ضمن العمل نفسه. هو ينفي ضمنياً اللاحقيقة تبعاً لما يراه من أشياءٍ وآفاق. ويجري الشجب أو الشطب على النقيض الكائن في قلب الأشياء هذا من زاوية. أمّا من الزاوية الأخرى، فالفلسفة تصورات ومفاهيم (تزيّف الدوافع) الحيوية للإنسان. لأنها تستبقي في دلالتها بقايا الغرائز والحريات الأصيلة للكائن الطبيعي. إن بعض الأفكار الفلسفية بمثابة فنون الكذب على النفس بإغراق الذات في لعبة التجريد. نوع من التمهُل حتي ينصرف الكائن عن ذاته نحو بدائل غيرها. الفلسفة قد تمثلُ بلغة نيتشه " كهانة مصطنعة ". وتمتص طاقة الفعل في صورتها الخالية من أي فعل.

لكن إجمالاً، تعدُّ الفلسفةُ في أحد جوانبها كشفاً لآلياتِ الكذب. لأنَّها استعمال نسقي للقدرة على التفكير ونقد الممارسات. أي استعمال سيُظهِر القريب هنا ما خَفِي هنالك على البعد، وسيفسر ضمنياً ما يتفلت من التحديد، وسينتقد التجزيء المقصود تحت غطاء كلي. فالمنطق الذي تفترضه كلُّ فلسفة لا يخضع للتوظيف النسبي إنما يتم بشكل عامٍ. وهذا الأمر بالغ الصعوبة، فلو حدثت أية (مراوغة منطقية)، فقد يتقوض البناء الفكري وتتعرض قواعدُه لخطر الانهيار. وتُسمى هذه الحالة بالجذر اللاتيني مغالطة قائمة على خلط الأشياءfallacia، وتعني استدلالاً بالجزئي على الكلي، وتناول سمة عارضة على أنها جوهرية. لذلك يَنتُج التفلسف عن عملٍ فني متناسق ensemble، ويُنتِج أيضاً دلالةَ الأشياء (ينتج عن وينتج الــــ...) بشكل مُزدوجٍ. أي مجموعة الأفكار التي تُستّوعب ككلٍ مترابطٍ. إنَّه العمل المعماري باختلاف تلويناته. وهو كذلك الأداء المتقارب لتأليف المفاهيم كما تتألف الأنغام الموسيقية وفقاً لقواعد وضوابط خاصةٍ.

وعند وجود ثغرات نسقية، سرعان ما تبرُز كفجواتٍ، ولكنها ستُغطى بغطاء تلفيقي إلى حين. وهذا ما نراه في الخطابات النفعية والبرجماتية طبقاً لاعتبارات المصالح. وبالتالي فإنَّ ما سيبدو لا مرئياً ومُسلّماً به سينالُ قدراً من المراجعة. فالأسئلة لن تكفُ عن ملاحقته هنا أو هناك. والفلسفة بهذا العمل فحص صارم لمنطق التبرير عبر أشكال التواصل، سواء أكانت لغةً أم معرفةً أم علاقةً. ولئن جاء الكذبُ جزئياً ولا يعي متبنُوه انفلاتَّه في جانبٍ أو آخر، ولئن كانوا لا يقدرون أثرَّه عبر مواقف أو نقيضها، فإنَّ تفكيراً نقدياً بإمكانه تقريب المسافة.

هكذا قد يمتلك الفيلسوف جهازاً فكرياً لتعرية عمليات التزييف. إنه عازف اوركسترا من الأفكار والتحليلات التي توضح التباين بقدر ما تبرز تماثلاً بين الأشياء. لذلك سيطرح الأسئلة برؤيته الأكثر انفتاحاً لا مذهبه الجامد... لماذا يتحدث الآخر بمنطق تبريري متهافت؟ لماذا يتسلق الخطاب التداولي على قواعد واهيٍة؟! ما أساس الكذب في استعمال اللغة؟ أهو التاريخ من زاوية كونه استعارات؟ أهي الحقيقة العصية على المعرفة من أولِّ وهلةٍ؟! لكن الفيلسوف سيراجع نفسه قائلاً: اللغة هي مصدر الشرور. لأنَّها تفرز فيروسات الاستعارة والمجاز والتشبيهات. إذن -نتيجة هذا- فإن كل عبارات التواصل بها شيء من الزيف. وتلك الإجابة أيضاً غير مقنعة. لأنَّ الفيلسوف لو عرف خطوتها القريبة لوصف كلامَه نفسه بالوصف السابق. وعندئذ لن يخرج من الدائرة إلا مصاباً بسهام النقد!!

لماذا لا نطرح المسألةَ بالمقلوب؟ أي: لِمَ يُعتبر القول- حين يُطرح- صادقاً؟ أهو قول ارتبط بالواقع أم امتلك مبرراته القوية تعبيراً عن ذاته؟ ربما يكون الرد: أنَّ حجج الكلام تخضع للمناقشة وتحتمل بحثاً عن اليقين... أو هي مبررات تخرج بأقل قدر ممكن من التشوهات عقب المناقشة. هنا أيضاً سيكون الشك بالمرصاد لهذه الإحتمالات. لأنَّ اللغة التي تحدثنا عن فيروساتها لا تُعطي الخطاب يقيناً فورياً. وإنْ ظننا أنَّ الخطاب قد نال هذا اليقين، فسيظل معلقاً بأُطر المجاز وتداعياته. وما لم نأخذ الكلامَ بهذا المضمون، لبطُل عمل اللغة أصلاً. فكلُّ خطابٍ به هذه الفجوة البلاغية في أعماق معانيه وفاعلية أفكاره.

تطرح اللغة وجُوهاً أخرى للتعبير عن مضامين الخطاب. وليس سهلاً معرفة جوانبه إذا كان التركيز منصباً على المعنى المباشر. إذن أتوجد القضية(قضية الكذب) في دائرة الطرح أم في دائرة الفهم؟ بكلمات أخرى، أليس الطرح تخارجاً عبر فعل هو الاستعمال الوظيفي للخطاب؟! وهذا الأخير يكشف المعنى ويميزه. هكذا يخرج بنا السؤال إلى أخلاقيات الخطاب، حيث الأغراض والمآرب والأهواء والغرائز. ويبدو الطرح والفهم على درجة من التوازي، لأنَّ التوظيف لون من سياسات الخطاب واقتصاد اللغة.

من ثمَّ، هل الكذب فلسفياً مشكلة أخلاقية؟ لكن لو كان كذلك، ماذا عنه، أي عن الكذب، في المجال العام وبآليات فكرية ليست ذات طابع أخلاقي فردي؟! وماذا عنه في مجالات تفترض أول ما تفترض لا أقول الصدق إنما الثقة المباشرة مثل: الدين والسياسة والاعلام والاجتماعيات؟ هنا ربما يشار إلى أنها قضايا بعيدة نوعياً عن الفلسفة. بل لا يوجد ما يُسمى في الفلسفة بالثقة الممنوحة مجاناً للمقولات والأفكار. لأنها تفترض التسليم بالكلام دون تأمل، بينما الفلسفة هي ميدان التأمل الفاحص بالأصالة. كما أنَّ الثقة تُزجي المعنى بطريقة فورية كأنه آتٍ من عقولنا إلى عقولنا. كلمة ( الثقة) على تلقائيتها تعتبر غامضة فلسفياً. الثقة في تاريخ الفلسفة تدخل نطاق الايمان واليقين. وهاتان الكلمتان مثلتا إشكاليتين في الدين والمعرفة والحياة.

وإذا ردّدنا كلاماً واقعاً بناء على الثقة، فهذا معناه غياب الفهم. معناه جريان الكلام من وراء التفكير، ومن خلف المعايير العقلانية ابتداء. فالثقة حجب غير مباشر لشكوك العقل وأسئلته. ولكن ما معنى حجب الشكوك؟  الحجب ينجم عن مزيج من العوامل المتشابكة. إن هناك تصديقاً بما يُقال لا صدقاً، إن هناك اعتقاداً في معاني الكلام كما يُطرح، إن هناك تجربة تسليم بوجود الآخر، إن هناك تداخل حالات وليس فرزاً للأفكار، إن هناك تأثيراً ينتظر رد الفعل كما في تمتمات الجمهور وتصفيقه أثناء الخطابات الدينية والسياسية. واخيراً فإن هناك انجذاباً إلى وسيط (كوسائط الإعلام) والانهماك فيه دون مبارحة.

قد تستعمل الثقة بمعناها المنجز سلفاً. وهذا يعني كونّها فردية الطابع وتُمنح بلا مقابل كذلك. لكنها عندئذ تنضح بالبعد الوظيفي، وتُفهم ضمناً. فلو طرحت الثقة صراحة، لكان الفحص والتثبت من حقيقتها حاضراً. وهذا ما يجعل أية ثقة تعود منكمشةً عند التأكيد عليها. فهي فجأة توضع في حجمها الطبيعي، ليس هذا فحسب، إنما تسأل الشكوك عن إمكانيتها. وإذا جرت كسمة عامةٍ للحقائق الاجتماعية، فلأنَّ النظام الاجتماعي يعمل بآلياته العامة لا بأهواء أفراده فقط.

هل يجوز الزعم بأنَّ الكذب أزمة ثقة؟! ليس الموضوع هكذا بالضبط، لكن كل كذب يثير فكرة التلاعب بالثقة. الفارق كبير، انعدام الثقة يدعو عادة إلى التوجس. أما توافرها إلى درجة الاستسلام، فيعطي الخطاب إمكانية التأثير السلبي. وبخاصة كون الثقة تشتبك مع معاني ومضامين الخطاب. يبدو ذلك جلياً إذا كان الخطاب الموثوق به دينياً أو سياسياً. فالثقة في الخطاب الديني هي الالتقاء لدى ضمان قوة أعلى، معنى أسمى. حيث يتم الانتباه إلى سريان الضمان بموجب الكلام على التعبير، بغض النظر عن تحولاته. فيكون التلقي مبذولاً للاستجابة دون مراجعة. وفي السياسة يغدو فائض السلطة وخيالها مجالين أثيرين لتجسيد الثقة.

في تلك الحالة، ليست الثقةُ مثالاً إنما حالة وتجسيداً. أشياء يحملها الكلام الديني والسياسي ويطرحها كما لو كانت مواداً موضوعية. وقد تترسخ لدى ذهنية المتلقي مع العلامات المصاحبة للكلام والسمات الخطابية وقدرات الحضور. لهذا تلقف الاعلام تلك الخاصية اللغوية التصويرية في تشكيل الوعي. كان المقصود منها حشو خلفيته بآراء وتحيزات أيديولوجية.  تحديداً جرى الاستحواذ على المشاهد حتى من نفسه. فتجلت الثقة كفضاءٍ أثيري ينقل المعنى بموجب التصديق المطروح إضماراً.

أبرز ما في الثقة هو الاحساس بالاطمئنان الذي يشعر به المتحدث فيتجاوز حدود الحقيقة. عندئذ لن تكون الثقة خالصة إنما ستختلط بنوع من الاستجهال للمتلقي(أي اعتباره جاهلاً). ذلك مع الاطمئنان، لكونه غير قادر على كشفه(أي مغافلته/ استغفاله). ولا يتم ذلك بالقطع إلا تحت ألوان الانحياز، سواء من المتحدث أم من المتلقي لما يغطي مساحة الثقة، أو من كلاهما معاً لتنفيذ المعنى المُبرم سلفاً. ويستمر الكذب كأنّ (المتحدث والمتلقي) في مواجهة طرف ثالث مناوئ. وإزاء استمرار الحالة هكذا، يظل الطرف الثالث كياناً معنوياً ولا يخلو مقعد هذا المناوئ أبداً.

وبدوره ينجذب المتلقي إلى خطاب مغلف بالثقة، حتى يمثل مركز التصديق المباشر له، فالكلمة الألمانية glaube كما ترد عند هيجل والقريبة من الاعتقاد belief تشير إلى الوثوق بــشيء ما، والاطمئنان إليه. وقد تدل على قبول الشيء نظراً لاعتباره حقاً. حتى يمْثُل الشيء في النهاية موضوعاً للاعتقاد. أي أن الثقة أضيق دلالة من سواها، غير أنها ترفد الكلام برصيد مفترض لقبوله.

هنا ينشأ الكذب، حيث تعدى الكلام الكذوب إمكانية أنْ يوجد فقط. لم تكن ثمة مراوحة وتردد في القول بالكذب من عدمه. لقد وُجد فعلاً وغدا الوضع محلاً للمساومة على قبوله بجميع الحيل الممكنة. كيف لا، وهو ذاته حيلة لغوية تروم اسقاط مقتضى الحال على الواقع بالفعل. هذا أقرب وصف للوسيط الإعلامي من خلال بلاغة الصورة، فقد انتقلت الحقيقة بجذورها إلى مستوى القالب المبهر كما سنشير في حينه. ومثلت إغواء الاعتقاد والايمان بحسب رأي هيجل.

كانت الثقة دليلاً إلى ذهنية المتابع، حتى أصبحت لديه "قابلية الاعتقاد" belief ability إزاء ما يشاهد. وهي تسبق التلقي وتشترط النظر تجاه موضوعها بالكيفية المؤدية إلى الهدف منه. وليس هذا الهدف واضحاً للمتابع. إنَّه يسير وراء التغطية معتبراً الخطاب صيغ وفق قناعته. إلاَّ أن هذا الخطاب نوع من الهيمنة على وعيه. أي يصبح وعياً منفعلاً لا فاعلاً، مستهلكاً لا منتجاً، مسلِّماً بما يقال لا ناقداً.

السؤال الحيوي الآن: هل هناك مشروعية لهذا الفعل.. فعل الكذب؟ أليس السؤال مصطنعاً هاهنا؟ كيف تكون ثمة مشروعية لما لا مشروعية له؟ بالعموم حين تُطلق المشروعية فهي غير مكتفيةٍ بذاتها. دوماً تجري مسوغات الكذب وفقاً لمرجعية ما، سواء أكانت قانوناً أم ثقافةً أم مجتمعاً. لكننا سنقف مع الكذب إزاء اكتفاء المشروعية بنفسها. لأنه فعل قائم استناداً إلى مبرراته الخاصة التي قد تتغاير من موقف لغيره.

بهذا المعنى يعتبر الكذب فعلاً وظيفياً تطلعاً إلى مآرب معينة. إي يُطرَّح الكذب من مرحلةٍ لأخرى توطئةً لأهدافٍ تاليةٍ. ومن ثمّ، فالسر كله يكمن في وظيفة هذا الفعل. تلك التي ليست جوهراً بقدر ماهي شكل للاعتقاد السابق. فالكذب يقول: لم لا تصدق شيئاً ليس حقيقياً على أنه حقيقي؟! ويظل القول السابق يطرح بنفس شكل الحقيقة، لاعباً على منوالها وزخمها. فنحن إزاء إثبات فكرة التصديق لا الصدق نفسه. لا يوجد كذب يطرح نفسه مباشرة من أول وهلة. لا بد له من ترسيم خطوات الحقيقة التي تصنعه. وهو لا يبدو مناقضاً لها، لكنه يجادلها ليأخذ المكان الذي تقبع فيه، وإن لم يستطع فعلى الأقل ينتزع الاعتراف به طرفاً موازياً للمواجهة المرتقبة.

وكجانب من المعنى السابق، فهو نوع من التمحُك في الاقوال كونه تبريراً لموقف لا يُبرّر. إنّه موقف يتطلب الانكشاف، فإذا به غير ما يفترضه ذلك الوضع. ويأخذ في تورية حقيقته المفترضة، لأنَّه يصطنع حقيقةً خاصةً به. والتبرير فن مراوغة المتلقي لكيلا يعتقد عكس ما يُطرح عليه. بعبارة شوبنهاور المسألة هي:" فن أنْ تكون دوماً على صواب" أو الجدال المرائي إن صح التعبير. وهو مغلف بالمماحكات اللفظية والتلاعب بما ينال الثقة لدى المتلقين. نوع من التداخل بين الأغراض والمآرب واستعمال اللغة.

بكلماتٍ أخرى حين تسأل صاحب الكذب: لماذا كذبت؟ لم لجأت إلى الكذب وبخاصة أنَّه يتنافى والمرجعية الدينية كما في حالتنا؟ لن يجد تفسيراً سوى التأويل المتعسف لنصوص الدين أو الاصرار على الزعم بصدق الخطاب. عندئذ سنجد المشروعية لا تتجاوز الكذب ذاته. فهو عمل انتهازي لقطف رضى الآخرين أو لنيل غرض قريب. غرض هو الأقرب من إمكانية تحقق معاني الكلام. فالخطاب لا يستطيع العودة من حيث أتى. كيف سيعتذر عما بدر منه؟ فالمسألة أنَّه أحدث فعل الكذب بمبررات غير مشروعة وسط مجال عام أكثر شرعية. حيث يستمد الأخير شرعيته من المجتمع.. إذن ليكن الموضوع كذباً حتى النهاية.. هكذا قد يقال.

في محاورة " كراتيليوس"، رفض أفلاطون اعتبار الأسماء -وهي صيغ لغوية - ذات دلالة اصطلاحية. لأنه يرفض الرأي السوفسطائي القائل بإطلاق الاسماء بحسب اعتقاد الفرد. فإن كانت صحيحة من وجهة نظره، جاءت صادقة، وإذا كانت غير صحيحة من تلك الوجهة أيضاً، فهي كاذبة. لكن إذا حللنا موقف فلان لوجدناه حريصاً على عدم ترك فكرة المصداقية(المشروعية) لأهواء الأفراد. حتى وإن كانوا يتحدثوا عن شيء يخصهم. أليس الاسم يحمله الفرد وحده؟ غير أن المُسمى ينقل مشروعية الحقيقة والقبول والتلقي في الوقت نفسه. وبالتالي ليس من حق الشخص بذاته الانفراد بإطلاق الاسم ليؤدي إلى التلاعب بالمعنى. كان صراع أفلاطون مع السوفسطائية على أشده بسبب خوفه من ضياع شرعية المجتمع والدولة. ربما لم يقُل ذلك صراحةً على وجه الدقة. ولكنه كان يعلم أنَّ من يزيف الأسماء بإمكانه التلاعب بالمسميات، فهذه مرهونة بتلك. والمسميات في حال التلاعب بها لن تتجنب معتقدات المجتمع وسعية للاتفاق حول أشياء بعينها.

فمُسمى الشيء ينسب ضمنياً إلى واضع الاسم. لكن الأخير غير معروف، أي يعبر هذا الأمر عن غياب الواضع. ليس لأنَّه مجهول، بل قد يكون شخص بعينه هو من أطلق اسماً على شيء. غير أن المسمى ينسب إلى مصداقية الدلالة من حيث هي اتفاق عام. ليصبح لدينا واضعان وأكثر للاسم. هناك من يمثل الذي قال بالاسم اتفاقاً وحقيقة. وهناك من وضعه قبولاً بالحقيقة. لأنه أشار إلى صدقيته أمام الآخرين. وهناك نظام اللغة الذي يدمج الاسم في فلك المسميات على نطاق أعم. سوى أن هذا التدرج يعبر عن مشروعية تنتهي إلى تأكيد النظام الرمزي للمجتمع. أي قوانين وآليات التفكير الذي يسود في عصر من العصور. ومن ثم إذا أطلقت أسماء تنافي تلك المصداقية، يرى أفلاطون أنها كلمات كاذبة. ليست المسألة داخلة في دائرة الابستمولوجيا، لكنها عملية خاضعة لسياسة الأسماء.

إذن يعتبر أفلاطون مشروعية القضايا الكاذبة إنما تستند إلى رؤية الفرد. الفرد من جهة كونه معياراً خاصاً لما يزعم ولا ينزه عن الأغراض. وتبدو التفرقة واضحة من وجهة نظره بين ما لا ينتمي إلى الأفراد وبين ما يتصرفون به في ضوء معاييرهم. والأخيرة هي غير الحقيقة. فهذا الأمر الثنائي قائم على تفرقة أصلية بين مشروعية وغير المشروعية، بين الحق والزيف. لكن النقطة التي تحمل مثل هذه التفرقة هي المثال الذي يراه متجسداً فقط مع تطابق اللغة والأشياء.

مشروعة الكذب مشروعية حاملة لنفسها، لا تستند إلى شيءٍ. وإن استندت إليه فهي تعيد تأويله –أو مغافلته- من أجل تحقيق مصالحها. أي مشروعية تبرر نفسها بنفسها. وهي تأخذ الخطاب كوسيط. لاستعماله كما نستعمل المناديل الورقية، بكل ألوانه وأنسجته الرقيقة ومرونته وطبقاته الملتفة. وبإمكان الكذب صناعة مشروعيته طالما يستطيع فاعلوه خطف المنطق التوظيفي للغة. ومادامت المواقف تعاش كحالةٍ للهيمنة على عقول المتلقين.

إلى أي مجال تنتمي هذه المشروعية؟ إنها خليط من المجالات. ليست تلك هي القضية إنما الموضوع برمته يكمن في كيفية توظيف الخطاب ضمن أي مجال من المجالات. المسألة الكذوبة تموقع نفسها على مفترق طرق. جميعها طرق مؤدية إلى تغذية الحالة بالمبررات، بحيث إنْ عدمت مبرراً سرعان ما تستل مبرراً آخر. على الأقل من جهة صانع الخطاب إذْ يرى الفرصة مواتية لقصف وعي المتلقين ولتغييب المعنى وراء التعبيرات والاستحواذ على الموقف. من أجل توضيح الأمر أكثر فأكثر، يمكننا أن نحلل بعض المجالات المهمة على خلفية تلك القضية. ومن خلالها ندرك: من أين وفي أية تربة تنبت بذور الكهانة؟

1. مجال الأخلاق: تتقمص مشروعية الكذب إهاب السلوك الأخلاقي الفضفاض. أي تتوافر بعض الأكاذيب على طقوس أخلاقية خاصة بالشكل وأساليب الطرح والمظاهر الخادعة التي تقاربها مع هذا المجال. لأن مبررها يبدو مشيراً إلى عمل من قبيل التمسح بالقيم السائدة وادعاء حسن الطوية مع كم وافر من التقدير الظاهري. ذلك بالرغم من علم صاحبها: أنه في اللحظة التي يكذب فيها إنما يطوي صفحة الأخلاق. أهي عندئذ مشروعية رجوع إلى معايير ما؟ ... بالقطع لا، لكنها عملية تمويه باسم المعايير الأخلاقية. فإذا كان فعل "قبول الآخر" لوناً من الادعاء، فإنه سيتم بمجرد انتهاء الموقف المُعلن عنه. وربما يتحول الكذب في هذه الحالة إلى سلوك سري. فقبول الآخر كسلوك متظاهر به يصبح مبرراً جديداً (من حيث إعلانه) لمخالفته بشكل غير علني. وبالتالي سيدعو صاحبة الكاذب إلى الإمعان في تصفية الآخر.

ونظراً لأن السلوك الأخلاقي غير واضح، فإنه يأخذ خفاء دوافعه. وهذا هو المنزلق الذي قد ينخدع بسببه الإنسان. فحين يوجد سلوك غير صادق لا يميزه عن غيره، كما لا توجد معايير واضحة لهذا الجانب. وإن وجدت أية معايير، فسرعان ما تخضع لتمويه الفعل، ذلك لأن المشروعية لن نتمكن منها، بل هي تسيّر السوك كما لو كان صحيحاً.

2. مجال الثقافة: لا تبدو مشروعية الكذب منفصلة عن حال الثقافة العامة. لأنَّ الأخيرة عبارة عن مجموعة من الحيل والاستعارات والمراوغات التي " تُسكِّن " بؤر الصراع في المجتمعات. الثقافة بتلك الأساليب تخلق سياقاً للتفلُّت من المراقبة وتسمح بإعادة تسديد الأهداف. وتمارس وجودها القابل للتملك بالنسبة للأفراد، لكنها تبقى عصية على ذلك. حيث سيكون لدى الآخرين نفس الحيل. فهم نتاج الثقافة وهم قاطنون بالتاريخ عبر مراوغاتها.

لعل الثقافة بهذا تحجب الأشياء أكثر مما تظهر. وتمثل جراباً غرائبياً كجراب الساحر. فتخرج منه الألعاب تلو الأخرى دون توقف. ويحاول الأفراد بث غاياتهم عن طريق الجراب ذاته في سيرك الحياة الاجتماعية. حيث يكون الجميع (لاعبون ومتفرجون) حاضرين على مسرح واحد بعضهم أمام البعض. وفي هذا لا تخذل الثقافة أيَّ فردٍ يستطيع اتيان ما لا يستطيع غيره. ولا تنكص عن محاولة ابهاره، فتسبقه بكافة المخزون والمواد التي تهيئ له تأدية دوره بنجاح. فهي مخزون من الأفعال والرؤى تؤدي مساعدة مزدوجةً. اللاعب الثقافي يمتح منها ما تعوزه المواقف. وهي أيضاً توفر الأرضية النفسية والعاطفية لدى الجمهور لتسهيل مهمته. في تلك اللحظة قد نرى ثمة تواطئاً بين الخطاب والثقافة. لكنه خطاب يستثمر الموقف خير استثمار مقتنصاً غاياته القريبة. وهذا يوجد في ممارسات الأديان والسياسة والعادات والأخلاق.

ربما كان "سقراط والسفسطائيون" المثال الأبرز على أهمية الثقافة. فالسفسطائيون كانوا هم الحاذقين في صياغة أفكارهم طبقاً لألاعيب ثقافية. فلقب سفسطائيsophist كان يطلق على الماهر والحاذق في فنه. وماذا كان الفن سوى بلوغ درجة الاتقان في الأعمال. وهذه الأخيرة نتاج ثقافي في دلالتها وأهميتها. أما الفن الأخطر الذي اشتهرت به السفسطائية، فهو" فن القول". طرحوا خطاباً إزاء سيطرة فلسفة أفلاطون والجمود العقلي الذي سببه عالم المثل. فهو عالم خاص بأفلاطون استطاع صاحبه أن يصادر إرادة الإنسان خلاله مقابل رسم صورة للمجتمع والتاريخ والحقيقة والذاكرة والسياسة. فكيف سيرفضه الفرد اليوناني المهموم بالتعبير عن نفسه؟. . كان السفسطائيون واعين بتلك الحيلة الأفلاطونية وأنه لم يكف عن آلية الهيمنة على الواقع.

لم يكن كلام السفسطائي سوى أساليب بلاغية غير معهودة ثقافياً. كثيراً ما لجأ إليها لخلخلة نمط التفكير الأفلاطوني. فهذا النمط يضع العقل بين رحى طرفين متنافرين، المثال والواقع كما نوهنا. لكنه يحسم الصراع لصالح المثال، لا لشيء إنما لأجل إعادة التمكن من الواقع وسلب قدرات الاختلاف. إنه انهاء لعمليات الجدل في صورة طرف متفرد، قطب وحيد. ونفهم ذلك حين نعرف أن عالم المثل له باب أفلاطوني واحد، أفلاطون نفسه هو من يمسك به. وهو من يمتلك فتحه وكشف أسراره. في مقابل زيف جميع الأشياء، أي كذب الواقع. بل الأخير على ما يصفه عالم من الأشباح غير الحقيقية.

إذن المشروعية في تكذيب الواقع مشروعية ميتافيزيقية هذه المرة. وهي الحكم عليه بكونه غير حقيقي. لأنه لم يكن أصلياً إنما يحاكي المثال. وخرج الواقع مشوهاً، كذوباً ومزيفاً كما أراد أفلاطون. واُعلّنت سيادة المثال على كافة الموجودات الأخرى.

كان السفسطائيون مناوئين لهذه السيادة، وبخاصة كون فلسفة أفلاطون أصبحت مذهباً للمجتمع وكان صاحبها فيلسوفاً للدولة. ألم يطرح كافة القضايا من الذاكرة إلى الجمهورية السياسية والهندسة الاجتماعية؟ وكأنَّه يقرر في محاوراته: كيف يعيش اليونانيون وكيف يفكرون وإلى أين تذهب آمالهم؟ والأهم كما أشرنا أن افلاطون فرض نمطاً من الحقيقة على وعى الأفراد. ويبدو من قوة فلسفة أفلاطون أنها وسمت كل فكر سفسطائي بالمغالطة والمماحكة. ونظراً لكون اللغة بمثابة الصيغ التي يتطابق معناها مع الحقيقة. فإن أي تلاعب بتلك الصيغ معناه تلاعب بقوة الحقائق.

هذا وقد طرد أفلاطون السفسطائيين من "دلالة اللغة" المتحدثة عن الحقيقة كما يراها. معتبراً إياهم مجادلين بغير صدق لا مجرد حقيقة فقط. هم مزيفون من حيث تزييف اليقين الأفلاطوني السابق. ونظرية الحقيقة بهذا المعنى ظلت تحاذر السفسطائيين عبر تاريخ المعجم اللاتيني ومعاجم اللغات الأوروبية. فما زالت القضية -من وجهة نظر أفلاطون- قضية امتلاك اللغة عن بكرة أبيها. لأنه حين عرف أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة غير اصطلاحية أدرك ضرورة الهيمنة على نظام الدلالة في المجتمع. وبذلك تكون مشروعية الصدق والحقيقة هي مشروعية تكذيب الآخرين وجعلهم نموذجاً للجدال غير الهادف.

ليس أقرب إلى فكرة أفلاطون تلك من احتفاظ اللغة الانجليزية واللغات الأوروبية بدلالة التضليل لمصطلح السفسطائية. فالسفسطة sophism تعني قياساً فاسداً. بالمثل تعني مغالطة لا طائل من ورائها سوى المراوغة. وتدل على التكلف في طرح الآراء. أما القائم بذلك العمل فشخص متكلف أو محنكsophisticated. ومع أنه رفيع الثقافة ومطلع إلا أن الوصمة الأفلاطونية مازالت موجودة في جذور اللغة، فهو الشخص الذي يحرف المعاني والذي يُعقِّد الأشياء مضيعاً بساطتها وتلقائيتها.

لنرَ ماذا قال تاريخ الفلسفة حتى نعرف أبعاد الفكرة. أشار مبدئياً إلى السفسطائي بوصفه ذلك الحاذق والمتمتع بمهارات كما لدى الصانع الماهر. ودون قصد سُوقي تشير الـــsophiste   إلى ذلك الذي يحترف الحكمة والمهارة (صوفيا). وهو المتمكن من فنه في محاورة الآخرين. بل قال بروتاجوراس– على لسان أفلاطون- السفسطة فن جعل الناس أرفع كعباً مما كانوا عليه، فن تنشئة بشر أرفع.

لكن مع تحول الفلسفة الأفلاطونية إلى مشروع سياسي اقصائي، اعتبرت السفسطائية سُبة ولحقت بها دلالات سُوقية. فأفلاطون كان يريد إزاحة من يفكر بخلاف مذهبه الفلسفي جانباً. ليست المشكلة في السفسطائية، لكنها في خطاب شمولي وحيد الاتجاه. يؤكد الفرنسي أندريه لالاند أنه اعتباراً من عصر أفلاطون وبالأخص أرسطو، صارت تستعمل الكلمة بمعنى ذميم واضح، فالسوفسطائي هو ذلك الذي يستعمل مغالطات على نحو عادي. ونحن نعرف أنَّ أرسطو أكمل مسيرة أفلاطون إن لم تكن في الجانب الفلسفي فعلى الصعيد السياسي.

المهم قد تكون مشروعية الكذب بإيعاز من الثقافة السائدة. وهو ليس كذلك بالمعنى المعروف تحديداً. فالكذب الفلسفي سواء أكان سفسطائياً أو أفلاطونياً إنما يمثل صراعاً حول امتلاك المجال العام. ومن هنا أخذ سقراط أهميته ولقى حتفه مسموماً أيضاً. كانت تهمته إفساد عقول الشباب!! كيف يمكنه تبوؤ مكانة المعلم ورجل الفضيلة ومن أين له بإفساد العقول؟! تكمن القضية برمتها في مشروعية الكلام السقراطي قياساً إلى المعتقدات العامة.

فرغم اعتماد سقراط على طريقة "التهكم والتوليد" في الحوار، إلا أنَّه وقع ضحية المجال العام. هذا المجال الذي أغرقه (أفلاطون) بسلطة المُحرّم فلسفياً. لقد أوجد سلطة متربصة خارج الأفراد، حيث تجسدت المشروعية في مفاهيم تبدو في الظاهر مملوكة للمجتمع. وهي كذلك من حيث تعيش في كنف الوعي الجمعي وتدافع عن نفسها بقوته وسيطرته. وقد تهب فجأة كالإعصار في وجه من يحاول المساس بها متهمةً إياه بالخروج عن النموذج الأصلي. بحيث لا يستطيع فيلسوف الاقتراب دون اتهامه بسرقة المشروعية. خاصة وإن تحدث كلاماً لتغيير الرؤى كما فعل سقراط. إذ سيتهم عندئذ بالكذب (والتكذيب) معاً. كذب على الناس، لأنهم مازالوا مقيدين بمثال الحياة العامة (جمهورية أفلاطون) ومازالوا في دائرة التفكير وفقاً للمقدس (الأساطير والآلهة). والتكذيب لكونه يمس معتقدات لا تتزحزح قيد أنملة. وهو حين يعرضها للمناقشة كمن يحاول تكذيب كلام الآخرين ودحض إيمانهم الراسخ.

وهذا بصدد الخطاب الديني موضوع أكثر بروزاً. حين يكذب أصحابه في شؤون الحياة العامة تعللاً بالتحدث باسم مشروعية المعتقد، وأنه في النهاية سيؤدي إلى مصالح عامة لا يجب خسرانها. ويكذّبون غيرهم خوفاً على تلك المصالح وخوفاً على المجتمع من الانحراف.

3. مجال القانون: طبعاً القانون صيغ منضبطة دلالياً للتعبير عن غايات وأهداف ومشتركات المجال العام. أي ضد التلاعب بها واستغلالها والإضرار بشؤونها، مؤسسات أو نصوصاً. القانون لا يعطي مبرراً لأحد للكذب باسمه ولا باسم غيره، إنه معني بتلك المسألة إلى حد العمل الجاد عليها باستمرار. فما أن يخرج الأفراد إلى خارج ذواتهم إلا وهم في حضرة هذا القانون. إذا مارس فرد كذباً بين المجموع، فقد ارتكب فعلين: أحدهما الفعل الذي يقع عليه مباشرة وينسب إليه. أما الفعل الأخر فيقع على دلالة الصيغ العامة للقانون وعلى كيان المجتمع ككل.

الكذب في تلك الحالة مزدوج بانتهاكه لهذه المشروعية الضمنية. أي يأخذ قوته من مشروعية خاصة متجاوزاً المشروعية الجمعية. ولهذا سيبقى أثر الكذب عالقاً في الحياة العامة بأثر القانون وتنبيهه لمراكز الوعي لدى الأفراد. من جهة وجود فرد، بحيثيته أيا كانت، قد انتهك مجاله المشروع. حيث سيقال أن فرداً قد انتهك هذا النطاق العام داخل نطاقه الإقليمي(الفردي). أما الشيء الواضح أن القانون لا يمتلك إلا مشروعيته حصرياً. ولا يسمح لأحدٍ بامتلاكها سواء على نحو خاص أم عام. بالتالي سيقع فعل الكذب تحت طائلة القانون. لأنَّه سيغتصب مشروعية ليست له. والطائلة هي القوة التي توفر له المساءلة والتحري. من ثم سيفتح باباً للأسئلة تلو الأخرى بحثاً عن الفاعل وحدود فعله وردود أفعال المجتمع.

لكن لماذا يتم الكذب في هذا المجال؟ هذا السؤال قد لا يعدُّ دقيقاً، ولاسيما إذا فُهِم كأنَّ هناك كذباً يتماشى مع القانون. لهذا يعدل إلى الصيغة التالية: لماذا يتم تمرير الكذب؟

قد يكون التمرير بواسطة تأويل معين للقانون، وهذا يعني وجود أوجه متنوعة لفهم الصيغ القانونية. ولا يتم ذلك اعتباطاً، إنما وفقاً لحيثيات القانون ذاته. فإقامة الحجج ومناقشة الآراء والقرارات وكشف التضمينات أمور ملازمة لتلك العلاقة. والتأويل "قوة فهم " لا مجرد تلقي سلبي لموضوع عام. هي قوة تنقل المؤول إلى استعمال القانون لصالحه. يكاد المؤول يقول: إذا كان القانون سيضعني تحت طائلته، فأنا سأجد مخرجاً قانونياً منه. أي عن طريق صيغ القانون، سأهرب من القانون. المشروعية المستثمرة وراء عمله مشروعية قائمة بموجب تلك الحيلة التأويلية.

بالفعل هي حيلة تأويلية صعبة التوصيف. لكن هل القانون يسمح بذلك رغم كونه لا يتيح تلك الإمكانية أم أنه صِيغ متفاوتة تمكننا من فهم إمكانياته؟ أتوجد ثغرات في صياغة القوانين وبالتالي تُرحّل المشكلة كلها إلى اللغة؟ ربما تستعمل عبارات نفعية في هذا السياق من قبيل "التكييف القانوني"، "روح القانون"، "غموض الصيغ القانونية"، "صمت القانون". وهي عبارات تقال حين يتماشى القانون مع المصالح. فإذا عُرفت الأخيرة، يبحث صاحبها عن صيغة ملائمة للتوافق مع القوانين.

وقد يتم تمرير الكذب عن طريق تغييب القانون. لكن هذا يحتاج قوةً تعادل وضع القانون وتنتهكه. وإذا حدث ذلك، فعادةً يكون القانون هامشياً في الحياة السياسية والاجتماعية. ولا ينتظَّر سوى أن يصبح أكثر تهميشاً. فسيادة القانون غير موجودة من الأساس إلا بشكل تجزيئي. وأية مقايسة عليها لن تكون إلا في جانب "مُنتهيك" القانون. والتغييب قد يأخذ معنى الحجب، أي لا يطبق في حالات قادرة على الاطاحة به.

لذلك تُقاس ديمقراطية المجتمعات بمدى فعالية القانون ونفاذ سيادته لا تعطيلهما. ونحن نعرف كون القانون حقَ من لا حق له مباشرة. أي هو حق المجتمع فينا وخارجنا بالتوازي. وإلى وصل الإنسان إلى مفهوم الحق المعنوي هذا قطعت المجتمعات مراحل من الصراع والمقاومة لكافة صنوف الاستبداد وما زالت. لأنه يجسد مشروعية غير قابلة للاغتصاب ولا للتزييف.

ولو تصورنا العكس كما في بعض المجتمعات شرقا أو غرباً، فإن مشروعية الكذب تطغى على أية سيادة أخرى. حتى غدا الكذب أرشيفاً للحياة اليومية، في الأحاديث والعلاقات والعبارات المتداولة. يقال عنه مجاملة بينما هو مقاتلة المغدور به هو الشعب دائما. يقال عنه تسامح وهو ذبح بغير سكين لمن يخالف وينتقد. يقال عنه خجل بينما يعد فضحاً ضمنياً لبنية التفكير الغالب. يقال عنه مداراة بينما هو تصريح بالمراوغة. يقال عنه قبول بالواقع بينما هو اسهام في تدميره حتى النخاع. لقد تراكم الكذب حتى التهم أمخاخ فاعلي الثقافة، وأسس وجوده المتطابق مع المفاهيم وأنماط الحقائق الاجتماعية، بحيث لا يمكننا فهم أي شيء، أية مسألة، دون أخذه احتياطياً دلالياً كحال احتياطي النفط. يجري الكذب هنا كشيء لصيق باستعمال اللغة، في الخطاب السياسي والخطاب الديني و الخطاب الاجتماعي.

تدريجياً باتت مشروعية الكذب تزاحم أية مشروعية أخرى، مشروعيات القانون والحقائق والمؤسسات والأفكار والمعتقدات. ببساطة لأن تلك الأشياء لا توجد من غيره، إنه يمنحها زخمها وآلية وجودها بطريقة من الطرق. فالقانون قانون لكونه غير كاذب، والمؤسسات مؤسسات لكونها غير مراوغة... وهكذا. وإن انكشف الإنسان عارياً داخل مجتمعه الحديث كما ينكشف سلفه الأول متوحشاً في الغابة، فما الجديد؟، ما معنى هذا التراكم؟، كيف ينتقل من عصر إلى آخر بكل سهولة؟! أتصور أن هذا السؤال لهو سؤال المجتمع والإنسان نفسه، استفهام كيانه وماهيته المترحلة عبر التاريخ؟

4. مجال الدين: هل يمنح الدين مبرراً للكذب؟ الإجابة بالنفي على وجه السرعة. إذن السؤال المنطقي: كيف نفهم مشروعية الكذب باسمه؟ القضية- لو نلاحظ- في كونه يعطي أصحابه قوة قادرة على التجاوز. وهذا من زاوية التفكير والإرادة باسمه في عالم الإنسان. فالدين تاريخياً يتحول إلى مشروعية اعتقاد لا يكف عن التطبيق. وهو إيمان ينزع إلى إرادة عملية خارج ذاته، أليس الإيمان عقيدة يصدقها العمل؟ بلى ... ولكننا سنلاحظ أن أصحاب الخطاب الديني لا يستطيعون بلوغاً لهذا التصديق ذاتياً. أي بالاعتماد على قدراتهم الذاتية يصعب ترجمة الإرادة إلى واقع، لا من طريق الدين ولا من طريق خاصتهم. بل فهموا العجز عن ذلك نتيجة غياب إرادة جمعية تتبنى المقولات والأفكار التي تخص الناس.

إذن هم لا ينجزون ذلك دون وجود مدى للتأثير داخل المجتمع. وهذا لا يتأتى بفضل وجودهم فقط إنما استناداً إلى رابطة الإيمان الديني بين كل أصحابه. هناك رغبة للتقارب عن بعد بين" الإيمانات" الفردية (جمع إيمان). التقارب الذي يضمن التصديق المتبادل بين الأفراد. وبالقطع سيتفاعل رجوعاً إلى مرجعية قوة عليا، مرجعية مقدسة. يفترضون فيها -عن طريق نصوص الدين- التدخل غير المباشر(والمباشر) في الحياة. وإن جاءت الوقائع مجانبة لهذا التصور، سيكون التأويل (إذ جعلها بجوار المؤمن) هو نفسه الذي يبرر تحاشيها إياه. أي أن المبرر المتخذ لحال ما يقف مع إمكانية الحال ونقيضها. فالاعتقاد بوقوف الإرادة العليا بجوار المؤمن هو ذاته الذي يبرر تخليها عنه أحياناً.

ولا يعبر ذلك عن شيء بقدر ما يعبر عن تطابق دائرة الإيمان مع دائرة التفكير. فليس ثمة تناقض فيها. إن ما يظهر متعارضاً في جانب ما سرعان ما يوافقه التأويل مع بعضه البعض بدلالة المقدس ووجود القوة العليا (الإرادة الإلهية) خلال جانب آخر. فالقوة العليا هي التي ترفع التناقض ولا تلغيه. الإيمان يحمل صيغة "مع وضد" داخل نطاق الإرادة الإلهية. تلك التي تفسر- على سبيل المثال- لماذا هناك شيء ما (كالخير) لصالح الإنسان ولماذا هناك شيء مغاير (الشرور) ضد هذا الإنسان في الوقت ذاته. ومجال التفسير هو أعمال الإنسان، توافقاً معها وتقصيراً في فهمها أيضاً. بمعنى أن الإنسان، حياته، وأنظمته المتعددة، موضوعات متحققة بفضل الإرادة العليا.

بهذا الوضع يحاول الخطاب الديني العمل على تأكيد اليقين الجمعي باسم اليقين الفردي. لأنَّ الاثنين يقعان في دائرة "مع وضد". هذا التناقض الإيماني أوسع من حركة المجتمع بما هو كذلك، وأبعد من تاريخه. إنه يوفر شعوراً- مع الطابع الشفاهي للخطاب- بالبعد والقرب، بالاختلاف والتماثل معاً. وتلك مسائل يصعب حلها، أي يستحيل إنهاء تناقضها، وإلا قد ينحل الإنسان معها بالمرة. والأحرى سيصبح الإنسان عرضة للتحلل نفسياً في آخرة دنيوية عاجلة. وتظل حركة "مع وضد" تشكل كل تصرفات المؤمن طاويةً التجارب والأفراد المحيطين به. ولا يوجد غير احتمالين لحلحلة التناقض. الاحتمال الأول هو: التوحد بالإرادة العليا ولا يجرى ذلك عادة إلا باتباع خطى النص أو تطبيق الحكم الإلهي أو التصوف. ومن هنا يظل الخطاب الديني مطالباً بحاكمية إلهية ليس إمامه بلوغها إلا بالدنياً. وهذا هو قمة اليقين الفردي والجمعي.

الاحتمال الثاني هو: البحث عن اليقين الجمعي حيث يحتوي ضمناً "الإيمانات" الفردية. في تلك الحالة ليس المهم ما إذا كانت المشروعية لأي عمل صحيحةً أم لا؟ لكن الأهم ايجاد سقف عام يجمعها ويصدق على الجزئيات. حيث يغطي أي تباين بالداخل. وما سيصح على التصور سيصح بالمثل على الواقع والحياة. تلك الخطوة ستعطى دفعة لانتهاك حدود اليقين نفسه والإغارة على مصداقيته بسبب أنه ليس كذلك وأنه لن يختفي" الضد". أي ستكون ثمة حالات ترفض هذا السقف العام. إن اليقين إذا كان موجوداً بالإيمان، فكيف يتحقق بالفعل؟! أي كيف يتحول إلى نظام سياسي وقيمي وثقافي. الكيفية هنا تسلب أية كيفية أخرى من المواقف وتستغل بعضها لفرض نمط من وجودها الخاص.

سيكون الأمر بتلك الطريقة ظلاً موفوراً للحقيقة الناتجة عن الإيمان. هو ظل وجودها خالصة وارتباطه بالتعبير عنها لا الحقيقة في ذاتها. إذا أردنا عبارة واضحة فالوفرة وفرة امتلاك الحقيقة لا الحقيقة بشحمها ولحمها. فمن منا لا يرى امتلاكاً لحقيقة الاعتقاد؟ بل من منا لا يشعر بسريانه كما تسري الطاقة بأنحاء جسده؟ بل بالنسبة لمجال الدين يراه المؤمنون جارياً (الاعتقاد) عبر جميع الأفكار والأفعال. وهذا ما يجعل منظري الخطاب الديني على ثقة مفرطة بالمستقبل. كما جاء بالقرآن إن غداً لناظره قريب. وهو غداً وإن استمر الإنسان منتظره طوال الحياة. لأنَّ غداً لا ينقطع عن الوجود مثلما لا تنقطع حقيقةُ الإيمان من وفرةٍ قادمة لا محالة.

إذن هناك وفرة مفترضة للحقيقة على صعيدي التصديق والتحقق. بمعنى ها هي ستأتي، وها نحن سنحصل عليها. وستكون واردةً مع الكلمات والعبارات بمجرد التلقي. لكن أين هي وكيف ستكون.. ؟، تلك أشياء غير محددة. إن" التنغيم واللحن" أثناء الخطابة الدينية أمران يتحينان وفرة المعاني. هما آليتان صوتيتان لإشباع المستمع بالفيض اللغوي الهادر. كأن المدلولات ستحضر حقاً لا مجازاً، فعلاً لا سماعاً. وليس من شك لدى صائغ الخطاب في إبلاغ المضمون الوفير للكلمات. فهو يتعامل مع الأصوات كمادة طبيعية معرفية. إن مهمته تشبه عملية خلق للمعاني بطقس الإلقاء كما في الأساطير القديمة. فيكون الصوت الجهور والنبرات المشددة والترديد المتواصل أشياء مفهومة بالمغزى السابق. فإذا أعملنا عقلنا نقدياً، سنعرف كم كان الواقع مغايراً لما يقال. نظراً للقفز على مقتضى الحال وهذه هي بذور الكهانة الدينية والسياسية بشتى صورها.

يعنى هذا "اغراق السياق" بين الناس بمعانٍ فضفاضة. ليست معبرة إلا داخل عمليات النطق. هل ذلك نوع من الكذب؟ أليس تناقض الكلام مع الفعل نأياً عن الحقيقة؟  الإجابة بحكم تلك المعاني لن تكون إثباتاً وحسب، إنما ستحمل الفرد على تكرار الحالة. هذا ما اتضح في خطابات الجماعات الدينية بعد الربيع العربي. ظل اغراق السياق في ميادين التظاهر هو السمة الغالبة على التأثير. وباتت المعايير التي نعرف بها الصحة من الخطأ غير واضحة. كما لا تستند لغة الخطاب إلى شيء سوى زخم الحقائق.

من زاويةٍ أخرى، هناك قوة استباق تقفز على الواقع. حين يمتلك الخطاب الديني وفرة ويقيناً، فليس للواقع أي وزن. بل ذلك سبب كاف لاجتياح أي واقع مها يكن. وتلك القوة محصنة ذاتياً ضد المساءلة أو التوقيف. فإمكانيتها – كما يتصور الخطاب- أكبر من أية إمكانية غيرها. بالتالي يعدُّ الواقع مجرد طريق لا أكثر. وهذا يحول القوة الرمزية إلى عنف، لا يرى أمامه ولا يميز المواقف. وقد يقع في محاذير التعدي على الحقوق. يُسمى في بعض الأحيان الدفاع عن الحق وفي أحيان أخرى إبلاغ صحيح الدين. لكنه في الواقع رسم لخريطة الصراع وفقاً لما نخبئه من مآرب ومصالح. فإذا بنا نخرجها في الوقت المناسب بعد تمكننا من مواقعنا. ولسان الحال يردد كما قال الشاعر: ما نيل المطالبِ بالتمني:: ولكن تُؤخذ الدُّنيا غِلاباً.

أما منطق الخطاب الديني، فيقول لا مناص من الاستحواذ على الواقع. السيطرة عليه قبل أنْ يلتهمه الآخرون. فالحياة غالب ومغلوب. فإذا كان المؤمنون هم أولى الناس بها، فإنِّ ضمان الإيمان كفيل بإتمام المهمة. المنطق بها التفكير يمسح أي خطأ بمجرد خطوةٍ إلى الأمام. هو بلاشك يُغطى بكم من القفزات تجاه الأهداف. حتى إذا سُئل الفاعل لماذا فعلت ذلك؟ سيقول بسبب امتلاكي للحقيقة وهذا سبب. أما السبب الآخر، فهو أنني أحق ولست أولى فقط من غيري. والدليل أنني موعود بهذا اليقين. فالأديان في أساسها وعود بالغلبة للمؤمنين تجاه المنكرين له.

حتى أن الكلمات تتمتع بواقع ذاتي. فهي تتشبث به كما لو كانت حصراً له. هكذا تغدو المعاني أفعالاً لا شيء غيرها. بينما المدلولات -كما نوهنا- فائضة إلى درجة الطوفان عن الدوال.  القضية أن هذا الاستباق لا يجعل الخطاب محددا في إمكانيته. أهو يسير بخطوات وئيدة أم أنه سيبدل أهدافه كلما سنحت الفرصة؟! الخروج من تلك الأرجوحة لا يتم إلا بالعيش في الحياة. العيش بحسب تجربة واقعية تحول الاعتقاد إلى مجال مفتوحٍ للاختلاف. وهذا نادراً ما يحدث. بذات الوقت يمنح الخطاب أفقاً للتفلت من مشروعية المجتمع بل لا يستند إلى أية مشروعية.  على أساس كون المشروعية الأهم من الله فكيف يمكننا انتظار مشروعية غيره. يتناسى الخطاب بهذا أنه سيعبر عن مشروعية إنسانية حتى لو آمن بمشروعية عليا. الفكرة أنه لم يستطع الوعي بتلك النقطة. ولو وعاها لاستطاع فهم تجارب الآخرين ولتمكن من التدرج في الحياة بحسب المقاصد.

وهذا الاستباق يُوقِع صاحبة في وهم امتلاك المصير. أي سيأتي بالأمور من نهاياتها القصوى. فهو بدل السير مع الزمن يضع نفسه لاشعورياً عند نهايته. يقول: ما بالنا بالخطوات تلو الخطوات بطيئة ولا تتفق وضرورة" التمكين" المنتظر؟ هذا المصطلح الذي اشتهرت به الجماعات الإسلامية ولا سيما الاخوان المسلمون. كأنَّ السلطة تحديداً هي الوعد الإلهي لهم، فكان نهمهم التاريخي للحكم بلا حدود. صحيح ليس للتمكين زمن معين، غير أنَّه يحمل مصيراً ما. والمصير يعبر عن نهاية معروفة من جانب أصحاب التمكين بالنسبة إلى أطراف النظام السياسي. فإذا كان أحدها سيُمكن، إذن سيكون مصير الآخرين التهميش (عدم التمكين). وتلك النتيجة ستخرج من الغلبة التي تحكم قواعد اللعب.

ينتقل الاستباق المشار إليه إلى امتلاك الحياة. فالخطاب الديني – لا الدين- يتحدث بنبرة ابتلاع دلالات الحياة، بشراً وحركةً ونظاماً في جميع المجالات. أيضاً تحت مبرر أنهم الأجدر- دون فهم الحياة- بالسيادة عليها. ستكون حركتهم بطريقة المزاحمة حتى فيما لا يمتلكون قدرات فيه. مع أن نظرة بسيطة تعرفنا أن هناك نتاجاً علميا وفكريا وحضارياً ينبغي تجاوزه كي يستحق المطالبون مكانتهم. من ثم كانت معاني الخطاب ضحمة بينما فحواها ضئيل التأثير. من هنا نشأت أفكار التكفير والاقصاء في هذا الخطاب، فالحياة حين لا تخضع لهم يذهبون إلى ملاحقتهم بالتكفير. أمر كهذا أدى بالخطاب إلى تهويم الآخر بالمعنى الشمولي. فهو في مرمى القناص (صاحب الخطاب). وإذا سنحت الفرصة لن يفلت من الاصابة المباشرة بمعاني السيطرة. ويأتي التهويم من كون الخطاب إذ يتحدث عن امتلاك الحياة يجد نفسه محصوراً في زاوية ضيقة منها. لأن الحياة الإنسانية لها قوانينها الصارمة التي لا تسير اعتباطاً. استطاعت الحضارات فهمها، فأبدعت وانتجت، بينما القول بالهيمنة عليها لم يبلغ إلاّ مسامع أصحابه فقط.

سيتوجه الكلامُ إلى أهداف غائمة بقدر العجز عن فهم قوانين الحياة وابداع عالم يعبر عنها ويتفق مع مرجعية الخطاب. لا يمكن التمييز في تلك الحالة بين الخداع والحقيقة إذا أردنا تعبيراً واضحاً عن المقصود. معاني الكلام ستكون قطعاً حاسماً تجاه العالم، بل يمكن القطع بأشياء معينة بناء عليه ولكن لم تفهم آلياته بعد. وأحيانا يفسر البعضُ نصوص الدين خطأ هنا مثل:" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". القرآن الكريم يخاطب المؤمنين، إذن ما هو الإيمان، إنه التدفق الداخلي للشعور بالوجود الإلهي وكتبه ورسله والآخرة وأقداره خيرها وشرها. العلو بهذا ليس له معيار إلا صاحبه، فلم يتم اختراع ترمومتر لقياس الإيمان. والعلو يأتي المؤمن من إخلاصه لربه ومن التزامه بذلك، بقدر اتصاله بمسببات العلو. التدفق الشعوري ما لم يسنده عمل يتحول إلى مجرد رصيدٍ نفسي. كما أن الآية تقول" إنْ كنتم مؤمنين"، وهذا لا يقطع بكون الموصوفين بالإيمان كذلك حتمياً. فـــحرف "إن" السابق على كنتم يعطي إحساساً بعدم تملك الإيمان كما نتملك الأشياء المادية. ويفتح باباً للاستزادة والتيقن ولا يمنحه اعتماداً فورياً.

يترتب على ذلك إنّ كان كلام الآية القرآنية تطييباً لنفوس المؤمنين، فهو دافع للتمسك بالإيمان. التمسك به بوصفه معياراً داخلياً إذا احتكمنا إلى واقع متأرجح وإذا كان مصدراً للحزن والوهن. إذن لفتة القرآن الكريم الطريفة هي: "عدم قدرة امتلاك الحياة بقدر ما نمتلك إيماناً". ويصبح الأخير تعويضاً، بل دافعاً للمحاولة تلو المحاولة. وهذا يختلف عن الزعم بأعلويتنا في الحياة لكوننا مؤمنين فحسب. والآية جاءت قصداً بطرح الحزن والوهن في مقابل بقاء الإنسان قوياً بإيمانه. لا تتحتم عليه نتيجة إلا ضمن واقع معيش يؤكده، ويجعل حرف "إن" قابلاً للإثبات. فليس شرطاً إذا كنت مؤمناً أن تعلو في الحياة وعليها. في الوقت نفسه، يمكن لمن لا يمتلك رصيد إيمانك العلو في الحياة. خلال الوضع الأول، أن القرآن استخدم العلو في الإيمان مقابلاً للحزن والوهم. بالتالي فإن مقابلهما سيكونان الفرح والقوة.  والكلمتان تأتيان ضمن القرآن بمعان سلبية، فذكر القرآن أن الله لا يحب الفرحين، ولا تمشي أيها الإنسان في الأرض مرحاً. والقوة مرتبطة بالطغيان والجبروت وادعاء الألوهية، سواء بالنسبة لفرعون أم قارون أم النمرود.

لفظ العلو يأتي مع الجانب الإيماني أو الإحساس بالجليل- المقدس. أما الحياة فيرد بشأنها القوة والغلبة. والخلط بين الاثنين تبعاً لمعيار أحدهما ولا سيما الإيمان يدفع بالخطاب إلى التحدث عما لا يعلم. يتحدث بلغة من يتيقن أنَّه يعلم بينما هو عكس ذلك. ماذا يُسمى الإيمان حينئذ؟

هناك سمة أخيرة: توقع الخير. فالخطاب الديني يتحدث عن الخير باستمرار طالما مصدر الأشياء هو الله. ولو وجد شر، فيُحمل في غايته الخفية على أنه خير أيضاً. معنى هذا إما وجود الخير فعلاً وإما هناك مسخ للخير حتى يتجسد شراً. المشكلة في أن هذه الرؤية تمثل مبرراً لخيرية الشر إذا جاء من طرف أصحاب الخطاب. فقد يكون هناك عمل عنيف وهو شر. لكن منطقه كالتالي: أن فعل هذا الشر شر مؤقت من أجل جلب خير مستمر. ونظراً لأنَّ هدف كل شر مؤقت الوصول إلى الخير، إذن لا مناص منه بلوغاً إلى الهدف الأسمى. ولهذا نرى القتل والاغتيال حتى باسم الخير، وباسم الخوف على المقدسات من الانحراف الفكري. وإذا سئل الفاعل لم فعلت ذلك؟، سيقول ما فعلته إلا بسبب الخير الذي أحمله للآخرين.

هكذا يتعيّن التوقُع السابق بنقيض الخير لا من طريقه تحديداً. لأن الغاية تخترق أي فعل نوعي ولو كان شرّاً. وهذا سبب آخر يضاف إلى اعتبار الشرور في طريق الخير خيراً أيضاً. بل تعتبر امتحاناً لتحمل الصعاب ولتمحيص معادن الرجال في طريق الهداية منا يردد المتدينون. وهذا معناه أن مشروعية الكلام المخالف للواقع معقودة سلفاً ولا تحتاج إلى فحص ولا إلى تأكيد. لأن جواز مرورها الخاص كامن فيها. فالتوقع يقين مؤكد ذاتياً، مخزونه الشعوري ضامن لوجوده. تماماً كما يصبغ مخزونه التبريري بلونه الممالئ لبقع الشك التي قد تتقرح في تكوينه. إذن لا يوجد كذب بهذا المفهوم. بل الكذب يمسح نفسه أول بأول كمنظف ومطهر ذاتي قوي. وعليه فلا يوجد أدنى خطأ. هناك آلية خاصة تتخطى السلبيات. صحيحة أم غير ذلك، ليست تلك هي القضية، إنما الأمر المهم أنه لن توجد هناك آثار لما يحدث من نتائج.

5. مجال السياسة: السياسة أقرب المجالات إلى الدين، إن لم تكن ترجمة حرفية للمعاني والمضامين الدينية. وسواء شاء أم أبى، سينزلق رجل السياسة وراء النبرة الدينية تأسيساً وتخريجاً لأقواله وأفعاله. لأن السياسة هي إلباس الدين بتكتم وسرية لباس اللادين. كما أن الدين - بخلاف رقعة الإيمان فقط- منقوع حتى الحُشاشة في ماء السياسة. وتصبح كل سياسة على المدى البعيد بمثابة الدين مقلوباً. الإله بالأرض والشعوب تنتظر السماء، الرأس بالأدنى والأقدام بالأعلى، قلب للعالم ولصندوق الاعتقاد. فإذا بفتحته إلى الأسفل وقاعدته إلى الفوق.

تعتبر السياسة من ثم تقديساً مادياَ بلغة الدنيا. هي دنيوية الدين في طابعه الجذري وهنا مساحة اللاحقيقة. وما لم نأخذ هذا التحول أساساً في فهم الكذب، لن ندرك لماذا يتشابه الخطابان الديني والسياسي. يتشابهان من زاوية طرح المعنى بضمان سلطة الغيب السياسي في الثاني والغيب الديني في الأول. وهو نفسه الضمان الذي يبرر قولاً من غير تحقق، أو تسويفاً دون أجل محدد. وإنه الضمان الذي يوقع "هول التخيل" لدى متداولي هذين الخطابين. ويطرح الخطابان بهذه الصيغة انتظاراً لرود الأفعال. كأنّهما يصران على تلقى ردود الأفعال كما يريدان لا كما تحدث.

***

حاوره: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

23/10/2024م

خاص بالمثقفالحلقة الثانية عشرة مع الدكتور سامي محمد عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (4)

س33: أ. مراد غريبي: هل الدين هو مرجع الحقائق أم الحقيقة هي بنت الدين – إن جاز التعبير-؟

ج33: د. سامي عبد العال: ربما تتضح الاجابةُ عن السؤال بسؤالٍ آخر: كيف نستطيع إيصال الدين إلى الآخرين؟ ما الطريق الذي نسلكه لمعرفة إيمان شخصٍ ما؟ هل بإمكاننا بلوغ الدين في ذاته (معتقداته وأصوله)؟ وإذا اعتبرنا الدين مرجعاً للحقيقة، فكيف يتسنى تأكيد الحقائق؟! أيةُ حقيقةٍ هي المقصودة دينياً، أهي حقيقة الوجود أم حقيقة الماوراء.. أم غيرهما؟!

لا وسيلةَ لمعرفة ذلك سوى الإعتقاد. لا طريق غير التجربة ذاتها، لا فكرة إلاَّ من الشخص نفسه. أنْ تعتقد هو أنْ تؤمن. أنت تعيش الايمان.. إذن أنت وحدُك ما تقوم بذلك. الدين تجربة خاصة، بل حالة شخصية تماماً. ليس ثمة "تجربة دينية" تكرر نفسها عبر أشخاص مختلفين. صحيح قضية الأديان هي التماثُل بين الأصل والصورة، بين السلفِ والخلف، بين الواقع والمثال، بين المعنى والمرجعية. غير أنّه سيظل تماثُلاً بمكانة السهل المستحيل، السهل المستعصي انجازه. وهذه قضية انماط التدين في أي عصر من العصور. وبالوقت عينه هي قضية اختلاف الناس تجاه الدين وبأية طريقة يسلكون.

لو كان التماثلُ مُتاحاً من أول وهلةٍ ما كانت ثمة اشكاليةٌ في علاقة الإنسان بالاعتقاد وما وُجد الخير والشر، الايمان والكفر، الحقيقة والزيف، الاعتقاد والالحاد. تلك المفاهيم الأكثر انتشاراً في تاريخ الأديان باختلاف صورها. تبقى التجارب الدينية غير مكررةٍ تاريخياً، حتى ضمن الدين الواحد، طالما كانت تجارب نوعية للأشخاص. الأفراد يستمدون منها معاني الحياة، ونوازع السلوك ورؤى الوجود ورمزية الأشياء والكائنات. لكنهم لا يستطيعون تعميم التجارب عل كل الناس.

الدين إيقاع يأخذ الانسان نحو الاتساق والتماسك، يُصقل جوهره البشري قيماً وشعوراً وعاطفة وروحاً. في بوتقة واحدة، يُصهر تلك المكونات مُؤثراً إلى درجةٍ بعيدةٍ. يُشعر الفرد معه بالوسْع وهو محدود، يحس الفرد خلاله بكائنات أخرى وهو المنعزل بذاته، يناجي خالقاً أعظم في حين يبقى قاصراً إزاء الحياة. يقطع الفرد إزاءه باليقين، وهو ما يتردد حائراً خلال أحواله الأخرى. ما يراه في الباطن يجزم به رغم كونه حسير البصر والرؤية. أية وسيلة إذن بإمكاننا اعتبار ذلك حقيقةً؟

جوهر الدين: أنك تنفرد بنفسك كي تلتقي مع ما هو ديني. أي لا بد أن تعرف جوهرك حتى تدرك جوهر الدين. ولهذا كانت وصية السيد المسيح في شكل سؤال: " ماذا ينفع الإنسان لو ربحَ العالمَ كله وخسر نفسه؟.. " أي أن نفسك هي الحقيقة، هي الهدف، هي الربح والخسارة. وفي القرآن " كل نفس بما كسبت رهينة..." ..." وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه...". الغاية ليست كالوسيلة، في الغاية يوجد الهدف والمعنى جنياً إلى جنبٍ، بينما تنطوي الوسيلةُ على الأداة والغرض المؤقت. من تلك الجهة، يلامس الانسان ماهيةَ ما يعتقد ويشعر بعلاقته الأساسية تجاه أسس الأديان.

أمَّا الحقيقة (العلمية أو المادية)، فبالضرورة تكون مشتركةً حتى نزعم كونها حقيقةَ. لو ظللنا- سنوات وسنوات- نصيح إزاء فكرة معينة: "إنها الحقيقة... ها هي الحقيقة.. لا بد أنها الحقيقة"... ستكون الفكرة تحت التوقيف، تحت الزعم المتواصل. لكونها لم تخرج من بين جوانحنا إلى سوانا من العقلاء. كيف نبلغ " يقين سوانا "، حتى نبثُ فيهم فكراً أو معتقداً أو تجربة؟!

الدين يحتاج تصديقاً، يقيناً، اطمئنانا، سكُوناً، استبطاناً، استبصاراً، ارتباطاً بالغيب. من سيُصدّق غيرُ الإنسان؟ من سيظل مطمئناً سوى المؤمن الذي يتيقن؟! بل ما معنى كل ذلك خارج الإنسان ابتداءً؟!... هي العلاقات الرأسية مع موضوعات الإيمان بما هو كذلك. لأنَّ حقائق الدين– إن أُجيز استعمال لفظ الحقيقة هنا- عمودية، نازلة من أعلى إلى الاعماق تمكنّاً من كيان المؤمن. ولذلك يُشار إلى الوحي بأنه ينزل من أعلى إلى أسفل (إنّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً..) ... (وأوحينا إلى النحل...). علاقة سرية بين الخالق والمخلوق. وكلما كانت العلاقة الدينية صافية خالصة، كانت الحقيقة من لونها بمعناها الفردي.

لعلّ هذه السمات موجودة في الحقيقة الدينية، نظراً لإرتباطها بالمسئولية. أي أنَّ كل فرد سيكون مسئولاً عنها، وبالتالي هناك جزاء وعطاء ومنح ومنع وهبة وتكليف من قبل الدين (الخالق). وجميعها لابد أنْ تكتمل في الإنسان كفردٍ بعينه لا آخر. لا تُوجد مسئولية جزئية أو حتى معطاة مناصفةً خارج ذات الإنسان. المسئولية إمّا أن تُعطى للفرد أو لا تُعطى. قال القرآن مباشرة: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أنْ يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " (الاحزاب/ 72) .. جاء العرض على أشياء الكون بصيغة الجمع، بصيغة الكثرة، بينما جاءت المسئولية أمام الإنسان بصيغة المفرد. حتى وإن جاء الإنسان هنا حاملاً لكافة ألوان البشر من جنسه. أي حتى لو كان القرآن يخاطب الناس بلغة منطق الجنس، لكن المسئولية في النهاية سيتحملها الإنسان فرداً لا جمعاً.

إضافةً إلى ذلك أنه لا توجد حقيقة في الأديان. لأن انعدام وجود الحقيقة أمر من طبيعة الدين نفسه. فلو عرف الإنسان" الحقيقة " في الدين لبطل الايمان. لقال المؤمن إنني أمتلك " الحقيقة كل الحقيقة" وكفى. وقد يختفي حماسته للتدين والتمسك بما هو قادم من ثواب ونعيم. ولما كان ثمة معتقد في طريقه لأنْ يظل كذلك. لماذا يعتقد الناس؟ لكونهم لا يمتلكون حقيقة.. لماذا يخفي الخالق ذاته؟ لكون حقيقته غائبةً ولكن مُستدل عليها. إنَّ محاولة البرهنة عليها بالأدلة العقلية أو الانطولوجية أو اللاهوتية أو العلمية أمر آخر تماماً. ليست هذه حقيقة، لكنها بعبارة عالم الفيزياء ماكس بلانك "صورتنا عن الحقيقة" لا الحقيقة ذاتها.

كل حقيقة هي رغبتنا حول الحقيقة لا ماهيتها. تظل الحقائق أشكالاً متمنعة على الحضور باستمرار. وهذا ليس موقفاً " لا أدرياً agnostic"، لكن يجري وجود الإنسان وعالمه هكذا. رغبات بلا موضوع، عواطف دون محتوى، أخيلة دون متخيلات، قدرات في طريقها إلى شيءٍ دون نهاية، استعارات فكر كأنها الواقع. وتلك بمثابة القُوى الجبارة التي تشعل طاقات البشر لمواصلة الحياة وخلق عالم فعلي دون خوف ولا نكوص.

أما الحقيقة الأخرى (العلمية- الواقعية)، فتتميز بالجانب المعرفي، الجانب التجريبي، الجانب الكمي، الجانب العملي. وهذه تشترك جميعاً في قابليتها للإدراك الجمعي، أي قد يتم الاتفاق عليها في مرحلةٍ من المراحل. فهي حقائق أفقية، أي تنتقل بين إنسانٍ وآخر. عندما يتوصّل العلماء إلى حقيقةٍ ما عليهم أنْ يطرحونها في صورة نظريات أو قوانين. هم قادرون على البرهنة عليها أمام أدوات التجريب والفحص. ليس لأنفسهم فقط، بل لغيرهم كذلك. والحقائق من هذا اللون لها أدواتها وأفكارها وتداعياتها التي تلقى قبولاً أو رفضاً. ومن السهولة بمكان – لمن يمتلك القدرات- أن يدركها ويعرف صورة الوقائع المعبرة عنها. ويستطيع أن يفندها تفنيداً من جنس إدراكه لها.

الحقيقة العلمية قائمة على الإدراك المشترك، النقد، الحوار، النقاش، الشك، اعادة النظر، المحاولة والخطأ. وتظل الحقيقة هنا مؤقتة لا ثابتة، متغيرة لا أبدية. وثمة حقيقة أخرى تنال منها قريباً أم بعيداً. لأنَّ إدراكنا للحقائق هو الادراك غير الحقيقي على الدوام. إنه الإدراك المحدود بحدود قدرات البشر. إذن هو إدراك خطأ بنسب متفاوتة، هو أفضل الاحتمالات القابلة للتحقق.  فلا ينعدم الخطأ بتاتاً، هو جزء من تكويننا المعرفي والفكري مادمنا نعرف. الإنسان كائن يعرف لكونه كائناً يخطئ في تقديراته ويستطيع أنْ يقارب الأشياء والقضايا. المعرفة قائمة على الخطأ لا الصواب، كل العلماء الأفذاذ توصلوا إلى حقائق لكونهم ارتكبوا أخطاءَ لا العكس، لأنَّ الصحة (الحقيقة) لا تدوم.

لكن رغم كل ما قيل منذ قليل، مازال السؤال مطرُوحاً: هل الدين مصدر الحقيقة؟ بالإمكان فهم سؤال الحقيقة في الدين، عندما يدخل الأخير دائرة التكرار خارج ذاته. أي يصبح الدين مرجعيةً لحقائق أخرى تستند إليه وتعبر بواسطته عن نفسها. لأنّه في تلك الحالة يُمسِي وضعاً مُشتركاً له قوة الإلزام والنفاذ. وهو في أشكاله المتحولة يمثلُّ متصلاً أفقياً خارج نطاق الأفراد، وقد ينتقل الدين من مرحلة الفردية إلى المسئولية الجمعية ويمارس سيطرة خارج ذاته. والتحول الذي يطرأ على الدين بمثابة تأويلات عملية، يتم نسجها من بناء الحياة وخيوطها المشتركة وتتلون بالتاريخ والقوى السائدة ضمن المجتمعات. بكلمات واضحة سيتجلط الايمان- هذا الدفق الروحي الخالص- في شكل مادي ملموس، وسيعطي لنفسه فرصةَ الظهور والتأثير.

الدين كعقائد عامةٍ:

يصبح الدينُ مصدراً للحقيقة عندما يتشكل في عقائد مشتركةٍ. عقائد تأخذ صفة اليقين الجمعي وتتجلي عبر الممارسة على نطاق واسع. أي يتشكل الدين داخل وجودنا إذْ يسهم فيه كلُّ فردٍ من الجماعة البشرية بنصيب وافر. عندما نقول" نحن نؤمن" بكذا، فهذا اعتقاد عند نقطة التقاء الأفراد حول الدين كمعتقد. ثمة علامات تدل على وجود المعتقد العام مثل الطقوس والشعائر والعبادات والمناسبات الدينية.

لا ينكر أحد هذه الحقيقة الجمعية، بل يصعب انكار الدين مرجعاً للحقيقة بهذا المعنى. لأنّ ثمة أفعالاً وسلوكيات تُجسد المعتقدات الدينية. ولئن أردنا فهم الأخيرة، علينا ربطها بالدين وأصوله. الدين حين يدخل نطاق الارادة العامة ويصبح مظهراً غالباً على حياة الناس. وقطعاً سيكون التأويل المتبادل بين الناس (لما يعتنقون) أمراً ناشطاً طوال الوقت. فالأزياء تأويل علاماتي لجوانب الدين من تعاليم وطقوس. التحية المتداولة لون من التأويل للخطاب الذي يتداول، المظاهر الجسدية تأويل حي لما يؤمنون به، وقد حرصوا على أن تظهر على هذه الشاكلة دون سواها.

الدين كنظام:

أي انتقال الدين من دائرة الاعتقاد إلى نظامٍ حاكم للمجتمع، كحال المجتمعات الذي تعلن أنّ دينا معيناً هو مرجعيتها ومرجعية القيم والاخلاقيات العامة. وهو يظهر في المجتمعات التي تسمح بالتعبير الواضح عن التدين.

المجتمعات– على اختلاف أنظمتها - تسمح بالجوانب الدينية سواء المجتمعات الشرقية أو الغربية. ليس صحيحاً أن الأديان قد اختفت من الحياة المعلمنة بلا رجعة. لأنّ ديناً - كمصدر للحقائق- يخلق بدائل له طوال الوقت، بل وتتشكل الأخيرة في ممارسات مغايرة عادةً. السياسات تأخذ شكل الوظائف الدينية مثلها مثل الطقوس والشعائر بالضبط. ورجال السياسة يعمدون أنفسهم في محراب الهيئات والمؤسسات كما يعمد رجال الدين أتباعهم. وتصدر القرارات والقوانين بصرامةٍ واجبة النفاذ، كأنَّها خارجة عن مرجعيةٍ لاهوتيةٍ.

الدين كسلطة:

كل دولة من الدول المعاصرة ترقد في أصولها على ضريح لإله قديم. وسلطة الدين هي المثال الذي لا يُنسى في أية سلطةٍ أخرى.. اجتماعية كانت أم سياسية. السياسة كانت وما زالت تحتذي الأديان خلال أي عصرٍ من العصور، تعتبر قوة الأديان قوةً رمزيةً وقادرةً على تحقيق أية أهداف تريدها.

من ثمَّ، نشأت تأويلات الدين لصالح قوة في الواقع. وكانت بالنتائج أن غدا الدين نفسه سلطة، بدءأ من المرجعية والنصوص والطقوس وانتهاء بكل ما ينتظم أتباعه وفقاً لنمط التدين السائد. هذا الوضع يُسمى حقيقةً، لكونه يحدث نتائج في الواقع، يُحرك صورة معينةً داخل أفق المجتمع.

بإمكان المتابع أنْ يرى الدين – أي دين من هذا الجانب – منبعاً للحقيقة طالما يترك آثاراً ملموسة. هي خاصية استثمرها اتباع الأديان جيداً. لان وجود الدين سلطة. نصوص الأديان سلطة. رجال الأديان سلطة. التفسيرات المعمول بها للأصول سلطة. دور العبادات وإقامة الشعائر سلطة. التأويلات العملية والممارسات الحاصلة سلطة. وإذا كانت الحقيقة من التحقق، التحقيق، فالدين كسلطة يعد مرجعاً لأحداث وظواهر إنسانية.

الدين كتراث:

بعد وصول الأديان إلى اتباعها المعاصرين، وبعد أن قطعت عصوراً ماضية، ظهرت اشكالية التراث. التراث ناجم عن تأثيره في آفاق الحياة مع تأثير الأحداث بجانب مخزونه الرمزي. والدين مصدر الحقائق في هذا الاتجاه، لكونه غير منفصل عن التراث. الدين هو الأثر الحاصل تراثياً لدينا نحن البشر. وما لم يكن الزمن له هذا التأثير ما وجدت هناك اشكالية التراث. كيف نؤمن بصورة راهنة مع وجود معتقدات وأفكار لا تنتمي إلى حاضرناً؟ لماذا يذهب الإنسان في تفكيره إلى الماضي؟ ما السبب في تفرق كيان البشر بين الماضي والمستقبل؟ ... هذا التناقض البادي للعيان في الثقافات المختلفة.

بدا التراث مهماً في نماذج التفكير والتدين وأساليب الحياة. التراث هو الجنة المفقودة في حياة الأديان. ولاسيما مع العودة لأصول الأديان والبحث عن استعادة الماضي بطرق شتى. سؤال الحقيقة كامن في تلك العودة سلباً وايجاباً. الدين يشكلُّ مرجعاً بهذا المفهوم، لأنَّ ثمة مقارنةً متواصلةً بين الماضي والحاضر. وما إذا كانت العودةُ ظاهرةً ما في صميم الدين أم لا؟ فالتعاليم والطقوس والأخلاقيات لا تخلو من معنى الحقائق (العودة) إذا كانت مرتهنة بسؤال التراث. وللتراث الديني هذا الحضور، نظراً لأنه تجارب حياتية شكلت التاريخ. تجارب معنى بالنسبة لأتباع الأديان وتحتل مكانة سامقةً لديهم.

الدين كأيديولوجيا:

تبدو أسئلة الحقيقة مطروحة، عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا. أي جهاز فكري قابل للاستعمال دفاعاً عن مصالح قوى معينة. يعمل الجهاز مع اكتساب مناطق نفوذ تتطلب استثماراً للموارد الدينية وتشغيل الرأسمال الرمزي للموروثات.

هنا تعد الأديان مرجعاً للحقيقة بصورة مزدوجة: سنعرف بأية وسائل استطاع أصحاب الايديولوجيات استغلال جانب كهذا. إضافة إلى ذلك، سنعرف: ماذا طرأ على الدين من تغيرات وكيف أُلبس رداء ليس له إلاَّ بقدر تأويله المتطرف. ستصبح الحقيقةُ مشكلةً تجدد نفسها من وقت لآخر. فمع ظهور الجماعات الدينية كان سؤال الحقيقة مثاراً على ألسنة المتابعين. لم تكن ممارسات التطرف إلا مظهراً من مظاهر اغتصاب الحقائق. الحقائق محل بحث ونقد وغربلة. هل الدين الاسلامي يؤكد التطرف أم ينفيه؟ هل ثمة تطرف دموي بهذه الطريقة لدرجة تحوله إلى أداة قتلٍ؟ هل تسمح مقاصد الاسلام باستعمال النصوص والأحاديث لإرهاب الناس؟ كيف يتحول الدين إلى وسيلة هدمٍ لا بناء؟

س34: أ. مراد غريبي: بين الحقيقة والفضيحة في المجتمعات العربية يرتفع صوت ماهية الأخلاق وفلسفتها وموقعيتها في خريطة الدين وجغرافيا التدين، لماذا نعيش في مجتمعات تعشق الفضائح وتخاف الحقائق أو ما تسمونه بــــــــ «الهرش الديني"؟ وماذا عن الأوهام والخرافات التي كرست مجتمع الرداءة والنفاق والعنصرية والطائفية؟ هل هاجرت الأخلاق بعدما انتشرت الأوهام المقدسة والثقافة الدينية المغشوشة؟

ج34: د. سامي عبد العال: بين الحقيقة والفضيحة ما لم يفعله الحداد. لأنَّ " ما فعله " الحداد أننا اكتوينا بناره التي تلين الحديد. أمّا "ما لم يفعله" هذا الشخص الرمزي، فهو تكريس" حالة الحدادة " في مجتمعاتنا العربية طوال الوقت. أي مواصلة اشعال النيران بجوارنا التي تأخذنا إلى شيءٍ آخر. وهذا موضوع مختلف يخص نار الفضيحة الكاشفة لأعماق أزماتنا المعرفية والاخلاقية، إذْ نظل نلوك العبارات والأخبار الرائجة على أنّها حقائق، بينما هي محض فضائح بفعل فاعل.

حالة الحدادة (أي عمل الحدادين) لم تنته بعد، يجري اشعال نيران الفضائح (الاجتماعية / السياسية/ الاخلاقية) على ايقاع تزييف الوعي وإلهاء الناس بتوافه الأمور واللهاث وراء المكانة الفارغة وضعف المعرفة والفكر. البيئات العربية مُهيئةٌ بميراثها الثقافي لهكذا أفعال، حتى باتت سمات فاصلة لدى قطاع عريض من أفراد المجتمع. هؤلاء أناس مغيبون لا يعرفون شيئاً ذا بال في واقع الناس.

الوضعية السابقة تتداخل فيها أربعةُ خطوط:

أولاً: سياسات الحقيقة: المقصود أنَّ صناعة الحقائق في مجتمعاتنا العربية آلية رائجة. فهي رهان الأنظمة الغالبة على استمرارية قبضتها. ليست الحقيقة واضحة بذاتها على ما نفهم من رنينها الخطابي. تنطوي على مناطق غامضة إلتهمتها عن بكرة ابيها. استطاعت أنظمة السلطة تحويل فكرة الحقيقة إلى " ثقب أسود".

إنَّ الحقيقة موضوعة تحت الاقامة الجبرية. لو تخيلنا الحقيقة انساناً، فلن تخرج إلى الشوارع والساحات والملاعب والنواصي والمؤسسات والهيئات والحارات والأرياف والمقاهي. لكنها ستكون رهن الاعتقال، أمامها معضلات وعراقيل لا تنتهي. وبدلا من إطلاق سراح الحقائق، فكر دجالو السياسة والمجتمع في تشكيلها. أي إخضاعها لعمليات ثقافية جراحية لا تنتهي:

التلوين: وهو استعمال مساحيق وألوان ثقافية في تقديم الحقيقة وتصويرها. لا يهم القوام الأساسي، لأن الهدف هو اشاعة جو من الشك وعدم اليقين.

التشويه: اضفاء طابع مشوّه عليها وتقطيع أوصال المعطيات والوقائع. بحيث لا يتمكن الإنسان من لملمة الأوصال المتناثرة. وتبدو مهمة مستحيلة الوعي بهذا التشتت والافتعال.

اعادة التشكيل: اخراج الحقيقة بصورة مختلفة. حتى لا تكشف أكثر مما تُخفي. أي التلاعب ببنية الحقائق وتعمد إجراء الاحلال والتبديل ورسم هيكل مختلف عن الواقع.

التجميل: عملية ترميم وتجميل. ذلك في حالة لو كانت الحقيقة خادمة للسياسات والقوى المؤثرة. حيث ستكون محل تجميل وتقليل من آثارها الجانبية. فالحقائق الصادمة في حياة مجتمعاتنا وبخاصة التي تهن رجال السلطة يتم تحلية مذاقها على غرار تحلية مياه البحر. فعل التهوين والتمرير بأكبر قدر من الصدمات خفيفة الوطأة.

المونتاج: تعديل صورة الحقيقة وإدارة المشاهد من وراء الكواليس كي تتفق مع عملية الاخراج المطلوبة. إن اصابع الاخراج لا تتوقف سواء أكانت أصابع عابثة أم متلاعب عن كثب. وأحياناً يكون أصحاب القرار عارفين طاقة الجماهير على التحمل والاستيعاب فيكون المونتاج ناشطاً وله كل الدور في ابراز جوانب على حساب أخرى.

الكولاج: اجراءات القص واللصق التي تحذف وتؤلف بعض جوانب الحقيقة. إنه آلية توليف نتيجة وجود سيناريو لإظهار الأوضاع بطريقة قابلة للبلع والهضم. والكولاج آلية فنية لا تخلو من وضع خطط للإمساك بالأطراف ولبس الأقنعة وقص المناطق الغامضة وتوليفها مع مناطق أخرى، هو عملية ثقافية بين التلقي وأنامل الإخراج.

التخليط: احداث حالة من خلط الأوراق وإدخال موضوعات في أخرى لكيلا تتضح الصورة. احداث إرباك لذهنية القارئ، وإدخاله في دوامات البحث عما هو مفقود. ومن ثم لن يستطيع فك الخيوط والألغاز بسهولة. فالتخليط لا يعطي فكرة منطقية واضحة ولا يقدم شيئاً متماساً.

القلب: أي عكس الحقيقة إلى نقيضها، والزعم بأنها هكذا بخلاف ما يقال. ابتكار أكاذيب أخرى. والادعاءات ستتواصل طوال الوقت بأن الحقيقة المزعومة(المقلوبة) هي الأصح وأنه لا أحد يعرف الحقيقة الأصلية. وطالما نزلت المزاعم حلبة الصراع فإنها ستزاحم كل الصور الأخرى وسيكون تأكيد عكس الحقيقة هو الزعم الغالب.

الاخفاء: الحجب التام وايجاد بدائل لإلهاء الوعي عن الالتفات والفحص والتساؤل عنها. لا أحد يعرف الحقيقة في مجتمعاتنا العربية، السؤال عنها سؤال غريب وسيكون شاذاً سواء أكانت الحقيقة قريبة أم بعيدة، نظراً لكون المصالح تغلب الحقائق. كما أن القابض على صولجان السلطة- باختلاف المسميات- يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأسرار التي لا يجب أن يعرفها أحدٌ. وإذا كان الإله غامضاً ونائياً عن متناول البشر، فكذلك ما يدور حول رأس الهرم، رأس بحجم المجتمع والتاريخ والتراث. الأسرار تتشابك وتلف حول مركزيته خادمة في محرابه لا في ساحات الشعوب.

سياسات كهذه تُهيئ الثقافة إلى خنق الحقائق واعتبارها بلا فائدة للشعوب. ودوماً ستكون غائبة بحسب المستوى الذي وصلت إليه. بجانب انتشار فوضى المعايير الواضحة إزاء الاعمال والخطابات العامة. إن المؤثرين في المجتمعات لا يدركون: لماذا هم مؤثرون؟ لأن الوسط الموضوعي للحقائق لا يوجد، كما أن قوانين الفعل ورد الفعل غير متكافئة. فتدخل سياسات الحقائق إلى عمق الوعي عن طريق النقاط السابقة.

ثانياً: فيزياء الفضيحة: نتيجة اختفاء الحقائق، تصبح الفضائح بمثابة المعادل الموضوعي لها. أي يتم رواجُها، فتؤدي الوظائف الفكرية والثقافية. ليست الأكاذيب بديلاً للحقائق. الأكاذيب- في أكثر حالاتها - وسائل برجماتية لتجاوز المواقف، وفي أقل الحالات بلونات اختبار للآخرين وللوعي الجمعي. إنّ فيزياء الفضائح فيزياء ثقافية تمتلئ بقدرات الأفراد العاديين على الترويج والخفة العقلية وإدراك ردود الأفعال والمشاركة في تكريس حالة النكاية والتأثير.

تتشكل بنية الفضائح بالوسط الذي توجد فيه. الوسط يتيح لفيزياء الفضائح أنْ تأخذ مجراها وتتعين بصورٍ معينةٍ. وبحسب الانتشار والقدرة على افراغ التداعيات ستكون الفضيحة في المستقبل. كما أنَّ تأثيرها جزء لا يتجزأ من هذه الفيزياء. والفضائح تتعلق بقطاعات معينة نظراً لأنها غدت موضوعا من جسم الثقافة الشائعة. بحيث يمكن للثقافة أنْ تترقبها وتعطيها مجالها القابل للامتداد والتحرُك وسط الجموع.

تلعب الفضائح على أوتار الجموع، لا فضيحة شخصية إلاَّ إذا شعر بها الفردُ منعزلاً. أما بفحواها الجمعي، فالفضيحة تتمدد وتنتشر بحسب آليات الجماعة الجاهزة لذلك. لأن هناك فراغاً تاريخياً للوعي من الحقائق كما ذكرت. سياسات الفضيحة تستهدف عقول الكتلة الحرجة من الجماهير. بمنطق توجيه الرأي العام والانشغال بأمور أخرى غير التركيز على الواقع والأحوال الجارية. استثمار في المجال المهمل من فاعلي الثقافة والمجتمعات العربية.

تسير الفضائح بحسب جغرافيا الجماعات والفئات المترامية ربطاً بالمستهدفين من الجماهير. فالفضائح الاجتماعية رغم قوتها الحياتية وكونها تخيم فوق أفق الناس إلا أنها تلتصق بأناس معينين. ولكن هناك فضائح الساسة والفنانين والاعلاميين والرياضيين والمسئولين، وهي التي تظهر فيها عمليات التسييس إلى درجةٍ بعيدةٍ، وبخاصة مع انتشار وسائل التواصل والمنصات ومواقع الدردشة والاعلام الرقمي.

ثالثاً: الفضائح معرفياً: تؤدي الفضائح وظيفة ثقافية، ولكن لا جوهر لها إلا الاشاعات والتداول المسطح للأخبار والأقوال. والوظيفية السابقة يوجد بها جانب معرفي. ففضلاً عن إشغال الوعي، هناك التصديق والتذكر وربط الأحداث والاستدلال والمقارنة وتحديد المشاهد والتداول والترويج.

بالقطع عندما يستقبل الفرد فضيحة ما، فهو يشارك في الترويج لها. ويفتش عما يكمُن وراء المشاهد، ويأخذه الفضول إلى التنقيب المتواصل بين المنصات وصفحات التواصل بحثاً عن المزيد. إنه "فاعل معرفي" خلال تلك اللحظة، تاركاً قدراته الأصلية وبحثه المفترض أنْ يكون معرفياً حقيقياً مقابل الانغماس في شائعات وأخبار تلوكها الألسن على المواقع والصفحات.

معرفياً الفضيحة "رواج وتداول وتزيُد " على خلفية الاستغلال والنكاية في أشخاصها. فلماذا الفضيحة فضيحة؟ لكون أطرافها مهمين على صعيد ثقافي اجتماعي. لو لم يكن أطرافُها هكذا، لما سُميت فضيحة. فهي نالت تلك الدرجة من الانتشار، نظراً لكون موضوعها يستحق الشيوع. وهذا رهان مُطلق الفضيحة (مصدرها) ومتلقيها بالوقت نفسه. مجتمعاتنا العربية تعي ذلك جيداً. فالسياسيون يقفون على حافة الهاوية رغم المكانة المحصنة التي يحتمون فيها. السياسة رغم كونها إدارة الشأن العام، إلا أنها ذات ميراث ثقيل، مما يترك آثاراً جانبية بمثابة الشحن السلبي لأفراد المجتمعات في الاتجاه النقيض. أي تترك احتقاناً وكراهية لدى القطاعات الكبيرة من الجماهير تجاه مستغلي السلطة والمهيمنين على مقدرات الشعوب.

عندما تظهر أخبار وشائعات تنال من رجال السياسة (سواء أكانت حقيقية أم مختلقة)، فالرواج هو مصيرها بلغة الفضائح. ذلك استناداً إلى مخزون الشحن السلبي المتوافر، وبمقدار خطورة هذا الشحن وأوضاع المجتمعات وحرية الأفراد في المعرفة والتداول. عندئذ تدخل الفضيحة مسار السرديات التي يتم من خلالها القصاص الرمزي من الفاعلين. يأخذ الناس في تأطيرها والتزيُد أحياناً في الحكي، مما يجعلها مادة دسمة للتداول والنقد. الوضع معقد وتتداخل فيه عوامل كثيرة، ليس أقلها جانب المعرفة ولكن أكثرها الأمور الحياتية للمجتمعات العربية.

رابعاً: الفضائح أخلاقياً: أخطر آثار الفضائح على المستوى الأخلاقي هي إدمان ترويجها وعدم الشعور باحترام الآخرين. وهذا نال كثيراً من أخلاقيات المجتمع وقيم التنوع والتعددية الثقافية والدينية.

طالما تحل الفضائح كوسيلة ومعرفةٍ، فستكون شوكة في متن الاخلاقيات. بل لا تعنيها الأخلاق من قريب أو بعيد، لأن الفضائح مادة من جسم الواقع الاجتماعي وتحمل كافة خصائصه. قد تبدو في مسار محايد بحكم أن صاحب الفضائح هو من يستحق كل ما يحدث له. وتكون ثمة مبررات جاهزة عند الجماهير لهذا الأمر. مثل سرديات الفضيحة وآثارها في النيل من الناس ورغبة الأشخاص في التصديق. وهذه الجوانب محسومة لمن هو قادر على التصديق أو يتظاهر بالتصديق. مشكلة الفضائح أنه تخلق مضاداتها الاخلاقية، أي تعيد تدوير القيم لصالح ترويجها على أوسع نطاق. وهناك أسباب كثيرة تسمح لمتداولي السرديات ان يعتبرونها لونا من التسلية أو نقل الاخبار ليس أكثر.

" الأخلاقيات الباردة " هي المصطلح المُناسب في مثل هذه الحالة. أي عدم الاهتمام الأخلاقي بكون الفضائح تدمر القيم التي يعيش في ظلها افراد المجتمع. الفضائح تمر على العقول مرور الكرام، كما أنها تجد أفواهاً تمضغها طوال الوقت وتتقاذفها في مساحات جديدة. لا توجد فضائح من غير وجود مساحات تكتسبها بين الناس. الفضائح تعطل الاخلاق التي تقدر الآخرين وتحترم كيانهم. أن نمارس نحن دوراً في تداول الأخبار المشينة معناه أننا نضرب بالقيم عرض الحائط ضمنياً.

بناءً على ما سبق، تصبح الفضائح مادةً يوميةً تملأ الفراغ التداولي لدى الناس. ويصبح المجتمع بالنسبة لها مثل الأواني المستطرقة التي تتحرك فيها الفضائح بشكل سائل، لكونها تجد تشابها في المناطق والعقول والأفكار. لا فرقَ في هذا الاتجاه بين مثقف ومتعلم وجاهل وسياسي وخبير.. جميعهم يدمنون الفضائح والشائعات والديرتي نيوز dirty news. وتنتقل العقول من قدرتها على الفهم والاستدلال والنقد إلى عقول تقليدية في متصل واحد.

يصبح العقل خرقة، مجرد قطعة قماش مهترئة لا قيمة لها. بإمكاننا أن نلف بها ما يصلنا من قاذورات اجتماعية، ويأخذ العامة- رغم سمعة الكلمة السيئة- في الانشغال بالفضائح والاخبار الصفراء. ويقف دور العقل على مسح الطاولة المستديرة التي تسمى بالمجال العام من القاذورات. كل العقول في مجتمعاتنا تحاول أن تمرر ها كأن شيئاً لم يكن. أساليب التنظيف الذاتي نتيجة العجز عن التفكير وانسداد الأفق. درجة الاعتياد تُفقد الأفراد القدرة على التمييز والرفض.

" الهرش الديني" ظاهرة ثقافية نتيجة الحساسية الشديدة تجاه المختلف عقائدياً. إنه فعل مزدوج: إشعار الآخر الديني بعدم الرغبة في وجوده، أي يصبح كائناً غير مرغوب فيه. وكذلك: لست أنت بالنسبة إليه إلاّ شخصاً شاعراً بعدم الارتياح تجاهه، وأنك صاحب الحق مسبقاً دون مبرر في اقتحام وجوده وقتما تريد. وتعبير " فلان هارش فلاناً" يعني أنه يستبيح وجوده تفتيشاً في التفاصيل والدخول إلى ساحته بحثاً عن الفضائح أو الأشياء السيئة. وأنه يعرف خباياه وأسراره وآليات تعامله مع المحيط الذي يعيش فيه. وكأن الشخص محل الهرش شخص يخفي جوانب معيبة، وأن الناظر إليه يعلم ما لا يعلمه الآخرون وقد أحرز قصب السبق في هذا الاتجاه.

"الهرش الديني" ظاهرة شعبية تتغلغل في جزيئات الحياة اليومية. ويتشكل بكل التفاصيل المملة لحياة الناس في المجتمع. لنتخيل أنَّ شخصاً يهرش (أي يحك) رأس شخص آخر. ماذا سيشعر الآخر؟ بالتأكيد سينتابه الحنق والضيق من الأفعال الصبيانية. الافعال الطفولية والمتطفلة واللزجة واللصيقة بجسم الإنسان الآخر. ما الذي أعطى هذا الهارش حق التمحك في كيان الآخر؟ ولماذا يفعل هذا أصلاً؟ وهل فعل كهذا مبني على تصورات متطفلة أخرى أم لا؟ وإلى أي مدى يؤدي إلى نشر ثقافة الكراهية بين الناس؟ وما نتائج الفعل ورد الفعل على المدى البعيد؟!

الهوس بامتلاك الآخر، الهوس بمعرفة شئون الآخر، الهوس بالتفتيش في حياة الآخر، الهوس بمأكل ومشرب الآخر... هذه أمور فاقت كل الحدود، أمور لا تُطاق في مجتمعاتنا العربية. كأن الإنسان أصبح "مُلكاً مشاعاً " بين الناس. يأكل الناس وجوده ويمضغونه ثم يتفلونه ليجتره آخرون ... هكذا في دورات ثقافية واجتماعية لا تتوقف. ليأتِ السياسيون ويأخذونه "كعصف مأكول" بعد أن دهسته أرجل الأنظمة وهرسته تماماً. إن مجتمع الهرش الديني يخدم سياسات الأنظمة الاستبدادية خدمة فائقة... يؤسس للرداءة والنفاق ويبذر بذور الطائفية.

إنّ المجتمع متماسك من جهة الظواهر السلبية تماسكاً غريباً، بكلمات واضحة أن الظواهر السلبية تمرر لبعضها البعض المواد والموضوعات التي تحرك جوانبها القصوى. التكوين التاريخي- فيما يبدو - واحد للمجتمعات العربية سلباً وإيجاباً. إنّ مجتمعاتنا تجر سلبياتها بانتظام مريب، تحرك تفاهاتها بصورة منقطعة النظير. أدت " الأوهام المقدسة " دور الماكينات العملاقة التي تهضم الفضائح والسلبيات، الأيديولوجيات الدينية أوهام تبيح نشر الفضائح وتمارس العنف وتسمح بالرداءة طالما ظن أصحابها أنهم يعملون عملاً مقدساً.  والمقدس رغم الشعور بالمهابة الذي يلف أتباعه إلاَّ أنَّه وسيط يشعرهم كذلك بممارسة الأفعال التافهة. فالإنسان عندما يصل- فيما يزعم- إلى امتلاك اليقين، يصل إلى الاستهانة بأشياء أخرى. وقد يصل إلى مرحلة الانحطاط والسقوط الاخلاقي رغم أنّه لا يبرح مكانه. التناقض الشرس الذي يتغلغل في الكائن الإنساني بين الأقوال والأفعال ساعياً إلى تغطيته.

رأينا عياناً بياناً: كيف كانت قيادات الجماعات المتطرفة يتكلمون بفظاظة ويمعنون في احتقار المجتمع والفئات الأخرى. وكذلك فكرة الخلافة (كتوظيف لاهوتي مؤدلج) كانت تنظف كل جرائم الدواعش والجماعات البديلة من قتل وسبي وتدمير وانتهاك الاخلاقيات وتدمير المدن واغتيال البشر. بالمثل على المستوى الشعبي يمارس الناسُ التخلف والانحطاط باعتبارهما مقدسات في حياتهم العامة. بل يُرصعون هذه الأعمال بصور دينية مثل الشعارات والأقوال المأثورة رغم كونهم يسهمون في تخلف المجتمعات ...

لكن تبقى المسألةُ: من يعِي ذلك؟ ومن يفكر بشكل مختلفٍ؟!

***

حاوره: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1/10/2024م

خاص بالمثقف: الحلقة الحادية عشرة مع الدكتور سامي محمد عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (3)

س31: أ. مراد غريبي: في ظل موجات التقنيات المعاصرة وفلسفة الديجيتال وضمور هيمنة الوسيط الديني، هل قدم العالم الافتراضي أفكاراً فلسفيةً للفرد والمجتمع عربياً وإسلامياً، حتى يتغير جوهر الوعي والخطاب (الفكر) الدينيين نحو الأحسن إنسانياً؟

ج31: د. سامي عبد العال: لا يخْفى على أحدٍ أنَّ فلسفة الديجيتال اعطت فضاءً مفتوحاً للحريات. هناك "متنفس افتراضي" ليس محدُوداً بطبيعته، أقصد انفتاح طبيعة التقنيات الالكترونية، إذْ تخترق جميع الحواجز الممكنة.  في وجود التكنولوجيا، يستحيل أنْ تنغلق الحدود حول عقولنا ومعارفنا.  والقِدْرَ الفخّار (قِدْرَ الثقافة) الذي نظن أنه مُحكّم الاغلاق، إمَّا أنْ ينفجر أو يقتضي منفذاً للتنفيس والتهوية. وما أكثر (القُدُور الفخارية) التي نطهو خلالها أفكارنا على مواقد التقاليد والسلطة، معتقدين كامل اغلاقها بينما ستتحطم شئنا أم أبينا. وتلك المرحلة المفتوحة من العوالم الافتراضية أخطر مراحل وجودنا البشري أيّاً كان تاريخُه السابق. فهي المنافذ الضرورية لإنسان معاصرٍ باتَ غير قادر على الإنتظار.

تقول فلسفة الديجيتال: لم يعد الواقعُ واقعاً، بل غدا الواقع غير الواقع إلى حين اشعار آخر. غدا الواقع شاشات ومعلومات ونصوصاً وأسطح سمارت smart وصوراً ملموسة وأيقونات وعلامات متخيلة ولغات ايموجي Emoji (ابتسامات، لايكات، علامات غضب، اندهاش، مرح، دموع، امتعاض، ...). إنها رمزية مبتكرة، تعبر عن تطور مذهل في حركة الفكر والتواصل. لن يفلت منها خطابٌ في حياة المجتمعات الراهنة دون أن تترك داخله بصمات غائرة، إنْ لم تكن دافعةً لتشكيله من جديدٍ.

ما تركته الشاشات من آثار هو التحول العميق في تراث الرؤى والمعرفة والتصور. هو أيضاً أقصر تعبير بارز عن إنسانية الحياة. وإذا أردنا أن ترجع إلينا الإنسانية في شكل من الأشكال، فستكون في شكل العالم الافتراضي. عالم نحن صانعوه ونحن لاعبوه، نحن منتجوه ونحن مبدعوه، نحن الشاعرون بالامتلاء خلاله ونحن الذين نعطيه معانيه. لم يكن معهوداً أنْ تكون الصورة وسيطاً مكتملاً لرؤية الأشياء والعالم بهذا اللون الآدمي الحر. فما بالنا بكونها (أي الصورة) فاعلاً أصيلاً للواقع؟! اللقطة هي العمل، اللقطة هي المحرك، اللقطة هي الإنطباع، اللقطة هي المشاعر، اللقطة هي العلاقة التي تتداخل بيننا جميعاً، اللقطة هي الدعوة المفتوحة للقاء البشر.

دعوة تستحوذ على كامل وجودنا نحن البشر. لا توجد شاشات لامعة بعيدة عن الآخرين، هل الشاشة فردية المعنى؟ هل الشاشة ترفضُ خروجاً عن حيز الرؤية إلى شيء آخر؟ أليست الشاشة لحظة جمعية بالضرورة؟ أجل.. لقد سُميت بهذا الاسم (شاشة screen) لكونها مرئيةً، أي تحت كل العيون التي توجد في محيطها. وتحتمل أنْ تُوجد أمام الوجوه بأي زمان ومكان. وطبعاً ليست الشاشات مرئيةً من فرد خلال هذه اللحظة، لكنها أمام جميع العيون المحتملة إلى أقصى نقطة. لدينا شاشة إذن هناك راءٍ ومرئي، ناظر ومنظور، صور ومتصورات. ملايين، بل مليارات الانظار تتابع وتتوقف وتدقق وتعيد الرؤية مرات ومرات. هذا هو العالم التقني الخيالي الذي يجوب بنا الآفاق. ليس يُوجد غير ما يُرى بجميع تشكيلاته: هي التفاعلات عن كثب، وهي التوقعات التي لا تنتظر، وهي الأخيلة حين تكون دينامية وحين تُوضع الحقائق على أسنة العقول المتسائلة.

لو نتصور أننا دخلنا عالماً دون أدنى احتياج إلى شيء آخر، فهو عالم الديجيتال. دخول وتجوال بلا نهاية مختزلاً وجودنا كافةً. لقد تركنا كل المعاني هنالك، امتص آمالنا وجوهرنا وبتنا منه وهو منا. المَشاهد أنسجة حياتية متداخلة ومتشابكة. الالكترونيات هي نحن عاكسة جوهرنا. هل نتصور ما يحدث على صعيد كهذا؟ " أنت وأنا ونحن" ذاهبون من غير رغبة في الخروج ثانية، وتظل الصور عالقة بأذهاننا وقد شكلت الأفكار والحيوات التي نحياها.

استقبل الوضع العام للتقنيات الأديان بطريقة مغايرة. فالأديان اكتسبت سمات الوسائط الالكترونية. لا توجد وسيلة أخرى لأن تستقطب الأديان التكنولوجيا. والأخيرة دوماً عصية على الاحتواء، لأنها منشأ الثورات وتجاوز الحدود. أمام المعتقدات فقط أن تسكن عالم الافتراض، وبشروط هذا العالم ليس أكثر.  تجربة جديدة بالفعل. الدين – أي دين- كان يتمتع بمركزيته الخاصة، ثم كانت لديه تراتبية معينة لرجاله وكانت عنده طقوسه وشعائره وكانت لديه بيوت عبادته المكللة بالمهابة والمحوطة بالمحظورات.

كل ذلك في العالم الافتراضي غدا شيئاً آخر بصدد أساليب الاعتقاد وطرق التداول الذي هو أكبر مساحة من الأديان. وهنا يمكننا أن نلامس ما سيقدمه العالم الافتراضي:

أولاُ: أصبحت ساحة الأديان غيرَ مقتصرةٍ على أصحابها. فبإمكان" المتابع الافتراضي" حضور الحوارات والنقاشات وحتى الصراعات الدينية الخاصة والعامة.  وليس هذا فقط، بل سيكون حضورُه فاعلاً ومؤثراً على امتداد الخط. لم تعد الأديان مجموعةً من النحل المغلقة على أهلها. مثل العلوم المضنون بها على غير أهلها كما يقول المصطلح التراثي. هذا العصر انتهى تماماً، حيث اندثرت المعارف والاشياء المضنون بها. وقفت التقنيات ضد سياسات المضنون بها هذه. إن أفعال البخل المعرفي ليس لها مكان الآن. نحن في أزمنة الاعتقاد الزاخر بالمعاني تحت بصر الآخرين طوال الوقت.

ثانياً: أُضيف إلى الأديان التراكم المعلوماتي المذهل في الفضاء الديجيتال. فنتيجة الحوارات وتداول الرأسمال المعلوماتي informative capital، أصبحت قرارات البشر وتفاعلاتهم جزءاً من صورة الدين وهيكله. هي تضاف إلى انطولوجيا المعرفة الدينية شئنا أم أبينا. وهذه فكرة ربما تكون غير مستوعَبة للبعض، ولكنها مهمة لفهم تأثير الديجيتال على المعتقدات. لأن المتفاعلين لا يبدأن بتجارب شخصية، إنما بتجارب (بينية آخرية) إن صح التعبير. وكل ما هو بيني يظل قيد التداول وقابل للتصديق. وهذا جزء لا يتجزأ من رعاية الخطابات الدينية ورهان التفكير المشترك.

ثالثاً: تحول الدين من أدبيات وأصول إلى تدريب وأداء افتراضيين. وليس التدريب بمعنى القناعة التامة بما يؤمن البعض، لأن المناقشات والطقوس تأخذ شكل الأداء طوال الوقت، فالمنصات والمواقع تعطيك إمكانية المعاودة والتكرار والتخييل.. وهذا ما يجعل الاطلاع والتواجد لوناً من الأداء والجراء بجانب أن الدين أداء مثل إقامة الطقوس والشعائر.

رابعاً: انتقل الدين إلى مستوى مضاعف طقُوساً وفكراً وحركة. لأن الصورة ليست حاضرة لذاتها، هي حصاد عام لكل الممارسات والأفعال والمتابعات والتفاعلات الافتراضية. حتى أن اتباع الأديان يجدون هناك آثاراً على ما يعتقدون سلباً وايجاباً بفضل مرور العابرين، بفضل المتكلمين، بفضل المتجادلين، بفضل الممتعضين والغاضبين. المتابع أمسى جزءاً من انتاج الحقائق والآراء.

خامساً: المعرفة الدينية عمل انجازي، لأنّها صور وحوارات ومناقشات قيد التداول. الأفعال الافتراضية على بعد خطوةٍ من الانجاز وهو مصيرها المشترك. ليأتي المتابع مُرجحاً ما يعتقد ومطّلعاً بالوقت نفسه على كافة المعتقدات الأخرى. لا يبعده عن غيره من الناس أي شيء. كان الأفراد فيما مضى يستبعدون ما يكفرون به. ومن هنا جاء مصطلح الكفر: أن يغطي أحدهم ما يؤمن الآخر به، مثل الفلاح الذي يكفر البذرة في جوف التربة. ولكن مع العالم الافتراضي ليس هناك من وسيلة للكفر بمعناه المادي ولا بمعناه التقني. إن التربية الافتراضية التي تندس فيها المعتقدات المحجوبة " تربة إلكترونية " تفصح عما تضمر.

سادساً: غياب الوسيط الديني- كما تفضلتم أستاذ مراد غريبي- هو العلامة الفارقة. وهذا معناه أنَّ الأديان ستكون تجارب حرة، عائدة إلى اليمان الشخصي والاخلاص العميق للأفكار والمعتقدات. فالوسائط البشرية طوال تاريخ الأديان توظف الدين لقاء مصالح بعينها. وأن أعمالهم تدخل نطاق سياسات الاعتقاد بشكل أو آخر. أي يتم توظيف الجماهير خارج الايمان لصالح سلطة قائمة.

هذه المعطيات- وهنا اجابة السؤال- كانت مصدراً لأفكار فلسفية مهمة. ولكن قبل الاشارة إليها، علينا ذكر شيء جدير بالاعتبار أَلَاَ وهو أن الفلسفة ليست بالمعنى الأكاديمي ولا بالمعنى التجريدي. ولكنها فلسفة من نوع أكثر التحاماً بالوعي. الفلسفة الآن هي فلسفة وعي، وأن الأفكار التي تطرحها التقنيات الديجيتال في صميم المسألة الخاصة بحركة العقل وتحرره. وليس الوعي مثالياً ولا بيولوجياً، لكنه وعي كوني معرفي على قدر هائل من التساؤل والفهم والنقد..

كذلك تعدُّ الفلسفة لاعباً رئيساً – عبر العالم الافتراضي- لتحريك مضامين ثقافية واجتماعية راسبة في عقول الجماهير. وكلمة راسبة مقصودة بمعناها الاركيولوجي، لكونها نتاج تراكم من السنوات والعادات والتقاليد التي هيمنت على الوعي طوال عصور كثيرة.

إن أداء التقنيات هو أداء منتج ثقافياً من تلك الجهة، وبقدر ما يكون المتابع متفاعلاً، فقد اشتبك مع الأبعاد الثقافية المختلفة. الأداء الحادث هو أداء ثقافي يستهدف تغيير الخلفيات الثقافية التي تحاورت سلفاً مع الوعي. اللمسات الضوئية هي لمسات في أعماقنا قبل مداعبة الأسطح اللامعة المضيئة. لكون اللمسة تفيض بمزيد من الحركة وتطرح معلومات أكثر والأخطر أنها تلبي شغف الإنسان وتلهث أنامله وراء الأسئلة تلو الأسئلة.

الفكرة الأولى: كشف الحقائق: نحن نعرف أنَّ الحقيقة غاية التفلسف. فهي المحرك لمعرفة العالم والأشياء والإنسان. وهي كذلك وقود الإرادة الحرة للسعي نحو الحياة. وتباعاً هي الوازع الذي يقول للأحرار: ماذا أنتم فاعلون عند انغلاق الآفاق؟ وكيف تتجهون إلى الهدف إذا اظلمت اجواءُ الفكر؟ وبمجرد أن تصبح التقنيات الديجيتال باباً للمعرفة واتساع الآفاق، فقد أثارت حماسة المتابع وجوعه اللانهائي للمعرفة.

إنَّ الشجرة التي فقد آدم على إثرها النعيم كانت" شجرة المعرفة" كما وردَ في بعض الموروثات الدينية، ولكن شجرة التقنيات والحاسوب أعادته إلى جنة المعلومات مرة أخرى. هي قضمة التفاحة (آبل apple) التي جاءت رمزياً على منتجات أشهر الشركات الخاصة بإنتاج الأجهزة والوسائط والرقميات. ومازالت القضمة على الاجهزة الذكية تذكرنا إلى الآن بالموروثات الغائرة في وجود البشر. عصرنا عصر المعلومات الذي لم يعد عصراً لأنطولوجيا الماوراء، إن انطولوجيا المعلومات وتشكلها والقوانين التي انتجتها وكيفية تداولها... كلها أمور أكثر أهمية من ذي قبل. وإذا عرف الإنسانُ شيئاً، تطّلع إلى المزيد وتيقظ وعيّه وغدا أكثر قوةً. والفلسفة (كمهارة لفنون التساؤل والتفكير) تتخفى في أهاب المعرفة ككل. وإذا كان القارئ العربي يتحفظ إزاء الفلسفة، فستأتيه مع لمساته الضوئية. وهو شعوره بكونه باحثاً عن الحقيقة، رغم أنه لا يفعل شيئاً إلا ممارسة التصفح والاطلاع.

لقد عانى العرب مرضاً عضالاً ذات اعراض كثيرة (طوال تاريخهم القديم والحديث) هو: اخفاء الحقائق، عدم المساس بالحقائق، سياسات الحقائق، سلطة الحقائق، الانبطاح لانعدام الحقائق، الهروب من الحقائق، شعور العيب والخزي من الحقائق، الندم على قول الحقائق، الانكفاء على غياب الحقائق، التزام العزلة نتيجة كشف الحقائق، التنمر إزاء الحقائق، احساس العار من الحقائق، رهاب الحقائق، انتاج الحقائق، صناعة الحقائق، ضياع الحقائق، عدم أرشفة الحقائق، غياب متاحف الحقائق. كل ذلك أخذ اشكالا معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية ودوائر السلطة وأنظمة الحكم. أساسه أننا لا نرى، لا نسمع، لا نتكلم. شعوب بكماء وعمياء وطرشاء على قارعة الحياة. تحجرت الأقوال في العقول وخابت المساعي بين الضلوع وتنكست الآمال في القلوب وانكفأ الخيال على سطح الواقع التافه من الأشياء والأعمال.

وهو المرض العضال نفسه الذي تُبنى عليه سلطة رجال الدين لكونهم معتقدين أنهم وحدهم من يمتلك الحقائق ويتكلم بإسمها وهم من ينادى بها ويهوون على ظهور الناس بإسمها وأن الله قد اختصهم بالحقائق دون سواهم.  إن فكرة الحقيقة التي تحررت عن طريق المعلوماتية والذكاء الاصطناعي فكرة حيوية في هذا السياق. أصبح وعي الناس مثل برميل البارود ينتظر الانفجار في أية لحظة. لأن أصحاب السلطة (دينيا أو غيرها) لا يدركون أن الشاشات المضيئة تكفيها لمسات الأنامل كي تبوح بكل شيء. وأن القراءة الحرة هي القانون الكوني الجديد.. لا الحجب ولا المنع. العالم الافتراضي يتيح الانكشاف، اللاتحجب )الأليثيا aletheia) بمصطلح مارتن هيدجر. حيث يتجلى الخفي مع التاريخ وإن تم نسيانه في منعطفات الاحداث والحياة.

تحتاج المجتمعات العربية إلى كشف الحقائق بمعاول الأسئلة، إلى نزع الحجب. ليس التجهيل كلاماً فارغاً، لكنه واقع بالفعل، هو الهواء الذي يملأ فراغ العقول من الحقائق، الأوهام التي تعربد في جنبات الحياة، الأكاذيب التي تنتفخ بها الأخبار المتداولة، المخاوف التي تتضخم كلما اقترب الناس من التأثير والحركة إزاء سلطات غاشمة، الخطابات الهوجاء التي تلتهم عقول الأفراد والجماعات. والكارثة أنه تم بناء سياسات وبرامج وأفكار على هذا الفراغ. وليس منتظراً إلاّ أن تنهار الأبنية فوق رؤوس أصحابها. وهذا ما يحدث بالفعل من حين لآخر من غير أية تساؤلات حول الحقائق ولا كيف يمكن البحث عنها.

كل خبث للواقع يتطلب أساليب مختلفة لكشف الحقيقة. ليس أكثر من إتاحة الفرص للجماهير أنْ تعرف وتدرك وتحاول وتطلع بنفسها. أي تعاين وتنقب من غير قُوى تحذف أو تُنتج الواقع. فلسفة الديجيتال ترسخ هذا العمل الدؤوب لإيقاظ الشعوب، لإزالة التراب عن الرؤى، إن سياسات الدفن (إكرام الميت دفنه) لم تعد تجدي في المجتمعات، بل إن اكرام الميت هو كشف حقيقته، إكرام الحقائق تحليل غموضها وتعرية وجودها المغيّب.

الفكرة الثانية: العقلانية الافتراضية أي القدرات والمهارات العقلية وأساليب الفهم والتثقيف التي توجد اتساقاً مع قدرات الذكاء الاصطناعي. وليس هذا فقط، بل أن تكون القدرات لديها إمكانية الابداع والتطور، لأنَّ الذكاء الاصطناعي محاكاة للعقل البشري، بينما عقلنا البشري ذاته لديه قدرات أخرى لم تُكتشف بعد.

تراهن الأنظمة الديكتاتورية على ضعف التفكير المنطقي لدى القطاع الأكبر من المجتمعات العربية، وتحرض على نشر "الفوضى الفكرية"، حتى باتت العشوائية طريقاً للفهم والتفكير. ومن ثمَّ، ظهرت أمثلة شعبية مثل: "اللي يفهم يدوخ"، " اللي يفكر يشيل الهم" كدلالة على المتاعب والمشكلات. لأن الحياة العمومية قائمة على التخبط. إذا وعت الجماهير ألاعيب الأنظمة، لكانت هناك حركات تحررية أو على الأقل لانتشر وعي ثوري تحت الرماد.

مع العالم الافتراضي، يمتلك الإنسان العربي أكبر عملية تلق لمنطق عقلاني ينتظم إجراءات وتفاعلات قائمة على كد الذهن والاستدلال وضبط الاجراءات والمشاركة. إنه المنطق العام الذي ينظم استعمال المنصات والمواقع ووسائل التواصل الالكترونية والتواجُد خلالها. ويدخل في الإطار أساليب الحوار المنطقي وطرح الحجج وتفنيد الآراء وقياس الأدلة وتحديد المعاني.

غدا الفرد صاحب مكانة مقدرة، لأنه يلتزم بمنطق أشبه بالعقد الفكري intellectual contract بين الذكاء الاصطناعي والمتابع. أي عليه أن يستعمل خطوات قائمة على التفكير الإجرائي وأن يبذل قصارى جهده ويشعل شغفه ويمارس حريته. ولم يكن ذلك متاحاً إلا مع التقنيات الديجيتال وأساليب عملها. ففي الواقع لا يفتقد الفرد أهميته، بل هو مجرد ترس في " آلة استهلاك" لا تنتهي دوراتُها ويشعر بالانسحاق التام. النزعة الفردية الحقيقية في عالمنا العربي مصيرها الفشل التام، لكونها ذاهبة إلى خانات التصنيف الثقافي المُعد سلفاً مثل: التمرد والخروج على التقاليد والجنون وشق عصا الطاعة. كل من يحاول أن يتفرد، أي يشعر بفرادته وهما (التفرد والفرادة) كجذرين للإبداع والتميز، سيجد تصنيفاً ممقوتا في انتظاره. لأن الفردية عقاب رمزي بموجب انعزاله عن القطيع، إذن لا بد من "سوط اجتماعي" يلهب ظهره طوال الوقت.

أما على صعيد التأثير في المجتمع، فالتقنيات طورت طرائق التواصل وسهلت الانجاز وكانت وسائط عملية بين الجماهير. وقللت من مركزية الهيمنة التي تمتعت بها الأنظمة السائدة. فالأنظمة تتحكم في التواصل والتفاعل بين شرائح المجتمع. وكانت مراقبة التواصل بين الناس من أدوات السيطرة.  واحتكرت المجال العام وليس هناك من يستطع أن يقدم شيئاً ذا بال بخلاف القنوات المسماة بالرسمية.

تركت العقلانية الافتراضية أثراً في تفتح العقول وتثقيف الأفراد ورفعت الجوانب الجمالية والذوقية للمجتمعات. ولذلك تبدو التقنيات أشياء ضرورية في فهم الحياة والعالم من حولنا. لأن أجهزة الموبايل ليست أدوات محايدة، لكنها تنقل إلينا حيوات أخرى. والأخيرة لها قيمها وأفكارها الحيوية. ومعنى أن توجد الاجهزة في ثقافات أقل تطوراً أنها كذلك تمثل وسائط للتطوير والمقارنة وكشف المشكلات.

الفكرة الثالثة: الفعل الجمعي: قبل انتشار التقنيات الديجيتال، لم يكن متصوراً وجود أداة هي وسيط التواصل، وفوق ذلك تعد وسيطاً للقاء كوني يومي بل خلال كل ثانية. إن فكرة" On air " ليست فعل المباشرة فقط، لكنها الاشتراك والتلقي والتزامن والانتظار والاتفاق والتحقُق. إطلاق الآمال الحرة للاشتراك في الفعل ومحاولة انجازه. وليس أوقع على ذلك من تقنية zoom التي هي أيضاً فضاء اختصر الزمان والمكان وتغلب على يوميات الوباء أثناء الكوفيد 19، حيث تحولت الحياة إلى on line في كافة المجالات.

كانت الوسائط وعداً بالأفعال الجمعية. ولكن: منْ يعي ذلك على وجه الدقة؟ هم رجال السياسة خوفاً على مقاعدهم فوق أدمغة الشعوب. السياسيون يعرفون من أين يأتي الخطر الحقيقي، غريزة الافتراس موجودة في كافة تفاصيل وجودهم؟ وظهر ذلك (الفعل ورد الفعل) جلياً خلال أحداث الربيع. حتى أنه يمكننا تسمية الأحداث بأحداث العالم الافتراضي.

استناداً إلى الفعل، كان الوعد بالأفعال الثورية على أشده وبات متحققاً. كان المتابعون الافتراضيون هم الثوار والناشطين الديجيتال بالوقت نفسه. وبات الوسيط منعدماً، بات شفافاً وحمل الواقع ورسم صور الأحداث ومثل تواجداً مكثفاً لمعاني التغير. بل أكثر من هذا، حيث كان الإعداد والآفاق تتم عبر الشاشات المضيئة.

وإستناداً إلى النتائج (رد الفعل)، كانت الأحداث تُوجد بقدر امتدادها وقابليتها للمتابعة. ولذلك حاولت السلطات تحجيم ردود الأفعال ووجهت الاخبار إلى اتجاه آخر وباتت أرض الصراع هي تويتر وفيسبوك ومنصات التغطية والمعادلات بين القوى الاقليمية والدولية. وليس هذا وحسب، بل كان الفعل الجمعي فكرة محتفظة بصلاحيتها خلال أية مرحلة من المراحل. وبخاصة أننا نحن العرب لدينا خلل في الفعل العام، إذ يخاف الناس خوفاً لا حدود له من تلك الدائرة، نظراً للميراث الصعب الذي أثقل كاهل المتابعين. كما أنَّ الثقافة المتداولة تحرم الخروج على النظام بمعناه السياسي والاجتماعي وتثبت العادات أدمغة الأفراد.  فالعقل دائماً يوجد في الرأس ليعرف الإنسان طريق خلاصه كما يُقال شعبياً (اللي عقله في راسه يعرف خلاصه).

الفكرة الرابعة: انتاج المعنى: يلتصق الانسان بالوسائط الالكترونية لأنه يستمد منها المعنى. الموضوعات والشخصيات والنصوص المرئية والمسموعة والأشكال المطلّع عليها هي موضوعات معنى، أي تركز على توافر الجوانب الرمزية والتأويلية.

ونظراً لأنَّ المشاهد والأفلام والفيديوهات تحمل صور الحياة، فالمتابع سيتأثر بها إزاء اختياراته الاجتماعية الخاصة. فلئن كان يريد شراء شيء، فستظل المقارنة فاعلة في الخلفية بين ما شاهده وما يريد الحصول عله. ويلعب المعنى هذا الدور، بل وستبدو المفارقات مفارقات معنى أيضاً. مما يشير إلى أن ما يمارسه المتابع الافتراضي من متابعات سيندمج في رؤى حياته ويشكل تصوراته نحو العالم.

لا تستطيع الاجيال الجديدة التخلي عن الاجهزة الالكترونية، بل وتستطيع هذه الاجيال متابعة الجديد باستمرار. ورغم وجود منْ يعلل ذلك بأنها أجيال في مقتبل العمر إلا أن وجود المعاني أمر مفهوم. ولاسيما مع الأحوال والظروف غير المواتية في مجتمعاتنا.  كل موقع وكل وسيط تواصلي هو منبع للحصول على المعاني هنا أو هناك. إنها أشياء تُشبع رغبة الأفراد في التواجد على الأسطح اللامعة البراقة. وكذلك تطرح جوانب الواقع بشكل ضمني أمام أعينهم.

يتلقى الافراد في عالمنا العربي يومياً ملايين الرسائل الديجيتال (المضمرة أو الواضحة) بكون حياتنا جديرة بأن تكون أفضل. وهو أمر غيّر المفاهيم والقناعات والأفكار لديهم. أقل متابع - في جوف القرى والأرياف - بإمكانه أن يقرأ نصاً أو يرى فيديو أو يتابع نقاشاً وهو على أهبة الاستعداد للتفاعل واستنباط المضامين الإنسانية. وبإمكانه أن يتألم ويضحك ويكتئب ويدعم حقوق الإنسان أيا كان هذا الانسان. إن ما تفعله الوسائط يعد أسطورة تواصلية بملء الكلمة، إنها خطوة بارزة لم تدركها الإنسانية من قبل.

وهو ما سيترك مسئولية غير قليلة على مجتمعاتنا العربية بصدد فتح المجالات أمام الشعوب وتغيير نمط الوعي الغالب. هذا الوعي المتأخر سنوات عما يشهده العالم من تطورات وأحداث وتيارات فكرية. وبناء استراتيجية تعتمد على الوعي اليقظ والمنفتح لكل ما هو جديد.

الفكرة الخامسة: اختلاف الخطاب الفكري: أتصور أن الأثر البعيد للعالم الافتراضي أنه أسقط - بصورة غير معلنة- دعوات التجديد للخطابات الدينية وغيرها. كانت تلك الدعوات فيما مضى عبارة عن مناشدات وإلقاء لكلمات على نواصي الإعلام والأخبار المتداولة وكانت من قبيل الوجاهة الفكرية. وكان رد فعل المؤسسات الرسمية التمنع واشعارنا بالمهابة عبر الطقوس السياسية والمعرفية.

لكن الآن في مجتمعاتنا العربية، أصبح الفاعلون- شباباً أم غيرهم- على علم تام بالتطورات الفكرية والثقافية ولم يعد هناك شيءٌ خفي. أخذت الوسائط تنقل صور الجديد والاختلاف في بقاع العالم، فليس منطقياً أن نقف عند مناشدات كسولة لتحريك المياه الراكدة؟!

في هذا الإطار، فعلّت وسائط الديجيتال عدة نقاط لم تكن موجودة من قبل:

ألغت سلطة التجديد: لقد هدمت الوسائط هذا الجانب القريب. إذ اخبرتنا مع الاستعمال: أنّه لا توجد سلطة لتجديد الفكر أو لتجديد الخطاب الديني كما يُسمى. فكرة الانعزال التي تخلق تسلطاً غير موجودة. كان المجتمع ينتظر سنوات وسنوات إزاء ركود الأفكار كي تتحرك السلطة القائمة لتفعيل الأوضاع إلى حد ما. وكان الاغلب أن السلطة تهمش فكرة التجديد وتظل تماطل حتى الرمق الأخير. لأن تجديداً للخطاب الفكري سيجر معه تجديدات أخرى السلطة في غنى عنها!!

وغرست الوسائط أفكاراً جديدةً في صلب العقول على نطاقٍ ليس بالقليل.  على سبيل التوضيح: عبارة " الفئة المستهدفة" التي طال تكرارها في أدبيات الاجتماع والدين والفكر، باتت غير ذات معنى. لأن المجتمع – كل المجتمع- هو المستهدف من التطوير، وهو المعنّي بالحوار والنقاش والجدال حول قضايا الدين والتنوع الفكري. في الوقت نفسه، لم تعد ثمة سلطة تمنع أو تسمح بكذا وكذا. هذه الممارسات السلطوية غدت بهلوانية وأقرب إلى أجواء السيرك منها إلى الواقع الافتراضي.

وسّعت القاعدة: لم تعد الأفكار الجديدة حكرّاً على أصحاب السلطة والأكاديميين ومنظري الأديان. ألغيت مراسم الكهنوت القابع في أضابير العقائد والأديان. وهذا معنى عميق لن يدركه إلاَّ من اكتوى بنار الكهنوت الذي غدا جزءاً من الثقافات المتداولة. لا شيء غير الكهنوت هنالك في المجتمعات التي لا تعي ما جوهر الإنسان.

أخطر كهنوت هو ذلك الذي يتقمص الناس العاديين، فإذا بهؤلاء العاديين ينصّبون من أنفسهم سلطةً بارزةً زاعمين ضرورة إرجاع الأمر إلى أهله. أي ارجاع أمر التجديد والأبعاد المبتكرة إلى أصحاب السلطة مرةً أخرى. وهذا في الحقيقة استمراء لوضع شاذ: أن الناس نتيجة ميراث القهر والتسلط اعتادوا الاستعباد والاستغفال، فلا يريدون مبارحة دور المقموع، دور المقهور. وقد تنازلوا عن حريتهم لصالح فئة متسلطة – في مجالات مختلفة- بدواعي عدم التخصص أو أن الموضوع ينفرد به آخرون هم أعلم وأحق بالتكلم فيه. إن أكبر خدعة هو فكرة التخصص، إذ باتت كورقة التوت التي لا تغطي شيئاً.

يشد العالم الافتراضي أوتار هذا الفضاء الرخو لصالح الحريات والتفاعل والمشاركة. إنه – كما أطلقت عليه في غير مقال- "العراء الافتراضي"1 الذي سيتعرض فيها الناس للوخز المستمر وللعواصف المزلزلة. وهو في المستقبل المنظور سيكون في خدمة المجتمعات بصدد هذه القضايا الشائكة كما حدث في مواقف كثيرة.

طرح المغاير والبدائل المبتكرة: ليست هناك أفكار تقليدية في العالم الافتراضي. ما يبقى هو الجديد والغريب والمدهش والجدير بالاستمرارية طالما يجيد التعبير عن نفسه. ببساطة لأنّ العالم الافتراضي هدم أصنام القطيع وخرق فكرة الاجماع وأفشل ثقافة السمع والطاعة.

وحتى القضايا التي تمس الايمان، فهي نتيجة القناعة والإخلاص الشخصي لا التماثل الجماعي دون وعي. لقد تغير الواقع بلا رجعة. ومشكلة كل كهنوت بعناوينه هنا أو هناك: أنه لا يعي ماذا حدث بالضبط؟ هو متجمد عند رسوم شكلية وآلية تفصله عن الحياة، بينما الأشياء تتغير وتواصل سيرورتها. ويحتاج الكهنوت إلى سنوات ضوئية، حتى يدرك أنه هو ذاته حاجز أمام الرؤية، إنه العماء بعينه.

تعميم النتائج: في اللحظة المتفاعل فيها الناس مع قضايا دينية أو سياسية تنتشر من فورها، تصل النتائج إلى مستحقيها. لم تعد هناك وسائل اعلام محتكرة عند سلطة ما.  إن ما يقال حاليا عن وسائل اعلام جماهيري والاعلان عن نتائج السياسات والاقتصاد أمور تجاوزها الزمن، هي من نتاج الماضي ليست أكثر.

الأدق أيضاً أن التفكير والمشاركات وأُطر التجديد أشياء من نتاج المتفاعلين والمتابعين. هم الذين يصنعون المحتوى بلغة الوسائط التواصلية. فلو كان ثمة موضوع محل نقاش، فالمتفاعلين - بحسب ثقافتهم - يدلون فيه بدلوهم. وقد يطرح أحدهم فكراً مستنبيراً ويصبح أكثر نجاعة من المتخصص. ولاسيما أن توسيع القاعدة (على طريقة النقطة السابقة) محاولة مجدية في معالجة المشكلات وطرح الحلول.

النقد المتواصل: ألغت الوسائط التواصلية فكرة الثبات التي تتغنى بها الايديولوجيات والسياسات المتسلطة. لأنها ألغت ابتداء أحادية المصدر. هناك مصادر الكترونية لا تعد ولا تحصى لكل الموضوعات المطروحة.

وليس يوجد هناك أكثر من تجارب حرة تعتصر العقول بحثاً عن الأفضل. كما أن خبرات المتفاعلين نتيجة تنوع الاطلاع والرؤى قد أعطت مجالات التداول أبعاداً مدهشة. فالفكرة المطروحة اليوم – بل هذه اللحظة- قد تتغير إلى الأحسن وتنحاز إلى الإنسان طالما نجد فكرة أخرى أكثر إنسانية. وهكذا يعرفنا العالم الافتراضي أن الأولوية للتطور لا التوقف عن التفكير وأن دوام الحال من المحال.

الفكرة السادسة: الإنسانية الحرة: تصب العوالم الافتراضية في محاولة انشاء انسانية حرة مواكبةً لزمنها المتغير. وبالتأكيد نحن نشهد آفاقاً أخرى لم نعرف تبعاتها بعدُ، رغم كل ما قيل سلفاً من جوانب. الحرية لم تعد ترفاً، وأن انسانيتنا المشتركة ليست تافهة. فعلى أساسها، نحن نعيش وعلى منتهاها نحن سنموت. أنت هو كل ما تعنيه بالنسبة إلى نفسك من الجانب الإنساني.  والآخر كذلك سيكون تجاهك هو ما يعنيك إنسانياً. والأديان والسياسة والاجتماع والفلسفات تشيّد هذه الجوانب الانسانية.

أقول ذلك صراحة عند نقطة المرور بين واقعنا العربي والعالم من حولنا. لقد خُلقت حواجز غير مرئية- ولكنها قوية- تجاه العالم. ومن أسف أنها ليست طارئة، بل حواجز معقدة وقائمة على أصول موروثة وعلى قناعات موثقة داخل بنية الأفكار والمجتمعات. ذلك أننا لم نتوصل إلى إنسانية حرة تشعر كل إنسان بقدرته على الحياة اللائقة. والانسانية الحرة أمل داخل البشر بما هم كذلك. وأن العدالة والكرامة والمساواة والحرية سمات جوهرية لا مجرد ظروف طارئة تنتظر الانجاز أو التأخير. منذ اليوم الأول لسكُنى آدم الأرض لم يكن أمامه إلا البحث عن الحياة الحرة. فليفعل ما يشاء، وليمارس ما يشاء، وليعمل ما يشاء، ولكنه في النهاية سيكون مسئولاً. والمسئولية لا تلغي الحرية، بل تحقق ما تريده بشكل إنساني (أو هكذا يُفترض).

ربما هذا هو سبب مخاوف الأنظمة الحاكمة: أنْ تعي الشعوب مستجدات الإنسانية وحقوقها الأساسية. ولذلك وُضعت وسائط التواصل تحت الارتياب والشكوك الدائمة. لأن منجزات الانسانية تسبب العدوى مثلها مثل الامراض. وعبارة " لماذا تخلفنا نحن المسلمون وتقدم غيرُنا " كما يقول شكيب أرسلان في العصر الحديث، عبارة ناتجة عن عدوى الحضارة. والوسائط الالكترونية هي الفضاءات التي خلقت "بيئة ثقافية " مناسبة جداً للعدوى الصحية. ومن ثم لا نريد- أي كلُّ المعنيين بقضايا التقنيات الديجيتال- تسميم الأجواء، حتى تكون عدوى سيئة، لعلّنا نشعر بأنين الانسان تحت قيود واكراهات لا تنتهي.

س32: أ. مراد غريبي: أستسمحكم هنا دكتور سامي، سؤال هام جداً، ماذا عن انطولوجيا التسامح – قبل الحب طبعاً- في أدبيات الكونتونات المذهبية الإسلامية؟

ج32: د. سامي عبد العال: هذا سؤال طريف من قبلكم صديقي الأستاذ مراد غريبي. لأنه يستعمل معنى مشتقاً من التسامح في طلب الاجابة (استسمحكم)، أي يعطي القارئ خيطاً ليبادر إلى الحضور والتفاعل مع الحوار. فكما نريد أنْ نحدد المعنى، من الأفضل أن يكون الكلام مؤدياً إلى هدفٍ. فكأنَّ السؤال يقول: ليكن لدينا سماحٌ بما نريد معرفته وأن نتتبع الاحتمال تجاه ما لا نعرفه. كما أنه استفهام يطلب الكشف عن وجود (التسامح)– كجانب انساني- في جيتوهات المذاهب الدينية. وهو تناقض في الحدود: المذهب يتسامح.. كيف ذلك؟!! هل ثمة مذاهب تتسامح حتى مع نفسها واتباعها؟! ولكنه تناقض ضروري يكشف كمْ أنَّ التسامح مهم في تحديد المواقف منه وتفهُم طبيعته.

إنَّ معنى الوجود بصدد قيمة التسامح هو انطولوجيا تتسع لموضوع السؤال. والانطولوجيا كلمة دقيقة في هذا السياق. وبحكم أنَّ التسامح أمرٌ مبذول بناءًا على جهد الانسان، فلا بد أنْ يتسع أو يضيق، ينحسر أو يفيض، أي يجسدُ عمليات من المد والجزر. فضلا عن خضوعه لمقولات القوة والضعف، الحقيقة والزيف، التجاوز والمقاومة. فالتسامح ذو طابع بشري بمقدار طاقة الإنسان وقدراته.

الملاحظات السابقة تُهيء مساحة الاجابة الممكنة من بين إجابات عديدة. فالأسئلة الحقيقية هي أحد أساليب التدرُب على القادم. وأن نسأل سؤالا حقيقياً يعني أنْ نبحث جدياً عما يهمنا. التسامح هو شغل الانسان الشاغل إزاء واقع لا يعبأ بوجوده. وهو فعل يوجد لدينا بأكثر من مستوى، حيث يتبلور كل تسامح محتمل. ولذلك فإن شرح المستويات التالية يستند إلى تعبير "انطولوجيا التسامح" الوارد بالسؤال.  وهو ما سنعرفه حالاً.

مستوى الوجود: التسامح هو (تحمُل) الوجود الخاص بكائن ما، أي ضرب من الحضور معاً: الأنا – الآخر، الأنا - الشيء، الأنا- الكائنات. وترد كلمة الأنا هنا، لأن التسامح يأتي نتيجة حضور الإنسان مع أقرانه وعالمه. الأنا هو الذي يتخذ موقفاً حتى لو كان الآخر هناك بالنسبة لنا أو لغيرنا. إذن احتمال التسامح لا دخل كبير للإنسان فيه، إنما هو " كائن متسامح" بهذا الطرح تحت الحاجة. فلا مفر لوجوده مع وجود الآخرين. متى يمكن أنْ ينعزل الانسان عن وجود الآخرين تماماً؟! إن هذا المفهوم يتعين بين الناس بعضهم البعض. إذْ عن طريق الكينونة، يعد التسامحُ "وجُوداً مع..". وليضع القارئ بعد كلمة " مع " كافة الموجودات والكائنات بشراً وغير بشر. إن وجودك هو التسامح طالما تقدر على المجاورة وعلاقة التواجد.

مستوى كهذا هو أقل معاني التسامح. فهو مرتهن بالتواجد والتجاور ويعبر عن معانٍ زمانيةٍ ومكانية. انطولوجيا التسامح هاهنا متماهية مع دلالة الوجود الإنساني. وكل المجتمعات تمتلك انطولوجيا للتسامح قائمة على شبكة العلاقات والفعاليات بين أفرادها. ولكن قد لا يمتلكون وعياً كافياً لجعلها لحمة حية في حياتهم المشتركة. إن المجتمعات تواصل حياتها بقدر ما يوجد تسامح بين عناصرها.

ولذلك كانت " الكونتونات المذهبية الاسلامية" عاملة على استئصال هذا التسامح. فالمذهب لون من التمييز داخل الدين فما بالنا بموقفه من الآخر خارج الدين. وكل مذهب يؤكد الانعزال عن أصحاب المذاهب المغايرة. أي قطع الروابط الوجودية لأتباعها عن الناس جميعاً. هناك في الأدبيات المذهبية أن يتم تذكير أصحابها بالتقاليد والتعاليم المعمول بها تجاه الأغيار. وهذا معناه ببساطة أنْ ينغلق معتنقو المذهب على وجودهم الخاص تمايزاً واختلافاً. هو ما يُعرف بـ"النظرة الديموجرافية" للمذاهب، هناك في بعض المجتمعات (المتسمة بدرجات أدنى من الاندماج بين المواطنين ) فرز مذهبي. وهذا ما رأيناه ضمن دول عربية ليست بالقليلة. يسعى المذهب الغالب في البلاد إلى زحزحة أتباع المذاهب الأخرى على أطرافها.

وثمة صراعات غير معلنة بين المذهب الغالب والمذاهب الهامشية، واحيانا لا تأخذ المذاهب بصور التعايش في بلد واحد. وإذا كانت هناك حالات استثنائية، فسيعيش الناس نوعا من القلق فيما بينهم. وسيظل أصحاب المذاهب تحت نظر السلطة المذهبية القائمة طوال الوقت.

مستوى الاعتراف: يأخذ التسامح صيغة الاعتراف بالآخر والغير. وهو الخطوة الأولى التي يجب للإنسان اعلانها عن طريق التعايش والعلاقات الإنسانية مع الآخرين. وهي فكرة متقدمة في الفلسفة المعاصرة عند نانسي فريزر وأكسيل هونيث وسيلا بن حبيب. فكافة الانشطة الاجتماعية والسياسية مرتبطة بالإعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات. وصحيح أن المجتمعات المتماسكة لا تشوبها نزعة فردية ولا جماعاتية (من الجماعات)، غير أن الاعتراف يأخذ شكل الفضاء العمومي دون تفرقة.

تنص القوانين والدساتير والآليات السياسية في الدول على الاعتراف بجميع مكونات المجتمع، وأن هناك حقوقاً للجميع. والاعتراف من زاوية كهذه أحد الحقوق التي يتمتع بها الأفراد. حيث ممارسة طقوسهم وشعائرهم وعلاقاتهم العامة.

الإعتراف هو قوة التسامح حين يضع أطرافه في مستوى متواز، لا تباين ولا تناقض لطرف على حساب طرف آخر ولا هناك مركزية لجماعة بخلاف سواها. الكل تحت الإعتراف متساو بحكم أنهم كذلك تحت مظلة القانون. والقانون موضوعي ابتداءًا، ولا يصلح أي قانون لا يكون موضوعياً. بل سيفشل المجتمع لو كانت ثمة قوانين غير موضوعية. والقانون في دلالة التسامح هو طاقة احتمال الآخرين مهما كانوا مختلفين اعتقاداً واجتماعاً وسياسةً واقتصاداً.

بالقطع لم تصل المذاهب الاسلامية إلى تلك المرحلة من الاعتراف إلا تحت شروط. أي وضع المخالفين في الدين تحت أوضاع معينة (مثل الجزية وعلامات مميزة ومناطق سكنى معينة). وهذا كان حال بعض المسلمين عندما وضعوا أصحاب الأديان تحت علامة استفهام لا اعتراف. والاعتراف تم بناء على مركزية الثقافة الاسلامية. وأنا مدرك أن تلك كانت ممارسات ثقافية تستريب من المعتقدات المخالفة. ولكنها استمرت بعد أن تمكّن المسلمون من اقامة أنظمة اجتماعية سياسية. والمذاهب – بدرجات متفاوتة- ترجمة خاصة لهذه الفكرة.

كما أن المذهبية الدينية تناقض مبدأ الاعتراف. لأن الاعتراف قانوني بينما المذهب ديني سياسي. وليس سهلا اعتراف نظام بجميع اختلافات عناصره من غير أمر ملزم. والأمر الملزم في المذهب هو مبادئ ونصوص الدين القطعية. وهذه النصوص بدورها غير ملزمة لمخالفي الدين. ومن هنا يشعر أصحاب الدين أنهم غير ملزمين تجاه مخالفيهم. وهذا أحد أشكال التحلل من المسئولية بالتبادل: طالما أنتم (المخالفون دينيا) لا تلتزمون بمرجعيتنا (الدينية) فلا نلتزم بالاعتراف بكم.

مستوى الفكر: لا يسير التسامح في المجتمعات هكذا بلا فكر. كل تسامح يحتاج إلى محيط من الأفكار المنفتحة. يتطلب منا اليقظة العقلية حتى لا ينعكس إلى نقيضه بين يوم وليلة. يجب التعامل الحذر مع الآخرين الذين يريدون حياة إنسانية كريمة. لأن المواقف التسامحية تستند إلى مرونة عقلية ليست بالقليلة. فالتسامح برأي كانط أسوأ مصطلح، لكونه قائماً على العنف. لأننا لكي نتسامح، نفرض على الآخرين وجودنا غير المرغوب ونقول لهم نحن نتسامح معكم.

لا يكفي ترديد أن الأديان متسامحة، وأن المذاهب تأخذ بما هو موجود من روح إنسانية وأخلاقية عالية بين البشر. هذا كلام هُراء.. لابد للتسامح من فكر حر، فكر انساني. فالتسامح الذي يتم باسم المذاهب والأديان هو تسامح تحت التهديد، تحت التوقيف، تحت الطلب. باختصار لا يعد هذا اللون تسامحاً لكنه تجارب لإخضاع البشر انتظاراً لترويضهم وإطلاقهم في أقفاص الفضاء العام. كل تسامح داخل هذه الاقفاص لعبة سياسية ولو بمسميات أخرى. نوع من الفرجة التي تندهش من سلوكيات البشر حين يؤدون ألعاب حياتية على أنغام الاحتياج والرعب من أصحاب الهيمنة والكهنوت.

ولذلك ثمة وعد مرتبط بالتسامح حتى لا يكون قهراً وارغاماً على " ما أريده أنا ولكنه بواسطة إرادتك أنت".. الوعد هو انفتاح الفكر وتحرر البشر من سطوة السلطة بأنواعها. لا مجال للتسامح من غير فكر حر يطلق سراح الالسنة والافكار ويجعل الناس شاعرين بوجودهم والتمتع بالاستقلال وبكافة الحقوق غير منقوصة. ماذا يفيد لو أطلقت سراح عصفور في قفص؟ سيتقافز، وقد يطلق أصواته الجميلة، لكنه يخدع نفسه: إنه مازال في القفص!!

هكذا هو التسامح الديني أو المذهبي حين يتلون بألوان السياسة. والمذاهب الدينية هي سياسات الأديان، حتى ولو لم يكن ذلك أمراً ظاهراً. فقد فُصلت المذاهب على خريطة المجموعات البشرية التي تدين بدين معين. في محاولة لاسترداد إرادة البشر تحت غطاء الدين وأن تكون أفعالهم مقننة وفقاً لمعايير لا يمتلكونها ولا يستطيعون الوعي بها وعياً حراً. وهنا الخطورة الكبيرة: أن المذاهب غدت عبئاً على المجتمعات، بل على الدين نفسه. إن المذاهب المسيسة باتت فأساً في كثير من الاحيان لضرب الاسلام. ماذا حدث في العراق بالأمس القريب بين السنة والشيعة؟ ما مقدار الحساسيات بين طوائف المسلمين في الشام؟ ماذا جرى بين أتباع الدين الواحد في اليمن على خلفية الحوثية والنعرات الطائفية؟ ... وفي غيرها من المجتمعات العربية والاسلامية، هناك نار تتأجج تحت الرماد... أين الفكر الانساني الذي يلّين ويعقلن الصراعات إلى لون من التعايش والتسامح والحرية؟!

مستوى الاختلاف: التسامح قائم على الاختلاف لا على التماثل، على التناقض لا على التطابق، على التمايز لا على التوافق. ثمة فكرة خاطئة أن المتسامحين لابد أن يكونوا متوافقين في كل شيء. وقد يندفع القائم بالتسامح طالباً من المتسامح معهم التماثل والتطابق في المواقف والقناعات... وهذا خطأ قاتل لكل تسامح!!

التسامح هو أن تقدر وتبذل كل طاقتك لقبول الاختلافات الحدية أو غيرها مع (أو لدى)  الآخرين. الفكرة قائمة على السماح لهؤلاء المختلفين بالتواجد والظهور بكل تناقضات وجودهم دون أن تبدي امتعاضاً أو كراهية وانعزالاً أو تجنباً. أي وجود حر لكل ما يتعلق بالآخرين مهما كان وضعهم دينياً وفكرياً ومعرفياً واجتماعياً. إن التسامح أكبر مفارقة إنسانية مفيدة في حياتنا المشتركة: أن لا تتفق مع الآخرين ومع ذلك تقبل بوجودهم عن كامل حرية. لا يجدي الكلام المعسول ولا ايراد نصوص مذهبيةً أو تأصيلية كحال الثقافة الدينية، لكن الموضوع برمته اختبار عملي حقيقي. أنك لا تقبل هذه الاختلافات وفوق هذا تطيق وجودها والسماح بها إلى أقصى درجة.

ليس مطلوبا بذل الحب و الكراهية، ولا التأرجح بين العطف والقسوة، بل كل المطلوب هو فكر منفتح ومنطق حر والشعور بأحقية الاخرين في التعبير عن وجودهم مثلما تتمتع أنت بوجودك دون زيادة ولا نقصان. وهذه المفارقة تقف على النقيض من المذهب. لأن اسم المذهب- أي مذهب- في حد ذاته ضد هذه المفارقة، المصطلح يحمل عدم التسامح وانتفاء الحرية للآخرين. وأن ما سيقوله مجرد تطمينات لأفراد مخالفين بلا ضمان.

مستوى الممارسة: التسامح هو الوجه العملي من احتمال الآخر وتناقضاته. إنه ينتمي بلغة كانط إلى مساحة العقل العملي، أي هو التسامح العملي practical tolérance المتحقق بين البشر. كل تبرير نظري سيربك المشهد وسيجعله محتدماً وفقاً لمهددات الصراع. والتسامح من تلك الجهة يقتضي احتراماً وتوقيراً انسانيين بشكل عملي لا حدود له. لأن الإنسان هو الانسان مهما اختلف عقائديا أو اجتماعيا وهو يستحق هذا الاحترام في أي وضع كان.

إنه لا يمتلك الإنسان تجاه الآخر إلا ذلك الاحترام والتقدير. ولكن ما الذي يقلب ذلك التقدير إلى نقيضه؟ هل ثمة مشاعر سلبية تحول دون ذلك؟ هل يوجد صراع لا يبقي ولا يذر؟ هل توجد ظروف اجتماعية تضع الأخرين في مواقف العداء والتحارب؟

مهما كانت الاجابات، فلا مبرر أمام الحد من ممارسات التسامح. فهو المستوى الموضوعي المكوِّن لتواجد البشر. هو مثل المناخ، مثل عوامل الجاذبية، مثل ظواهر الطبيعة، مثل الموجودات المادية، مثل الحركة، مثل السرعة، مثل المسافة... أشياء خارج كل انحياز، خارج كل اعتبار، خارج كل التواء، خارج كل إرادة أو خبث شيطاني بلغة رينيه ديكارت. هكذا هو التسامح مادة إنسانية حية قائمة على الاحترام الذي هو من جنسها الموضوعي ومن طبيعة البشر.  إنَّ الله خلق البشر(الآدميين) وهم بما يفعلون أحراراً. كلٌّ منهم له مآرب شتى وله معتقدات مختلفة وله أفعال متباينة.. كبُرت أم صغُرت في الحياة.

وبحسب الأدبيات الدينية، هناك معرفة إلهية بما يقومون به، ولكن في الآن نفسه- رغم المآرب والصراعات واللا أخلاق- يوجد هؤلاء بوافر الحياة وفرص العيش ومتاح أمامهم إنكار الخالق من عدمه.. وليختاروا ما يشاءوون. لقد" سَمَحَ " الخالقُ لكل منهم في الحياة طرائق قدداً. لم يعاجلهم بنتائج الأفعال ولم يحرمهم من رغد العيش وازدهار الاحوال ولم يقل لهم تهديداً. فليسلُك الإنسان كما يحب وبالوسيلة التي يبتغيها. والسماح الإلهي هنا أمر دال، يعني أنَّ الإله قد احتمل المخلوقات وهو القادر على ألّا يفعل، قد بذل كل "الوسع والطاقة" وهو الذي لا يعجزه شيء.

هناك أيضاً مواقف في حياة الانبياء تظهر على أساس موضوعي تماماً لا على أساس وحي ولا على أساس ثقافي.  فمقولة " أذهبوا فأنتم الطلقاء" التي قالها نبي الاسلام محمد بن عبد الله لأهل مكة عند عودته إليها بعد الهجرة لم تكن مقولةً على هامش" الغلبة والغنيمة"، ولا مقولة على هامش" القبيلة والعقيدة " التي أكلت تاريخ العرب والمسلمين بعد أن ظفروا برقاب أعدائهم. هي مقولة أكبر من استيعاب أي مذهب وأضخم من أي إطار في الثقافة العربية آنذاك. مع العلم أنها مقولة قيلت بعد تمكن النبي من طارديه خارج البلاد بلغة العصر. أي عقب أن جرى تحديد إقامته (تحت التوقيف والمراقبة)، ثمَّ إدراج كيانه وهويته على قوائم الأعداء (black list)، ليتم أخيراً اخراجه من مكة (بعيداً عن السيادة القبلية والسياسية والمجتمع القائم). ولكنه سرعان ما عاد قوياً مظفراً. عندئذ لن يكون التسامح مع هؤلاء مطلباً له، بل رغبة حياتية عاجلةً لهم.  وكان النبي يدرك ذلك وهم يدركونها أكثر من أي وقت مضى.

ولكن لم يقبل نبي الاسلام أنْ يكون التسامح إزاء أهل مكة تسامحاً بناء على ضعف أو ذلة لهم أو بفضل منّة من جانبه عليهم.  قالها بحرية إنسانية أخرى: إذهبوا ... فأنتم الطلقاء. انطلقوا بكل تحرر وعلى وجه السرعة دون إبطاء. ولتنسوا الماضي ولنتصالح على ما قد حدث من أمور دامية وغير إنسانيةٍ. إن التصالح مع الماضي هو أكبر عقبة فلسفية أمام محاولات التسامح. كيف نتسامح مع منْ لم يسامحنا يوما ما؟ بأي منطق نتجاوز عن اشياء غير قابلة للتسامح؟ هي لحظة توضّح أبعاداً انسانية حرة في شخصية النبي وفيما يؤمن به. أي فلتروحوا ولتغدوا يا أهل مكة في أي مكان وبصدد أي شأن كان ولكم ما تريدون كما أنتم وكما تقررون بالطريقة المناسبة دون قيود. إنه أخطر اعلان تسامحي يتجاوز كل المعاني الصراعية ويضع الممارسات على صعيد انساني.

وللأسف هذا عكس حال المسلمين فيما بعد، عندما سيطروا على أهل البلاد المفتوحة لتوها أمام الجيوش. فقد وضعوا علامات على أهل الذمة في بعض الامصار حتى يُعرفوا جيئة ورواحاً. أي تم وضع ختم مركزي سلطوي عليهم. وهو اعلان اذعان للسلطة القائمة اعترافاً بها ورجوعا إليها في غير حالة. وهو أيضا لون من تحديد الهوية والاقامة. وليس هذا فقط، بل أجبرهم رجال السلطة على أن يقوموا بإجراءات احترازية عندما يجتازون الطرقات والساحات العامة في المدن الاسلامية. مثل النزول من على الدواب وعدم الوقوف في وجه المسلمين والبعد عن لفت الانظار وألا يسلكون دروباً يسلكها عموم الناس.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

............................

1-

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/961482

خاص بالمثقف: الحلقة العاشرة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (2)

س 29: أ. مراد غريبي: ما تعليقكم حول الفصل الممنهج القائم بين الأخلاقي والديني في مختلف حقول المعرفة الدينية، أي ماذا عن أخلقة الفقه في مشوار تأسيس فقه الأخلاق، ولماذا فلسفة الأخلاق عند البعض هي ضد فلسفة الفقه، كون الحقيقة الدينية تنبع من الضرورة الأخلاقية في مدينة الإنسان المؤمن؟

ج 29: د. سامي عبد العال: دعُونا نطرح مسألةَ العلاقةِ بين الاخلاق والدين بطريقةٍ مختلفةٍ. فعادةً حينما نتعرض للأخلاقيات، نقول ينبغي كذا ويجب كذا.. ويتعيّن كذا وكذا ... إلى آخر السلسلة. بحكم أنَّ الأخلاق علم معياري. والجانب المعياري يشدُ الأفكار نحو التفضيل المفترض لمسائله المطروحة. ويتميز بالأحكام التي تتسع للأفضل والأهم، كأنَّه يوجد في الإمكان أبدع مما كان.  علماً بأننا نحن البشر لدينا كمٌ غير قليل من الينبغيّات المغلِّفة للكلام، وقد نجعلها رافعة مفترضة لأوضاع لا نقبلها.

ربما الينبغيّات نظرةٌ مقلوبةٌ تضع الأعلى بالأسفل وترفع الواقع دون جدوى. فلو رأينا موقفاً لإنسانٍ أقل مما يحترمُ فيه شخصاً آخر، فسنقول له كان يجب عليك أنْ تُقدّر هذا الشخص وأنْ تحترم إياه، وأنه (ما كان ينبغي) حدوث ذلك. حيث يقفز الجانب المعياري ويدفع بصاحبه إلى الأمام. وهذا طرح تقليدي نجدهُ في الخطابات التي تلتقي عند حدود الدين والاخلاقيات. حدودٌ تبقى بارزة، حتى لو داخل كلاهما معاً. لأنّهما كثيراً ما يتبادلان الأدوار في حياة الناس.

أمَّا الطرح المختلف، فهو كالتالي: أنَّه لا يحدُث (إتصالٌّ أو انفصال) بين الاخلاق والدين إلاَّ إذا كانت ثمة مرجعية (يتم الاحتكام إليها وتأويلها) لصالح أغراضٍ معينةٍ. وسواء أكانت الأغراض مقبولةً أم لا، فهي الكفيلة بتوضيح العلاقة ابتداءً. ليس يهم جوهر تلك الأغراض، لكونها مرهونةً بمواقف أصحابها من الدين والاخلاق. والأغراض عملية ذات طابع برجماتي، وفي غير حالة قد تكون متسقةً مع الاعتقاد الغالب. على سبيل الشرح: عندما ترى (جماعة تأويلية ماhermeneutic community) – وكل مجتمع يتكون من جماعات تأويلية- أنَّ فصلاً للاخلاق عن الدين يخدم طريقةَ تفكيرها، فستشرع من فورها لتأكيد الفصل، ولن تكف عن محاولات تأويله. وعندما ترى جماعةٌ تأويلية أخرى أنَّ الاتصال أمرٌ مهم عملياً، فستكون هي أول المؤيدين لذلك الوضع.

دوماً العلاقة بين الطرفين تستند إلى طرف ثالثٍ بخلاف جوهري الدين والأخلاق، هذا الطرف الخفي الذي يبرر عمليات التأويل ويسوق الأهداف المبتغاة. وهو طرف المرجعية القابلة للتأويل، والتي تدفع المؤولين إلى استباق الواقع، وأخذ خطوات إلى الامام مقارنةً بالخطوات الآنفة. وستكون خطوةُ الفصل بين الاخلاق والدين خطوةً مقصودة وراء غبار الكلام هنا وهناك. ببساطة لأنَّ ثمة نتائج متحققة من وراء ذلك. وبخاصة أن كل جماعة تأويلية يهمها في المقام الأول تحقيق قدر كبير من التواجد الرمزي في عقول أفرادها، ويهمها ايجاد المردود العقلي الذي يوفر التماسك والمرونة للتعامل مع الحياة والعالم. وإذا ألقينا نظرة على تاريخ الأديان، سنجد أن الجماعات التأويلية كانت تتداول خطاباً ما، وكذلك تبادل تفسيرات معينة وهي جزء لا يتجزأ من أفق تأويلاتها المستعملة.

في المقابل، تعد الاخلاق سابقةً على المعتقدات، لأنها بمثابة البناء القيمي الحامل لأسس الأفعال والممارسات، كما أنها توجد حيث يوجد إنسان. فالأخلاق تنشأ عن وجود الآخر باختلاف مستوياته بين البشر، الآخر الذي لا تخلو منه حياة إنسانية صغرت أم كبرت، حتى بالنسبة لوجود الأنا أمام نفسه. والآخر أسبق دلالة وأكثر تعدُداً، لكونه وجوداً يعرفني على ماهيتي، على وجودى وقدراتي، بدءاً من الخالق وانتهاء بالمخلوق في تاريخ الأديان. ولذلك، فإنَّ الاخلاق هي إمكانية الدين عموماً، وطالما أنَّ انساناً يتخلق (أي يتحلى بالأخلاقيات)، فهو كائن بإستطاعته أنْ يؤمن لا العكس. أي تظهر الاخلاق ثمَّ يأتي الدين ... هكذا هو الترتيب المنطقي والتاريخي لباطن الإنسان. إذْ " لا يستطيع أنْ يتدين منْ لم يستطع أنْ يتخلُّق ".

ولكن.. ما الجديد في هذا الانفصال قيد الاستفهام؟!

إنَّ ما أطلقتم عليه " فصلاً ممنهجاً " هو الفصل المقصود وغير المحدود في الوقت نفسه. لماذاً؟! لأنَّ ذلك يؤخذ من زاويتين: زاوية الدين وزاوية الأخلاق. وكلتاهما زاويتان محوطتان بشكوك كثيرةٍ.

أولاً: من زاوية الدين. الزاوية التي ترى في الدين اتجاهين.

1-الأصولية الدينية (الحياة الأولى).

وهي نزوع نحو التمسك الحرفي بالأصول بما هي كذلك. فالأصول موجودة، ولكن توجهنا نحوها توجُه انقياد وتوجُه ايمان مطلق. أي يتم رسم الأصول في صورة كاملة ومثالية دون ريبٍ. فالبعض ينظر إلى الأصول بوصفها قائمة في حالةٍ من النقاء والخلوص التّامين. وعلينا التطلع إلى هذه الحالة المتفردة باستمرار، وأنَّه علينا التشبُث بها دون افلاتٍ. وقد لا نحتاج إلى أي شيءٍ آخر في هذا السياق.

ولكن الخطوة المنطقية اللاحقة هي أنَّ الأصول كانت موجودة عبر التاريخ الذي وجدت فيه وكان حاضنة لها، إذن يجب إحياء التاريخ الذي وجدت خلاله وتكوّن بدوره حولها. وأنْ نضم ما أفرزته الأصول السالفة من حياة إلى المعتقدات جنباً إلى جنبٍ. وليس هذا فقط، بل ستُبذل القداسة- كل القداسة- إزاء هذه الأصول والحياة التي انتجتها بالمثل. لا فارق بين الاثنين.

المهم أنَّ (الأصولية وحياتها fundamentalism and its life) تصبحان في مرتبة المقدس الذي يبتدئ به الفكر والفعل والمعرفة والقيم. وستمثلان تباعاً منشأً واحداً لأية حياة تالية، إنهما منبع كل شيء ومنهما تُستمد القيم والأخلاقيات والعادات والتقاليد. والأرجح- من وجهة تلك الزاوية- أن الإنسان لا يستطيع العيش إلاّ على سبيل العرض بالنسبة لهما رغم اختلاف الأزمان والظروف. الحياة عندئذ هي "الحياة السلفية " التي تعود إلى الماضي أصلاً وتاريخاً، وكأنّ الواقع يسير إلى الخلف لا إلى الأمام. هي فكرة "السلف الصالح" التي تبلورت في تراث الأديان بأشكال مختلفة.

وبعد كل ما سبق، فإنَّ الدين سيكون منبعاً للاخلاق لا غير. وأنه من الأفضل إبعاد الاخلاق بمعناها الإنساني والاجتماعي عن العقيدة. ذلك حفاظاً على نقاء الاعتقاد وخوفاً من تلوث المثال الذي جاءنا في اهاب من الشفافية والطهرانية. وهذا هو موقف السلفية، تلك النزعة التي ترى في الأصول الدينية خلوصاً فائقاً عن الواقع، وأنها أصول أحادية الجانب دون أية وجوه أخرى. وأن المقارنة بين الأصول وسواها من أمور مسألة لا تجوز إطلاقاً. لدرجة أن الأصول تتجلى خالصة بكل وضوح فوق التاريخ. وإذا وجدت، فإنها توجد في الحياة بفعل إعجازي لابد من المحافظة عليه وتقديسه طوال الوقت.

إنّ السلفية نزعةٌ لا تاريخية، فالذي تُؤمن به تراه خارج التاريخ. إنه لا يوجد في التاريخ سوى الظواهر والأحداث التي انتهت بلا رجعة. ذلك رغم أن الأصول التي نتحدث عنها وجدت وتجسدت وتجلت وامتدت في التاريخ. وأن الأصول لم تكن لتُوجد إلاّ بهذه الصورة المتفاعلة مع الأحداث والظواهر قاطبة.

ولكن السلفية- وهنا الإجابة المنشودة- تنزع الاخلاقيات عن الدين بحجة أن الدين هو لأخلاق وكفى. وأن جوانب الدين (أحكام ومسائل الفقه والأصول الثابتة) هي مصدر كل أخلاقيات حميدة ولا طريق آخر دون ذلك. وأن كل الاخلاقيات الأخرى إنما هي محض انحراف وبُعد عن الطريق المستقيم. وثمة عبارة شهيرة في هذا السياق تقول: إنه " لا يصلح شأن هذه الأمة إلّا بما صلُح به أولها". وهي العبارة التي تحمل وجوها متعددة لا وجهاً متفرداً. فهل الشأن واحد فقط.. ما الضمان إلى ذلك؟ وهل التماثل بين عصر وآخر مطلوب في هذه الحالات المتناثرة عبر التاريخ؟ وما الذي أدرانا أن علاجاً واحداً يصح لاختلاف الأمراض (الثقافية والحضارية)؟ وهل ما يصلح شأن الأمة هو الدين فقط أم المبادئ التي تستند إليه والمستمدة منه؟ كيف يتم اختزال الدين في حياة جيل صالح ليس أكثر؟ وما الذي يؤكد أن الصلاح معيار معرفي وحضاري في الآن نفسه؟

إنَّ سياسات السلفية متشابهةٌ قبضاً على الحاضر بمشجب الماضي. وهي تسليم البشر إلى عصور غابرةٍ من المعنى والتأويل الذي فات أوانه ولا فرصة للإضافة إليه بحال. وتلك النقطة تعد مفترقاً للطرق بين الاخلاقيات أيا كانت والدين.. ما كان منه وما سيكون.

لقد تمَّ سلخ الاخلاقيات عن الأصول كما تُسلخ الشاة عن جلدها. وأصبح من غير الممكن التخلق خارج الدين، ولا بد أن يستمد الشخص إيمانه وقيمه وأفعاله من تلك الأصول. والفصل بين الاخلاقيات والدين هنا فصل تام لا رجعة فيه. فالأخلاق حين تكون قريبة من الدين تمثل تهديداً للدين نفسه وتشكل لوناً من عودة المؤمنين إلى ما قبل الإسلام. والسلفيات ليست قاصرة على دين بعينه، بل كل الأديان تستقبل سلفيات مختلفة من جنس المعتقدات. فاليهودية لديها سلفية "طائفة الحريديم". وهم من يعيشون في مدن منعزلة ويلتزمون بالأزياء والتقاليد التي تفصلهم عن باقي الطوائف اليهودية. وهم سلفيون يتمسكون بما جاء في التوراة حرفياً. وإنْ استجدَ أمر في الحياة، سرعان ما يبحثون عن تفسيره في الكتاب المقدس. فإذا لم يجدوه، لفظوه من فورهم ولهم مواقف متشددة من مجريات الأحداث في الدولة العبرية والعمل والخدمة في مؤسساتها الرسمية.

وكذلك المسيحية تقف على موروثات السلف. فالحياة الأولى للمسيح كانت محل اعتبار من كافة الطوائف بجانب حياة التلاميذ، وكيف كانوا يتعاملون مع معلمهم، إذ كانت التعاليم موضع دراسة واقتداء. وكذلك الروايات والقصص التي تروى عن السيد المسيح والتلاميذ مازالت تروى بنكهة سلفية. ولا يخفى في عصرنا الراهن الأصولية المسيحية الغارقة في عصور من الماضي وتنشد العودة بالمسيحية إلى الفكرة الأولى. وكم أخذت تدافع عن مواقف لاهوتية وسياسية حتى إزاء العالم والتيارات الأخرى.

والبوذية لم تبعد كثيراً عن السلفية أيضاً، حين ظهر تيار بوذي يعيد تأويل حياة بوذا في محاولة لاستعادة الأصول المبكرة للديانة البوذية. ونشأ معيار العودة إلى الماضي بخلاف الانهماك في الحاضر وظهرت أقوال بأن البوذية المعاصرة لم تكن مطابقة لبوذية بوذا. مما دعى كهان البوذية إلى تكريس الطقوس والشعائر والممارسات في المعابد. وقد تحولت البوذية من مجرد حكم وتعاليم إلى لاهوت سلفي.

هكذا مع تباين السلفيات يتم تجنب الأخلاق بمعناها المعروف، بل ترفض فكرة وجود أخلاق، لأنها تتعارض مع ضروب الحقائق اللاهوتية وكذلك تتعارض مع سياسة المقدس الذي تحدد آفاقه كلُّ سلفية عائدة إلى الماضي. كل عودة لا تخلو من سياسة التقديس بمعناها القائل: إنه من الأهمية بمكان قيادة البشر نحو أصول موجودة على شكل ما في زمن آخر.

2- التطرف الديني (الأيديولوجيات):

التطرف هو اتخاذ موقف نقيض من المرونة الفكرية، واحاطة المعتقدات بأفكار مؤدلجة مثل الفيروسات التي تنموا بكثرة في الخلايا وقد استولت على كامل وجودها حتى النهاية.

تنعزل الأيديولوجيا بالدين واضعة المرجعية في حالة استنفار طوال الوقت. إنها ضرب من توظيف الدين لأغراض الجماعة التأويلية القائمة بها. فقد نرى الايديولوجيا مساحة من التأويل الخاص، ولكنه تأويل قابل للتعميم بأدوات جماعية وجماهيرية. مثل الشعارات التي ترفعها بعض الجماعات الدينية تحقيقاً لنشر الأفكار والتفسيرات المؤدلجة وأدبياتها الخطابية.

وهذا اللون من الايديولوجيات لا يريد لشيءٍ أن يعكر صفوه، ولا أن يزاحمه فكر، ولا أن يذكّره أحد بما يلوي عليه من أهدافٍ. ولا سيما إذا كان هذا الشيء هو الأخلاقيات التي يتقاسمها مع غيره. والأخلاقيات بمثابة الخط الفاصل الذي تم تدميره التحاماً بالجماهير واستغلالاً لها. فلئن كانت القيم الاخلاقية تحث على تقدير الآخرين، فالأيديولوجيات تقتات دائماً على احلام الناس وعلى آمالهم وأفكارهم البسيطة. وإذا كانت القيم الاخلاقية ترعى الفضائل وتهتم بوجودها كمعايير، فليست الايديولوجيات إلاَّ نوازع استثمار للفضائل وتحويلها إلى مآرب دفينةٍ.

كل أيديولوجيا دينية ما كانت لتترك آثارها إلاّ بمواقف غير مريحة اخلاقياً. ولذلك لا مهادنة من قبل رعاة الأيديولوجيا في الاتجاه، ولو كانت الأخلاقيات محل مراعاة لما ظهرت الايديولوجيات. لكون الأخيرة تضخماً للأفكار المتداولة على حساب أفكار أخرى. والأفكار التي تمثل الطرف المقابل تحتاج إلى منافذ للتنفس والحركة، ودوماً الايديولوجيات لا تترك أي منفذ، بل تخنق الأفكار الأخرى خنقاً، وتضعها تحت التهديد والاغتيال. إن الايديولوجيا موقف لا أخلاقي من القاعدة قبل خروجها للحياة، لأنها تتجاوز بفعل ذاتها حدود الإمكان، وتُبنى على اغتصاب أرض وعقول لم تكن لها ابتداء.

الأخطر عندما تتخلق الايديولوجيا اللاهوتية في كيان مادي، فهي الوجود المحتل لوجود الآخرين بالضرورة. وهي كيان غامض ومتقلب يلتهم كل ما يواجهه من أفعال وصور الحياة. حيث تسعى للممارسة وتسلح أفرادها بجميع الوسائل الكفيلة باستمرارية الصراع. هل يمكن التحدث عن الاخلاق، حينما تتكتل الايديولوجيا في حروب وكراهيات ممتدةٍ؟!

ومن ثمَّ، فإن" فصلاً ممنهجاً " بين الاخلاق والدين هو الحل لإحداث قطيعة بين الايديولوجيا والواقع. وستكون الخطابات الدينية فقهاً وتنظيراً وقولا عاماً بلا أساس أخلاقي. بالأحرى ستدخل الاخلاقيات في جراب التوظيف البرجماتي ليس أكثر. فالقنّاص الأيديولوجي يضع كل شيء في جرابه تمهيداً لاستلاله في أي وقت. وأن يصيب الهدف المرجو ويحصل على الفريسة وقتما شاء. لا شيء ثابت لديه، كل الاشياء المادية والرمزية أهداف وراء أهداف نفعية لا يفصله عنها سوى مسألة الوقت فقط.

الاخلاقيات هي الهاجس الذي لا يريده أن يعترض طريقه. كابوس يلاحقه أينما ذهب، ولكنه يراوغه ليل نهار. والهروب منه يتم بالإيغال في اكتساب أراض جديدة واحتلال مواقع متقدمة في النزال مع القيم وأطراف الصراع. ولذلك لا يهم الأيديولوجي أي شيء قدر ما يهمه المؤيدين والحشود التي يتلاعب بها. فهو يتساءل من حين للآخر: كيف استولي على عقول الآخرين؟ كيف أكون حشداً مؤيدا لما أقول؟!

الفقه في الحالين (السلفيات والأيدولوجيات اللاهوتية) أداة مرنة جداً، سياسة هيمنة وسيطرة على المجتمعات. إن الفقه تطبيق حرفي لآليات " السمع والطاعة "، بحيث يشغل أوقات الجماهير بالأحكام والتشريعات وما يجب عمله وما يفضل تركه. الفقهاء على الجانبين رجال استراتيجيون من طراز خاص، يجيدون حبك الخطابات وسرد القصص والاتيان بالأمثلة الدينية وشرح بلاغة المواقف وربط القديم بالحديث واستنباط العلل والإشارة إلى المعاني واخراج أدق النغمات الخطابية المطلوبة لتبرير الأحداث. لا ابتغاء ارشاد وهداية الجماهير، إنما لإلغاء إرادة الفعل الحر لديهم. النيل من الحرية هي الغاية البعيدة من وراء ترويض الجماهير سلفياً كان أم ايديولوجياً.

إنه فقه " السمع والطاعة".. ماذا تنتظر من أحكامه وفتاويه؟  فقه يتحدث عن الفقر بلا معرفة أسباب الفقر. فقه يتكلم عن الجهل من غير تحليل بنية التجهيل. فقه يتكلم عن حد السرقة من غير ما يشعرك بسرقة المجتمع ككل. فقه تُطاول كلماته عنان دخان الغضب المنتشر في كل مكان، دون أن يحرك ساكنا في مواقف الاستبداد والتسلط. فقه يروض الضحايا ويعطيهم وصايا للصبر بلا أية إيماءة تجاه الجلاد. لو تحرر الفقه من مغازلة السلطات السائدة، لكانت له علاقة قوية بأخلاقيات الأحرار والبعد عن التدجين، ولأصبح جديراً بكل ما يليق بالإنسانية في أي مكان. شريطة أن ينفتح على المعارف المتطورة ويستعمل المناهج العلمية في دراسة الواقع. وهذا يجيب عن أي استفهام حول تناقض فلسفة الاخلاق مع فلسفة الفقه ... وينقلنا إلى النقطة التالية.

ثانياً: من زاوية الأخلاق: حيث:

1- الأخلاق العامة (القوانين والشأن العام).

2- الأخلاق المدنية (الثقافة).

1-     الاخلاق العامة:

هي اخلاقيات من جنس ما هو عمومي على الأصالة. وليس ضرباً من العشواء، تحديد ما هو عام من أول وهلة. فأصعب ما يكون أن تدرك العمومي مع وجود التنوع الهائل والعميق لانتماءات واختلافات عناصر المجتمع.

منذ ولادتها، تبتعد الاخلاقيات العامة عن المحددات الدينية الخاصة لأي دين من الأديان. المجتمعات المعنيّة بالشأن العام لا تترك الساحة لسيادة معتقدات بعينها. وقد تكون هناك فكرة التناقض بين كونها اخلاقيات عامة وما يؤسس للشأن العام، وهو تناقض لا محل له من الوجاهة. لأن الجانبين (الاخلاق والشأن العام) قائمان على المبادئ والقواعد العمومية، طالما يراعيان التنوع والاختلافات في نسيج المجتمع.

أبداً لم تكن الاخلاقيات العامة - بما هي كذلك- حاملةً للانحياز أو الهيمنة. وبخاصة أنها تظل لصيقة بالإنسانية في مجملها، وقد تجاوزت الحدود الضيقة والسمات النوعية لحياة الجماعات البشرية. الاخلاقيات تقف خارج هذه الفوارق الحدية، إذْ تركز على نقاط الالتقاء مثل العدالة والمساواة والحرية واحترام الآخر وإقامة القوانين والحقوق والواجبات موازاة لتمتُع الانسان بالانتماء الحر والقدرات المؤهلة لوجوده.

ففي المجتمعات الراهنة، هناك اختلاف بين الأديان والموروثات وهناك تنوع في الأفكار والاتجاهات. ولا يكون الشأن العام سطحاً عاماً يضغط ذلك تحت شكل واحد. ولكنه التناغم الذي يحدث نتيجة الآليات العامة والمبادئ التي تحدد الأدوار وتطرح لفاعليها مجالات العمل والانجاز. ليس منطقياً دخول الاكراه أو الانحياز كعوامل مؤثرة، المنطقي أن يشعر كل فرد بكونه ذا أهميةٍ وذا حرية في اختيار ما يريد وفي التعبير عن ذاته بالطرائق والسمات التي يتمتع بها غيره.

وفي حالة كهذه لا يجدي الخطاب الفقهي، لأن الفقه هو صورة التسليم والانقياد الخاصين بالدين مقارنة بما هو عام. إنَّ الفقه أبكم تجاه القضايا العمومية إلاّ من بعض المواعظ والحكم والمأثورات. وتعوزه مراحل وراء مراحل من التطور الاصطلاحي والمفاهيمي، حتى يبلغ تلك المرتبة إنْ لم يفقد ماهيته وصولاً إليها. وعندما يتكلم الفقيه في الشأن العام كم يتكلم لغة مختلفة تماماً عن اللغة التي يتداولها الناس. هو في كل مرة يحتاج إلى مترجم خاص، إلى وسيط خاص. وليس هذا فقط، بل يحتاج إلى قطع عصور حتى يلتقي مع الآخرين.

مُحصلة ذلك أنْ ضّعُفت العلاقة بين الاخلاق والدين من تلك الزاوية. بات الشأن العام مختبراً قوياً لكل خطابات الفقه، لأنّ سياسة الحقائق العامة لم تصل إلى ثرائها العمومي إلاَّ بعد أنْ اختارت خطاباً مناسباً من جنسها. وهي ما يستطيع أنْ يفهمه كلُّ من يعيش تراكم الحداثة ومؤسساتها. بينما عبارات الفقه تستحوذ على إيمانه- في تناقض علني- تجاه دينٍ ما. فالإيمان الديني يأخذه إلى الخاص، يضعه في سياق نوعي، بحكم كون الايمان تجربة الإنسان مع يقينه، في حين أنَّ اشتراكه مع أغياره في الإنسانية العامة يضعه داخل التنوع  والتعايش.

المفارقات هنا (بين الخاص والعام) هي أصل نشأة المبادئ العامة التي كفلتها القوانين والدساتير المعاصرة بفضل تباين البشر. وهي المفارقات التي توجد في خلفية التطورات الحاصلة عبر الأزمنة المختلفة مع كيانات الدول والمجتمعات. ويستحيل التخلص منها (المفارقات) لكونها مطلوبة لإنضاج قدرتنا على أن نكون أناساً عموميين لا أقل. لأنَّ التجارب الخاصة والتخندُق في معسكرات لاهوتية أمور لا تضيف إلى حياتنا المشتركة الكثير. بل هي ستنال من رصيدنا الجمعي قريباً أم بعيداً. ورغم الأدوار التي لا تنكر للفلسفة السياسية تجاه تلك المسألة مع تحولات الديمقراطية وظهور الليبرالية، إلاّ أنها يجب أن تغامر بمزيد من التطوير والنقد لمواكبة ما هو عمومي.

2- الأخلاق المدنية (قيم المواطنة):

هي القيم التي ظهرت مع الحياة المدنية التي عاشها الإنسان الحديث. قيم مشتقة من طبيعة الأعمال والممارسات العامة وما يحوطها من شروط وجوانب. مثل التعايش.. وهو قيمة مدنية، أي قدرتنا لاحتمال الآخرين بكل رحابة صدر وقدرتنا على وجودنا بينهم ووجودهم بيننا مع الاحتفاظ بأية اختلافات تميزهم وتميزنا. وهذه القيمة العملية لم تكن موجودةً قبل العصر الحديث، عصر الصناعة والتجارة والاقتصاد الحر وتبادل المواقع وتداول السلطات والأعمال العامة.

تقف الاخلاقيات المدنية في الاتجاه النقيض للأخلاقيات الدينية. إنَّه ما اُفترضت الاخلاق المدنية إلاَّ لتأخذ هذه المكانة ابتداءً، فهي نتاج اجتماع البشر على صعيد مدني لا لاهوتي ولا ميتافيزيقي. أُناس نشأت بينهم علاقات مادية وسياسية وانسانية كإفراز اجتماعي حر. ويجب أن تعود عليهم تلك العلاقات في شكلها الثري الحامل لقوة العلاقات. فالأعمال تتطلب وجود مؤسسات ترعاها وفقاً للقانون واللوائح المنظمة. أيضاً الروابط الإنسانية التي تربط أصحابها أثناء العمل، فتسمى اخلاقيات المهنة والآليات التي تعطي كل الأفراد حقوقهم داعية لبذل واجباتهم دون تفرقة.

وإذا كان ذلك بالنسبة للأعمال، فما ينطبق عليها ينطبق على المجتمع المدني. وهو مجتمع ليس لاهوتياً ولا تحكمه المقدسات أو سلطات تراتبية، إنما تسهر عليه اخلاقيات المواطنة التي تظلل الجميع. حيث يتمتع الأفراد بالعيش المشترك وحرية التعبير والمساواة والعدالة وحقوق العمل والإنجاز والكسب ودولة القانون والشعور الذاتي بالمسئولية والاستقلال ونزع المخاوف إزاء السلطة.

وتلك الاخلاقيات ليست في حاجة إلى ربط الأخلاق بالدين، لأن " الوعاء الثقافي " الذي يربط الأفراد لا يفهم: ما معنى وجود مرجعية لاهوتية تحكم الناس؟ هو وعاء ثقافي تطور عن رحم مدني يحتاج إلى آليات أخرى. وحتى الأفراد لا يجدون مبررات غير قانونية وغير مدنية لتبرير أعمالهم وممارساتهم في المجال العمومي. دوماً يجب عليهم التصرف والتبرير بشكل يتسق مع عضويتهم المدنية في الجماعة البشرية. هم لا يشكلون جماعة لاهوتية، بل جماعة تحتكم إلى المواطنة ومستويات العمل التي ينخرطون فيه.

س 30: أ. مراد غريبي: كيف تفسرون رؤية الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بأنه بإمكان أي دين العودة للفلسفة وليس العكس، أليست القيم هي البناء الجوهري للأديان وبالتالي الفلسفة تكون أقرب للدين وموضوعا لها في جوهره القيمي، أي فلسفة القيم وعلاقتها بالمعرفة الدينية؟

ج 30: د. سامي عبد العال: يتميز يورغن هابرماس بتجربته الفلسفية الثرية تجاه المجال العمومي. أصدر كتابه المكون من جزئين " نظرية الفعل التواصلي" the theory of communicative action تأسيساً لهذا الشأن. إذْ يعد أخطر كتاب يرصد حركة التأسيس للمجال العمومي كتطور بين المجتمع والمعرفة والفكروالإقتصاد. وبخاصة كونه مجالاً قد نشأ في المجتمعات البرجوازية التي مازالت تتطور حتى اللحظة. لا يتحدث هابرماس تجاه الأديان أو الفلسفة إلاَّ اخذاً بهذا العامل المؤثر: كيف توجد الأديان في الفضاء التواصلي؟ ما موقع الاعتقاد والايمان وسط العقلانية التواصلية؟ علماً بأنّ الأديان مرّت بتطور في علاقتها بالفضاءات المطروحة بين الناس. فكر هابرماس جزء من النظرية النقدية التي اهتمت بأبعاد المجتمع وتحقيق المفاهيم لمداها التاريخي الذي تتداخل فيه تأثيرات السلطة والقوى الفاعلة.

قبل الإجابة عن الأسئلة، علينا أن نعرف أن الأديان بدأت بإنشاء مركزيتها الخاصة، عندما تمحورت حولها الجماعة البشرية. كل دين كان بمثابة نواة غُرست، فإذا بها تنشأ في اخراج غابة كاملة الأركان والأطراف ليأتيها الناس من كل صوب وحدب. لم تكن الأديان معنيةً بالفضاء العمومي خارج ذاتها، لأنَّها عوملت كلون من التأسيس لأي فضاء آخر. ثم دخلت الأديان نفق العصور الوسطى الغربية أو بالأحرى حفرت نفقاً لتوطين معتقداتها، فلم تستطع الخروج منه، لتُحدث اختناقاً كونياً في الوقت ذاته، تمثلَ الاختناق في إظلام الحياة كما هو مشهور عن القرون الوسطى المسيحية. رغم وجود ازدهار وشروق شمس المسلمين والعرب – بتعبير المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه- على الضفة الأخرى من الزمن. لكن ذهنية القارئ للتاريخ هي التي تختزل كونية الزمن: أين تقع الأزمنة المهمة بالضبط حتى وقت الأزمات؟!

خرج (العصر الحديث) ليسائل الأديان، حيث وضعت المسيحية مجتمعاتها الغربية في مأزق ثقافي ضخم. أصبحت عائقاً أمام التطور والتقدم وباتت عبئاً على عقل الإنسانية. ولم تسمح بالحرية، بل كانت بيئة خصبة لنشأة بكتيريا اللاهوت السياسي وجذور الديكتاتوريات والانغلاق الفكري والحروب الطاحنة بين الملل. كان العصر الحديث بمثابة المضاد الثقافي  anti- cultural لعصر الظلام، وذلك بظهور فلسفات النهضة والتنوير والتحديث، وتبلورت في مفاهيم الحريات والدولة والعدالة والقوانين والشرائع. ورغم أن العصر الحديث تبنى مفاهيم خطية لكل ما يأخذ بيد المجتمعات نحو المستقبل، إلا أنه كان عصراً تأسيسياً على الأصالة. تأسيس لصورة الغرب ولصورة العالم بالوقت نفسه. ولم تكن أوروبا تفصل نفسها عن فضاء الحياة الكونية ككل، بل لم تكن لتتصور وجود عالم آخر ليس أوروباً. العالم دوماً عندما يذكر، فهو أوروبي إن لم يكن بالجغرافيا فبالتاريخ. فقد كان التحديث اجتياحاً لجغرافيا العالم بتاريخ أوروبا. أي نقل الغرب التاريخ خارج أرضه.

بينما جاء العصر (ما بعد الحديث) لتصبح الأديان سرديات وتأويلات خارجة لتوها من المستقبل. فالناس يتساءلون عن الأديان كأنها أخيلة حطت من الماضي لتحملهم إلى المستقبل. وانتشرت فكرة عودة المقدس والدين كأداء وإجراء لصيقي الصلة بالعقول والأفكار المتداولة. ومن ثم نشأت محاولات نقد السرديات الميتافيزيقية. فالأديان تنويعات على هذا المتن كما نوّه الفرنسي جان فرانسوا ليوتار أن السرديات الكبرى لاحت نهايتها، عندما أصبحت حياتنا المعاصرة مفتتة ومتشذرة. ولا مفر من غرق الإنسان في الجزئي والعرضي واليومي. لم يستطع الإنسان الراهن لملمة وجوده، ترك نفسه مكشوفاً بل عارياً أمام الكاميرات والمعلوماتية وعصر الديجيتال. كل التفاصيل يمكن للمتابع أن ينبش فيها وأن يبحث عنها، حيث تحولت المعلومات والصور إلى عالم مكتف بذاته. اكتفاء دلالة ومُعطى يُطْبق على ذهنية المتابعين، يرونه بوافر زخمه كما يقصدهم بالتبادل.

في هذا الخضم، أراد يورغن هابرماس انشاء العقلانية التواصليةcommunicative rationality  القائمة على رؤية نقدية لتراث المجتمعات الغربية وفتح آفاق حُرة تتبلور ضمن الفضاء العام. حيث تنشأ الذوات للمشاركة والإسهام في كل الممارسات العمومية من جنس الواقع المعيش. لم يكن هابرماس فيلسوفاً ما بعد حداثياً رغم راهنيته الشديدة والمدهشة حتى الآن، لكنه رأى في الحداثة مشروعاً لم يكتمل. وظل معنياً بإعادة إنتاج الفضاء العمومي بمفهوم المعقولية التي يمكن خلالها تشبيك أيدي الناس في أيدي الآخرين من أجل الانجاز العام. لا يصلح أن نتكلم عن المجتمعات من غير التكلم عن السياق العمومي بالأساس. فهو سياق انتشل المجتمعات من التقهقر وأنتج ممارسات تعاونية تتداخل فيها كافة المسائل التي تهم الشعوب. فدول أوروبا ليست أكثر من سياقات عمومية تطورت فيها مفاهيم الذوات التحرر والتقدم والمعرفة العلمية.

ظل هابرماس يستهدف تطوير بنية الحداثة باستخدام مفاهيم نظرية تواصلية تمتلك دقة تحليلية تحتاجها الظواهر الاجتماعية. لا تقوم الفلسفة فيها بدور " بومة الحكمة" التي تنعق وقت الغسق، ولا تقوم بالتنظير المتأمل لأسس الحياة إنْ وجدت، بل تقوم الفلسفة بتهيئة الأجواء المشتركة لتأسيس الحوار وتبادل النقاش وتمتين عُرى العلاقات بين البشر ونقد الانتكاسات الميتافيزيقية.

إنَّ وضوح الحياة اليومية المعيشة هو مطلب هابرماس الأول، شريطة أن تعقد الفلسفة العزم على تقريب وجهات النظر وتأكيد الأداء الجماعي دون إقصاء وأنْ يرى الناس أفعالهم المعيشة لا المنفصلة في عالم آخر. الوضوح هو دائرة التبادل الذي يكف عن المزيد، لكونه عملاً تبادلياً من لحمة الحياة المشتركة. وذلك من أجل لونين من النشاط فيما يرى هابرماس..:

أولاً: نشاط عقلي معرفي أدائي، فليس الإنسان فاقداً لماهيته في نصف حياته الأول ثم راكضاً وراءها طوال نصف حياته الآخر. النصف معروف والنصف التالي مفقود. لا يوجد هذا الانقسام، الأداء والتعاون والتآزر والفاعلية أشياء تعيد اللحمة للعالم من جديد.

ثانياً: نشاط عقلي تواصلي تنخرط فيه الذوات الحرة تأكيداً للفعل والحوار.

من ثمَّ، تتكون طرائق فهمنا لبعضنا البعض ويحدونا الجدل اليومي لملامسة الآفاق البعيدة في عالم الإنسان. كل إنسان يمسك بطرف التأويل الذي يطرحه آخر يمتلك البعض منه، وكذا يطرحانه الإثنان لثالث في مباراة حياتية تنتهي بالفوز الجمعي لا بالتعادل ولا الهزيمة. كل تأويل هو مباراة نربح فيها جميعاً، لأن الفضاء العمومي هو موضوعنا المشترك، هو قدرتنا معاً على أن نكون خارج وجودنا الفردي. حيث تؤدي اللغة دور الوسيط الذي يجسد ما نريد فعله وهي الخطاب الذي يوجّه إلينا من ذواتنا الجمعية. اللغة هي الأفعال العمومية التي تقارب وجهات نظرنا عن طريق قول ما يصعب أنْ ينعزل عن وجودنا البيني.

على هذه الخلفية، يمكن فهم عودة الأديان إلى الفلسفة، هي عودة لم تكن متاحة إلا لكيفية التفاعل في الفضاء العمومي. ليس من باب كون الأديان معتقدات صماء، بل كجزء من نسيح الحياة. وهي التي يصعب تجاهلها. ولكن بما أنَّه لا يوجد حوار بين موجودات لاهوتية صماء، فالفلسفة تمارس دورها في تقريب وجهات النظر بين العقائد. لا بمسماها ستكون العقائد سائرة دون عنوان، ولكنها تدخل في آفاق الأفعال والتواصل. الفلسفة ستقول لأصحاب الأديان: فلتفتحوا أعينكم على مصراعيها، ويجب ألّا تستنكفوا الحركة والتواصل، لأن الحياة تتطلب أن نتفاعل لا أنْ نتباعد.

هناك رأي جدير بالاهتمام يقول: إن جوهر الدين هو القيم، وتلك فكرة خليقة بجذب الفلسفة إلى الأديان نظراً لأن مشكلاتهما مشتركة. ومع وجاهة ذلك القول إلا أنه يمثل نظرة أخلاقية لا معرفية، نظرة أحادية لا تواصلية. الفلسفة أبعد من الدين وأكثر معقولية من المعتقدات. وليست الفلسفة قائمة على التوازن الأخلاقي المحايد، بحيث يؤكد التفضيل القيمي نفسه. ولكنها لون من الحياد الذي يعرف: كيف يكون منحازاً لدلالة الإنسان بلا أسماء ومرتبطاً بدلالة العقول الحرة دون معتقدات؟ أنْ يكون العقل تواصلاً وحريةً بلا حدود... وتلك هي المعضلة المزمنة لكل فلسفة من وراء الحياة المشتركة. بحيث تجسد الفلسفة المواقف التي نقيس بها الأشياء ونحدد العلاقات ونحدث التناغم المنتج.

لو حاولت الفلسفة أنْ تلبس عباءة اخلاقية من نتاج الدين، فلن تستطيع. وعدم القدرة هنا موقف مبدئي وليس كراهية عمل ذلك. أنْ نتفلسف هو ألّا نكون أخلاقيين عندما تكون الأخلاق بمعناها المعروف. لأنَّ الفلسفة تكشف اخلاقية الأخلاق، أي مدى قدرة الأخلاق على أن تكون مبادئ حُرة لا أساور شكلية تُرتدى في المناسبات واللقاءات الجمعية. الفلسفة موقف حر إزاء أكثر المواقف تمسكاً بالأخلاق. ولا تعطي القيم انطباعاً أبدياً، لكن جميع القيم تدرك ماهيتها كما يدرك أصحابها، القيم تطرح جوهرها أمام الفلسفة بما هي كذلك.

يبدو أننا كما بدأنا الحوار بالأخلاق بصدد السؤال السابق، ستكون القيم هي النهاية لفكرة تحتاج إلى حوار آخر. لأن الفلسفة تجري حواراً مع ما هو خفي لدينا، مع ما لا ندركه من أول وهلة حياتياً وثقافياً. والقيم لا ندركها كما يجب. وعدم الإدراك هو المسافة الخالية – مثل صحراء الربع الخالي- بين جوهر ما نفكر فيه كموضوع وطبيعة هذا الموضوع بالفعل. وهي مسافة الأخطاء والأوهام والهواجس التي تملأ مجتمعاتنا. وصحيح أنّ الدين– أي دين- يتحدد بالقيم التي يحملها، غير أنَّ القيم في الأديان تكون إطاراً أو مرجعية أو أصلاً أو غاية أو سراً خفياً. وجميع تلك الأشياء بوصفها قوى لدى الإنسان ستقف الفلسفة إزاءها كنوعٍ من التساؤل. فالفلسفة ستطرحُ استفهاماً حول: ما الذي يجعل القيم غايات؟ وهل الغايات خليقة بهذا الاسم؟ وبأية صور ستكون القيم كذلك؟ وهذا من أجل إدراك التفلسف بأنَّ المقولات المذكورة لا تخلو من قضايا للحوار والنقد والنقاش.

***

حاوره: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

11/9/2024م

 

خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (1)

س27: أ. مراد غريبي:  سؤال الدين في جزءٍ كبير منه ينصبُّ حول إشكاليات الوعي والتجديد من جهة وأيضا جدليات التراث والتاريخ والمعاصرة والحداثة … دكتور سامي: ماذا يعني الدين بالنسبة لك في علاقته بالفلسفة والرؤى التجديدية؟ وهل الدين نقيضٌ لكلِّ ما هو فلسفي في حين فلسفة الدين في الغرب شكلت تحولا جوهرياً في بزوغ عصر الأنوار، أم في عالمنا على العكس من ذلك؟

ج27: د. سامي عبد العال: تعبيرٌ دقيقٌ أستاذ مراد غريبي حين قلتم: سؤال الدين. لأنَّ هذا الاستفهام ينطلق من جانب الإنسان، وأيضاً مُوجَّه إلى الإنسان في المقام الأول. بكلمات واضحةٍ: أنَّ الدين سؤالٌ لا يذهب إلى الدين فقط كوحي دون أشياءٍ أخرى، إنما إمكانية الدين هي ذاتها إمكانية الأبعاد الإنسانية إجمالاً.  وليس ينتظر الدينُ من الإنسانية أكثر مما تنتظره هي من نفسها بما هي كذلك. إنّه سؤال يحرك معه قضايا كثيرة بفضل التواجُد في الحياة كافةً لا أقل. الدليل على هذا: أنَّ الأديان تحملُ في طياتها دلالة المظاهر البشرية وتُنظّم علاقات الأفراد وتبني المجتمعات وتؤسس لارتباط السماء والأرض وتكشف العوالم فيما يمس مضامين الوحي، بل وتحدد سيرة الموت والمصير. وذلك كله بقطع النظر عن اختلاف الأديان والموقف الفكري منها قُرباً أو بُعداً.

إذن يجب ألّا تنطلق "دعاوى التجديد" دون فهم التراث وتحليل وضع الدين إنسانياً بجميع محمولاته. التراث والتطور يدخلان ضمن هذه المواقف تجاه حياتنا البشرية. والإنسان كائن خطير على الأصالة، لا لشيءٍ إلاَّ بسبب أنَّ حياته (كجزء من التاريخ) تلخصُ (كل الحيوات الأخرى)، وهو كائن متوافر على امتلاء وجودي غريب وشبه تام.  ولو لم يكن ذلك مُتاحاً عملياً، فعلى الأقل يشعر به داخلياً ويضع نفسه في هذه المكانة. حيث يرى ذلك التصور ساعياً إليه إزاء جوانب العالم والموجودات. إنَّها فكرة طافحة بمعاني المركزية التي انتشرت خلال عصور البشر المتتابعة قديماً وحديثاً. أي الفكرة نفسها التي تسمح للإنسان بإدعاء الألوهية والتفكير في الخلود وبناء سلطته وممارسة الإطلاق في أفكاره وإيديولوجياته.

الغريب أنَّ البعض يتكلم عن الأديان كأنّها تنفي أسئلة التراث والتطور والتغيُر. فلولا تلك الأسئلة لما كانت الأديان أدياناً من الأساس. إنَّ الأخيرة (الأديان) تعي جيداً: ماذا سيكون وجودها في الغد، كما أنَّ سؤال التراث هو سؤال كل مُعتقد بحكم اشتغاله على الإيمان واليقين. وبخاصة أن الأديان لا تختفي بسهولة مع مرور الزمن، حتى ولو كانت أدياناً وثنية قُح، لأن جوهر المعتقدات كامن فيها بالنسبة لكفاية الإنسان بما يُؤمن شعوراً وفعلاً. حيث يتم تطلُع الإنسان نحو المقدس واشباع نزوعه الروحي وهدهدة مخاوفه الميتافيزيقية وإكمال صورته إزاء الناس والعالم. وليس سهلاً أن تتوافر هذه الأشياء في معتقدات ثم تتلاشى دون سابق إنذار!!

تصعُب التفرقة بين طرح" الدين كمعتقد" وهو يمس معاني الإله والوحي وحقائق الايمان من جهةٍ، وطرح "سؤال الدين كمشروعية إنسانيةٍ" من جهة أخرى. الدين بكونه إيماناً سيظل في باب المشروعية دائماً من زاوية عالم الإنسان. على سبيل التوضيح: لقد اختار الدين الإسلامي أنْ يضع نفسه في الوضع الحر القابل للنقاش قصداً. أي أنه يطرق أبواب الفهم والعقل والنظر والحث على النقد والتساؤل دون كلل، وذلك قبل أنْ يقول أي شيء آخر عن نفسه وعن أصحابه. لنتخيل أنَّ دينا جاء ليرسِّخ أصوله، فإذا به يشدد على مكانة التساؤل والمراجعة على ما يطرح من حيث المبدأ!!

حتى إذا ظن أتباعُه أنهم تمكنوا من ناصيته، فسرعان ما يعود إلى المشروعية الإنسانية مرةً أخرى. إن الإنسانية كوعاء تقبل أو ترفض الدين.. هذا حق مقدس في الاسلام. وقد يبقى الإسلام داخل تلك الدائرة لا يبرحها، وهي دائرة المبادأة والحوار والنقاش بين ذاته وأقرب الناس إليه. وتاريخياً، فإن الإسلام كحبة من عنقود الابراهيميات هو الذي وقف عند تلك المسألة طويلاً، وكأنه أراد أن يحرر ذاته من تبعات المعتقدات البشرية ناهيك عن تحرير اتباعه من فكرة الهيمنة التي استنزفت جُلَّ حياتهم. لأن اختبار الإنسان لا يتم إلاَّ بإزاحة القيود والأثقال التي يعتقد فيها ولو كان الإنسانُ نفسه هو مصدرها. إنه المعنى العميق بأن أفكاراً لا يتم الإقتناع بها إلاَّ إذا تحرر الفكر ابتداء... أي مناقشة المبادئ والأسس أولا ثم الفروع والنتائج ثانياً.

لقد وَضّح القرآن المسألة بنداء عاجل ومباشر، عندما قال: " من شَاءَ فليُؤمِن، ومَنْ شَاءَ فَليكْفُر". وهذا الإقرار شرط سارٍ على الاعتقاد (الدين ) وعلى المشروط ( الإنسان) جنباً إلى جنب. ويبدو أنه شرط على المرجعية أيضاً (الإله - الوحي) من قبل الخالق. وتلك ذروة العدالة والتحرر من قبل خالق الإنسان تجاه كل ما ينتمي إلى فكرة الإله. لأنَّ الخالق عادة لا يرضى بتحلُل المخلوق من وجوده، فما بالنا بكون الإله ذاته يقول: من أراد ألَّا يؤمن بما أقول، فليؤمن هو بما يشاء. المشيئة تسبق الإيمان كنوعٍ من قدرتنا نحن الكائنات الإنسانية على تحمُل المسئولية. والمشيئة تحمل مسئولية عدم الايمان بمعناه الاعتقادي مثلما تحمل أي شيء آخر.

ولكن إنسانياً يدخل الإثنان في إطار إرادة الإنسان والموقف من الدين. ولعل ربط الجانبين (الايمان واللا ايمان) بإرادة الإنسان هو معنى مقصود - من قبل القرآن- لأنّ هناك أسئلة وجودية ومعرفية وحياتية أخرى في خلفيات المشهد. الأسئلة التي تمثل (نتيجة ومقدمة) لفهم الدين وما يلاصقه من قضايا وموضوعات. مثل أسئلة الواقع وكيفية العيش والاختلاف والآخر والحقيقة والتنوع والاخلاقيات والقيم. وهذه بمثابة نوافذ لفتح كل المعتقدات والمجريات الفعلية لحياة الإنسان على خطوط الزمن، سواء أكانت تحديثاً أم سرديات أم أفكاراً.

لا مناص إذن من جدليات سؤال الدين والتراث والحداثة. وهو أمر وارد بالضرورة لعدة أسباب:

* يتطلب فهم الدين وجود رؤى للعالم والحياة والوجود. فالدين كأصل لا يستغني عن حياة الناس كفرع، وكل الأديان تستهدف وجُود مرات متكررة من الحيوات التابعة والمطبقة لها، وإلّا لما كانت أدياناً قيد الاعتقاد. ولن تكون تلك الرؤى جديرة بالاهتمام ما لم تأخذ التطورات الحداثية بعين الاعتبار. وليس شرطاً أن ترتهن كلمة الحداثة بمرجعياتها الغربية، حين نتحدث عن الدين الاسلامي أو المسيحي أو اليهودي.

* الوعي بالأديان يسبق تكملة مسيرة الإنسان نحو معتقداتها. لأنّ عمق الوعي ذو طابع قلق بطبيعته، وأنَّ ما يكون شرطاً لشيء، لابد أنْ يمتد حتى نهاية هذا الشيء. ولعل ذلك هو ما يجعل هناك دعاوى للتحديث والجدل حول سؤال الدين، سواء أكانت بصدد النشأة أم الثبات أم الإضمحلال أم عودة الأديان مرة أخرى في البيئات المعلمنة الرافعة لشعار نهاية المعتقدات اللاهوتية. إن هذا الوعي هو ما يدفعنا نحو النظر إلى الأمام، وهو نفسه ما يستدعي التطوير من وقت لآخر.

* الحياة متغيرة، والأديان ذاتها تتبنى إجابات عن سؤال الحياة وتبدد المخاوف نحوها. والاجابات ثابتة بحكم درجة اتساعها لا درجة تحديدها. وطالما أنَّ حياتنا كذلك، فإنّ موضوع التحديث أمر مهم، بل أكثر إلحاحاً. إن مقولة الحياة ليست مباشرة الطرح لمن يرددها ولا لمن يتلقاها، فهي تعبر عن ضرورة تحويل الدين من كلام عام ومطلق أحياناً إلى تجارب نوعيةٍ. وتلك هي الضرورة البشرية التي لا مفر منها. ولذلك تمثل الحياة محكّاً للاختبار المتواصل. لا تلوى على مرحلة هدوء وثبات، إنما تقلب الأشياء رأسا على عقب. وتضع الأديان في منعطفات ليست بالقليلة. ومن فعل التاريخ أن ظواهر الأديان تذوب في مرجل الثقافة حتى التماهي.

* قضية التحديث. وهي تؤشر نحو حقبة الحداثة (النهضة والتنوير) في الغرب الأوروبي وبخاصة قيم العقلانية والذاتية والآخر والتسامح والتعددية والإرادة العامة والمساواة والحرية والتنوير وبناء الدولة والقانون.

* قضية الحضارة وهي قضية يجب أن تتجه إلى حل مشكلات الواقع والاعداد لمستقبل أفضل. ولن يكون ثمة دين من غير أنْ يثير القضية سلباً أو ايجاباً. وليست عقول البشر تقف دائماً موقفاً جامداً من الحضارة، لأنَّ العقل ابن ما يعتقد، ابن ما يفكر ويكد فيه، رغم كونه يستطيع تغيير نظرة الإنسان. وفي العموم، تعتبر نشأة الأديان نفسها ألواناً من الحداثة، من الثورة على القديم، من الاختلاف الذي يجب أنْ يحدث.

* سؤال المستقبل، فالأديان تهتم بحكم الاعتقاد بما هو آتٍ. ولذلك تنشد رسم خريطة البشرية نحو المصير والزمن. وكل مستقبل هو هاجس البشر صوب الجديد. فلا يوجد مجتمع أيا كانت سماته العامة إلا وينشغل بالقادم. وصحيح قد لا يطرح المجتمع السؤال بشكل فلسفي، غير أنه يُثار مع التعليم والسياسات العامة والبرامج الاقتصادية ونمط العيش المُشترك.

اختصاراً.. إذا كان الدينُ لصيقاً بطبيعة الإعتقاد كأحد أشكاله، فالتحديث يظل لصيقاً بما يحياه الإنسان كحامل للمعتقدات. ولاثنان (الاعتقاد والتحديث) يخرجان من مساحة إنسانية واحدة، أي يشتغلان على رقعة الإيمان بالزمن والحياة والسيرورة والآتي والماضي والموروثات أيضاً. وليس هناك تنازع ثنائي متنافر حول تلك الرقعة، بل هو تنازع واحد برأسين مشتركين يستمران في الجدل والحوار. وعندما يتجدد نمط العيش، يبقى الاعتقاد والتحديث عاملين مؤثرين في بعضهما البعض. بدليل أن الحداثة تأخذ مظهر الاعتقاد أحياناً في بعض المجتمعات ضاربة جذورها في التقاليد والحضارة. وكذلك قد يكون شكل الحداثة متوافقاً مع الثقافة الجارية في مجتمعات أخرى مثل معتقداتها بالضبط.

الدول الأكثر علمانية مثل فرنسا ما فتئت تحافظ على النمط السائد والموروث من فنون العمارة وأشكال الشوارع وصور الحياة المختلفة وأساليب العلاقات بين الناس والسمات التاريخية للمجتمع الفرنسي. حتى نبرة العلمانية نتيجة تيمة التكرار بكون فرنسا جمهورية لائكية (فصل الدين عن شئون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشئون الدينية ) laïcité .. أقول حتى تلك النبرة تبقى طي المعتقدات. وهذا يعني أن بناء ما يفصل الدين عن الواقع هو ذاته هدم لما يفصله عن التحديث.

من هذه الزاوية، ليس الدين طارئاً في دائرة البشر، إنه (ظاهرة الظواهر) التي تستوعب وجودنا المشترك. وتدور حولها جوانب البشر واقعاً وخيالاً ومشاعر وأحداثاً. وهو يقصد المعنى الذي يرتبط بجذور وعينا ووجودنا يداً بيد. فالشعائر الدينية – على سبيل المثال- تُضفي لوناً من المعاني والتناغم والانسجام على العالم. ويصعب أن نتعامل مع الأشياء دون هذه الرؤى التي تتسرب إلينا. كما أنَّ الدين ليس وظيفة، أي ليس بُعداً استراتيجياً، لكونه أعمق رمزية وأكبر جهاز تواصل مع كافة الحيوات في وقت واحد. وهو نتاج الوحدة التي تربط اعتقاد وإيمان الإنسان بفكرة الخالق، وهي الفكرة المتصلة بكيفية ارتباط الإنسان وجودياً. ولا يمكن إزالتها بسهولة دون إزالة كيان البشر.

الدين بالتالي هو الدلالة العميقة لما يتصل بأسرارنا الوجودية، أسرار الحياة والكون والطبيعة. وعندما نتصل بتلك الأسرار، تعطينا قدرةً على التحرُر، لكونها أعمق من أية ألغاز أخرى وأكثر رحابة مما نتخيل. ولذلك سيكون لقاء الدين والفلسفة لقاءً غير عابر، لقاء بالضرورة حاصل منذ أن كانت الفلسفة بمثابة قدرتنا المبدئية على فنون العيش وفهم العالم. بلغة متجاوزة: غدت الفلسفة دين العقل والدين هو عقل الوجود وقلبه النابض. إن الدين يرى نظاماً معيناً لحياة الإنسان ويضفي عليها قيمة نابعة من جوهرنا. ويحرك ما بداخلنا شريطة الإيمان بما يقول. وهذا الأمر يحرك مجموعات متوالدة رياضياً- مثل متواليات الأعداد- من الرموز والمعاني المباشرة وغير المباشرة. بحيث قد يرى المُؤمن تلك المتواليات الرمزية والدلالية في علاقاته الخاصة والعامة وفيما يفعله طوال الوقت نوماً ويقظة.

الفلسفة تصقل رؤى البشر نحو العالم، نحو ذاته، نحو المجتمع، نحو الزمن. أي تؤسس لمجالات الوعي والحقائق. إنها عيش الصداقة مع الأشياء والتّسمُع لنداء الحقائق والتطلع للمجهول وبناء عوالم أكثر رحابة. التفلسف هو فنون اللقاء مع المجهول الذي لا ندرك ولا نعرف ماهيته. ولكننا نسعى إليه طوال الوقت، لعلّها تعيد توطينه داخلنا وداخل ما نريد تحقيقه.  المجهولات هي الرؤى التجديدية التي ننتظرها ونتدرب عليها. كل تجديد إمّا أنْ يكون على علاقة وثيقة بالفلسفة أو لا يستطيع أن يوجد. ولذلك فإن فشل مشروعات التجديد والنهضة في شرقنا العربي الاسلامي بسبب فشل الرؤى الفلسفية وضعف الفكر.

إنَّ الفلسفة تتوسط المجالات بين الأديان والرؤى التجديدية، لكونها أسبق عقلياً وحياتياً في الوعي من المعتقدات وأكثر عمقاً من التجديد. الفلسفة تشتغل على أسئلة الوعي واللاوعي وعلى الجذور الإنسانية البعيدة لوجودنا الحُر. وليس سهلا معرفة أبعاد الحرية إلاّ بقدر ما يعيش الإنسان مفارقة امتلاكها وفقدانها في الآن نفسه. بعبارة أخرى أن الفيلسوف يعرف ماهية الحرية وكيف تنقلب إلى قيود ومسئولية فارغة من محتواها. الفيلسوف يعي ذلك تماماً، بخلاف أصحاب الأديان وأصحاب الرؤى التجديدية معاً. ففي الأديان قد يظن الناس أنهم يمسكون (جمرة الحرية) بكل ما أوتوا من قوة طالما يدخلون حظيرة الإيمان، وأصحاب الرؤى التجديدية يتصورون كونهم يدركوا مستقبل الحياة وقد استبقوا إلى التجديد.

بينما لا يدرك الاثنان أنهما يحولان الحرية إلى عبء ميتافيزيقي ضاغط. ولن تكون ثمة حرية من غير المخاطرة المتواصلة بفقدانها والحرص على توسيع نطاقها باستمرار. لا توجد حرية من غير المجازفة باتساعها. ومن حيث إمكانية فقدانها، تستطيع كل حرية العودة والمحافظة على تطورها وتحمل تبعات وجودها.

الطرفان (أصحاب الأديان وأصحاب الرؤى التجديدية) لا يسألان سؤال الخارج عنهما (خارج الدين وخارج التجديد)، لأنهما مأخوذان بالانغماس في الآني. ولذلك يظل أصحاب الدين في حاجة إلى (رؤى أخرى) على الدوام ويقتضي الواقع من أصحاب التجديد أن ينظروا فيما يقولون دون توقف. إنَّ الفلسفة هي من تُؤشر إلى ذلك، واقفة عند الحدود القصوى للأشياء والأفكار. ولكن الأديان تتشبث بمقولة المعنى، وقد أفرغت شحناتها التاريخية من بعض المظاهر والأحداث. وهو الشأن الذي يجعل الفلسفة متطلعة إلى المختلف والمغاير من أحوال الناس نحو الأكثر حرية. لا يهم الأديان سوى التمكُّن من امتلاء مساحة الايمان والاعتقاد، بينما تسعى الفلسفة إلى شحن طاقة البشر على الاختلاف والوعي المضاعف بالحقائق والأفعال.

ليست الفلسفة ديناً ولا تنافس الدين ولا تصارع المعتقدات رغم اتساع الأخيرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولا يريد الفيلسوف أن يكون كاهناً ولا يستطيع. ولكن الفلسفة بإمكانها أن تقول للأديان: كيف ينتمي الإنسان إليها؟ وكيف يتلقى معناها وبأية أطر يستطيع أن يعتقد دينياً؟ كان كانط يتساءل من حين لآخر: ماذا بإمكاني أن أفعل؟ وماذا يمكنني أنْ آمل؟ إنهما سؤلان يتجاوزان الأديان والتجديد، ويعرّفان الكائن الإنساني: إلى أي مدى ينبغي النظر إليهما. فالأديان تقول: إليكم أيها البشر هذه الأفعال لا غير، فلتؤمنوا ولتعبدوا الإله ولتقيموا الشعائر كما جاء بها مصدر الدين دون سواه، وكذلك التجديد يضع خطوطاً يراها مهمة لكل حياة ممكنة في الغد.

ولكن سنجد أن ما يليق بالإنسان هو شأن فلسفي على الأصالة. ومن ثمَّ، كان على الفلسفة الاسهام في الرؤى التجديدية تجاه أوضاع الأديان، موروثات ومكانةً وثقافة وأحداث الأديان. لأن الدين في ذاته لا يوجد منافس له، وهو غير قابل للتفكيك ولا التلاشي. فالميتافيزيقا لا يحيط بها شيء مما ليس ميتافيزيقيا. وتاريخياً خضعت أوضاع الأديان الكبرى دون استثناء لعمليات من النقد والغربلة وإعادة البناء والاصلاح.

اليهودية امتد إليها النقد الفلسفي من جانب ثقافتها وتاريخها والأيديولوجيات المحيطة بها. لم تترك الفلسفةُ شاردة ولا واردة في هذا السياق دون فحصها الدقيق. من يقرأ فلسفة الألماني مارتن بوبر سيرى: كم كان دأبه الفلسفي لمعرفة الاعماق الفكرية لليهودية. ناقش مسألة الآخر والاغيار في تاريخ اليهود وناقش تجلي الرب ومسائل تواصلية وثقافية كثيرة. وصحيح تم تصنيف بوبر كفيلسوف يهوديJewish philosopher ، بيد أنه كان فيلسوفاً مستنيراً وانتقد الصهيونية انتقاداً شديداً. وكذا حنّا أرندت وهي فيلسوفة يهودية رأت أنَّ اليهودية ليست ديانةً كالأديان العادية، بل اعتبرتها محاطة بالأيديولوجيا من كل جانب، وأن الشعب اليهودي لم يكن ضحية شعوب أخرى، بل كان ضحية نفسه. وعندما تتحول اليهودية إلى جهاز أيديولوجي لن تكون إلا ّمسرحا للعنف. ولذلك وجهت أرندت نقداً لاذعاً إلى الصهيونية واليهودية التاريخية (شعب الله المختار ومركزية الموروث اليهودي). ورأت في اسرائيل نموذجاً متجسداً لما آلت إليه اليهودية من عنف وانعزال.

انتقد سبينوزا - قبل مارتن بوبر وحنا أرندت- التوراة نقداً نصياً توثيقياً، معتبراً أن الكتب المقدسة المنسوبة لليهودية لم تكن دقيقة من الجهة التاريخية وأخذ في دراسة النصوص المقدسة كما لو كان يدرس ظواهر الطبيعة بمنهج رياضي هندسي من الجهة المعرفية. اعتبر سبينوزا ذلك النقد لوناً من محاولة التيقن من صحة النصوص وصحة الايمان بها في الوقت عينه. لأن صحة النصوص والكتب المقدسة يعقبها صحة الايمان من عدمه، وما إذا كان الأخير منحرفاً أم لا؟! كما انتقد سبينوزا خلطاً سحرياً بين سلطة اللاهوت والسياسة، حيث يمثل الخلطُ باباً لظهور الأساطير والخرافات، حيث ظل هذا الخلط فاعلاً للهيمنة على عقول العامة وتعطيل عمل الفكر وتدنيس الأخلاق.

وبالمثل ثمة اتجاهات نقديةٌ كثيرةٌ ظهرت مع المسيحية، بدءاً من نقد النصوص المقدسة كالإنجيل والقصص والروايات وأعمال الرسل ومروراً بالفكر الوسيط، فكر آباء المسيحية الأوائل ثم انتهاءً بنقد اللاهوت المسيحي الذي أسس للميتافيزيقا الغربية، وتم على أثره فتح آفاق جديدة للتنوير وهدم سلطة الكهانة السياسية. وليس خافياً أنَّ معركة التنوير الأساسية كانت ضد خرافات العصور الوسطى المسيحية. وكانت المجتمعات الغربية التي تعملقت فيها الأصولية المسيحية سياقاً للنقد وشكلّت جوانبها السياسية ورشة تفكيك مفتوحة حتى الآن.

أمَّا في الثقافة الإسلامية، لم يكن الدين الاسلامي هدفاً للنقد إلاَّ بمقدار ما يُزج به في أتون الخلافات وصناعة السرديات الخادمة لسلطة الهيمنة. وكانت دول العرب تصطنع لنفسها سلاحاً دينياً كنوع من الغلبة والغنيمة. وهو أمر شهير في التراث العربي الاسلامي نتيجة ثقافة القبلية، بل ظل سارياً وأخذ صور الحداثة المختلفة. وهو تحويل الدين من معنى إلى أداة، من بناء يرتفع بنا إلى هاوية يسقط فيها الناس وتفريغ قدرتنا الإنسانية من الانتماء الحر والبعد الكوني الرحب والايمان المفتوح إلى أيديولوجيات ضيقة تعبئ بعض الناس ضد آخرين وتتخذ من لحمنا الحي وقوداً لحروب دينية لم نفقد أوارها حتى اللحظة.

لنلاحظ أن الدين يتحول بعد مرور مجتمعاتنا برياح الحداثة إلى سلاح أيضاً. وذلك أمر غريب في عصرنا الحاضر. فالدول العربية الراهنة تصر على إدخال الدين بصور معدلة إلى ساحات الصراع مع الجماعات الدينية وكذلك مع شعوبها. في أغلب الدول العربية الاسلامية، هناك دور لرجل الدين مع امساك الناس بملقاط الخطاب الديني. وخلال جميع المناسبات الرسمية تجد رجل الدين بجوار رجل السياسة بجوار أعلى القيادات الرسمية... ما معنى ذلك؟! معناه أن المشهد مرسوم بعناية وأن عناصر القوة واحدة لا تتجزأ. ولا يخفى على المتابع أنَّ أحداث الواقع تُحسب على هذا المتصل الثقافي والرسمي. فالسياسات تشترك فيها تلك الأطراف إن لم تكن بالفعل، فعلى وجه التضمين، أي يَستقر في لاوعي المتابع أن رجل الدين لا يقل أهمية عن رجل السياسة. وأن ما فعله رجل السياسة بأدواته وكلماته المعسولة سيفعله رجال الدين بخطاباته الهادئة وتلاوته لمقولات السلف والخلف.

ليس الدين حاضراً هنا من قبيل القضاء والقدر، بل بفضل الاعداد والترتيب لهذا اللقاء على شرف وعقول الجماهير. وبخاصة أن تجربة الايمان تمتد إلى نفوس الناس، وأنها جزء لا يتجزأ من أسئلتهم الوجودية والحياتية. إن الفلسفة تكشف كم التوظيف الذي يخضع له الدين رمزاً ومعنى وفكراً وثقافة. لأن التفلسف يحفر عميقاً حول المعطيات والتجليات الراهنة. ومن ثم، ليس ما هو ديني مضاد لما هو فلسفي إلا حينما يشتد صراع الاستيلاء على (أدمغة الناس) باسم السلطة.

إنَّ فلسفة الدين رؤى فكرية حُرة تبتغي كشف أصول التجارب الدينية وجذور المعتقدات وكيف يتم إخضاع الناس لها. وراهناً تحاول فك وتفسير الشفرات والدلالات التي تربط المعتقدات بصور الحياة المختلفة وتوضح الأبنية الفكرية التي تبطن جوانب الأديان وتفاعلها مع الواقع. هنا ليست الفلسفة معنية بإيمان الناس ولا تنصب من نفسها معياراً لقبول الآراء، فليؤمن هؤلاء أو أولئك كيفما شاءوا وبالطريقة التي يريدونها، غير أن الفلسفة تتدخل عندما ترى الإيمان صراعاً أو سلاحاً مدمراً لقدرات المجتمعات البشرية، وعندما تصبح الأديان خرائط للبحث عن النفوذ ضد قيم العقلانية والتنوع والتسامح والحوار بين الناس. وليست فلسفة الدين الراهنة مذاهب تجريدية لتحليل الأفكار الدينية وكشف بناءها الاعتقادي، لكنها تأويل وخطاب نقاش لفتح تجارب الحيوات الدينية في شتى الأديان... وكيف يوجد الدين في التاريخ والثقافة وبأية أساليب يبقى رمزياً، رغم الوجوه العلمانية والمادية لحياتنا المعقدة.

وبناءً عليه، بإمكان فلسفة الدين أن تقدم رُؤى تجديدية وتطورية للأوضاع الدينية لا الدين بمعناه العقدي أو الشعائري. ولا أؤيد الفصل بين ما يسمى علم الكلام الجديد وقضاياه (لمجرد كونه مرتبطاً بجذور تاريخية بعلم الكلام القديم) وفلسفة الدين. لأنّ فلسفة الدين أكثر اتساعاً وبإمكانها الافادة من المعارف الإنسانية المختلفة وتبني رؤى حضارية وفلسفية متنوعة بخلاف علم الكلام الذي يقف داخل محراب الدين وقد لا يبرحه. كما أن فلسفة الدين تتبنى منظورات إنسانية أكثر حرية تجاه قضايا التنوع والتعايش والاختلافات بين الأديان، وبإمكانها أن تقدم تأويلات ثقافية ورمزية للتجارب الدينية، وأن ترى التقاطعات بين النصوص المؤسسة والواقع المعيش لا مجرد إصدار أغلفة جديدة لبضائع قديمة.

س28: أ. مراد غريبي: صار الحديث في الموروث أو التراث حديثاً في الدين، والتفكير الديني والعلوم الشرعية تنتمي في جزء كبير منها إلى التاريخ الثقافي للمجتمع، هل هناك تناقض ما في وعي الدين لدينا بالنظر لفوضى المعرفة الدينية وتهافت الجماهير في الوعظ والفقه والدعوة والجدال والإفتاء والتكفير وما هنالك؟ ألا يقتضي الراهن العربي والإسلامي اليومي أكثر من أي وقت مضى، نوعاً من إعادة نظم الوعي والخطاب بين ماهو فكري وماهو ديني في حياة الناس؟

ج28: د. سامي عبد العال: ظاهرةٌ جديرة بالاهتمام: أنَّ هناك حديثاً راهناً حول الموروثات والأديان. وقد أخذت في التوسع مع التواجد المستمر على صفحات الواقع الافتراضي والتداخل الكوني بين الثقافات والتراشق الثري بالحوارات والنقاش. ولاسيما أن مجتمعاتنا العربية تعيش حالة من المراجعة والتفكير فيما هو حادث على أغلب المستويات. وقد يرى البعض أنَّ تلك مبالغة واضحة، نظراً لكون الأمور رتيبة على صعيد السياسة والاجتماع. ولكنها رؤية يعوزها الدقة. لأن الأحداث والتحولات العالمية -وبخاصة مع صعود الجماعات الإسلامية واضمحلالها- قد وجّهت صدمة للفكر العام. هل هؤلاء من يعبر عن حال مجتمعاتنا العربية ومعتقداتها الدينية؟ أليس هؤلاء نتاج الموروثات التي ظللنا نلوكها طوال الوقت؟ هل هؤلاء أناس أتوا بنموذج ديني لطالما تحدثنا عنه؟! ما معنى أن يكون المورث مثالياً في خيال أصحابه، بينما نسخته العملية مشوهة وضد مبادئ الإنسانية؟!

من جانب آخر، على الرغم من كون ثقافتنا تعيش بعض ماضيها الآن، إلاَّ أنها تجربة لن تخلوا من إيجابيات. لأن ذلك يضع الموروثات في مواجهة عملية مع التطورات الراهنة. لقد أخفقت مجتمعاتنا الراهنة في ولادة مفكرين وفلاسفة كبار، ومع ذلك لن تحول دون مواجهة الواقع الذي أصبح كونياً. أحياناً بعض الجوانب التعويضية تكفي لكشف الحقائق. ومن مكر التاريخ أنه قد يضعك على اعتاب مرحلة جديدة ليتم اختبار المراحل السابقة ويعيد الكّرة بشكل مختلف. ثم يقول لك: أنت لم تكن مقصوداً لذاتك، بينما هو يقصدك ويقصد غيرك في إطار أوسع من الأحداث. فليس التاريخ جزئياً، إنه يُلخص وجودنا العام كثافةً وزخماً. فإذا لم تكُن الموروثات حاضرة بنفسها، لأنها بنت الماضي، فأنْ نعيشها مرة ثانية سيجعلها موضوعاً لنقاش وتأويل جديدٍ.

والناس لا يدركون كون الموروثات عالقة حتى النخاع بالجوانب الثقافية وسياقات المعرفة التي انتجتها. الموروثات لا تخلو من ظروف وأفعال مهما كانت موجودة في الماضي. وأخطر ما تفعله مجتمعاتنا أن تنتزع حيوات الأسلاف كي تعيش في جلبابهم الشفاف. ونحن ندرك أن الأسلاف لم يكونوا على قدر من التطور المنشود، حتى في زمانهم بالمعايير المطروحة آنذاك لا بمعايير الزمن الحاضر. ذلك بحكم أن تطورات الحياة والواقع لا تكتمل عادة في عصرها أو في عصر آخر.  ومعنى أن نستحضر حيواتهم: أننا عاجزون عن العيش بمفردنا، وأننا لا نستطيع مواجهة الصعوبات. ففي تاريخ الأديان ما يجيب عن سؤال: كيف يمكننا أن نعيش عصرنا مدركين ما يتخفى في الأديان من ثقافة ماضوية؟!

إن العقائد والأحكام والتشريعات لم تسر في حياة العرب هكذا، بل ما كان لها إلاَّ أن تتفاعل مع الثقافة السائدة. فبعض التشريعات الخاصة بالزواج وملك اليمين واختيار الإمام وممارسات أهل الحل والعقد إنما هي مسائل تتجاوب مع التقاليد المعمول بها. ويستحيل تحليلها أو تبريرها دون النظر طويلاً في تلك التقاليد. والأديان تجري حواراً خفياً بين قوانين الواقع والثقافة وبين ما تريد قوله. وسواء أكانت التشريعات والأحكام اتفاقاً أم رفضاً لبعض التقاليد، فيجب أن نعي التفاعل والجدل بين الأديان والسياقات المختلفة.

ولذلك لن نفهم الأديان إلاَّ بمجموعة من الأفكار:

أولاً: الأديان تتكلم عن الأصول (أصول الشعائر والأحكام والتشريعات)، بينما يصعب فهمها واستيعابها بعيداً عن الثقافة. لأنَّ هناك أكثر من نسخة وأكثر من معنى تسمح للبشرية بترتيب الأوضاع عليها، رغم أن التشريع واحد، وقد يكون النص واحداً كذلك. أي أن فهم الأصول يقتضي معرفة وفهم الثقافة لها، وما إذا كانت هناك آثار لهذا التأصيل أم لا؟!

ثانياً: تعيش الثقافةُ التي تحيط بالأديان تجارب مختلفة معها. فالأديان -ضمن تاريخها الممتد- ترسم نظاماً آخر للحياة والإنسان والمجتمع... ولكن هذا بعد رسوخ الثقافة أمرٌ صعب التحقق. والتاريخ يقول إن الأديان تحقق أهدافها في ضوء ممكنات الواقع، وليست ثمة نقطة صفرية يتسنى الانطلاق منها. إن الثقافة سابقة ولاحقة وكذلك تطلق المحاولات تلو المحاولات لاستعادة نظامها لو تمَّ اختراقه.

ثالثاً: البشر هم العنصر الأهم في تلك العلاقة، لأنهم الوسيط والهدف بالتوازي. ورغم كون الإنسان غائباً من جانب مركزية الدين، إلاّ أنه الفاعل الرئيس الذي يعبر عن آليات الثقافة وقدرة الأديان على الحوار معها.

رابعاً: على المدى القريب أو البعيد، يستحيل نزع الأصداء الثقافية عن تعاليم الأديان. حتى لو حرصت الأديان من جانبها على ذلك، فلن تصمت الثقافة. فالثقافة تتمتع بنفس طويل في الحضور والتداخل والالتواء وإعادة التشكيل. كما أن الأفراد (وهم موضع رهان الأديان)، لن يفهموا الأديان خارج الثقافة بما هي كذلك.

ليس من شأن الأديان نصب معركة تجاه ما سنكون عليه، فالمستقبل لا ينتظر أحداً. فجأة ستجد الزمن أمامك بكل تعقيداته، وعليك أن تفك شفراته طوال الوقت. لكن شأن الأديان تاريخ واقع بحكم وجود البشر. والتاريخ فيزياء زمنية تشكل كل ما ينتمي إليها من معتقدات. وليست ثمة مبارحة بين مجريات التاريخ وأحداثه، بين جسم وحركة وتفاعل الأفكار والأديان. الأصداء مشتركة والمعاني متداخلة والأحداث تتردد داخل بعضها البعض. وليس بعيداً أن تطلق (الإمبراطورية العباسية) و(الإمبراطورية الأموية ) في باحة الخيال العربي سرديات لتعضيد ملكهما. سرديات من التفسير ورواية الأحاديث وقصص الاسلام المبكر والمواقف الدينية المسيّسة والخطب المنبرية وكتابة السير والمغازي التي شكلت العقل الجمعي. وكل ذلك يجعل القارئ الحصيف الذي يقرأ تاريخ الاسلام حذراً وفاهماً لجوانب الثقافة. ليس من باب التشكيك كما قد يلتقط البعض طرف الخيط، ولكنه من باب الفهم الأوسع لحركة الموروثات وإنشاء بنية تساؤلية توقظ الوعي.

كانت لعبة السياسة طوال مسيرة التاريخ: كيف سيتم استثمار القوة الرمزية الكامنة في الأديان؟ لا يهم ماهية الدين ولا ما إذا قال الدين ذلك أم لا؟ المهم هو بأية طريقة سيكون الدين متمكناً من كيان أصحابه. لا وصولاً إلى الحرية، إنما بالوصل إلى السيطرة على إرادة الناس بدلاً من شرودهم. وهذا الوضع في المجتمعات العربية أخذ أطواراً من التحول، حيث تأسس على القبيلة والعصبية، وتأسس على سلطة الإمام ورجال القوم، ثم على قوة الدولة العابرة للقوميات مثل الدولة العباسية والأموية ثم مع ظهور الحداثة العربية تراجعت الدولة لتقبض على الدين بالمعاني القديمة ذاتها في شكل الحاكم والبرلمانات والمؤسسات السياسية. ولكنها لم تنس كون الأديان أكبر مؤسسة توجد في عقول وقلوب أصحابها، وأنها منبع كل هيمنة منتظرة عليهم اليوم وغداً.

الفارق بين الدولة العربية القديمة والدولة العربية الحديثة: أن الأخيرة لم تقل ذلك ولم تعلن صراحة إمساك الدين والاعتقاد بين أظافرها، فقط أدخلت مواطنيها في خضم شعائر رسمية تضاهي المناسبات الدينية. إنه دين السياسات الجديدة وهو أشبه بلاهوت مسيس يخلط بين الاعتقاد والمراسم والتراتب السلطوي. ولذلك تركت الدولة الاعتقاد مساحة مشاعاً بين الناس والجماعات والأفراد اتساقاً مع الحداثة العابرة، وكذلك حتى لا تبدو مهيمنةً بقبضة من حديد. ولاسيما أن الأديان تجارب تخص أصحابها وتستوطن قلوبهم قبل أي شيء آخر. وكذلك لم يعد العالم متوارياً فيما وراء تضاريس السياسة، بل أصبحت قواه الكبرى حاضرة في تفاصيل الأحداث والاقتصاد والصراعات والمنظمات الدولية.

هذا هو سبب حدوث الفوضي في الآراء والفتاوى والخطابات والجماعات الدينية. وهو أمر أُجزم بكونه مقصوداً بالسياسة لا بالإرادة، بترتيب الشأن العام لا بتنظيم المجتمع. وظهرت الجماعات الدينية لتقتنص الفرصة، كي تملأ فراغاً كهذا. ونظراً لأن الدين يجب أن يتشخص اتصالاً بمخيلة الموروثات، فكان لابد من بروز أشباح جماعية من حين للآخر. أي هذا التناسل بين الجماعات الدينية وانبثاقها وانشقاقها بشكل متوالٍ. لأن الصورة العامة لم يستطع أحد تحديدها واشباع هويتها المفقودة. فالمؤمنون بالأديان يحاولون أنْ يملأوا خيالاً وايماناً متعطشين إلى وجود الدين بشكل كامل.

ارتبط ذلك بانطواء الأديان على شيء مهم ألا وهو أن آلية الوعظ تشحن لسان وذهنية المؤمنين. بحيث يخرج أحدهم من فوره واعظاً لا يوقفه أحد. إذ يمارس دور الوعظ أمام الآخرين.. في الساحات العامة والمدارس والجامعات والمنتديات. وتعاضدت السمة المذكورة مع قدرات الأفراد على ذلك ومع مشاعية الإعتقاد الديني الذي تركته الدولة استراتيجياً. والمشاعية نتيجة جملة أشياء:

1. عدم التحديد وعدم التجديد، وكأن أفق الدين لا صاحب له. أي أن الدول العربية الحديثة تركت الدين تحت غطاء الحريات، ثم سمحت ضمناً بأن يدخل ساحته أي أحد قادر على ذلك شريطة ألا يقترب من هيبة السلطة وقدراتها.

2. عدم المساس بكيان الدولة، لأنَّ الدين يسعي إلى التشخُص( التعيُن) كما أشرت. إذن على اتباع الأديان أن يتركوا الدولة وشأنها طالما تركت الأديان وشأنها. ورغم أن المعادلة شبه رسمية، إلا أنها خادعة، ففي أوقات اللزوم تضرب الدولة بيد من حديد وتستعيد مكانتها مرة أخرى.

3. نظراً لكون الأديان تجارب خاصة ترتبط بالحقوق، فكانت الدول العربية تتحسب من تلك الحقوق. لأن فتح باب الحقوق الدينية بما يلاصق وعي المؤمنين من أفكار، سيجر حقوقاً سياسية أخرى مسكوتاً عنها. إذن من الأفضل – هكذا تقول سلطة الدولة- أن تقايض مشاعية الأديان بمشاعية الصمت.

4. إثارة غبار الجدال والفتاوى في منعطفات مهمة سياسياً. وهو أمر مطلوب لحجب الرؤية بوضوح وكذلك لتمرير السياسات وقتما يريد أصحابها. لكن ذلك نصب مسرحاً لفوضوية الجماعات الدينية ووعاظ الشوارع وخطباء المنابر.

5.  انجرفت صور الدين إلى الجدال والنقاشات التافهة مثل مراسم العبادات والتدين الشكلي وألوان وسطح الحياة اليومية. بينما توارت، بل دُفنت حية، قضايا الحضارة والثقافة والتسابق نحو التواجد المنتج بين جنبات العالم.

كل ذلك لو نلاحظ قد افرز واقعاً مُسطّحاً على حساب الفكر الأصيل. لأن الفكر لا يستطيع الإنبات في أجواء من الغبار والثقافات التافهة والعابرة للحقائق. إن العرضي والثانوي إذا نشبا مخالبهما في واقع ما يصعب أنْ تنزعها مرة أخرى دون الاضرار بكل ما يمت للواقع بصلةٍ. ويستحيل لمجتمعات أدمنت التسطيح والإيهام أن تنخرط في موجات حقيقية من الفعل والتطور. إن الفلسفة بقرع طبول الأسئلة ربما تتمكن يوماً ما في إيقاظ الناس للمبيت في العراء، عراء الواقع ومشاعية الفكر الذي ظل قيد النسيان. إن الفكر في تلك الأجواء قد تم مصادرته وتأميمه هو الآخر. لأنه أصبح بضاعةَ من لا بضاعة له، كما أنه غدا فوضوياً من غير معايير. ويستطيع كل من هب ودب أن يغدوا مفكراً ألمعياً دون فكر بين يوم وليله.

المفترض أن يكون الفكر أصيلا ومبدعاً، ولكن نظراً لرسوخ ثقافة التهميش وترك المجال بلا تطور، غدا الفكر الديني لوناً من التراجع للتمسك بالقديم والشروح دون إضافة. والفكر بالتحديد ما لم يسقَ بحركة الحياة تطوراتها سيذبل ويتحول إلى صخرة هلامية عملاقة في طريق المجتمعات. وهذا ما حدث نتيجة صناعة الفراغ الديني والفكري، إذ تخلقت كيانات وهمية سواء أكانت أشخاصاً أم مؤسسات، وقد باتت عقبة كأداء أمام الجديد. رغم أنها تزعم رفع لواء التحديث والتجديد.

ولا ننسى أن الفلسفة هي فن بناء العقول القادرة على التحرُر والتساؤل. ونتيجة اهالة التراب عليها هي الأخرى، فقد فقدت الجماهير قدرتها الذاتية على أصالة التفكير. وفقدت مناعتها العقلية إزاء تصديق الأوهام والألاعيب. ليس هذا فقط، بل إنّ عقولاً فارغة من الأسئلة الحيوية يسهل أنْ تكون عقولاً تافهة. إنها قطعان من الأدمغة المتشابهة التي لا تلوي على شيء. وقد تراهم ألوفاً ومئات الألوف في مسرح كبير لممارسة التفاهة والأنشطة غير الضرورية، وقد تراهم عقولاً رسمية مغطاة بكم مهول من الألقاب الذهبية وهي محض قشور لا أصل لها.

يمكن تصحيح الصورة ببعض المعالم التي يجب أن تتحقق:

* إعادة الاعتبار للأفكار الأصيلة التي لا تقل خطورة عن الصناعات الثقيلة في المجتمعات الناهضة. وأنَّ ما يعطي المجال للتافه هو من يصنع تسطيحاً للعقول ويدمر قدرات الأجيال على الابداع.

* مقاومة الاستبداد بجميع أشكاله، لأن نمو الفكر الحقيقي يحدث في ساحات الحرية لا بين جدران القمع. لو كانت الفكرة مهيئة للتطور والانبات، يمكن أنْ تقتلها فكرة مستبدة إذا رأت فيها خطراً. وأم المشكلات العربية هو الاستبداد بجميع مقدماته وتبعاته وأساليبه الملتوية والمراوغة.

* الأديان مجال إرادة وتغيير لا مجال وعظ وإرشاد وعنف. ولم يحدث التكتل باسم الأديان في تاريخ العرب إلاَّ عندما انتشر الوعظ دون واقع وغلبت السلطة منطقَ الحياة.

* فتح المجال العام أمام التنوع والاختلاف، طالما هناك ثقافة داعمة ووافرة القدرات. لأن غلق المجال أو ضرب حوله سياجاً من الصمت لن يفيد المجتمعات العربية. الصمت لن يجدي إلاّ من يترقب الفرائس في سكون الغابة وبين الاحراش. لكن في واقع المجتمعات، هناك النقاشات الجادة وتعديل المسارات والاشتغال على الأولويات وبناء العقول.

* الفلسفة نمط حياة وأساس فكر لا دراسة ولا مستوى تعليم. لكونّها درجة من درجات الوعي الحُر. وبإمكان الإنسان البسيط أنْ يتمتع بيقظة فلسفية أكثر من دارسي الفلسفة. لأنه يتدرب يومياً على طرح الأسئلة والتقاط الشارد والغائب من الأفكار. وتلك كانت أحوال الفلسفة في منبتها الثقافي، إذ كانت تصقل العقل وتهيئ أساليب الفهم وتقوِّم إرادة التغيير.

* ضرورة الانفتاح على العالم، لأن الإنسانية الكونية تطرح حلولاً لأغلب مشاكل المجتمعات المتعثرة. إن التجارب الحرة مثلها مثل تجارب التخلف تبث العدوى وقد تكون مجدية إلى أقصى درجة. فتجارب الحياة الأخرى حاضرة في تفاصيل الحضارة المعاصرة.

تحتاج مجتمعاتنا العربية إلى لون آخر من الفكر، هو الفكر الحر الذي يُدرك ذاته قبل أن ينتقد غيره. لأنَّ المشروعات الفكرية تبدأ بآمال عريضة، ثم سرعان ما تتصلب معتبرة نفسها موطن اليقين. وهو ما يسمح بتحويل الأفكار إلى مستنقع يجذب هوام السياسة وفوضى الحياة العامة. وبخاصة مع تداخل المصالح وعدم القدرة على طرح البدائل. هناك مجتمعات عربية تدفع الثمن مرتين: مرة من أفكار ومعتقدات مسيّسة تحتل مشاهد الصدارة وتترتب عليها خطط وبرامج وأعمال في جوانب المجتمع. ومرة أخرى عندما تريد تذويب هذا الركام الذي ثبت فشله واقعياً. وفي الحالين لا يمكن التخلص من تلك النفايات بسهولة.

الفلسفة - في أحد وجوهها غير المُكتشفة - هي الآلية الفذة التي تستطيع التخلص من ركام الأشياء والأفكار والمخاوف. الفلسفة دودة الفكر أو دودة العقول اليقظة التي تُفلتر وتعيد تدوير مخلفات الثقافة. تماماً مثل الديدان التي تسبب تحللا للجثث، وتساعد على تنظيف الطبيعة وإعادة الالتحام بموادها الأولية. فكما أنَّ الأشياء الطبيعية تحتاج إلى ما يُقوي عناصرها، فكذلك العقول تتطلب ما يعيد إليها قوة الفكر وثراء الأفكار ولو عكسياً بعد فوات الآوان. وهذه التجربة لابد أنْ تخوضها المجتمعات العربية بواسطة الفلسفة إذا أرادت أنْ تتطور. لأنَّ من أحضر العفريت محدقاً به.. كان عليه أنْ يتعلم: كيف يصرفه أولاً.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - صحيفة المثقف

4/9/2024م

خاص بالمثقف: الحلقة الثامنة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

 ***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (5)

س25- أ. مراد غريبي: ماذا عن "فلسفة الثقافة" في الدرس الفلسفي عربياً؟

ج25- سامي عبد العال: على وجه التقريب لم تنل " الثقافة " تحليلاً فلسفياً إلاَّ مؤخراً. وأقصد وضع كلمة الثقافة بين علامتي اقتباس، لكونها مهمة وكذلك نتيجة بداهتها الدالة في حياة الإنسان من غير العناية بها. بمعنى أننا كنا في انتظار مرور قرون من الإهمال، حتى تُدرج الثقافة ضمن عناية الفلاسفة. إن الثقافة فضاء متجاوز لكافة التخصصات، حتى ولو كانت الأخيرة مترامية الأطراف. والحقيقة أن الثقافة موضوع حاضر وغائب على مائدة الفلاسفة والمفكرين بشكل رئيس. وتلك هي المفارقة التي ظلت سارية المفعول طوال تاريخ الفكر الإنساني. حيث تقف الثقافة وراء مشروعية الفلسفة وكذلك وراء عطب الفكر الفلسفي واعاقة تمرد الأفكار إجمالاً، كما هو حادث في بعض الثقافات الشرقية والغربية.

لم يكن ذلك عفوَ الحال طوال الوقت، بل كانت الثقافة فضاءً مجهولاً من قبل التفلسف، لأن الفلسفة لا تتعامل إلاَّ مع الكيانات الكبرى. وهي كيانات رمزية أو مادية تهتم بحياة الإنسان مثل الأخلاق أو الميتافيزيقات أو اللاهوت أو الوجود. ثم جاءت السلطة التي ترفض وضع نفسها تحت مشرط التحليل وتتخفى بأزياء الثقافة متماهيةٍ مع كل ما هو لصيق بالفكر والوعي العام.

الفلسفة على مستواها التجريدي تنظر إلى ما يدعم إنسانية الإنسان أو تعطيه سردية أخرى لا تقل أهمية عن وجوده. ومن ثمَّ، لم تكن الثقافة مرئيةً بالنسبة لعمل الفلاسفة من أول وهلة. والأبرز أن الثقافة لم تسمَ باسمها الواضح وجها لوجه في دائرة الحوار وسوق النقاش (أجوراً agora باليونانية). فالعادات والتقاليد تأخذ عنوان الأخلاقيات، والعقائد تتقمص شكل اللاهوت، والأفكار المتداولة تعملقت في أغلفة براقة هي الآراء الشائعة ... وهكذا كانت تتراجع الثقافة كـ"توصيف فلسفي" لصالح مكونات أخرى.

وإذا كان هناك شيءٌ تنطبق عليه الفكرة الآنفة، فهو الثقافة العربية. الثقافة العربية لم تلتفت كثيراً إلى ذاتها مع تحولات التاريخ. والدليل هو إقصاء المفكرين الذين يساءلون العقائد والسلطات القائمة من عصر لآخر وتهميش أصحاب الآراء الثاقبة التي يُشتم منها المس بالأنظمة المهيمنة. وكل ثقافة حين لا ترى ذاتها بوضوح ستفقد قوتها التي لا تُرى. وهنا التحدي الكبير الذي تواجهه الثقافة: أنَّها في الوقت الذي تُراجع خلاله مسيرتها، ستكون على أعتاب مرحلة مختلفةٍ من التواجد والتحول. أي أن العلاقة بين مراجعة الثقافة لذاتها وتحقيق وجودها علاقة مطردة مع التغير المنتظر منها، لأنها ستشير إلى السلبيات والايجابيات وستتيح فرصة الغربلة والتساؤل حول كل ما يحدث.

ومن ثمَّ، كلما انخرطت الثقافة في تيارات الوعي إزاء ذاتها حضرت الفلسفة  في قلب ساحتها. وهذا قانون تاريخي بالنسبة لأية ثقافة من الثقافات ولأية علاقة ستربط الأخيرة بالتفلسف. وهذا الأمر يتوقف على عدة جوانب:

1- انفتاح الثقافة، وهو عملية التحرر التي تجعل متون الثقافة قابلةً للإضافة والحوار والاختلاف والتضّاد.

2- التنوع الثقافي، أي بروز المكونات التي ترسو إلى قاع أية ثقافة .. غربية أم شرقية. بحيث تعبر عن نسيجها التاريخي، وتحدد كيفية تواجدها بصورة حية وشاملة ورد الاعتبار إلى معالمها الممتدة.

3- الاختلاف الثقافي، وهو ما يظهر إمكانية حضور المختلف بقدر ما يكون المتشابه موجوداً. وهنا يظهر الجدل لا بالمعنى الهيغلي (القضية ونقيضها والمركب منهما)، إنما بمعنى جدل الابداع والانتاج الذي يحطم كل مُركب ينتظر الاستحواذ على التغيُر في المستقبل.

هذه الأبعاد رغم نأيها عن المألوف إلاَّ أنها ستكشف إجابة السؤال: ماذا عن وجود فلسفة الثقافة في الدرس الفلسفي عربياً؟ إذْ أنني لست من أنصار تحديد المتخصصين: من الأول ومن الأخر؟ ومن ذا الذي فعل كذا وكذا في مقابل سواه؟ لأنَّ سؤالكم (أستاذ مراد غريبي) رغم شكله العادي إلاَّ أنه عميق عمقاً لا حدود له. وهو فيما يبدو لي يمثل سؤال الثقافة إلى ذاتها، وما إذا كانت قادرةً على التطور والاختلاف أم لا؟!

لقد كانت فلسفة الثقافة ضيفاً غير مرحب به بين أروقة الأكاديميات العربية، لأنَّها تثير القلاقل المعرفية. والأغرب أنها ظهرت خارج جدران الفلسفة بمعناها التقليدي لدينا نحن العرب. بدت فلسفة الثقافة كغصن غريب في شجرة عتيدة وارفة الأبعاد وسحيقة الجذور. وكأن الفلسفة في مجتمعاتنا عندما تشعر بالاختناق الفكري، تأتي منافذ التهوية من خارج التقاليد المعروفة أكاديمياً. وهذا اتساقاً حال الثقافة العربية بالمثل حين تنغلق حدودها عبر عصور التراجع الحضاري تأتيها الثقافات الحدودية لتنعش أطرافها. لقد كانت فلسفة الثقافة متنفساً آخر، كي يرى أصحاب الثقافة أنفسهم على خريطة الفكر والحياة. وكانت هذه الفلسفة تباعاً قدرة معرفية آتية من أي اتجاه كان، وبخاصة أنَّ كلمة الثقافة هنا واردة بمعناها العام، فترتب على ذلك أن جاءت فلسفتها ذات طابع إجمالي بالمثل.

إن فلسفة الثقافة موقف فلسفي جذري من محددات الفكر والفعل. وقد وضعت أطروحاتها بشكل نقدي وبأسئلة أساسية حول الإنسان والحياة والسلطة واستغلال الآخر واطلاق الحريات ومناكفة الاكراهات والقيود. ولذلك ريثما نجيب عن السؤال الأساس، يجب الالتفات إلى غير المتخصص،  ولكنه يقع في مناطق من جنس الثقافة. على سبيل المثال: بزغت فلسفة الثقافة من كتابات الرحالة وناقدي الفكر الديني والأدباء والشعراء وعلماء الاجتماع والانثربولوجيا والمؤرخين. وهم ليسوا معنيين بالاهتمامات الفلسفية في المقام الأول، بيد أن الفلسفة بحكم وجودها عند الدرجة الصفر للتفكير في أي مجال ، فقد ظهرت بقوةٍ في الهوامش وأخذت تسري عبر سراديب الأفكار هنا أو هناك. من لا يقول إن عبدالله القصيمي فيلسوف ثقافة؟ من ينكر أن مالك بن نبي فيلسوف ثقافة كذلك؟ وهما الاثنان يقفان على ضفتي الطريق بشكل متقابل!!

هكذا تبدو فلسفة الثقافة مُلحة بدرجة مدهشة، متى كانت أسئلة الإنسان جوهرية حول ما يفكر فيه ويحياه. وبالأصالة ذاتها المميزة للأسئلة، كشف بعض الإبداع اسهام الأدباء والشعراء في هذا المجال. قام شعر محمد الماغوط على فلسفة الثقافة ويقع كذلك بمسافة قريبة من أشعار محمود درويش ونزار قباني والجواهري وأحمد مطر رغم اختلاف الماء الشعري وأصالته. إن هؤلاء أصحاب رؤى ثقافية فلسفية عميقة لا تخطئ سهامها جذور الثقافة العربية.

وتتميز الاسهامات الآتية من خارج الفلسفة بما يلي:

أولاً: نوعية الابداع وفرادته، فالأشعار تتسمع لأصول الأشياء والأحداث والمجتمعات والتواريخ. وحدها الأشعار لا تقول الصدق، بل هي الصدق ذاته ولو كان كذباً، لأن الكذب صورة للتعبير عن الحقيقة التي تستحضر معالم الثقافة. ويمثل أحد مفردات الثقافة حين يعوزها التنوع والتعبير عن وجودها.

ثانياً: شمول الرؤية الشعرية، الشعر ليس تجزيئياً ولن يكون. هو يشترك مع الفلسفة في البعد الإنساني الكلي. ليس هناك إنسان لا يتلقى الشعر الأصيل إلاَّ كما لو كان يخاطبه تحديداً. والفلسفة أصلها هو الطابع الشعري الذي بلور نمط الفكر الشائع. في أغلب الحضارات، كانت الأشعار والأساطير والموسيقى والرموز شيئاً واحداً، وليست بينها وبين الحياة وسائط فارقة، لأنَّ المعنى يأتيها تلقائياً.

ثالثا: الثراء الشعري، الأشعار بصمات متفردة إلى درجة الاختلاف والتمايز. ولذلك كل شاعر يقف على باب رئيس من أبواب الثقافة، إنه يكشف الجوانب البعيدة ويحدد الآفاق الثرية ويطبع طرائق التفكير والمشاعر بما يقول. وهذا التنوع الابداعي يجري لصالح الثقافة، إذْ يخترق الشعر الكثافة الثقافية البادية للعيان من العادات والتقاليد قابضاً على ما هو جوهرى.

رابعاً: النفاذ والنقد. ليس هناك من شاعر أصيل إلاّ ويقول ما يصعب قوله. الشعر وُجد ليقول المستحيل لا الممكن.  الممكن يُقال على قارعة الطرقات والحياة ونواصي الحوارات والجدال، ولكن الشعر لا يقف على الطرقات، إنما يتوغل باستمرار داخل الأزقة والدروب المهجورة. وهذه السمة بصدد الثقافة تُعري وجودها، تبدد الحجب الغليظة التي تواري الحقائق. الشاعر له (عيون ميتافيزيقية) لرؤية العوالم المختبئة في دهاليز الثقافة. وليس النقد هنا نقداً أكاديمياً ولا تقليدياً، ولكن الشعر يقدم رؤى فذة ويخترق الأنساق الصامتة صمت القبور، ولا يقبل الارتكان إلى المباشر والفوري.

بجانب ذلك لا ننسى أن فروع الأدب الأخرى منطوية على ألوان من فلسفة الثقافة. وهذا مجال واسع جداً بما لا يضيق على جنس أدبي دون آخر. فالرواية زاخرة برؤى ثقافية عميقة. ولم تكن الرؤى واردة اعتباطاً، بل الروائي يظل يشتغل على الأنساق الثقافية التي تتنفس منها الشخصيات أفكارها وأساليب الكراهية والبغض والحب والتسامح والحرية وأنماط العلاقات المشتركة. إن كل شخصية – بحسب مساحة الرواية – تجسد فضاء من الثقافة التي تؤثر في مساراته من البداية حتى النهاية. إنَّ سردية الثقافة تسبق سردية القصة، يصعب للأخيرة أنْ تُحرك معانيها وأغراضها دون الأولى. إن الثقافة هي الآثار الأولى لحياة الإنسان ولا يجري شيء في أفعاله وأفكاره من غير هذه الآثار.

هنا فقط يمكن أنْ نصل إلى فلسفة الثقافة في الدرس الفلسفي العربي، لندرك إلى أي مدى أن هذا الدرس مازال لم يتقدم بصدد هذه المسألة. أي لم يواكب الدرس الفلسفي حركة الأدب والشعر، فالأدب يقفز قفزات بعيدة بينما الجانب الأكاديمي مدرسي يحتاج إلى نظريات ومفاهيم نمطية. فالدرس مهتم بكم من الاستراتيجيات التعليمية المعتمدة على التكرار لا الابداع. جاء مقرر " فلسفة الثقافة " مجرد مقرر إما على تلاميذ الجامعات أو على باحثي الدراسات العليا. وطبعاً تنتشر تلك المقررات بإسم التعليم الجامعي الذي فقد مسارات الإبداع. لأن الابداع متسارع وعاصف ويحتاج إلى قدرات خاصة. كما أنَّ البيئات العربية باختلافها لا تقبل بسهولة أفكار العلوم الإنسانية، فما بالنا بطروحات فلسفة الثقافة. فتلك الفلسفة تخاطب الإنسان الآخر فينا، تخاطب المقموع، تخاطب المقصي، تخاطب المتطلعين إلى الحرية، تخاطب العقول المستنيرة، تخاطب الوعي المغاير، تخاطب قدرتنا على النقد الذاتي، تخاطب آمال الإنسانية، تخاطب شعورنا بالقيود التي تحكم أساليب التفكير والتعقل.

وحتى على صعيد المجتمع العلمي بين التخصصات المختلفة أو بين المكونات الاجتماعية، ليست فلسفة الثقافة إلاَّ فرعاً فلسفياً يستمد أفكاره من علوم الاجتماع والأخلاق والأنثروبولوجيا والتاريخ. وتتطرق إلى آراء الفلاسفة من باب سرد المقولات وجرد الأفكار. وهذه أكبر حيلة لتحجيم طاقة الفلسفات على التغيير وافهام الناس معنى إنسانيتهم الحرة. والدرس الفلسفي وقع في الفخ ذاته من جهة وضعه في قوالب زمانية وفنية وسلطوية، بعيداً عن ممارسته بأساليب العصف الذهني وحرية النقد وتحليل الواقع والمناقشات المطروحة.

الملاحظ أنَّه قد ثار جدال حول فلسفة الثقافة، ما إذا كانت الأخيرة تخصصاً طفيلياً أم لا احتكاماً إلى صلب الفلسفة؟ وكأن الفلسفة عندما تعالج موضوعاً ما، فإنها تعطيه ختماً سلطوياً بإنضمامه إلى حزمة الموضوعات الفلسفية!! جرة قلم واحدة تحدد مصير الأفكار والموضوعات.. يا لها من فكرة ساخرة تحتاج إلى نسف من الأساس. ولذلك ليس مستغرباً أنْ تبدأ دروس فلسفة الثقافة بسؤال حول الثقافة كموضوع مُلّح أم لا في مجال الفلسفة ومدى صلاحيتها الفكرية.

علينا البحث عن " فلسفة الثقافة " الحقيقية خارج الأطر التعليمية، خارج القوالب الجاهزة، خارج قاعات الدرس. لأنَّ السلطة في ثقافتنا العربية واحدةٌ لا تتجزأ. وهي تستدرج الفلسفة كي تكون هجينة بمعالم البيئات المحلية دون النظرة الكونية التي تحرر المحدود وتنتقد ما توارثناه حتماً لا إبداعاً. كلُ فلسفة كي تكون لائقة بمسماها، ستحتاج إلى ثقافة منفتحة لا إلى حاضنات منعزلة. وهذا الشرط - فيما يبدو - يقع على نحو كلي بقدر ما هو جزئي بالمثل، لكون الفلسفة ضرباً من تحرر العقل والفكر كلاً لا جزءاً. والفلسفة لا تمل من الطرق بكل ما اوتيت من قوة على أبواب المجهول كي تعبر عنه وكي تدربنا عليه. سواء أستطاعت أن تحيل المألوف والمعتاد إلى مجهول تحت منظوراتها الثاقبة أم تمكنت من التمهيد لمجهول مغاير يستحق التواجد والعمل في متن ما نعرف.

س26- أ. مراد غريبي: ممتاز د.سامي، دعنا نقترب أكثر لو سمحتم، المثاقفة وليدة الثقافة، التثاقف دينامية ذلك كله، سؤالي كالآتي: كيف تقيمون رهانات التساؤلية الفلسفية والثقافية عربياً بخصوص مدارات الاستلاب واكراهات الاغتراب؟

ج26- سامي عبد العال: التساؤلية هي قدرتنا الحيوية على طرح أسئلة جذرية، أي طاقة الإنسان على أن يرسم خريطة للاستفهامات الجديدة وأن يُفسح فرص التفكير المختلف. أخطر شيء أن يكون الإنسان شبيها لإنسان آخر، وأن يفكر بالطريقة نفسها التي يفكر بها غيره. أي عندما يصبحان نسخة متطابقة من بعضهما البعض. وأكثر الأمراض الثقافية تأتي من التشابه لا الاختلاف. وطبعاً يواكب هذا كله صور من المعاني والتحليلات التي تقتضي فهم المواقف والأفكار والموروثات والأحداث والظواهر.

جميع ذلك يستند إلى حركة السؤال كي يعبر عن وجوده. ولذلك لا تُوجد تساؤلية questionism   تحت التوقيف ولا في حالة هدوء، لأنها تحرك المياه الراكدة وتدهشنا بالأسئلة الحرة تلو الأسئلة. إن كل مجتمع لا يخلو من أسئلة مسكوت عنها لم يتطرق إليها فاعلوه. ودوما كل سلطة لا تريد منك: أن تتساءل، أن تستفهم، أن تبحث عن المختلف، فقط عليك أن تتقبل الاجابات طوال الوقت من غير رفض!!

تظل الأسئلة أبقى من الإجابات مهما طال الوقت، فالسؤال لا يخبو بتاتاً ولا يتوارى من مرات طرحه، لكونه ابن الطرح، ابن تجربة الفكر الحي مباشرة. وحده السؤال من بين الاستراتيجيات الفكرية الذي يحمل إدهاشه وطزاجته وألمعيته وقدرته على الاختراق. وكلما استطاعت الثقافة افساح المجال للأسئلة (أو تستوعب وجودها) كانت ثقافة حية قادرة على الحياة.

من هنا تبقى مفاهيم المثاقفة والتثاقف والتثقيف مفاهيم معبرة عن جوهر الأسئلة، لأن الأسئلة تعبر عن عملية دينامية ممارسة وفكراً. وهذا نتيجة الاختلافات الكامنة في أية ثقافة. إن الثقافة بطبيعتها تنحو نحو الكلي المنظم والمتواتر، ولكنها مع ذلك عبارة عن أنطولوجيا الإختلاف بحكم وجود الثقافات والموروثات والأنسجة الفرعية التي تكونها.

ولا يحدث تثاقف إلاَّ بهذه العملية، لأننا عندما نعي جوهر الثقافة وتصبح عقولنا مدركة لوجودها، فلا يحدث ذلك إلاَّ بتغير النظر إلى الثقافة من داخلها لا من الخارج. وهذا هو قانون الانفتاح على الآتي أو القادم. أن تتسع الثقافة إلى كل التداعيات الحرة داخلها أيا كانت. فالتثقيف كلمة آتية من: الحذق والتهذيب والتبرية والصقل والتمهيد والاعداد والدربة والسن والشحذ. مثل إعداد الأرض وسن الرمح وشحذ الآلة وتبرية الأقلام والدربة على الأعمال وتجريب المهارات... وجميعها عمليات وممارسات دالة على التطلع إلى شيء مغاير.

تلك السمات الموجودة في جذر الكلمة هي سمات تساؤلية بالدرجة الأولى. وأحد جوانب الأسئلة كونها فناً لطرح المختلف وإثارة الوعي وكد العقل، لأن السؤال الفلسفي جذري واستراتيجي بالوقت عينه. جذري لكنه استفهاماً أصيلاً وكلياً واستراتيجي باعتبارها لا يقبل إجابة واحدة داعياً إلى طرح رؤى مختلفة. وليس ثمة شيء أدق من القول إننا في حاجة إلى تطعيم الثقافة بنزعات تساؤلية لا تتوقف عند المعتاد والمكرر، بل تطرح مزيداً من الجوانب المبتكرة وتطور من آليات الوعي بالثقافة. وذلك حتى لا تتوقف ثقافتنا على ما هو معروف ولا تمارس دور الرقيب المهيمن على فكر الإنسان.

هذا معناه عدة أشياء جديرة بالتوضيح:

1- تلتقي التساؤلية مع جذر الثقافة والتثاقف. فبالإمكان أنْ يلتقيا على مساحة واسعة من العمل والنشاط الخلاق في حياة المجتمعات العربية.

2- التساؤلية تفتح نوافذ للإفضاء والتداعي ثقافياً. لأنَّ الثقافة قد لا تدرك من ذاتها كيفية عمل ذلك. والتساؤلية فلسفياً تتبنى هذا المعنى بل تشق دروباً إلى هذا الهدف.

3- التساؤلية الثقافية هو الوصول بحالة الثقافة إلى أن تتبنى الأسئلة لا أن تكون طاردة لها. وهذا أمر حيوي على كافة المستويات رغم العواقب التي قد تأتي من ورائه.

4- التساؤلية تعيد صناعة الثقافة إلى الإنسان، لا تشعره بكونه كائناً مسلوب الإرادة. فلئن كانت الثقافة نتاج تراكم تاريخي وعملية معقدة من آليات وأفكار وفنون ترسبت في وجدان الناس وعقولهم، فالإنسان تساؤلياً بإمكانه أن يعيد لذاته المكانة المفقودة. وأنه بالتساؤل يستطيع إعادة الكرة مرة أخرى بين يديه، وأن يبدع ثقافياً مثلما أبدع أسلافه باعتباره كائنا ثقافياً.

أجل الإنسان كائن ثقافي في المقام الأول، ولا يضاهيه كائن سواه من مملكة الحيوان. ويعني ذلك أن الثقافة التي يوجد فيها هو يصنعها وليس منطقياً أن يتوقف عند أحد صورها النمطية. وبخاصة أن الصور الثقافية النمطية هي التي تستجلب (الاغتراب- الاستلاب alienation) عن طريق اتجاهين.

الاتجاه الأول: أن تسقط الثقافة في فخ الجمود. وهو مدار ضخم بإمكاننا أن ندور خلاله طوال أزمنة عربية لم تنته بعد. وليس لنا كبير عناء إذا أردنا تحليل هذا الاتجاه داخل الثقافة العربية، من جهة الجوانب التي يتم تقديسها سواء في الثقافة الدينية أم الثقافة الاجتماعية أم الثقافات الفرعية الغالبة على أصحابها.

حيث يتم سلب حرية الإنسان وقدراته الحية على الانتاج والتفكير. وهذا أمر غير مشعور به عادة. لأن الثقافة تعطي فاعليها انطباعاً بالامتلاء باستمرار وله كافة المبررات التي يريدها. فيكفي الإنسان العربي أن يمارس الحياة كما مارسها السلف من باب كون شكل العيش مرتبط بالتدين وإقامة الشعائر والعادات والتقاليد. وعلى امتداد الخط، يكمل الإنسان بطبيعته التي ترتكن إلى المألوف جوانب الحياة. ومن ثم تصبح إمكاناته مأخوذة أو بالأحرى مسلوبة لصالح أزمنة وعصور سالفة.

إنه "الاغتراب الناعم soft alienation" .. ذلك الذي يقع فيه الأفراد تحت الشعور بالاطمئنان واليقين بكونهم يعملون ما ينبغي أن يكون. والمفارقة هنا أن جوهر الفعل ودلالته لا تكتسب إلاَّ بالعودة إلى الماضي في الوقت نفسه يعبر عن المستقبل، لأن كل فعل يأمل أن يؤثر فيما آت دون العودة إلى الخلف. كما أن مبررات الفعل السلفي ستكون للأمام بالتبعية مع أنها تستمد درجة قبولها من الماضي.

وهذا الاغتراب أخطر أنواع الاغتراب، فهو يجري بصورة عفوية ويتميز بالعمومية حتى يصبح نزوعاً يصعب العيش دونه. ومع الوقت يصبح جزءاً لا يتجزأ من وجود الإنسان، مع أنه كائن حر وقادر على التجاوز والاختلاف.

ومن ثم توجد أمام هذا الاتجاه عدة رهانات تساؤلية:

1- رهان الوعي التساؤلي: لماذا ينحو الإنسان نحو سلب وجوده بنفسه؟ ولماذا يعيش حالة اغتراب من غير الوعي بها؟

2-  رهان الحقيقة: والحقيقة قيد التساؤل لا بعيدة عنه. فالذي ينخرط في عملية اغتراب ناعم لا يشعر بالحقيقة، فهو لا يرى الأشياء والعالم من حوله.

3- رهان المسئولية. السؤال قريب المعنى من المسئولية. فأنْ تتساءل أي أنك تتحمل مسئولية الاستفهام، ما سينجم عنه من آثار. وكل مسئولية تأخذ جزءاً من المكانة التي يجب أن يتمتع بها الإنسان. وهي التي تكفل له أن يضع ذاته فيما ينبغي أن يكون.

4-  رهان الذات – الآخر: بدلا من ذوبان الأنا في الآخر التاريخي الموروث، ستكون التساؤلية زناد إطلاق النار على هذه الفكرة. لعل دوي الصوت يحدث استفاقة من الغيبوبة التي تجعل أناسا فاقدي القدرة على الحياة بشكل كامل.

5-  رهان المعنى: كل تساؤل ينتج معنى لا إجابة فقط. ولذلك كثيراً ما يفقد المغترب معنى حياته إذا لم يكن كائناً متسائلاً على الأصالة.

الاتجاه الثاني: هو مدار الاغتراب نتيجة الارتماء في ثقافة الآخر بشكل مطلق. وفي الثقافة العربية هناك "اغتراب خشن hard alienation  "، وهو أن يعيش الناس بأجسادهم في العالم العربي بينما نمط العيش والتصورات لا تنتمي إلى البيئة ذاتها وتختلف عن الثقافة العربية. وجه الخشونة أن هذا النمط من الاغتراب مرتهن بالسياسات العالمية وتيارات العولمة والمظاهر الاقتصادية التي لا يمتلك العرب قدرة على الاسهام فيها. ولكنهم دوماً مستهلكين، دوماً زبائن على بضائع الغرب بدءاً من الأشياء المادية وانتهاءاً بالنظريات والرموز والموضات الفكرية والإعلامية.

تدريجياً، يُسحب البساط من تحت أقدام الأفراد ويصبحون – على أهمية الثقافات الكونية- بضائع في أسواق العولمة والحضارة الراهنة وحطباً لوقود الحروب والصراعات. وهذا ما حدث بالنسبة لبعض جوانب الثقافة العربية التي تغذت على السمات المادية الناجمة عن الاحتكاك بالموجات الحضارية الغربية، من غير أن يحدث تطور حقيقي في مجتمعات العرب.

وهذا الاغتراب تواجهه التساؤلية بعدة رهانات مهمة:

1- رهان المغايرة: إذْ لابد للمجتمعات أن تدرك كونها مغايرة لا متطابقة مع مجتمعات أخرى، وأن العيش في عصر الحضارة السائدة لا يعني الذوبان أو استيراد كل شيء من المادة إلى العقل والتكنولوجيا.

2- رهان التقدم وبناء عالمنا الإنساني: ليس الأفراد في حالة العيش المستعار غير أدوات لا كائنات إنسانية مميزة. والفهم الحقيقي الذي تبذله التساؤلية أنها تعيد الفكرة إلى الإنسان. فكل سؤال أصيل يمس وتر التقدم ويطرح الزمن ضمن حركة الفعل والواقع. وأن العيش المستعار ليس إلا تزييفاً لواقع عربي لا يحتمل المزيد.

3- رهان الإبداع: وهو أساس أنْ يقول المجتمع العربي ها أنا ذا أقف وسط تيارات العالم وموجاته الحضارية ويجب أن يبدع الأفراد وجودهم وأن يضيفوا ثقافياً. لأن التقليد يتساوى في جناحيه مؤدياً إلى النتيجة ذاتها، سواء أكان تقليداً للسلف أم للمختلف.

4- رهان الحرية: وهو أكبر رهان يمكن أنْ يصادفه الإنسان. فالتساؤلية معنية بفك قيود الفعل والفكر، وأن يتساءل الإنسان إزاء ما يطوق عقله مانعاً إياه عن الانطلاق والاستنارة. والتساؤل هو بداية الحرية ويقظة المارد الذي يسكن الإنسان.

لا يوجد اغتراب مع الحرية، فهما نقيضان لا يجتمعان. وبالتساؤلية إزاء الاتجاهين السابقين تتغير استفاقة الإنسان كي يحقق ذاته وعالمه. إذ ليست الاستفاقة في فراغ، ولكنها عملية متواصلة لا تكف عن الاستمرارية الحضارية، ولا يجب أنْ تخضع لأيديولوجيا أو ثقافة غالبة. ولعل التساؤلية بذلك تمثل طفرة فلسفية قادرة على التأثير في حياتنا العربية، وبخاصة أنها (ثقافة وفكر) بالوقت نفسه، وهو ما ينقصنا نحن العرب في أجواء الحياة العامة.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

25/8/2024م

خاص بالمثقف: الحلقة السابعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (4)

س23- أ. مراد غريبي: عودة للمثقف عربياً، ماذا عن النقد الثقافي؟

ج23- د. سامي عبد العال: النقد الثقافي فرع معرفي يضع الثقافة بكل صورها موضّع التحليل والتساؤل والتعريّة. وليست المعرفة المقصودة معرفةً بمعناها العلمي ولا الأدبي ولا الفلسفي، لكنها معرفة فاحصةٌ بالمقام الأول، أي تستعمل كافة الأدوات والمناهج والمفاهيم التي تسهم في سبر أغوار ما هو ثقافي، سواء أكان ذلك ضمن ظواهر الثقافة كحقل عام يضم داخله أنشطة الحياة أم عبر نتاجات إنسانية أخرى (الآداب والفنون والأخلاقيات والممارسات السياسية والفكرية والفولكلور والعادات والتقاليد) .

وليس النقدُ الثقافي أحد فروع اللغة ولا الأدب على افتراض ربطه بنقد النصوص تحديداً، لأنَّ الأخير كان اهتمامه واضحاً باللغة في المقام الأول معتمداً على أشكال الخطابات والنصوص ذات الصلة. أمّا النقد الثقافي، فأوسع ممارسة من ذلك مستفيداً من علوم إنسانية ليست بالقليلة ومعطياً جلَّ الاهتمام للبعد المنهجي في الطرح والنقد بصرف النظر عن موضوعاته، كما أنه ينهل من الفلسفات الأكثر حداثة ومعاصرة والتي تزوده بجهاز فكري نافذ وواع إلى درجة بعيدة.

يعمل النقدُ الثقافي بشكلٍّ قوي إزاء الأنشطة والمعارف التي أُنجزت منقباً عما هو خاف فيها وليس واضحاً بما فيه الكفاية. لأنه كنقدٍ يضع نفسه على أعتاب تنوع الرؤية وتباين الأفكار وأدوات التحليل والتفسير. وهو يتسلّح بكل جديدٍ تنقيباً عن الأسس الثقافية التي تستبطن افرازات المجتمع وجوانب حياته المختلفة. وإذا كان قد بدأ ناهضاً من داخل الفلسفة والانثروبولوجيا والاجتماع، فقد إمتد إلى مساحات أخرى من المعارف والدراسات. وغدا عاصفاً ومهماً في نظريات الأدب تحديداً، حتى أن البعض أعلن عن (موت النقد الأدبي) لصالح النقد الثقافي. فالنقد الثقافي أكثر فاعلية وإفادة من كافة المجالات، كما أنَّ وجود الثقافة كمنطلق يعطي النقاد حرية الفهم وأبعاداً جديدة لم تعتمد على شكلانية النصوص أو بنيتها اللغوية الصغرى أو الانطباعات تجاهها أو طرح القراءات حولها.

وبالإمكان أنْ نرى مصطلح النقد الثقافي كلمتين (نقد – ثقافة): مرةً بشكل مفردٍ، إحداهما مختلفة عن الأخرى. ويمكن كذلك رؤيتهما معاً كمصطلحٍ قد تجاوز التخصص الدقيق، ليكون ذا نبرة نقدية في أكثر من تخصصٍ. وهو ما أعطاهما زخماً راهناً في ميادين نقد المعارف والآداب وتحليل الفنون والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية. إن أكثر المجالات النقدية خصوبة هي تلك الواقعة على الحدود المهملة بين معارف مختلفة، وهي مناطق عبور يمكن خلالها دمج مناهج عدة ويمكن الافادة من تخصصاتها البينية في الوقت نفسه.

الرؤية الأولى: سترى في النقد فعالية تتخذ من آليات التفكير النقدي ونظرياته المختلفة وسيلة لممارسته على مواد متاحة خلال جوانب المعرفة والفكر. وبالإمكان اعتبار النقد فعلاً من أفعال الحفر والتساؤل والتفكيك عمقاً داخل هذه الجوانب، وكشف نظامها، وكيف توجد وبأية معانٍ تتكون؟ بينما الثقافة بمفردها تعبرُ عن أنساق تشكل الكل الذي اكتسبه الإنسان في المجتمع من عاداتٍ وتقاليدٍ وقوانين ومعارفٍ وعلوم. وعندما يتم ممارسة النقد الثقافي بصدد قضايا وظواهر فكرية أو أدبية، فمعناه البحث عن الأنساق الثقافية واضعاً هذا النشاط أو ذاك محل نقد، سواء أكانت أنساقاً واضحة أم مضمورة أم رمزية أم افتراضية.

والثقافة في ذاتها نسق كلي جامع لكل فضاءات الحياة الإنسانية، وهو نسق يأتي لفهم كيف يحياً الإنسان وكيف يبحث عن المعنى طوال حياته. الإنسان من تلك الجهة كائن عائش في المعنى الواحد تلو الآخر. والثقافة عندئذ هي ما تُميز الإنسان على الأصالة، وهي التي تصنع عالمه الخاص ساريةً في أدق التفاصيل. والمفارقة: أنَّه بالرغم من كون الثقافة صنيعته الأثيرة، إلاَّ أنها تستدير للتحكم في أفعال الإنسان باحثةًّ عن موطئ قدمٍ في كل ما يمارس وينتج.

الرؤية الثانية: تتعامل مع النقد الثقافي كمصطلحٍ تدور معه مجموعة من المفاهيم. والرؤية على وجهين: إمّا النظر إلى تجليات الثقافة أولاً كنقطة محورية. وعليه ستكون بمثابة حقل العمل النقدي والممارسة التساؤلية بحسب القضايا والموضوعات في كافة المجالات، ولأنَّ الثقافة تأتي في البداية من تلك الناحية، فستكون بمثابة الإطار المرجعي لكل نشاطٍ آخر. كل الصيد في جوف الفرات .. كما يقول المثل العربي الفصيح، أي كل شيء في جوف الثقافة من قريب أو من بعيد. وهناك عملية ردٍ reduction لكل شيء إلى الثقافة، حيث تمثل الإله الخفي الذي يحرك الإنسان ويأتيه بالمعاني من كل حدبٍ وصوبٍ. حيث تعطيه صورة متماسكة عن حياته وعلاقاته وأفكاره تجاه الآخرين والأشياء المحيطة به.

وأمَّا الوجه الآخر، فهو نقد أي نشاط بناءً على أسس ثقافيةٍ، فهي تساءل وجودها وفقاً للمعايير التي تطرحها وتتحكم في آليات عملها. فلو كان الشعرُ هو مجال النقد، فالنقد الثقافي يقوم بمهمة كشف الانساق الثقافية التي تتحكم في رؤى الشعراء للعالم والحياة والإنسان والحب والموت والزمن محاولاً مُساءلة تجليات المعنى، لكي يمكن الإمساك بما هو خفي وغير واضح من أول وهلةٍ. دوماً هناك انساقٌ تحكم الإبداع والأعمال البادية بقوة في تماسكها ودلالتها، حتى ولو لم يتم الإعلانُ عنها مباشرةً. لأنها أنساق ترتبط بإفرازات اللاوعي الكامن في جوانب الحياة. وأن ما يظهر قد لا يعبر بالضرورة عما هو باطن وكامن تحت الأعماق أو وراء الكواليس.

ومن وجهة نظري، يستطيع النقد الثقافي أنْ ينهل من أحدث الأفكار والمناهج. ليس غريباً أن تكون أدوات هذا النقد مناسبة للثقافة العربية، ولاسيما أن الثقافة العربية مهيمنة على ذهنيات فاعليها طوال الوقت. وربما ليست هناك ثقافة بهذه الصورة مثلما تمارس ثقافتنا العربية العريقة والمتنوعة. وبطبيعة الحال، لا يعدُّ ذلك شيئاً سلبياً أم ايجابياً، لأنَّ الثقافات هكذا كما هي في التاريخ، وكما هي موجودة في المجتمعات، ويجب دراستها بكل موضوعيةٍ من ذلك الجانب. فالمهم هو فهم طبيعة الثقافة وآليات هيمنتها (اشتراكاً أو انفصالاً) مع غيرها من الثقافات. ولا يعد ذلك شطباً لوجود أية ثقافة وتأثيراتها، بل العكس هو الصحيح، لأنه محاولة لفهم طبائع الثقافة، وكيف تمارس دورها؟!

وبالنسبة إلى الثقافة العربية فلا تقف عند هذا الحد، ولكنها تفهمنا طبيعة العلاقة الحياتية والفكرية بينها وبين كل انتاج نعتبره انتاجاً قابلاً للنقد. وهذا معناه أن الثقافة توفر من داخلها إمكانيات النقد، وبخاصة عندما تكون ذات طبيعة غالبة ومسيطرة إلى هذه الدرجة. والنقد يدرك تماماً - بحكم قدرته على النفاذ إلى جوهرها– كيف يشرح تلك الثقافة وطرائق حضورها والبدائل التي تطرحها. فكل ثقافة تضع بدائل ووسائط مختلفة للحضور والمتابعة من خلالها. حتى أنها لا تقبل بسهولة الغياب عن المشهد وأساليب العيش والتعبير ورؤى العالم.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س24- أ. مراد غريبي: هل هناك مساحة مشتركة بين الثقافة والفلسفة في النظر إلى الإنسان والكون والحياة؟ وبما تعد الفلسفة الثقافة عربياً؟

ج24- د. سامي عبد العال: بين الثقافة والفلسفة يوجد (رابطٌ خفي) قد لا يظهر للعيان من أولِّ وهلةٍ، حيث تجريان في السياق ذاته وتتنازعان مساحة الفكر ورؤى الحياة وإدارة العقل. فالثقافة عملية تبدو متكاملة في إدارة العقول بحسب ما تريده المجتمعات. والفلسفة تقنية في إدارة العقول الإنسانية تبعاً لإرادتهم الحرة وما يليق بها بلا قيود وعسف. مع أنَّ الثقافة تمارس وجودها دون أنْ تستوقف أحداً، ومن غير أنْ تقول له: انتبه ها أنا ذا أعبر عن شيءٍ أو أمارس أدواراً. لأنَّ كل ثقافة تصل بأعمالها إلى درجة الفعل الصامت في كل كلام وخلال الممارسات التي ينتجها الإنسان.

سببُ الاشتراك بينهما: أنَّ ما تقوله الثقافة تلقائياً ستقوله الفلسفة بطريقةٍ واعيةٍ أخرى، وأنَّ ما ستطرحه الفلسفة هو نفسه ما تطرحه الثقافة بأساليبها وتمثلاتها الخاصة. هذا ما يجعل ثمة مساحة مشتركة، وهي ذاتها مساحة النزاع. وليس سهلاً فض الصراع، لأنه لا يظهر بسهولة، فهو يشكل عملية تاريخية طويلة الأمد. وهناك متغيرات كثيرة تدخل في دائرته، كما أنه، وبسبب كون الفلسفة لا تحمل سوى أفكارها الحرة ، وهي عادة أفكار عارية من أي غطاء آخر، فالثقافة تجيّش ما تراه ماضياً في مقارعة الفكر المختلف وملاحقته.

وطبقاً لهذه المساحة المشتركة، ستقول الثقافة: إنَّها نسق من الأفكار والقيم والعادات والتقاليد والمعارف والفنون والأخلاقيات التي تعطي الأفراد معنى الحياة وكيفية العيش. ولا تكتفي بذلك، لكنها تشترط أنْ يخرج وعي الأفراد مرتبطاً بالمحددات التاريخية التي تكرس وجودها، وكذلك تظل تمارس مراقبةً على الوعي، حتى يتم تعلقه بها طوال الوقت. وإذا حدثَ هناك تغيرٌ ما، فلابد أن يكون تغيُراً وفقاً لما تطرحه وتسمح به .. لا زيادة و لا نقصان. والثقافة تتابع هذا القياس بشكل مستمر وإلَّا لما رأت داعياً لوجودها ولأصبحت نسياً منسياً.

لكن المشكلة أن الثقافة تقع في عدة منزلقات خطيرة:

أولاً: أن الثقافة تمارسُ دورها كما هي، لا يعنيها أيَّ نسقٍ هذا الذي تُكرسه لأفراد المجتمع، المهم أنْ يؤدي وظيفةَ الضبط الاجتماعي والإمتلاء الفكري وأنْ يحشو اللاوعي بالمواد اللازمة لحركته متى احتاجه الإنسان. وهذا الفعل ليس جارياً عن قصد، بل أنه أمر مزدوج بالتبعية، فقد يكون نسق الثقافة نسقاً منفتحاً، ولكنه يحمل بكتيرياً التدهور والتراجع، وقد يكون الانفتاح نفسه فيروساً لمزيد من التفلت والفوضى، كل ذلك يتم وفقاً للصيغة التي يتعايش بها الناس مع الثقافة.

ثانياً: يسهُل أنْ يُوظّف نسق الثقافة بحسب القُوى الغالبة، أو أنها بالأحرى قُوى تجد موارد ثقافية لشرعنة وجودها، سواء أكانت قوى سياسية أم دينية أم اجتماعية .. أم أية قوى غير تلك القوى كلها. وهذا متوقف على القدرات المتاحة من رحم الثقافة وقد تكون قدرات معبرةً عن سلطة الثقافة وهيمنتها.

ثالثاً: تقع الثقافة فيما تُصاب به تاريخياً من ارتكاس الروح وانتكاس القيم وتجمد المعايير التي هي المسئولة (أي الثقافة) في المقام الأول عن ترسيخها واعتبارها سلماً للأهداف والغايات. لأنَّ لكل ثقافةٍ وظائف رمزية عابرة للعقول، وتستطيع أن تخترقها إلى مزيدٍ من التحقُق.

رابعاً: الثقافة مع مرور التاريخ قد تُصاب بالعمى رغم فائض الذكاء والمبررات التي تنطوي عليها. وقد تصبح لوناً من الحيّل التي يتوسل بها الناس لإنجاز أهدافهم ليس أكثر. والعمى الثقافي ليس مقصوداً به عدم الإبصار أو عدم الوعي، لكنه يشكل (استغراقاً) في الثقافة، حتى أنَّ إطلالة الوعي خارجها أمر غير محتمل وغير مسمُوح به. إن الثقافة في ذاتها حجاب قوي جداً، لدرجة أنه يرتق نفسه بنفسه إذا شعر بالخطر وعدم التماسك، وطوال الوقت لا يتوقف عن اصطناع البدائل الملتوية لوجوده مع تحولات الواقع، وليس هذا فقط، لكنه يتفلت من عمليات النقد قدر ما يستطيع.

نتيجةً لذلك تكوّر كلُّ ثقافة وتغلف عقول أصحابها، لدرجة أن الأديب الروسى العظيم أنطون تشيكوف قال" إنَّ الثقافة هي ما تبقى في العقل بعد أنْ يختفي ويُمحى كلُ شيءٍ آخر". فهي البصمة الوراثية التي تترك آثارها على العقل، تلك التي تأتي من وراء الأحداث والظواهر، إنها جينات رمزية باقية ومُلحة على الظهور من وقت لآخر.

لنتوقع أنَّ الفلسفة طالما أدركت المعالم والمنزلقات السابقة، فهي المُضاد الفكري لأية ثقافة من هذا القبيل، مع العلم أن الثقافة – أية ثقافة وبما هي حاملة لهذا الإسم- لابد واقعة فيها عاجلاً أم آجلاً. وهذا جزءٌ من تناهي الوجود البشري وانطوائه بصيغة الجمع على عوامل القصور والضعف. إن التناهي هو الأساس الذي ينتج عجزنا عن الاستمرارية وينتج أيضاً دافعنا للتطور في الوقت عينه. وهذه الثنائية السارية في صُلب الثقافة إجمالاً، شريطة أنْ تكون واعيةً بذاتها. ولكنها لن تعي بذاتها على نحوٍ تلقائي، لابد من فاعلية عقلية أخرى تخصّب تلك الممارسة.

الفلسفة هي وعي الثقافة بذاتها، أي حينما تكون الثقافة على درجة عالية من الوعي النقدي بمسيرتها التاريخية والحياتية، وحينما تتيح أقصى ألوان المرونة داخل بنيتها الخاصة، فهذا الوعي المُتاح هو أحد أشكال الفلسفة التي تنبت حرةً كنباتات برية لم يغرسها ولم يسهر عليها أحد. الفلسفة تظهر مع الثقافة هكذا في النسق ذاته الذي تعمل به، إنه نسق مشترك co-system بين الفكر والحياة، ويصعب غلقه طوال الوقت أمام التفكير الحر. وقد تكون مساحة الفلسفة واقعة تحت عناوين شتى مثل النقد أو النكات أو التحليل أو الابداع أو الأمثال العامة أو السرديات الغريبة أو الخطابات المختلفة. فهذه مجالات بها (فضاءٌ فكري حُر) إلى حدٍ ما، على الرغم من أنَّ الثقافة هي التي تفتح هذا الفضاء، لكي تتأقلم مع المعالم النوعية لها. بكلماتٍ أخرى، أن الثقافة تَشتق من (جسدها التاريخي) أساليب مرنة كنوعٍ من التنفيس عن مستويات الضبط العام والإحكام حول فاعليها.

تشتغل الفلسفة إذن على أرضية الثقافة التي تحذر من الفلسفة. إن الفلسفة ستجعل منها ورشةً بملء الكلمة كي تفتتح نشاطها العقلي، فكل فلسفة حقيقية هي وعي الثقافة بذاتها إتصالاً بالإنسانية ككل. إن الفلسفة تشتغل على فضاء الثقافة عكس ما تريده الثقافة بحثاً عن جوانب الأصالة، فالأخيرة تتمركز حول محدداتها النوعية داعيةً الأفراد إلى رؤية واقعهم وحيواتهم في ضوء هذا التمركز، بينما الفلسفة تحررها وتفكك التمركز تطلعاً إلى الإنسانية. أي رغم أنَّ نقطة البداية واحدة بين الفلسفة والثقافة، غير أنَّ نقطة النهاية وآليات العمل مختلفة تماماً.

تمثل الفلسفة وعياً منفتحاً لكل ثقافةٍ ترى في ذاتها عكسَ ذلك. ومن ثمَّ فإن الفلسفة تقدم وُعوداً كبرى داخل الثقافة العربية. شريطة أنْ يكون فاعلو الثقافة مهيئين لاستقبال الفلسفة بصدرٍ رحبِ وعقل مُنفتح، لا لشيء معين كما يُقال حول التفلسف تاريخياً من كونها كلمة مرادفة للزندقة، وأنَّ من تفلسف فقد خرج عن الملة، وأنَّ الفلسفة مقابلة للسفسطة واهدار الوقت. ولكن لأنَّ الفلسفة هي ما تليق بالعقول الإنسانية التي تريد بناء حضارتها إزاء العالم كله. وأنَّ الفلسفة آتيةٌ في هذا المسار لا محالة. ويبدو أن من يسمع كلاماً كهذا سيقول لن تكون الفلسفةُ في الموعد المنتظر وأنَّها قد تنكص على عقبيها!!

إنَّ الفلسفة آتية إلى عقولنا وثقافتنا دون ريب، بل كيف تأتي وهي موجودة تحت مسميات شتى؟ وذلك فيما أسميته ذات نصٍ: ماذا تفعل الثقافة في غياب الفلسفة؟ فالثقافات تتفلسف أيضاَ بصورة طريفةٍ ولطيفةٍ في الوقت نفسه، لكون الفلسفة لصيقةَ الحضور بالإنسانية، إنَّ الحق في التفلسف حقٌ طبيعي مشاع لكل البشرية. مثله مثل حق التمتع بالحياة والوجود طالما هناك عقل يعمل وفكر يستنير. فالصحة الفلسفة للعقل شرط الحضارة، ومنها ينبثق مسار الحيوات والتنوع الذي يثريها وصولاً إلى غايات قصوى.

ليس يتفلسف من هو ناقص إنسانياً وحضارياً... كيف لإنسان يقول: "أنا" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: " نحن" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: "هم" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: "هؤلاء" ويكف عن التفلسف؟، كيف لإنسان يبحث عن: الآخر ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان يعيش في ثقافة مليئة بالمفارقات ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان يرى العالم من حوله ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان حر مُحاط بالقيود ويكف عن التفلسف؟ أصحاب الحضارة يتفلسفون كما يتنفسون ضمن التفاصيل الدقيقة لحيواتهم وثقافتهم المختلفة. وكل ثقافة بها قدرات فلسفية غير محدودة، متى تمَّ الوعي بالآفاق الحرة للعقل، إنها منبع التفلسف على الأصالة.

1-  وعدٌ بالمستقبل: الفلسفة تعِدُ الثقافة العربية بالتهيؤ للمستقبل. وبخاصة أن كل تفلسف لا يخلو من رؤية استشرافية عميقة الجذور. وبخاصة أيضاً أننا نعرف أن ثقافتنا ذات طابع ماضوي، والفلسفة ترى في الماضي خيالاً آتياً مع الزمن القادم لا الفائت، فالقادم دائماً يستند إلى شيءٍ ما. كل قادم هو إحياء وانفتاح لا ينتهيان، وعلى الرغم من ذلك، فالماضي لم يُنجز بعد، فهو يأتي مع المستقبل المنتظر.

إن الفلسفة تدرب عقولنا على غدٍ أفضل دون كلل، والإنسان بخلاف سواه من الكائنات هو منْ يشعر بأهمية المستقبل. فالخراف لا تعرف ما معنى المستقبل، فهي تذبح باستمرار وتنخرط مع القطيع في كل حركاتها. ولو أدركت الخراف يوماً ما المستقبل، لما استطاع بنو آدم ذبحها من حين لآخر، ولكان لسان حال الخراف الرفض التام لهذه الفجيعة. هي كائنات بلا مستقبل على الأقل لم تطرح ولا تعرف ماذا سيحدث لها في الغد وإلّا لما سيقت إلى المذابح. الإنسان موجود حر وأصيل ليس من قبيل الخراف. ولكن مع استمرار غياب الوعي وحجب التفكير في حياته، لن يقل الكائن البشري عن كونه كائنا بلا معالم!!

2-  وعدٌ بالمصير: الفلسفة تتبصر بقوة الفكر العميق تجاه معنى المصير، ولعل الموضوع برمته خارج نطاق الفهم العادي لحركتنا اليومية. فالمصير رؤى ممكن أن تترقب الإيجابيات والسلبيات، والأهم أنها تتحسس ما الذي سيحدث فيما بعد. هذا السؤال الجوهري: ماذا سيكون مصير الأحداث والأفعال من حولنا؟ فلن تجد من يتساءل هذا السؤال البسيط الذي لا يذهب بعيدا بقدر ما يحاول أن يدرك المآل. مع أن ابن خلدون في ثقافتنا العربية كان أحد الذين حملوا مشاعل الفكر لاستكشاف المصير منذ فترة كبيرة.

عنوان كتاب ابن خلدون عنوان كاشف لهذا المعنى:" كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". فالمبتدأ نحوياً وثقافياً هو حامل الخبر، وحامل الحدث، وبه تتم الجملةُ إخباراً عن مضمونها، إنه البداية التي تتصف بصفة معينةٍ في طريقها إلى التحقق، وهو الشيء كما يكون بما هو كذلك، بينما الخبر هو المحمول بلغة المنطق، إنه المُنبئ عن أحوال المبتدأ. ولئن كان المبتدأ حاملاً لهذا الخبر، فليكن المصير كذلك، وإن لم يكن، فالوعي بما سيحدث أمر مطلوب، أي أن الخبر هو مصير كل مبتدأ ومنهما سنستخلص العبر التاريخية. وعلاقة الفلسفة بالثقافة يُمكن لها أنْ تحلل المصير كاشفةً أبعاد كل المسائل الحضارية والاجتماعية، وإلى ما ستؤول الظواهر في المستقبل. الفلسفة هي فنون قول العبر (المآلات) التي لا نراها ولا نعرفها بحكم استغراقنا في الحياة الاعتيادية.

وحده تقريباً ابن خلدون من قصد بفلسفة التاريخ هذا التحليل البعدي posterior analysis للظواهر والأحداث. بحيث يرمى المصير من الخلف إلى الأمام آتياً بكل أخبار الماضي والمستقبل في الوقت نفسه. إنه تفلسف من نوع مختلف عما عهدناه في ثقافتنا العربية جملةً وتفصيلاً. ولم يكُّن ابن خلدون ليَقُل هذا الكلام من باب العواطف ولا من خلال الجوانب الذاتية كما يُشاع عنه، لكنه وضع المصير في سياق التاريخ كي يتحدث بلسان الظواهر ومآلاتها.

وابن خلدون طرحَ فكرةً في غاية الخطورة، أَلَا وهي أن الظواهر الثقافية ظواهر مادية بدرجة مساويةٍ لكونها ذات أبعاد رمزية. فلكي تتكون الظواهر لابد أن تستند إلى قانون عمراني مادي من جنس الحياة التي يحياها الناس في التاريخ، ولا تستحق أية ظاهرة بعدها الإيجابي إلاَّ إذا جسّدت هذا القانون. وفي المقابل وهو الأهم: أن تلك الظواهر الإنسانية تتحلل خلال التاريخ كي تُنبئ عن المصير وفقاً لقانون مادي بالمثل. فانحطاط الحضارة لابد أن يمر بمعالم التفسخ وانحراف القيم وشيوع التخلف والإنهيار وهي مظاهر ملموسة وقابلة للتحليل والملاحظة. وهذا مظهر يخضع لآليات من جنس التاريخ، حيث تفعل فعلها وراء الأشكال والرسوم. وكأنَّ ابن خلدون يقول: كما أنَّ العمران يحتاج قانوناً مادياً حتى ينهض بالمجتمعات، لابد أن يسير الانحطاط بطريقة مادية. وهذه الفكرة ضد التفسير اللاهوتي للمصير، فلا يمكن أن يكون المصير ميتافيزيقياً أو سحرياً، لكنه مصير يُفهم من واقع المجتمعات الإنسانية.

3- وعدٌ بالحرية: لا توجد فلسفةٌ مع القيود، حتى ولو كانت قيوداً ذهبية ناعمةً، القيود هي الخناق الأبدي الذي ما وجدت الفلسفات إلا لتمزيقه،إذ لا تتعايش الفلسفة مع القيود أيا كانت. وهناك تيمة سارية في الثقافة العربية تقول أننا لدينا فلسفتنا الخاصة بصرف النظر عن سياق الفلسفات العالمية. وهذا وهم فارغ، لأن الفلسفة تشرع الحرية أولاً وتتقدم بناء على هذا الشرط.

وما أدقها من كلمات تلك التي تقول: إن الحرية تشكل جوهر الإنسان، والحرية قدر لا نستطيع الإفلات منه. وأنَّ الفلسفة توفر للعيش في الحياة ما يليق بها طوال الوقت. صحيح تأخذ الفلسفة من وجودنا كلَّ عناية وإهتمام، غير أنها تعطينا معنى الحياة ومعنى التحرر الذاتي على مستوى الأفراد. أما على المستوى الجمعي، فالمسألة شائكة لا تحل المعضلة بسهولة دون تغيير.

وهنا تواصل الفلسفة بث الوعي الجمعي المنفتح في تفاصيل الثقافة، إن كل من تحدث فلسفياً على نحو حقيقي في تراثنا العربي إنما كان يطرُق أبواب الوعي، ولا يسمح له بغلقها مهما تكن الأسباب. وهذا الأمر كبّد فلاسفة العرب خسائر شديدة الوطأة سواء على مستوى الشعوب أم النخب. هؤلاء وأولئك قد اعتبروا الفلاسفة مجرد مشاغبين خارج حدود الثقافة ولا يحملون مواقف أصيلة، وقد تحينوا الفرصة لترويضهم و كذلك سارت الجماهير في طريق ملاحقة أفكار الفلاسفة، ومنهم من انتهى بحرق كتبه ومنهم من أُلقي بين جدران العزلة ومنهم من صلب كالذبيح على أعواد السلطة.

4- وعدٌ بالتطور: الفلسفة وعد مفتوح بالتطور، لكونها تشحذ عقولنا وتقوي طاقتنا على احتمال على التغيير. ولنلاحظ أن التطور يحتاج عقلاً يقظاً وفكراً مرناً وتدرباً على احتمال المستحيل. وأقول المستحيل، لكون الإنسان يميل إلى الردع والإرتباط بالعادات والتقاليد ولذلك كانت الفلسفة تاريخياً حارسة لقيم التقدم والتفكير الحر. أدق ما في الفلسفة الحقة هو كونها تجعل العقل محركاً رئيساً في مسيرة الإنسان، وبخاصة أنَّ العقل قد يرسم بين التقدم والانهيار خطوطاً من الفهم والنقد والتحليل. فلا فلسفة دون تدعيم التفكير المتطور والواعي بكل مشكلات الحضارة والحياة.

5-  وعدٌ بما يليق بالإنسان: الفلسفة هي مجموع الأفكار التي تليق بالإنسان الحر، وعندما تكون الفلسفة نوعاً من صداقة الحكمة على نحو كوني، فلكونها لائقة بنا ككائنات عاقلة حرة. ولذلك فإن ما ستحتاجه ثقافتنا العربية لون من الحكمة الذي ينشر الرشد والعقلانية وقدرتنا على التعايش. وما لم تكن هناك فلسفة لن يدرك الإنسان أولوياته ومسارات الفكر، سيكون مأخُوذاً بغرائزه المباشرة، وسيصبح لقمةً سائغةً لنزعات التوحُش والبدائية المسلّحة بكافة أدوات الحضارة و التكنولوجيا.

إن الإنسان العربي نتيجة الظروف السياسية والفكرية التي يحياها لم يعد قادراً على التمييز، إنه يحتاج باستمرار إلى آفاقٍ واسعةٍ، لابد أن يصقل قدراته بالأفكار والمناهج الجديدة. والفلسفة هي من ستدخل عقولنا العربية إلى ورش إصلاح الفكر سواء بالأنشطة الفكرية أم بالممارسات الثقافية. فهي من أقرب الطرق قائمة على ذلك، وليس يعييها ما يعييها قدر ما تكون مهمشة وتجبر على المكوث تحت التوقيف باسم الدين أو السياسة أو المجتمع. وفي كل الأحوال – مع هذا التوقيف المتعمد- ستضطر المجتمعات العربية فكرياً لإيجاد بدائل لملأ الفراغ الفلسفي.

لعلَّ ما يجهله فاعلُّو الثقافة أنه يستحيل استبعاد الفلسفة من مجالات الحياة، لكونها مرتبطةً بقدرتنا على التفكير إجمالاً، وأنها ستطل برأسها من وقت لآخر إذا شعرت بالخطر من تلك الناحية. لأن قدرات العقل المختلفة تتداخل بحكم أن الفلسفة تقع في مساحات التأسيس لما نمارس. والمدهش أن الثقافة العربية بقدر ما تُقصي الفلسفة عن مجالات التأثير بقدر ما تستحضُر الفلسفة، حتى ولو في أشكال أخرى من الابداع، في فضاءات الشعر والنقد والحياة المختلفة.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة السادسة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (3)

س21- أ. مراد غريبي: سؤال الثقافة يستقطب ماهية المثقف وانماط المثقفين في المشهد الثقافي العربي، في ظل باثولوجيا الثقافة التي اشتغلتم على تفكيكها وتحليلها، اية انماط للمثقف يمكن مقاربتها؟

ج21- د. سامي عبد العال: تقديري لكم أ. مراد غريبي لهذا السؤال الجدير بالطرح، وليس أكثر قدرة على الفهم من الاستفهامات التي تمس واقعنا. إن كلُّ فعلٍّ ثقافيٍّ - جزئياً كان أم كلياً - يرتبطُ بسؤال الثقافة، وليس كما يرى البعض أنَّه سؤال عام، ولن تُجدي إزاءه الأفكار والآراء الفلسفية. كما لو كان لسان الحال يقول: الثقافة أمر واقع بالفعل، وهي شأن خاص مفروغ منه، وأنه لا فائدة تُرجى من المقاربة حوله. فياليتك يا صاح تحدثنا عما نعرفه من أشياء، وعما نراه من ظواهر وفيما نمارس ونحيا. ولكننا سندرك بعد قليل كم هو مهم: تحليل أدوار المثقفين، وكيف ينخرطون في حركة الثقافة تحت مُبرراتٍ شتى؟!

لأنَّ التحليل ليس كما يرى البعضُ أمراً قاضياً بمعرفة المعروف سلفاً، ولكنه سيقدم إليهم تعريف الثقافة ومواقف المثقفين كما لو لم يعرفوها من قبل. كلُّ تحليل هو قدرة على كشف المخبُوء، ومعرفة ما ليس يُعرف من أول وهلةٍ، حتى ولو كان مكرراً وقابلاً للإعادة إلى ما لا نهاية، والتحليل لون من ألوان الاستكشاف والتنقيب عميقاً لحل الألغاز الشائكة في وجودنا الإنساني. لا مجرد طرح مجموعة من الأفكار التي تمس الثقافة مساً خفيفاً.

وبخاصة أنَّ المثقفين أكثر (الكائنات الرخوّة) تكيفاً في الفضاء العام، هم يعيشون مع الآخرين كأنَّهم غير مميزين عن سواهم، ويتلونون بجميع الأزياء اللازمة اقتراباً أو بُعداً من السلطة. وليس هذا فقط، بل لهم وافر الاستراتيجيات والأدوات النوعية للحركة عبر هذا الحقل المليء بالألغام. وقد يكون ذلك العمل منظوراً بما فيه الكفاية، ولكن القضية الشائكة هي: كيف يتمُ فك شفرات هذا النظام ودلالاته بالنسبة لوعي الجماهير؟ وبأي معنى يتكون وما أنماطه التي يأخذ المثقفون طرفها ويتركون الطرف الآخر لكواليس السلطة؟ فتبدو الحركة المرئية كحركة العرائس على المسرح، إذ نشاهدها كائنات سائبة ومرنة ومنهمكة فيما تجسده، بينما هناك خيوط قوية ترسم الأدوار والمَشَاهِد وتدعو الجماهير للتفاعل.

إنَّ الأدوار مسارات يسلكها المثقفون، وقد ارتأوا التعبير عن الثقافة فيما ينتجون قولاً أو مواقف أو خطاباً أو اسهاماً بأشكالٍّ أخرى. والأفعال الثقافية تجري على أكثر من صعيدٍ: الصعيد المشترك، وهذا ما نُسميه النظام الرمزي الذي يحقق رؤية أفراد المجتمع في آفاق كلية تؤشّر إلى ما يستهدفون، وكيف يفكرون فيما هو عام. وهناك: الصعيد الفردي، وهو مسار منتجي الثقافة، فنحن كأفرادٍ ننهمك في أنشطة الثقافة كأننا نمتلك ناصيتها من الألف إلى الياء. وهذا الانهماك له القدرة على اشباعنا وربما لا نكف عن الإحساس بأصدائه طوال الوقت. وهناك: الصعيد النخبوي، وهو ما يسلُكه لاعبُو أدوار الثقافة متطلعين إلى قوتها وهيمنها في خدمة السلطة القائمة، والخدمة تتم بمعناها التداولي المطروح أو غير المطروح، وتختلف الخدمة في منظور السلطة من كونها أدواراً أو أفعالاً تناسب طبيعتها وتشكيلها أمام الشعوب.

وبطبيعة الحال، ليس كل المثقفين يدخلون اللعبة بمعناها السلبي، لكنهم أصحاب مواقف ويعرفون جيداً موقعَ أقدامهم من دوائر السلطة، وقد يسقطُون في براثنها وينضمون إلى قائمة الخادمين لها، وقد يظلون مدافعين عن قضاياهم التي يتبنونها. ولكن تلك" الحركة الثقافية " ليست واضحةً وليست بسيطةَ المظهر والتكوين. لأن هناك جانباً ملتوياً في المسألة بقدر تعقد المجال العام الذي يمثلها. وهو: كيف يؤدي المثقفون أدوارهم بهذا الشكل أو ذاك تحت الدرجة الصفر للوعي؟ أقصد الدرجة الصفر لوعي الجماهير الغارقة في اللهاث وراء متطلبات الحياة والركح خلف تغير الأحوال، وهي مرحلة قد تكون عند درجة تجمد الرؤى وعجزها عن سبر أغوار الواقع نتيجة حياة القهر!!3831 sami

أما انماط المثقفين، فها هي على وجه التقريب:

1- المثقف المعنى: هو إنسان مُتحرر بكيانه من وراء الكواليس المعقدة في المجتمعات الإنسانية. إنه مثقف من نوع أصيل أصالة الفكر والحكمة التي هي الإنسان، حيث يجمعُ التعدُد في شخصه الثري، تاركاً الأفكار تصلُّ إلى درجة الاختمار، واضعاً الواقع في إطار معانٍ تعيدُ الثقافةَ اكتشافها في الأحداث والموجودات وأحوال المجتمعات. إنَّ الثقافة- من تلك الزاوية - تغدوُ ثريةً بالنسبة إليه بقدر ما تُشكل جوهر الإنسان وحياته، لأنَّ الثقافة تجعلُّ لجميع الموضوعات والكائنات قيمةً ... حيث تُشعرنا بالإمتلاء الرمزي نفسياً وحياتياً طوال الوقت.

والمثقف المعنى هو كذلك مثقف يلتزم بالعيش في إطارٍ كهذا، ويُوسّع آفاقه كلما استطاع أنْ يُوجّه المعاني نحو الآخرين، ويعيد صياغتها وفقاً للرؤى القيمية والفكرية التي يراها على هذا المستوى. وليس هناك انتشار كبير لهذا النمط الإنساني من جهة تمثله لقدرات الأنبياء والحكماء والشخصيات الرمزية أمام الشعوب المتطلعة للخلاص من العسف.

تنتمي الشخصيات المُلهمة في تاريخ الشعوب إلى صنف المثقفين هذا، هي شخصيات ثقافية دالة بالمقام الأول. وليس يوجد أكثر اختزالاً لأصالة البشر والحياة من شخصيات كهذه إذ جاءت مصدراً للحماس الفكري والإرادة الحرة وإنطلاقة الحياة. على سبيل المثال: كونفوشيوس وبوذا وسقراط وغاندي ونيلسون مانديلا وشعراء الإنسانية والمتصوفة والأدباء الكبار شرقاً وغرباً، أي هؤلاء الذين وضعوا الإنسان في فوهة الحياة والأقدار منتصرين له تحديداً. حيث أعادوا اكتشاف فكرة الإنسانية من جديدٍ بعدما أُهيلت عليها تلالٌ من الغبار. هؤلاء كانوا ومازالوا يعيشون في عالم المعنى بالنسبة لشعوبهم. فهم نماذج إنسانية حُرة اختاروا أنْ يكونوا رموزاً معبرة عن حياتهم. وأنْ ينتجوا المعاني من خلال وجودهم في صور قشيبةٍ وعاليةِ المكانة، ورفيعة التأثير.

2- المثقف الكومبارس: هو الشخص المؤدي واللاعب لمهام ثقافية وفكرية بعينها عكس النمط السابق، إنه الممثل البارع لما تُخطط من سيناريوهات. وأحياناً هو (الفرد الشكلي) الذي يهتم بصورته فقط خلال المواقف ويجيد خطف الأنظار والانتباه. وهذا الصنف يظل تحت تأثير الأمر والطلب من حين لآخر. الأمر يعني وجودَ سلطةٍ أعلى مُقتنصاً فرص إرضائها والذود عنها. ويبقى طوال مهامه في حالة إنتظار ليس أكثر، لأنَّ الأمر بالنسبة لمكانته نوعٌ من الانتظار النفسي والجسدي. والطلب يعني المهمةَ الموكولة إليه. ونحن وجدنا مثقفين في واقع العرب يبتكرون في تأديّة المهام، يصنعون هذه المهام صناعةً دون تراجع.

المثقف intellectual عندئذ شخص مؤدٍ performator مثل الكومبارس، ألقته الأحداث في طريق السلطة أو في مسارات الأحداث، ثم اهتبل الفرصة تعبيراً عن سطوتها في الواقع. ولذلك سيكون المثقفُ شخصاً يعيش عبر الظلال القاتمة لكل سلطة ممكنةٍ، إنَّه بخلاف جوهر الثقافة المفتوحة يلتزم بأدوار التابع والخانع. والشخص المؤدي دائماً لا يأتي بجديدٍ، لكنه يتقمص الأدوارَ المرسومة، إنه يتحرك في هذا الإطار المحكُّوم بمركزية خارج فكره أو ذاته، وتجده موهوباً حين يُمارسها كأنَّ الأدوار قد خُلقت له خصيصاً دون غيره من البشر. والموهبة لديه أنْ يفكر المثقف السابق ويمثل بطريقة المؤدي المسرحي الذي ينهمك في السيناريو والحوار على خشبة المسرح منتظراً الهبات من الجماهير.

3- المثقف الخادم: يعودُ هذا الصنف من المثقفين إلى حاملي شعارات الثقافة في بلاط الملوك والسلاطين وأصحاب الصولجان والآن في مؤسسات الأنظمة الحاكمة وأروقة السلطة والمنتديات العمومية واستديوهات التلفاز الرسمية ومواقع المؤسسات ومراكز الإعلام ومراكز دعم واتخاذ القرارات وتقديم الخدمات اللوجستية. إنه المثقف الخادم على الأصالة لا غير، يدرك مكانته من جهة كونه تحت سقف الحاجة باستمرار، أو هكذا يحاول أصحاب السلطة وضعه في تلك المساحة دون تردد!!

ورغم جذور المسألة في مجتمعاتنا العربية منذ استعمال الشعراء والكتاب والوراقين داخل دواووين الحكام واعتبارهم من العتاد الرمزي للسلطة، إلاَّ أن (الخدمة (service مفهوم ما بعد حداثي بإمتياز. الخدمة تُبلور إمكانية البعض لأنْ يضع قدراته ومهاراته تحت الاستعمال من غيره الأعلى شأناً. الخدمة تطور طبيعي لتعقد وسائل التعبير عن الأهداف في السياسة والإقتصاد. ثم جرى الأمر مع تعقد المجتمعات المعاصرة وقيام أحوالها على السرعة والترفيه وانتشار اقتصاديات الوساطة وألعاب السوق السوداء، حتى باتت الخدمة إحدى مفردات الحياة اليومية.

4- المثقف الحركي: وهو المثقف الذي يتحرك في الواقع ناشطاً لصالح مرجعيةٍ ما أو سلطة بعينها. ويتصف بقدرته على المشاركة في مسار الأحداث وصناعة المناسبات الثقافية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وكأنه يرى واقعاً جديراً بالتدعيم. هو مثقف مُسيّس بالمعنى الخاص لكلمة سياسة والتي تعني استراتيجية " صناعة الفرص " ورسم خرائط الأحداث وفنون إدارتها. ولعلَّ هذا الصنف هو التطور الطبيعي لمسار الخدمة، فلن نعرف: ما إذا كان المثقف ملتزماً أم لا، لكن ما نعرفه أنه ينخرط في عمليات الصراع ويضع كل ما يملك من أفكار ومعرفة قيد التوظيف والعمل .

النموذج الواضح لهذا المثقف هو برنارد هنري ليفي Bernard-Henri Lévy، حيث كان فاعلاً في أحداث الربيع العربي خدمةً للقوى الدولية والإقليمية التي تريد تغيير الأنظمة السياسية. ولم يكن الأمر كذلك فقط، بل كان ليفي مشبعاً بأبعاد أيديولوجية وصراعية كفلت له التحرك على مساحة شائكة من السياسة بين دول الشرق (ليبيا وتونس ومصر والجزائر والسودان وسوريا) وأوروبا فرنسا وانجلترا. وكل ذلك- فيما كان يقول - لمساعدة الشعوب العربية على التحرر، بينما هو يتحرك على خريطة سياسية لاهوتية متمثلة في إعادة الدور اليهودي المسيَّس إلى الواجهة. حيث كان مرشحاً بارزاً عام2011 لرئاسة إسرائيل بكل هذا الميراث المتأخر.

5- المثقف الرعوي: تأتي تسمية المثقف الرعوي اعتماداً على توظيف الثقافة لأغراض مادية رعوية ولمآرب أنظمة سياسية رعوية بالمثل. وهو مثقف يقدم مادةً ثقافيةً قابلة للبيع والشراء تحت غطاء التداول والرواج. فهو يستهدف منذ اللحظة الأولى وضعَ قدراته قيد الاستعمال. وربما يكون لديه ما يقدمه بشكل (معرفي أو فكري أو بحثي...)، ولكنه شخص لايتمتع بالأصالة التي تؤهله لأنْ يكون مستقلاً. هناك عيب تأسيسي في هذا النمط ألَا وهو (غياب الرؤية الابداعية)، إنه مثقف حالة لا مثقف أصالة، مثقف تآمري لا صاحب فكر حقيقي، مثقف بروباجندا لا مثقف مشكلات فعلية، مثقف برتوكولات لا مثقف نقد وتطوير، مثقف صفقات وأزمات لا مثقف قضايا وحقائق، مثقف سيرك سياسي لا مثقف مؤسسات وقوانين. بل بالعكس، ربما سيزيد الأزمات تضخُماً، لأنَّه جزء منها، ولن يكون أبداً جزءاً من الحل، نظراً لانعدام نضج ذهنيته.

6- المثقف المتحول: في مجتمعاتنا العربية المختلفة، ظهرت شخصيات ثقافية مُتحولة من اتجاه إلى اتجاه آخر. هم يخلعون أفكارهم (وأحياناً أدمغتهم) كما يخلعون نعالهم خارج البيت. فهناك مثقفون متحولون من الماركسية إلى النزعة القومية، ومن الماركسية إلى النزعة الاسلاموية، ومن العلمانية ذات المرجعيات الغربية إلى المتمسحين بمرجعيات إسلامية كأنها ظهرت لأول مرة، ومن مصاحبين لرجال السياسة والإعلام وكتاب في صحف رسمية إلى مشتغلين في مراكز بحوث وكاتبي تقارير خاصة، بل متحولون من التأييد لأنظمة معينة إلى أنظمة حاكمة أخرى يعتاشون على هباتها ورعايتها.

وهذا المثقف يظل قابلاً للتحول من مرحلةٍ إلى أخرى، وقد أدمن الجلوس على كل الموائد ذاهباً إلى حيث يُراد منه. وتأتي قدراته حين يشعر المتابعون بكونه صاحب قضايا فعلية، ولكنك قد تكتشف أنه يتسلق أقرب الأسوار التي تعطيه قامه أعلى أو فرصة أكبر لجني الأرباح والمكاسب. وعليه قد يتقمص الدور محاولاً أن ينسيك تحولاته لصالح البحث عن الحقيقة وأنه ما كان ليفعل ذلك لولاً أن وصل إليها أخيراً.

7- المثقف الكوني: نمط نادر الوجود دون توافر إبداع حقيقي تكون وجهته الإنسانية جمعاء. وهو المبدع على الأصالة ويشق طريقه رأساً إلى الاهتمام بقضايا الإنسان والحقيقة، ويفعل ذلك غير عابئ بما يترتب على أفعاله واسهامه الثقافي من نتائج، فهذه قضية أخرى بحسب السياق. والثقافة تبدو من تلك الزاوية هي فنون الإلتقاء المتنوع والأصيل مع الآخر بإطلاق.

المثقف الكوني مثقف يمارس دوره كأنَّه يتكلم لكل البشرية من غير أن يُعنى بالقضايا التي تميز وتفرق . يضع الحقائق الإنسانية نصب عينيه لا يحيد عنها، مهما تكن قوةُ الممارسات المضادة لما يعمل .لأن من طبيعة عمله أن يتجاوز المحلي والقومي والعرقي إلى مخاطبة الإنسان كونياً .ولذلك هو مثقفلا يخضع لسلطة ولا يروم التوافق مع أيديولوجيا أو اتجاهات تجزيئية، لأنَّ المثقف الكوني بطبيعة فكره الفلسفي لا يهادن أية سلطة.

من جهة أخرى، تنطوي أعمال هذا المثقف على العناية بالمستقبل المشترك لحياتنا الكونية، فليس هناك مثقف لا يهمه المستقبل إلاَّ ويسقط في نزعة مؤدلجة أو دجما فكرية. وينبع ذلك من أن اعماله تتميز بالمعايير الكونية للحياة بشكل (أفقي ورأسي) في وقت واحدٍ، أي ليس مستغرقاً في صراعات جزئية، لكنه يشتغل على القيم الكبرى الجامعة للبشرية، فهو يعني ما يعنيه ناظراً إلى الآخرين دوماً.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س22- أ. مراد غريبي: هل يمكن استثمار الخطاب الثقافي الراهن وتقويمه، في ظلّ السلفيات الثقافيَّة التي تتكلم عن كلّ شيء، خاصة ما أسميتموه حيوان الثقافة؟ وكيف تتصورون الحل لمشكلة الثقافة التي تعرفها المجتمعات العربية والمتمثلة خاصة في غياب التسامح والاعتراف بالتعددية والتعايش وانتشار ألوان خطاب العنف والتعصب واحتكار الحقيقة؟

ج22- د. سامي عبد العال: يعد الخطاب الثقافي على درجة كبيرة من الخطورة، لأنه الفاعل الخفي الذي يعطينا مبررات الوجود معاً ويمنحنا أساليب وطرائق التواصل. ويكفي الإشارة إلى كونه مُوجِّهاً لوعي القطاع العريض من الجماهير، ولكن المعضلة: أنه مجال خصيب لنشأة بكتيريا العقائد والنزعات التسلطية وفقر الإبداع. وذلك لعدة أسباب:

1-  عدم القدرة الجماعية على مواكبة التطورات في المعارف والأفكار. فهذه صعوبة حقيقية نظراً لتراث الجماعة البشرية واختلاف أنماط الحياة ودرجة تعرضها للتقدم والتحضر.

2- وجود الموروثات الغالبة والتي توجه بوصلة الفكر إلى أشياء تاريخية بعينها. لأن التراث أحياناً يأتي من المستقبل لا من الماضي، وبخاصة أننا في عالمنا العربي الإسلامي نراه هكذا، بحكم النظر إلى أن العصر الذهبي للحضارة العربية كان في السابق ولن يأتي بالزخم نفسه يوما ما، بل وشكل المعيار لكل حضارة ممكنة.

3- سيادة أحوال فكرية من التقليد واجترار السائد من مرحلة إلى أخرى. وهذه مشكلة أخرى تكرس صورة معينة للحياة حتى تتواصل الأوضاع القائمة. وهذا ما يجعل الناس كارهين للتغيير، وعلى الرغم من أن تلك الأوضاع هي الخطيئة الكبرى لما هم فيه، لكنهم يعشقون التعلق بالمتاح ولو كان مصدر بؤس.

4- هيمنة السلطة القائمة في كل عصر واغتنام كافة الفرص المتاحة لبسط نفوذها. وتلك معضلة مجتمعاتنا أن السلطة مثل الكائنات الخفية (كالجان والعفاريت)، إذ تظل ساكنة في لاوعي الجماهير وحياتهم حتى الرمق الأخير، والأغرب أن يكرر الناس مواقف القبول والصمت تجاه تجرع الذل والهوان مستمرئين ما يحدث كأنه النعيم.

5- التمسك الجمعي بالانفعالات العامة وغلبة الجوانب العاطفية مقارنة بالعقلانية والمنطقية. وهو غياب الفهم والتساؤل وتسطح الوعي حتي يصبح الإنسان مجرد رقم أو عدد في حزمة أرقام تحسب هنا أو هناك. وبالتالي يضاف الإنسان إلى أية حزمة أعداد أخرى، فلا فرق هو رقم أم جسم أو شخص بلا معالم إلا من روح القطيع.

6- شيوع الدجل والمعتقدات الغامضة دون فكر مستنير ودون قدرة على النقد. لأن الإنسان لدينا لا يأخذ مكانة قبل أن يتنازل عن عقله، في الجامعة والسياسة والمدرسة والمسجد والمؤسسة. عليك أن تتنزل عن عقلك بتوقيع رسمي وأن لا تفكر مهما كانت درجة علمك وأيا كانت دماغك التيب تعرفها جيداً. وتدريجياً يتحول العقل إلى ملكة صدئه تتآكال مع الزمن. والإنسان عندئذ بقايا إنسان.

نتيجة هذه النقاط وغيرها، باتت (السلفيات الثقافية) هي الطاغية، وقد عبرت إلى كافة المجالات التي لها علاقة بالفكر والمعرفة والتداول. ولم يكن ممكنا الإفلات من تلك السلفيات في الفضاء العام، فأخذت تنتشر في دهاليز الجامعات والسياسة والاخلاقيات والبحوث العلمية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد. ومما جعل الأمر معقداً مع وجود السياسة (كثابت دائم) بلغة المنطق في كل مركب من العناصر السابقة. وحتى إذا لم توجد السياسة في حالة أو غيرها، فإنها ستفسد أي مركب جديد ومختلف. المحصلة واحدة في ثقافتنا العربية، فلا تستطيع أن تستقل ولا تستطيع أن تتداخل على نحو حر.

بمعنى أنَّ وجود الرأي العام - على سبيل المثال - لابد أن يكون مضروباً في السياسة وتوظيفها له، وأنَّ وجود الاخلاقيات يظل مضروباً في ركوب السياسة لموجات التشبث بالسمع والطاعة حتى الرمق الأخير، وأنَّ المعرفة العلمية تظل مضروبة في السياسة من خلال عدم اختراق المحرمات ثقافياً وسياسياً. وكذلك فإنَّ علاقات الأفراد تواصل وجودها مضروبة في السياسة بما يحول دون الرفض والتمرد على السلطة الغالبة، وأن المجتمع برمته لن يرى غير ما ترى السلطة وهو ما يحجب المستقبل، وسيجعله تحت التهديد المباشر. لأنَّ المستقبل ملك للعقول والقدرات الإنسانية التي تفكر ملياً في انتظاره، وكيف سيكون مختلفاً عن غيره من حقب سالفة؟!

علماً بأن الخطاب الثقافي في المقابل لا يُشعرك بأي انتظار، ويعطيك انطباعاً بكون الأمور على ما يرام دائماً، وليس ثمة مشكلة تذكر فيما هو آت. ولذلك كثيراً ما تشتق من جسد هذا الخطاب اليومي عبارات التأني والصبر والتذكرة بمآل الأحوال والعواقب غير المحمودة. ونحن لا نبارى في ثقافتنا العربية إزاء نحت العبارات المؤثرة في ذهنية الأفراد، ونجعلها مادة شهية نتغذى منها عقلياً، إذا شعرنا بأوضاع عامة غير مريحة.

والخطاب الثقافي لن يعطيك فرصة للتلفت النقدي حولك، ولن يزيدك وفرة في الوعي إلا بقدر ما يريد. إنه يستهدف اشباعك النفسي والعقلي معاً، بحيث لا تسأل: هل من مزيد؟ وسواء أكان المزيد سلباً أم ايجاباً فإنك ستجد ما يشفي غليلك ولن تعوزك أية عملية خطابية أخرى إلاَّ وستعود إلى الثقافة مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً.. وهكذا.

إنه جانب مؤثر قد يُحدث فراغاً لو تركه الخطاب الثقافي للمصادفة. كل شيء محسوم وذاهب إلى موقعه الذي يُراد له دون حراك ولا مقاومة، وهناك خيوط خفية بين نسق الثقافة والسلطة السائدة، بحيث تتماهى الأخيرة مع الأولى دون أية اختلافات. والسلطة التي لا تجيد فنون إدارة الثقافة وتحولاتها ستفشل فشلاً ذريعاً في إدارة المجتمعات، لأنَّ السلطة تشتم بغريزتها: أنَّ إدارة الثقافة وألعاب الخطاب الثقافي هي إدارة للعقول والأجساد التي تملأ الفضاء العام. ولذلك لو نترقب أية حالة من التاريخ الحديث أو القديم، سنجد تماهياً (بل تواطؤاً) بين الثقافة والسلطة.

السلفية الثقافية هي العنوان المختصر لكل ما سبق، لأنها (الوسادة الوثيرة) لدماغ تريد أن تتجنب عناء التفكير والكد في الحياة، وهي الغطاء المناسب لإنسان يهدف إلى إراحة هواجسه وقمع أسئلة المجهول والزمن القادم. وحدها السلفة تأخذنا إلى حيثما تريد من غير أدنى عناء لما نريد إطلاقاً. كلُّ سلفية لا تفكر في المستقبل إلاَّ بوصفه ماضياً منجزاً لا محالة. وهي سلفية قارة وراسخة خلف أغلب المظاهر الثقافية التي تتغير من عصر إلى لآخر، فعلى الرغم تحولات الثقافة التي تهب أحياناً على مجتمعاتنا العربية، غير أن السلفيات تترسب في القاع وتمثل فرس الرهان على كل الخطابات الثقافية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

لقد تجد بنفسك خطاباً علمانياً، لكنه خطاب سلفي حتى النخاع، وقد تجد خطاباً يرفع شعارات التنوير والحرية والمساواة، ولكنه سلفي بملء الكلمة، وقد تجد خطاباً حداثياً إلاَّ أنه منقوع في ماء السلفية حتى تشبع بها تماماً. وربما تجد خطاباً ليبرالياً، ولكنه واقعياً يتجمد عند محددات سلفية في أفضل الأحوال. وقد تجد خطاباً سياسياً من غير أية تصنيفات ولا يعرف ما السلفية من المبدأ، لكنه سلفي بإمتياز، بل ينشر قيم السلفية السياسية طوال الوقت!!

معنى هذا أن النزعة السلفية عابرة للخطابات الثقافية والفكرية لدينا، وهذا يؤشر إلى مشكلة التفكير والنظر إلى الحياة بمعايير ماضوية دائماً. لأن كل ثقافة حين تغلق أذنيها وعقلها عن التطورات الجديدة التي تعيشها البشرية، فهي تعد أتباعها وفاعليها بمزيد من السلفية النائمة حتى الموت. وهذا جزء من عتاد الاستبداد والتقاليد والتشدد والعنف في شرقنا العربي، لأنَّ أرض الثقافة لا تحتاج إلى حرثٍ وتمهيدٍ كي ينشر الإرهاب فيها الانغلاق والانكفاء على الماضي. لكن يكفيه أن يحط رحاله (ولو كان عابر سبيل) على الأرض، فيجد البذور موجوده ويحركها كيفما شاء. منْ قال إن داعشياً من بلاد الواق واق لمجرد أنه يتكلم بلكنه اسلامية بارزة أن يصبح بين يوم وليله أميراً أو خليفة للمسلمين ويُشار إليه بالبنان؟ من قال إن منظراً جهادياً من بلاد الأصفر: ما إن يحل فكره بين أدمغة عربية، حتى يغدو معبود الجماهير ويمسي كتابُه من كتب الصحاح ؟!! من قال إن فكراً مرّ عليه قرون وقرون وراحت سياقاته، ثم فجأة يصبح موضة ويتزي الناس بزيه ويؤكلون ويشربون على طبول الحروب باسمه جيئة وذهاباً؟!!

السلفية تتحول إلى سياسات وبرامج وخطط مازالت موجودة في حواشي الأنظمة السياسية حتى اللحظة، وليس غريباً أن تكون السلفية واسعة الإنتشار في عصر المعلوماتية والتطورات التقنية والأسواء المركبة والعابرة للقارات والتغيرات في كل شيء حولنا. وهذا تناقض صارخ أن تكون البيئات أكثر تقدماً وتفرداً ربما من أي زمن سابق وأن تكون المعارف والأفكار عالية التطور والتعقيد، في حين انتعشت السلفية كأنها لم تكن كذلك من قبل. وذلك لسبب بسيط أن الإنسان إرتد إلى التمسك بغرائزه وحول الثقافة إلى آليات استهلاكية، فتأججت الرغبات وبات كل شيء ينطق بالجوانب الحسية المادية.

إن إنسان العصر هو حيوان الثقافة دون منازع، حتى بات متكالباً على شهواته في نوع من إيقاع البدائية المعاصرة contemporary primitivism، لقد ظهرت نزعة الحيوانية الوحشية مستخدمة أحدث وإبرز أدوات التكنولوجيا والمعارف والأسلحة والبرمجيات. ظهر ذلك في الإقتصاد والتجارة المعولمة والحروب القذرة والسياسات التي تروض البشر والديكتاتوريات الشمطاء والإرهاب الدموي مع غرائز الجموع والحشود السافكة للدماء. لقد قامت شعوب بأكملها على شعوب أخرى للفتك بها وتطهير البلاد منها كأنها لم تكن متعايشةً معها بالأمس القريب، وكأنها لم تتبادل القربى والعيش تحت سقف دولة ومجتمع واحد. كما حدث في يوغوسلافيا ومانيمار بين البوذيين والمسلمين وبين الدواعش (هذه الحشود المترحلة من عصور ماضوية) والشعوب التي تواجدوا على أراضيها في سوريا والعراق وليبيا ووسط صحراء أفريقيا وجنوب شرق أسيا.

إن معالجة ثغرات الثقافة لا يجدي معها خطابات النصح والإرشاد، وكذلك لا تسير بهذا الوقود العاطفي ولا بنبرات التخويف. الثقافة أذكى فضاء إنسانياً يمكن أن ينطوي على معطيات الحياة بشكل قادر على إدارة ذاته بذاته. وما لم تكن الإدارة الذاتية للثقافة مؤهلة للتفتح والتحرر والإبداع والتعدد من داخلها، لن تكون هناك إلا عوامل القصور والضمور. وسيكون التدخل نوعاً من القهر الذي ستمارسه الثقافة بشكل معكوس إزاء فاعليها. وحدُها كل الثقافات التي تم تحريكها بآليات الدفع الخارجي والتعمد نحو أهداف مرسومة ستتحول إلى ثقافة افتعال واكراه عاجلا أم آجلا. وهذه مشكلة الثقافات والأيديولوجيات القمعية طوال تاريخ البشر، حيث كانت السلطة تتعامل مع فاعليها بنوع من الحشد والتعبئة. مما أدى إلى فائض تضخم تعبوي يأتبي بنتائج مرضية على المدى البعيد. إن التعبئة الثقافية أحد مظاهر الاعتلال الذبي لن يفلت الإنسان إلا جوالاً مملوءاً بالمحتويات الغثة، وما على الإنسان المعبأ إلاَّ انتظار الفرصة لإلقاء الثقافة في أقرب حفرة.

الحلول الناجعة للثقافة لا بد أن تمر بعدة نقاط حرة لا تعليمات ولا املاءات:

أولاً: فتح آفاق الثقافة حتى تتخصب جوانبها بمزيد من التطورات الإنسانية مع حالة العصر الراهن. لأن الإنزواء بثقافتنا سيجعلها فريسة سهلة للسلفيات التي لديها قدرة خارقة على العيش والبقاء لأطول فترات ممكنة عبر التاريخ. مثلها مثل الفيروسات تعيس ملايين السنوات من غير أن تهلك وفي أقرب ظروف مواتية تنبثق من جديد.

ثانياً: تشجيع آليات التنوع والاختلاف لا التماثل والتطابق حتى داخل الثقافة الواحدة، لأنَّ الإبداع والتطور كامنان في هذين الجانبين لا خارجهما. وليست توجد ثقافة متراجعة إلا وتكون فريسة لنزعات التماثل بين عناصرها إلى حد الاختناق.

ثالثاً: بث مواد من جنس الثقافة لتشجيع التسامح والتعايش بين فاعليها مهما اختلفوا في الرؤى والمعتقدات والتوجهات. وبخاصة أن ثقافتنا العربية تميزت تاريخياً بقدرتها على توفير أجواء التعايش بين الأديان والمذاهب والأعراق. وإذ ذاك سيكون التسامح بمثابة عملية التطعيم الجديد الذي ينبت فروعاً مختلفة من شجرة الثقافة، بالضبط مثل عملية غرس غصن لفاكهة معينة في جسم شجرة فاكهة أخرى، حيث سرعان ما تخرج الشجرة نفسها صنفين من الفاكهة: الفاكهة الأم الخاصة بالشجرة والفاكهة الجديدة التي غرست (طُعمت) في جزعها.

رابعاً: تنمية ثقافات الحدود بين أقاليم العالم العربي الاسلامي وغيرها من أقاليم العالم، لأنها حدود انفتاح لا حصر، حدود ثراء ثقافي لا فقر، حدود تنوع لا تضييق. إن غلق الحدود سواء بمعناه المادي أو الرمزي لن ينتج سوى مزيد من القهر وسيشعر فاعلو الثقافة بالبؤس والقيود.

خامساً: تشجيع الرؤى الإنسانية على أن تشكل توجهات قيد الممارسة، لأن المقابل لذلك هو تحكم النزعات القاتلة للإنسانية وتحويل التاريخ إلى محاكمة لكل فعل حر. إن الرؤى الإنسانية ستكون قابلة للتغيير والتطوير ومن السهولة بمكان اختيار البدائل والممكنات منها. أمَّا الرؤى القمعية، فليست غير أشكال دينية أو سياسية أو اجتماعية، بينما الجوهر واحد وهو السلفية المقنعة.

سادساً: نشر ثقافة الانفتاح القائمة على أسس عقلانية وممارسات من النقد المتواصل لكل ما هو سلبي وضار بالمصالح العامة واحترام القوانين والحياة المشتركة بين الناس. هناك تصور سلفي خاطئ أن الانفتاح ضد القيم واحترام الحقوق، وهذا من بقاياً فكر متشدد كان واسع الرواج بينن الشباب. حتى أن تعبير "إنسان منفتح " كان يُطلق على كل شخص متحلل من الإخلاقيات وتقدير الآخرين!!

سابعاً: تحجيم دور الأنظمة المتسلطة والقمعية تجاه الوعي، لأن ثقافتنا العربية تهمس لمن ينصت إليها بحكمة: أنَّ ما يبنيه الفكر الحُر خلال عقود وقرون، تدمره أنظمة الاستبداد في شهور. أو كما يقال إن إدخار النمل لحبات القمح ولغذائه طوال الوقت قد يأخذه (خُف الجمل) بمجرد دهسه. وهذه سمة متفرده لدينا نحن العرب، لأن تاريخياً الثقافي متحلق حتى النخاح حول السياسة، فإذا تحركت الأخيرة هزت أركانه وإذا عصفت بشيء منه، سيحل الزلزال المدمر بعمق التاريخ ولن يسلم القريب أو البعيد من الأمر.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (2)

س19- أ. مراد غريبي: هل الانسان العربي ضحية العقلانية العلمية التقنية أم أنه فقد مؤشرات الحاجات الحقيقية عن الزائفة، مما جعل الثقافة مندمجة مع المتعة في ظل الخطاب التجاري المعبر عن الأيديولوجيا داخل الثقافة كصناعةٍ لا كهوية متكاملةٍ؟

ج19- د. سامي عبد العال: اعتقد أنَّ كلمة (الضحية) جاءت في موضعها الثقافي المنتظر، ولكنها لا تخص هذا السؤال، ولا تخص فرداً بعينه. لقد باتت (الكلمة المفتاح) لفهم: كيف نفكر في حل مشكلاتنا المهمة، وبأية صيغة نقبل علاقاتنا بالقوى المؤثرة من حولنا؟؟

فالعالم العربي يرى نفسه مغلوباً على أمره طوال الوقت، وأنّه الطرف الأضعف في أية علاقةٍ مع قوى أخرى. وطالما ننظر إلى وضعنا بعين الضعيف مهيض الجناح، فلن نخرج من دائرة الشعور بالاضطهاد والتكالب علينا من كل حدبٍ وصوبٍ.

لقد ورد المشهد في التراث الديني بصيغة دالة:" تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها"، أي نحن العرب قصعة طعام ليس إلاَّ، وهناك الأكلة الشرهون حولها ترقباً لالتهام الغنائم والثروات. فنحن مادة حيوية لإشباع الآخرين.. هكذا هو المشهد الغرائزي الواضح. أي نحن مأكولون لا محالة في بطون غيرنا، سنكون جزءاً من أجسامهم ومن معدتهم الهاضمة. وهذا معنى واضح لعمق الشعور بالتكالب علينا إلى أقصى درجة. والأخطر ثقافياً كما قال إدوارد سعيد ذات مرة: إنَّ الآخر في كل علاقة طرفها العرب هو من يؤثر فيهم بقوة، لدرجة كونه يرسم صورتهم عن أنفسهم، ولكن الأغرب أنْ يصدقونها ويسيرون وفقاً لما تعطيه من انطباعٍ ومعانٍ!!

تقريباً نحن على استعدادٍ لأنْ نكون ضحايا بألوان جديدة: نحن ضحايا العلوم والمعارف المتطورة، نحن ضحايا الفلسفات القارية والعالمية، نحن ضحايا الموضات والتقاليع الثقافية، نحن ضحايا مواقع التواصل الاجتماعي، نحن ضحايا الغرب المناوئ لنا دائماً، نحن ضحايا الإستعمار منذ العصر اليوناني إلى الآن، نحن ضحايا جنوب شرق آسياً، حين دهستنا الدول العظمى وصولاً إليه، نحن ضحايا أمريكا الشيطان الأكبر، نحن ضحايا الدولة الصهيونية، نحن ضحايا المنظمات الدولية، نحن ضحايا شركات كبرى تبيض وتفرِّخ لدينا ثم تذهب أرباحُها إلى أوروبا، نحن ضحايا الأعاصير والسيول، نحن ضحايا تحرك طبقات الأرض بين أوروبا وأسيا، وبين أوروبا وأفريقيا.. وأخيراً نحن ضحايا الأبالسة والجان نتيجة أول اتفاقية بينهم على سطح المريخ لإستهداف العرب!!

هل هناك قُوى أخرى مازلنا نتعلق بها كضحايا؟! متى سنكون نحن الفاعلون لا العكس؟! كيف نسلخ أنفسنا من قميص الضحية ولو افترضنا ذلك؟!

يحتاج دور الضحية إلى دراسة فلسفية أعمق في ثقافتنا العربية، وكنت أود طرح سؤاله عما قريب لجملة أسباب:

1- يمثل دور الضحية أقرب الأدوار الآمنة للتخلص من ضُغوط الحضارة والتاريخ.

2- يشكلّ الدور مُبرراً سحريّاً لإزاحة التراكم الثقافي حول علاقات القوى.

3- يضع هذا الدور ضحاياه أمام الجلاد بشكلٍّ متعادل، كأنَّ هناك قاضياً بينهما.

4- يحتوي هذا الدور على نوعٍ من القَصاص الذي يَشفي غليل الضحية مع أنه قد لا يكون صحيحاً.

5- يرسم صورةً خادعةً عن أسباب المشكلات ويهيلُ عليها التراب، فتظهر وتتكرر من جديد.

6- يصر طوال الوقت على إثارة الشعور بالذنب للطرف الأقوى وتصديره في الواجهةِ.

7- يُدمن دور الضحية حياكة الأعذار تلو الأعذار تنصلاً من المسئوليات والآثار المترتبة عليها مرةً واحدةً.

نتيجة ذلك، تمَّ الجري وراء هذا الدور السلبي، وأصبح أحد وسائل إدارة الأزمات، ولكن رغم هذا لسنا ضحايا للعقلانية التقنية قبل أنْ نكون نحن ضحايا أنفسنا. لأننا لم نتطور وتوقفنا عن مواكبة العالم حضارياً وعلمياً وتقنياً.. ماذا تبقى غير أنْ نكون ضحاياً غيرنا؟ هذا هروب للأمام بدفع الأزمات نحو الاتجاه الخطأ، كما أن العقلانية التقنية تنير العقول وتفتح آفاقاً جديدة، فتحول دون خضوع الإنسان لغيره وألَّا يكون ضحيةً لأحدٍ عكس الشائع.

أغلب الظن أنَّ لدينا بعض السلبيات وسط تحولات كبرى في جوهر الثقافة العالمية. هناك معالم فلسفية لم نأخذ بالنا منها. ونظراً لأننا في محيطنا العربي نمتلك خبرات التدهور والفوضى وغياب قواعد الحياة العمومية، لم نستطع فهم التحولات. فوجود المُتع والتسلية والترفيه في الثقافات أمر طبيعي مع انتشار ممارسات السعادة والبهجة خارج الأفراد. وهذا في الثقافة العالمية أمر مفهوم وطبيعي جداً، ولكنها متع تتسق مع الإنتاج والإبداع وتطوير مسار الحياة المشتركة. والدليل أن المتعة جزء من رؤى العالم والمجتمع كما هو موجود بكثافة في أوروبا وأمريكا وجنوب شرق آسيا.

ولكن المتعة لدينا نحن العرب أصبحت شيئاً آخر. إن المتعة كفكرة شيء رائع، ولم تعد بمعزل عن أنشطة الحياة المختلفة مثلها مثل أنشطة الثقافة الكونية، فالجماليات نسيج مؤثر في كافة نتاجات العولمة ومظاهر الإقتصاد التي عبرت الدول والمجتمعات. وإن لم تكن المتعة هذا الجانب الذي يغذي حواس الإنسان ومشاعره، فإنه سيعزف عن العمل، وسيكون كائناً ناقص الوجود. ولكن المعضلّة عندئذ: أية متعة هي المقصودة لدينا؟ وكيف تتحول إلى نزعة تدميرية؟ تحولت المتعة في مجتمعاتنا العربية إلى آلية استهلاكية خطيرة. بحيث أدمنا استنفاد ما لدينا من ثروات، سواء أكانت أموالاً أم قدرات أم طاقات على العمل. ولذلك ليس عيباً أنْ يكون هناك (جانب ممتع) في الأعمال الإنسانية، ولكن الخطورة أنْ يصبح غاية في ذاته.

وهذه هي مشكلة الصورة الذهنية عن مجتمعاتنا وقدرتها على الحياة والإسهام في الحضارة الكونية. والعجيب أننا مازلنا سائرين نحو الصورة الذهنية المرسومة بملء إرادتنا كما قال إدوارد سعيد، ولم يدفعنا أحد إلى هذا المصير سوى ما نسير إليه دون كوابح. والحاصل أننا عندما استسلمنا لتلقي منتجات الحضارة المعاصرة التي طغت فيها نزعات الاستهلاك، بحكم أن أبرز ما وفرته اقتصادياً هو فائض السلع وتنوعها، أصبحنا غير معنيين بالتميُز والتفوق. وحتى قد يقال: لماذا نتميز أصلاً، إذا كان كل شيء متاح في الأسواق؟! بدءاً من المواد البسيطة وحتى أعقد الأجهزة وأكثرها تقدماً وليس انتهاء بجسم الإنسان كقطع غيار بشري في منتجعات التجميل وتجديد الأجسام.

وانسحبت النزعة الاستهلاكية على الجوانب القيمية والرمزية من حياتنا، فإدمان الاستهلاك رسّخ لدى الإنسان العربي (فكرة التسليع بمعناها العام)، أي أخذ ينظر إلى أي شيء على كونه سلعة قابلة للبيع والشراء، مما أطفأ بريق وأهمية القيم والمبادئ والأصول. وغدت الأخيرة من بقايا الأشياء التي تمتلك أو ترمى جانباً. وحتى تحولت المعنويات إلى أشياء ماديةٍ رائجة، باختصار غدت القيم مجرد بضائع يبتاعها الإنسان ويشتريها وقتما يشاء. الأمر الذي انعكس على العلاقات الإنسانية وعلى رؤى العالم والحياة. وأكثر المجالات وضوحاً هو العلاقات مع الآخر، سواء بالتقليل من شأنه أو استخدامه بكل ما تعنى الكلمة من معنى!!

ليس خافياً على أحد السلوكيات العربية التي تجسد مشهداً كهذا، إذ بات مرئياً على صفحات المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي من انتشار النزوع المادي الصرف وبيع البشر واستنزاف العقول واهدار الطاقات فيما لا يفيد مجتمعاتنا العربية، حتى ولو كان تحت بند العمل أو التسلية أو غيرهما. وبطبيعة الحال تُرك المجال إلى الايديولوجيات كي تعبر عن معطياتها عن طريق غرس ثقافة معينةٍ. فأخطر ما جرى أنْ تخفّت الاتجاهات والأيديولوجيات في مظاهر ثقافيةٍ وتقنيةٍ، بحيث تبدو كأنها تلقائيةً ولا غبار عليها بين الناس.

وقد تركت الأيديولوجيا بصمتها على النتاجات الثقافية التي اختبأت داخلها. ومن مكر الواقع أن الاثنتين (الثقافة والأيديولوجيا) تحولتا إلى ايديولوجيا السوق. أي اصبحت ايديولوجيا خادمة لعملية البيع والشراء على نطاق واسع. وإذا كان الزمن كفيلاً بمداراة العلاقة الخفية بين الثقافة والأيديولوجيا على نحو مؤقت، فهي علاقة لا تنتهي لأنها تأخذ غلاف الأنشطة الأكثر رواجاً في المجتمعات، وأن تصبح الايديولوجيا مجرد سلعة متعينة في شكل من الأشكال وأن تجدد ضرورتها المباشرة ليتم تداولها عن طريق الثقافة. ومع ذلك قد لا يعتقد الناس بضرورتها كأغلب العادات والتقاليد التي يرتبط بها أفراد المجتمعات البشرية، لكنهم لا يستطيعون تجنبها.

وبخاصة أنه من أهم الممارسات أنْ تبهت (تخف حدة) الأيديولوجيات عن طريق الثقافة الشائعة، وأن تتحول إلى أشياء تمر مروراً عارضاً على الوعي ولا ينتبه إليها الناس عند التداول. وكأنَّ الناس يتداولون سلعة محايدةً لا تعكس ما بداخلها. وتدريجياً يكون السوق هو موضع جاذبية وتتحول الغرائز إلى رغبات عامةٍ، والرغبات تُغلف بكل (ما لذ وطاب) على موائد المشاهدات اليومية. وبالتالي تمَّ قطع العلاقات بين العقول والأصول، بين العرضي والجوهري، بين العمق والسطح، ويظل ولاء الإنسان ملتصقاً بالفوري مما لديه قدرة على الإبهار ولفت الأنظار.

جميع ذلك، تمَّ في ظل وجود شبكة النت التي أتاحت مضاعفة الظاهرة إلى درجة كبيرة، وسمحت بدخول متغير الجماهير هكذا بصيغة الجمع، الكتلة، الحشد وراء الصور والاعلانات. فارتبطت ظاهرة الثقافة الرائجة بظاهرة الواقع الافتراضي، ليعود الواقع الافتراضي عن طريق اللايكات والمتابعات وعلامات الإيموجي إلى شحن الممارسات وتضخيم المشاهد كأنَّها الحقيقة. عالم من الإنحناءات الإلكترونية وصور متواصلة من بلاغة الصور المغرية والجذابة مع وجود فراغ الوعي. لم يعد هناك فاصل زمني ولا مكاني بين الواقع والخيال، وأصبح (القطيع الالكتروني electronic herd) هو الغالب ويتحرك بغرائزه مباشرة وبأهواء سائلة عبر" الأسطح اللامعة " التي لا ترى واقعاً فعلياً. ولكنها تمتلك الأهم: عملاء ومندوبون وشركاء وصانعو محتوى ومروجون ودعاة أفكار وخادمو سياسات وأصحاب عيون محملقة طوال الوقت، ينفذون ما يُراد لهم وبهم ويتابعون العمل المباشر مع القابعين خلف الأجهزة. وبشكل مقصود أو غيره، ليست تلك هي القضية ولا هذا السياق، لكن سنجد أنَّ الظاهرة قد فرضت تداعياتها وأصبحت أكثر تأثيراً مما يتصور المحللون!!

إنَّ صناعة الثقافة والأيديولوجيا عبر سطوة الوسائط تجاوزت كل الحدود، وبات الواقع الإفتراضي سابقاً على الواقع الفعلي، هو يأخذ خطوات بالقفز السريع كحيوان الكنجر، إنَّه سوق من نوعٍ فائق على الوصف، مؤدياً الأهداف ذاتها وأكثر. لأنَّ النظر واللمس الديجيتال قد يأخذان العقل إلى طغيان الجوانب والانطباعات الفورية. وهي نتائج غير دقيقة وتحول بين الوعي والتمييز، لأن الغموض المريح والأشكال المبهرة أشياء تخطف الحقائق. إنه عصر خطف الحقائق ومسخ الأفكار. وعليك البحث عنها طوال الوقت، ولن تكون حقيقة كاملة ولكن عليك التجوال غير المتوقف في دروب المواقع وخلف الكواليس المظلمة حتى تستطيع العثور على شيء.

لم يخلو السوق ككل من توجهات تخدم القوى المهيمنة والتي تدير المشاهد من وراء الكواليس، وليس الإنسان سوى ترس بشري في مجموعة تروسها داخل ماكينة السوق والأنظمة الاجتماعية والسياسية، والأخطر أن يتم تفريغه من المواقف والمبادئ ليصبح هو الآخر سلعة تذهب إلى سلعةٍ، وجهاً يقابل وجهاً، حالة تتوقف لدى حالة، مرايا تعكس مرايا أخرى، ويمسي الإنسان في نهاية الأمر من الذباب البشري حاطّاً على الأشياء وأسطحها اللامعة. لأنّ تسطيح القيم يؤدي إلى تسطيح الوعي ولن يهم صانعي الأسواق والثقافات المؤدلجة أو الأيديولوجيا المتثاقفة إلا تلك الخطوة.

ربما كان أخطر اختراع تمَّ مع عولمة الأسواق وتجارة الأيديولوجيات وتسطيح الثقافات هو اختراع " الزبون customer"، فالزبون هو المادة البشرية التي بلا قوام وتُصنع منها الآراء والاتجاهات والمذاهب والأفعال العامة وترسم السياسات وأحداث الفوضى. ولو حاولنا العثور على عنوان جامع يعلق فوق رأس العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين حتى اللحظة، فهو عنوان (الزبون). وقد يتخفى المعنى في عناوين أخرى مثل المتصفح أو المتجول الافتراضي أو الناشط أو العضو أو المشارك أو المرتاد أو الفاعل، غير أنهم في النهاية مجرد أسماء لزبائن. وسيعرفون ذلك عندما يواجهون أنفسهم ويصوبون النظرات إلى داخلهم.

ودرجة التحول في الثقافة – من تلك الزاوية- مخيفة ووحشية إلى أقصى درجة. فإذا كان انطونيو جرامشي قد أطلق معنى المثقف العضوي المدافع عن المواقف، والذي يجد في النضال حولها قضية جديرة بالاهتمام آخذاً أهدافها على محمل الجد، وإذا كان جان بول سارتر قد رأى في الإلتزام الفكري والأدبي دفاعاً عن قضايا وجود الإنسان في الحياة، وإذا كان إدوارد سعيد قد اعتبر المثقف المقاوِم لانحرافات السلطة أحد الرموز الجديرة بالتقدير وأنه يجب ألَّا يحيد عن هذا الطريق إلى نهايته وإن أدت إلى حتفه، ... أقول إذا كان ذلك كذلك، فالإنسان الزبون هو الكائن المُسطَّح لدرجة اللعنة، وهو المثقف الذي أصبح سلعةً، وهو الآخر الذي يتم التجارة في لحمه وجسده وكيانه المرمي في الأسواق، وهو العشوائي الذي يقطن مدن الصفيح والهوامش في المجتمعات العربية، وهو المواطن المحجوز تحت التوقيف ورهن الآمال المؤجلة، وهو الكادح الذي يعود خالي الوفاض إلاَّ من فتات وخيبات.

أؤكد أنه ليست هناك إلاَّ (الزبائنية Customerism)، وهي عملية ثقافية تعتبر الإنسان- أي إنسان- زبوناً ليس أكثر. علامة فارقة لعصر مجنون يطحن كيان الإنسان ويتغذى علي بقاياه. حتى أنت مجرد زبون لدى قوى أكبر من تأثيرك المحدود، وبمجرد أنْ تدخل تلك الدائرة عبر أبسط الأشياء المتداولة، حتى تتلقفك عمليات تالية أيا كانت درجات مقاومتك. ومشهد العالم هو مشهد زبائنية بامتياز، يختلط فيه الواقع بالسياسات بعيدة المدى. فالدول الكبرى تنظر إلى الأقل منها على أنها دول ومجتمعات الزبائن الذين يجب أن يهرولوا تجاه المنتجات والشركات وتجارة الأسلحة وغيرها من منتجات الأسواق، والمجتمعات الأقل تقدماً تنظر للأقل منها على أنها زبائن، وهكذا وصولاً إلى دولنا التي تنظر إلى مواطنيها لا كمواطنين لهم كافة الحقوق الإنسانية، إنما تعتبرهم زبائن خاضعين لآليات السوق الاجتماعي والسياسي في الآن عينه. وعلى الزبائن أنْ يركضوا ليلاً ونهاراً ليجدوا بعض الحياة الكريمة.

في هذا السياق لا تُولد الهويات، لكنها تصنّع مع الحياة باحثة عن مصيرها المفقود. ولذلك ينظر بعض الناس إلى الثقافة على أنها ميلاد للهوية الراسخة.. وهذا وهم، فالثقافة هي فيض الحياة وتحولاتها عبر الإنسان بمعناه الشامل. ولكن الإنسان أهم من الثقافة لكونه الفاعل، شريطة أن يكون واعياً ولديه قدرات الأصالة والتغيير. واكتمال الثقافة ليس هدفاً في ذاته، لأنه لا توجد ثقافة مكتملة، ولن تصبح كذلك في يوم من الإيام. الثقافة يجب أن تكون قرينة الحرية والتحرر وقيم الأصالة والتنوع والتعددية على كافة المستويات.

في حين أنَّ الحاصل عكس ذلك، ولكي نخلق أجيالاً تتمتع بإنسانيتها، علينا أنْ نرسخ ثقافة حرة تراجع ذاتها وتنتقد مواطن العسف والتخلف. الثقافة هي الرحم الإجتماعي الذي يحمل الإنسان بعد أن لفظه الرحم البيولوجي. ورمزياً لن يستطيع الشعور بالحياة وممارسة جوانبها دون أن يتغذى بكل حرية من هذا الرحم الرمزي. ولذلك تعد فوضى الثقافة وهيمنتها أخطر شيء على وجودها ومساراتها التاريخية. وهذا هو ما يعانيه الإنسان العربي إلى أن يجد مخرجاً. فنتيجة تلك الفوضى لم يستطع أن يجد رحماً مناسباً لحياته، هو غير مستقر وكأنه ريشة في مهب الريح، وتلك الريح من كافة الاتجاهات، تأتيه قوية وعاصفة لتقلبه ذات اليمين وذات الشمال. أين المستقر الحضاري والإنساني؟ هذا هو السؤال الصعب الباحث عن إجابة.

س20- أ. مراد غريبي: قبل عقود كان الحديث كثيفاً حول الثقافة الجماهيرية في قبال الثقافة الراقية والثقافة الشعبية وعلاقتها بوسائل الاعلام، لكن الآن هناك ثورة رقمية تتشكل معها ثقافة رقمية تتوسع كل يوم وبحاجة لفهم، في الغرب تبلورت فلسفة التكنولوجيا وحضورها قوي في الفعل الفلسفي الغربي، ما قيمة ظاهرة الثورة الرقمية من المنظور الفلسفي عربياً، درساً واشتغالا؟

ج20- د. سامي عبد العال: الثورة الرقمية ظاهرة فريدة على مستوى الإنسان والفكر، لكونها تتطلب إنسانها الفاعل في المقام الأول، هذا الكائن الحر والقادر على التفكير والتساؤل بطرق غير معهودة. والثورة الرقمية من جانب كهذا لم تفعل فعلها الحقيقي في المجتمعات العربية. فقط اتاحت فرصة للهروب من أصناف الرقابة. وهكذا فهمت بعض المجتمعات العربية ذلك، فحرموا في بدايات النت واستعمالاته التصفح الحر والإطلاع على المواد الإلكترونية وظهرت فتاوى تحريم دخول النساء للمواقع، وكأنها مواقع داعية لخدش الحياء والتحرش بالقيم والأخلاقيات!!

وبعض المجتمعات العربية حصرت الرقمنة وتراثها القريب في طبقة المستخدمين الذين ينتمون إلى شرائح اجتماعية ليست بالكبيرة، مثل الاغنياء أو المتعلمين بالخارج وكذلك مثل أصحاب المؤهلات المتخصصة. والبعض الآخر من مجتمعاتنا اعتبروا فضاءات النت ظواهر غريبة أشبه بالأرواح الشريرة التي ما إن تحل حتى تحدث البلبلة والتشويش، وكأن الواقع الافتراضي حادثة بني اسرائيل في العهد القديم وقد عادت عن طريق العرب هذه المرة، حادثة غضب الرب على شعبه، فبلبل ألسنتهم وهاموا على وجوههم في البرية.

وهناك البعض الآخر ينظر إلى الثورة الرقمية كنوع من اللعنة الإجتماعية التي حلت بالعرب، فأخذت تفرق بين المرء وزوجه، بين الأب والأبناء، بين الناس والمجتمع، بين السلوك والحكمة، وكأنها سقطت فوق رؤوس العرب فجأة وبمؤامرة كونية جديدة. واخذت بعض المواد والبرامج الاعلامية تناقش قضايا الجريمة الاجتماعية وقضايا الطلاق وقضايا الخرس العائلي نتيجة كثرة استخدامات النت. وأنَّ الناس منشغلون طوال الوقت بالتصفح والجري وراء أخبار المشاهير والفضائح والطرائف والأحداث من غير الإلتفات إلى التواصل الفعال وبناء علاقات صحية. لنتابع أي خبر من الأخبار الفاضحة، ستجد ملايين المشاهدات والمتابعات، وحتى من هؤلاء الذين يعلنون أنهم يتجنبونها ويقللون من شأنها، فهناك انفصام بين شخصية المتابع في الواقع الافتراضي والشخصية ذاتها مع ما تقوله في العلن!! والحقيقة أن هذه ليست ظاهرة عربية، لكنها ظاهرة عالمية في جميع المجتمعات، حتى المجتمعات النائية الملقاة بين الصحارى والغابات والبراري في أمريكا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا.

هناك شرائح أخرى تعتبر صفحات النت بمثابة ماخور سفلي للبحث عما هو غريب وعجيب ومشاهدة الأفلام والفيديوهات الخارجة، راكضين وراء اشباع نهم التلصص والرغبات والغرائز والشهوات السائلة تمشياً مع مصطلح زيجموند باومان. وهؤلاء يرتادون الشبكة العنكبوتية ولا يعنيهم وعياً ولا معرفة في قليل أو كثير، لكنهم يهدرون طاقات ويقفون عند موطئ أقدامهم في النظر إلى الأمور. كثيراً ما يعاقر الإنسان ما يشتهيه، معتقداً أنه ظفر بما يشبع الغرائز، ولكنه يبقى مستعملاًّ وسيُلقى على قارعة الحياة وسيكون (لقمة سائغةً) في فم ظاهرة أكبر تمتص قدراته وحيوية وجوده.

يجب أن نرى الموقف من الثورة الرقمية في عالمنا العربي:

لنكن على مستوى المسئولية مع أنفسنا، إن مصطلح الثورة الرقمية digital revolution غريب ونشاز على الأذن العربية. وكأننا نتكلم عن اكتشاف كوكب آخر يبعد عن أرضنا بلايين الكيلومترات دون أن يعنينا في شيء إلاَّ بعض اخباره المتداولة. فهذا الأمر من قبيل الوجود في العالم تحت تأثير وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والشبكة الافتراضية التي تنقل ما يحدث. لكننا لم نعِ وعياً حضارياً ولا ثقافياً دلالة الثورة الرقمية لعدة أسباب:

أولاً: مصطلح الثورة نفسه – ولنفتح قوس الصراحة باتساعه- دخيل على الذهنية العربية، تحديداً مصطلح عابر للتفكير في تغيير الثقافة وبناء الوعي وقدرتنا على مواكبة العالم وكيفية الإفادة منه. الثورة في لاوعينا البعيد من فصيلة الفتن والدسائس والملاحم والصراعات والتمرد المرفوض. وأقرب دلالة إليها هي عملية تحريك الجيوش لتأمين الحدود وقبر الثورات (الفتن) في مهدها، قبل أنْ تهدم انجازات الأمة وقبل أن تطيح بالأخضر واليابس وقبل أن تفتن الناس في دينهم وأخلاقهم. الثورة من ضمن الكلمات المرادفة للإتيان ببدعة غير مشروعة ومغضوب عليها قبل أن تبدأ إلى أن تدفن!!

في تاريخ الثقافة العربية، هناك احتمالان: إمَّا أن الثورة مرتبطة بالجماعات المهمشة والتي تريد هدم المعبد على أصحابه بعد أن استتب الأمن والأمان، وبعد أن ازدهرت الأحوال وأصبح الناس في بحبوحةٍ من العيش وممارسة الطقوس والعبادات الدينية. وإمَّا: أنها عملية تمرد مرهونة بشخصيات تغرد خارج السرب، وتمثل خطراً على السلطة المركزية في إحدى الحواضر، وتنتهي المحاولة الثورية بالإجهاز علي أصحابها والعودة برؤوسهم على أسنة الرماح إلى السلطان، كي تعلق في ميدان عام كمصير محتوم لكل ثائر محتمل!!

الثورة لدينا آتية من: ثَارَ (دون حق) مهما كانت الظروف والأحوال، آتية من يثُور (أي يؤلّب الناس ويفتنهم عن الحق والحقيقة)، ثائِر (حيث يتم الاعلان عن طرده وإعلان الحرب عليه)، وأنه لن يعود آمناً إلى وطنه ولو كان داخله، فلابد أن تنتهي حياته بكارثة وآية للعالمين على طريقة الكوارث التي اخبر عنها القرآن مثل: أقوام عاد وثمود وصالح وآل لوط وجنود فرعون، هؤلاء علامات فارقة في تاريخ الأديان، وكذلك أمثلة اتخذها الحكام للتعامل مع أصحاب الثورات.

ثانياً: الثورات لا تؤثر كثيراً في واقعنا العربي إلاَّ إذا قصدت النخبة ذلك بشكل ملموس، وما يترتب عليها من نتائج محدودة. والتأثير قد لا يكون بسبب الثورات تجاوزاً، لكن هناك المستفيدين حيث لا تعنيهم الثورة بذاتها. وهناك أساليب الإحتواء وإعادة التوجيه من الحرس القديم والطبقة التي قامت بسببها الثورات. وقد شاع القول:" إن الثورات يخطط لها الشرفاء ويقوم بها الشجعان ثم يسرقها الجبناء ويقفز عليها الانتهازيون"... وكأنها مقولة قيلت في المقام العربي حصراً دون سواه.

ثالثاً: الثورة لدينا تقوم بها قلة لا كثرة. ولو قامت بها الجماهير، ستتحول سريعاً إلى فوضى، والقلة تستفيد منها إلى أقصى درجة وتتحول في النهاية إلى حكم النخبة.

رابعاً: كل الثورات تسير إلى الأمام إلا ثورات العالم العربي تسير إلى الخلف، لقد وضح ذلك عندما امتطت الجماعات الدينية ظهر الحراك العربي وأرادت قيادته إلى إحياء الجهاد والخلافة والعودة إلى العصور القديمة، غير عابئة بسؤال التجديد وكيفية تطوير المجتمعات التي أكل الدهر عليها وشرب.

ولذلك عندما وقعت أحداث الربيع العربي، حارَ المحللون والكتاب واضطربوا في تصنيفها: أهي ثورات بملء الكلمة، أم حراك سياسي، أم تمرد، أم فتن، أم ظواهر لربيع عربي، أم إعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، أم مؤامرات من قوى غامضة!! لا أحد يقطع بالحقيقة، وبخاصة بناء على (الأحداث الهادئة) التي حدثت داخل قصور الأمراء: مثل تنازل بعض الأمراء علانية أم ضمناً لورثة الحكم وأولياء العهد. وبخلاف الأحداث الحادة التي جرت في الشوارع والميادين والساحات العامة كما في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.

سبب الحيرة ليس منطقياً ولا معرفياً ولا سياسياً، لكنه سبب بنائي structural في متون الفكر العربي: أنه لا يوجد تأويل للأحداث من هذا اللون في خانة الحداثة العربية إن أُجيز التعبير، أي ليس لدينا مفهوم تاريخي بنائي للكائن العام الطارئ المسمى بالثورة يمكن أنْ يستوعب معناها، حتى نتقوّلها بشكل عمومي مباشر ونعبر عنها بكامل معجمها المعروف. وهذا أمر دال على أن كلمة الثورة معلقة في سترات أغلبية العرب كحجاب منتظر تأثيره، لكنها ليست عملية عضوية تهدم منظومة قيم في أغلب مناحي الحياة وتبني وتعيد ترميم القيم التي اهترأت من طول الترهل واستعمالها السلبي.

إنَّ ما تمَّ من أحداث ربيعية إنما هو عملية (احلال وتبديل) بحسب القوالب الموروثة للسلطة، وهي عملية تغيير الوجُوه مكان الوجوه أو إرتداء الوجوه على الوجوه القديمة، ولكن المتون ظلت واحدة وسارية المفعول. مثل تبديل لاعب كرة لم تسعفه لياقته البدنية ومرونته العقلية على اللعب وإحراز الأهداف، فما كان من المدير الفني إلاَّ أن استبدله بلاعب آخر، ولكن الخطة الفنية ظلت كما هي والاستراتيجية واحدة حتى وإن أدت إلى الهزيمة. وفي الثورات سنجد الجميع يُخدِّم على تلك اللعبة التاريخية بكم من المساحيق الثقافية الممكنة، حتى الثوار أنفسهم يعملون على ذلك ويمهدون الطريق للوجوه أن تتبدل وأن تتماهى وأن تأخذ أدواراً غير التي كانت لها ولكن الأساس لم يمس.

وظل الوضع السابق ممتداً بالنسبة لمفهوم الثورات إجمالاً، فما بالنا بالثورة الرقمية؟ وهي العملية الأكثر تعقيداً وتطوراً دون منازع. في الفكر الغربي: عندما ننطق مصطلح الثورة، ستذهب إلى معجمها الحداثي مباشرة كتقنية جماعية لتغيير الأوضاع في المجتمعات وتطوير منظومة القيم الفاعلة، وهي تقنية حداثية نظراً لأن الثورة الفرنسية- وقد أثرت في الفكر السياسي الحديث- أبانت عن كتالوج عمل الثورات وتأثيراتها وكيفية تطوير العمل العمومي وأهم المبادئ التي استند إليها، رغم أنها أخذت وقتاً طويلاً من المسارات المتأرجحة. وامتد تأثيرها خارج نطاق فرنسا وأوروبا إلى دول العالم بصرف النظر عن سلبياتها ونقد أحداثها، لأن آليات العمل واضحة ومبادئ الثورات شُرعت وجُربت.

قياساً على ذلك لو قيل الثورة الرقمية سيعرف الغربيون معنى ذلك ومفهومها، لأن هناك- كما تفضلتم- فلسفة التكنولوجيا. وهي الفلسفة التي بدأت وطرقت الوعي العملي بقوة مع تأثير التكنولوجيا وأهمية الآلات ودورها في بناء المجتمعات مع العصر الأوروبي الحديث، إذ أنتجت حقبة الاستعمار التي أتاحت تشغيل الأسلحة والقطارات والميكنة في نقل البضائع والسلع وثروات الدول المستعمرة. حيث كانت سؤال الآلة هي السؤال الذي أحيل عليه معنى الوجود، من مجرد وجود (يقف الإنسان داخله) إلى وجود (يمتلكه ويستعمله الإنسان) كأداة وأداء في يده. أي تحولت الأشياء والمواد والعوالم إلى أدواتٍ تستعمل لأغراض وأهداف معينة.

التكنولوجيا هي الخيال الأداتي Instrumental imagination الذي يؤدي وظائف انجازية في حياة الناس. ومن هنا كان التطور الرهيب للآلات والتقنيات بموازاة التغيرات التي دخلت على هذا الخيال العملي. مما وفر ثقافة مبنية على الأداء التقني في كافة مناحي الحياة الإنسانية. وكان الخيال الغربي مهيئاً لأية طفرات ضمن هذا المجال، ولاسيما أنَّ التكنولوجيا لا تتطور من نقطةٍ إلى نقطة أخرى بحركة السلحفاة، ولكنها تنطلق بصورة متنوعة ودائمة الحركة والتقدم. وهذا يفسر التغير المدهش في أجيال التقنيات والأجهزة من سنةٍ إلى سنةٍ، وتم تقليص مساحة التغير ذاته.

والتكنولوجيا لها نظرياتها الفلسفية ولها مفاهيم مؤسسة في الفكر الغربي، ولن تجد مقابلاً مناسباً لها أو على الأقل تنظيرات مماثلة في عالمنا العربي. لأن تجارب المفكرين العرب مع التقنيات ليست تجارب طويلة الأمد. وهذه التجارب تأتي من الاطلاع الحقيقي أو المتخصص في التكنولوجيا وعلومها المختلفة إنتاجاً وتطبيقياً وتصميماً. وهي أيضاً علوم تحتاج متابعة دقيقة وبين عدة مجالات مختلفة interdisciplinary في الوقت نفسه. وكذلك تحتاج إلى رؤية فلسفية نتيجة هذا الثراء المعرفي. ولذلك هناك فلسفات تعبر عن طبيعة التكنولوجيا وكيفية تأثيرها على واقع الحياة في المجتمعات المعاصرة، وكذلك هناك فلسفات تحلل مشكلات التقنيات والتواصل والثقافة والتاريخ في إطار اتجاهات فلسفية مثل الفينومينولوجيا والنظرية النقدية والنقد الثقافي وما بعد الحداثة ومشكلات العقل والذكاء الاصطناعي.

هذا هو سبب الإدراك البعيد لا القريب للثورة الرقمية فلسفياً، فقد جاء التعرف عليها في محيطنا العربي كمقالات متناثرة هنا أوهناك داخل كتب مداخل فلسفة التكنولوجيا وتبسيط العلوم الطبيعية ونشر ثقافة التكنولوجيا وأحياناً هناك طرح لأفكار فلسفية، ولكنها ليست عميقة وتبدو مبسطة، وقد يتناولها البعض من قبيل شروح العلوم والمعارف التي تدخل عادة في تاريخ التكنولوجيا وعرض الإبتكارات ومعرفة الآلات، مع أنَّ هناك جانباً آخر دخل إلى دائرة التفلسف العام، وهو جانب الرقميات والعلوم المعرفية cognitive sciences التي تركز على دراسات العقل والتماثل بين العقل البشري والعقل الحاسوبي وحوسبة اللغة وغيرها من الأنشطة التقنية لتطوير القدرات الإنسانية وتطبيقاتها.

ومن مفارقات ذلك أن فلسفة التكنولوجيا انتعشت مع إسهام المترجمين العرب، وأن هناك من يريد معرفة الاتجاه الفلسفي الآخذ في الصعود والتحليق بعيداَ. ولكنهم في الوقت نفسه، لم يتركوا أفكاراً مهمة للتكنولوجيا حتى تقول ما تريد. حيث أحدثت الثورة الرقمية تداعيات خطيرة إزاء مفاهيم الوعي والجسد والحياة والذكاء والذاكرة، وحياة الإنسان والعقل الآلي. وستتطور تلك الأشياء في المستقبل لدينا مع مواصلة الطريق نحو تعميق فلسفات التكنولوجيا وعندما تترسخ تقاليد أصيلة لدراستها.

علينا ألا ننسى- من قبيل الأمثلة - أستاذاً مرموقاً وهو أحد الأوائل الذين مارسوا التفكير في ظاهرة الثورة الرقمية وهو الدكتور نبيل علي، وكانت مؤلفاته سبّاقة إلى مجالات ثقافية رقمية مميزة، وكان نادراً ما يثير مشكلة زائفة مركزاَ على الظواهر الحيوية إلى درجة بعيدة. وقد فتح الطريق لمناقشة أوضاع الثقافة والفكر واللغة العربية على أسس معلوماتية، أبرز مؤلفات نبيل على: " العرب وعصر المعلومات"، "الفجوة الرقمية: رؤية عربية لمجتمع المعرفة "، " العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول" الجزء الأول: الجزء الثاني"، " الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي"،" اللغة العربية والحاسوب".

وقد كان نبيل علي يتميز بآفاق عابرة للتخصصات من الهندسة وعلوم الطيران إلى علوم الحاسوب والأنظمة الآلية، إلى العلوم الإجتماعية ثم تصميم البرامج والمنظومات وعلوم الشبكات، ثم إلى هندسة المفاهيم وصياغة الرؤى وخرائط المستقبل والفكر. وكل ذلك جعله قادراً على تقليب وجوه الثقافة العربية بين الأزمات والفجوة المعلوماتية والثورات الرقمية المتلاحقة وإعادة بناء العقل العربي. ومن حسن الطالع أنني التقيته في المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2011، حيث أنصتُ بعناية–أثناء إلقاء ورقة بحثية – إلى قدراته الفلسفية المهمة في الذكاء الإصطناعي ومناقشاته لقضايا الفكر بروح المفكرين الكبار وأسئلة الفلاسفة العميقة، وأنه لم يتوقف عند ترديد العبارات وإيراد المعلومات، لكنه كان يطرح طرحاً فلسفياً رصيناً مما لم يُتح لبعض دارسي الفلسفة في الجامعات.

حتى أن الدكتور نبيل علي قد وجّه الكلام إلى شخصي بعد تعليقي فلسفياً على ما قال متمنياً لنا (أي دارسي الفلسفة) أن نقتحم المجال الرقمي بأدوات التفلسف والإبتكار، مشيراً إلى أنَّ كل اسهاماته مبنية على مضامين فلسفية بالأساس. وأتصور أن عقلاً كهذا في حقول الفكر استطاع أن يقدم أفكاراً ومفاهيم تحرك بعض المياه الراكدة في فلسفة الذكاء الإصطناعي على الأقل في بواكير تأثيره العربي، مما يدخل في مجال الفلسفات التطبيقية، ومما كان له بالغ الأثر على الإفادة من تطورات الواقع الافتراضي. وبخاصة أن الدكتور نبيل علي لم يكن مُنظراً فقط، لكنه كان ابن الممارسة وتصميم البرامج وتحديث المنظومات القديمة كما اسهم في تصميمها عربياً بمنطقة الخليج العربي.

ومما يدعو الى الرثاء أن الدراسات العربية في هذا الشأن لم تعط الدكتور نبيل علي مساحة من الحوار والنقاش، بينما تحتفل جوجل سنوياً بذكراه وتنوه إلى أعماله واسهاماته الفكرية الرقمية، لأن الثورة الرقمية قد تخترق جانب حياتنا من اتجاه معين، ولكنها سرعان ما تحتل مركز التوجيه كما هو حال زحف المعلوماتية والواقع الافتراضي على جميع مناحي الحياة العربية لا العقل فقط... وهناك أمل أن تتابع الأجيال اهتماماتها الفلسفية بهذا الجانب، واتصور أنه سيأتي الاهتمام من المتخصصين وغير المتخصصين في الفلسفة.

***

حاوره الأستاذ مراد غريبي

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثاني: حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة

س17- أ. مراد غريبي: الآن نركز قليلاً في اللغة والهوية، حيث تحضرني هنا عبارة لجاك دريدا في كتابه الكتابة والاختلاف: "الأصل يحيل إلى لاحقه دائماً والهوية إلى آخرها، بذا يكون الاختلاف في حقيقته، إحالة إلى الآخر وإرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي"، ماذا هناك بين التعدد والتنوع والاختلاف من جهة، وحركة اللغة في تشكيل هوية الذات والمجتمع من جهة أخرى في راهننا العربي؟

ج17- د. سامي عبد العال: هذا السؤال على درجة كبيرة من الخطورة والطرافة، ويجب طرح عبارة مبدئية توجّه بوصلة التفكير إلى نقطةٍ أبعد... العبارة تقول: " ليست اللغة هي الهوية ولن تكون " كما هو شائع، لأنَّ أية هوية تفكر مع أصحابها بشكل جدي: ماذا نفعل، وماذا سنكون في (الأمس والغد) معاً؟ وماذا صنعنا بجدار الهوية الذي يسرد تراثنا ليس أكثر؟ ولماذا تركناه (جداراً عازلاً) يحمل لافتات استنكارٍ وحسب؟!

لقد وردت كلمة (الأمس) منذ قليل.. بالطبع جاءت الكلمة للزمن، لأنَّ الأمس (في خلفية الهوية) ماضٍ لم يُنجزْ إلاَّ بقدر ما نتواصل معه ونضيف إليه وبقدر ما يطرح جديداً لا تكراراً.. الأمس الذي نرنو إليه مازال في طور التشكُل بعد. أمَّا في حالة الارتباط بغير ذلك من معاني الهوية، فلن تكون هويتنا سوى" جراب الحاوي" أو "مغارة علي بابا" في أحسن الأحوال. وسنكون نحن " الأربعين حرامي" مستندين إلى هويتنا الثابتة سطواً عليها طوال الوقت. لأنَّها وصلت إلينا بفضل جهود الذين أنجزوها: كيف نأخذ شيئاً ثميناً كهذا من غير استثماره وتطويره؟ ولو كانت اللغة هوية بهذه الصورة، لتجمدت عند موضع أقدامها التاريخية، ولبتنا نحن أصناماً تحمل مصيرها فوق رؤوسها أمام العالم!!

الهوية شيء واللغة شيء آخر تماماً، والربط بينهما على مقولة (اللغة هي الهوية) يعني أنَّ الـ" هيis " بين الكلمتين هوية جديدة من باب زيادة الخير خيرين كما يُقال. مع أن الرابطة النحوية تحيل إلى: كيفية التواجد في عمل من أعمال الوجود في العالم. ولكن العمل الموجود لدينا بهذا الشأن يأخذنا إلى الماضي دائماً، إذ نفضل الارتباط بنموذج جاهز كصورة للهوية في وعينا المباشر. فأي نموذج يحدد الهوية إذن؟! وكيف نستخلصه من التاريخ والتراث والأحداث والنصوص والأخيلة العامة؟ وعن ماذا يعبر النموذج الهوياتي بالضبط ليحملنا إلى ما نريد؟ هل يعبر عن مركزية تراث العرب والمسلمين حصراً؟ وإذا كان كذلك، فأين غير العرب وغير المسلمين الفاعلين في تراث هويتنا؟ وهل الهوية حاضرة بكامل معناها أم أنها تشير إلى هويات متعددة؟ ومن له"الحق التاريخي" في إغلاق الهوية على ذاتها كأنّها كهف يخصه؟! ولماذا لا تشعر الأجيال الجديدة بضغوط الهوية؟ ولماذا هؤلاء يضيفون إليها دون (نوستالوجيا بكائية) إزاء الماضي؟!

هل نتذكر سيزيف، هذه الشخصية الأسطورية في التراث اليوناني الذي حكمت عليه الآلهة بحمل صخرة فوق ظهره والارتفاع بها إلى أعلى قمة جبل، ولكن عندما يصل ظاناً أنه وضع ما ينوء به ظهره ويحني رأسه، تسقط الصخرة من قمة ارتفاعها ليُعاود حملها ثانية إلى ذروة الجبل... هكذا لا يتوقف سيزيف وهكذا لا تنتهي الصخرة عن السقوط، ثم يأخذه الاسراع لحملها ثانيةً بشكلٍّ أبدي ارتفاعاً وسقوطاً... أقول: هل نتذكر ذلك؟، إنَّ وضعنا الثقافي أشبه بصخرة الهوية ولم نحدد إشكالية وجودنا نحن أصحابها قبل غيرنا. وقد تأتي أجيال بعد أجيال لنترك لهم مهمة حمل الصخرة مطالِّبين إياهم بالانهماك في رفعها عالياً بلا أدنى سؤال.

هذا الفعل الثقافي ناتج عن فوبيا الضياع، لا أحد يتحسس التاريخ جيئة وذهاباً إلاَّ إذا كان يخشي من شيءٍ ما أكبر من وجوده. والخوف لدينا مضاعف طوال الوقت. فالخوف يبدأ من (أنفسنا) نحن العرب، لأننا نقول: يا تُرى ماذا سيحدث لنا وماذا سيجري؟ وكأننا نقف حرّاساً على خزائن الأرض. وأيضاً نخاف من الآخر مع أنه يعبر عن وجوده بالوجه الذي يتراءى له، والأبعد أننا نستل من عيونه نظرات التربص بنا في كل زقاق وكل حارة، وقد لا يكون ذلك صحيحاً، وفوق هذا يضع مسئولية تاريخية في رقابنا كي نظهر على خريطة الحضارة المعاصرة.

والخوف على الهوية يتفرع أيضاً إلى الخوف من العصر (عصر ليس له أمان كما نردد)، في إشارة إلى كونه جاء خصيصاً مثل كل عصر لسرقة حياتنا وتحويلنا إلى علامة مشوهة في تاريخ الإنسانية. وهذا التصور يعتبر الزمن عدواً بلا مبرر، ويجسد المعنويات في أشياء مادية تناصبنا الكراهية. هل رأى أحد زمناً يمسك بعصاه هاوياً على رؤوس العرب بخلاف الأمم الأخرى؟! هل تتحول القيم العصرية والأفكار إلى حجارة تقصد العرب خصيصاً؟ وهناك يتم الخوف من المستقبل كأنَّه يأتي بالأسوأ دوماً، ولا حل لجعله مستقبلاً ناصعاً في يوم من الأيام؟ لقد بلغ الخوفُ ذروته من صورتنا في هوية مقفلة علينا حصراً، وهي سفينة نوح الأخيرة وسط كل الطوفان الذي لن يُبقي ولا يذر!!

الهوية كما نرددها نحن العرب هي "سفينة الطوفان" الأخيرة، ونعتقد أن العالم كله سيغرق إلاَّ نحن، وأن حبل النجاة الوحيد هو تلك السفينة. ولو هناك أحد اقترف شيئاً مختلفاً عما تمليه علينا سفينة الهوية من رؤى ونصوص، فقد اقترف" جريمة ابداع" في الأدب والفنون والدراما والشعر والفلسفة، جريمة شرف تجاه الهوية.. جرى ذلك مع شخصيات مثل: نجيب محفوظ ومن قبله توفيق الحكيم وطه حسين ومع محمد شكري والعفيف الأخضر وهشام جعيّط ومع حيدر حيدر ومع ليلى العثمان وسامية العلِي ومحمود محمد طه وعبدالله القصيمي وأمين معلوف ونزار قباني.. وغيرهم كثيرون!! وأيا كان الاختلاف حول أعمالهم فكراً وأدباً، فليست هناك وجاهة في إلصاق ذلك بفعل التحرش الغرائزي بالهوية!!

الهوية لدينا كانت ومازالت أنثى، كلمة مؤنثة بفعل فاعل ثقافي، وتمثل مصدر خطورة فاحشة خوفاً من الإغواء، وأنْ يغازلها هؤلاء الأدباء والمفكرون ويلحقون بها العار والفضيحة. هل اعتبار الهوية أنثى جاء تحريماً للإقتراب منها؟ هل التنكر لها نوع من الشعور بالفضيحة؟ وهل لا تستحق الخروج إلى الحياة وقد ألبسناها براقع لا تنتهي؟ لماذا الاصرارُ على خروج الهوية مغطاة الوجه والجسد حتى أمام ابنائها الجدد؟ فمازالت مصادر هويتنا ونصوصها لم تُدرس بموضوعية وبصورة ناقدة حرة. وما زالت لم يُترك لها المجال كي ترى النور وكي تفتح جوانبها الثقافية والفكرية للحياة.

الخوف الآخر أن يتم ربط اللغة ربطاً متعالياً بالهوية واعتبار اللغة هوية مقدسة. وهذا يعني تحويل اللغة إلى لاهوت من حيث لا يجب. وأغلب المثقفين يدورون مع هذا اللاهوت دوران العلة مع معلولها. إنه أمر يضر باللغة العربية قبل غيرها، فهذا اعلان بموتها على أعتاب المستقبل، لأنها ستتجمد كمومياء في المتاحف. فاللغة كائن حي يعيش ويأكل من نتاج العصر وشاء أم أبى سيستوعب المفردات والمعجمات الراهنة لنتاجات الحضارة. كل لغة لكي تعاصر غيرها من اللغات الحية لابد أن تتكلم بلسان الثقافات الإنسانية الراهنة. لو نتخيل أن العربية قد توقفت عن ذلك ما كانت إلا حفريات غابرة في عالم اليوم.

ومن حسن الحظ أنَّ اللغة لا تستأذن أصحابها في أن تعيش أجواء ومفردات وترجمات وثقافات زمنها مع تطورات الحياة. وبخاصة إذا ما كان أهلها هاربين من الحاضر باستمرار. وحتى لو حاولوا أن يفرضوا عليها لونا من التحجُر، فلا تمتثل طويلاً: إنَّ جميع مفردات الحاسوب والنقال والفيس بوك والنت والسينما وتويتر وانستجرام وبيئات العالم الافتراضي وكل قاموس السياسة الاقتصاد والعولمة والحروب والصراعات والتقنيات والعلوم والمعارف والآداب والضيافة الكونية والهيئات الدولية.. كل ذلك لم يكن موجوداً في لغتنا العربية خلال موروثاتها الاصطلاحية عند سيبويه والخليل بن أحمد والأخفش والزجّاج وابن سيدة وابن فارس والزمخشري والمرتضى الزبيدي.

لم تقل لنا اللغة العربية: لماذا افسحت مجالها لتحتوي المعجمات والعبارات الراهنة من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى لم توضح هذا بكونها مفردات خطيرة إزاء الهوية. ولم تعقد اللغة العربية محاكمة تاريخية لما هو آت من الثقافات الأخرى، بل قالت العربية " لا مشاحة في المصطلح"، ولكن علينا أن نبادر بالاسهام في تجهيز هويتنا وأن نقوم بفهمها والبحث فيها باستمرار، كي تواكب العصر، وكي نؤكد إنها ليست منغلقة على ذاتها ولا ينبغي ذلك.

وجه الطرافة من جهة أخرى أن اللغة التي نخاف عليها ستجدد معنى الهوية وستبحث لنا تحت الشمس عن أنواع من الخطابات والصور اللغوية المتقدمة. لنتخيل أنَّ ما تخاف عليه هو ذاته الذي سيحررك، وأن ما تعتبره جناحاً مهيضاً هو من سيطير بك إلى أزمنة لم تتوقع العيش فيها. هذا ما يجعل اللغة مختلفة عن الهوية، وبحكم كون اللغة تكلم (شخصيتنا الثقافية الاعتبارية) وقوفاً أمام العصر، فهي من ستكسّر التصورات الراكدة حول الهوية.

ولأن اللغة تخاتل متكلميها إيجاباً وسلباً، فلن تكون وفية وفاءً غير معهود لهويتنا التي نظن احتفاظنا الأبدي بها تحت الكلمات والعبارات. ليست الهوية مثل" بيض الدجاج" الذي ندسه تحت إبط الكلمات حتى يفقس مع العصور المتوالية، لأنَّ هناك فهماً آخر يجب أن يتطرق لقضايا الترات والدين والعلاقات والتعددية والاندماج والتنوع الثقافي. لو تغذت الهوية على صورها الخاصة وعلى نصوصها المؤسسة، فكأنما سيأكل الدجاج البيض الذي يرقد عليه، وكأننا لم نفعل شيئاً. ولن نجد مفراً من ذبح الدجاج مرة واحدة، لأنه غدا مصدر خسارةٍ.

وأخشى ما أخشاه أن نلجأ مع تطورات المعرفة والحياة إلى خيار واحد: هو ذبح "صورة الهوية" التي نمتلكها حتى اللحظة لا أقول ذبح الهوية، لأنَّ الهوية لا تُذبح ولو حاولنا ملايين المرات... وهذا أمر مما حدثَ لبعض المجتمعات العربية ولا تجد صيغة للتعايش مع الحياة المعاصرة، فإذا بأنظمتها الاجتماعية والسياسية تتلون كما تتلون الحرباء، فلا تعرف: ما إذا كانت تلك مجتمعات عربية لها موروثاتها وثقافتها أم مجتمعات أخرى استعارت كل شيء حتى نمط العيش الخاص!!

ليست الهوية صماء حد الصلابة، لكنها قائمة على التنوع. فبقدر ما نشعر باختلافاتنا سنشعر بكوننا كذا وكذا، إذن الهوية في جوهرها اختلاف لا تطابق، تعدد لا تماثل، مغايرة لا مسايرة. وما نقيمه داخل أنفسنا من الانتماء إلى جذور بعيدة إنما هو من وحي الاستيهام الجماعي نحو شيء ما. لم يكن التراث العربي تراثاً متفرداً في ذاته إلاَّ بقدراته على هضم تراثات أخرى فاعلة في كافة جوانبه. التراث تراثات.. هكذا بصيغة الجميع يتضمن التراث أطياف التنوع الخلّاق بين أصحاب الجغرافيا الثقافية الواحدة. ولم يكن التراث العربي الإسلامي كذلك من غير تراث الأديان والملل والنحل والمجموعات العرقية والانثربولوجية التي عبرت الحدود وأثرت في آفاق الحياة العمومية. ليس متصوراً وجود المسلمين من غير الفارسي والقبطي والحبشي والرومي والشامي والأسيوي الشرق الأوسطي والأسيوي الجنوبي،.. هؤلاء الراحلون إلى العربية ثقافة وحركة. طوبى للعابرين أقطار الهويات تاركين داخلها الثراء الوجودي لحيواتها المتنوعة. فلكي تحيا الهوية، لابد من التناقض الأنطولوجي داخلها وفي الصميم مما يعتقد أهلها، هي الترحال المتواصل لجوانب أخرى داخلها وخارجها بالتوازي... هذا هو الغذاء الحضاري لأية هوية أيا كانت.

إن غلق الهوية على ذاتها هو تجويع لها كي تأكل الأخضر واليابس، وكي تأكل نفسها حتى تصبح هيكلاً مفرغاً من المعنى. وما لم تحفز الهوية أصحابها بالتغير والتجدد لن تكون سوى شرنقة تخنق الآمال وتحمل حملا ثقيلاً يصعب زحزحته من مكانه. قد يظن بعض العرب أنَّ هويتهم مكانية ماداموا قاطنين في مساحات عربية، وهذا خطأ فلا يعلمون أن الهوية انفتاح على كل العالم، وأنها بقدر ما تخاطر بذاتها ستكتسب مساحات أخرى من الحياة، وسيكون ذلك بالتطلع إلى الإنسانية في هويات أخرى. فأنت كعربي تتنفس طباق الثقافة العربية والإسلامية ورواسب الحضارات القديمة في بلاد الرافدين والفينيقيين والحضارة الفرعونية ونتاجات حضارة البحر الأبيض المتوسط. وهذا يدخل في صميم ما تحياه وعبر دماغك الثقافي.

في اللحظة التي تذهب الهوية إلى ذاتها، هي لحظة الغسق الحضاري بامتياز، خلال عصور الانحطاط تنغلق أبواب الهوية ويتم البحث عنها ليستند الناس إلى شيء ثابتٍ. ولكن طالما هناك انطلاق وتحرر، لن يكون سؤال الهوية ذا بال، بل لن يُطرح من الأساس. لكون الهوية مثل المناعة في جسم الإنسان، مادامت مناعة قوية، فلن يكون ثمة خطرٌ على الجسم، وليأكل ما يأكل من جميع الأطعمة، وليعشْ كيفما يريد. أمَّا لو كانت المناعة ضعيفة، فستدعو الجسم إلى الذبول والانكفاء وراء عبارات الرثاء المبكر.

وهنا يمكننا فهم عبارة جاك دريدا التي يكتبها بحس الاختلاف داخل كل هوية ممكنة. فهو فيلسوف عابر للهويات، ويدرك ما معنى أنْ تكون الهوية متنوعة. دريدا ينتمي إلى الجزائر أفقاً وحياةً أوليةً، شخص غارق في تداعيات البحر الأبيض المتوسط الحضارية، وقد أخذ من موروثات وتقاليد المنطقة الغنية حضارياً بعد أن نزحت عائلته من الأندلس إلى الجزائر، ليجد الثقافات اليهودية والمسيحية والاسلامية وأصداء الديانات الأفريقية متداخلة ولا تلوي على أي نزوع طارد لبعضها البعض، ثم عندما انتقل إلى فرنسا كان يشعر بهذا التنوع داخله حدّ التناقض.

الهوية فيما يري دريدا لن تحدث إلاَّ بالاحالة إلى غيرها، فكل تطابق (بمعنى هو) لا يتم إلاَّ على نقيضه (اللاهو)، من واقع أن كل تحديد سلب بالضرورة. ولكن السلب في الهويات ابداع وقدرة على الحركة المنتجة. إن الحضارة العربية عندما زخرت بالمختلف، أبدعت وتمددت وكانت موطناً رمزياً لكل جديد. فكانت هناك مستوطنات لغوية تخص الآرامية والعبرية القديمة والسوريانية، وهي التي رفدت اللغة العربية بجذور معجمية وطنت أبعاداً ثرية للمتون العربية والنصوص الكبرى فيها. فالقرآن به كلمات أعجمية وليست عربية خالصة. وكذلك الثقافات الفرعية مثل الثقافة النبطية والثقافة الفارسية التي نزلت من بلاد فارس والثقافة الوسط أسيوية في الدولة العباسية والثقافة المتوسطية البيزنطية مع الدولة الأموية إذ خصبّت معاني الهوية وصورها. وأرجأت لحظة الغسق المؤدية إلى الانغلاق، ولكن طالما توجد طرق أخرى وأنهر هوياتية من أعراق وجماعات انثربولوجية كان تنوع الهوية العربية مؤكداً.

هل أبو نصر الفارابي عربي أم من خارج خريطة الهوية العربية؟ طبعاً ليس هذا السؤال جديراً بالاعتبار، ولا يجب أنْ يطرح من حيث المبدأ، لسبب بسيط إنه فيلسوف عربي بقدر ما ليس عربياً حاملاً مع جيناته البيولوجية جينات ثقافية مغايرة تركت بصمتها على إبداعه. وليس هناك أدل على ذلك من أنَّ كامل الذين أبدعوا في العلوم والمعارف العربية الإسلامية ليسوا عرباً بالمعنى العرقي، لكنهم من خارج المجموعات العربية. إنّهم ينتمون حضارياً إلى آفاق عربية إسلاميةٍ، ومع ذلك دوّنوُا علوم الدين والآداب واللغة والمذاهب والشعر والسرديات الكبرى التي تعتبر من عيون الثقافة العربية الاسلامية.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س18- أ. مراد غريبي: الواقع العربي يعرف تحولات جذرية وحساسة في جميع المجالات الحيوية للمجتمعات مما احدث اضطرابات هوياتية برزت تداعياتها في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وأساساً في مجالات التعليم والاعلام، اللغة إحدى صور هذا الاضطراب، برأيكم ماهي جذور هذا الاضطراب الهوياتي، وماهي الآليات الناجعة لتجاوزه على ضوء فلسفة التواصل وأهم النماذج في ذلك؟

ج18- د.سامي عبد العال: يحدث الإضطراب في الهويات نتيجة عدم القدرة على التجدُد، ودخول مؤثرات مختلفة لا مفر منها. والهوية ما لم تكن قادرة على التعددية لن تستطيع أن تتماسك. وهي عكس جميع سمات الإنسانية، إذ لكي تتسق مع نفسها، لابد أن تختلف مع نفسها. وهذا الأمر منطو على مفارقة وجودية يصعب حلها تاريخياً. وإذا كان هناك من يرى في تناقض الهويات أمراً سلبياً، فتلك رؤية غير صحيحة. لأن التفاعل بين جميع مكوناتها الثقافية والمعرفية تحتاج إلى مساحة من الجدل والصراع، ولن يكون ذلك محسوماً من أول وهلة ولهذا تمثل الهوية سيرورة من التحقق وقدرة على الاستيعاب النشط لمتغيرات العصر.

عبر الهويات النشطّة، تكون عوامل التناقض داخلها قُوى دفع لا كبح للتقدم ومواكبة الجديد، وبإمكانها أنْ تمتص أية ضربات قادمة من مصادر أخرى في مجرة الثقافة الكونية. على سبيل الشرح: لو رأينا لدى المجتمعات العربية نوعاً من (مسخ الهوية) فيما يبدو، فلأنها لا تمتلك مقومات للتعبير عن وجودها بكل شجاعة. لأننا لو افتعلنا التعبير عن هويتنا في كل مناسبة وغيرها، ستكون لوناً من العرض المسرحي المُمل، وستتحول إلى بضاعة كاسدةٍ. مسرحية دون جمهور يثير الحوار ويطرح عناصر التشويق والإمتاع، هناك هويات تبحث عن ذاتها بشكل مقلوب، وترى في ذاتها ما لم تره في غيرها ولا تعطي الآخرين دلالات الغنى والتنوع. هي هويات لم تجد عوامل دعم من داخلها، الأمر أشبه ما يكون بالتربة التي تستقبل نباتا غريباً. إما أنه يظهر نباتاً بحسب المميزات الجغرافية والطبيعية، وإما أنه يخرج هجيناً، فائق الوصف، لكونه لا يتأقلم مع البيئة والمناخ.

وانفتاح الهويات أمر جوهري فيها لا تعادي سواها بسببه، ولكنه قد يكون سمة تاريخية ويكتب لنفسه وجوداً خصيباً معها. شريطة أن تكون الهوية قائمة على التلاقح والتغير لا المركزية. لو كانت ثمة مركزية، فلن تجد إلاَّ طقوسا للولاء المزيف فوق كل نقطة عبور ممكنة إلى ساحتها. كأنها مزار مقدس لابد أن يشعر فيه الناس بالراحة والسكون المماثل للموت. كل هوية تريد أن تسمع لنفسها فقط، ولا تريد أن ترى نغمة نشازاً مهما كانت قاصيةً أم دانيةً.

إذن.. من أين يأتي الاضطراب الهوياتي؟!يأتي نتيجة اضطرار (أصحابها) على التعايش مع عجزها عن مسايرة التنوع، ومن استباق الهوية المغلقة نحو المستقبل بينما مازالت تتمسك بماضيها العريق. لقد توقفت مع الزمن، ولم تقتحم مناطق المجهول. كل فتاوى الدين في هذا الإطار هي حيل دفاعية لكي تسمع هويتنا ذاتها تتكلم، وكل الأفكار والممارسات السياسية الليبرالية والنيو ليبرالية غريبة على لسان هويتنا. وعندما تنطق بها، كثيراً ما تتلعثم وتتلجلج، رغم أنها هوية ذات شعارات براقة من القيم والاخلاقيات والأصول والمبادئ التي كانت كذلك.

يرى البعض أن الإضطراب الهوياتي أمراً سلبياً، وهذه مسألة غير دقيقةٍ إلى حد بعيد. فالهوية تعتريها بعض المظاهر الضرورية لحركتها ولو سلباً، لأنها في كل الأحوال يجب أن تطلق إنذاراً من هناك حيث الاختلاف. وأقرب الإنذارات الممكنة أن تضطرب وتترك أعراضاً نتيجة العلاقة غير الجادة بنفسها أمام التناقضات الحادثة. وقد يجري ذلك عند الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وتظهر تلك الاضرابات على فئة الشباب، هؤلاء القابلون للتأثر، والراغبون في تكسير القيود المفروضة على حياتهم. فقد نرى انتشاراً لبعض المودات والتقاليد المراهقة التي لا تتسق مع تقاليد النظام الأبوي ومع طبيعة التربية في الثقافة العربية، ولكن موضوعاً كهذا موضوع اعتيادي، نظراً لأن الشباب يعيش على حواف الهويات وقد يأخذهم الفضول من وقت لآخر إلى (التسكُع ما بعد الحداثي) على نواصيها الحادة الخطيرة.

وهؤلاء الشباب يسيرون على الحواف دائما لدرجة الإدمان، لكونهم لا يجدون سرديات الهوية مقنعة ولا مهدهدة لرغبتاتهم المشبوبة. وتلك المعضلة نتيجة كون الجانب الرغبوي والغرائزي أكثر انطلاقاً من نوستالوجيا الهوية. وأن كل ما يثير أحلامهم هو الإلقاء بأنفسهم في حماية هويات أخرى، لعلها تعطيهم الحرية والإنطلاق. بينما مازالت بلادهم تصوغ خطاباً شوفونياً وأمنياً حول الهوية، ولا يريدون السقوط مرة أخرى في مستنقع القيود المجانية بإسم الواقع، حتى وإن أدى بهم ذلك الانطلاق إلى السقوط في مياة البحر المتوسط وحتى إذا كان الموت ينتظرهم على الضفة الأخرى!!

ومن أبرز اضطرابات الهوية أن يختل جهاز (النطق الهوياتي) المتمثل في اللغة، وجهاز (الضبط الذاتي) المتمثل في التربية والأخلاقيات العامة وجهاز (الهندام الخارجي) المرتبط بالأزياء والملابس والأكسسوارات، حيث المظهر الدال على التمرد والمراهقة الهوياتية.

* أبرز مظاهر اضطراب الهوية انتشار العبارات والكلمات الدالة على الاستخفاف بالقيم والأخلاقيات وضعف صور المبادئ والقواعد المنظمة. قال ابن خلدون قديماً إن من أوائل مظاهر انحلال وتفسخ العمران هو شيوع اللحن في الكلام وانهيار اللغة على لسان أهلها. وكأن الكلام رسالة آتية من المستقبل نتيجة عدم كفاية الهوية بالنسبة لساكنيها.

لقد ترك الاضطراب آثاره على أساليب نطق الكلمات والكتابة باللكنات الأجنبية المختلطة باللهجة العربية الدارجة وتغليب العبارات الأجنبية على سواها، والسخرية من اللغة العربية باعتبارها في مرتبة متدنيةٍ وبوصفها دالة على شأن أصحابها. وكأن اللغة هي بصمة الهوية التي يتهربون منها، والخيال لا يعوزه الإشارة إلى كم كانت الهوية عاجزة عن إغاثة الفئات المتمردة مع حراك الربيع العربي. فكل هوية تطلق وعوداً لا تتوقف ولو كانت وعوداً نحو الماضي، لأن هذا جزء من هدهدة الأحوال حتى تجد كل هوية بساطاً يقلها من موقع إلى آخر ومن عقل إلى سواه. ولكن شتان بين سردية الهوية التقليدية وصور العالم الذي أصبح مفتوحاً من أقصاه إلى أدناه.

* ضعف التعليم باللغة العربية، بحكم انتشار التعليم باللغات (الانجليزية والفرنسية والروسية والألمانية). وإذا كان التعليم هو أقرب وسيط للتذكير بالهوية، فها هي العربية توارت إلى الخلف. والتعليم دون سواه من أكثر الأنشطة التي تؤكد على الهويات بأساليب مباشرة وغير مباشرةٍ. وحتى لم تعد الكتب الدراسية المؤلفة بالعربية جذّابة، لأنَّ سيادة النمط الثقافي لم يتح لأصحاب الهوية خروجاً من محدداتها العامة. فكلما أراد بعض أفراد المجتمع تحطيم المعايير، تردهم النماذج الثقافية الغالبة إلى فضاء الهوية ثانية.

* انتشار نماذج أجنبية في كافة مظاهر الحياة أمام الشباب، نماذج لشخصيات مشهورة تمثل أيقونات يتعلقون بها ويتابعون أخبارها، ويعرفون كل شيء عنها في مقابل ضعف معرفتهم بالبيئات التي يعيشون فيها.

* فوضى الممارسات والمعايير المستمدة من قيم المجتمع، وهي القيم التي تعبر عن جوانب الهوية والثقافة الأصيلة. مما أدى مع تكرارها إلى قطع العلاقة بين الواقع والأصيل، وباتت الفوضى مرتبطة بمعالم الهوية, بل غدت دليلاً عليها، كأن الهوية تملي نوعا من التخبط.

أمَّا جذور هذا الاضطراب، فهي مرتبطة بالركود الحضاري للمجتمعات العربية. لن تكون هناك هوية نشطّة ما لم تكن مجتمعاتُها ناهضة. وربما تتحول الهوية إلى قوة كابحة طالما لا تتحرك المجتمعات وأفرادها إلى الأمام. حتى باتت الثقافة رأس حربة تضرب الهوية في مقتل، لأن ثقافة الركود تظل عنواناً على نجاعة الهوية من عدمها. ومع أن الهوية - كما أرى - ليست مرجعية مطلقة، إلاَّ أنها علامة على أصالة الرؤى وقدرة على استنطاق الإنسان وإبداعه. وهي المظلة التي تسمح بالاختلاف فيما تذهب المجتمعات وتؤصل.

كذلك يعد فقدان بوصلة الحياة المشتركة أبرز جذور اضطراب الهوية، فلئن كانت حياتنا المشتركة وسيطاً لتواصل الهويات، فإن الفوضىى الحاصلة تعدم الثقة فيما تستند إليه. إنها عندئذ مقدمة لما يأتي خلفها. ونحن نعلم أن المجال العمومي في مجتمعاتنا العربية كان نهباً للقوى الغالبة باسم السلطة والقبيلة والعشيرة والعائلة والحزب. هي كتل الحشود التي تحرك الواقع ولا تدع أية فرصة للحريات الفردية.

اتصالاً بذلك، هناك سبب أخر: هو ربط الهوية بـ"الأيديولوجيات الفاشلة"، فالجماعات الإسلاموية حرصت على تحويل الهوية إلى سلاح أيديولوجي. مما جعل الشباب المتمرد نافراً مما ينتمي إليها. وما كان منهم إلاَّ أن ربطوا بين الهوية العربية الاسلامية وتلك الجماعات ومع أعمال العنف حملت الهوية أخطاء الإرهاب وبدت الهويات قاتلة كحد السكين بمصطلح أمين معلوف. وليس أخطر على الهويات من أدلجتها، لأن الأيديولوجيا تضيف إليها لوناً من العناد الفكري والعنف الرمزي في نهاية المطاف. إن حدة الأيديولوجيا ومراوغتها تنعكسان على ما تؤول إليه الهوية. بدليل أن سقوط الجماعات الدينية سقوطا مدويا بعد أحداث الربيع العربي أعقبه مباشرة موجات من الإلحاد والتحلل من الأديان وانتهاك المحرمات الثقافية والدينية. وأبرز ما حدث أن شق الشباب عصا الطاعة على الأسرة والسلطة الأبوية باعتبارهما بجانب الدين والإله والحاكم في رأس واحد. كان الرأس السابق رأساً هوياتياً يرتدي قناعاً اجتماعياً مرة وقناعاً دينياً مرة أخرى ومرة ليست بالأخيرة يراكم الأقنعة فوق وجه السياسة.

وعندما كان الشباب يسمع كلمة (الهوية)، يستحضر كافة الأقنعة، ويراها دائرة على الرأس الواحد نفسه، وأنه لا جدوى من التعامل معها، لأنَّها ستؤدي في النهاية إلى الطريق ذاته من القيود والأغلال. والشباب عندما يتمرد إزاء الهوية، فلسان حاله يقول: هات من الآخر لا تجادلني كثيراً فيما أصبح خطراً. فهي رمز لكل تلك الوجوه المتوحشة المتعاقبة.

ولهذا فإنَّ الآليات المتاحة لتجاوز أزمة الهوية، لن تكون بكتابة وصفة سحرية. فالهوية لن يجدي معها وصفات مجربة. فمشكلة الهوية تفاجئك عادة بوجهها الجديد والعجيب. ولا يجب اطلاق النصائح العابرة للدين والأخلاقيات نحو وعي هؤلاء الشباب، فهم جيل لن تجدي معه كل السرديات القديمة لفهم الحياة. بيت القصيد أنهم يبحثون عن معنى الوجود الفاعل متى وجدوه ذهبوا إليه أيا كان موقعه. فبالإمكان لوشمٍ غريب على ذراع أحدهم أن يحدد شكل الهوية بالنسبة له، وربما يكون أكثر تعلقاً بالوشم من تعلقه بصور التراث المختلفة. وأبرز الآليات هو تعليم هؤلاء: كيف يتمردون بصورةٍ أكثر أصالة لا مجرد قول (لا) ؟ والرفض أحد نتاجات النفور إزاء الأوضاع المشبعة بسرديات ماضوية. وهذا ما يجعل النفور قاعدةً لا هامشاً.

وفلسفة التواصل مهمة جداً في هذا الشأن كما يرى يورجين هابرماس، وهو أحد النماذج الفلسفية الجديرة في المشهد المعاصر، وبخاصة أفكاره عن المجال العمومي public sphere وهو المجال الذي يشعر فيه الناس بالقدرة على التحرر وممارسة أصالتهم المفقودة. فلو كان الإنسان متهتكاً على المستوى الأخلاقي، وإذا كان له أن يرتدي قناعاً بعد قناعٍ، فلا يستطيع ذلك إزاء الآخرين إلاَّ أن يلتزم بالمسئولية. ولأن المجال العمومي لدى العرب مرتعاً لكل من هب ودب فعلاً وقولاً، فالأمر يحتاح إلى إتاحة الفرصة لممارسة الحياة بصورة حرة. مع الحرية وحدها، يحتاج الناس إلى نوع من الهويات المتنوعة. لتعبر عن الاختلاف كما هو لا كما يُفرض عليها من سلطةٍ عُليا.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثاني: حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (3)

س15- أ. مراد غريبي: نواصل معكم د. سامي في رحاب الفلسفة، لكن من جهة اللغة، ينقل عن فجنشتين قوله: وظيفة الفيلسوف هي توضيح اللغة التام ومشاهدة تنوع استعمالات الكلمة من خلال توضيح كل أشكال الالعاب اللغوية، وهي وظيفة تتجدد مع تجدد اللغة ذاتها، هل يقصد فنجشتين أثر اللغة في الفلسفة أم ماذا؟

ج15- سامي عبد العال: هذا هو (السؤال الأم) بالنسبة لفتجنشتين، كما أنَّه شغلّ الفلسفةَ ردحاً غير قليل من الزمان. وفتجنشتين لديه فلسفتان حول اللغة: فلسفة تعتبر اللغة مرآةً عاكسةً للموجودات والعالم وصور الحياة، حيث تعكس الأشياء كما هي. وتلك الفكرة وردت في كتابه " رسالة منطقية فلسفية Tractatus logico-philosophicus"، وفلسفة ثانية يركز خلالها فتجنشتين على فاعلية اللغة، وتأثيرها ضمن إطار الاستعمالات المختلفة، وتلك وردت في كتابه " بحوث فلسفية " philosophical investigations. ولعلَّ الفلسفة الأخيرة ترى أنَّ استعمالات اللغة ألعاب ينخرط فيها الناس تعبيراً عن أهدافهم وأفكارهم، ذلك أنهم خالقو اللغة وفق قواعد اخترعوها ويستطيعون تغييرها بالمعنى التفاعلي في إطار انجاز الممارسات والأفعال.

تتميز استعمالات اللغة بكونها مختلفةً ومتباينةً بحسب السياقات، ولا تنقل صوراً طبق الأصل من موضوعاتها. وكذلك تمثل عند فتجنشتين جانباً ممتلئاً بأشكال (اعتباطية المعنىarbitrariness of meaning) التي تنفي العلاقة الضرورية بين الألفاظ ومعانيها كما في فلسفته الأولى. هي عندئذ كاشفة لتعددية المعاني واختلاف طرائق التعبير التي انتبه إليها فلاسفةُ اللغة ونقاد الأدب. وقد اجتاحت الفكرة السابقة كل دراسات فلسفة اللغة بالتزامن مع تأكيد عالم اللغة الفذ فردناند دي سوسير عليها في كتابه" محاضرات في علم اللغة العام". حيث نوّه إلى أنَّ العلاقة بين الدال (الكلمة) والمدلول (معناها) علاقة اعتباطية، أي لا تحيل معاني الدوال إلى شيء محايد وضروري في الواقع، لكنها تحيل إلى صور في العقل. ومن ثمَّ، هناك انزلاق مستمر بين الدال والمدلول، نظراً لكون المقصود قد يكون ليس هو الذي تراه (أنت وأنا) وفي وقت واحد. أي ستأتي المعاني اعتباطاً لا حتماً، مجازاً لا تطابقاً مع أصلٍّ ما.

الحقيقة أنَّ مسألة (اللغة وأثرها على الفلسفة ووظيفة الأخيرة) تحتاج إلى إبراز. فليس أكثر ثراءً لنشاط الفلسفة من اللغة كعالم زاخر بكل ما هو غريب وفي الوقت نفسه تجسد كل ما ينتمي إلى الإنسان. وحدُها اللغة تستطيع أن تمثل نخاع الإنسانية وهارد ديسك hard disk العقل وحافظةً لأسرار التواصل بين البشر. كل شيء يعود إلى اللغة كما يقول هيدجر: "اللغة بيت الوجود the language is house of being"، ويعبر عبد الجبار النفري عن ذلك أصدق تعبيراً:" كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة"، لأنَّ العبارة تدخل حيز الإشارة الدالة ولو كانت تكلُّماً، وكذلك قد تمثل الاشارة معناها (صمتاً ونطقاً) في الوقت عينه. بينما الرؤية لا تحدها حدودٌ، وتفُوق الأكوان أحاطةً وشمولاً، لأنها مرتبطة بالأسرار والحقائق الوجودية والإنسانية. وكأنَّ النفري مع هيدجر يقولان: فلتكن اللغة هي سر الأسرار، وهي قدرتنا الفذة على الشعور بامتلاء العالم. إن اللغة هي العالم بقدر ما نُدرك ونعتقد في جوانبه الخفية.

ولكن فتجنشتين قصدَ أنْ توجّه الفلسفة كلَّ قدراتها الذاتية إلى التوضيح والشرح. ولاسيما فيما يتصور أنَّ الفلسفة ليست من جنس المعارف التي تقدم محتوى، إنها ضليعة في شحذ تحليلاتنا لما تمَّ إنجازه من قبل، سواء أكان ذلك عبر اللغة المعتادة أم عبر الصيغ والقضايا العلمية أم ضمن خطابات الحياة اليومية. إنَّ هناك تفرقة من أصحاب الوضعية المنطقية إجمالاً: بين الفلسفة والعلم والشعر. الفلسفة لا تقُول شيئاً يُعنى بالحقائق المادية الملموسة، إذ تخبرنا المعرفة الخاصة بها عن الطبيعة وتفاعلات الأشياء، فهذه الأخيرة قضايا خبرية. فالعلوم تجرب وتركب وتعلل وتفسر وتقدم نظريات جديدة وتصوغ قوانين وطبائع الأشياء. وهي متفردة في هذا المجال تمام التفرد ولا ينازعها فيه أحدٌ، ولا يُقارن الفيلسوف بالعالم من حيث المبدأ. أمَّا الشاعر، فإنه يخلعُ عواطفه ومشاعره وتجاربه الشعرية على الأشياء والكائنات: يحدثها وتحدثه، يبكيها وتبكيه، يسخر منها وتسخر منه، تسير معه ويسير معها استعارياً ومجازياً.

كل هذا بالنسبة للفيلسوف والشاعر أمرٌ لا غبار عليه، حيث يقدمان ما يتصور الأولُ معبراً عن الفكر بطريقة فلسفية، وما يصوغه الثاني دالاً عن العواطف بواسطة الشعر. ولكن المشكلة (من وجهة نظر فتجنشتين والوضعية المنطقية) عندما يُخبر كلاهما عن الواقع، وعندما يقطعان بأنَّ ما سيقولانه هو الحقيقة. فالفيلسوف سيقول كلاماً فارغاً من المحتوي، لأنَّه سيخلع على الأشياء ما ليس فيها، وسيحتاج إلى العلم ليقدم له إجابة حول: ماذا في الأشياء من علاقاتٍ وطبائع؟ والشاعرُ من جهةٍ أخرى سيُلبس العالمَ رادء الاستعارات والكنايات التي قد لا تعبر عن حقائق، وستجسد الموضوعات بشتى صنوف الخيال ... ما الحل إذن من وجهة نظر فتجنشين لتجاوز فراغ الفلسفة؟!

يرى فتجنشتين أنَّ هذا الفراغ خِلقي في أصل التفلسف، أي أنه عيب أصيل لا تنفك الفلسفة عنه، نظراً لأنَّ أدواتها هي أفكارٌ مجردة لا تلوي على وقائع بالتبعية. ومن ثمَّ ستكون لكل فلسفة مهمةٌ أساسيةٌ: أنْ تحلل اللغة موضحةً منطقها الداخلي، وكيفية التعبير عن قضاياها، وكشف المعاني المنطوية عليها، وتبيان النماذج الفكرية التي تجسدها. ولكن اللغة قيد التحليل ليست هي اللغة الفضفاضة، بل لغة الحياة اليومية ولغة العلوم والمعارف التجريبية ولغة التواصل والخطابات ولغة النظريات ولغة الأنظمة الاجتماعية. هي اللغة التي تحقق الإمتلاء بالمعطيات والأوصاف والعلاقات والصور الواقعية. وحدُها تلك اللغة الأخيرة هي موضوع التفلسف الأول دون سواها، وعندما تُوضح وتشرح الفلسفة جوانب اللغة (الممتلئة)، ستكون الفلسفة قابلة للإمتلاء هي الأخرى، حتى وإنْ كانت فارغةً معرفياً، أي أداة بلا محتوى.

لكن السؤال الأهم: هل فتجنشتين يحدد مجالاً صحيحاً للفلسفة؟

إجابة هذا الاستفهام لها شقان:

أولاً: إنَّ تحديد وظيفة الفلسفة كلغة شارحةٍ هي كسرٌ لعنق الفلسفة من الأساس. وليس الكسْر خبط عشواء، كأنَّه (حادثة بالمصادفة)، ولكنه (حادثة مدبرة) من الوضعيين المناطقة. ذلك بحكم كونهم فلاسفة ذوي خلفيات علمية طبيعية. والفلسفة إذا أردت في أي وقت من الأوقات أنْ نحبط فاعليتها، دعْها في مرتبة تاليةٍ من أي نشاط آخر. فستكون مرهونة بغيرها وستقتفي فقط آثار ما تقوله المعرفة العلمية، ولن تخرج من خانة التابع لها طوال الوقت. صحيح أنَّ الوضعيين المناطقة يخافون من تضخمها توهماً خارج نطاق العلوم، غير أنَّ المبرر أفدح مجازفةً من الفكرة ذاتها. فالفلسفة تنطق بما تراه من أفكار ومفاهيم أبعد من المحدود والقابل للإنطواء تحت أي نشاط سواها.

فكرة فتجنشتين أيا كانت الأسباب هي وضع الفلسفة تحت "الإقامة الجبرية " التي أعلن هو نفسه في مؤلفاته الأخيرة التنصل منها، وذهب ليفتح باب سجن الفلسفة كي تنطلق مع الأخلاق والعبارات المعيارية ومع تحليلات الدين والموسيقى وغيرها من أنشطةٍ. ولذلك أدرك فتجنتشين- بعد فوات الأوان- أنَّ طريق موت الفلسفة هو قصْرها على الشرح، متناسياً أصالة التفلسف كنوعٍ من التأسيس ورسم خريطة المعارف والأشياء وقدرتها الفذة على تهيئة البشر للمستقبل والتنظير لما هو آت وتقديم العزاءات الروحية والإنسانية لهم.

روح الفلسفة أنْ تكون كما هي لا تمثل شيئاً غيرها، أن تصبح حُرة فيما تقول لا يُفرض عليها ماذا تعرف. لعلَّ ما يريده الوضعيون هو تحويلها من أصل إلى فرع، ومن حاكم إلى محكوم، ومن سيد إلى خادم، ومن مبادر إلى تابع. ومع أنَّ المسميات السابقة تعدُّ ألقاباً مجازية، غير أنها تنقل ما كانت تمارسه الفلسفة من أدوارٍ هامشية في تاريخ العقل. كما أنَّ العلوم تقول كلاماً خاصاً بها، وعندما يتحين الفيلسوف مضامينها الفكرية إزاء الإنسان والعالم والحقيقة، فليست تلكم هي المهمة الداعية لحرية الفكر وابداع المفاهيم. هي مهمة الشارح الذي ينتظر الجديد حتى يقول ما يقول على مائدة المعارف. والفلسفة تاريخياً كانت صاحبة قرار لا أن يأتيها أمر فوقي ببدء العمل في حالة طوارئ المعرفة وتطور الحياة المعاصرة.

ثانياً: يحول فتجنشتين اللغة إلى" عربة بضائع" بين مدن كبرى هي العلوم الطبيعية تحديداً. عربة بين الفيزياء والبيولوجيا والرياضيات وعلوم الفلك والطب والهندسة وغيرها. وهذا فهم معيب ومشوّه للغة، فاللغة هي كوننا الخفي الذي نعيش فيه, وأنْ تكون اللغة بمثابة (حمالة الحطب) في مسيرة الإنسانية أمر لا يتسق مع خطورة اللغة، فهي أعظم اختراع بشري يصعُب السيطرة عليه. وعندما يقول فتجنشتين: إن الفيلسوف يشرح اللغة المستعملة ليس إلاَّ، فلا يعد هذا تقليصاً للفلسفة فقط، بل اعتبار اللغة مجرد أداة لاحقة على الفكر، وهي في أحسن الأحوال ستأتي وسيطاً ننتظر منه الإيضاح والتمييز!!

لا يصح تقليص اللغة إلى كائن مسْخ، حتى وإن كانت إحدى وظائفها الإتصال الفعال، فالاعتقاد بكونها أداء يفرغها من جانبها المجازي والبلاغي. وليست لغة على الإطلاق تلك التي لا تعد مجازاً، إنما هي عندئذ جسد ميت (جثة dead body) تحتاج إلى محرك أول يحركها. بينما اللغة دون غيرها هي ما تنتج آفاق عقولنا لا العكس. إنها تتيح لنا قدرات التواصل والتعبير والتفكير، بيد أنَّها في الوقت نفسه تستدرجنا إلى حيثما تريد بكل ما تنطوي عليه من إمكانات.

عندما نستعمل اللغة لا نقف عند مستوى الأداء والتداول، بل هناك إلحاق لما نفكر فيه بنظام اللغة بشكل عام، وهو نظام لا ينطبق على معانٍ بعينها لدينا أو لدى غيرنا. إنه جسد اللغة المخاتل والمراوغ في حياة الإنسان، وهو في الوقت عينه مصدر ثراء التواصل وانجاز الأفعال، نتيجة الاستعارات والبنية الإشارية التي تحققها على نطاق أوسع... وهنا تعد هذه البنية أكبر موارد اللغة في حياة الناس.

إن كلمة مثل كلمة (حب) لا تأخذنا نحو ما نريد عادةً، فهي منطوية على مستويات من المعاني الأخرى التي يصعب الإمساك بها. هي تستحضر تجارب الحب بكل أصنافه وترمز إلى جوانب وجودية ونفسية. وداخل الحب، لا يعني المضمون حبّاً مباشراً دون نقاش، بل ستحضُر أنظمة التعبيرات القريبة منها لتغذي روافد المعني. إذ ذاك هناك تحديد لما هو محبوب في مقابل المكروه، ولما هو قريب في مقابل البعيد، ولكنه تحديد غير حاسم في كل الأحوال. إن اللغة تفتح وعينا على اللاوعي في الآن ذاته، مما يدل أن اللغة ليست تجربة خاصة ولن تكون، إنها تغذي لا وعينا بسلطة الأفكار والعواطف التي تأتي بلا استئذان وتكون قادرة على اختراق كافة الحواجز.

اللغة في هذا الجانب مثلها مثل السوق، فليس يمكننا أن نشتري شيئاً كما نريد وإلاَّ لما وُجدت (أنظمة تسعير البضائع)، وكذلك لا يستطيع البائع أن يبيع ويسوِّق شيئاً مثلما يرغب وإلّا لغدت فوضى وانتشر الاحتكار، لكن هناك (نظام السوق) والإلحاح على طلب سلع معينة وهو نظام الرغبات والأهواء في المجتمعات التي تحدد مؤشرات البيع والشراء إلى حدٍ كبير. وهو نظام يحل (عن طريق رمزية الثقافة) فوق رأسي البائع والمشترى معاً وبالأدوات والمعطيات المتاحة لهما... هكذا هي اللغة. بحيث تتم عمليات البيع والشراء ويعلم المشتري أنَّه قد أخذ السلعة مفروضاً عليه هذا السعر أو ذاك، وأنه كان يجب الحصول عليها بسعر آخر. وبحيث يعلم البائع أيضاً أنه اعطى المشتري سلعة بسعر متاح وكان يرغب في ترويجها بسعر يريده. والاثنان لا يعلمان أنَّ هناك سوقاً أكبر هو الحاكم في النهاية. والمثل الشعبي يقول: " فوّت سوقك ولا تضيع سلعتك".. أي ليكن نظرك حينما تبيع شيئاً متجهاً إلى الفضاء الأوسع من البيع والشراء ألا وهو السوق المتحكم في ذلك من وراء الكواليس وانتظر قليلاً حتى يحدث شيء يزيد من قيمتها، ولا تزج بالسلعة في سوق بائرة تطرحها بثمن بخس أرخص كما يقال.

ورأي فتجنشتين أنَّ على الفلسفة القيام بتحليل اللغة من أجل الدقة رأيٌ لا يعي أنَّ اللغة هي إحدى مفارقات الوجود البشري، مفارقة تنتج الفلسفة والفكر، فاللغة " تُروحِن الأشياء وتُشيءّ المعاني"، أي أنَّها منطوية على(تناقض أنطولوجي فادح)، عندما تعطي المادة الصماء أبعاداً روحيةً وحينما تجسد المعنويات في أشياء ملموسة. لوسألت طفلاً: هل تحب ماما؟، سيقول لك نعم بالتأكيد، ولكن إذا سألته ثانيةً بمقدار ماذا(قد أيه) تحب ماما؟ سيخبرك أنه يحبها مقدار البحر أو السماء مثلاً. فهنا لايدرك الطفل التعبير الرمزي عن الحب إلاَّ تمثيلاً، والتمثيل يعني التقريب الاستعاري الذي يحدد المعنى بالمشابهة. ولكن التمثيل ليس مشابهةً كاملة التحديد، هناك دوماً أبعاد متخيلة وقابلة للإمتداد زيادةً ونقصاناً. والأبعاد هي قدرة اللغة على أثارة الكوامن والتوجُه وفتح الآفاق لدينا (صهر الآفاق ودمجها كما يقول رومان انجاردن).

وهذا الوضع إملاءٌ لغوي بالدرجة الأولى: عندما نعبر عما نريد لا نملك إلاَّ الكلمات التي هي ما تريد. ولكن كيف تريد الكلمات؟ إنها تُملي علينا ما اُشبعت به سلفاً من أفكار وصور كلية أخرى. اللغة قد تستبق وجودنا إلى الخلف لا إلى الأمام دائماً، مع أنها تحمل كل إمكانية نتطلع إليها في المستقبل. هي تتكلمنا عادةً بلسان النسق قبل أنْ نتكلمها بلسان المقال، إن التناقض بنيوي في جسم اللغة مع وعينا الذي يلتحم بها في جميع مراحله. ليست اللغة عبارات برانية خارج الوعي كأنها لاصق خارجي، لكنها تسكنُ الوعي واللاوعي مرةً واحدة، وهما يجريان داخلها بالتداخل ... هذه المعضلة الفلسفية التي لا حل لها. ومن جهةٍ أخرى، لا تقف اللغة بعيداً منفصلةً في انتظار ما سيحدث بين أطراف الكلام، إنها الحدث ذاته، وكل ما نتصوره من انفصالٍّ مجرد وهم عُضال. ولا يوجد تبرير لذلك الوضع، فهي اللغة التي يستحيل اعتبارها (وسيلةَ نقل) فقط بين البشر.

س16: ا. مراد غريبي: من فتجنشتين أفضّل الانتقال معكم مباشرة نحو حقل علمي مهم و معاصر، تألق فيه نجم فيلسوف أمريكي معاصر جون سورل، لكن لا أريد الاستغراق في ما يعرف بأفعال الكلام في فلسفة اللغة بضده التوصيفي الذي يغلب على قراءاتنا العربية للفلسفة قديمها و معاصرها، و لكن ببساطة: كيف ترتبط اللغة، أية لغة، بالواقع في جُل تمظهراته؟

ج16- سامي عبد العال: رغم مفارقات اللغة التي تحدثت عنها منذ قليل، إلاَّ أنها ترتبط بالوقائع والحياة عن طريق السياق. فنحن نمتلك الكلمات والعبارات كمادة للتعبير عما نرغب، وتلك الرغبة مليئة بصور الأشياء والكائنات والأشخاص واقعياً. كل كلمة لا تخلو في الحقيقة من واقع ما، ولكن: ما أصله، وما تكوينه، وما طبيعته، وكيف يصبح، ولماذا تشكَّل؟ وهذه أسئلة مهمة تضعنا في قلب المشكلة مباشرةً (علاقة اللغة بالواقع). وقد تأخذ خطاً صاعداً تجاه الواقع أو تنحرف مختلطة بمعانٍ أخرى أو الاثنان معاً بين الصعود والانحراف جناً إلى جنب.

ويتحدد معنى الواقع وعلاقته باللغة على عدة مستويات لا مستوى واحد كما هو متداول:

1- قد يرى البعضُ الواقع قاعدةً مادية نلتقي حولها ونوجد خلالها في حياتنا المشتركة، وهذا الواقع هو الحامل للمواقف والحقائق كما هي. ويعتقد هذا البعض تباعاً: أننا لو اختلفنا حول شيء معين أو حداثة ما، سنلجأ إلى هذا المشترك الموضوعي لحسم الأمر. والوقع بهذا المعنى يعتبر لونا من الحس الشائع common sense ، وقد يظن الناس ذلك الواقع صحيحاً مع الفكرة المبدئية بكون الواقع مادةً خاماً، هي النسيج الحي لتجاربنا ولإنجاز الأشياء وإدراك الحوادث كما هي.

وإذا دققنا الفكرة، فهذا الأمر ليس صحيحاً، لأنَّ الواقع فائض وجود بالنسبة للإنسان، أي هو الصورة المرسومة بين الناس ولكنها صورةٌ تتأطر بحسب القوى الموجودة ومناطق التأثير في الإدراك والحياة. ليس الموضوعي دائماً ملموساً، وليس الملموس دائماً موضوعيّاً. فحتى اللمس ليس حاضراً لذاته كعملية ماديةٍ صرف. كما أن الواقع الخام المفترض للأشياء ليس موجوداً، إنه إحدى أساطير النظرة العادية للعالم. والواقعية الساذجة naïve realism تُسلِّم بالآراء والملاحظات المباشرة باعتبارها وقائع لا غير، وهي الطبقة التي تتبدى لنا من أول وهلة. وذلك المعنى ليس واقعياً بالمثل، لأنَّ الواقع إذا كان كذلك بما هو متجلٍّ، فلن تكون الرؤية شاخصة كما هي.

من تلك الجهة، لا تتسع اللغة للنظرة الساذجة إلاَّ بقدر ما تصف، أي أن هناك لغة وصفية descriptive تعبر وصفاً عما هو موجود، ولكنها ليست هناك لغة خام raw language. فاللغة دائماً مركبة ومعقدة فوق ما نتصور، ولكنها أيضاً بسيطة ومعبرة أكثر مما نتوقع. الوجهان متداخلان بدرجة مدهشة في كل مواقف لغوية أو أحداث كلام نشارك فيها. وتلك اللغة ترتبط بالواقع خلال هذا المنظور العام، وليس يعنيها: ما إذا كان الواقع شاخصاً أمامنا أم لا، ولكن ما يعنيها هو نظامها الدال الذي يرسم مواقف التعبير والتواصل.

وهنا رأس التعقيد ذاته بصدد عمل اللغة، لأن الأخيرة تتداخل مع أنظمة العقل والفكر والثقافة السائدة، وتعطينا صورة تبدو لهذا أو ذاك من الناس: أنَّها قد نزلت عند درجة الوصف(الدرجة الصفر للواقع reality zero point)، غير أنها تعبر عن مضامين تالية وتربط صوراً بصور أخرى على درجة عالية من التركيب. وعندما يُقال إن الواقع خام، فليس كذلك داخل اللغة ولن يكون. لقد برهن ليفي شتراوس Strauss على هذا في كتابه (النيئ والمطبوخ the Raw and The Cooke) وفي كتابه (العقل البري The Savage Mind)، عندما أكد أنَّ أنظمة الأساطير والفكر في الثقافات اللاتينية (الإنكا والأزتك) أنظمة معقدة ومركبة جداً، رغم أنَّ حياة أصحابها بسيطة وبدائية جداً في مظهرها. إنهم قبائل تعيش والطبيعة وجها لوجه. ورأى شتراوس أنَّ ذلك لا يعني سذاجة المعاني المعطّاة للأشياء والوقائع. فالأساطير لغة لها وحداتها التواصلية ولها علامات تحكم رؤى الحياة والعالم، ويستمد منها الفاعلون القوانين والسرديات الخاصة بهم. إن الثقافات البدائية تقف على درجة كبيرة من التعقيد والشبكية مثلها مثل أحدث الثقافات تطوراً واسهاماً في الحياة.

رُبَّ قائل إنَّ اللغة إزاء مفهوم الواقع هي لغة الأشياء أو لغة شيئية things language. وهذا القول لون من الخرافة بالمثل، فلا توجد ما تُسمى بلغة الأشياء أو لغة الاستعمال المباشر. لأنَّ مصطلحاً كهذا منطو على(نكتة طريفة). إذْ كيف تكون اللغة لغةً وبأي منطق ستكون الأشياء أشياءً؟ علماً بأن أية إجابة ستلغي فكرة لغة الأشياء من البداية، كأنها علامات خام لمعطيات الواقع الغُفل. اللغة قبل أنْ تكون لغةً بين الناس، تأخذ دورتها القُصوى وجوانبها الرمزية مع العقل والثقافة والأبنية النوعية، ثم تقف إزاء الواقع لتجده غير ما كانت تحسبه كذلك، هو المادة الإنسانية التي نعتبرها كذلك دون حدود. وحتى لو كان ما نراه أمامنا مشهداً منظوراً، فلن يكون مادة خاماً فيما نتصور. إن لغة الأشياء أحد أوهام الإدراك الشائع للعالم، إنَّ ما بين الإنسان والعالم عوالم أخرى تمكنه من التواصل مع مصادر الطبيعة والحياة. وليست اللغة رداءً بدائياً جداً، لكي يخلعه على العالم دون حياكةٍ وتفصيل وتطريزٍ وإعادة تصميم لكل ما يعن له من أمور وأفكار.

2- قد ينظر البعض إلى الواقع كحزمةٍ من (الصور المتراكمة) في العقل، وتعمل مع أنظمة(الذاكرة والخبرات والحالات النفسية) التي تلتقي عند نقاط جامعةٍ لنا. وهذا البعد بعد سيكولوجي، حيث تكون الجوانب النفسية دور البطل إزاء صورة الواقع، وتدخل فيها الأخيلة والتجارب النفسية على أنها الفُرشاة الوجودية الراسمة لما نريد. والجوانب النفسية لها بالغ التأثير في الوقائع والعلاقات بين الناس، ولكنها لا تخلو من المبالغات والأوهام والمعطيات المضافة.

والفكرة أن الواقع هو حالتنا النفسية التي تحُول دون التماس الخشن بالعالم، فهذا منزل أمامي، لكنه قبل أن يكون كيانا مادياً هو رمز الحنين إلى الوطن، وهو المسكن الهادئ، وهو المأوى من غوائل العراء، وهو المظهر الذي يعبر عني. إذن الحالات النفسية تسبق بكل تعقيداتها ما نحاول فعله، وتسبق أيضاً ما نود رؤيته واعتباره جزءاً من كياننا.

والنظرة السابقة تدخل إلى اللغة، من جهة كون اللغة تحمل الشحنات النفسية تعلقاً بمعانيها وعباراتها. إن البطانة الداخلية للكلمات والتعبيرات هي العوالق النفسية من ذاكرة وعواطف وصور منعكسة وايماءات وأخيلة وعواطف ... جميعها منصهرة في قوالب لغوية. وقد تنطلق مع الأساليب الخطابية ومع أحداث الكلام. فلو قلت لشخص آلوه hello عبر جهاز الهاتف النقال. فبأي طريقة ستكون الكلمة؟، هل هي نبرة حادة أم هادئة أم متساءلة أم حانية أم لمجرد الرد أم ستفتش تلقائياً عما يكون الطرف الآخر؟!

ها هنا ليست القضية: ما إذا كان الطرف الآخر المتكلم معروفاً أم لا، واقعياً أم مكالمة بالخطأ؟، إنما القضية هي مرور شحنات نفسية عبر كلمة سيتلقاها طرف آخر قيد الاتصال. وهنا اللغة ستحدد أية حالة يعبر بها المتكلم، أي أنها ستحدد واقعه المعيش، وما إذا كان مهيئاً لفعل القول أم لا. إنَّ اللغة هي التي ترسم واقع القول وقول الواقع بالتبادل نفسه. لأننا سننتظر رداً من الطرف الآخر على(آلو)، والرد لن يكون غير التعرُف على ما يريد أو التأكد من أنَّ الاتصال صحيح. اللغة تجسد هكذا وضع كأنه الواقع، مع أنه انعكاس كامل لما نشعر به. الأغرب أننا نواصل العيش في تلك الحالات دون التساؤل: كيف وجدت الحالات، ولماذا هي بهذا الشكل أو ذاك؟!

3- هناك نظرة ابستمولوجية تقول إن الواقع لا يتغير، إنه كما هو منذ بداية الحياة، النجوم والأفلاك والكواكب والأقمار والأرض والهواء والأكسجين والمياه والقارات والفضاء .. جميعها أشياء موجودة رغم التغيرات التي طرأت عليها. ولكن ما يعتد به وما يتغير هي النظرة المعرفية، والأخيرة هي التي نترقب منها الجديد والمثير كما يقول ألبرت أينشتين إن كل ما حدث من تطور في الفيزياء ليس بفضل تغير موضوعات الطبيعة وظواهرها، لكن بفضل التغير الابستيمولوجي.

وهذا دال على كون المعرفة تتدخل لرسم صورة الواقع وتحديد الجانب الإنساني فيه. وهذا الرأي يؤيده عالم الفيزياء ماكس بلانك Max Blank، حيث رأى أن هناك فرقاً بين الواقع وصورتنا (معرفتنا عن الواقع) عن الواقع. فالواقع هو الأشياء في ذاتها، وهي ما توجد طبيعياً ومادياً على نحو عام، مثل موجودات وظواهر الكون والطبيعة. أما صورتنا على الواقع، فهي الموجودات والظواهر كما تحددها المعرفة العلمية. ليس دوران الأرض حول الشمس ظاهرة مادية في ذاتها وإنْ كانت كذلك، وإلّا لما كانت محلّ خلافٍ قبل إثباتها علمياً ولما اعتقد الناس خطأ أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. ولكن بعد اثباتها عملياً، تعد تلك الظاهرة جزءاً من معرفتنا عن واقع الكون والفضاء. فقد دخلت كنظرية بنية المعرفة العلمية وتم استعمالها كمسلمة في الابحاث والدراسات المتوالية.

كذلك ظاهرة الجاذبية لا تعد واقعاً طالما لم تثبت قبل اسحاق نيوتن، وإنْ كانت جزءاً من سمات الطبيعة والكون. ولكنها غدت صورةً للواقع معرفياً عندما صاغها علمياً صاحب نظرية الجاذبية وقوانين الفعل ورد الفعل وعلاقة الأفلاك في ضوء نظرية الجاذبية الكبرى. إذن لم تكن الصورة الواقعية كمشهد موضوعي متجلية بذاتها، لأنَّ الواقع(كما هو) ليس هناك من طريقة لمعرفته والوصول إليه. إنه غامض غموضاً واضحاً بدرجة مساوية لإسقاطه من المعرفة، وأنَّ كلمة المجهول تكفي لتحديد ما ليس معلوماً من صور الواقع. فالمعرفة تُدخل الأشياء والعالم حيز المعلوم. وسواء أكان الواقع خاصاً بحالة نفسية أم بحالة معرفية، فالأمر سيان من زاوية كونه محدّداً بما نتصور ومرهوناً بما يوجد في المعرفة من ادراكات ومفاهيم.

إن اللغة عبارة عن وحداتٍ معرفيةٍ، وباصطلاح ميشل فوكو هي اللغة كخطاباتٍ مؤرخة تتشكل من ابستيمات epistemes، فكل معرفة تشكل وحدات لها رقعة من الظلال الشاملة للوقائع والأفكار مغموسة في الأزمنة، إنها بلغة الكلمات المتقاطعة تُكوّن مساحة الوعي لدى مستخدمي اللغة وداخل الفضاء الذي يترك فيه الخطاب التأثيرات الفعلية. وعندما تسقط كلمةً من الخطاب، فإن المعرفة سرعان ما تكمل الصورة وترجح الكلمات المفقودة. على سبيل التوضيح في ضوء ذلك الرأي، كلمة" الطاقة " التي تنتمي إلى شقي معنى: معنى الجهد المبذول الذي يضخ قوةً ما في اتجاه بعينه. ومعنى القوة المتجسدة عن ظاهرة ما مثل توليد الطاقة الكهربائية من تيارات المياة المتدفقة بشدة. إنَّ اللغة تعبر عن هذين المعنيين معا، ولها أن تؤشر إلينا بقدرتها على اعتبار الطاقة دلالة لا تُعطّى مجاناً لأية ظاهرة. بل بقدر ما تجسد الظاهرة معنى قوة، فهي عندئذ معنى طاقة كذلك.

واللغة من تلك الجهة هي التي تحدد ماهية المعرفة التي تدعونا لرسم صورة الواقع، لنتخيل إنساناً يفكر ويعبر، فمن أين سيأتي بأساليب ذلك وفحواه. هو سيلجأ إلى اللغة التي تسرب إليه كيفية التفكير. علماً بأن هناك نظاماً رمزياً يحكم طريقة التفكير ويجعل الفرد مشتركاً مع الجماعة ويحدد ما يجب الأخذ به من عدمه. ولأنَّ اللغة ذاكرة، فهي مليئة بالصور التي تطرحها، ولا تنقل الواقع كما هو، إنما بإمكاننا القول بأن اللغة هي (نيجاتف الواقع)، الجوانب الباهتة والأصداء البعيدة منه.

4- الواقع هو حصيلة القوى التي تظهر وتتجلي. ووجودها بمثابة الحدث الذي يؤشر لوعينا ولاوعيا بوجوده. والوجود هو المستوى المؤثر في الفضاء الذي ينتشر فيه. وهذه الفكرة تقول إنَّ الواقع محدد وموجه نحو أغراض بعينها من قبل القوى السائدة، سواء أكانت قوى اجتماعيةً أم سلطة أم قوى سياسية أم مرجعية معينة أم أيديولوجيا طاغية. وأن تلك القوي هي التي تنتج الخطابات وتروج العبارات التي تتصارع من سواها في المجالات المختلفة.

ولعلنا ندرك بناءا على ذلك أن السلطة مثلاً قوة تحدد الواقع، فهي تفرض صورته من زاوية رؤيتها، ولا تسمح لأية قوى أن تنال من هيمنتها. فالواقع بالنسبة إليها هو الرهان الأول أمام الأنظار. كل همها هو إيصال لذهنية الرعايا بكونهم تحت مظلتها الممتدة. والسلطة لا تحدد فقط ما هو ملموس، بل تود كلُّ سلطةٍ لو تحدد الخيال والأحلام، وأنْ تحول الواقع إلى أسطورة هي بطلتها الأولى.

من جهة أخرى، نحن نعلم أن اللغة فضاء حساس جداُ لكل سلطة تُبث عبرها، وحساسية اللغة آتية من جهة امتلاكها: قدرة على التعميم لكل قوة تسكنها وتعبر بها، فعنما يتكلم أحدهم موجها خطابة إلى متلقين بعينهم سرعان ما تصر اللغة على نبرة التعميم، وكأنها هي المتحدث الرسمي باسمه. إن الشعارات الحماسية تسرطن جسد اللغة، كأنها قد تحولت إلى شعارٍ مطلق من فورها. هكذا تعبر اللغة عن هذا السرطان كما لو يظهر من قبل. كما أن اللغة لها سمة الإلحاح والعودة مرات ومرات، فكل عبارات القوة إنما تدخل موجات من الترديد المتواصل. وأية سلطة لا تملك إلاَّ الالحاح كطريق تجاه الاصرار على ما ترغب بكل الأدوات الممكنة.

ولذلك تصنع اللغة حركة السلطة بالمثل، وتعيد تجديد أواصر ربط اللاوعي بوجودها، وإذا كانت لكل سلطة نطاق استراتيجي مؤثر قبل وجوده بالفعل، فاللغة تسهم إسهاماً كبيراً في السهر عليه. ولهذا تعتبر كل سلطة أن اللغة رأسمال رمزي تستثمر فيها وتبث عبرها سندات التعامل وإقتصاد ثقافي عابر للعقول والأفهام المباشرة.

5- هناك من يرى الواقع كامن في تناقض حالاته عبر مسيرة الحياة، إنَّه المجال الحيوي لصراع القوى الاجتماعية والسياسية وتجاذبها .... وخارج هذا المجال لا يجب التحدث عن واقعٍ ما، فمثلاً يعد بناء المجتمعات وإنشاء المدن وتشييد مظاهر التكنولوجيا أمراً مفهوماً، دفعاً لهواجس الفناء والموت اللذين يترقبان الحضارة. إن الفرد لا يغفل صراعاً مع عوامل التلاشي وذهاب السنوات دون جدوى، فيتمسك بالحياة مُريداً العيش إلى أطول فترة ممكنةٍ. حتى أننا في الأمثال الشعبية نقول (الأولاد عز .. واللي خلف ما مات)، وذلك صراع خفي مع الفناء الذي يسكننا ويلح علينا طوال الوقت.

وعلى صعيد أوسع، إذا حاولت قوةٌ ما الاستحواذ على الواقع، فهي بذلك: أمّا تثير صراعاً مع قوى أخرى، وإمّا أن تهمش تلك القوى لتعود من بعيد إلى الصراع مرة أخرى. وهذا نظام الطبقات في المجتمع، فالفكر التقليدي يرى الواقع دائراً حول التطاحن والتحول من حالة إلى أخرى. وأنَّه نتيجة الصراع يتم رسم الواقع ومواطن تأثيره وكيفية التعامل معه. وهذا لا يحُول دون وجود القوى الموازية، ولكنها لن تملك الرقعة نفسها من التحرك والممارسة.

وبطبيعة الحال كعادتها التاريخية، ستسهم اللغة في هذا الصراع، بل ستكون بمثابة رأس الحربة في توسيع نطاقه واستكشاف الواقع المترتب عليه. إنها تنظم آليات الصراع وأساليبه وتكثف من صوره المحتملة، وتعيد إرساله إلى كل آذان صاغية. اللغة الخطابية لسان المقال الذي يبرر القوى إلى أقصى نقطة ممكنة. وليس هناك مانع من استحضار القوى المهمشة جنباً إلى جنب، اللغة تحمل قدراتها الخاصة على البوُح والإفضاء. ولذلك تؤدي اللغة دوراً خطيراً في تكريس الواقع وتقويضه في الآن نفسه. اللغة هي طاولة العرض التي تشرح عليها أوضاع المجتمعات التي يتم فيها نهب الواقع واغتصابه لصالح فئة معينة.

***

حاوره: أ. مراد غريبي – صحيفة المثقف

خاص بالمثقفالحلقة الثانية من حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

القسم الأول: الفلسفة (2)

س6- أ. مراد غريبي: "وربما ستكون الفلسفة على موعد مع تحويل الإنساق الفلسفية الكبرى إلى ساحات لعب ممتع" العبارة لكم د.سامي، ماذا عن الفلسفة والطفل؟

ج6- سامي عبد العال: العبارة وردت ضمن متن " فكرة الطفولة " في مضمارِ الفلسفة، لأنَّ الفلسفة كأبرز صور الفكر الإنساني لن تظل متجهمةً طوال الوقت دون ابتسامٍ. والتجهم فلسفياً ليس إلاَّ الكآبة الخطيرة إزاء كل فكر طريفٍ وجذّاب. وليس مطلوباً من الفكر أنْ يدفعنا إلى حافة اليأس، لكنه يجب أن يجدد حالتنا العقلية باستمرار. إنه في هذا السياق" المزاج الفلسفي" المُعقلنrationalized philosophical temper رغم غرابة التعبير. وعندما يتعامل الفيلسوف بكل نزق تاركاً العنان لعقله الحر، فسيكون أشبه بالأطفال العابثين بالأشياء عبثاً منتجاً لا فوضوياً. إنه سيستعيد الحالة النزقة التي لا تعبأ بالسماجة المتراكمة في كل مكان. والحقيقة أننا نعاني من(الفكر السمج)، هذا الذي يدعوك للانزواء بعيداً ولا يزيدك إلاَّ تكديراً. وحدها القدرة على المرح المنتج هي التي تجدد الآفاق نحو الأفضل، لا توجد حضارة ليس بها إبداعات مرحة، وفي الوقت عينه تستغرق أصحابها داخل مهام مختلفةٍ من النشاط والحيوية.

المعنى أنَّ الأطفال يحولون أكثر الأماكن قداسةً ومهابةً إلى ساحات لعب ممتع وفاعل. وعلى شاكلة ذلك، ستكون الفلسفة المأمولة للأطفال بعضاً من هذا التحول. فالانساق الفلسفية نالت من المهابة ما نالت، ورسّخت في تاريخ الذهنيات ما رسخت من رؤى وأفكار، ولكن عندما يلجُ إليها "عقل طفولي" نزق إلى حد التهور، ستصبح فضاءات للعب ممتع، أو بالأحرى لعب حُر free play. وقد أصدرتُ كتاباً حول تلك القضية واعتبره (نصاً مفتوحاً) حتى الآن، لأنَّ الكتب في الحقيقة لا تُغلق، حتى وإنْ وقعت بين دفتي غلاف في لحظة من اللحظات. الغلاف مجرد نقطة في سلسلة لا متناهية من النقاط الأخرى التي لم تكتب بعد، وربما لا يكملها المؤلف ولكنها ستُترك لعمليات كن القراءة المختلفة.

إنه كتاب " العقلانية المرحة joyful rationality " ، وهو معْنِيٌّ بفلسفة الأطفال. والتفكير الذي يقترحه الكتاب مختلفٌ عن محاولة تبسيط الفلسفة للأطفال. فالتبسيط قد يكون مرحلة تضع الفلسفة كمادة للتعبير الواضح لعقول الأطفال وقد يكون ذهاب إلى حيث التسلية وتمضية الأوقات. وتلك بلاريب خطوة مهمة لم تحدث في ثقافتنا العربية حتى الآن. ولابد أنْ تأتي من داخل مجتمعاتنا، لا أنْ ندفع الأطفال للجلوس على مائدة مجتمعات أخرى انتظاراً لمعلبات الفكر(البضائع المستوردة). أما فلسفة الطفولة كما في كتاب العقلانية المرحة، فتعبر عن: كيف يلتقي الأطفال مع سمات جوهرية للحياة حتى داخلنا نحن الكبار؟ وأنه ليس يوجد الفكر الجامد الذي يخلب عقولنا بالمهابة. فلو وُجد هذا الكائن المحشو بالمهابة المصطنعة، فلن يكون أكثر من ثعلب يرتدي عباءة الذئب منتظراً أقرب فرصة للمراوغة.

والفكرة السابقة بارزة الأصداء داخل الفلسفات المعاصرة وبخاصة اتجاهات ما بعد الحداثة. لأنَّ هناك مساحة كبيرة للعب والدينامية وتكوين آليات حرة تشتغل على هكذا مفاهيم، لدرجة وجود استراتيجيات قد بنيت عليها واعتبرها المتابعون والنقاد أبرز معالم الفلسفة. واللعب ليس لهواً لا طائل من ورائه، لكنه لعب يتسق مع قواعد إنتاج الأفكار. لعب له أصُول وإيقاع حركي يتمكن الفيلسوف من ممارسته وتوظيفه في إطار فلسفته. ومن الصعوبة بمكان أن تجد فلسفةً أصيلةً لا تتداخل مع تلك المفاهيم بشكلٍّ أو بآخر.

وأتصور أن الفلسفة ستكون على موعد مع صورة مختلفة لها لو تسربت إلينا من هذا الباب، وأقصد لو دخلت مجتمعاتنا من باب اعمال العقل ومساءلة الواقع. لأننا لا نقبل الفلسفة بسهولة إلا تحت لافتات أخرى، وكأننا نخاتل أنفسنا حتى نمرر ما نريد أو ما نكره تحت ضغوط الحياة والظروف الثقافية. فإذا كانت الفلسفة لدينا محلَّ شكٍ وتوجس طوال الوقت، فحين تبقى قرينة اللعب، فسنلتقي بها وتلتقي بنا في وضح الممارسة (وضح النهار). وسنسمح بها أن تتواجد بين أطفالنا كذلك. لأنَّ الفلسفة كلعب منتج معنيّة ببناء الشخصيات المفهوميةconceptual personalities  لتلك الكائنات الغضَّة. الأطفال في أعمارهم المبكرة يحتاجون إلى حاضنات مفهومية تأخذ بأيديهم وتنمي قدراتهم العقلية والروحية على التطور. وهو ما نفتقده كثيراً في حياتنا الإجتماعية، فالإنسان العربي الحياة قد يخرج مُدللاً وهشَّاً، ولا يقوى على مجابهة الصعوبات ويتجمد تراجعاً إزاء مستجدات العصر، ويبدو أن الفلسفة في هذا السياق هي نوع من بناء (القوام الفكري) للإنسان.

إن بيئاتنا الثقافية لم تتدرب كثيراً على احتضان أطفال المستقبل، ولم تتهيأ حتى تستوعب كم التغييرات التي ستجيئ من هذا الباب، الطفل هو رسالة الزمن لهؤلاء الذين مازالوا قابعين في الماضي. لأنه كائن موجود في الغد دائماً، إذا أردنا تعريفاً موجزاً له. وما لم نفك شفراته بما يليق بالإنسان لن نتمكن من التعامل مع الزمن. وتلك معضلة كبيرة، لأنَّ المجتمعات العربية يجب أن تنهض على أمرين، الأول: هو بناء الواقع وتطويره، واتصور أن هذا سيحدث بحكم الشروط الحضارية الكونية التي يستحيل تجنب مؤثراتها. الأمر الثاني: هو إعداد إنسان المستقبل، تلك العقول التي يجب أن تتغذى على أفكار جديدة ومناهج وإبداعات فكرية تنتظرها في القادم.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س7- أ. مراد غريبي: أترون انه بإمكان الفكر العربي والاسلامي المعاصر تحصيل مقومات إنجاز بناء فلسفي خاص؟ وكيف تنظرون لما يسمى بالمشاريع الفلسفية من طنجة الى مسقط، بلحاظ حال التفكير الفلسفي العربي ككل؟

ج7- د. سامي عبد العال: الفكر العربي والإسلامي انهمك في اجترار (مشكلات مكررة) مثل: التراث والمعاصرة، الحرية، التجديد، الأخذ بأسباب العلوم، الغرب والشرق، صدمة الآخر، الاستعمار، الحداثة والتقليد... إلى غير ذلك. ومازال يحاول تكرار ما لحق به من دوائر هذا الطريق الذي لا ينتهي، وكأنه يحارب طواحين الهواء، أي دون كيشوت شرقي جديد. في الحقيقة، سنجد أن رموز الفكر العربي والاسلامي هم من صنعوا تلك الدوائر، وهم من نفخوا كثيراً لتحريكها طوال الوقت. فهناك من يعجبه قطبي التراث والمعاصرة كما عند زكي نجيب محمود وحسن حنفي وعابد الجابري والطيب تزيني وفهمي جدعان، فيلقون بأنفسهم في أتون هذه المعارك الممتدة. والنتيجة أن هناك مداداً يسيل بحجم الوطن العربي، قد يحجب الواقع تماماً.لكم رأينا آخرين يسيرون في هذا الاتجاه صعوداً أو هبوطاً نحو الهاوية بين الشرق والغرب، سواء نقداً لرموزه أم تأييداً لهم. وإذا أردنا أن ندرك بعداً كهذا، فعلينا احصاء الكتابات والنصوص والشروح والتعليقات والأطروحات والترجمات حول تلك القضايا.

ربما لن تكفي الأوراق لو أدرجنا التيار الجارف وراء هذا الاتجاه، وتلك إحد سلبيات الفكر العربي والإسلامي المعاصر:

1- انجرار البعض وراء ما يُقال ويُطرح دون مساءلةٍ ولا نقد(وقد نسي هؤلاء أنهم يشتغلون في مجال الفكر الذي يفترض وجود تمحيص ودقة ومساءلة).

2- يُجسد الفكر العربي والاسلامي موقفاً معكوسّاً من القوى المهيمنة على الثقافة والمجتمعات، بمعنى أنَّه بسبب عدم إعطاء أولوية لحرية الفكر، ولكونِّه فكراً مقيداً في أصفاد متواصلةٍ من حقبة إلى أخرى، فقد انشغل بقضايا الهوية والأصالة والمعاصرة على نحو يرضي الرأي العام. فما كان من رموزه إلاَّ أن ملئوا ساحة الوعي العام بضجيج القضايا الزائفة.

3- تعد قضايا الأصالة والمعاصرة والمحلية والانفتاح القناع الراهن لمشكلة التوفيق بين الحكمة والشريعة، وهي القناع المراوغ لعلاقة الأنا بالآخر وهي كذلك أحد أقنعة الهُويّة.

4- ترك الفكر العربي صنوّه الفكر الإسلامي (باتساع الجغرافيا) خارج الوطن العربي مؤثراً عليه بقوة، ونحن نعرف أنَّ رياح الفكر الديني من باكستان والهند وغيرهما قد حملت معها أفكاراً غير مرغوب فيها، مثل قضايا التكفير والدولة الدينية والدساتير الشرعية وقضايا الجهاد والأسلمة ومقاومة الآخر .. وغيرها.

لم تخلُّو المشاريع الفكرية من تلك الأصداء، لقد استغرقت جوانبها المرنة دفاعاً عن القضايا بأساليب التبرير، والتبرير هو الموقف المتأخر خطوات عن الفكر الحقيقي استباقاً إلى ما هو تالٍ دون جدوى. فلكي تبرر، عليك أنْ تعود إلى الخلف كثيراً، حتى تنطلق للأمام، وكأنك تدافع عن قضايا فائتة لمن يعيشون الظروف نفسها. والتبرير لا ينتج معرفةً ولا موقفاً فكرياً أصيلاً. وهذه الآلية الحجاجية تميز الذهنيات الشرقية إجمالاً. لأنها تقع على خط التماس مع المماحكة والنكوص عن الفعل. ونحن نعلم أنّ كل تبرير يحفر هوة بين الفكر العربي والاسلامي من جهة والفلسفة من جهة أخرى. وربما هذه الظاهرة هي السبب الأبرز لفشل توطين الفلسفة والفلاسفة في بلادنا. إنَّ نموذج(الفقيه - الواعظ) هو المؤسس لذلك المعنى، حتى وإنْ كانت المشاريع متبناه بدواعي التحرر وتجديد الفكر الديني. فهناك عناوين مباشرة دالة على ما سبق من معانٍ: (فقه الفلسفة) و(فقه الفكر) و(فقه الديمقراطية) و(فقه الاختلاف) و(فقه الحضارة) و(فقه الدولة).. وغيرها من أصناف الفقه.

البصمة المبدئية للتبرير يُحوّل الفلسفة إلى (لاهوت دفاعي) لا إلى تجارب عقلانية مفتوحة، وإن كانت المشروعات تقول غير ذلك.وحدُها الفلسفة ليست تبريرية إطلاقاً، وتلك العملية تجعل صاحب التبرير لصيق الصلة بغيره على الدوام، ولا يعطي مشروعية الاستقلال الفكري كما تفضلتم وقلتم بإمكانية (انجاز بناء فلسفي خاص). فهذا التعبير – رغم كونه منطقياً- لكن أساليب تنفيذه غير منطقية، كما أن هناك تناقضاً في الحدود إلى درجة بعيدة. الانجاز يقتضي قدرات ذاتيه من التميُز وسط مستويات كونية تدعونا ليلا ونهاراً للمشاركة والحوار وأهمية أن نعيش عصرنا بملء الكلمة. لأن التميُز ليس معناه انطباق الهوية مع ذاتها، بل الاندماج والمقارنة المتواصلة بما يحقق وجودنا الفكري على نطاق كوني.

لم يعد التميُز فعلاً رأسياً ساقطاً في هُوة الهَويّة (بفتح الهاء)، بكل ما تحمله من دلالة (الهَوَى والهَاوية والاستهواء والوقوع) داخل أعماقنا التي قد لا ترى شيئاً. ولكنه تميُز أفقي إنْ صح التعبير ، فالفلسفة بناء كوني بالضرورة يخاطب الإنسان كإنسان أو لن تقول شيئاً. هذه المخاطبة على درجة عالية من الحساسية في اللغة والرؤية والتأسيس والاختلاف، كل ذلك يتوجّه إلى الإنسانية بمعناها الحر والحيوي، حتى نستطيع أنْ نعرف أدق التفاصيل. ولذلك يكون النطق السليم للهُويّة identity بضم (الهاء) لا فتحها، لأنها آتية من الهُو، أي الآخر الذي ننشده ونتطلع إليه، سواء أكان هو الأنا بصيغة الغياب (فلا أنا يعد هُو) أم كان بصيغة الآخر المختلف، ويتم ذلك بصيغة الاختلاف والتغاير.

في الحالين، لا يكون التفلسفُ وارداً، لكي نسمع أنفسنا ثم نتمتم ذاهبين إلى استراحة طويلة. لأنَّ الفلسفة مسئوليةُ عن هذا الآخر داخل خطاباتنا الفكرية والثقافية. وأغلب- إنْ لم تكن كل المشاريع المطروحة - تقع في هذا الفخ الوثير. الأمر الذي يستثير لديها نعرات الحماسة والفخر التي أشبعت ذواتنا طوال التاريخ العربي. ولذلك اكتسبت هذه المشاريع صبغة (المودةmode)، أي أنها فجأة بين يوم وليلة تصبح (علكة مُحلاة) للألسن والمقالات والتقريظات والاشادات بالأسلوب نفسه الذي ظهرت به. وليتها وقفت عند هذا الحد، بل أخذت شكل الظاهرة المتدحرجة حتى غدت مناخاً بين ليلة وضحاها وخضعت للمعايير الذاتية والعلاقات الشخصية بين كاتب ومتلق وأحياناً، إذ هناك سلطة مترقبة يهمها تغليب هذا المشروع أو ذاك. والمدهش أن المشاريع من هذا اللون سرعان من تختفي وراء الكواليس متى تنتهي جذوتها المشتعلة، لأن الواقع ليس كما تصوره، كما أنها لم تمس حياة الناس الحقيقيين فضلاً عن أنها تستعير مشكلاتها من أفكار مفتعلة.

في المقابل، تُوجد ثمة مشاريع حقيقية، ولكنها ليست في مجال الفلسفة والفكر حصراً، نظراً لأن هذين المجالين تحت التوقيف الرقابي، وهما مصدر إزعاج دائم سواء للأنظمة الرسمية أم للثقافة الشعبوية الغالبة. المشاريع الحقيقية موجودة في الأدب والفنون والتاريخ وابداعات العلوم الإنسانية (غير المتخصصة) في الفكر. لأنَّ هؤلاء يقولون كلاماً حقيقياً بالغ الدلالة ولا يخضع لغربلة الوعي الساذج. كما أنّه يوجد في إهاب مقبول إلى حد ما من الآداب والفنون المصنفة داخل سرديات الحكي. ولعلنا نلاحظ أن الذهنيات العربية الإسلامية تمرح مع أحداث وسرديات ألف ليلة وليلة، ولكنها لا تقرأ للتوحيدي وتصفه بالمغترب والمتوحد وتجافي فلسفة ابن رشد وابن سينا مع أنها تقبل فقه الأول وقانون الطب للثاني، وتبيت عند جواري وغلمان الجاحظ ولكنها تقصي اسهاماته الخطيرة في علم الكلام والفكر السياسي. نحن مازلنا في وضع احراجي غريب تجاه تراث العالم كله. نسلخ المفكرين والأدباء والفنانين من أفكارهم الجادّة والحقيقية ولكننا نغوص حتى الثمالة في كتب الحكي غير ذات الصلة.

في المقابل هناك (ثراء فلسفي فاحش وطاغٍ) في متون التراثات الأدبية والعربية الإسلامية وفي متون النحو ومدونات الفقهاء ونصوص علماء الكلام ونصوص البلاغة وكتب الرحلات والرحالة وكتب المخلوقات العجيبة ومتون السياسات العامة والحوليات وعجائب الآثار في التراجم والأخبار على حد اصطلاح المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي... كلُّ ذلك لم يكتشف بعد، ولم نجد نوعاً من (الضيافة الفلسفية الحرة)، حتى نستطيع أن نستقل فكرياً لو أُجيز ذلك. ولكن يجب أنْ نقلب الموضوع رأساً على عقب، فبدلاً من تناول قضايا الفلسفة والفكر بذهنية الفقهاء، يجب أنْ نجدد صلاحية تلك القضايا والمعارف بذهنية الفلاسفة. والمسافة بين الطرفين طويلة، هي مسافة الفهم والقدرة على الإبداع.3762 سامي عبد العال

س8- أ. مراد غريبي: الترجمة الفلسفية ذات حضور قوي في الثقافة العربية المعاصرة كظاهرة في المشرق والمغرب العربيين، كيف ينظر إليها الدكتور؟ برأيكم هناك إرادة حضارية أم فقط استثمارات تجارية ؟ وهل الترجمة الفلسفية عربياً تمكنت من خلق فضاء ثقافي للتلمذة الفلسفية على حد قول غادامير؟

ج8- د. سامي عبد العال: الترجمة فعل حضاري بالدرجة الأولى، وهي خطاب تواصل بين عقول تستحق العيش في ثقافات أخرى. وهي توضح الفارق بين مجتمع مُطّلع ومجتمع آخر خامل لا يأبه بما يحدث في جنبات الإنسانية. والترجمة تذكرنا بدورات الحياة التي تخوضها نصوص كبرى بعيداً عن منشأها المحدود، لتعطي درساً في الصلاحية الكونية للفكر والإبداع. ورغم انتشار الترجمات في كافة فروع المعرفة والعلوم والآداب، إلاّ أننا مازلنا في أول الطريق، سواء بصدد الترجمة من اللغات الحيّة إلى العربية أو العكس. والترجمة هي فنون ضيافة النص الأصلي، كي ينطق وينبني من جديدٍ بواسطة لغة أخرى. وعندما تكون الترجمة بليغة المعنى معبرةً عن كيان النص الأصلي، فستكون الضيافة نوعاً من ابداع النص بلسان غيره. وهذا يثبت كون المعنى يعيش في أي مكان طالما كان أصيلاً وحقيقياً.

النصوص الفلسفية أبرز الأمثلة الحضارية على ذلك، إذ تتيح الترجمة أنْ تحيا حيوات أخرى بحكم إنسانيتها الممتدة. ومن حسن الطالع أنْ نصوصاً كبرى مثل نصوص: أفلاطون وأرسطو وكارل ماركس وجون ديوي ووليم جيمس وهيدجر ونيتشه وهوسيرل وكانط وهنري كوربان وآنا ماري شميل وفرويد وسارتر وشوبنهور قد أُعيد كتابتها في الشرق العربي الإسلامي. وتلك ظاهرة جديرة بالتحليل، ولاسيما أنَّ نهضة الأمم(هذا المصطلح الشائع) تنتعش عندما تكون الترجمة تجارب للحياة لا مجرد نقل نص من لغة إلى أخرى. فآرثر شوبنهور في كتابه المترجم "العالم كإرادة وتمثُلthe world as will and representation " يتكلم اللغة العربية كما لو أنه قد عاش بيننا في يوم من الأيام، إيمانويل كانط يتجول في شوارع بغداد والقاهرة والرباط كأنَّه داخل مدينة كونيجسمبرج في مملكة بروسيا القديمة. والناس لدينا عندما يقرأون " نقد العقل الخالصCritic of pure reason  " أو "الدين في حدود العقل المحضreligion within the bounds of bare reason"، فكأنما يستنشقون عبق وجوده جيئةً وذهاباً. حين يُترجم نصٌّ لفيلسوف، فالترجمة إعلان بحضوره في مواقع أخرى، والحضور هنا لا يقل أهمية عن حضوره الأول.. والثاني.. والثالث.. إلى ما لا نهاية في أزمنة تاليةٍ، وربما مغايرة تماماً.

إن ترجمات الفلسفة استنطاق يستحق العناء لنصوص رئيسة. ومن المفارقات أن يكون الانتقال الحر للنص المترجم داخل آفاق اللغة كي يضرب جذوره من جديد. الفكرة الموجودة لدى الإنسان منذ زمن بعيد حين كان يود التكلم بعدة ألسن مجتمعة. في الإنسان هذا الازدواج المتعدد بين لغات مختلفة، ولا شك تعد الترجمة إحدى الإمكانيات الكاشفة لتجليات النصوص الفلسفية. فهي قابلة للترجمة نظراً لوجُوهها وعوالمها الكثيرة. ومن هناك كانت الترجمة إضافة للنص بالقطع لا مجرد استهلاك، عندما يعيش النص في ثقافة أخرى، فهذه إضافة إليه، حيث تكون اللغة جديرة بكشف قدراته.

ولو أخذنا أفكاراً كهذه في الخلفية، سنعلم مدى الصعوبة في الترجمات الفلسفية مغرباً ومشرقاً. ولابد أنْ اثمن كل الجهود التي قامت على ذلك. بدء من جهود المترجمين العرب: أحمد لطفي وزكي نجيب محمود وعزمي إسلام وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي وشوقي جلال وفالح عبد الجبار واسماعيل المصدق ومحمد برادة وفتحي المسكيني.. وغيرهم بالتأكيد، لا أريد أن أقلل من ترجمات الأساتذة العرب في الفلسفة والفكر المعاصر والآداب والعلوم والفنون. فهؤلاء وأولئك - رغم وجود بعض السلبيات- يعملون على تحسين صناعة النص الفلسفي داخل (ورش الترجمة) العابرة للحدود. هم معنيون بالسؤال: كيف يتكلم الفلاسفة الغربيون الكبار العربية؟! وهذا التكلُّم هو حدث جديد new event في التراث المعجمي والخبرات العقلية لآفاق الشعوب. وتلك مهمة في غاية الصعوبة والدقة، لأن التكلّم بالعربية يعني: كيف يجري التفكير الفلسفي عربياً مع أنه نبتَ في بيئات أخرى؟!، وهذا يمس جوهر العقل، ويطرح إمكانيات (فكرية- لغوية) مثيرة لم تكن معهودةً.

لم يكن ممكناً إقامة هذه الورش العابرة بصورة جماعية، لأنها تحتاج حساسية فلسفية خاصة وتتطلب قدرات نوعية في التعامل مع النصوص، وأنْ يشعر المُترجم بمسئولية ابداع اللغة الأم وإبداع اللغة المترجم إليها. وهنا ستكون الترجمة معلنةً عند (نقطة التماس) من اللغتين، وسيكون العمل المؤسسي على الترجمة متوقفاً عند دعم المترجمين وإنشاء مؤسسات لرعاية الأعمال المترجمة، ولكن لن تكون الترجمات من جهة المحتوى اختياراً مؤسسياً بطبيعة الحال. إذْ يستحيل أنْ تفهم السلطة الرسمية: ماذا تكون الترجمة الفلسفية؟ ويصعب تعميم المسألة، ولذلك سيكون المترجم في هذه الحالة سفيراً ثقافياً فوق العادة. لأنه يدرك المغزى الفلسفي للترجمة قبل أن يترجم نصاً، وهذا هو مغزى الإرادة الحضارية التي تقول بأهمية النص. إن المسألة التجارية موضوع لاحق ولا يمكن أن يكون سابقاً، أي أنْ يعرف المترجمون: ماذا يحتاج السوق لكي يتم ترجمته؟ ولعلّنا إذا نظرنا إلى أسواق الكتاب في عالمنا العربي، سنعرف تماماً: ماذا يستهلك القراء من كتبٍ؟

لو تحولت الترجمة إلى مسألة تجارةٍ، فيجب أنْ تكون تجارة جودة وإبداع لا مسألة ربحية. ويجب الاعتراف بأنه يصعُب منع التجارة من دخول مجال الترجمات، لكن يمكن جعلها لصالح تجويد ورش الترجمة وترويج نتاجاتها على نطاق واسع، وتغليب الأفضل موضوعاً ونصّاً.

أما قضية " التلمذة الفلسفية" على حد عنوان كتاب جورج جادمر بصدد مارتن هيدجر، فهي حقيقة يستحيل إنكارها. وبخاصة أن الترجمة هي المدرسة الفعلية للتلمذة، لأن الترجمة تدرُب متواصل على الحياة المشتركة مع النصوص. وليس هناك أكثر تلمذةً من هذا العيش الحميم والتعلم من النصوص. أنت في الترجمة مؤلفٌ لا ناقل، مرابط بجوار المعاني لا عابر سبيل، قائم بالحقيقة لا متحدث عنها، أنت النص لا مجرد نائب فاعل. بكل ما تحمله الكلمات من تلقٍ وجَلّد واهتمام ورعاية للنصوص وتجريب الإقامة داخلها واكتساب مهاراتها الفلسفية وآفاقها البعيدة. أنْ تجرب يعني أنْ تتلمذ مع سبق الاصرار والترصد، وأنْ تكون تلميذاً عن بعد. فالنصوص الفلسفية تحتوي على ذخائر من المعاني، وهي لن تعطيك نفسها من أول وهلة. إنها متمنعة تمنع المستحيل، ولا بد أنْ تختلس الأزمنة حتى تطلع بدورك في اصطيادها.

وعلى الصعيد العام، عندما يتوافر نص لفيلسوف كبير يتيح لعدد أكبر من المثقفين أنْ يطلعوا على الترجمة ويصبح جزءاً عضوياً من منابع الفكر. والواضح أن الترجمة كانت سبباً مباشراً في تحريك الثقافة نحو الانفتاح والأخذ بأسباب التطور. وينطبق ذلك على الترجمات الفلسفية، لأنْ الفلسفة قرينة التحضر في كل المجتمعات، ولا يخطو مجتمع من المجتمعات قديماً أو راهنا إلاَّ إذا كان له اسهام فلسفي أصيل. ما ينطبق على الغرب ينطبق بالمثل على الشرق. وهذا يوضح خطورة الترجمة على كافة المستويات.

س9- أ. مراد غريبي: مؤخرا فقدت أسرة التفكير الفلسفي عربيا قامتين كبيرتين من مصر ارض الكنانة المرحومين د. حسن حنفي ود. إمام عبد الفتاح إمام، وكان شكل رحيلهما شرخاً كبيراً في بنيان التفكير الفلسفي العربي، مثلا الأخير كان له أثر بليغ في نقل الفلسفة الألمانية للقارئ العربي، حيث ترجمات المرحوم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام للتراث الهيغلي معروفة وذات وزن معرفي لدى الاكاديميين، كيف تبدو لكم معرفتنا بالفلسفة الغربية المعاصرة عربيا؟

ج9- د. سامي عبد العال: فقدان أستاذ يعني فقدان باب كان مفتوحاً تجاه أصالة معرفية وفلسفية ما. ولن يدرك ذلك إلاَّ الذين يقدرون ترجمات ومؤلفات هؤلاء الأساتذة. ومع ذلك، دعني لا أشخصّن المسألة في أفراد، فهي أكبر من أي شخص. وحتى لو وُجد أشخاص جديرون بالمكانة، فيجب أنْ ننظر إلى آثارهم وقدرتهم على الطرح. الفلسفات الغربية المعاصرة حاضرة في كافة نتاجات العصر الذي نعيشه. والفلسفة بمثابة التجلي الفكري للتاريخ على هذا المنوال، هكذا كانت الفلسفة ومازالت. والفلاسفة المعاصرون غيّروا من طريقة سكناهم لبيوت الفكر الغربي، فهم مجال خصب لتلاقي تيارات شتى وأفكار متنوعة. لأنَّ التعددية الفكرية والثقافية هي ما تُميز راهن الفلسفة. وقد أخذت الفلسفة المعاصرة في الانتشار، لكونِّها مرتبطة بموضوعات وقضايا عابرة للمعارف. صحيح بعض المشكلات الفلسفية قريبة الشبه من بعضها البعض ولكنها مختلفة الطرح، وصحيح أن الفلسفات المعاصرة سارت في هذا الاتجاه إلى نهايته، غير أنها تحتاج معرفة دقيقة بالفلسفات القديمة والحديثة.

هناك أسماء ستجد لديهم جديداً: جان لوك ماريون، سلافوي جيجك، بيتر سنجر، سيلا بن حبيب، دون آيد، لوتشيانو فلوريدي وآرني نايس، نويل كارول وآلان دونو.. وقبلهم هابرماس وجاك دريداوفليب سولرز وبول فاريليو وجان لوك نانسي وجيل دولوز وجوديث بتلر وريتشارد رورتي وتشارلو تايلور... كل هؤلاء هم محركو الذهنيات المعاصرة في المشهد الراهن: من التحليل النفسي إلى اللغة، ومن العمارة إلى النيوليبرالية، ومن النكات والسخرية حتى السينما والنوادي والمقاهي الفلسفية ومن عصر الانحطاط والتفاهة إلى عصر السرعة واللمس الديجيتال.

لقد تُرجمت بالفعل بعض النصوص المهمة للفلاسفة السابقين، ولكن لعلَّنا نعود إلى ترجمات إمام عبد الفتاح إمام حتى ندرك مغزى (كلمة معرفة) التي وردت بسؤالكم الذكي. المعرفة لدينا مختلفة عن كافة أصنافها في أماكن أخرى من العالم. المعرفة هي أن نطّلع ونتابع ونتذكر ونسترجع، هي المعنى القديم لدينا للحفظ والاستظهار والتجميع، بخلاف هذا فإن دلالة اللفظ في التراث الغربي الذي تعني(ابستمولوجي epistemology)، وهي كلمة مأخوذة من المعجم اليوناني القديم (ابستيمانوس - ابستيمنوسيوس) التي تعني: معرفة كيف نعرف. أي إدراك الكيفية والأساليب والفنون والمهارات المطلوبة ثم العمل على انجازها.

ولندقق التفكير قليلاً إذ سنجد أنَّ كيفية المعرفة مختلفةٌ تماماً عن المعرفة ذاتها. المعرفة لدينا عبارة (وجبة خالصة وجاهزة) تحتاج إلى إدراك وقد تمَّ انتاجها كما هي، وما أكثر المعارف والعلوم والنظريات التي هي من هذا اللون. أما كيفية المعرفة how to know، فشيء آخر تماماً. ما بين الكيفية والمعرفة هو الفرق بين أن تعطي جائعاً سمكة جاهزة كي يأكلها من فوره وبين أن تدربه على كيفية الصيد والتحين والانتظار، حتى يكتسب مهارة وحنكة وخبرة طويلة، وألَّا يُخضع نفسه لظروف الاحتياج مرةً أخرى.

ونحن في عالمنا العربي رغم وجود مترجمين بقامة إمام عبد الفتاح وفؤاد زكريا ورضوان السيد وغيرهم إلاَّ أننا مازلنا في مرحلة "دكان الأسماك"، أفضل ما فعلناه كوننا جلبنا النصوص معلبةً كما هي مثل المواد والمنتوجات المصنعة والمغلقة، وفي أفضل الأحوال نطّلع على الكتالوج catalog الموجود للسلعة، حيث يشير إلى نسبه المواد الحافظة ونسبة الدهون والكوليسترول ومدة الصلاحية وطريقة الحفظ. هذا هو أسلوب العقل العربي الذي يعرف الفلسفات الغربية. يعرفها إطلاعاً واستظهاراً لا معرفة فنية بعيدة الشوط.. تجرب وتتعلم وتبدع وتقترح شيئاً جديداً. وبخاصة العقول الأكاديمية واسعة الرواج، فالأكاديميات مؤسسات تعليمية ثقافية بالضرورة، ولكنها في شرقنا الميمون تحافظ على انغلاق الفهم والإبداع، لا تسمح بالخروج عن النمط السائد المتوارّث من أجيال إلى أجيال. لأنَّ حرية الفكر والابداع شرطٌ ضروري، لكي نعرف الفلسفات، بل شرط لازم لتقديم الجديد، غير أن الآليات وطرق التدريس تقليدية حد الاختناق.

وليست مصادفةً أن المبدعين الكبار في عالمنا العربي قد مروا لماماً على تلك المؤسسات، بينما قضوا جل تجاربهم العلمية خارج البلاد العربية. المصادفة هي مناسبة قومية كانت تحدث تاريخياً تحت مسمى نقل العلوم والمعارف وتحديث المجتمعات. لكن لأنَّ تلك المرحلة طالت كثيراً، فقد باتت مجتمعاتنا قابعة في طور النقل. هذا (الطفرة المنتظرة) لن تحدث بالنقل والمعرفة على ما سبق، ولكن بابداع ثقافة وحضارة تتقدم طريقها بين جوانب الحضارة الكونية السائدة. أن نكتشف في وجودنا الخاص ما يجعلنا أصحاب اسهامات كونية بالضرورة، أنْ نطفوا على سطع العالمفي مجالات التميُز والتقدم.

الأكاديمية تحت التساؤل... هكذا لابد أنْ توضع، حتى وإنْ كانت معقلاً للترجمات والمشاركة في التأليف والتعليم. لأنَّ الأكاديمية تحولت تحت جُنح الظلام إلى مذهب ونزعة لها سطوتها وقدرتها على الخداع واستنفاد الطاقات. ومن الواضح أنّها لعبة المجتمعات الراكدة مع ذاتها، بحيث تخلق كيانات بديلة تبدو حيادية، غير أنها تنفذ بدقة ما يُراد لها من المحافظة على الموروثات وقولبة العقول. ولذلك ليس غريباً: أن الجماعات الإرهابية والأيدبيولوجيات المتطرفة كانت (تعشعش) في دهاليز المؤسسات الأكاديمية. إنها معقل(العقل المؤدلّج) المضاد للترجمات والثقافات الكونية بحجة أنها خطر على الهُوية ودين الأمة. مما أفقد المؤسسات وظيفتها التنويرية العامة لا النقلية. لأنّ نقل النصوص من ثقافةٍ إلى أخرى دخل القالّب الرسمي للإسلام الشعبوبي وهو الحفاظ على موروثات الأمة والوصول إلى المنابع الأولى للإسلام.

إنّ موجات الإرهاب التي هبت على العالم العربي لم تكن لا تملك بديلاً عن الترجمات وطريقة فهم النصوص، بل كانت تؤسس لوجودها تحت هذه الطبقة المعرفية التي ينخرط فيها الأكاديميون. فلئن كان تراث هيجل قد نقل، فهناك تراث المودودي قد نقل أيضاً، وإذا كانت مؤلفات هيدجر قد ترجم ، فمؤلفات وحيد الدين خان وأبي الحسن الندوي قد نقلت. ولكن عند المقارنة سنجد ترجمات هيجل وهيدجر لم تؤثر(حتى في الأكاديميين أنفسهم)، بينما ترجمات المودودي وخان قد أثرت في الأكاديميين والثقافة الشعبوية جنباً إلى جنب. يا تُرى ما السبب؟ ليس السبب عندئذ أن نتساءل حول: هل عرفنا ترجمات هيجل أم لا؟، إنما يتم ذلك بوضع الثقافة العربية الإسلامية تحت التساؤل، وكيف تفكر في القضايا الحضارية من الأساس؟ وهو ما يحتم إيجاد شيء مختلف يقرأ أنفسنا ويكشف عن ثراء وجودنا الممتد. عندئذ سنكون قد عرفنا حال الترجمات وصورتها على مستوى الوعي العام. إنك بصدد كانط تستطيع أن تناقش أفكاره مع الناس العاديين على مقاهي برلين ونوادي باريس وعبر شوارع لندن وحدائق نيويورك، ولكنك في الوقت نفسه لا تستطيع أنْ تطرحه في ندوات ثقافية أو فكرية في عالمنا العربي. لسبب بسيط أنّ كانط أصبح جزءاً من تراث حركة الحياة العقلية اليومية في بلاد الغرب. لكن فلاسفة الغرب الكبار في بلادنا مجرد (إكسسوارات خطابية discursive accessories) لأصحاب المودات والتقاليد الفكرية والندوات الليلية تحت أضواء السلطة. فأفكار هؤلاء الفلاسفة الذين ملئوا العالم صخباً لم تنبت داخل تربة ثقافتنا الأصيلة والأكثر رسوخاً مما نتصور.

س10- أ. مراد غريبي: أسئلة عديدة وكما عبرتم عنها "ملعونة أو محذوفة" (في/من) اهتمامات الثقافة العربية اشتغلتم عليها ضمن سياق رسم مقومات فكر فلسفي جديد وتحديد فلسفي لعدة أفكار وأوهام ومقولات خلقت ذهنيات التخلف، ترى ما هي مبررات صوغ سؤال الراهن العربي: لماذا ينبغي لنا اليوم أن نعيد للفلسفة مشروعيتها؟ وكيف؟

ج10- د. سامي عبد العال: لم تعد الأسئلة المحذوفة بخافية على المتابع الواعي، بل هو نفسه لمجرد أنْ يتابع دبيب الأسئلة في أزقة العقل العربي سيكون موضع اتهام.تحديداً سيوضع تحت المُساءلة وسيحذف من خانة الاعتراف به. هذا العقل أشبه ما يكون بمدينة ضخمة لا نعلم عنها شيئاً، ولكنها مليئة بالكواليس والرهانات الثقافية والبيوت العتيقة والدهاليز الملتفة، إنَّما يبدو من بعيدٍ ومن أعلى ليس هو المتاح بين الردهات والانحناءات البينية وليس هو التقاطع المنتظر على خريطة الأحداث. لأنّه عقل غريب يتخفى أمام الأنظار حتى من نفسه، ويعتبر التاريخ ممتصاً في باطنه، وليس لديه ما يكون واضحاً حتى مع ذاته. يعني لوقلنا أنَّ الشفافية أمر مطلوب، فلن يتوانى العقل العربي عن رفع شعارات الشفافية. ولكنك في النهاية لن تجد شيئاً، لن تعثر على ما يشفي غليل الشفافية من تاريخ الإخفاء والمداراة.

الأسئلة المحذوفة deleted questions هي الأسئلة المسكوت عنها، التي تطرح في العراء الثقافي، ولا أحد يستطيع أنْ ينسبها إلى نفسه. ويستطيع كل الناس طرحها إمّا بلسان الحال أو بلسان المقال، وتتطاير من مكانٍ إلى مكان آخر. وثمة عبارة متداولة لدى الخطاب اليومي إزاء من يلح في الاستفهام حول ما يريد، وعندما لا يجد إجابةًيقول:(هو السؤال حرم؟). والمقصود بها أنّ هناك محرمات ثقافية، فلا تسأل عنها، وحتى عندما تكون متيقظاً وتعيد التساؤل عن ذلك، فعليك أنْ تُواجه سلطة المنع والحظر.وتلك الطريقة في التعامل مع الأسئلة نابعة من تأميم المجال العام بفضل القوى الغالبة سياسياً ودينياً وأيديولوجياً واجتماعياً.

المجال العام لدينا نحن العرب أحد المحرمات المنقولة إلينا بعد قرون. فمفهوم الجامعة والأمة والإجماع ثم مع الحداثة مفهوم الدولة.. كل هذه المفاهيم لا أحد يستطيع التكلم عنها.. مع أن الحاصل كون الممارسات كاشفة لطبيعة النظام العام. والممارسات متاحة لجميع الناس سواء أكانوا فاعلين أم مفعولاً بهم كما في حالات الديكتاتورية والاستبداد.

أرى أنَّ الفلسفة بحكم طبيعتها التي تخص الإنسانية فينا بإمكانها أنْ تستفهم القضايا الصامتة بوضوحٍ. على الرغم من كون الأسئلةَ ستكون أسئلة ملعونةً كما حدث مع الحلاج الذي أودت بحياته أسئلة حول سلطة الفقهاء وحول فكرة المقدس الشعبوي، ولماذا يمسكون رقعة النص الديني من طرف ويمسكه الحاكم من طرف آخر تجاه الرعية. وكيف لا يكون هناك فهم أكثر جسارة روحانية ووجودية له؟ الله يتقبل البشر ويرزقهم دون النظر إلى ما يعتقدون فيه ودون الإلتفات إلى ما صنعوه بحياتهم. ومع ذلك لم يسلم الإنسانُ من اللعنة التي يسلطها المجتمع على اتباعه لمجرد استفهامات واردةٍ. كلُّ سؤالٍّ يسكن مناطقنا الصامتة سيكون متعلقاً بلعنةٍ ما، ماهية الفلسفة أنها نبّاشة لقبور اللعنات في مجتمعات لا تقدّر الأحياء. لابد للأحياء أنْ يموتوا حتى يجدوا مكاناً لائقاً بهم، على الإنسان الحي أن يحمل كفنه على قارعة الطريق لعلَّ وعسى أن يجد موقعاً بين الناس. فالأموات محل تقديس، الأضرحة محاطة بكم من التبريكات والأقوال التي تُمجد من بداخلها بينما تذهب اللعنات للذين يعمرون الأرض باحثين عن الحريات!!

إنه الثأر الخفي مما ينتظرنا في الغد، كأننا قد فعلنا فعلاً محرّماً يستحق الموت من قبل أنْ نُولد. هناك عادة انثروبولوجية في صعيد أرض الكنانة: أنَّ من قتل شخصاً - ويريد أن ينال عفواً من أهل القتيل- عليه أنْ يحمل كفنه بين يديه مقدماً إياه لهم أمام جُموع البشر.أي أنه على رؤوس الأشهاد يعلن الثأر من نفسه وقتلها قصاصاً مما فعل. وإنْ رغب أهل القتيل ذلك الفعل الاستباقي، قبلوا بهذا الخضوع لإرادة الثأر بينهم وعفوا عن القاتل، وإنْ لم يردوا ذلك، رفضوا هذا القربان الرمزي فداء لشخصه المُراد النيل منه. والأمر نفسه بهذه الطريقة مع الأسئلة الملعونة، إذ تصبح كأنها (ولائم رمزية) لأكل عقول الناس دون اجابات واضحة حول التنوع والاختلاف والحق في الوجود والحقوق الإنسانية المختلفة. فهذه الأسئلة تجر المشاكل والمتاعب على منْ يطلقها مصادفةً، وكذلك تجعله تحت المراقبة الدائمة من سلطة المجتمعات المختلفة. هذا على الرغم من كونها أسئلة يعاني منها الناس ولا يجدون إجابة شافيةً لها.

هذه المهمة في إطار الفلسفة أسميتها التساؤلية questionism، وأزعم أنني قمت بنحت المصطلح وتحويله إلى نص وممارسة داخل ملابسات وظروف الأسئلة التي ممكن طرحها أو الموجودة في سياقات مختلفة. والتساؤلية طريقةٌ معينة لها آليات واستراتيجيات لمعالجة القضايا وبلورتها الأسئلة. وليس كلُّ سؤال يمكن أنْ ينال الانتماء إلى التساؤلية، فلابد أن يكون سؤالاً جذريا وأنْ يكون مسلحاً بمجموعة من المفاهيم التي تمثل خلفياته، وأنْ يفتح أفاقاً جديدة متحررة مما يقيدها وأن يعيد إلقاء الضوء على موضوعه. والتساؤلية اتجاه طمُوح لتكوين رؤية فلسفية قادرة على طرح المشكلات. وبخاصة أنَّ الأسئلة أكثر أصالة من الإجابات كما أنَّ الأسئلة تعيدُ تكرار نفسها حتى تخلخل الأوضاع المضروبة حولها وتفتق أغلفة الصمت المحيطة. ودوماً هناك فارق بين أنْ تسأل سُؤالاً من أجل إجابةٍ ما، والتساؤل القادر على تحريك الفكر وتحديد السياق الذي ينتجه وقدح زناد العقل.

ومن زاوية الاستفهام عن مشروعية الفلسفة، فإنها ستتحقق بناء على مشروعية الممارسات الفلسفية التي تنبع من ذاتها. إنَّ الفلسفة - دون غيرها من الأنشطة الفكرية- تحمل مشروعيتها من واقع المسئولية عن الإنسان. وإذا تمَّ تقنين هذه المشروعية، فهي مشروعية ناقصة، ولن تستطيع عمل أي شيء بالإطلاق. وفي حالة النظر إلى الوراء، سنجد أن كل العصور التي أمسكت فيها سلطةٌ معينةٌ حدود الفلسفة كثيراً ما باءت الأخيرة بالفشل الذريع. وحدها الفلسفة أمّا أنْ تحمل قدرها ومصيرها داخل وجودها المفتوح وإمّا أن تقع طريحة القيود. وطبعاً الحرية شرط ونتيجة للفلسفة حتى ترسخ ممارساتها المفيدة جداً للمجتمعات، لأنَّ الفلسفة تتحين الفرص لرسم آفاق الحياة، وتسهر على "عقد اللقاء" بين كافة العقول الحرة لمصلحة الإنسان.

وطبعاً لا يتم ذلك بخبط عشواء، ولكن المشروعية تتطلب نضالاً من أجل بناء العقول، ويجب أن يشارك المجتمع في زيادة رقة الفرص للفلسفة مثل تدريسها في مراحل مبكرة الأطفال، وكذلك الاهتمام بالفلسفة في مشكلات الحياة المشتركة وكذلك في تحديد الأخطار التي لم تنتبه إليها المجتمعات وأن تقترب أكثر من مراكز دعم واتخاذ القرارات. فالفلسفة ستقول ما لا يمكن قوله، وهذا يتطلب جسارة القول، وكذلك أنْ تذهب إلى أقصى نقطة حيث لا يذهب غيرها. كل الفلسفات تهيئ أجواءَ الانتظار والتمرُن على حياة أفضل، التفلسف تدريب متواصل على أنْ يكون العقل معياراً ومشرعاً.

س11- أ. مراد غريبي: عرفت الفلسفة في العالم العربي بروز مشاريع فكرية كبرى مع كل من نصر حامد أبوزيد، محمد عابد الجابري، محمد أركون، حسين مروة،حسن حنفي، عبد الله العروي، طه عبد الرحمن وغيرهم كثير... تناولوا اسئلة التراث والحداثة، التاريخ، الهوية والآخر، التسامح والحوار والحريات، النص الديني والخطاب والعقلانية وما هنالك من مفاهيم واشكالات مهمة... بنظركم: هل هناك معالم تشكل نسق فلسفي عربي، أْم إن الأمر لا يعدو أن تكون اجتهادات فردية عابرة بالفلسفة؟

ج11- د. سامي عبد العال: تعدُّ مشاريع المفكرين المعاصرين أبرز معالم الفكر العربي، وهم أسهموا في تحريك المياة الراكدة بالفعل. والقضايا التي تفضلتم بها قضايا دالة على قلق الوجود بالنسبة لمن يعنيهم هذا الأمر. هي قضايا شائكة تدخل نطاق التأسيس لشيءٍ قادم لم يأتِ بعد. وبالرغم من انتظار هذا الذي لم يأتِ بعد – بتعبير صمويل بيكت- إلاّ أنه مازال هناك.

مشكلة تلك المشاريع فلسفياً أنها جاءت في الوقت الخطّأ، لأنَّ الفلسفة كفلسفة لم تطرح هذه الموضوعات، وفي الوقت عينه تتميز بآليات وإشكاليات تنتمي إليها موضوعاتياً. فالنص الديني ليس مقصوداً لذاته من طبقة هؤلاء القراء للتراث، إنما الفلسفة تعنى بحركة الإعتقاد وماهيته وجوهره البعيد. وليفكر من يفكر في تجديد النص أو غيره، فهذا التجديد قد اختزل الدين، وجاء بالإنسان من كل حدب وصوب في دائرته... ولو دافع أحدهم عن هكذا تفكيرٍ، فما هكذا تورد الأبل يا فلان أو علان!!

إن المشاريع المشار إليها تقف عند محدداتها الخاصة، وكل مشروع طالما يناقش قضاياه في حدود الدين، فقد التزم بمرجعيةٍ ما يراها أفضل من سواها. ولو حدثَ ذلك الأمر بالسلب، أي بالنقد والتحليل، فإنه يمتلك نسخة دينية موجبةً ويراها أولويةً فيما ينتقد. والفلسفة عندما تحدد طبيعة تلك المشاريع، فلن تسمح لأغلبها بالمرور، لكونها لا تجد ذاتها حرةً، فقد تم تكبيلها بما ليس فلسفةً من الأساس ذاته. ليس هناك مبرر لمحاكمة الأنشطة الإنسانية دون العناية بالخروج من الآفاق التي كانت سبباً في تأخُرها وجُمودها. لقد غرقت المشاريع الفكرية في تأكيد اللافلسفة non - philosophy من تعليقات هامشية وعدم السهر على تقوية النَفَس الفلسفي فيما تقول.

ويمكننا تحديد (ايجاباً وسلباً) بعض المعالم التي يصعب تصنيفها في خانة الفلسفة:

1- الاستغراق في مناقشة قضايا دينية وسياسية ومعرفية بطريقة عقلانيةٍ أو على الأقل بدواع عقلانية كما هو معلن.

2- تظل المشاريع مشاريع حالمة مدفوعة بالرغبة في تجديد الفكر العربي.

3- التأثر بصيغةٍ ما بالفكر الغربي في مجالات الفلسفة والإجتماع والانثروبولوجيا ودراسات الابستيمولوجيا والوعي والتاريخ.

4- الاسهاب في عرض التفاصيل في مؤلفات هؤلاء المفكرين، وكأنهم يقدمون دراسات حالة casestudies. والمشاريع أقرب إلى نتاج العلوم الإنسانية دون أنْ يكون جوهر الفلسفة حاضراً بتمامه.

5- ترديد أصداء بعض التقاليد في المعالجة وأدوات الطرح، حتى بالنسبة لنقد العقل أو العقل والثورة أو الجوانب المادية في الفلسفة الإسلامية. هناك نماذج غربية وآثار لهذه النماذج على الضفة الأخرى من العالم.

6- سيادة النزعة الاختزالية reductionism، أي اختزال التاريخ بكافة تفاصيله وتنوع جوانبه في ضوء فكرة واحدةٍ لتعُود الأخيرة منطبقة على كافة المجتمعات العربية.

7- التطلُّع إلى حياة فكريةٍ أفضل وتجديد أصولها وتلك نقطة إيجابية مهمة.

8- عدم ملاءمة المنهج للموضوع المطروح في أغلب الحالات. أي أنه عندما يتم قراءة النصوص المؤسسة للإسلام بمنهج قراءة النصوص، وكأنها نصوص خام بجانب مثيلاتها في الآداب والثقافة،فهذا يؤدي إلى نتائج غير متسقة مع المقدمات.

9- رسخت المشاريع الفكرية استبصارات ثقافية نافذة لفهم التراث العربي الإسلامي.

10- أخذت المشاريع خطوات فكرية جسورة لفتح ملفات قديمة وحداثية في الوقت عينه وباتت أكثر ثراء نتيجة الإفادة من منجزات العصر.

وإذا كانت هذه سمات مشتركة بين مشروعٍ وآخر، فالمشاريع تتميز حقاً بالطابع الفردي، حتى أصحابها يظلون ناظرين إلى أنفسهم كأنهم في جزر منعزلةٍ. وقد تحدث حوارات بين أحدهم والآخر كما جرى بين حنفي والجابري (حوار المشرق والمغرب)، غير أنه كان حواراً كاشفاً لمناطق الخلاف أكثر من الاتفاق، وأظهر أنّ الشقة قد تتسع في أي وقت من الأوقات. كما لو كان قطبا المشرق والمغرب على جبهتي صراع غير قابلتين للإلتئام. والغريب أن يدعو حنفي والجابري للحوار تحت لافتات مشرقية وأخرى مغربية، والكلام بينهما غير مقنع ومليئ بالإشارات والايحاءات الثقافية التي تقلل من طرفيه معاً... فأي حوار هذا إذا كان طرفاه يصنفان بعضهما البعض منذ انطلاقه حتى نهايته؟! أي حوار هذا طالما يتم افتعال موضوعات يسهل خلالها التصنيف والتكلّم المستمر عن الخلاف.

س12- أ. مراد غريبي: ما موقفكم من راهن الفلسفة الإسلامية؟

ج12- د. سامي عبد العال: سؤال مُحيّر بالفعل، لأنّ راهن الفلسفة الإسلامية يُمزق القارئ بين قديم قد ولّى بمشكلاته التي أثيرت مثل: قدم العالم وحدوثه، وجود الإله وطبيعة النفس والحياة والعلل .. وهذه قضايا استنفدت اغراضها، وبين راهن قد شهد اختفاء مصطلح (فلسفة اسلامية) إلاّ في قاعات الدرس والتعلُّم.حيث انسحبت الفلسفة الإسلامية إلى مجالها الضيق، بعد أنْ طغت عليها الأيديولوجيات المتأسلمة. وحل الشعار، وحلت الخطب الرنانة وحل خطف الوعي مكان العقل وباتت (المسكوكات الاصطلاحية) لها الأولوية على التحليل والتنظير الفلسفي الهادئ. لقد تمَّ غلق باب التفكير تحت ادعاء أنها قضايا لم تعد ذاتَ بالٍّ في حياتنا المعاصرة.

ولم يكن ذلك الحال اعتباطاً، لكنه نتيجة المطاردة التاريخية من سلطة رجال الدين لجوانب التفكير الحر، وهم الذين كفروا الفلاسفة تارةً ونشروا جوّاً من الإزدراء تارةً أخرى. في الآن نفسه، كانت اسهامات المستشرقين ودارسي الحضارة العربية الاسلامية كبيرةً، بل أنتجوا دراسات مهمة جداً. فهنري كوربانHenry Corbin على سبيل التوضيح، وهو أول مترجم لكتاب مارتن هيدجر الأم (الوجود والزمانSein und Zeit) من الألمانية إلى الفرنسية، راح يبحث عن فلسفة مماثلةٍ في الشرق، فكتب حول التصوف في إيران وتاريخ الفلسفة الإسلامية والخيال الخلّاق عند ابن عربي والتصوف والفينومينولوجيا. وكل ذلك انتج أفكاراً مدهشة بين روحانية وتصوف الشرق الاسلامي ورؤى الغرب للحياة والعالم.

وإذا كان هنري كوربان مثالاً من بين أمثلة متعددة، فالمشكلة مازالت كامنة في راهن الفلسفة الإسلامية. أتصور راهنية الفلسفة أيا كان جنسها لابد أنْ يتبعها راهنية التفكير في المشكلات وكيفية تطويرها وإدخال مناهج جديدةٍ لإعادة النظر والاختلاف. وليس هذا فقط، بل يجب تجديد الموضوعات والمشكلات. فهناك مشكلة التعددية الدينية وكيفية إيجاد أساس فلسفي لها وهناك مشكلة الحقيقة والاعتقاد ولماذا ترتبط الاثنتان وعلى أية مستويات تؤثر احداهما في الاخرى. وهناك مشكلة الايمان والدين والواقع الافتراضي، وما دور الأديان بالنسبة للإنسان في منظوره الأوسع من التدين الضيق المحدود. وهناك مشكلة الدين الافتراضي والميتافيزيقا والفضاءات التواصلية وهناك قضايا العلوم والأديان وتفسيرات الطبيعة.

لم تدخل الفلسفة الاسلامية تلك الدوائر الحيوية لحياة المسلمين المعاصرين، إنما آثرت الانزواء وراء قضايا تراثية لم تبرحها إلى الآن. وأظن أنَّ هذا التغيُر يتطلب تحويل الفلسفة الاسلامية من مبحث في الإلهيات إلى مبحث في الإنسانيات بجانب مناقشة الإلهيات والطبيعيات والسمعيات على أسس فلسفية وثقافية تواكب حركة العالم وتطور التكنولوجيا والواقع الافتراضي. كما عليها أنْ تستفيد من دراسات واتجاهات العلوم الإنسانية في الانثروبولوجيا وعلوم النص والقراءة ونظريات الفيزياء والعلوم اللغوية والعلوم الشبكية ونظريات البيئات الافتراضية والتطورات في تلك المجالات الراهنة.

الغريب أن دارسي الفلسفة الاسلامية لا يُشق لهم غبار في المعالجة التراثية لقضايا الفلسفات الاسلامية حتى الآن، معتقدين أنَّ معالجةً بهذه الصورة إنما تحافظ على الهوية وعلى نصاعة الدين من الانحراف والزيغ، إلى درجة أن طريقة الكتابة والتحليل لا تخلو من ترديد سلفي للأفكار. حيث باتت السلفية في الفلسفة الاسلامية هي السائدة. مع أن الفلسفة تفتح أبواباً أكثر تهدم تلك النزعة الماضوية.

وهنا لابد لهؤلاء أنْ يفرقوا بين أربعة أشياءٍ:

أولاً: تاريخ الفلسفة الإسلامية الذي يدخل حيز التراث بامتياز، وأن ما يوجد هو جزء من الزمن والمشكلات التي كانت مطروحةً في سياقها.

ثانياً: ابداع آفاق مغايرة وإضافة تاريخ آخر. لأنَّ الراهنية تكسرُ الحدود بين المعارف وتلتقط الأحداث والقضايا التي لها علاقة بالفلسفة الإسلامية وتدخل في مجالها.

ثالثاً: الانفتاح على علوم العصر، وعلى اتجاهات الفلسفة إجمالاً. لأن المشكلات قد تكون محدودة، ولكن المناهج والأبعاد الفلسفية عامة ونستطيع الإفادة منها في الفلسفة الاسلامية.

رابعاً: تغيير طريقة وأسلوب التحليل في الفلسفة الاسلامية، فبدلا من أساليب(البلاغة العقدية)، ستكون هناك لغة الخطاب والقدرة على ابتكار أساليب ومفاهيم تناسب عصر الديجيتال.

س13- أ. مراد غريبي: هل اشتغالكم على أوراق فلسفية غربية خاصة الفرنسية منها دراسة أو ترجمة، كان بهدف تقديم عرض عن العقل الغربي وتوسيع آفاق العقل العربي الإسلامي؟

ج13- د. سامي عبد العال: الاشتغال على فلسفات غربية هو تخصصي الاكاديمي، ويضاف إلى ذلك رغبتي في التعرف الدقيق والدؤوب على جوانبها، والأهم هو الاطلاع طويل الأمد والتفصيلي على أخر المستجدات الفلسفية، ومحاولة الإسهام مستقلاً عما يجري من تكرار حولنا. وقد وضعت لنفسي مجموعة من الأسئلة: كيف تتجدد الفلسفات في العالم؟ وبأي منطق تبدو قوية ومشاركةً في الحياة والثقافة الأصيلة؟ وما أبرز آليات الفلسفة التي تشتغل في سياقها وخارج سياقيها بالمثل؟ وهل الفلسفة المعاصرة تختلف عن الفلسفات القديمة؟ وإذا كانت كذلك، فماذا عساه أن يكون الإختلاف؟ إن الفلسفات الغربية الآن عبارة عن فضاء حُر لمعرفة الأساس الفكري للمشهد وللحضارة الكونية. ونحن نعلم أنَّ أهم فلاسفة معاصرين يتكلمون الفرنسية، وأن فرنسا- دون مغالاة - استطاعت في النصف الأخير من القرن العشرين حتى الآن أن تقدم فلاسفة غطوا مساحة القارات الست نشاطاً وفكراً.

مثل ايمانويل ليفيناس وجاك دريدا وجان بودريار وفرانسو ليوتار وآلان باديو وجاك رانسيير، فهؤلاء أنتجوا نصوصاً كونية طفت على خريطة العالم شرقاً وغرباً. فالتفكيك deconstruction كان أكثر شهرة ورسوخاً في الولايات المتحدة واليابان بشكل أعمق من فرنسا بلد المنشأ وفي تلك القارات أبعد من قارة أوروبا. والخطورة التي قد يمثلها التفكيك كونه يشتغل بالفكر الذي يوجد في سياقه كما لو لم يُوجد إلاَّ في هذا الموقع الثقافي دون غيره. لقد اشتغل عليه فلاسفة من انحاء العالم (جياتيري سبيفاك الهند، هومي بابا، جوليا كريستيفا وجان لوك نانسي فرنسا، بول دي مان وبربارا جونسون أمريكا).

وإذا كان هذا المشهد إزاء محاولة فهم العالم وطبيعة تحولاته هكذا، فالفلسفة هي خريطة سرية لكافة المشاهد الأخرى التي تحتاج إلى تفسير. والفكر الغربي يعبر عن ذاته بصورة قوية ويمتلك أدواته للتعبير عن ذلك من مرحلة لأخرى. ولكن المعضلة بالنسبة لي دائماً ليست هذه النقطة، لكنها كانت في معرفة لماذاذلك، وكيف يتم تجسير الهوة بين سياقنا العربي والفكر الغربي. وبخاصة أنك عندما تتخصص في مجال كهذا، تلاحقك الأسئلة من أقرب الناس إليك إلى أقصاهم: ماذا ستتجاوز تراكم التصورات غير المريحة تجاه الغرب؟ كيف تفك شفرات تلك الفلسفات وكيف ستقدمها للآخرين؟ وماذا عن صعوباتها المتعددة التي تحتاج إلى رؤية أخرى؟.. وهي أسئلة لا تبتعد عن الحالة التاريخية التي تضبط مؤشر الوعي تجاه الثقافة الغربية والشرقية.

مع أن كل الأسئلة لا مبرر لها، لأننا شئنا أم أبينا لابد أن نفهم ما يحدث على مستوى العالم فلسفياً. وأنه قد تتعطل آليات الفهم لكنها ستلاحق الأجيال وتفرض أوضاعها عاجلاً أم آجلاً. وبعض الناس – ولاسيما المتخصصين- يأخذهم الشطح باعتبار الفلسفات الغربية المعاصرة أحد وجوه الفوضى العارمة في العالم، لكنهم لا يدركون ان الابداع الفكري ليس له حدود وأن الفوضى التي يتحدثون عنها هي التي ترتب حياتهم وتحدد طرائق تفكيرهم. وقد يتناسون أن ذلك الانتاج الفكري سيمارسونه بلا وعي مع التكنولوجيا والعولمة والتيارات السياسية والثقافات العابرة للحدود والمودات التي تجتاح العالم في الأسواق والتجارة والمعارف والأزياء والعمارة والطب وانماط السينما وغيرها من أشكال الحضارة.

وعلى أهمية الفلسفات الغربية في الحياة المعاصرة إلاَّ أنها لن تقلل الفجوة بين العالم المعاصر والفكر العربي. لأن الفكر العربي يعبر عن اشكاليات المجتمع والدماغ الثقافي ، ولن يكون هناك فكر بديل يحلل تلك الاشكاليات بالإنابة. فلو أخذنا مشكلة (التعددية الثقافية cultural pluralism) على سبيل المثال: سنجد كونها قضية في متن الحياة الراهنة، وربما لو قلنا لأحد المجتمعات: لماذا لا تعترف بالتعددية الثقافية؟، لقال لأنها موجودة تلقائياً ولا تحتاج إلى حلَّ، بل لن يُعترف بكونها مشكلة من الأساس!!

لم يعترف العقل العربي يوما بمشكلاته ولن يعترف فيما يبدو، وتلك نقطة مبدئية جداً. العقل العربي يعتبر المشكلات من قبيل العيب والفضيحة، إذا ما وضع نفسه على كرسي الاعتراف. ربما لو أخذ بالاعتراف يوما ما، فسيكون هذياناً تحت تأثيرات التخدير الجمعي أو فقدان الوعي نتيجة ضربات الأوضاع الصعبة. ولكنه عندما يستيقظ، سيتنصل مما قال فورا وسيلتمس كافة الأعذار آسفاً على ماحدث (كما جرى بعد عواصف الربيع العربي). دوماً الاعتراف لدينا تحت قهر الواقع أو تحت ضغوط شديدة الوطأة، وليست تمثل اتجاهاً مباشراً لأجل إصلاح الأحوال والتهيؤ لما هو أتٍ، وافساح المجال لحقوق التعدديات الثقافية والإنسانية في حياتنا المشتركة.

س14- أ. مراد غريبي: ما تقييمكم للدرس الفلسفي في الجامعات العربية اليوم، وأخصّ بالذكر المنطق والأنساق الفلسفية الحديثة والمعاصرة ومدى الاستفادة منها؟

ج14- د. سامي عبد العال: الدرس الفلسفي في الجامعات العربية من جنس مكانة الفلسفة في مجتمعاتنا، قد تحدث له انفراجة يوما ما ولكنه يتقلص عند التاريخ والمدونات الفلسفية الغربية والاسلامية مع وجود امتداد خطي من مرحلة لأخرى. وليست تلك دعوة لفض الأمال حول المشكلة من أول وهلة، ولكن هناك ايجابيات كثيرة. منها وجود الدراسات المنطقية والانساق المعاصرة في قاعات الدرس الفلسفي. وبخاصة أن المنطق يضبط حركة العقل ويعطينا بوصلة التفكير الإبداعي، ويوفر لنا رؤى نقدية عالية التأثير. والمنطق لا يقتصر على دراسة الفلسفة ومبادي التفكير الأولى، ولكنه يمتد إلى المعارف الأخرى.

أتصور أن المنطق مع تطور العلوم فرض وجوده بقوة على قاعات الدرس وبات أهم فروع الفلسفة. والعلوم تشتغل على المنطق على نحو أساسي، حتى أنَّ فلاسفة العلم الطبيعي اهتموا اهتماماً كبيراً بمنطق المعرفة والتقدم العلمي، وهذا تقليد رسخه فلاسفة الوضعية المنطقية، فلم يوجد فيلسوف وضعي منطقي إلاَّ وقد اسهم في الدراسات المنطقية: آير وكارناب وموريس شيلك وفتجنشتين. وكذلك فلاسفة معاصرون اسهوا في هذا الاتجاه: إدموند هوسيرل وويلارد كواين وجون ديوي. في المقابل، لم يستفد الفكر العربي من الدراسات المنطقية بما فيه الكفاية، حيث اعتبره دراسة جافة وربما منفرة عند البعض.

وظل الاسهام الأوضح لأساتذة مهمين في الجامعات العربي: د. ياسين خليل ود. عزمي اسلام ود. محمد مهران ود. فهمي زيدان ود. عادل فاخوري. وإن اكتفوا بشرح جوانب المنطق وقضاياه ولم يخرج انتاجهم الشهير من مجرد ترجمات وتفسيرات لما استغلق من مسائله وقضاياه. وأبدوا تلمذة واضحة على المدراس المنطقية التي درسوها.

إن المنطق له تطبيقات وتطورات متعددة في كافة مجالات المعرفة والأنشطة، ومع ذلك أخذنا منه جانب الشرح ليس أبعد وتعاملنا معه كما تعامل أسلافنا مع المنطق الصوري: أن يوجه العقل لمعرفة الصواب من الخطأ. وتلك درجة أرسطية مازالت تراوحنا حتى اللحظة. لأن المنطق يحتاج امتلاك ناصية العلوم التي يؤدي فيها أدواراً مهمة مثل علوم الطبيعة كالفيزياء والرياضيات والهندسة والكيمياء والبيولوجيا والفلك.

في اليوم الذي ستحدث فيه نهضة علمية كبيرة على مستوى المعرفة، وأن تجد الفلسفة خلالها خريطة أوسع مما هي فيه، سيكون للمنطق شأن آخر. ومن دواعي التفاؤل أن تمت دراسة المنطق في مجالات الحوسبة والبرمجة وتصميم المنظومات الذكية، حيث تطبيقات جديدة في المنطق الافتراضي والذكاء الاصطناعي والمعلوماتية وعلوم الشبكات. هذه التطبيقات التي أصبح لها قدرة كبيرة الانتشار والتأثير. وأصبحنا نرى تصميمات منطقية في حالات الذكاء الاصطناعي واستخداماته في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

ا. مراد غريبي: كيف يقدم نفسه الأستاذ المفكر الدكتور سامي عبد العال لقراء المثقف وللقارئ العريي؟

د. سامي عبد العال: جزيلُ الشكرِ لكم على هذه الدعوة للحوار، لأنَّ كل دعوة تُناشد وجودنا الثري والحيوي تحت نظر الآخرين، فهم قائمون بصدد ما نتكلم عنه ضمن حياتنا الثقافية معاً، وما أجمل أنْ ننفتح لثراء الآخر دون مقدماتٍ. ومع ذلك، لا يخلو الأمرُ من صعوبةٍ بالغةٍ إزاء ما أسميتمُوه: "تقديم نفسي"، لأنَّ هناك هواجس وأفكاراً متضاربةً داخل ما يُعرف بالنفس. كما أنَّ التقديم لونٌ من ألوان العرضshow. وهو أنْ أتوجّه إلى عناية القارئ بكوني" كذا .. وكذا "، على ما يتضمنه العرض من" إدعاءٍ وإعتراف". وبخاصة مع ربط (طقس كهذا) بألقاب أكاديمية رائجة أو غير ذلك. وهذا جزءٌ من اهتماماتي الثقافية والفكرية بالأساس، فما أكتُبه يشتبكُ مع النظرة السابقة اشتباكاً نقدياً حادّاً.

و"تقديم النفس" قد يفترض خطاً واحداً أراه ضامناً لمجمل التفاصيل، وربما لا يكون ذلك مقبولاً في نهاية المطاف. فكل كتابةٍ هي عملية مخاطرة بلا ضمانٍ، ويُفترض أن تُترك للزمن كي يكشفها ويعري جوانبها. على أي حال، سأتكلم عن " سامي عبد العال" الذي أعرفه تقريباً، ولم أستطع كتابته "بنفسي" حتى الآن. فأنْ أكون " أنا سامي" هو اسهامي ومشاركاتي وكتاباتي في لحظات زمنية وعبر إحداثيات فكريةٍ ونتيجة كوني (منظُوراً فكرياً) لتفاعل الظروف والمتغيرات عبر شخصي أنا. هذا الذي أترقبه من (كل تقديم للنفس) بصرف النظر عن المسئوليات والمواقع الجامعية التي شغلتها كوظيفةٍ.

أنا – مع كل التواضع- مجرد قارئ، .. بالتحديد: قارئ– كاتب له رؤية فلسفية. تلك الإزدواجية التي لازمتني منذ وعيي المبكر جداً إزاء نتاجات الأدب والثقافة والفلسفة والدين والتصوف والفنون والموسيقى والمشاهدات الإنسانية والإجتماعية. كنت قارئاً نهماً إلى حد الهوس بالكتب والأوراق، وكأنني مسئول "مسئوليةً وجوديةُ" عن امبراطورية القراءة، وكأنني شغوفٌ شغفاً صوفياً بكراً دوماً بالنصوص الأصلية والمؤلفات المبدعة عبر أغلب مجالات المعرفة. أي منذ اللحظة الأولى، كنت في مواجهة كل التنوع الفكرى والثقافي مرة واحدةً. وربما ذلك هو سبب تخصصي في الفلسفة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي. لأنَّ الفلسفة ليست محبةَ الحكمة (قضاءً وقدراً) كما يُقال، ولكن الأهم أنها قدرة مثيرة ونوعية على الرؤية خارج القوالب الجاهزة. هي بكارة الأسئلة وإدهاش الطرح، أي أنها رؤية تحركها آليات التنوع والنظرة الكلية والأبعاد الإنسانية، فالفلسفة تقول ما لا يمكن قوله في كل المجالات الأخرى. إنَّ ما هو ماثل (داخلي) عبارة عن لحظة من التنوع الخلاَّق، وكأني أريد كتابة هذه الشيء المستحيل الذي لا يتحقق بسهولةٍ من الأفكار والمواقف والمعاني.

كلُّ نص وكلُّ تجربة مقال بمثابة مغامرة فكريةٍ لا حدود لها، كما لو كانت تقف على أبواب المجهول. عندما قرأت الفلسفة أخذتني بكل استغراق حيث لا مخرج، وحاولت الإسهام فيها وفي طرح أفكار (أدفعها) لأن تكون مختلفةً إلى حدٍ بعيدٍ. فأنا سامي كحدث هو الحاصل على " الليسانس الممتازة مع مرتبة الشرف" في الفلسفة من آداب الزقازيق تكملة لمسير التفوق العلمي في المراحل التعليمية الأولى، وهو الذي كان طالباً محاضراً في الوقت نفسه، حيث اعتاد منذ مراحل التعليم الأولى على إلقاء المحاضرات وتحليل القضايا والحرص على التجوال الثقافي والمشاركة في الصالونات والندوات. وهو- هكذا بضمير الغائب- الحاصل على ماجستير في: "نظرية العلم"، وهو كذلك منْ كتب رسالة الدكتوراه في: "تفكيك سيميولوجيا اللغة عند جاك دريدا" حتى نال درحة الأستاذية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

وإذا كانت لذلك أيةُ ميزة تُذكر لسامي عبد العال، فهي تُجدد عقد اللقاء مع إزدواجة القراءة والكتابة. حيث أثارت شغفي الباكر بكتابة الإسهامات الأدبية في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي والفني، ثم كتابة الأبحاث والدراسات والنصوص الفلسفية. أكبر الخدع هي هذه التصنيفات التي تغتصب ما نفكر فيه، أنا شخص غير مسكون بالتصنيفات المعرفية ولا أطمئن إليها حتى تعترف بما وراءها. وفي جميع ذلك، تمثل الكتابة بالنسبة لي تجربةً وجوديةً خالقة لعالمها الرحب، حيث أحرص على وضع الموضوعات (وضعاً مختلفاً) عما يعهده الأخرون، ولهذا الوضع قدرة خاصة على أن يفتح أبوابها ونوافذها تجاه المختلف.

بهذا المعنى، كتبت حول قضايا إشكالية تدخل في دوائر عدة: السياسة واللغة والتسامح والسؤال وجسد اللغة والفلسفة والهوية والواقع الافتراضي والثقافة وأنماط الإنسان وغيرها مثل نصوصي التالية: " فلسفة السؤال 2007"، " نقد فلسفة التسامح 2008"، " ميثولوجيا المواطنة: استعارات الهوية في الخطاب السياسي 2010"، " الحدث والخطاب: دراسة في فلسفة الثقافة 2013"،" فلسفة الجسد الإفتراضي: تحولات العلاقة بين الجسد والسلطة 2014"، " آلهة الحرب: عنف التأويل الديني 2016"، " أنطولوجيبا التفاهة: سؤال اليومي في عصر ما بعد الحداثة 2017" , "وجه الآخر: القراءة والهبة 2021"، " العقلانية المرحة: ابتهج بأسئلة طفلك 2023"، " التساؤلية : نحو فكر فلسفي جديد 2023"، ... وكتابات أخرى ستكون قيد النشر.

القسم الأول: الفلسفة (1)3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س1- أ. مراد غريبي: حوارنا نستهله في قسمه الأول بمجال تخصصكم الفلسفة: ما هي منزلة الفلسفة في عالم الرقميات والذكاء الاصطناعي، وماهي الوظيفة التي ترى أنّها ينبغي أن تضطلع بها؟

ج1- د. سامي عبد العال: الرقميات هي الشكل المُتأخر مما نادت به الفلسفةُ من عقل كوني له أساليبه التقنية والافتراضية. فالفلسفة منذ لحظتها الأولى كانت تقنيةَ خيال لرؤى العالم والحياة والوجود، رغم أنَّ هذا الخيط لم يكُّن واضحاً في تاريخ التفلسف. لأنَّ الفلسفة حاملة إمكانيات ومشرّعة لآمال البشرية داخلنا كما يُقال بلسان إيمانويل كانط، وليس شرطاً أنْ تقول الفلسفة كل شيء في وقت واحدٍ، ولكنها بالتأكيد ستضع أفكاراً مضمرة في زمن ما على أن تتجلى هذه الأفكار بصورٍ أخرى في زمن تالٍ. وتلتقي الفلسفة مع الإنسانية عبر هذا الفضاء الرحب. ومما هو مشهور عن مارتن هيدجر أنَّه كان حذراً من التكنولوجيا حين تضر بروح الإنسان، وحين تأخذنا إلى مرحلة الغسق بدلاً من أصالة فهم الوجود والعيش. غير أنَّ ذلك ليس صحيحاً بالمرة، لأنَّ التكنولوجيا الديجيتال بمثابة وسائط لإنعاش آمالنا المشتركة وممارسة الحياة بشكل أكثر جدّةً وإمتاعاً في الوقت نفسه.

بالفعل ليست إلاَّ وهماً: كل تلك الهواجس والمخاوف إزاء وجود الذكاء الإصطناعي، لأنَّ الذكاء الإصطناعي عبارة عن خيال مُدهش تشكَّل في عوالم وبيئات افتراضيةٍ تختصر المسافة بين الواقع والإمكان بضغطة زرٍ. وهو يعيد تعريف الواقع إلينا بكل أصالة. إنه المستحيل الذي حدث بالفعل عندما نفكر جديّاً في المسألة. ولذلك، فإن اللمس touch في التقنيات عبر الشاشات المصقولة والخلايا اللامعة والأسطح البراقة والسمارت ديجيتال هو المعبر عن تلك الحالة من الإدهاش. فهذه الرقميات ترتبط بالفلسفة على ثلاثة أصعدةٍ:

أولاً: الانتشار: حيث غدت الفلسفةُ واسعة الانتشار مع المقاهي الافتراضية والمنصات والمواقع الحوارية والثقافية المختلفة. وبات مستعملُو التقنيات الديجيتال على علاقة مباشرةٍ أو غير مباشرة بالفلسفة، وكأنَّ الفلسفة إحدى ظواهر الرقمنة بإمتياز. لأنك ما لم تتعامل مع الرؤى والتنوع الفكري والتداولي لن تستطيع أنْ تكون صاحب شخصية رقمية digital personality. والإنتشار ظاهرة إيجابية من واقع أن التصورات والمفاهيم الفلسفية يتم طرحها وتناولها بين المستخدمين وقد يضاف إليها من جسد الافتراض وقرائح رواد المقاهي والمنصات.

ثانياً: التحقق: إذْ أمست المفاهيم الفلسفية لصيقةَ البناء بالاستعمالات التقنية. فالميتافيزيقا أضحت مفهومة في عوالم الإفتراض والفنون الرقمية كما لو لم تفهم من قبل. وليس أدل على ذلك من مشاهدة أفلام مثل فيلم أفاتار Avatar، حتى يدرك الإنسان تلك العوالم السحرية مع الإسقاط المتخيل على الواقع. لأنَّ الوسائط الذكية تثير الخيال وتجعل الفكر محلقاً طوال الوقت مع الإبهار التقني المتواصل، وليس هذا فقط، تقنيات الميتافيرس metaverse وعوالمه المبهرة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأفكار الفلسفية. عندما عرَّف أفلاطون الإنسان، قال هو الأنثروبوث anthropos، أي الكائن ذو الوجه. فليس يعني ذلك فقط التفاصيل الجسدية لمعنى الوجه، لكن هناك استكمالاً لمعنى الوجه الذي يعيش به بين الناس ويخلق وجوهاً أخرى كشخصيات افتراضية وعوالم بإمكانها أن تكون بدائل للحياة المعتاة وظروفها التاريخية. وكل وسائط الرقميات تعد وجوهاً في المقام الأول، لأنك تستعملها بالوجه لا بالجسد ولا بأجزاء منه. الوسائط هي وجوه معكوسة لدينا حيث التأثير العاطفي والحسي لها على إعماق بعيدةٍ. إنها كذلك الوجُوه المعكوسة التي نرى داخلها ملايين الوجوه المتناسلة والمستنسخة إلى غير نهاية.

ثالثاً: التأثير: وهو يأتي من إعادة بناء الوعي بالتفكير المختلف والكلي في الآن نفسه. فكل تقنية تحتاج إلى طريقة خاصة في التعامل معها، وهذا هو منطق الأداء performance بما فيها من إمكانيات متطورة. ولنلاحظ أن هناك جانبين من الاستعمال: المستوى العادي الذي يستطيعه كلُّ الناس الذين يرتادون المواقع الإفتراضية ويستخدمون وسائط إلكترونية متداولة. وهناك تباعاً: مستوى الاستعمال الأكثر تركيباً بما يدفع وعينا للتماهي مع اللاوعي عند نقطة لا تصح العودة منها سهلة إلى الواقع المباشر. وهذا في التقنيات يحتاج اللجوء إلى الإمكانيات options المضاعفة، والامكانيات تحتاج توليفاً وتحريكاً شخصياً للعقل والفكر دون توقف... وهكذا تتسع آفاق الإنسان.

س2- أ. مراد غريبي: إذا ما أردنا أنْ نقارب معالم الفلسفة في المجال العربي والاسلامي، فأين يمكن تحديد مدارها وآفاقها؟

ج2- د. سامي عبد العال: هذا التعبير (معالم الفلسفة في مجال كذا...) يثير لدي حساسية غامضة تجاه ما نتكلم عنه، فالفلسفة تخص الجانب الكوني فينا لا الإقليمي ولا الثقافي. وبقدر ما نكُون على هذا المستوى الإنساني، سنتمكن من التحدث عن تفكيرنا. وإذا بإمكان الإنسانُ التفلسف، فلأنَّه قادر على الشعور بإنسانية عصره. ولهذا استطاع فلاسفة الإسلام والعرب أنْ يصعدوا في بعض أفكارهم إلى هذا المستوى الكلي. واللافت للنظر أنْ يكون ذلك معياراً لمعرفة معالم الفلسفة العربية الإسلامية العربية سواء في العصر القديم أو الحديث.

ولكن الفلسفة بهذا المعني كثيراً ما تعبر عن سلبيات وجودها الثقافي حين تلتصق بمعالم معينةٍ دون سواها. بل أحيانا ما تعيش كآفاق عقلية حرة على هوامش وتخوم المجال المسمى (بالعربي الإسلامي). ولذلك ليس غريباً أنْ يكون الفلاسفة (العرب والمسلمون) قاطنين فلسفياً على الحدود بين الثقافات المختلفة مثل: الحدود بين (الثقافة الفارسية والثقافة العربية)، بين (الثقافة الوسط أسيوية والثقافة الشرق أوسطية)، و: الحدود بين (ثقافات جنوب شرق أسيا والرقعة العربية الإسلامية الممتدة)، و: الحدود بين (ثقافة المشرق وثقافة المغرب في الأندلس)، و: الحدود المتقاطعة بين (رؤى المشرق ورؤى المغرب في شمال أفريقيا) و: الحدود المتاخمة بين (أسفل قارة أوروبا وجنوب البحر المتوسط وأعلى أفريقيا وغرب أسيا) .

هذه هي الأقاليم الجيو ثقافية- إنْ صح التعبير- التي نبتت فيها الفلسفات العربية الإسلامية، وتلاحقت وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الأرض عبر خرائط طولية وعرضية. حيث تعد تلك الجغرافيا بمثابة (جغرافيا التفلسف) المنتمي إلى هذا المجال، وهي ذاتها جغرافيا العقل العربي الإسلامي. وعندما تكلمت عن ذلك في أحد مقالاتي أسميتها ظاهرة: الفكر العابر للثقافات. حيث نوهت إلى كون الفلسفات العربية الإسلاميىة تجوب الآفاق بحثاً عن ذاتها، وهي آفاق تمثل قاع العالم القديم والوسيط من جهة الأصالة والتراثات الروحية والنفسية والعقلية والجسدية لكل اللغات والمجموعات البشرية الراهنة.

إن التراثات المتاخمة هي التي تشكل المجال العربي الإسلامي، حيث انتجت عقولاً مبدعة بالفعل: ابن سينا والكندي والفارابي ومسكويه والفخر الرازي وأبو بكر الرازي الطبيب وابن رشد والحلاج وابن خلدون والمتصوفة كابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، ومروراً إلى مفكري الإصلاح والتجديد: محمد إقبال وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والإمام محمد عبده وشبلي شميل وسلامه موسى. فهؤلاء جميعاً الذين يمسوّن (العقل والروح والفكر والحياة) هم عابرون إلى ضفاف أخرى بكل معنى الكلمة. وهذا بخلاف فلاسفة الغرب الذين يتخذون من الفكر ذاته كوناً يتفلسفون في أقاليمه المهجورة والممتدة، فهيدجر قارة بحالها ونيتشه قارة بحالها وكانط قارة أيضاً وهيجل قارة بحالها, وسرعان ما يهدم هؤلاء الفلاسفة الغربيون الحدود بين تلك القارات. وكأن المقارنة بين الشرق والغرب هي مقارنة بصدد ماهية الحدود والفلسفة.3749 سامي عبد العال

س3- أ. مراد غريبي: إلى اي مدى ينطبق قول الأديب والفيلسوف موريس بلانشو على منظورات الفلسفة عربيا: "الفلسفة لم يتبقَّ لها إلا الأثر أو شعرية الخراب"؟ اذا كان كذلك، لماذا وصلنا الى هذا الوضع؟

ج3- د. سامي عبد العال: ينتمي موريس بلانشو إلى جيل الفلاسفة الأدباء المؤثرين في أفق الفكر الغربي والعالمي، مثل جوته وتولستوي وفليب سولرز وسارتر وألبير كامي وإميل سيوران. وشعرية الخراب مصطلح يقع في النهايات القصوى للحياة والمجتمعات الإنسانية. إذ كلما دُفعت حياتنا إلى نقطة الصفر أو نقطة اللاعودة نحو التهور والتدهور، ستجد الخراب ماثلاً وربما شاخصاً عبر أشكال أخرى من الحياة. بمعنى أنه يلتقط الآثار التي تترتب على حركة الإنسان نحو النهاية، وكل ما يترك رواسبه على العقل والذائقة والإبداع. ولذلك يعد الخراب بفحواه الإنساني هو مرحلة الوجود عند نقاط التلاشي والتماهي، إنه درجة (عدم التميُز والتمييز) جنباً إلى جنب. وهذا جزء من تصور الفكر الغربي إزاء ذاته كما عند أزوالد شبنجلر في مؤلفه الشهير اضمحلال الغرب ونيتشه في مقولتيه" موت الإله" و" عفن القيم" وهوسيرل في أزمة العلوم الأوربية.

وكلُّ خراب يدعونا لإقتفاء الآثار tracing الحاضرة والغائبة بالضرورة، لا يوجد خراب بلا آثارٍ لشيء ما، لحياة ما، لكائنات ما مرت بوافر وجودها. ذلك هو مصدر الإثارة التي لا تنتهي في المسألة. لأننا عندما نعرف هذا الإنهيار أو ذاك التدمير سيكون علينا أن نتتبع الموقف: ما الذي حدثَ؟ وكيف حدث؟ وبأي معنى وصل هذا الأمر إلى منتهاه؟ والأهم ما معنى الخطر الكامن فيه؟ وأين نحن مما بدا كذلك؟! وهو موقف الأطلال في تراثنا العربي، والإطلال ظاهرة ثقافية إنسانية ولذلك كانت جاذبة للذائقة الشعرية وأحد أغراض الشعر المقابلة للحماسة وهي البكاء على الأطلال. وما يحدو الشعراء وأصحاب القول للبكاء هو الأثر الذي يبقى عالقاً بوجدانهم.

عندما شدت أم كلثوم بأغنية (الأطلال)، تلحين رياض السنباطي وكلمات إبراهيم ناجي المأخوذة من قصيدته الطويلة" الوداع"، كانت الكلمات وأصداؤها الغنائية معبرةً عن الأثر العاطفي والشعور العميق بالتلاشي. إن المقطع القائل: " يا فؤادي لا تسل أين الهوى، كان صرحاً من خيالٍ فهوى، إسقني واشرب على أطـلاله واروِى عني طالما الدمع روى".. مقطع فائض المعنى والتداعي، ولكنه معبر عن شعرية الخراب، هذا الفقدان الذي يشعرك بالعدم إنه عدم الوجود بملء الأثر. فكل ما تبقى هو أن يشعر الإنسان مع حالة الفقد بجرجرة أذيال الماضي والتاريخ الذي كان. هو إنسان يظل عائشاً عبر تلك الحالة الشجية كما لو لم يسر إلى المستقبل ولو خطوةً، إنها استحضار الأثر من الأمام. والإنسان دون أثر ليس إنساناً مستقبلياً.

كان ابن خلدون لمّاحاً عندما أدخل ظاهرة الخراب في علم العمران، ليمارس دوراً حضارياً لم يكتمل على يد لاحقيه، ولم نتعلم نحن ورثته مما أبتكره هذا المؤرخ والفيلسوف في تراثنا العربي الإسلامي. فلئن كان الأثر يعود بالفرد إلى ماضٍ قد سلف، فهو لدى ابن خلدون لا ينفصل عن الزمن الآتي. طرح ابن خلدون أفكاره كي يتعلم العرب ظاهرة الأثر، وكيف يحددون خرابهم الحادث أو حتى هذا الخراب المنتظر على قارعة الحياة.

أمَّا لماذا وصلنا إلى هذا الوضع من خراب بعض جوانب حياتنا الفكرية، فهناك عدة أسباب ولكن سأطرح عدداً محدوداً منها:

1- عقم التقكير لدينا واقتصاره على المجالات غير المؤثرة. وهذا نتيجة رسوخ فكرة التقليد وعبوره من مجال إلى آخر واعتباره أقرب الحلول لمشكلات مستجدة. حتى ظهرت مفارقة دالة: أنَّ المشكلات جديدة بينما المعالجة تقليدية حتى النخاع. على الرغم من أنه يفترض أنْ يكون العكس. وهذا ارتدَ على حال الفلسفة باعتبارها لا تنتعش إلاَّ في بيئات مُبدعة، ولكنها تحولت لدينا إلى معرفة تبريرية حجاجية مفرّغة من خطورتها الفكرية.

2- تشوه الوعي بالفلسفة والواقع معاً. فالفرد العربي الذي يقرأ الفلسفة ويتعلمها وينال فيها شهادة جامعية لا يقبل أن يفكر فلسفيا على نحو حرٍ، فقط بتمسك بمسلمات لا تقبل النقاش ولا يغير منظومة تصوراته حول الأشياء. وكذلك لا يُسمح له برؤية الواقع نظراً لحجبه بكم هائل من الحواجز وتغليف عقله كما هو كتلة واحدة.

3- شيوع ثقافة القطيع. والفلسفة تهرب من القطعان أينما وجدت، لأن التفلسف قدرة على قول شيء لم يكن ليقال عادةً. والقطيع ليس لديه شيء مختلف، مما جعل التميُز عملة نادرة كالكبريت الأحمر بلغة التصوف.

4- مصادرة المجال العام. نحن نعرف أن الفلسفة وليدة أجورا Agora، أي هي ابنة شرعية للسوق كمكان للتجمع الثقافي والمعرفي والحواري على نحو تلقائي. وعندما يرفع الحوار من المجال العام، فلا تنتظر سوى إنطفاء وعي الإنسان والانزواء بعداً وخوفاً من قبضة الهيمنة والسيطرة.

س4- أ. مراد غريبي: تناولتم فوبيا الفلسفة وانماط الهروب منها بالمناقشة، هل جذر الخوف من الفلسفة عربياً هو سطوة المدونات الفقهية والكلامية على العقل العربي مما خلف ظاهرة الأمية الفلسفية؟

ج4 - د. سامي عبد العال: المدونات الفقهية أفرزت مواقف متشددة تجاه الفلسفة في حياة الناس. ولكنها ليست السبب المباشر الأوحد وراء فوبيا الفلسفة، لأن خوفاً منها كنشاط عقلي كان نتيجة الهروب من التفكير واحتقاره. لقد أُسست الثقافة العربية الاسلامية على هذا الرعب بالتبني. وسمحت لكل نشاط ثقافي وديني إجمالاً أن يجرِّف الوعي بمسميات شتى، ويفرض شروطاً ضاغطة على الفلسفة. فعليها: أن تظل مهذبة فكرياً، وإياها وأن تصدر كلاماً حقيقياً، ولا مانع من تلبية أغرض أصحاب السلطة وأن تقتفي آثار الدين دون زيع ولا نقد وعليها أن تصبح خادمة للعلوم الشرعية لا تبرح مكانها. وإذا أرادت أن تستقل، فلتسمِ نفسها اسماً آخر كعلم التفسير أو الحكمة أو المبادئ الفكرية. المهم ألا تكون نفسها ولا تنفرد بها!!

الفلسفة وضعت في عالمنا العربي تحت الإقامة الجبرية، ويتناوب عليها حراس ليليون وحراس نهاريون. هكذا بهذا التداول الكوني لليل والنهار، ولا يسمح لها حتى بأن تبكي أو تنعي حالها ولا أن يسمع أحد أنينها الطويل. قد يكون هذا الحارس: رجل فقه يأخذ الفلسفة على محمل التهافت كما فعل أبو حامد الغزالي، رغم أن لديه ملكات عقلية ومنطقية جديرة بالإعتبار في كتابه تهافت الفلاسفة، ولكن الخطورة كونه قد كفرهم كما هو مشهور في تاريخ الفلسفة الإسلامية. وقد يكون الحارس الجديد فقيه آخر كابن تيمية صاحب الفتاوى وصاحب الرد على المنطقيين وصاحب الفهم السلطاني الخاص للسياسات الشرعية، غير أنه اتاح لنفسه مهاجمة الفلاسفة معتبراً إياهم فاسدي الحجج وضعيفي البراهين بصدد المسائل التي يناقشونها. وأن كل فلسفة يجب أن تقيَّد بوثاق الشرع كما يجب أن تربط برباط الحقيقة الدينية حتى لا تجمح نحو الضلال والزيغ.

وقد يكون حارس الفلسفة رجل سلطة كما جاء الخليفة العباسي المعتصم بالله متلقياً من الكندي فك طلاسم ما غمض من شأن الفلسفة الأولى، فكان الأخير فاهماً لرسالة السلطة في شخص الحاكم الأول المعتصم، وهو يدرك كونه سلطة مضاعفةً (الحاكم والثقافة)، فكتب الكندي أن الفلسفة علم الأشياء بحقائقها. ولكيلا يكون هناك داع للتبرير، فقد نصَّ الكندي على أنها تعنى بعلم الربوبية والوحدانية وهي جملة كل علم نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضارٍ والاحتراس منه واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله. والخطاب المضمر لهذا الكلام واضح لا لبس فيه: فإذا كانت شجرة الفلسفة مصدر قلقٍ، فلا داعٍ لذلك التوجس، فهي معروفة لدينا من قبل، ويمكن غرسها في تربتنا الثقافة تحت اسماء علوم نافعة تختص بالربوبية والتوحيدية، أي ستعلن التوحيد معنا وستشاركنا العقائد، وستكون لنا خيرَ معين على ما نؤمن به. وبالرغم من كون هذا الأمر قابلاً للنقاش، لكن المهم في ذلك هو رفع الكندي المعاني على جناح اللغة إلى رجل السلطة. وبالمقابل يحاول الحاكم أنْ يطمئن على (دولة العقل) في الخلافة العباسية وكيف لا يتسرب إليها ما يعكر صفو المزاج الثقافي السائد، حتى يضمن الحاكم ولاء كافة الأقاليم الرمزية (المعرفة والفكر) والأقاليم المادية في الحياة العامة.

وقد يكون أيضاً حارس الفلسفة رجل فكر محاطاً بهالة من الكهانة والدروشة، إذ يحرص على استعمال الفلسفة لأغراضه الخاصة زاعماً قدرته على تحويلها إلى "دكان عطارة"، عطارة الأعشاب والوصفات الأيديولوجية والنفسية والمقولات العامة التي يتدثر بها من وقت لآخر. وفي هذه الحالة ليس يجدي تخليصها من عباءته، لكونه يتكلم بسبعة ألسن وله امتداد في كل جامعة ومؤسسة تدرس الفلسفة، ولا يخلو الوضع من إطلاق تلامذته لبخور التبجيل والتقديس لذاته قبل الفلسفة. ومن سوء حظ الفلسفة أن أكثر الضربات الموجعة تأتي من أهلها ومن فساد عقول منتحليها.

حين يشعر الناس بفوبيا تجاه الفلسفة، فالأمر له واقع بالفعل، فضلا عن أن الإنسان لدينا لا يعمل عقله، بل يسير خلف السائرين في مواكب السلطان تاركاً كيانه عند أقرب ناصية. إنه العداء الدفين تحت جلد الثقافة الشائعة لكل ما يدعو للتفكير، وهو ما يحول دون خطط التنمية والإبداع وتطوير المجتمعات العربية. وهكذا أصبحت الفلسفة إمَّا كلاماً غامضاً، طالما لا يريد الجمهور التفكير في مسائلها وإما فاقدة الأهلية، حيث تسحب منها بطاقة الهوية بين الفينة والأخرى.

س5- أ. مراد غريبي: أليسوا من نعتهم بـ"دواعش الفلسفة" هم سبب البلاء الذي يعيشه الفكر والثقافة والتجديد والاصلاح والتنوير عربياً واسلامياً؟ من يكونون وكيف استطاعوا اختطاف الواقع والخطاب والإنسان؟

ج5- د. سامي عبد العال: ليس الدواعش " ظاهرة طارئة " طفحت على سطح ثقافتنا مثل الطفح الجلدي على جسم الإنسان حين يمرض. أي ليسوا نتاج مرض غامض، لكنهم نتيجة " عماء ثقافي cultural blindness " مازال سارياً في أبنية مجتمعاتنا حتى اللحظة. وهو عماء يحدث بكامل ظروفه وشروطه الموضوعية التي نراها ونتورط فيها من غير وعيٍّ. فجميعنا إزاء مشاهد الدواعش وحروبهم المتلفزة كان يتساءل: من هؤلاء الدواعش؟! ومن أين جاءوا ؟! ولماذا يفكرون ويتصرفون بهذه الطرق الوحشية؟! وربما عناصر الدواعش أنفسهم قد تساءلوا بهذا المعنى في يوم من الأيام!! كل ذلك من غير أنْ ندرك أنْ أصدقاءنا وأقرباءنا وجيراننا قد التحقوا بهم أو أنهم ظلوا " فائض دواعش" في أماكنهم. لعل هؤلاء وأولئك نمطٌ من التفكير والإعتقاد بكونهم يملكون الحقيقة المطلقة، طالما يرون إمتلاكهم نسخة معينة من الدين هي في تصورهم صحيحة والباقي على خطأ كل الخطأ.

لو تصورنا أن شخصاً معنياً بإزاحة الستار عن هذا المشهد، ليرى جسم الداعشية وعقلها، سيُذهل من حجم الظاهرة التي هي بوجوه مختلفة، تتبادل الأقنعة وتتضامن فيما بينها من موقع لآخر. الداعشية أسلوب حياة وصور من العقل تحتاج إلى دراسة أعمق من ذلك. أبرز وجوهها هو (دواعش الفلسفة)، هؤلاء الذين يتعاملون مع الفلسفة كأنها تميمة أو حجاب طارد لكل فكر آخر يعتقدون كونه شيطانياً. ويطلقون (حول رؤوسهم ) كل ما نتخيل من طقوس وتراتيل الفكر المغلق، داعين سواهم إلى الولاء إلى طريقتهم السرية في الحياة.

الأخطر أنَّهم ينصبون أنفسهم معياراً لما يُقال في الفلسفة، ويختزلون الحقائق في نصوص علان أو فلان، وتراهم شاخصين في مسوح وأضابير قديمة لا تلوي سوى على بث صورة بعينها تجاه المتلقي طوال الوقت. طبقة جديدة وراقية من الدواعش في إهتاب مدني حداثي. فالدواعش يعيشون في كهوف الماضي القح فهماً ونصاً وحرفاً،بينما يعيش دواعش الفلسفة في كهوف النصوص وخلف مكاتب وثيرة وداخل أربطة عنق لامعة وابتسامات ناعمة. الهدف منها سحب العقول إلى أقفاص أخرى تدمر ما تبقى من فهم ووعي!!

كيف يحدث تنوير في ظل الداعشية المتوارية بألف وجه؟ التنوير كما هو معروف استعمال العقل دون خوفٍ وذلك بجرأة تضع العقل في مواجهة المشكلات والاشتباك مع إفرازات الحياة بكل حرية واستقلال. وأنْ يكون العقل سيداً لا مقوداً، معياراً لا موضوعاً. وهو ما يعنى أن العقل يشرِّع لنفسه بإنسانية عالية النبرة. كما يقول ديكارت: إنَّ العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. بينما دواعش الفلسفة لدينا قد استغلوا التنوير لاغتصاب العقل، لقد ذبحوا العقل كما ذبح الدواعش ضحاياهم أمام الشاشات وتحت مسمع ومرأى من البشر!!

إن أساليب التنويريين المزيفين في مجتمعاتنا العربية واضحة:

1- لقد حولوا التنوير إلى " لاهوت نكاية وسخرية" من نوع جديدٍ. وكأن الخطاب التنويري لا يملك إلاَّ النبرة الهاذئة من أصحاب المعتقدات وأهل الأديان. وهذا شيء نحن العرب فقط الذين نتفرد به دون سوانا. هناك خطابات وكتابات ونصوص كل شغلها الشاغل إطلاق النكاية في المعتقدات من غير فهم ولا مبادئ إنسانية حرة.

عندما كان كانط يكتب ما التنوير؟، كان ينجز بالتزامن" نقد العقل الخالص " و" نقد العقل العملي" و" نقد ملكة الحكم"، وهي ثلاثية معروفة في الفلسفة: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا على أن أفعل؟ ما الذي أرجوه وأطمح إليه؟ وهذه أسئلة كانت مؤثرة على صعيد جذري لا سطحي. ولكن تنويري العرب عندما يطلقون مقولات التنوير إنما يرتدون ملابس غيرهم ولا يصنعون مما يأكل عقلهم، كما أن العبارات التي يلجأون إليهم تبدو غريبة على التربة الثقافية ولا تجد ماء الفكر الأصيل الذي يضمن لها النماء والإزدهار. كل تنوير ما لم يكن نبتاً طبيعياً في بيئته لن يجدي سوى تأكيد الفقر العقلي مرة أخرى.

وهذا الأمر سبّبَ لدى التنويريين العرب تضخُماً وانتفاخاً للعقل والمفاهيم، لكونها- أي مفاهيم التنوير- بلونات هوائية لا تسقط على الواقع ولم تخرج منه، بل هي طائرة كالمنطّاد قيد الريح، يركبونها كي يتفرجون على الحواري والأزقة التي حفرها العقل العربي تاريخياً، من غير أن يعاينوا المشكلات ولا الحقائق ولم يجهدوا أنفسهم في تطوير المجتمعات. وتدريجياً تحول خطاب التنوير إلى خُطب منبرية رنانة مثلها مثل خطب زعماء التيارات المتطرفة التي استقطب الجماهير بالنبرات الحالمة والتصورات الفارغة واثارة العواطف والشجون باسم الماضي اليوتوبي للأديان.

2- لا يمتلك التنويريون العرب مرونة عقلية كافيةً نتيجة التكلم بلسان حال الجماعة في شخصهم المفرد. وهو أمر يدعو إلى التعجب، من الذي نصب هذا أو ذاك ليتكلم باسم الناس جميعاً؟! وكأن التنوير لدينا يقع فريسة للاوعي الثقافي الغالب، وقد أصبح نزعة دجمائية صارمة نتيجة التكرار والإلحاح. لدرجة أنك لو رأيت (شخصين تنوريين)، لن تستطيع التفرقة بينهما، هما عبارة عن لسانين برأسين منفصلين فقط. أحدهما يموج ويتلعثم ويتقعر في ماهية التنوير حتى يشعرك بالأهمية والآخر يردد ما يقوله الأول.. وهكذا.

3- لا يرتبط التنوير لدينا بسؤال: ماذا بعد؟ لأنَّ الخطاب التنويري لا يملك ماذا بعد، وإذا كان الدواعش يصدرون جثثاً إلى ىالمقابر، فدواعش التنوير يصدرون بضاعة مزجاة إلى لا شيء. وقد اعتقدوا أن العلوم والمعارف ستحمل بضاعتهم على أكتافها لتكملة المسييرة، هذا هو الوهم السائد نتيجة غياب الفهم البنيوي والجذري لمعضلات الثقافة العربية. تكفى الثقافة العربية سلع بائرة، كما أن لكل ثقافة طرائقها في التنوير، ويجب البحث عنها من داخلها لا من الخارج فقط.

4- التحولات المفاجأة للتنويريين، فقد يكون أحدهم صاحب رؤية عقلانية للحياة والمجتمع والتاريخ ويردد هذا طوال الوقت. بل يظل مدافعاً عن العقل وإعماله في كافة القضايا والأفكار المطروحة، لكنه فجأة (ينسى ما قد سلف) متمسحاً بأصحاب السلطة أو ساعياً إلى تولي مسئولية سلطوية، حيث ينقلب إلى داعم لكل نزوع عنيف فاقد الإبعاد العقلانية من الأساس. أو أن يكون قد رفع شعارات العقلانية والحرية والفكر في مرحلة معينة، ثم مع حرق المراحل أخذ يحرق مراكب العودة، ليقل أقرب قطار سريع من أجل المصالح والذود عن المغانم هنا وهناك.... هل هذا تنوير أم ماذا .. ؟ وأية كائنات تلك التي تقتات على أدمغة الثقافة لدينا؟!

***

حاوره: ا. مراد غريبي – المثقف

20 – 9 – 2023م

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من حوار خاص معالعالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التعليم العالي في العالم العربي، فأهلاً وسهلاً بهما:

س13: أ. مراد غريبي: تصنيف جامعاتنا العربية عالميا جدا مؤسف ماهي شروط النهوض واللحاق بالعالمية وماهي النماذج التي يمكننا الاستفادة من تجاربها؟

ج13: د. محمد الربيعي: اتفق معكم في ان مواقع الجامعات العربية في تصنيفات الجامعات العالمية مؤسفة حيث معظمها إما خارج التصنيفات او تتبوأ مراتب متدنية جدا. أحد الأسباب التي تؤدي لهذه النتائج يعود الى طبيعة التصنيفات من حيث تضمينها لعدد محدود من الجامعات ولمعايرها التي تؤكد على المنشورات العلمية في المجلات العالمية ذات عامل تأثير عالي. أنا لا احبذ أن تقاس جودة المؤسسات الجامعية على اساس مركز الجامعة في التصنيفات العالمية بالرغم من أن التصنيفات هي احدى الوسائل التي تعكس صورة لأداء الجامعة مع أنه من الممكن أن يختلف مركزها في كل من هذه التصنيفات، والسبب أن كل تصنيف له معايره الخاصة. تعتبر الحكومات والجامعات أن التصنيفات وسيلة لقياس مستوى التنافس العالمي الذي تخوضه جامعاتهم مع جامعات أخرى حول العالم، ولذلك أصبحت وسيلة لجذب الطلاب وتحسين اقتصاد الجامعة والبلد وبادرت الحكومات بوضع خطط لتطوير جامعاتهم على أساس معايير هذه التصنيفات لغرض تسويق جامعاتها. لكني أتساءل عن مدى جدوى التصنيفات كمقياس لجودة التعليم الأكاديمي، وعما إذا كان التصنيف يتسم بالرصانة أم أنه مجرد خدعة تمنح مزيدا من الشهرة لعدد محدود من الجامعات التي باتت تُعرف بجامعات الامتياز. وتعتمد عدد من التصنيفات بشكل كبير على الشهرة وعلى آراء الأكاديميين وجوائز نوبل، والجامعات العربية ليس لها الكثير مما تقدمه لإحراز الشهرة وكسب أصوات الاكاديميين او من جوائز نوبل فكيف لها من الحصول على نقاط تفوق تمنحها مراكز عليا في التصنيفات. أنا أقيم الجامعات العربية على اساس جودة التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، وفي هذا السياق اهتم بمدى موائمة البرامج التعليمية مع احتياجات السوق ودرجة ربط الخريجين بالوظائف وبدرجة تأثير الجامعة في المجتمع، ومستوى المعرفة والمهارات والقيم التي يكتسبها الطلبة من خلال التجربة الدراسية. كما أني أؤكد على قياس درجة جودة البحوث العلمية في مواجهة المشكلات التي تعترض الدول العربية لكي تلتحق بالدول المتطورة وتسخيرها لإنقاذ المجتمع من ربوع التخلف والجهل والفقر وبما يمكن لها ان تكون الدعامة الأساسية للتطوير والتحسين. وهذا يعني ربط الأبحاث العلمية بمشاكل البلد الصناعية والزراعية والصحية والخدمية والإجتماعية.

هناك نماذج عديدة يمكن الاستفادة من تجاربها منها برامج البحث العلمي لدول الاتحاد الأوربي ومثالها التعاون الإقليمي الأوروبي (Interreg) وبرنامج (اراسمس +) وبرنامج هورايزن 2020. تهدف هذه العملية إلى فرض مبدأ التعاون المشترك كأساس للبحث العلمي أي التعاون بين مؤسسات التعليم العالي العربية، وبينها وبين نظيراتها في أنحاء العالم وعلى اساسها يفضل البحث المشترك بين الجامعات العربية لغرض التمويل، ويعتبر ايضا التعاون العلمي العالمي ومع الجامعات الاوربية والامريكية وغيرها من جامعات الدول المتطورة هدفا اساسيا لتطوير مستوى البحوث الوطنية، كما يعتبر التعاون والإشراف المشترك مع العلماء العرب الموجودين في الخارج اساسا للنظر في امكانية تمويل البحث.

عملية بولونيا للتعاون الأوربي في التعليم العالي يمكن ان تكون مثالا جيدا لكيفية تعاون البلدان من أجل إيجاد أرضية مشتركة. هناك مصلحة عربية في محاولة إيجاد نموذج مماثل يمكن أن يساعد في تقريب الجامعات العربية بعضها من البعض الاخر، فضلا عن دعم الاعتراف بالتعليم والشهادات الصادرة من المؤسسات التعليمية العربية الأخرى. وينظر إلى النموذج الأوربي أيضا على أنه ميّسر للتعاون الدولي، ويولد اعتقادا قويا أن العديد من أدوات اتفاق بولونيا يمكن أن تكون مفيدة للبلدان العربية والتي تجد العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، ومن شأنها زيادة التعاون بين الجامعات العربية وأن تساعد على دفع عملية التغيير التي تشتد حاجة الجامعات إليها.

بالاضافة لذلك هناك نماذج اخرى يمكن أن تستفيد بها الجامعات العربية من تجاربها حسب أهدافها وسياقاتها. بعض النماذج الممكنة هي:

- تعليم المواطنة العالمية (GCED): هذا نهج تعليمي يغذي الاحترام والتضامن لدى المتعلمين من أجل تنمية الشعور بالانتماء والإنسانية المشتركة ومساعدتهم على أن يصبحوا مواطنين عالميين مسؤولين ونشطين يلعبون دورا في بناء مجتمعات شاملة ومسالمة ومستدامة. يغطي GCED مواضيع مثل حقوق الإنسان والتنوع والحوار بين الثقافات والقضايا العالمية والتنمية المستدامة. ويهدف GCED إلى تطوير معرفة ومهارات وقيم ومواقف محددة في ثلاثة مجالات للتعلم: المعرفية والاجتماعية والسلوكية. أجرت اليونسكو دراسة حول تعزيز المواطنة العالمية في الجامعات العربية ووجدت أن بعض فوائد هذا النموذج هي تعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب والتعاطف والكفاءة بين الثقافات والمشاركة المدنية.

- تعليم الفنون الليبرالية Liberal Arts Education: هذه فلسفة التعليم العالي التي تركز على مناهج التعليم العام ذات القاعدة العريضة للطلاب في جميع التخصصات، بما في ذلك العلوم والهندسة. يهدف تعليم الفنون الليبرالية إلى تزويد الطلاب بتعليم شامل يعرضهم لمجموعة متنوعة من الموضوعات والتخصصات، مثل العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية واللغات والتواصل وما إلى ذلك. كما يعزز تعليم الفنون الحرة مهارات مثل التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات والتواصل. تتمثل بعض مزايا هذا النموذج في إعداد الطلاب لعالم وسوق عمل متغيرين، وتعزيز قدرتهم على التكيف والمرونة، وتعزيز التعلم مدى الحياة. بعض الأمثلة على الجامعات التي تتبع هذا النموذج هي الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) والجامعة الأمريكية في القاهرة (AUC) والجامعة الأمريكية في الشارقة (AUS).

- جامعات من الطراز العالمي: هذه جامعات تتفوق في التدريس والبحث ونقل المعرفة والتطلع الدولي. لديهم أعضاء هيئة تدريس وطلاب ذوي جودة عالية، وينتجون أبحاثا وابتكارات متطورة، ويجذبون التمويل والموارد، ويتعاونون مع المؤسسات الرائدة الأخرى ويتمتعون بسمعة عالمية قوية. بعض فوائد هذا النموذج هي النهوض بالمعرفة والمجتمع، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية، وجذب المواهب والاستثمار، وتعزيز التعاون الدولي والتأثير. بعض الأمثلة على الجامعات ذات المستوى العالمي هي جامعة هارفارد وجامعة كامبريدج وجامعة ستانفورد وجامعة بكين.

هذه بعض النماذج الممكنة التي يمكن أن تستفيد منها الجامعات العربية من تجاربها. قد تكون هناك نماذج أخرى تناسب الاحتياجات والسياقات المختلفة. لكنه في النهاية يعتمد اختيار أفضل نموذج على رؤية ورسالة وأهداف كل جامعة.

س14: أ. مراد غريبي: بنظركم ماهي التشريعات القانونية والمخططات العملية الضرورية لتمكين طاقات البحث العلمي من التأثير في واقع العالم العربي بالنظر لمكانة الجامعة في العالم الغربي وغيره من البلدان؟

ج14: د. محمد الربيعي: يواجه العالم العربي حاليا العديد من التحديات والعقبات في النهوض بقدراته ومخرجاته البحثية العلمية. لمواجهة هذه التحديات، أعتقد أن هناك حاجة إلى نهج شامل يضم العديد من أصحاب المصلحة. تسمح لي ان اقترح وبعجالة بعض الخطوات الممكنة التي يمكن استحداثها أو تطويرها، وتتضمن أولا، وضع إطار قانوني يحدد حقوق ومسؤوليات الباحثين والمؤسسات والممولين ومستخدمي البحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يشمل ذلك أحكاما لحماية حقوق الملكية الفكرية، وضمان الحرية الأكاديمية، وتعزيز السلوك الأخلاقي، وتعزيز مراقبة الجودة، وتسهيل مراجعة الأقران، وما إلى ذلك. وثانيا، إنشاء هيئة أو آلية إقليمية تتولى تنسيق ومواءمة سياسات وبرامج البحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يشمل ذلك تحديد أولويات ومعايير ومؤشرات مشتركة للتميز البحثي، وتعزيز التعاون والتكامل بين مجتمعات البحث، وتسهيل التنقل وتبادل الباحثين، وتقديم المساعدة الفنية وبناء القدرات، إلخ. وثالثا، زيادة الاستثمار وتخصيص الأموال للبحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يتم ذلك من خلال تنويع مصادر التمويل من الجهات المانحة العامة والخاصة والدولية، وإنشاء منح وجوائز تنافسية عربية لمشاريع البحث، ودعم البنية التحتية والمعدات لمرافق البحث، وما إلى ذلك. ورابعا، تعزيز دور ومساهمة الجامعات في البحث العلمي والابتكار في العالم العربي. يمكن أن يشمل ذلك مراجعة المناهج وطرق التدريس لتعزيز التفكير النقدي والإبداع ومهارات حل المشكلات بين الطلاب، وتقوية الروابط بين أنشطة التدريس والبحث، وتوفير الحوافز والفرص لأعضاء هيئة التدريس للمشاركة في البحث وعلى صعيد عربي. وخامسا وأخيرا، نشر ثقافة البحث العلمي والوعي به في الوطن العربي. ويمكن أن يشمل ذلك نشر نتائج وتأثيرات البحث على الجمهور من خلال قنوات إعلامية مختلفة، وإشراك الجمهور في الحوار والتشاور حول قضايا البحث، وفي مبادرات نشر العلوم بين المواطنين، والاحتفاء بإنجازات ومساهمات الباحثين في المجتمع.

س15: أ. مراد غريبي: برأيكم ماهي رهانات الابتعاث وآفاق تطوير البحث العلمي، الراهن والمرتجى، وكيف نحقق الأمثل؟

ج15: د. محمد الربيعي: يعتبر الابتعاث هدفاً رئيسيا لتحقيق عدة أهداف سياسية وتعليمية. وغرضه الأساسي هو تأهيل كوادر علمية ذات خبرة وتدريب عالي في مجال البحث العلمي. كما يسعى لتعزيز مهارات اللغات الأجنبية بمستوى عالٍ من الاحترافية. بالإضافة إلى ذلك، يهدف إلى تطوير قدرات الاتصال والتواصل الفعال مع الأكاديميين والعلماء في الخارج. من جانب آخر، يهدف إلى نقل الخبرات والثقافات العالمية إلى الداخل، وتعزيز الأخلاقيات الأكاديمية وفهم الالتزامات الأخلاقية عند المتعلمين. يعد الحصول على الشهادات العليا من جامعات الدول المتقدمة، ولا سيما درجة الدكتوراه، أمراً ضرورياً لتطور التعليم والاقتصاد في البلدان النامية. ولذلك، تركز هذه البلدان، وعلى وجه الخصوص بلدان جنوب شرق آسيا وبلدان الخليج العربي، على تمكين أبنائها من الدراسة في جامعات الدول المتقدمة. ومع ذلك، فإن الحصول على درجة الدكتوراه لا يكون بالضرورة على نفس النحو في كل جزء من العالم، إذ يمكن أن تختلف المدة وهيكل التمويل والمتطلبات بشكل كبير بين مرشحي الدكتوراه في بلدان مختلفة. ويمكن أن يقدم السفر إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا او استراليا او فرنسا فرصا فريدة للحصول على درجة الدكتوراه، حسب ما يسعى إليه المرشح وما يرغب في الحصول عليه للانتقال به إلى الوطن والجامعة التي يعمل بها. ومن الضروري تحديد اختيار البلد المناسب والجامعة التي يرغب في حضورها لتحقيق الأهداف المرجوة. ولابد من التأكيد على ان يحصل الطالب على تدريب في مهارات الابتكار ونقل التكنولوجيا وحقوق الملكية او اية مهارات اخرى خارج نطاق مشكلة البحث الخاصة والتي يمكن الحصول عليها من خلال الدورات وورشات العمل الكثيرة وعلى مدار السنة للباحثين في أي من الجامعات الغربية. ويمكن اعتبار الحصول على عدد معين من الشهادات الحضورية جزءا لا يتجزأ من الايفاء بشروط الابتعاث.

ولابد من الاشارة الى ان بعض الدول العربية قد جعلت سياسة الابتعاث إلى الدول الغربية من اهم أولوياتها ومنحتها اهتماما كبيرا، حيث يُمثل ذلك اهتماما من الدولة بتأهيل وإعداد الموارد البشرية بشكل فاعل للعب دورٍ رئيسي في نهضة البلاد الأكاديمية والتربوية والاقتصادية، ولتحقيق مراكز قوية للجامعات الوطنية بين المؤسسات التربوية العالمية.

س16: أ. مراد غريبي: هل فتح مجال خوصصة مؤسسات التعليم العالي من شأنه الإسهام في الإصلاح أم يزيد الأزمة تعقيدا؟

ج16: د. محمد الربيعي: في عام 2015، نظّم البنك الدولي ومركز التكامل المتوسطي ووزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية مؤتمراً رائداً في بيروت، بهدف تطوير آليات ونظم تبادل المعلومات لإطلاع واضعي السياسات وأصحاب القرار على كيفية تحسين الإدارة وضمان الجودة في التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن بين الموضوعات التي نوقشت في المؤتمر، كانت مسألة خصخصة مؤسسات التعليم العالي. وقد أشار بعض المشاركين إلى أن خصخصة مؤسسات التعليم العالي قد تكون حلاً لزيادة قدرة استيعاب هذه المؤسسات، وتحسين جودة التخصصات المطلوبة في سوق العمل، وتخفيف الضغط على الموارد المالية للدولة. ولكن بعض المشاركين أشاروا أيضاً إلى أن خصخصة مؤسسات التعليم العالي قد تؤدي إلى زيادة التفاوتات في فرص التعلُّم بين مختلف فئات المجتمع، وإلى خفض مستوى جودة التخصصات غير المربحة، وإلى تقويض دور التعليم العالي في خدمة المجتمع والثقافة. باعتقادي ان خصخصة مؤسسات التعليم العالي في الدول العربية بمعنى الاجهاز الكامل على القطاع العام في التعليم العالي وتحويل الجامعات الى مؤسسات ربحية تهدف الى تحقيق أرباح مالية سيكون له آثار سلبية، وستزيد من تعقيد المشهد التعليمي وتؤدي إلى تفاقم الأزمة التعليمية. قد تسبب الخصخصة في ارتفاع الرسوم الدراسية وتحديات الوصول إلى التعليم العالي للطلاب ذوي الدخل المحدود وتضييق فرص التعليم للفئات المحرومة والهامشية. وقد يتم التركيز أكثر على الجوانب التجارية للتعليم بدلاً من التركيز على الجودة الأكاديمية. لا ارى في خصخصة مؤسسات التعليم العالي فوائد كبيرة بعكس ما أرى من مخاطر محتملة، خصوصا بما يتعلق بمعايير وآليات ضمان الجودة والشفافية والمساءلة والعدالة الاجتماعية. إلا أنه وباعتقادي في الوقت الحاضر، وجود قطاع خاص خاضع لمراقبة واشراف الدولة بجانب القطاع العام هو افضل بكثير من خصخصة الجامعات الحكومية والمؤسسات التعليمية العامة لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وتقديم فرص التعليم العالي عالي الجودة لجميع الطلاب. ولذلك، نرى أن خصخصة الجامعات الحكومية هي خطأ استراتيجي يجب تجنبه، وأنه يجب المحافظة على دور الدولة في تمويل وإشراف وتنظيم التعليم العالي، كما يجب تشجيع ودعم قطاع التعليم الخاص كشريك مكمل للقطاع العام، بشرط أن يلتزم بالمعايير والضوابط الأكاديمية والأخلاقية، وأن يسهم في تلبية احتياجات المجتمع وتحقيق رؤية التنمية المستدامة.

س17: أ. مراد غريبي: هناك اشكالية الانفتاح على العالم الخارجي الذي يتطلب كفاءات لغوية وتحكم في التقنية وقوة النشر والابتكار، بينما التعليم في العالم العربي رهين السياسات الترقيعية التي تركز بشكل كبير على الشكليات والخطابات دون الواقع والفعالية والمبادئ، هل هناك أفق للتغيير والنهوض بمؤسسات العلوم عندنا؟؟

ج17: د. محمد الربيعي: التعليم في العالم العربي يعاني من تردي شديد وانحدار متسارع في كفاءة المؤسسات التعليمية، وهذا ليس ما أنا أقوله وإنما هو ما تذكره تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. بعض الأسباب المحتملة لذلك هي: نقص في وسائل التعليم والتدريب، افتقار لأساليب التدريس القويم والتعليم السليم، قلة في الكوادر التدريسية المتدربة، تسلط الدولة وتحكمها بالمؤسسة التعليمية والتربوية، وإهمال كبير للإبداع والنقد والتفكير المستقل. مع ذلك، هناك آفاق للتغيير والنهوض بمؤسسات العلوم في العالم العربي، لكنه يتطلب جهدا متواصلا وعملا مستمرا من جانب جميع المعنيين: الحكومات والمجتمعات والمؤسسات والمعلمين والطلاب والأهالي. بعض الخطوات الممكنة لذلك هي أولا، تحديث المناهج الدراسية: يجب تحديث المناهج الدراسية ليتناسب مع متطلبات العصر ويشجع على التفكير النقدي والإبداع والابتكار. وثانيا، التركيز على المهارات العملية: يجب تعزيز تعلم المهارات العملية والعمل في فرق، وذلك من خلال تنظيم ورش عمل وربط المنهج بالواقع العملي. وثالثا، تطوير البنيات التحتية: يجب تحديث وتطوير البنية التحتية للمدارس والجامعات بما يتلاءم مع التكنولوجيا الحديثة ويوفر بيئة تعليمية ملائمة ومحفزة. ورابعا، توفر التدريب والتطوير المستمر للمعلمين: يجب توفير فرص التدريب والتطوير المستمر للمعلمين، بما في ذلك التعلم عن بُعد والتعلم النشط. وخامسا وهو الاهم، إصلاح السياسات التعليمية: يجب أن تكون هناك إصلاحات في السياسات التعليمية لضمان جودة التعليم وتشجيع الابتكار والتنوع. بتنفيذ هذه الإجراءات وغيرها، يمكن تحقيق تغيير إيجابي في مؤسسات التعليم في العالم العربي والنهوض بها.

س18: أ. مراد غريبي: تناولتم في مقالاتكم الوضع في الجامعات العراقية بشكل خاص، بل ربما هي ميدان عملك النقدي والتقويمي. كيف تقيمون أداء الجامعات العراقية، مقارنة بما قبل عشرين عاما والآن؟ هل هناك فارق نوعي؟

ج18: د. محمد الربيعي: يمكن القول إن الجامعات العراقية تواجه العديد من التحديات والمشاكل التي تعرقل تطورها وتقدمها وتحقيق الجودة والتميز في التعليم والبحث العلمي. ومن بين هذه المشاكل:

- ضعف قدرات قيادات التعليم العالي على وضع الخطط الصائبة للإصلاح والتجديد التربوي.

- الافتقار إلى التعاون الدولي، وعدم كفاية التمويل والبنية التحتية، والتدخل السياسي وانعدام الاستقرار.

- ضعف وتخلف النظام التربوي المدرسي، والذي يؤثر سلبا على جودة المدخلات والمخرجات للتعليم العالي.

- عدم وجود نظام متكامل لضمان الجودة والاعتماد للبرامج في الجامعات العراقية.

- تضخم عدد المؤتمرات العلمية دون مراعاة المعايير الدولية للجودة والتأثير.

وبالمقارنة مع ما قبل عشرين عاما، يبدو أن هناك فارق نوعي في بعض المؤشرات، مثل زيادة عدد الجامعات والكليات والطلاب والأساتذة، وزيادة حصة التخصصات الطبية، وزيادة عدد الأوراق البحثية المنشورة للجامعات العراقية بشكل ملحوظ وعدد الاستشهادات، وزيادة نسبة المشاركة في المؤتمرات الدولية. لكن هذه المؤشرات لا تعكس بالضرورة تحسن في جودة التعليم أو في إسهامات البحث العلمي أو في تأثيره على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ووفقا للتصنيفات العالمية THEو QS، توجد في العراق عدد محدود من الجامعات التي تم تصنيفها وقد يكون لبعضها تصنيفات مختلفة في أنظمة أخرى، مثل Webometrics وSIR وRUR وCWUR وURAP، ولكن لازالت خارج أهم تصنيف عالمي وهو تصنيف شنغهاي (ARWU).

ولذلك، يحتاج التعليم العالي في العراق إلى إصلاح شامل يستند إلى رؤية استراتيجية تستجيب للاحتياجات المحلية والإقليمية والدولية، وتستفيد من التجارب الناجحة في بلدان أخرى، وتستخدم أفضل الممارسات في ضمان الجودة والاعتماد والتحسين. كما يحتاج إلى دعم سياسي وإداري ومالي من قبل الحكومة والبرلمان والقطاع الخاص.

س19: أ. مراد غريبي: ما هو تقييمكم لمستوى الجامعات العراقية مقارنة بجامعات الدول العربية الاخرى التي سجلت حضورا عالميا كجامعة قطر وغيرها؟

ج19: د. محمد الربيعي: تقييم الجامعات العراقية في التعليم والبحث مقارنة بجامعات الدول العربية الأخرى يعتمد على عدة مؤشرات ومنهجيات مختلفة. وفقا لتصنيف التايمز للجامعات العربية للعام 2022، فإن الجامعات العراقية لم تحقق مراتب تنافسية هامة حيث حصدت أعلى جامعة وهي جامعة بغداد المرتبة (46) فيما جاءت بعض الجامعات في مراتب متأخرة بينما لم تدخل الكثير من الجامعات خصوصا الأهلية في التصنيفات. والحال مشابه في تصنيف QS لجامعات المنطقة العربية للعام 2023، فإن الجامعات العراقية حصلت على مراتب متواضعة متمثلة بأعلى مرتبة وهي المرتبة الأربعين لجامعة بغداد.

بناءً على هذه التصنيفات، يبدو أن الجامعات العراقية تتمتع بحضور وسمعة عالميين أقل من بعض الجامعات العربية الأخرى، خاصة تلك الموجودة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي. ومع ذلك، فإن التصنيفات ليست المقياس الوحيد لجودة وتأثير مؤسسات التعليم العالي، وقد تكون هناك عوامل أخرى تؤثر على أدائها والاعتراف بها، مثل الموارد ومخرجات البحث والحرية الأكاديمية والتعاون الدولي، وما إلى ذلك. ولو أخذنا هذه العوامل بنظر الاعتبار فإن الجامعات العراقية لن تكون حظوظها بأفضل من تلك التي تقدمها لها التصنيفات الدولية. وبشكل عام، يمكن القول أن الجامعات العراقية لا تزال بحاجة إلى المزيد من الجهود والدعم لتحسين مؤشراتها وتحقيق رؤية استراتيجية ترتقي بمستوى التعليم العالي في العراق.

س20: أ. مراد غريبي: هل الخلل دائما بالكادر التعليمي أو المناهج، أم هناك ما هو أبعد من ذلك؟ ولماذا لم يتم معالجتها مع ثراء العراق المعهود؟

ج20: د. محمد الربيعي: هناك عوامل متعددة تؤثر على تدني مستويات الجامعات العراقية، منها:

- التخطيط الاستراتيجي والتقويم المستمر: ينقص الجامعات العراقية رؤية واضحة ومشتركة لأهدافها ومهامها ومخرجاتها، ولا توجد آلية فعالة لقياس جودة التعليم والبحث والخدمة المجتمعية، ولا توجد معايير متمكنة وعادلة للترقية والتقدير والحوافز للأساتذة والطلاب.

- البنية التحتية والموارد المادية: تعاني الجامعات العراقية من نقص حاد في المباني والمختبرات والمكتبات والمعدات والتقنيات الحديثة، كما تفتقر إلى مصادر التمويل الخارجية المستقلة والمستدامة، وتعتمد بشكل كبير على الموازنة الحكومية او الى تمويل المستثمرين في الجامعات الاهلية التي تخضع للتقلبات السياسية والاقتصادية ولا تتضمن تمويل للبحث العلمي والابتكار.

- المناهج والطرق التعليمية: تبقى الجامعات العراقية ملتزمة بمناهج قديمة ونظام تعليمي تقليدي يركز على نقل المعلومات بدلا من تنمية المهارات والقدرات، كما تغفل عن التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة، ولا تشجع على التفكير النقدي والابداعي والبحثي.

- الكادر التعليمي والإداري: يفتقر الأساتذة في الجامعات العراقية إلى التأهيل الأكاديمي والبحثي المناسب، كما يواجهون صعوبات في التحديث المستمر لمعارفهم وخبراتهم، كما أنهم يتعرضون لضغوط سياسية وأمنية واجتماعية تؤثر على أدائهم. أما الإدارة الجامعية فهي غير فعالة وغير شفافة ومبنية على المحاصصة السياسية، ولا تستجيب لحاجات المجتمع وسوق العمل.

ولذلك، فإن حل مشكلة تدهور مستوى التعليم الجامعي في العراق يتطلب جهودا مشتركة من جانب جميع المسؤولين في الحكومة والبرلمان والجامعات والأساتذة والطلاب والقوى الوطنية، بالإضافة إلى دور فاعل من قبل المجتمع المدني والشركاء الدوليين.

أما بخصوص سؤالك عن سبب عدم معالجة هذه المشكلة مع ثراء العراق المعهود، فإن الإجابة تتعلق بالتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه العراق منذ عقود، والتي أدت إلى تفاقم الفساد والهدر والنزاعات والانقسامات، وتقويض الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وإهمال القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.

أ. مراد غريبي: في الختام نتقدم بجزيل الشكر لسعادتكم البروفسور محمد الربيعي على هذا الحوار الخاص حول راهن التعليم العالي والبحث العلمي في العالم العربي وآفاق الإصلاح والتطوير وما هنالك من تطلعات أكاديمية ومجتمعية، سعدنا بهذا اللقاء وإلى حوار جديد معكم في المستقبل القريب دمتم موفقين..

د. محمد الربيعي: الأستاذ غريبي مراد المحترم وكل أسرة صحيفة المثقف أشكركم على إتاحة هذه الفرصة لبلورة وطرح أفكاري حول عدد من المواضيع المهمة التي تضمنتها أسئلتكم الراقية. أشعر بالامتنان لهذه الفرصة القيمة التي تمنحوني إياها للتعاون في نشر المعرفة والتحاور البناء.

***

حاوره: الأستاذ مراد غريبي – صحيفة المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من حوار خاص معالعالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التعليم العالي في العالم العربي، فأهلاً وسهلاً بهما:

س9: أ. مراد غريبي: كثيرا ما نسمع عن اصلاح التعليم العالي لكن في الاساس تبقى دار لقمان على حالها كيف يمكن تفسير ذلك؟

ج9: د. محمد الربيعي: إصلاح التعليم العالي في الدول العربية بطبيعته خطير سياسيا، وله تداعيات تتجاوز المجال التعليمي نفسه. قد تتحدى العقود الاجتماعية القائمة، وهياكل السلطة، والأعراف الثقافية التي تحكم المجتمع. وعند مناقشة الإصلاح في الدول العربية لابد من النظر الى الاختلافات الكبيرة بينها، بالرغم من انها أيضا خادعة. وعلى المستوى السطحي، فإنها تتراوح بين اختلافات الحجم الجغرافي والثروة الاقتصادية، والإيديولوجيات السياسية والتقاليد التعليمية. على سبيل المثال: لبنان وتونس دولتان صغيرتان مقارنة بمصر والمغرب، اللتان تمتلكان غزارة في السكان والمساحة الجغرافية. والسعودية وقطر ودبي هي بلدان حديثة الاعمار واقتصاداتها قوية ومستقرة، في حين أن الصومال والسودان تعاني من اقتصاد ضعيف وفوضى سياسية واجتماعية، وتعاني معظم الدول العربية من تداعيات أمنية وسياسية تعيق استقرارها وتطور اقتصادها، ويؤثر ذلك على تطوير سياسات التعليم العالي بدرجات مختلفة. ولدى معظم البلدان العربية تاريخ استعماري، أثّر بشكل واضح على أنظمتها التعليمية. بالواقع يتطلب إصلاح التعليم العالي في كل هذه البلدان على حد سواء إرادة سياسية وإلى قيادات وزارية وجامعية تفهم قيمة الاصلاح وضرورته وتدرك الحاجة الى مراجعة النظام الجامعي بأهدافه وبرامجه وطرقه من منظور الجودة ومن حيث ملائمته لسوق العمل واحتياجات المجتمع، وبما تتطلبه مهمة الجامعة في التنوير والانفتاح على العالم والتثقيف ضد الافكار الظلامية والتعصب والغاء الاخر. كما لابد لهذه القيادات من معالجة مشكلة جمود الهيكل التنظيمي لنظام التعليم العالي ابتداء من المنظومات الوزارية للتعليم العالي وانتهاء بالبرامج والاقسام الاكاديمية والتوازن بين الدراسات العلمية والانسانية. ومع ذلك، قد تكون هذه غير كافية، بسبب عوامل مختلفة مثل الفساد والبيروقراطية ومقاومة التغيير أو نقص المساءلة. لهذه العوامل يواجه إصلاح التعليم العالي تحديات متعددة تحتاج إلى معالجة متزامنة وشاملة وقد يكون من الصعب التغلب على هذه التحديات بسبب الموارد المحدودة، أو أصول التدريس القديمة، أو معدلات الإنجاز المنخفضة، أو متطلبات سوق العمل غير المتطابقة. وبالإضافة الى ذلك ترتبط التحديات الرئيسية التي يواجها التعليم العالي في العالم العربي بعضها مع البعض وتتشابك، لكونها تؤثر على، وتتأثر بكل مجالات العمل الجامعي. فمن الواضح انه لابد للمواءمة مع سوق العمل الضعيف والمتغاير في احتياجاته أن يتم إعادة هيكلة البرامج الدراسية ومحتوياتها، وإعادة النظر في عملية ضمان الجودة من خلال تغيير طرق التدريس المعتمدة على التلقين والحفظ، وتنمية المهارات العامة والمنقولة، ويمكن للاستقلالية والمسائلة والشفافية ان تؤثر على معظم مجالات العمل الجامعي. وتشترك في كونها تمثل التحديات الأكبر التي تواجه التعليم العالي والجامعات العربية. وبتركيز شديد، يحتاج التعليم العالي في الدول العربية الى استراتيجيات تعتمد على تلبية حاجة الاسواق بالرغم من ضعفها، وليس لمجرد تلبية الرغبات الاجتماعية والسياسية. وتعتبر هذه المواءمة مع سوق العمل من اهم العوامل لمجابهة البطالة وتحقيق اهداف الجامعات. ويعود الضعف إلى سببين: أولهما انخفاض الكفاءة النوعية للجامعات كتـدني التأهيل المعرفي والتخصصي، وضـعف القـدرات الابتكاريـة والتطبيقية والتحليلية، وثانيهما هو أعـداد المخرجات الهائلة في تخصصات لا يحتاجها المجتمع ولا سوق العمل مـع وجـود طلـب كبير فـي تخصصات أخرى، وكذلك الزيادة الهائلة في مخرجات الدراسات العليا التي لا يوجد لمعظمها سوق عمل ولا حاجة مجتمعية ولا أهمية معرفية او بحثية او ابتكارية. وبضوء ما ذكرته أرى صعوبة او استحالة تحقيق اصلاح جوهري فالإصلاح هو اعادة البناء بشكل صحيح سليم، بعيدا عن الترميم والترقيع، بناء مبني على اسس علمية كما تبنى عليه الجامعات في الدول المتطورة، بناء على الصراحة والموضوعية، وهو بناء يحتاج الى تفكيك وتهديم بعض اجزاء النظام القديم، فلا اصلاح بدون تهديم، وكما يقول ارنست رينان "التجديد لا يعني بالضرورة التوفر على فكرة جديدة، بل يعني ايضا التخلص من فكرة قديمة"، والاصلاح لا يتحقق بدون دفع ثمن سياسي واجتماعي ومالي وقد يكون الثمن باهظا لذلك يتطلب الاصلاح ارادة وقوة وجرأة قد لا يمتلكها من يزمع على تحقيق الاصلاح، وبالطبع معلومات كبيرة عن واقع الجامعات العالمية ومعرفة بمتطلبات سوق العمل وبالواقع الاقتصادي والاجتماعي. لهذا كله اصبحت العملية صعبة ولربما مستحيلة بالرغم من كثرة الدعوات لإصلاح التعليم العالي والجامعات الا انه كما ذكرت في سؤالك تبقى "دار لقمان على حالها".3427 محمد الربيعي ومراد غريبي

س10: أ. مراد غريبي: بأي جامعة هناك (الأستاذ والطالب والاداري) الفعل الأكاديمي يتطلب تناسق بين الجميع برأيكم كيف يكون الإصلاح والتنمية في الجامعات العربية من خلالهم هذا الثلاثي؟

ج10: د. محمد الربيعي: دور الأستاذ والطالب والاداري في عملية إصلاح التعليم العالي حاسم ومترابط. كل صاحب مصلحة لديه منظور فريد ومسؤولية يمكن أن تسهم في تحسين وتحويل النظام. يعتبر الاستاذ العامل الرئيسي لخلق المعرفة ونشرها في التعليم العالي، ويلعب دور المصمم والمقدم لبرامج فعالة وجذابة تعزز التعلم النشط والتفكير النقدي والإبداع والتعاون بين الطلاب. يقوم الأستاذ أيضا بدور إجراء ونشر أبحاث عالية الجودة تعمل على تطوير حدود المعرفة وتعالج احتياجات وتحديات المجتمع، ولذلك يجب أن يكون على دراية بأحدث الاتجاهات والتطورات في مجاله وفي علم أصول التدريس، وأن يكون على استعداد لتكييف وابتكار طرق التدريس والمناهج الدراسية وفقا لذلك. كما يجب أن يكون الأستاذ داعما ومتجاوبا مع الاحتياجات والاهتمامات المتنوعة لطلابه، وأن يزودهم بملاحظات وتوجيهات بناءة. هذا ما نتوقع من الاستاذ تقديمه لكن في واقع الامر نجد الاستاذ في كثير من الاحيان مجرد ملقن للطلاب وناقل للمعلومات لهم. ولربما لا نستطيع القاء اللوم عليه لكون فلسفة التعليم في بلده هي مرجعه الاساسي التي توجه ممارساته التعليمية. اما الطالب فهو المستفيد الرئيسي والشريك في التعليم العالي. ولابد له ان يلعب دور المشاركة بنشاط ومسؤولية في عملية التعلم الخاصة به، من خلال حضور الفصول الدراسية، واستكمال المهام، والمشاركة في المناقشات، والبحث عن الملاحظات، والتعاون مع أقرانه، ومتابعة أهدافهم الأكاديمية والمهنية. للطالب أيضا دور المساهمة في تحسين وإثراء بيئة التعلم، من خلال تقديم الملاحظات والاقتراحات والآراء ووجهات النظر إلى أساتذتهم والإداريين وزملائه الطلاب. لكن هذه المشاركة الفعالة لا يمكن تحقيقها في ظل النظام التعليمي العربي حيث يكون الطالب متلقيا سلبيا وليس كفاعل نشط في بناء معارفه وتطوير مهاراته، وهذا يعني انه لا يمكنه من ان يكون فاعلا في عملية الاصلاح او له دور مؤثر ومتناسق مع الاداري والاستاذ.

اما الاداري او المسؤول في واقعنا العربي فهو الميسر الرئيسي وقائد التعليم العالي الحقيقي. المسؤول لديه دور في خلق والحفاظ على ثقافة التميز والابتكار والمساءلة في التعليم العالي. يجب أن يكون المسؤول صاحب رؤية واستراتيجية وتعاونية وتواصلية، وأن يكون قادرا على مواءمة مهمة المؤسسة ورؤيتها وقيمها وأهدافها مع احتياجات وتوقعات أصحاب المصلحة، ويجب أن يكون أيضا داعما وتمكينا للأساتذة والطلاب، من خلال تزويدهم بالبنية التحتية الكافية والتمويل والحوافز والاعتراف والفرص والاستقلالية والحرية الاكاديمية. هذا ما نتوقعه من دور للمسؤول في ظل نظام تعليمي راقي ومزدهر وليس في ظل نظام بيروقراطي كالأنظمة العربية. ان نظرة سريعة على التنظيم الاداري لإدارة التعليم العالي والبحث العلمي سواء على مستوى الادارة المركزية ام على مستوى الادارة الجامعية والمؤسساتية يكشف لنا مدى هيمنة الادارة المركزية في حين يعاني التنظيم الجامعي الخلل والضعف. المشكلة تكمن في توزيع المسؤوليات، حيث تبدو صورة التنظيم اللامتوازن في طريقة توزيع المسؤوليات وممارسة السلطات لصالح الادارة المركزية. ان وجود وزارة مسؤولة عن ادارة التعليم العالي ضرورية في بلد يعتمد التعليم في تمويله وادارته على الدولة. ووجود وزارة مسؤولة ينتج بالضرورة توزيع مسؤولية وتقسيم عمل في دوائر ادارية تسند الى اشخاص يتولون ادارتها وتسييرها لتحقيق الاهداف العامة للوزارة. وكلما كان التنظيم الاداري في الوزارة جيدا ومحكما، نتج عنه هيمنة الادارة المركزية على مستوى ممارسة السلطة المالية والادارية، وتبعية المسؤول الجامعي الى المسؤول الوزاري، خصوصا عندما يكون تنظيم الادارة الجامعية ضعيفا وناقصا وهشا. ويمكن ملاحظة ان المسؤولية مرتبطة بالإدارة المركزية ومبنية على اساس عمودي بين الوزارة وكل جامعة على حدة في كل بلد عربي بينما ينعدم الارتباط بين الجامعات على مستوى التنظيم المؤسساتي مما ينتج عن ذلك هيمنة المركز على الجامعات على مستوى ممارسة السلطة الادارية. ان التناسق الذي تفترضه بين الاستاذ والطالب والاداري لن يحدث في ظل النظام التعليمي العربي الراهن ولن نتمكن من تحقيق الاصلاح الجذري طالما ان حل الاشكاليات المرتبطة بالنظام التعليمي هي من مسؤولية السلطة في النظام المركزي ولكنها قد يكون حلها مستحيلا من دون احداث تحول في مفاهيم القيادة والادارة والتخطيط والعمل بمستوياته المختلفة، ولكي تواكب سياسات التعليم العالي التغير السريع لطبيعة العمل في اطار تفعيل آليات السوق الطليق في ظل العولمة. الى جانب استحداث وتطوير اشكال المتابعة والشفافية والرقابة والمحاسبة في ظل تحول دور الدولة نحو اللامركزية في التعليم واستقلالية الجامعة. كما ان بقاء الهيكل التنظيمي لمنظومة التعليم الجامعي على ما كان عليه في العهد الماضي وتأكيد هذه الهيكلية لمركزية القرار وعدم معالجة تضخم جهاز البيروقراطية بالتعارض مع اسس عملية بناء الاقتصاد، بما فيه من ضرورة الى دعوة مختلف قطاعات الاقتصاد الى التعاون مع الجامعات ومراكز البحوث بأسلوب اللامركزية. لذا فان اصلاح قوانين التمويل وتسهيل القيود المالية والادارية ستساعد على تحقيق استقلالية الجامعة بالاعتماد على اساتذتها وطلابها كسبيل لتطور ادائها وازدهار دورها في التنمية وعلاقتها بالمجتمع وتطوره.

ملاحظة اخيرة، يعد إصلاح التعليم العالي مسعى جماعيا معقدا يتطلب مشاركة وتعاون جميع أصحاب المصلحة. لكل من الأستاذ والطالب والمسؤول أدوار مختلفة ولكنها متكاملة يمكن أن تحدث فرقا إيجابيا في تعزيز الجودة والملاءمة وتأثير التعليم العالي.

س11: أ. مراد غريبي: تحتل الجامعات العربية دائما المؤخرة عالميا، أين الخلل ما دام هناك تمويل معتبر للبحث العلمي؟

ج11: د. محمد الربيعي: ما لا شك به أن البحث العلمي في البلدان العربية يعاني من أزمة مزمنة، وربما قد تكون أزمة مستعصية على العلاج، بسبب كثرة العوامل والأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة، منها انه في معظم الجامعات العربية لا يوجد تمويل علمي متوازن ومستقر للبحث العلمي وكثير منها يعاني من ضعف الأموال المخصصة للبحث وفيها يتم تحميل الاساتذة أعباء تعليمية ثقيلة، بالإضافة إلى انها تعاني من نقص الباحثين المؤهلين، وفي هذه الاسباب يكمن تأخر البحث العلمي. كما انه لا توجد بيئات بحثية ملائمة لتطوير الأبحاث العلمية ولا تتوفر اجواء علمية ايجابية لاستثمار القابليات الابتكارية للباحثين والاكاديميين هذا بالإضافة الى تشتت مصادر البحث العلمي والامكانات من بنيات تحتية وتجهيزات وموارد بشرية في عدد واسع من المؤسسات العلمية مما يؤدي الى انعدام التركيز على الاولويات في مواضيع البحث لغرض ترشيد الموارد. ثم ان البحث العلمي في البلدان العربية في معظمه فردي بحيث لا نجد الا نادرا بحوث علمية مشتركة ولا تعاون علمي عالمي على نطاق واسع ونزيه ومقبول.

ومع ذلك، هناك بعض الامثلة التي تبعث على التفائل فقد تم تسجيل بعض الإنجازات البحثية الهامة في الدول العربية الغنية والمتقدمة، خاصة في مجالات العلوم الطبية والزراعية. من الامثلة التي يمكن ضربها في هذا المجال إنشاء جامعات بحثية متخصصة في السعودية، ومعاهد ومراكز البحث المتخصصة في مصر والعراق. وتم تأسيس مدن البحث العلمي حيث تلعب هذه المدن دوراً حيوياً في ربط القطاعات العامة والخاصة والجامعات في مجال البحث العلمي، كما أنها ستسمح بتطوير شراكات جديدة بين الشركات الحديثة والمؤسسات التعليمية، مما سيساعد على تطوير الاستمرارية والابتكار في العديد من المجالات.

العلماء العرب يشكلون رصيدا كبيرا يمكن استغلاله لإحداث نهضة علمية وتطويرية في البلدان العربية خصوصا الفقيرة منها وفي فترة زمنية قصيرة نسبيا اذا ما اتبعت هذه البلدان سياسات وخططاً واستراتيجيات صائبة تعتمد بالأساس على تأهيل العلم والبحث العلمي في المجتمعات العربية وجعل التفكير العلمي والقدرة العلمية والابداع جزءاً من نسيج المجتمع العربي إضافة الى بناء قاعدة علمية عربية لنقل المعرفة العلمية والتكنولوجيا العالمية وتوطينها.

س12: أ. مراد غريبي: في رأيكم ماهي الاستراتيجيات التي تحقق تطور التعليم والبحث العلمي؟

ج12: د. محمد الربيعي: هناك عدة سبل يمكن أن تسهم في تطوير التعليم العالي في البلدان العربية، منها:

- رفع مستوى جودة التعليم، وتشجيع ثقافة الابتكار والإبداع والتفكير النقدي والتعلم المستمر.

- تحديث آليات تمويل التعليم العالي، واستثمار مصادر جديدة بديلة عن التمويل الحكومي التقليدي، كالإسهامات الخاصة أو الأجور الدراسية أو التبرُّعات أو المِنَح.

- استخدام نظم المعلومات والاتصالات في إدارة التعليم والبحث العلمي، وتسهيل تبادل المعلومات بين مؤسسات التعليم العالي وصُنَّاع القرار والمهتمين.

- تطوير نظم الحوكمة والإدارة في مؤسسات التعليم العالي، وتفعيل دور الهيئات المشاركة والشاملة، وتنفيذ معايير ضمان الجودة الداخلية والخارجية.

- مواءمة التعليم العالي مع متطلبات سوق العمل والتنمية المستدامة، ودعم روح المبادرة والريادة لدى الخرّيجين.

- تحقيق التعاون والشراكة بين مؤسسات التعليم العالي في الدول العربية، وإنشاء قنوات للتبادل والتنسيق والتكامل.

اما تلك الستراتيجيات التي تتعلق بتطوير البحث العلمي فتشمل:

- استحداث منظومة مالية متوازنة ومستقرة ومشتركة لتمويل البحث العلمي العربي المشترك.

- تركيز مصادر البحث العلمي والامكانات من بنيات تحتية وتجهيزات وموارد بشرية في عدد اقل من المؤسسات العلمية. كمثل مركز البحوث الأوربي (سيرن) او المختبر الأوربي لبحوث البايولوجيا الجزيئية (ايمبل).

- تطوير بيئة اكاديمية متكاملة لتمكين الجامعات والمؤسسات العلمية من بناء هيكلية للبحث العلمي بالاستناد إلى الاجهزة الحالية بعد تطويرها لتتلاءم مع التطورات العالمية في اساليب وطرق واغراض البحث العلمي.

- وضع منظومة تقييم عربية مشتركة بالاستناد الى المعايير العالمية.

- تشجيع روح المبادرة والحوافز نحو التجريب والتغيير بين الباحثين العرب.

- الاستفادة من الكفاءات العربية في الخارج ومن العقول المتوفرة في الدول الغربية.

***

حاوره: الأستاذ مراد غريبي – صحيفة المثقف

 

خاص بالمثقف: الحلقة الثانية من حوار خاص معالعالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التعليم العالي في العالم العربي، فأهلاً وسهلاً بهما:

س5: أ. مراد غريبي: يعتمد العالم العربي البرامج التعليمية التي لا تراعي الواقع السوسيو إقتصادي، معطياته وحاجاته، بنظركم لماذا وكيف يمكننا ان نحقق مواصفات أكاديمية خاصة وذات نوعية وجودة؟

ج5: د. محمد الربيعي: هذا سؤال مثير للاهتمام ومهم للغاية. تواجه المنطقة العربية العديد من التحديات في تحقيق تعليم جيد، مثل انخفاض نتائج التعلم، وارتفاع معدلات التسرب، وانخفاض الالتحاق بمجالات العلوم والتكنولوجيا، وعدم التوافق بين المهارات واحتياجات سوق العمل، والاستثمار غير الكافي في البحث والابتكار.

ووفقا لـ "مؤشرات أداء التعليم في العالم العربي" الصادر عن البنك الدولي، والى ما ذكره كل من هاشم العلوي وروبرت سبرنغبورغ في تقرير نشره مركز ويلسن هذا العام، فإن العوامل التي قد تفسر سبب عدم مراعاة البرامج التعليمية في العالم العربي للواقع الاجتماعي والاقتصادي وبياناته واحتياجاته هي:

- إرث السياسات التعليمية "من أعلى إلى أسفل" و"المركزية" التي لا تسمح بالمرونة والتنوع والاستجابة للسياقات والمتطلبات المحلية.

- عدم وجود "مشاركة" و"مساءلة" لدى مختلف أصحاب المصلحة، مثل المعلمين وأولياء الأمور والطلاب والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في تصميم وتنفيذ وتقييم البرامج التعليمية.

- تأثير جداول الأعمال "السياسية" و"الإيديولوجية" التي تشكل محتوى التعليم وأهدافه، وأحيانا على حساب الجودة والملاءمة والشمول.

- تأثير "النزاع" و"عدم الاستقرار" و"النزوح" على إتاحة التعليم وجودته لملايين الأطفال والشباب في العالم العربي.

ويقترح تقرير البنك الدولي بعض الطرق الممكنة لتحقيق مواصفات أكاديمية خاصة للجودة منها:

- اعتماد نهج "شامل" و"متكامل" في التعليم يأخذ في الاعتبار الأبعاد المتعددة للجودة، مثل الوصول والإنصاف والكفاءة والملاءمة ونتائج التعلم.

- الترويج لمنهج "يركز على المتعلم" و"قائم على الكفاءة" يعزز التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات والمشاركة المدنية بين الطلاب.

- تعزيز "التطوير المهني" و"التحفيز" للمعلمين والمدرسين من خلال التدريب المستمر والتوجيه والتقييم والاعتراف.

- تعزيز "الشراكات والتنسيق" بين مختلف الجهات الفاعلة والقطاعات المشاركة في التعليم، مثل الوزارات والمدارس والجامعات وأرباب العمل والمجتمع المدني والمنظمات الدولية.

- زيادة الاستثمار في "جمع البيانات" و"التحليل" و"الاستخدام" لتوجيه السياسات والممارسات القائمة على الأدلة التي تستجيب للواقع الاجتماعي والاقتصادي وبياناته واحتياجاته.3427 محمد الربيعي ومراد غريبي

س6: أ. مراد غريبي: تعتبر الحوكمة من اهم مقومات جودة التعليم العالي والبحث العلمي، لكننا اليوم نحن امام تحديات كبيرة خاصة مع ظهور التعليم الرقمي المستمر والسريع، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي، كيف يمكن مسايرة هذه التحديات في ظل تزايد الأزمات السوسيواقتصادية؟

ج6: د. محمد الربيعي: تعتبر الحوكمة في الجامعات العربية بالفعل عاملاً حاسما لجودة وابتكار التعليم العالي والبحث العلمي، ولكنها تواجه أيضا العديد من التحديات في سياق التغيرات التكنولوجية والاجتماعية السريعة. وفقا لبعض المصادر، تتمثل بعض التحديات الرئيسية للحوكمة في التعليم العالي والبحث العلمي في انعدام رؤية واستراتيجية واضحتين لدور وهدف التعليم العالي في المجتمعات العربية، وضعف المساءلة والشفافية والثقة بين مختلف أصحاب المصلحة، والخلل في الموازنة بين الاستقلالية والتنظيم لتعزيز الحرية الأكاديمية وضمان الجودة، وضعف سياسات تعزيز التنوع والإدماج والإنصاف في الوصول والمشاركة والنتائج، والعجز على تحقيق التعاون بين التخصصات والقطاعات والمناطق، وعدم ترسيخ ثقافة الابتكار والإبداع وريادة الأعمال، والخلل في التكيف مع التوقعات والاحتياجات والمتطلبات المتغيرة للطلاب وأصحاب العمل والمجتمع.

اما التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي فهما يعدان من أبرز محركات التغيير في التعليم العالي والبحث العلمي، لكنهما يفرضان أيضا تحديات كبيرة على الحوكمة. ويتمثل هذا التحدي في التكيف مع التغييرات السريعة التي يجلبها التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي، والتي لها تأثير عميق على طريقة إنشاء المعرفة ونشرها واستخدامها. تتطلب هذه التغييرات حلولاً أخلاقية وقانونية وتقنية لضمان حماية البيانات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن معالجة المخاطر والأضرار المحتملة للذكاء الاصطناعي، مثل التحيز والتمييز والتلاعب والمعلومات المضللة. علاوة على ذلك، تتطلب هذه التغييرات مهارات وكفاءات وأساليب تربوية جديدة لجميع أصحاب المصلحة المعنيين، مثل الطلاب والمدرسين والباحثين والإداريين وصانعي السياسات والمجتمع ككل. يحتاج أصحاب المصلحة هؤلاء إلى أن يكونوا قادرين على استخدام الأدوات الرقمية وأنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل فعال، لتقييم جودتها وموثوقيتها بشكل نقدي، والتعاون عبر التخصصات والقطاعات، وابتكار حلول جديدة وخلقها، والمشاركة في عمليات صنع القرارات الديمقراطية والشاملة. لذلك، يجب أن تكون الحوكمة في التعليم العالي والبحث العلمي مستجيبة وقابلة للتكيف وتشاركية، من أجل ضمان جودة وملاءمة واستدامة التعليم والبحث في العصر الرقمي. في هذا السياق، من الضروري اتباع نهج محوره الإنسان تجاه الذكاء الاصطناعي ويحترم حقوق الإنسان والقيم والكرامة.

س7: أ. مراد غريبي: هناك معضلات جدا خطيرة على مستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي من قبيل: الشهادات المزورة، الأمية الاكاديمية، التحايل الإداري، اغتراب الباحثين في ظل غياب البيئات الابتكارية المعرفية، عدم جدوائية الابتعاث، كيف نتجاوز هذه الأمراض والفساد؟؟

ج7: د. محمد الربيعي: أنت تطرح سؤالاً مهماً وحساساً عن مستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي، والتحديات التي تواجهه. ما تطرحه من مسائل معقدة لا ارى حلولا سهلة أو سريعة لها، لكن يمكنني أن اعرض بعض الآراء حولها. أولاً، يبدو أن هناك بعض الإنجازات والمبادرات التي تهدف إلى تطوير وتحسين التعليم العالي والبحث العلمي في بعض الدول العربية، التي حققت قفزات كبيرة في هذا المجال والتي شملت تحسين جودة البحث العلمي وارتفاع معدلات نشر البحث العلمي، ودخول عدد من الجامعات ضمن الأفضل في التصنيفات العالمية. ثانياً، يبدو أن هناك تحديات كبيرة تواجه التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي بشكل عام وتتعلق بهذه المسائل التي تطرحها، مثل انخفاض الإنتاج العلمي مقارنة بالدول المتقدمة، وهجرة العقول إلى خارج المنطقة وعدم رجوع المبتعثين الى بلدانهم الاصلية بسبب غياب البيئات الابتكارية المعرفية، وتقلص تمويل الجامعات والأموال المخصصة للتعليم، وانتشار الشهادات المزورة والنشر الزائف والأمية الأكاديمية التي بدأت بفتك المجتمعات الاكاديمية العربية. اننا نعيش اليوم تحت تأثير خطير من هذا الشكل الجديد من الأمية ولكننا لا نمتلك فهم وإدراك جيدان للمشاكل المرتبطة بهذا النوع من الأمية بصورة واضحة. لا ترجع الأمية الاكاديمية إلى نقص في الذكاء، لأن العديد من الأشخاص المصابين بها في ظروف تسود فيها اساليب الخداع وفقدان الشفافية والتظاهر والانحراف القيمي والاخلاقي في أداء العمل، يتمكن هؤلاء من إيجاد طريقة لإخفاء أميتهم ولذا يمكنهم من تحقيق نجاح زائف يصل الى مستويات عالية. اما التحايل الإداري في المؤسسات التعليمية فينتشر في بعض الدول دون غيرها بسبب غياب القواعد الصارمة للمؤهلات والخبرة وشيوع الفساد الاداري والمالي والتعيينات على أساس الانتماء السياسي والطائفة والولاء للسلطة. وتظهر معالم الأمية الأكاديمية بصورة اكثر كلما ازداد التعليم الظاهري للفرد، فكثير من الباحثين يتظاهرون ويدعون بالمعرفة التي من المفروض ان تمنحها شهاداتهم ولكنهم لا يعرفون غير الاقتباس والانتحال ونشر الأبحاث الملفقة، علما ان العديد من المنشورات التي يُزعم أنها انتجت من قبلهم بالحقيقة تم إنتاجها من قبل مكاتب تجارية لتحقيق مكاسب شخصية بحتة، فكيف يمكن القول بأنه باحث وأنه اكتسب مهارات البحث العلمي وطرقه. وماذا نقول عن التدريسي الذي حصل على شهادة مزورة ومن دكاكين الجامعات المنتشرة في المنطقة. أصبحت الشهادات الجامعية أداة قوية لتعزيز فرص الحصول على عمل، وهذا ما دفع بعض ضعاف النفوس في الدول العربية إلى الحصول على هذه الشهادات بأية وسيلة كانت، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة وغريبة في الأوساط الجامعية. شهادات لمن يرغب الحصول عليها بعد تسديد أجور مناسبة تحددها ما يعرف بإدارة الجامعة. ولتجاوز هذه المشكلات، يبدو أن هناك حاجة إلى استراتيجيات مواجهة شاملة ومتكاملة لهذه التحديات، تشمل تحقيق اصلاحات واسعة لمكافحة الفساد في مجالات مثل ادارة المؤسسات الاكاديمية والمشتريات العامة والاستثمار والإنفاق ودعم مبادرات تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة والنزاهة في قطاع التعليم العالي والجامعات كمشروع مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في البلدان العربية، وهو مشروع إقليمي ينفذه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع شركاء إقليميين ووطنيين، يهدف إلى تطوير قدرات المؤسسات العامة والخاصة والمجتمع المدني على منع وقمع أفعال الفساد. كما يمكن ان يساعد تحقيق استقلالية الجامعة على تعزيز الحريات الاكاديمية والنزاهة. ومن ضمن الاجراءات التي تساعد في نهضة الجامعات والحد من الفساد الاداري والاكاديمي هي زيادة التعاون بين المراكز والجامعات العربية والجامعات الغربية في مجالات البحث والابتكار، وتشجيع المشاركة في المؤتمرات والورش والدورات التدريبية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتطوير منظومة التقويم لضمان جودة التعليم والبحث ومنع الغش والتزوير، وتحديث المناهج والبرامج الدراسية لتتوافق مع متطلبات العصر وسوق العمل، وتوفير الدعم المادي والمعنوي للباحثين والمختصين والطلاب المتميزين.3443 محمد الربيعي

س8: أ. مراد غريبي: جامعاتنا من مخرجاتها ما يمكن تسميته بالبطالة الاكاديمية والأمية الأكاديمية وهذه تشكل اكبر تحدي ودليل على ضرورة اعادة النظر في التعليم العالي بشكل جذري معمق واستراتيجي؟

ج8: د. محمد الربيعي: هناك اجماع بين صانعي السياسات وأساتذة الجامعات والطلاب والخبراء الدوليين على أن الانظمة التعليمية في الدول العربية بحاجة إلى إصلاح شامل لمواجهة التحديات التي تواجه الانظمة العربية نتيجة التغيير في الهيكل العمري والاتجاهات الديمغرافية الأخرى، ولا سيما فيما يتعلق بالبطالة وخلق فرص العمل لخريجي الجامعات، وهذا يتطلب مواءمة البرامج الاكاديمية مع احتياجات سوق العمل، والادلة كثيرة على معاناة الدول العربية من انتشار واسع للبطالة بسبب عوامل متعددة منها نقص التمويل والبنية التحتية والموارد البشرية للتعليم، وضعف جودة المناهج، وانعدام التحديث والابتكار والتطوير في المجالات العلمية والثقافية. وما فاقم المشكلة هو انتشار ظاهرة الامية الاكاديمية في البيئة الأكاديمية العربية والتي تشمل العديد من الجامعات والهيئات العلمية، وتلقي بظلالها على أساتذة الجامعات وحملة الشهادات العالية الذين يفتقرون إلى مستوى ثقافي وفكري مقبول. تنبع هذه المشكلة من قطيعة هؤلاء الأساتذة واصحاب الشهادات العالية عن ثقافة الفكر والحياة. وقد أظهرت بعض الملاحظات أن نسبة كبيرة من الأساتذة الجامعيين يهملون البحث والقراءة والابتكار بمجرد حصولهم على شهاداتهم او ترقياتهم العلمية. وغالبا ما تكون أبحاثهم التي قدموها للترقية مستلة وبلا مغزى أو قيمة علمية جديرة بالاهتمام. يسقط كثير من الأكاديميين العرب في فخ الأمية الأكاديمية، وهذا ما يبعث على الفزع في زماننا. فالكثير منهم لا يتمتعون بثقافة أو معرفة، بل يغوصون في جهل وخرافات وتعصب. وعندما تناقشهم في موضوع ما، تكتشف فقرهم الثقافي وسطحية تفكيرهم. فهم لا يستطيعون التفكير بموضوعية أو نقدية في قضايا الحياة، بل يتبعون أفكارا هزيلة وتصورات ضبابية. إنهم يعانون من انغلاق ذهني وانبهار بالاوهام. إنها حالة من الانحطاط الذهني والانزلاق الثقافي التي أصابت عقول هذه الفئة من الأكاديميين العرب. فمثلا، قد تجد بعضهم يؤمنون بأساطير وخزعبلات ويرفضون سماع أي رأي مخالف أو نقدي لهذه الأفكار، وقد يستخدمون هذه الأفكار لتبرير مواقف متطرفة أو متخلفة. إن هذه الحالة تستدعي تحديا كبيرا لإصلاح التعليم والثقافة في العالم العربي، وإحياء روح التفكير الحر والإبداعي والنقدي في عقول الأجيال الجديدة. تبرز ظاهرة الأمية الأكاديمية في عدة مستويات منها: المستوى المؤسساتي، حيث تظهر في سوء إدارة المؤسسات التعليمية، وغياب رؤى استراتيجية للتطوير، وانخفاض مستوى جودة التعليم، وانحصار المنافسة في أبعاد ظاهرية. كذلك المستوى المهني، حيث تظهر في انخفاض كفاءة أساتذة الجامعات، وغياب روح التحديث في مجالات تخصصهم. أخيراً المستوى المعرفي، حيث تظهر في انغلاق طلاب الجامعات على مصادر محدودة للمعرفة، وعدم تنويع مراجعهم ومناهجهم، وعدم تطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي. تؤثر الأمية الأكاديمية سلبا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للعالم العربي، حيث تقلل من فرص التوظيف والإنتاجية والقدرة التنافسية للأفراد والشركات، وتزيد من مستويات الفقر والبطالة والهجرة والجهل والتطرف. ان وجود الالاف من حاملي الشهادات العاطلين لا يعود فقط الى عدم وجود فرص عمل وانما ايضا الى رداءة التعليم العالي بصورة عامة والمتمثل بالاعتماد على التلقين واجترار المعلومات، وتخريج "حفاظين" بدلا من خريجين مبدعين ومفكرين نقديين ومبتكرين متحلّين بقابليات ومهارات العمل ومتمكنين من القيادة وريادة الأعمال، قصد التمكن من مواجهة تحديات بيئة العمل. يؤدي ضعف المهارات لدى الطالب وخصوصا اللغوية منها الى الانفصال عن العالم والانعزال داخل بوتقة المعرفة المحلية. كما ان ضعف تكوين التدريسي وانخفاض الكفاءة التعليمية والجودة لديه، تحوله إلى مجرد موظف بدلا من ان يكون عالما ومفكرا. ولاجراء اصلاحات جذرية على نظام التعليم لغرض إنتاج خريجين أكفاء والقضاء على البطالة والامية الاكاديمية تحتاج الدول العربية إلى قيادات تعليمية ديناميكية وشجاعة تتفهم حقا قضايا التعليم في بلدانها وتتخذ إجراءات عاجلة وشاملة للحد من هذه الظواهر، من خلال زيادة الاستثمار في قطاع التعليم، وتحسين جودة المخرجات التعليمية، وتشجيع التعلم مدى الحياة، وتوسيع نطاق التعاون والشراكة مع المؤسسات الإقليمية والدولية المختصة.

***

حاوره: الأستاذ مراد غريبي – صحيفة المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع العالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التعليم العالي في العالم العربي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

ا. مراد غريبي: بادئ ذي بدء، أرحب بالعالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، الشخصية العراقية المعروفة، وأتمنى عليه أن يقدم لقراء صحيفة المثقف بطاقة تعريفية، تشتمل مراحل التكوين العلمي، والمسيرة المهنية وآخر اصداراتكم. تمهيدا للحوار في باب مرآيا فكرية.

د. محمد الربيعي: بروفسور متمرس في الهندسة البايوكيميائية في جامعة دبلن وزميل معهد كونوي للعلوم الطبية، وقبلها بروفسور في جامعة برمنغهام. شغل عددا من المناصب الاكاديمية وعمل كخبير لعدد كبير من الشركات الطبية والصيدلانية ولمؤسسات البحث العلمي الاوربية والعالمية، واستاذا مرتبطا وزائرا لعدد من الجامعات العالمية وخبيرا في شؤون التعليم العالي في منظمة اليونسكو، ومستشارا فخريا لرئيس الجمهورية العراقية ولوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. نال العديد من الجوائز العالمية المميزة لاكتشافاته وبحوثه العلمية ومنها وسام دونالاد العالمي ووسام مؤسسة العلوم الايرلندية وجائزة مؤسسة استيلاس اليابانية وشهادة دكتوراه فخرية من الجامعة الوطنية الايرلندية، واصدرت مؤسسة سبرنغر كتابا تكريميا على شرفه شارك في اعداده اكثر من 60 عالما وصناعيا وباحثا، واعتبر الاب المؤسس لصناعات ادوية التكنولوجيا الحيوية في المملكة المتحدة. نشر ما يزيد عن 500 بحثا علميا وكتابا ودراسة واستعراض وفصل كتاب وبراءة اختراع في مواضيع انتاج الادوية والمواد الطبية والموت الخلوي والخلايا الجذعية وهندسة الخلايا والانسجة وعشرات من الدراسات والمقالات والكتب حول التربية والتعليم العالي في العراق والعالم العربي. ادار اول برنامج لضمان الجودة في الجامعات العراقية لمدة 4 سنوات بتمويل من اليونسكو، وقام بأول عملية تقييم ومراجعة لاداء الجامعات العراقية المؤسساتي.

س1: أ. مراد غريبي: لعلّنا سنثير في هذا الحوار حفيظة بعض حاملي عنوان الأكاديمية، لأنّ البروفسور الربيعي له مطارحات مخصوصة يتميّز بها في بحثه لأحوال التعليم العالي والبحث العلمي في الجغرافية العربية، إذ يتداخل في كتاباته، النقد الثقافي بصفة عامة، ولكنّ أيضا التحليل المنهجي لكواليس الجامعات العربية بكافة حيثياتها واخفاقاتها، لذلك أود أن أسألكم بروفسور، بداية، عن هذه المسائل تحديداً، هل يجب على الأكاديمي اليوم أن يستفيد من هذا النقد والتحليل لواقعه؟

ج1: د. محمد الربيعي: يتحلى العالم العربي بتاريخه القديم الثري في الإنجازات العلمية. ومع ذلك، فإن الوضع الحالي للتعليم العالي في العالم العربي يثير مخاوف بشأن جودة وفعالية البرامج والمؤسسات الأكاديمية. على هذا النحو، من الضروري إجراء تحليل منهجي لمشهد التعليم والبحث العلمي في الجامعات العربية من أجل معالجة أوجه القصور وتعزيز التحسينات. ومن المعقول افتراض ان الأكاديميين يجب أن يستفيدوا من نقد وتحليل منهجي لمشاهد الجامعات العربية بكل مزاياها.

أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الأكاديميين يستفيدون من التحليل المنهجي للجامعات العربية هو الحاجة إلى التغيير. لقد واجهت الدول العربية تحديات كبيرة مثل هجرة الأدمغة، وتراجع نوعية الإنتاج البحثي، ونقص جودة التعليم. تتطلب معالجة هذه التحديات إجراء تحليل شامل للوضع الحالي للتعليم العالي في العالم العربي، بما في ذلك فحص نقاط القوة والضعف. باستخدام هذه المعلومات، يمكن للأكاديميين العمل على تحسين النظام التعليمي من خلال تنفيذ إصلاحات مبتكرة تعالج نقاط الضعف في النظام التعليمي.

سبب آخر لاستفادة الأكاديميين من التحليل المنهجي للجامعات العربية هو الحاجة إلى القدرة التنافسية العالمية. أصبح العالم أكثر ترابطًا وعولمة، وتحتاج الجامعات في العالم العربي إلى التكيف مع المتطلبات المتغيرة للاقتصاد العالمي. من خلال تحليل حالة الجامعات العربية، يمكن للأكاديميين مقارنة مؤسساتهم بأفضل الجامعات في العالم، وتحديد الفجوات، واعتماد أفضل الممارسات لتعزيز قدرتها التنافسية.

ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن النقد والتحليل قد لا يكونان دائما بناءين أو منتجين. في بعض الحالات، يمكن استخدام النقد لتقويض جهود أولئك الذين يعملون من أجل تحسين النظام التعليمي. على هذا النحو، يمكن أن يوفر التحليل نهجا قائما على الأدلة لعملية صنع السياسات، ورؤى ثاقبة يمكنها أن تساعد في تطوير سياسات فعالة في مواجهة التحديات التي يواجهها قطاع التعليم العالي.

وبرأي ان النقد والتحليل الأكاديمي مهماً لتحسين جودة وأهمية التعليم العالي في الجامعات العربية لعدة أسباب، لابد ان تؤدي نتائجها الى:

1. تحسين جودة التعليم

2. زيادة الشفافية والحوكمة وتحسين معايير الجودة والمساءلة

3. تحسين التواصل بين الجامعات العربية والمؤسسات الأكاديمية في العالم

4. تحديد اوضح للأهداف والأولويات اللازمة لتحسين جودة وأهمية التعليم العالي في الجامعات العربية ولضمان تلبية احتياجات المجتمع وسوق العمل.3427 محمد الربيعي ومراد غريبي

س2: أ. مراد غريبي: من المعلوم أنكم درستم واقع مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي بكثير من التعمق مما جعلكم من أهم الباحثين على مستوى العالم في هذا، ما سر اهتمامكم بالتعليم العالي والبحث العلمي عربيا؟ وكيف بدأتم ذلك؟

ج2: د. محمد الربيعي: يُعد التعليم العالي والبحث العلمي من أهم عوامل التطور والتقدم في أيّ مجتمع، ويتأثر بها من حيث الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة والعلوم والصحة. وانا كاكاديمي مغترب، اعتبر أن الوطن العربي يواجه كثير من التحديات فيما يتعلق بالتعليم والبحث العلمي، وبالرغم من التقدم المحرز في بعض الدول العربية او بعض الجامعات، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لتحسين جودة التعليم والعلوم في المنطقة العربية.

انطلاقاً من هذا المبدأ، فقد بدأ اهتمامي بدراسة واقع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي مباشرة بعد ان بدأت بالاهتمام بالتعليم في بلدي العراق وبالتحديد منذ 2003، حيث بدأت رحلتي بدراسة أصل الأمور والمشاكل الموجودة في مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي. قبل ذلك كان اهتمامي بالتعليم العالي في الدول العربية يعود الى ارتباطاتي العلمية في مواضيع الهندسة البيولوجية والخلوية والطبية بالعالم العربي وزياراتي العلمية المتكررة فكان الاهتمام بالاختصاص العلمي بأكثر من الاهتمام بالمشاكل التربوية والتعليمية.

وخلال هذا الاهتمام بالوضع التربوي العراقي، وجدت العديد من المشكلات، ومن بينها انعدام البنيات التحتية اللازمة، وضعف الموارد المادية والبشرية، بالإضافة إلى استخدام تقنيات التدريس القديمة والتلقين وعدم الاهتمام بالتفكير النقدي والتحليلي وبتطبيق التقنيات الحديثة في مجال التدريس والبحث العلمي.

بالإضافة إلى ذلك، فإني اؤمن بمدى أهمية البحث العلمي والابتكار والتطور التكنولوجي في المجتمعات العربية، حيث يأتي ذلك من خلال الزيادة في المعرفة والثقافة، والارتقاء بمستوى التعليم العالي والشامل في المنطقة. وبالتالي، فإن اهتمامي بهذا المجال يأتي بناءً على الإيمان بأن تطوير البحث العلمي في الوطن العربي سيساعد على الارتقاء بمستويات التعليم والتحصيل العلمي في المنطقة.

س3: أ. مراد غريبي: كلنا نعلم أنه في العالم العربي الاهتمام بالكم اكثر من الكيف سواء بالنسبة للمنشآت وعدد الطلبة والباحثين والكوادر كيف يؤثر ذلك على جودة التعليم العالي والبحث العلمي؟

ج3: د. محمد الربيعي: يتسم العالم العربي بتنوعه الواسع، حيث يضم دول الخليج العربي ذات الثراء المادي وبلدان من منطقة الساحل الأفريقي الشرقي ذات الفقر. ويعطي هذا التنوع الفرصة المثالية لإجراء تحليلات شاملة لمجموعة واسعة من الموضوعات والقضايا، ولتبادل الخبرات عبر الحدود من أجل تحقيق التقدم المستدام في المجتمعات العربية. وعلى الرغم من ذلك، تتقارب الظروف الاجتماعية والبيئية في هذه الدول، ويرتبط سكانها بالعديد من العوامل المشتركة، بما في ذلك الاهتمام بالتعليم العالي وما يتضمنه من اهتمام بالكم أكثر من الكيف وهذا ما انعكس سلبا على الاستقلالية العلمية والتكنولوجية، وتأخر الدول العربية في مجالات الابتكار والتطوير والاكتشاف مقارنة بالدول المتقدمة. اصبح موضوع الكمية مقابل النوعية في صدارة المواضيع التي تهم التعليم العالي والجامعات وبدأ الكثير من التربويين والتدريسيين من التذمر من استحداث جامعات جديدة وقبول طلبة بأعلى من درجة استيعاب الجامعات في الوقت الذي لازالت فيه كثير من الجامعات تعاني من ضعف مزمن في مناهجها واساليب تدريسها، وشحة التدريسيين الأكفاء فيها، والنقص الرهيب في تجهيز مختبراتها وأبنيتها، وتوفير المساكن اللائقة لطلبتها. ولم تعد مسألة عدم توفر معلومات وإحصائيات موثقة بشأن جودة التعليم ومستوى الخريجين مهمة لان هذه المعالم اصبحت واضحة من خلال تفشي البطالة، والبطالة المقنعة بين صفوف الخريجين، وضعف مهاراتهم الاحترافية والمهنية، وهجرة الخريجين للدول الصناعية المتطورة خصوصا من مصر والمغرب العربي والعراق.

يتسبب الاهتمام الزائد بالكمية إلى حد كبير في تردي الجودة في التعليم العالي، حيث يتم إدخال طلاب يفتقرون إلى المهارات اللازمة للتأقلم مع بيئة التعليم العالي والبحث العلمي، مما يؤدي إلى تخرج طلاب يفتقرون إلى المؤهلات اللازمة للانضمام إلى سوق العمل. كما أن الاهتمام بالكمية يعرض المؤسسات التعليمية للمزيد من الضغط وانخفاض المستوى الاكاديمي، حيث يشعر المدرسون بالتوتر والإرهاق بسبب الأعداد الكبيرة من الطلبة التي يجب عليهم تلبية احتياجاتها.

من الواضح ان التحديات التي تواجه الجامعات العربية لتحقيق الجودة في التعليم العالي هائلة، وتحتاج إلى التصدي لها ومجابهتها لتلبية احتياجات التنمية، ولكنها تحديات ليست مستعصية على الحل. إذ يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال الشراكة والتعاون على جميع المستويات، في العالم العربي وخارجه على حد سواء، فليس من الضروري أن نضحي بالجودة لمجرد تحقيق زيادة في عدد طلبة الجامعات.

اما بالنسبة للبحث العلمي، فإن مستوى الإنفاق على البحث والتطوير في الدول العربية لا يتناسب مع الحجم السكاني واحتياجات التطور العلمي والتكنولوجي. وبالتالي، يفتقر البحث العلمي في العالم العربي إلى التمويل الكافي والتخصيص للمهام الأساسية والمشاريع ذات الأولوية العالية.

الدول العربية تواجه تحديا كبيرا لعدم وجود تناسب بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. هذا التحدي يؤدي إلى استفحال ظاهرة البطالة وسط الشباب الخريجين، ويقلل من فرصهم في المشاركة الفاعلة في التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي. وفقا لتقارير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، فإن معدلات البطالة بين خريجي التعليم العالي في المنطقة العربية تصل إلى 25%، مقارنة بـ 8% على المستوى العالمي. كما أن نسبة كبيرة من الخريجين يشغلون وظائف غير متناسبة مع تخصصاتهم أو مستوى مؤهلاتهم، ما يؤثر سلبا على جودة أدائهم وإنتاجيتهم. أسباب هذا التحدي تكمن في عدة جوانب، منها:

- عدم توافق المناهج والبرامج التعليمية مع احتياجات سوق العمل المحلية والإقليمية والدولية، وانحصارها في المجالات التقليدية والنظرية دون التركيز على المهارات العملية والابتكارية والرقمية.

- عدم توفير فرص كافية للتدريب المهني والتطبيقي لطلاب التعليم العالي، سواء داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها، بالتعاون مع القطاعات المختلفة.

- عدم اشتراك القطاع الخاص في تجويد التعليم وتحديثه، وضعف دوره في توظيف الخريجين وتأهيلهم لسوق العمل.

- عدم تشجيع روح المبادرة والإبداع والريادة لدى طلاب التعليم العالي، وضغطهم نحو اختيار التخصصات ذات الطلب المرتفع دون مراعاة اهتماماتهم وقدراتهم.

- عدم توفير بيانات وإحصاءات دقيقة ومحدثة عن سوق العمل واحتياجاته وتوقعاته، وعدم تبادلها بين الجهات المعنية بالتعليم والتوظيف.

لمواجهة هذا التحدي، يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية بالتعليم والتوظيف، ووضع استراتيجيات وسياسات وبرامج تهدف إلى:

- تحديث المناهج والبرامج التعليمية لتتوافق مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، وتنويعها لتشمل المجالات الحديثة والمطلوبة، مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الأخضر، وغيرها.

- تعزيز التدريب المهني والتطبيقي لطلاب التعليم العالي، من خلال إنشاء مراكز تدريبية متخصصة داخل المؤسسات التعليمية، أو توفير فرص التدريب في الشركات والمؤسسات ذات الصلة بالتخصصات المختارة.

- تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في تجويد التعليم وتحديثه، من خلال دعم المشاريع التعليمية المبتكرة، أو تقديم منح دراسية أو فرص عمل للخريجين المتميزين، أو تقديم استشارات أو تقارير عن احتياجات سوق العمل.

- دعم روح المبادرة والإبداع والريادة لدى طلاب التعليم العالي، من خلال تنظيم مسابقات أو مهرجانات أو مؤتمرات تبرز مشاريعهم وأفكارهم، أو تقديم تسهيلات أو حوافز لإنشاء مشاريع صغيرة أو متوسطة.

- إنشاء نظام معلومات شامل عن سوق العمل، يضم بيانات وإحصاءات دقيقة ومحدثة عن الفرص والتحديات والتوقعات في كافة المجالات، وإتاحته لجميع الجهات المعنية بالتعليم والتوظيف.3425 محمد الربيعي

س4: أ. مراد غريبي: لا شك أنه يعتمد تطور اي بلد في العالم على جودة التعليم العالي والبحث العلمي في رايكم ما هي أسس ومحددات هذا المسار؟

ج4: د. محمد الربيعي: في عام 2009، نشرت مقالا بعنوان " لماذا نحن بحاجة الى نظام لضمان الجودة في الجامعات؟". ألحقته بعدد آخر من المقالات حول الجودة، والتي لم تتوقف ليومنا هذا. جاء في هذه المقالات عدد من الافكار حول مسارات الجودة وتحسينها، ولكن الفكرة الرئيسية كانت بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، وهي أنه ليس هناك اي بلد او تجربة يتم فيها الحفاظ على الجودة عن طريق الإبقاء على الوضع الراهن اي بتجنب التحديث والتغيير. وأكدت دائما على اننا بحاجة الى تعطيل مفعول المعتقدات التقليدية وعدم التهاون في تطبيق اسس نظام الجودة.

ولازالت هذه الفكرة التي تعززها المبادرات الدولية لتحسين الجودة تختبر صناع القرار من ناحية الاجراءات والأساليب التي يتم انتقاءها لتطوير التعليم العالي، وبالرغم من قناعتنا التامة بعدم وجود حل سريع لإحداث التغيير، وان إحراز الجودة يحتاج الى وقت، فإنه من المهم للغاية تغيير الثقافة السائدة التي تنظر الى الجودة على انها فقط مسؤولية دائرة الجودة وليست مسؤولية كل فرد في الجامعة، وهي مجرد اجراءات وقت الحاجة وليست عملية مستمرة، ولا تعني الا مجرد ارضاء اصحاب القرار، وتقديم الشكر والامتنان لهم لما تحقق من "انجازات"، وإنما هي عملية مصيرية تضع المسؤولين والتدريسيين بين خيارين فقط لا غير- اما ان تبقى الجامعات كمصانع قديمة وفي سبات دائم، وإما ان تتطور لتجاري ما يحدث في الجامعات العالمية.

جميع هذه التطورات في التعليم مشجعة، ولكن ما تزال الفوائد تدريجية. والتحدي الكبير الآن هو إيجاد وسائل لتحسين مخارج التعلم وتحقيق أداء أفضل بكثير، من خلال اصلاح النظام التعليمي الاولي والجامعي على حد سواء، وتغيير أساليب التدريس وإدخال التكنولوجيا التربوية إلى المدارس والجامعات، ومن حسن الحظ توجد الآن اختبارات جارية تشير الى نجاح المبادرات في كثير من الجامعات العربية.

لن اخوض في تفاصيل جودة التعليم، ولا في الاسباب التي تعرقل تطور الجامعات العربية، ولكني احب ان اتطرق الى بعض النقاط الاساسية التي من شأنها ان تساعد الجامعات في تطوير برامجها وتحسين النوعية، والتي برأيي يجب وضعها على الطاولة ومناقشتها على اقل تقدير، ولكن قبل كل شيء، يجب التنويه الى أني لا ارغب في التعميم ولا في الاتهام. هنالك جدل في الجامعات حول الموضوع بين معارض ومؤيد، وهو جدل صحي وشرعي، وهناك تخوف من ان تطبيق نظام الجودة قد يؤدي الى واجبات اضافية للتدريسي وارهاق له.

توجد عدة أسس ومحددات لتطوير جودة التعليم العالي والبحث العلمي في الدول العربية، ومن أهمها كما اشعر به:

1- توفير الموارد اللازمة لتمويل الأبحاث العلمية وتطوير البرامج التعليمية، وذلك من خلال زيادة الميزانيات المخصصة للتعليم والبحث العلمي.

2- توفير بيئة تعليمية وبحثية مشجعة للطلاب والباحثين، من خلال توفير الدعم الفني والمادي والأكاديمي اللازم لهم.

3- تعزيز التعاون الدولي والتبادل الثقافي والعلمي مع الجامعات والمؤسسات العلمية العالمية، وذلك لنقل التكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات والفكر العلمي.

4- تحفيز البحث العلمي وتنمية الموارد البشرية المؤهلة والمدربة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي.

5- ضمان توافق التعليم العالي مع المتطلبات العالمية المتعلقة بالتخصصات والمؤهلات والاعتمادات العلمية.

ولتحقيق إجراءات ضمان الجودة المعتمدة ولغرض المراجعة المؤسساتية ومراجعة البرامج الاكاديمية في الجامعات العربية نفترض تطبيق المعايير والمبادئ العامة التالية:

1- الحفاظ على معايير منح الشهادات وجودة تنفيذ البرامج الأكاديمية.

2- تشجيع الإدارة الجيدة للجامعات.

3- تحديد وتقاسم الممارسات الجيدة في مجال التعليم والتعلم.

4- تطوير نظام وطني لضمان الجودة بحيث يجمع بين المراجعة المؤسساتية (جودة ومعايير وإدارة) ومراجعة البرامج \ الاقسام.

5- تنفيذ الإجراءات التي تقوم على اساس مراجعة الأقران جنبا إلى جنب الدعم الإداري القوي على المستوى الوطني والمؤسساتي.

6- توفير الأموال الكافية وطنيا لتغطية تكاليف نظام ضمان الجودة، بما في ذلك تغطية تكاليف المقيمين الأكاديميين.

7- تمكين تمويل عملية تحسين جودة البرامج في الجامعات والتي يتعين تنفيذها استنادا على نتائج المراجعة.

8- تدريب فرق المقيمين والمراجعين.

9- تنفيذ نظام ضمان الجودة بالاستفادة من الهياكل الحالية والوثائق وغيرها من المواد حيثما كان ذلك ممكنا، بدلا من إدخال بيروقراطية إضافية.

***

حاوره: الأستاذ مراد غريبي – صحيفة المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س9- أ. مراد غريبي: عن الإصلاح الثقافي، العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع أطرت على طول مسيرتكم الفكرية وعيكم المعرفي وإسهامكم الثقافي، كيف تجدين اليوم وضعية الفعل الثقافي العربي في مشاهد الجامعات والمؤسسات الثقافية من دور نشر وإعلام وفن هل هناك انفتاح على الواقع قادر على خلق جيل عقلاني؟

ج9: أ. إيمان شمس الدين: يعتبر الفعل الثقافي ضمن مصاديق العمل الرّسالي، عندما نتحدث عن عمل فنحن نتحدث بالمضمون عن وجود أفراد ومجتمع وتفاعل وانفعال، أي أن ما نطلق عليه مصطلح أمة أو شعب أو مجتمع، فإن ذلك يعني المعادلة التالية:

الإنسان + هدف + تخطيط + منهج + أدوات + عمل (تطبيق) = نتيجة، ثمرة، تغيير آني أو على المدى البعيد.

وهناك نوعان من الأعمال:

الأول: عمل مأجور، أي عمل في قبال أجر.

الثاني: عمل رسالي، أي عمل تطوعي هادف بدون مقابل.

" العمل الرسالي هو العمل الذي يقوم به الإنسان لأجل هدف، ولأجل تحقيق هدف. بطبيعة الحال، العمل هذا يعتبر خطوة في سبيل كمال الإنسان، أو بالتعبير الإسلامي يعتبر عبادة، والحديث الشريف يقول: العبادة سبعون جزءًا، أفضلها العمل. والعمل الرسالي هذا، لا يرتبط بكمية الأجر سواء كان الأجر قليلًا أو كثيرًا. فالعمل متقن، يعني من مميزاته، عدم البخس في العمل والاتقان. فالحديث الشريف يقول: الذي يبخس في عمله، يخون هذه الأمة، والحديث الشريف يقول: رحم الله من عمل عملًا، فأتقنه".(محاضرة لموسى الصدر، 1972) فالعمل الرسالي هو عمل هادف بخطة لها وسيلة وآليات تطبيقية، لتحقيق حركة وعي رسالي ينهض بحاضر الأمة ومستقبلها.

ويختلف العمل الرسالي عن العمل المأجور بالأمور التالية:

١. العمل الرسالي قائم على التطوع، أو حتى قد يكون مقابل أجر، ولكن أجر رمزي لأنه ليس وظيفة يستأكل منها صاحبها، ويسعى في عمله لأجل تحقيق أهداف قيمية إنسانية، بالتالي هو يصنع مجتمع حركي فاعل متكافل حيوي، قائم على التنافس والتعاضد، والتنافس نتاج طبيعي للاختلاف في الكفاءات والقدرات والقابليات، فيكون فيه التنافس على أساس التكامل والتعاضد، لا على أساس الصراع والخلاف. بالتالي تكون نتاجات العمل الرسالي مجتمع حي حركي متكافل، تحكمه منظومة قيم إيجابية، وضمير أخلاقي حي. وإن من أهم مظاهر العمل الرّسالي هي صناعة الوعي ورفع منسوب الثقافة في المجتمع، وهي وظيفة المثقف الرّسالي الذي يحمل هم وعي مجتمعه حتى لا تفتك به أمراض الجهل والاستبداد.

٢. العمل المأجور، هو عمل في قبال أجر وغالبا أجر مالي، بالتالي يتحول فيه الفرد إلى آلة، كلما زاد من كفاءته وقدرته في العمل، وزاد إنتاجه المادي للجهة التي يعمل لديها، كلما زاد أجره، بالتالي يكون هنا المجتمع مجتمع طبقي قائم على الصراع لا التنافس، تغيب عنه القيم الإنسانية، وتحضر القيم المادية، وتتشكل فيه الطبقات على أساس رأسمالي جشع، يغيب عنه الحركية والحيوية والتكاتف والتعاضد، وهذا توصيف لواقعنا المعاصر حيث تهيمن الرأسمالية علي العقول الاقتصادية في العالم، وبالتالي تشيد أنظمتها في الوظائف على أساس القيم الرأسمالية التي حولت الإنسان إلى آلة، عليه أن يراعي دوما كفاءتها، وتطويرها، لا لأجل الكمال والتكامل المادي والمعنوي، بل الكمال المادي الذي يطور مهاراته المادية وتجعله يعيش دوما في صراع الديمومة والبقاء، مع نظرائه.

وهذا لا يعني أبدا أن كل عامل مقابل أجر بالضرورة هو عمل غير رسالي أو مذموم، أو قائم على أسس مادية، بل وفق ما ورد في الروايات أن العمل عبادة، وأن الكاد على عياله كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ولكن نحن هنا في صدد التمييز بين فعل الوعي المتعلق بالمثقف وغيره، لأن أصل العمل الذي يخدم الناس حتى لو كان مقابل أجر،قام صاحبه به على أكمل وجه،دون أن يقصر في وظيفته فإن ذلك عمل رسالي وخدمة للمجتمع وهو عمل صالح، لكنه ليس تغييري ولا يتعلق بوعي الناس. فالخدمة الصالحة تتعلق بما يقوم فيه الإنسان من خدمات توصف بذاتها صالحة في حق المجتمع، لكن الإصلاح هو عمل منظم بخطة مدروسة، وأهداف سامية وأدوات وآليات تطبيقية صالحة يقوم بها نخبة، ويقدمون لأجلها تضحيات كبيرة تعمل على تغيير فهم الناس وإصلاح محيطهم، فهو عمل متعلق بالمجال الإدراكي للمجتمع وتصويب مساراته المعرفية والسلوكية.

العمل الرسالي:

كان خط الإفراط والتفريط حاكما على طول التاريخ، خاصة على مستوى الآراء التي تستقرئ النص بأدوات علمية، وتستنبط الأحكام من أدلتها الظنية، وتشخص الإشكاليات الاجتماعية إما من منطلقات خاصة لها أبعاد شخصانية، أو أنها بعيدة عن الواقع في استقرائها له، وكانت العدالة النفسية من عناصر الحضور الخامل والنادر، وهو ما يمكن استقراؤه من المناهج والمسارات الموجودة عبر التاريخ .

ومن الملاحظ أن الهدف الرسالي هو آلي أكثر منه غائي، كونه سبيل وطريق لهدف أسمى وهو رضا الله، وكون الرسالة مودوعة في رحم الحركة ومرتبطة بها ارتباطا عضويا وظيفيا، يترتب بهما وعليهما سويا إحراز الأثر الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع.

فأي دعوة تكتنز العلم لا يتبعها تطبيق وعمل، فهي دعوة تبقى في فضاءات بعيدة لا يمكن إحرازها لأثر حقيقي في محيط الفرد والمجتمع، فحراك المثقف الرسالي على سبيل المثال، علميا وثقافيا إذا كان مجردا عن العمل وبعيدا عن الواقع، سيتحول إلى مجرد نظريات لا تحدث أي تغيير في بنية وعي المجتمع المعرفية والسلوكية.

فالفكر صحيح أنه متقدم على العمل لكنه غير منفك عنه، بل لا قيمة للفكرة في عالم الحقيقة إلا إذا تم تنفيذها كمشروع في ساحات العمل الرسالي الناهض بالعقل والوعي.

فحراك المثقفين منقسم بين أهداف رسالية باتت غاية في ذاتها، لكنها مفرغة من الحركية التطبيقية، وتدور في طاحونة التنظير والتبليغ فقط، رغم ما للتبليغ من أهمية كبيرة لكن أهميته تكمن في كونه محركا بالأفكار إلى مشاريع عمل تنفذ وتطبق، كي تحول المجتمع تدريجيا لمجتمع مُوَحِّد، ليتحول إلى تبليغ عاطل عن العمل. خاصة مع عدم التزام كثير من المثقفين الرساليين بأغلب ما يدعون إليه ويطرحوه، وهو ما ينافي الآية الكريم " تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" (البقرة: 44)، وهي غاية في الصراحة في مقصود خطابها والفئة المستهدفة بها.

وبين أهداف حركية لكنها فارغة من المحتوى الرسالي التأسيسي الأصيل، هو مجرد حراك كمي يقوم به أفراد يملكون عزما وعقلا وقّادا بالأفكار كالمثقفين، وحيويةً فذة، أي هم طاقات لكنها واقعا طاقات مهدورة وعاطلة عن التنظير، خلّاقيتها للأفكار عالية لكنها أفكار لا تخضع لمبضع التنظير والتشذيب والتقريب من الواقع، وإنزالها بعد ذلك بآليات صالحة للتطبيق، أفكار تخلط الحق بالباطل، والغث بالسمين، تحتاج غربلة تدمج بين النص والعقل بأدوات أصيلة ومنهج متقن له مراجعه الفكرية والمنهجية. أو أنهم عمال تنفيذيون بمهارة عالية، لكن دون وجود خطةً منهجية وأهداف رسالية مرحلية واضحة، يقود عملهم التغير اللحظي المرحلي المنفعل مع متطلبات المجتمع والسياسة.

وقد قال الله في محكم كتابه: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (الكهف: 104). "وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون " (الأحزاب: 80)

هذا الحراك الكمي غالبا أفراده لا يمتلكون الأهلية الحقيقية في قيادة المشاريع المثمرة واقعيا، كون قراءة مجموعة كتب والمشاركة بمجموعة مؤتمرات ووجود مجموعة مشاريع، لا تعتبر معيارا حقيقيا وواقعيا منفردا في قياس أهلية الفرد، بل المعيار الكيفي لابد أن يجتمع مع الكمي وليس العكس، في تقييم أهلية الأفراد للقيام بنهضة المجتمع على كافة الأصعدة، فكل منا له سعة فهم وإدراك تختلف عن الآخر، وترتبط بمدى سعي الإنسان لتطوير قابليته وفهمه وإدراكه ومدى إدراكه للحق والحقيقة. هذا فضلا عن دخول المحسوبيات في ترشيح الشخصيات وليس الكفاءة، حتى في الوسط الرسالي الإسلامي غالبا يكون الترشيح في بعض أوساط الحراك الرسالي والثقافي، إن وجد في بعض الساحات، قائما على ترشيح شخصاني وليس معياري، يغلب عليه مدى طاعة المرشح ومدى التزامه بالولاء لهذه الجهة، وقد يكون يملك مقومات علمية وعملية، لكن أصل ترشيحه يكون لتلك الأسباب لا لمقوماته وكفاءته.

وهو ما يتضح جليا عندما يختلف هذا الشخص مع تلك الرموز فيتم إقصاءه بسب ممارسته للنقد والتقويم، وهو ما يفسر عند الرموز في عقلية العالم العربي والإسلامي بأنه خرج عن مبدأ الطاعة، رغم كفاءته وأهليته العالية، لكن لمجرد انتقاده واعتراضه تسقط كل تلك المؤهلات.

والأهلية هنا لا تعتني إلا بالكفاءة والقدرة والاقتدار، ومدى اتزان النفس وتخلصها من الهوى وميلها للحق والحقيقة، وثباتها على الحق وقدرتها على تنفيذ الخطط بفعالية عالية، وخلاّقية إبداعية تصب في صالح بناء الإنسان ووعيه. وامتلاك قدرة على اكتشاف مكامن الخلل في المشاريع الرسالية والثقافية، وفاعلية في تصويبها وسد ثغراتها بما يصب في سبيل الله لا سبيل الرموز.

وأستطيع القول أن كثيرا من كوادر العمل الرسالي ومن المثقفين الرساليين خاصة، تتعاطى مع الدعوة الرسالية والعمل في سبيل الله بطريقة نسبية، بحيث تصبح أي فاعلية لها علقة بمدى ما تحققه من مصلحة للكادر ولرضا القيادات، التي بيدها مصالح ومقدرات هذا التيار أو ذاك.

لكن العمل الرسالي الحقيقي يجعل الكيف هو المعيار الحاكم، واجتماع الكم والكيف هو نور على نور في تقييم الكفاءات الموجودة.

إننا نحتاج لرسالية حراكية منتجة وإن لم تحرز ثمارها على المدى القريب، لكن إن كانت أهليتها عالية ومنهجيتها سليمة مستوية على صراط مستقيم، فإن ذلك حتما سينتج ثمارا وإن كان على المدى البعيد .

فالمطلوب في ذاته ليس العمل ونشر الثقافة والحصول على الوجاهات الاجتماعية، ليصبح التأثير والسيطرة أكبر على وعي الناس وفق رغبات من يتصدى، وهي ممارسة شبيهة بممارسة المستبدين في السيطرة على وعي الناس بتجهيلهم وتوجيه وعيهم باتجاهات رغبات المستبد، ولكن الاختلاف هنا أن المثقف يستخدم علمه ووعيه ونضجه في السيطرة على وعي الناس، وتنصيب نفسه مستبدا بالعلم على عقولهم، وإنما المطلوب من العمل الرسالي هو إحراز رضا الله من خلال العمل وفق إرادته هو جل شأنه وتحت رقابته هو لا رقابة الناس والمسؤولين، وهو ما يمكن الإنسان من إتقان عمله حينما يستشعر رقابة الله أكثر من استشعاره لرقابة غيره، والرسالية الحراكية سبيل إلى هذا الرضا، وكي نهتدي السبيل لابد أن تكون أدواته ومنهجه مستويا على الصراط المستقيم، ويكون مقترنا كيفه بكمه وقوله بفعله، ومحرزا للعدالة على كافة المستويات، ومعتدلا لا يميل إلى الافراط ولا إلى التفريط.

فلا حراك ثقافي رسالي دون حركية هادفة لتحقيق ملكوت السماء على الأرض، ولا حراك أرضي دون توسله بالرسالية الملكوتية السماوية كمنهج يستقيم عليه.

أما انتشار ثقافة الكم الحراكي لمجرد إثبات الذات (انظر كتابي: الاصلاح والتغيير) التي جبلت على حب العمل، فإن النتائج ستكون عكسية، كما في الحراك الثقافي المتجرد من أي حراك تطبيقي رسالي.

فالثقافة الرسالية الحركية تتطلب ضوابط، تضبط إيقاعها وفق أسس سليمة تحفظ لها تحقيق غايتها في رضا الله بتوسل آليات ومنهج سليم.

ولو قمنا باستقراء واقع أغلب الساحات في العمل الثقافي الرسالي خاصة الإسلامي منه، لوجدناها تشترك في عدة مشتركات تعتبر نقاط ضعف أخلاقية ومنهجية في العمل الثقافي الرسالي العام وهي:

ـ تأثرها بسلوكيات علمانية وإن بشكل غير مباشر، ومن أهم وأخطر هذه السلوكيات هي:

١ـ انحسار العمل الثقافي الرسالي فقط في الأماكن الدينية كالمساجد والمراكز الإسلامية والتابعة لكل تيار وحزب، وعدم وجود رؤية للانتشار الاجتماعي والتواجد في مؤسسات الدولة وفق برنامج مدروس. وهي علمنة مبطنه وعزل للدين عن باقي المجتمع ومسارات الحياة.

٢ـ البراغماتية السلوكية في التعامل مع الأفراد، فالذي ينفع المشروع وفق إرادة قيادة المشروع كان له الحظوة، وإلا يتم تهميشه وعدم توظيف أي طاقة أو الاعتداد بعقله مهما كان وازنا وراجحا، خاصة أن معايير النفع غالبا هي معايير شخصانية بعناوين دينية. كالطاعة والولاء والانضباط، فالطاعة تكون للقيادة البشرية، وهنا لا نرفض مبدأ الطاعة، لكن نرفض توظيفه في سبيل شخصاني لا سبيل رضا الله، وتحويله من مفهوم نسبي إلى مطلق، بمعنى أن طاعة القيادة غير المعصومة، هي طاعة نسبية تتوقف على حكمة القيادة وبصيرتها ومصداقيتها ومدى انضباطها على الحق ومدى عدالتها النفسية وإنصافها وكفاءتها العلمية والعملية، من باب قبح اتباع العالم للجاهل، وانتهاجها لمنهج البحث عن الحقيقة والتزامها الأخلاقي القيمي، أما الطاعة المطلقة فهي لا تكون إلا لله ولمن عصم الله تعالى.

هذا فضلا عن عدم تقدير العاملين كما يجب، فمن لا يتفق مع المنهج العام يتم تهميشه، بل ويتم غالبا إهماله اجتماعيا حتى في التواصل الإنساني الممدوح عقلا ونصا.

٣ـ تعطيل الطاقات الثقافية لمجرد اختلاف وجهات النظر، فيكون بذلك قاطع طريق لسبيل الله، وتفعيل من يتوافق مع وجهات النظر، حتى لو لم يكن أهلا، وهذا يعود لفقدان منظومة القيم والمعايير المتصلة بالسماء، وتحولها لمنظومة قيم ومعايير نسبية بشرية.

٤ـ رفض النقد والتقييم بحجة الاستهداف وعدم شق الصف، مع أن وجود الأعداء لا يعني السكوت عن الأخطاء، بل يجب مع وجود الأعداء النقد والتقييم لسد الثغرات وعدم فسح المجال لمن استهدفنا من النفوذ والاختراق من الثغرات.

٥ـ الانغلاق على الذات، وما أعنيه الجلوس داخل الصندوق وعدم محاولة الخروج من مألوف ومشهور المحيط، وهنا لا أدعو لخروج دفعي صدامي، وإنما لخروج تدريجي تصحيحي تغييري للمحيط، كون العمل الرسالي أحد أهم أهدافه التغيير الإيجابي وتصحيح مسيرة المجتمع وصناعة وعي وازن، وهو ما يتطلب انفتاح اجتماعي وعلى كافة المستويات والآفاق، وخلق مشتركات يمكن من خلالها إيجاد أرضيات تعاون مع كافة فئات المجتمع ومكوناته.

٦ـ غلبة أصالة المجتمع على الفرد، وهي مس اشتراكي غير مباشر في الوعي والسلوك، حيث تقدم مصلحة الجماعة على المصالح الطبيعية للفرد، ويغلب العقل الجمعي على قاعدة " خيركم من جمع العقول لعقله" وهي قاعدة تعمد إلى الاهتمام بكل العقول الناهضة والفاعلة، وجمعها لتحدث توازنا في الرأي والفكرة، وبالتالي في الرؤية والسلوك والعمل. هذه الغلبة تكون نسبية، فغلبة أصالة المجتمع تكون في العمل والتنفيذ، وغلبة أصالة الفرد على المجتمع تكون في القيادة ووضع الخطط والاستراتيجيات، حيث يتصدى أفراد دون انتخابهم، وإنما لمجرد الأقدمية غالبا يتصدون لوضع الخطط والاستراتيجيات في كافة المجالات.

بينما الاسلام وازن بين الأصالتين، وكانت العدالة حاكمة بينهما بحيث في مواقف قدم إحداهما على الأخرى بما يحقق التوازن ومصلحة المجتمع العامة، وهو ما يجب أن تعيه الحراكات الرسالية وتضع خططها وفقه.

-٧ تهميش المرأة وحصر عملها في التنفيذ، وعدم وجودها في مراكز القرار والتخطيط، هذا فضلا عن عدم الدفع باتجاه ارتقاء خطابها لمعطيات الزمان والمكان، وحصره في دائرة ضيقة مكانيا وزمانيا ومذهبته، ليكون مقتصرا على فئة، وعدم مواكبته لأهم الإشكاليات التي تواجه المرأة في المجتمع على كافة المستويات، هذا الحصر هو نوع من العلمنة في عزل الحراك الثقافي عن باقي المجتمع، ومرافق الدولة المختلفة، نتيجة مذهبة الخطاب وعدم تحويله لخطاب عالمي.

٨ـ ومن مظاهر المس العلماني في أغلب الحراكات الثقافية الرسالية، هو ديْنَنَة الخطابات والدعوات وبأساليب قديمة، وما أعنيه بالديننة هو الخطاب الوعظي وغير المواكب لمتطلبات العصر، وأهم الإشكاليات التي تعاني منها المجتمعات، وحصره في إطار ضيق من الدين نتيجة فهم ضيق للنصوص، وتحييد العقل عن امتلاك مكنة التشخيص، وإقصائه عن حاجات الناس وقضايا المجتمع وراهن العالم وتطورات الحدث، بذلك يكون تم تقليص الفهم الديني إلى إطار ضيق لا يهتم إلا بجانب من جوانب حاجات الإنسان وجانب من حاجات الروح.

٩ـ هناك تهميش للقيم والمبادئ والأخلاق غالبا في كيفية التعاطي بين الإنسان ونظيره الإنسان، ومن أبرز المصاديق هو الإسقاط الاجتماعي للشخص الذي يختلف مع الجهة المنتمي إليها، سواء اختلاف في وجهات النظر وقيامه بالنقد والتقييم، أو اختلافه مع آليات العمل ومنهجياته ومحاولته للإصلاح والتصحيح، الذي غالبا يجابه بالرفض والإقصاء وينتهي بالتسقيط الإجتماعي.

وهو سلوك شبيه بحملات الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها دول الكبرى، بحيث تعمد إلى تزوير الحقيقة وتسقيط الجهات المناوئة لتلك الدول، فهو سلوك استكباري علماني، يفصل مساره عن القيم الدينية والأخلاقية.

هذا المس العلماني والاشتراكي لكثير من منهج وسلوك الحراك الثقافي الرسالي في كثير من المجتمعات، هو نتيجة غياب الدراسات الفاعلة حول رؤية الإسلام للعمل الثقافي الرسالي والإدارة، أو وجود دراسات لكن كثير من الجماعات الرسالية يغيب عن منهج عملها التنظير والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي، ولا يوجد لديها غالبا مطابخ فكرية تعمل على رسم الخطط ودراسة الواقع ومعطياته، والخروج برؤية شرعية منهجية وفكرية كاملة.

إن المطلوب في ظل ترهل كثير من التيارات الرسالية الإسلامية، وتراجعها في مواكبة المجتمع ومتطلبات الجيل الشاب، هو نهضة شاملة قادرة على تقديم مشروع مثقف رسالي تغييري تدريجي وليس دفعي، تحكمه قوانين السماء ومنظومة قيم ومعايير أخلاقية وإنسانية، يضع للكفاءة أولوية، وللتخطيط والمنهجة خيارات ناجعة، ويضم في حساباته الجيل الشاب والمرأة.

خاصة أن العولمة استطاعت أن تقدم بدائل جاذبة وتلبي طموحات الشباب وإن ماديا، وأن وجود هذا الكم من الخلل في العمل الثقافي الرسالي خاصة القيمي والمعياري والمنهجي، هو ثغرة تدفع لتسرب الأجيال وهروبها من الدين لا لأنها ترفضه، بل لأن من تصدى لنشر الدين عمليا لم يكن أهلا، أو لم يكن مؤهلا وقادرا على المواءمة والمواكبة وسد الثغرات.

إن جاذبية الدين للإنسان فطرية، لكن عملانيا نحتاج تطبيق هذه الجاذبية وتنزيلها للواقع، لنجد الناس تدخل إلى دين الله أفواجا، لا دين الرموز والقادة، وهو ما يتطلب قيادات وعاملين ربانيين يتخلصون من الأنا، ويجعلون همهم رضا الله، فلا يكونوا قطاع طرق عن الله، بل جسورا إليه.

العمل الرسالي أو ما يمكن تسميته أيضا العمل التطوعي وخاصة في المجال الثقافي والمعرفي، يعاني من خلل رئيسي ومحوري وهو تصدي الأكفأ والأكثر استحقاقا.4994 ايمان شمس الدين

الكفاءة والاستحقاق والأثر:

الاشتغال على منطقة الوعي اشتغال يتطلب توفر عدة شروط في المُشْتَغِل، وإذا ما كنا نتحدث عن المثقف ووظيفته ومسؤوليته، بالتالي نحن نتحدث عن امتلاكه لعدة أمور قبلية تستبق حراكه الاجتماعي وتصديه:

١. امتلاكه القدرة والتي تعتبر البناء الأساسي والتحتي، والذي يُفَعِّل عزيمته للسعي وكسب المعارف والخبرات والتجارب في المجال الثقافي، وهذه القدرة والمُكْنَة هي التي تشكل له القاعدة في إمكانياته.

٢. الكفاءة، وهي مجموعة ما يملكه من معارف وعلوم وخبرات ومهارات تجعله الأكثر قدرة على التصدي اجتماعيا من غيره، وهذا يثبته فعله الثقافي وتأثيره في المجتمع، والكفاءة هنا لا تقتصر على الملكات المادية التي تركز على كم المعارف والعلوم، بل على نوعها، ولا تقتصر على كفاءته الظاهرية، بل إن كفاءته الباطنية تعتبر المنطلق والأساس لتحقيق الكفاءة الظاهرية، وهو ما لا يمكن أن يتضح للعيان إلا من خلال سلوك المثقف الاجتماعي ونوعية ما يطرحه من معارف ووعي.

٣. الفاعلية، فقد تجتمع في المثقف القدرة والكفاءة، لكنه لا يكون فاعلا، وأعني بذلك فاعليته في تحقيق أهدافه وإبداع طرق لتوظيف ثقافته في رفع منسوب الوعي، وحل الإشكاليات الثقافية والمعرفية التي يواجهها مجتمعه الداخلي والخارجي، وطرق الحل التي يجب أن تتناسب وعصره وما يواجهه من تحديات.

ولكن لماذا يجب على من يتصدى لهذه الوظيفة أن تتوفر فيه هذه الشروط؟

إن من أهم الآثار التي تترتب على توفر هذه العوامل في المتصدي للعمل الثقافي والمعرفي هو:

١. المصداقية، فإذا ارتبطت كفاءته الظاهرية بكفاءته الباطنية وكان حراكه الاجتماعي يفكك الإشكاليات المعرفية، ويحقق حركة وعي حقيقية تؤثر على حراك المجتمع، فإن ذلك يعزز من مصداقيته بين الناس، ويوثق العرى بين المجتمع والمعرفة.

٢. الثقة: تحقيق المثقف الكفؤ لمصداقيته الاجتماعية يؤدي لبناء جسور الثقة بينه وبين مكونات المجتمع والدولة بكافة الاتجاهات، بالتالي يجعله مرجعية معيارية ومعرفية، يتم من خلالها تقييم المعارف وفقها، ويصبح بذلك حارس لوعي الناس، ومعزز لعلاقتهم بهويتهم.

٣. الأمانة، يصبح بعد إثبات مصداقيته وتعزيز ثقة الناس به، أمينا على عقولهم ووعيهم من الاستلاب والاغتراب، ومن كل محاولات الاستعباد، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كفؤا يمتلك قدرات معرفية في تشخيص الخلل، ورؤية الواقع خارج كل الأطر التي تُسَوِّرْ عقول الناس وتمنعهم من رؤية الواقع كما هو.

لذلك يعتبر تصدي غير الكفؤ في كافة المجالات، وخاصة المعرفية والثقافية أمرا مرفوضا ومذموما عقلا وشرعا، بل هناك روايات صريحة تذم تصدي غير الكفؤ، وتنهى عن ذلك.

وهذا التشديد في التأكيد على تصدي الكفاءة، هو لما لهذا التصدي من آثار عظيمة على المستوى المعرفي والقيمي، والأخلاقي، والمعياري، والمبدئي.

لذلك أول شرط في تصدي المثقف اجتماعيا هو كفاءته، والكفاءة لا تحدد بالكم من المعارف فقط، بل أيضا بنوعها، ولا تحدد بالكفاءة الظاهرية فقط، بل بكفاءة الظاهر مع الباطن.

لذلك لدينا إشكاليّة عليا بداية تشخيصها وهي إشكاليّة المثقف ذاته والجدليّات التي تدور حوله سواء من حيث الوظيفة، أو من حيث استغلال الثقافة في المصلحة الذّاتية التي تؤدي غالبا إلى تغييب الحقيقة وتزييف الوعي، وأما ما يتعلّق بالإعلام والفن ودور النّشر فأستطيع القول أنه موضوع ذو شجون، خاصة فيما يتعلّق بدور النّشر وإشكاليّة الحقوق الفكريّة والماديّة التي يعاني منها كثير من المثقّفين، وهذا يأتي نتيجة غياب أو تغييب الاهتمام الشعبي بالثقافة والقراءة وبالتّالي بالمحتوى الثّقافي وحصر الاهتمام على الرّوايات والأدب، وهذا لا يعني انتقاصا من هذا الفضاء المهم، لكن حتى هذا الفضاء يعاني من هبوط المحتوى، هذا بطبيعة الحال يجعل دور النشر تهتم بما يطلبه الجمهور، لا بما يجب أن يصل إلي الجمهور، وهو غالبا ما نشاهده في معارض الكتاب في كثير من الدّول العربية والإسلاميّة. وما يخص الاعلام فقط فردت فصلا كاملا في كتاب التغيير والإصلاح حول دوره وإشكاليّاته ومنعا للإطالة يمكن مراجعة ذلك لمن يرغب من القرّاء.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

س10: أ. مراد غريبي: ما طبيعة مدارات الإصلاح الثقافي وأهم تحدي يواجه المثقف العربي في هذه اللحظة الثقافية المتراوحة بين المقاومة والانبطاح أمام عولمة متوحشة؟

ج10: أ. إيمان شمس الدين: إن طبيعة هذا السّؤال تدفعنا لسؤال الهوية، وهي المُعَرّف عن فرد أو مجتمع أو دولة، تدلنا على الثقافة والإيديولوجيا السائدة وطابع العادات والتقاليد، فترسم معالم المشهد الإنساني وطريقة تفاعله مع ذاته ومحيطه.

فتكون بمثابة المفتاح الذي من خلاله نقرأ داتا الفرد والمجتمع، ومن خلالها تتضح آليات التواصل والاتصال بين مختلف الشعوب والمجتمعات والأقطار.

التفاعل الحضاري:

للهوية معالم ثابته تعبر عن شخصية اعتبارية لحاملها وتؤثر في محيطها، ولكن لها في ذات الوقت جانبا متأثرا تأثرا خاضعا لظروف العصر أي الزمان والمكان، حيث جانبها المتغير الذي يتطور من خلال التفاعل الحضاري مع الثقافات الأخرى، وما أعنيه بالتفاعل الحضاري هنا هو تداخل إيجابي يؤثر ويتأثر، ويطور وينهض من خلال استفادته من تجارب الهويات الأخرى الإيجابية النهضوية، دون أن تتغير ملامحه الثابتة التي تمثل بصمته الخاصة. فالحضارة في مفهومها العام، هي حركة المجتمع ونشاطه بجوانبهما كافة، المادية منها والمعنوية، وتشمل الخبرات المادية وإنتاجها، والمعارف العلمية والمذاهب، والأفكار الفلسفية، كما تشمل النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والقيم والتقاليد والمؤسسات والجماعات المختلفة وأنماط السلوك.. "(محسن الأمين، حصاد لم يكتمل، ص219)

الغرب بين الإحلال والتفاعل:

جاء المشروع الإسلامي خاصة في البعد الثّقافي بفهم حضاري للتفاعل يهدف منه أمرين:

الأول: تفعيل القيم الثابتة في فضاءات المعرفة لكل ما هو خارج الجسد الإسلامي، حيث القيم الثابتة جزء من الفطرة الإنسانية وتفعيلها كسلوك، فالتفاعل يعمل على إزالة الحجب المعرفية عن النفس، لتمرير تلك القيم التي تمهد الطريق لتحقيق العدالة بين كل البشر. وهو ما يتطلب لوازم أهمها، امتلاك هذه الحضارة مقومات التأثير من مكنة واكتفاء ذاتي وتكافؤ علمي، و تحقيق منجز حضاري فاعل في حياة الإنسان، يسهل عملية السريان المعرفي بين الاسلام وغيره من الحضارات.

الثاني: المواكبة والمعاصرة، التي لا تتحقق إلا من خلال مراكمة المنجزات الحضارية السابقة مراكمة معرفية تحافظ على أصالتها وترفد متغيرها بمعطيات الزمان والمكان هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع على تجارب الحضارات الأخرى والاستفادة من إبداعاتها العلمية، ونهضتها القيمية في الجانب المشترك الإنساني، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المنهجية والمنطلقات القاعدية لكل حضارة، أي هو تواصل واتصال ومشاركة و اكتساب خبرات تُفَعِّل المسكوت عنه في اللاوعي الإنساني، وتطور من نظرة المجتمعات للحياة، وتزيل الأغلال الغير سليمة التي توارثتها المجتمعات عن الآباء دون وجود مسوغ عقلي وشرعي لها.

أهمية التفاعل:

إن التفاعل الحضاري يضع الحضارة الإنسانية أمام مسؤولية أخلاقية أولا، كون التفاعل يستند على العلاقات الإنسانية المطلقة، والتي يفترض أن تتمثل ضمن بيئة التفاعل على المحبة والأخوة والعدالة والتسامح والتراحم بين بني الإنسان، وعلى نفي التعصب، والعنف والإرهاب الفكري، ومحاولة الاستقواء وإلغاء الآخر المختلف، وتصبح قيمة التبادل للمنافع المعرفية والعلمية قائمة على هذا الأساس، لذلك التفاعل الحضاري لا بد أن يراعي التعددية الحضارية والتمايز الحضاري الذي ينفي كل أشكال التناقض والصراع، ويؤسس لعملية انفتاح كبرى علي كل الحضارات والحوار معها في سبيل خير الإنسانية، وتحقيق العدالة التي هي جوهرة القيم في تحقيق الكرامة الإنسانية.

تكمن أهمية التفاعل في أمور عديدة أهمها:

ـ توسيع المدارك المعرفية، وتنضيجها بالاطلاع على تجارب الآخرين البشرية.

ـ تفعيل ثقافة الخروج من صندوق الذات، بما تحمله هذه الذات من أفكار ومعتقدات وقبليات ومسبقات، وتأثيرات البيئة، وهو لا يعني التخلي عن ثوابت كل ما سبق، تلك الثوابت التي ثبتت بطريق الدليل العقلي والشرعي، بل يعني عدم الركون لكل ما سبق، ومحاولة مواكبة الزمان والمكان في تطوير المفاهيم وتمحيصها، ومراجعة الأدلة على ضوءما استجد في الساحة العلمية والإنسانية.

ـ تفعيل مفهوم التعدد الإيجابي، يوسع مساحات الاشتراك المعرفي، ويفعل عملانيا مفهوم التعايش والتسامح الحضاري، على أساس التكافؤ الإثني وليس الإحلال والإلغاء للآخر المختلف، وينضج القدرات العقلية في فهم النص، بما يحفظ خاتميته دون المساس بعناصر خلوده.

ـ يعمل على تذليل العقبات أمام العقول من خارج الجسد الإسلامي لفهم هذا الدين الخاتم عن قرب، ويسمح للمنتمين للإسلام بفهم الأديان الأخرى والثقافات المختلفة، بالتالي يعمل على ترصيف رؤية كونية قائمة على مفهوم التوحيد، وينهض بمفهوم العبودية في ظل التوحيد.

ـ يبسط نفوذ الله في قبال نفوذ القداسات السياسية والدينية، فهو يفعل مفهوم العبودية والحرية على ضوء مفهوم التوحيد الحضاري، ليزيل الحجب المعرفية العقلية في لا وعي الشعوب، التي اشتغل عليها المستبد بأي شكل من أشكال الاستبداد، لاستعباد الناس وتمكين سلطته عليهم، وهو ما يستدعي تفاعل المقتدر والمدرك للآخر، من موقع امتلاك المكنة في اختراق لا وعيه، بوسائل يفهمها الآخر المختلف، ويمكنها الوصول إلى عقله وقلبه، فالحق والحقيقة بينة.

فثقافة أية أمة وحضارتها لا يمكن أن تكونا معزولتين، وخارج نطاق التفاعل الثقافي والحضاري مع ثقافات الأمم والشعوب الأخرى وحضارتها، والحقائق التاريخية السابقة والحالية، تؤكد أن الثقافات والحضارات كانت ولم تزل، وسوف تبقى، في حال التفاعل والتأثير المتبادل في بينها في وحدة متكاملة بين العام، أي الحضارات والثقافات في العالم، والخاص، أي الحضارة والثقافة القومية الخاصة لكل أمة ودولة".(المصدر نفسه)

معايير التفاعل الحضاري:

ـ يحتاج التفاعل مكنة وقدرة واكتفاء ذاتي، يكون المتفاعل إما متكافئ مع الآخر، أو يسبقه بدرجة، و هذا من مقومات التحصين الذاتي للثوابت ومقومات الوجود، فيكون التفاعل من موقع التأثير والتأثر الإيجابي.

هذا لا يعني أن عدم توفر المكنة ـ كما هو حالنا ـ أن ننغلق على ذاتنا، ولكن تصبح مساحة التفاعل أضيق حفاظا على الهوية لعامة الناس، فيكون التفاعل مقتصر على طبقة النخب والتي تسعى بتفاعلها هذا لتحصين الداخل، وإيجاد إجابات للتساؤلات المطروحة نتيجة تسرب ثقافة الآخر للجسد، دون وجود ضوابط أو حصانه ومكنة، فتكون النخبة بمثابة الفلتر الذي يحاول تثبيت الثوابت، و غربلة الشوائب لا من باب الوصاية على العقول والحجر عليها كأنها قاصرة، ولكن من باب عدم تهيؤ قابليات عامة الناس معرفيا وإدراكيا لهضم الآخر المعرفي على أسس سليمة، فيجعلهم عرضة للاستلاب السهل دون أدنى مقاومة تحت هيبة التقدم الظاهري والمكنة العلمية والتنكنولوجية التي تسلب لب الإنسان العادي، وتجعله أسيرا لكل قيمها وثقافتها ومفاهيمها، فهو بمثابة ممارسة عمل تحصيني قادر لا أقلا على درء الشبهات و حماية الهوية، دون أن يطمح للتأثير إلا في نطاق النخبة عند الآخر، فتتغير الأولويات هنا نتيجة عدم توفر المعايير اللازمة للتفاعل الشامل بين الشعوب والنخب، من أولوية التأثير الواسع إلى أولوية التحصين مع التأثير المحدود، والسعي الدؤوب لتوفير معايير التفاعل الحضاري، وهنا قد يطرح سؤال هل يمكن تحقيق ذلك في ظل توفر وسائل التكنولوجيا، وسهولة الحصول على المعلومة، ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي ضيقت المسافات الفاصلة، وقربت الجغرافيات البعيدة، وبالتالي فتحت الآفاق أكثر معرفيا؟ إن ما أعنيه هنا هو نوعية المعارف وآليات التعاطي معها وفق قابليات المجتمعات، فمهما فتحت تلك الوسائل طرق التعارف والفهم، إلا أن دور النخبة يبقى ثابتا في تشذيب تلك المعارف وتفنيدها، وفي نوعية الإشكاليات المعرفية التي على النخب تداولها وطرحها، فليست كل الإشكاليات المعرفية والمعارف هي قابلة للتداول على بساط المجتمع دون مراعاة لتفاوت القابليات داخل المجتمع الواحد من جهة، وبين المجتمعات المتعددة من جهة أخرى..

ـ لا يمكن أن يتم التفاعل الحضاري مع توفر معاييره، إلا إذا كانت بنية الأمة ثقافيا ومعرفيا وفكريا قوية، وهويتها محصنة بشكل علمي برهاني، بل لديها فلتر للشبهات وقادرة على مواجهة كل محاولات الإقصاء، وتمتلك العزة والكرامة، وهما قيمتان تحافظان على الهوية من خلال تحقيق حالة الاعتزاز بها، وهذا لا يحدث إلا من خلال تأسيس المجال الإدراكي للأمة، و تحصينها بالعلم والمنهج البرهاني، الذي يحاور ويمتلك وعي وجودي ومنفتح على الآخر، فالعلم معيار أساسي في عملية التفاعل الحضاري، وأعني هنا معرفة الذات معرفة عميقة مدركة المباني وشبكة المشتركات والاختلافات القاعدية بيننا وبين الآخر، ومعرفة الآخر أيضا معرفة عميقة، وامتلاك أدوات منهجية علمية رصينة في مشروع التفاعل الحضاري.

ولأن الحراك يتطلب تفاعل فإنه أيضا يتطلّب مقاومة، ولكن مفهوم المقاومة نتيجة الظروف السياسيّة الرّاهنة في المنطقة فإن دلالاتها تم عسكرتها لينصرف الذهن العام إلى المقاومة العسكريّة، رغم أن الفعل المقاوم أحد مصاديقه العسكر.

المقاومة لغة هي الممانعة وعدم الرضوخ للتغييرات التي تفرضها قوى خارجية، أو قوى داخلية، وهي إرادة فعل واختيار تسبقها معرفة وفهم للواقع ومتغيراته، ولتداعياته على الراهن والمستقبل.

المقاومة فعل تغييري مستديم على عدة مستويات:

1. مستوى الذات: وهنا تكون المقاومة فعل ذاتي فردي تزداد شدته وضعفه وفق قوة وضعف إرادة الإنسان، وهذه القوة والضعف تعتمد على قوة وضعف معارفه ووعيه، وبالتالي مسارات اختياره.

2. مستوى الأسرة: وهنا تتعلق المقاومة أيضا بوعي ومعارف الأسرة، ويكون للوالدين القيادة الفاعلة في تفعيل مقاومة باقي أفراد الأسرة، وتفعيل مساحات اختياراهم وترشيد إرادتهم وتوجيهها باتجاهات الوعي السليم.

3. مستوى المجتمع وهنا تلعب النخب الدور الفاعل في ترشيد الوعي والمعرفة، وبالتالي ترشيد مسارات الاختيار، وتفعيل قوى الإرادة الاجتماعية باتجاه المقاومة الإيجابية، والتي تواجه الفساد وتعمل على مواجهة قوى الفساد والتغيير السلبي، وتفعيل مسارات التغيير الإيجابي.

4. مستوى الدولة وتكون هنا مسؤولية الدولة في التأسيس للمؤسسات المعنية بالتعليم والتربية، والاعلام، والاقتصاد، والاجتماع، والدفاع الداخلي والخارجي، للمؤسسات الأهلية.

5. المستوى الاقليمي

6. مستوى العالم

والمقاومة لها أشكال ومصاديق متعددة وأهمها:

1. المقاومة الثقافية والتي تعني ببنية الهوية وأبعادها على مستوى الفرد والمجتمع وما يواجه هذه الهوية من تحديات داخلية وخارجية.

2. المقاومة الاقتصادية، والتي تعني بالبناء الاقتصادي الذي يعتمد على عناصر مهمة أهمها الاقتدار، والاكتفاء، والاستقلال، وهذه المقاومة تتعلق بالتأسيس لنظام اقتصادي مقاوم وفاعل في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

3. المقاومة العسكرية، والتي تعني بالأمن الداخلي والخارجي المتعلق بالجغرافيا وما تحويه من ثروات، سواء ثروة بشرية تكمن في العقول، أو مادية تكمن فيما تحويه الجغرافيا من خيرات.

4. مقاومة إعلامية وتهتم في صناعة الصورة، والرسالة الإعلامية التي ترفد العقل الإنساني بالمعرفة والقيم والأسس التي من خلالها تحافظ على هويته ومنظومته المعيارية والقيمية.

5. مقاومة مدنية تتمثل في المظاهرات السلمية التي تعبر عن رغبة الجمهور في التغيير الداخلي، أو في رفض ممارسات من السلطات القائمة.

حدود التداخل والاشتراك والانفصال:

قد تتداخل وتشترك أشكال ومصاديق المقاومة في مناطق مشتركة عملانية، ولكن غالبا مسارات المقاومة وأشكالها المتعددة تتفق في هدف واحد، لكن تختلف في المنهجيات، فلا يمكن على سبيل المثال استخدام منهج المقاومة العسكرية وتطبيقه من حيث المنهج لها المصاديق والأدوات على المقاومة الثقافية أو الاعلامية، فعسكرة الثقافة من أخطر الممارسات على الفكر البشري، وما أعنيه أن كل فعل مقاوم في مجال محدد يتبع منهج خاص به ليؤدي الهدف العام، قد تتداخل المناهج أحيانا في مناطق اشتراك، ولكنها تختلف حتما في الأدوات.

فمثلا المقاومة العسكرية تحتاج لإعلام ثوري، شعاراتي يثير حماسة الناس والمشاركين المقاومين، لكن في المقاومة الثقافية لا نستطيع استخدام الاعلام الثوري والشعارات في مواجهة التحديات الفكرية والثقافية والمعرفية، بل نحن هنا نحتاج لتأسيس فكري مكين تجذيري، الى جانب الشعارات الخاصة بالموضوع الثقافي والفكري والمعرفي. وهكذا..

وللمقاومة بعدين:

1. المقاومة الإيجابية:

وهي التي تهدف لتحقيق العدالة في كافة المجالات الاقتصادية والثقافية والعسكرية والإعلامية، وتكون بنية المقاومة هنا قائمة على الفهم المنهجي، الذي يعتمد على عنصري الأصالة والخلود، فهو لا يفرط بالثوابت، ولكنه يحاكي في أدواته الزمان والمكان ويسعى دوما للمواكبة في منهجه وآليات مقاومته لتحقيق الهدف العام.

- على المستوي الثقافي: مقاومته ليست قائمة على الرفض العسكري للآراء، ولا تعني المقاومة هنا الانغلاق على الذات، ولا الركون للمألوف والمشهور دون أدنى محاولة لمواكبة التطورات الثقافية والمعرفية، التي لا تتعارض مع الهوية والثوابت. وتعمل المقاومة هنا عم الطبيب من حيث الرصد الدقيق والتشخيص السليم للمعارف والآراء الثقافية، وتناقش الآراء والمعارف الواردة والجديدة مناقشة علمية هادفة بمنطق الدليل والبرهان لا منطق العادة والتقليد السلبي. حتى لو كانت الآراء جديدة، فجديتها لا تعني عدم صحتها، لأن معيار الصحة والخطأ قائم على مدى حقانية الفكرة، ومدى قوة دليلها وبرهانها، ومصدرية هذه المعارف ومواءمتها مع مصادر المعرفة، أي حجية هذه المعارف.

- على المستوى الاقتصادي: المقاومة هنا تقوم على التأسيس لنظام اقتصادي، يستفيد من كل المقومات الداخلية البشرية والمادية، ويقيم نظام خاص يتناسب وموقعه الجغرافي، ومقدراته وثرواته، وعلى أساس التعاون والتنافس الإيجابي، وتحت شعار المنفعة للجميع.

- المقاومة المدنية التي قد تتمثل في المظاهرات السلمية، أو العصيان المدني، وهي مظهر من مظاهر المقاومة والرفض الشعبي، الذي كان له أثر كبير في نجاح الثورة الإيرانية، وقيام الجمهورية الإيرانية، وكذلك تاريخيا في سقوط الملكية الفرنسية، وقيام الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا. فالثورة الإيرانية مصداق للمقاومة الإيجابية التي قامت ضد حكم الشاه الجائر المستبد، وضد سلب الناس حقوقهم المدنية والسياسية، والعمل على إفقار الشعب، وبيع خيراته للمستعمر.

2. مقاومة سلبية:

وهنا أعني بها المقاومة التي تكون باتجاه معاكس للحق، فهي أيضا تعتبر مقاومة من قبل الفرد رافضة للمسار الصحيح، وغالبا هذه المقاومة تنطلق من العصبيات، كالتعصب المذهبي والطائفي، والتعصب المعرفي،والثقافي والعرقي. هذه العصبيات تكون منطلقا لعمليات مقاومة سلبية، تخلق هذه المقاومات حالة النزاع والخلاف، فعلى المستوي الثقافي، تكون كثير من النخب منغلقة في صندوقها المعرفي، الذي إما توارثته أو اعتادت عليه، بالتالي أي ثقافة ومعرفة جديدة خارج إطارها الخاص، يتم مقاومتها ورفضها حتى قبل الاطلاع على مدى حجيتها ومواءمتها مع ثوابتي وهويتي، أو ما يمكن أن تنفع به أو تضر. فيكون الرفض هنا قائم على التعصب على منهج الدليل والحجية. وكذلك استغلال المظاهرات المدنية والعصيان المدني، في رفض محاولات الاستقلال، وفي تمكين المشاريع الاستعمارية سواء الثقافية منها أو الاقتصادية.

الدولة المقاومة:

تتأسس الدولة المقاومة على مفهوم العدل، والرفض للخضوع والاذلال، الاستقلال، والاقتدار والاكتفاء الذاتي، التعاون والتنافس الإيجابي، ومفهوم الأمن المشترك وعدم الاعتداء.

فاليوم كون المنطقة مستهدفة بشكل مكثف، ومحاولات السيطرة والهيمنة لا يكل أصحابها ولا يملون، فنحن بحاجة لمعادلة: الدولة العادلة، والمجتمع المدني المقاوم، والجيش القوي المستقل، والمقاومة الشعبية.

ففي البعد السياسي: النظام العادل والدولة القوية؛

والبعد الاجتماعي: المجتمع المدني المقاوم والمقاومة الشعبية

والبعد العسكري: الجيش القوي المستقل والمقاومة الشعبية.

التأسيس للمقاومة كفعل استراتيجي:

1. التأسيس خاضع لاعتبارات الجغرافيا لكل دولة، فإما يكون هرمي يبدأ من الدولة ومؤسساتها التي تتبنى ثقافة المقاومة ورفض الخضوع لإرادة الفساد الداخلي والهيمنة الخارجية، بحيث تعمل على تنزيل وتبيئ مفهوم المقاومة في مؤسساتها نزولا الى المجتمع ومرافقها العامة باستغلال كل الآليات المتاحة، أو يبدا من المجتمع من خلال المقاومة السلمية المتمثلة بالمظاهرات السلمية والعصيان المدني كمرحلة متقدمة في مواجهة قوى الفساد الداخلي، ورفض قوى الهيمنة الخارجية، بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافية، فيكون مدني بمعنى أنه يقوم من رحم المجتمع كثقافة ومن ثم الحراك الاجتماعي الشعبي يفرض رؤيته المقاومة لتصبح واقع يدفع رأس الهرم للتسليم لإرادة الشعب.

⁃ التشبيك العمودي والرأسي:

⁃ عموديا من خلال التشبيك بين الارادات الفاعلة في الساحات الثقافية كالنخب، والعسكرية كالمقاومين والسياسية بين الفاعلين سياسيا في مراكز القرار والاقتصادية لتشكيل حلف اقتصادي يفرض رؤيته الاقتصادية للخروج من هيمنة الدولار وهيمنة الامريكي على النظام العالمي الذي يستغله لإرضاخ الارادات الحرة.

⁃ الرأسي من خلال تشبيك العمل والتعاون ضمن القطر الجغرافي الواحد لكل دولة، بين جميع النخب الفاعلة في كافة المجالات لتشكيل جبهة داخلية متوازنة ومواكبة، هذه الجبهة تشكل حائط صد تمنع الثغرات التي من خلالها يمكن أن تحدث الاختراقات في كافة المجالات. وهو ما يتطلب عملية متابعة وتقييم ونقد دقيق للفعاليات المقاومة بكافة اشكالها، وفي ذات الوقت مرونة تستوعب متغيرات الزمان والمكان، وتشخص في كل مجال مقاوم خطابه الخاص وآلياته المحددة.

3. تسييل المصادر وتبادل الخبرات ونقلها مع تطويرها وتبيئها. من خلال فتح قنوات مأمونة لتسييل مصادر التمويل المعرفي والمصرفي والسياسي، وتبادل الخبرات بين المشبكين سواء رأسيا أو عموديا، كون هذه الخبرات خاضعة في جغرافيا لظروفها السياسية والثقافية، بالتالي مع اختلاف هذه الظروف تكون طرق المقاومة مختلفة وفق هذه الاعتبارات، هذا فضلا عن إيجاد ممرات آمنة عسكريا للمقاومين.

***

حاورها: الأستاذ مراد غريبي – المثقف

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س8: أ. مراد غريبي: كيف تنظرون لإشكاليات الإصلاح عند العرب، في بناء مشروع نهضوي متكامل لمفهوم دولة الإنسان، وهل تعدد المرجعيات الإسلامية مأزق تاريخي يفرض العلمانية كحل؟

ج8: أ. إيمان شمس الدين: تناولنا في الإجابات السّابقة إشكاليات الإصلاح ويهمني جدّا تسليط الضّوء على الشّق الثاني من السّؤال حول تعدد المرجعيّات وكون العلمانيّة حل، وهو ما يجعلني أمهّد لموضوع القداسة لعلاقته بالمرجعيّات الدينيّة.

القداسة كمفهوم عام وكلي لها مصاديق كثيرة، والمصداق الذي سنناقشه هو قداسة الأشخاص واعتباراتهم الدينية والفكرية، وما أعنيه من الأشخاص فقط، هم الأشخاص دون الأنبياء والرسل والأوصياء المنصوص عليهم من قبل الله تعالى نصا ونقلا، أو من أخفى الزمان وأحداثه المتراكمة وجودهم الخارجي، لكن حقيقتهم باقية كشخوص لها قداستها من الله.

وما يعنينا هنا بالذات دور القداسة الشخصية، واعتباراتها الدينية والفكرية في دفع مسيرة الإصلاح أو منعها.

فحينما أشرنا في المقدمة إلى أهمية الإصلاح الداخل ديني، وهي الخطوة الأساس في الإصلاح الخارج ديني، فإننا نعني هنا النقد والتقييم والمراجعة على ضوء المستحدثات ومتغيرات الزمان والمكان، وتبدل الأدوات والآليات والخطابات، وكعملية توصيف وليس تقييم للتيارات المدرسية داخل المؤسسات الدينية، أو من يتبعها من خارج المؤسسات، والتي تفاعلت مع مشاريع الاصلاح سلبا وإيجابا، وآلية تفاعلها في هذا الصدد:

١. تيار تقليدي أصولي، بمعنى أنه يتوقف على النص توقفا لا يراعي المتغيرات، يتبنى المسار الطقوسي المذهبي التعبدي، ويعتمد عليه في التحشيد العددي للجمهور، وهذا التيار يختلف في داخله شدة وضعفا، من حيث أصوليته، ويظهر هذا الاختلاف جليا في سبل مواجهة محاولات الاصلاح:

ـ فقسم يكتفي برفض أي محاولات إصلاحية مخالفة لمسلّماته، ويعتبرها تشكل خطرا على الأصالة والثوابت، وفق ما يراها هو ويقرأها، ويكتفي بالرد النصي على ذلك.

ـ قسم آخر من هذا التيار يمارس المواجهة المباشرة، من خلال التسقيط الاجتماعي لحامل المشروع، باستغلال عاطفة الجمهور واستغلال البعد الطقوسي والتعبدي، فبعد تسقيط الشخص في ذهنية الجماهير باتهامه بالخروج عن الدين والمذهب، يتم محاصرة المشروع ومن ثم تقويضه.

ـ قسم آخر يستخدم سلطته الدينية الفتوائية، فيصدر فتاوى تكون بمثابة الرصاصة الأخيرة، التي تقضي على المشروع وصاحبه، دون تفنيد الآراء بالدليل والبرهان.

ـ تيار حداثي يواكب المسائل المستحدثة، لكن يتلقف مشاريع الاصلاح كمسلمات، لأنه يهدف إلى الاصلاح لكن بطريقة مُفَرِّطَة، فلا يعكف على المنهج والآليات، ويتلقف كل ما هو جديد تلقف المسلمات اليقينية، لأنه مسكون بهاجس التغيير والتطوير، وهاجس مواكبة الغرب وأحيانا محاباته معرفيا، حتى لو عن طريق الترقيع.

ـ تيار حضاري أصولي معتدل، ينشد الاصلاح ولكنه يهتم بماهية الاصلاح وآلياته وأدواته، ويدرس حركة الوعي الاجتماعي وقابلياتها، ويهتم بالتدرج الهادئ الممنهج في مساره الاصلاحي، فهو يغلف مشروعه الاصلاحي بظواهر تقليدية، لكن مبانيه إصلاحية أصولية تأخذ في حسبانها المتغيرات العصرية، لكنه لا يتفاعل مع المتغيرات من موقع المنفعل بها، بل الفاعل بها والمتفاعل معها بما يخدم الدين لا يقوضه، ولا يخوض معارك شخصانية، بل معركته معرفية تعتمد الدليل والبرهان، ولا يستنزف وقته وجهده في المواجهة والجدل مع مناهضيه، إلا أنه يتوقف على النقود العلمية لتقويم مساراته الاصلاحية على ضوء هذه النقود وفق درجة وجاهتها علميا وبرهانيا. وهذا التيار لا يمارس الصدمة، وليس له بروز حاد في الساحة، ويتعاون مع المشاريع الاصلاحية النهضوية بتروي ودراسة، فيأخذ بما يلتقي مع مساره، ويترك ما يخالف تلك المسارات، لكنه لا يمارس أي دور دفاعي وتحصيني لتلك المشاريع ولا لشخوصها غالبا، حتى لا يتضرر مشروعه وتنكفئ مساراته، وتقوض جهوده. وقد يساهم في تلك المشاريع بطريقة تمهد لمشروعه وتنفعه على المدى البعيد.

ـ تيار يمارس التقية، فيظهر تقليديته في المنهج ويبطن حضارتيه في المباني والأهداف، لذلك قد يقف هذا التيار في الظاهر ضد مشاريع الاصلاح، لكنه في الباطن يدعمها ويؤيدها.

وهذا لا يعني خلو ساحة المشاريع الاصلاحية وأصحابها من ثغرات، وممارسات خاطئة، بل وفهم خاطئ أحيانا للإصلاح الديني، بل للفكر الديني بذاته، لكننا نكتفي بتقسيمات هذه المشاريع وأصحابها التي أوردناها في البداية.4978 ايمان شمس الدين

عائق اعتبارات القداسة كان ومازال له انعكاساته السلبية والإيجابية على الحركات الاصلاحية أهمها:

ـ كان للتيار الأصولي التقليدي دورا فاعلا في ترشيد كثير من الحركات الإصلاحية، لا بشكل مباشر مقصود، بل بشكل غير مباشر وغير مقصود، فردود الأفعال الصادرة عنه كشفت منهجيته في المواجهة، وكشفت ضعفا في بعضهم يكمن في ميله الإخباري التوقيفي على النص، وهو ما مكن بعض دعاة الاصلاح والنهضة من كشف ضعفهم بمنطق الحجة والبرهان، وإعادة نظر هذا الفريق من المصلحين في آلياتهم ومنهجهم وبعض رؤاهم.

ـ كرس سلطة العوام، لاعتماده على تحشيدها العددي لمواجهة وإسقاط المشروع الإصلاحي وأشخاصه، وكرس الموروثات غير مبرهنة في المجال العقدي والممارسات الطقوسية، بل كرس الطقوسية الدينية على حساب العقلانية المرشدة.

ـ ظهر كقوة ردع في وجه الانحرافات المطروحة باسم الاصلاح وقوضها، وإن مارس ذلك باستخدام وسائل كالإرهاب الفكري والاسقاط الاجتماعي.

ـ المواجهات الرافضة لأي طرح إصلاحي مخالفا للمشهور والإجماع، والموروثات العلمية لعلماء بشر سابقين غير معصومين، كرست العمل الفردي على حساب العمل الجماعي، فباتت كثير من الشخصيات الدينية ومنها الداعية للنهضة والاصلاح، له مشاريعه الفردية الخاصة، إما بسبب خوف البعض على مشروعه، بالتالي لا يريد أن يتأثر بأي حملات مضادة لمشاريع أخرى متشاركة معه ومتقاطعة ، أو بسبب فقدان الثقة بالساحة الدينية وشخوصها، خصوصا بعد فتاوى التكفير والتضليل وممارسة الاجتزاءات لكلام كثير من دعاة الاصلاح، ومحاولة محاورتهم بطريقة تستنطق ما يريده المحاور من الشخص الداعي للإصلاح، ومن ثم تحرف أو تجتزئ كلامه لتسقطه وتقوض دعوته، وهو ما جعل مساحات الظن السيء تفوق مساحات حسن الظن في الوسط الديني. وكانت النتيجة كالتالي:

ـ في مواجهة دعاة الإصلاح ومشاريعهم، رجحت أصالة المجتمع على أصالة الفرد لتقويض المشروع وإسقاط صاحبه.

ـ هذه المواجهة كانت نتيجتها الدفع لتكريس أصالة الفرد على أصالة المجتمع، من خلال الدفع بالمصلحين للعمل الفردي، وفقدان الثقة بين العلماء من دعاة الاصلاح أو غيرهم، مما هز كيان العمل الجماعي لحساب العمل الفردي، وأضعف الطاقة الانتاجية المعرفية وأخَّر الابداع الخلاق الجماعي.

وقد أسس السيد الشهيد محمد باقر الصدر، قاعدة فكرية لنظرية المصلحة العليا تميز بين المصلحة الخاصة والمصلحة العليا كمبدأ تأسيسي في نظم التفكير في المؤسسات الدينية والمنتسبين إليها، وكانت ترتكز على مبدأ الإيثار الأخلاقي، وهو إيثار المصلحة العامة والعليا للدين، على المصلحة الخاصة للفقيه قائلا:

" الأخلاقية التي كنا نعيشها من نقاطها الرئيسية الارتباط بالمصلحة الشخصية بدلا من التضحية، نحن بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلا من أخلاقية المصلحة الشخصية، نحن بحاجة أن نكون على أهبةٍ لإيثار المصلحة العامة للكيان، على حساب المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو لهذا الفرد، نحن لابد لنا من أخلاقية التضحية بالمصالح الخاصة في سبيل المصالح العامة. أما ما كنا نعيشه، أما ما كان موجودا فهو على الغالب إيثارا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة. كنا نعيش لمصالحنا، وكنا لا نعيش للمصلحة العامة حينما تتعارض مع مصالحنا الخاصة.

وهذه النزعة الأخلاقية التي تتجه نحو المصلحة الخاصة لا نحو المصلحة العامة، تجعل القدر الأكبر من طاقتنا وقوانا وإمكاناتنا خصوصا في بيئة مثل بيئة الحوزة، في جو غير منظم، في جو لابد لكل إنسان أن يبني نفسه بنفسه، في مثل هذا الجو إذا عاش الناس دائما عقلية المصلحة الخاصة، ولم يكن عندهم أخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة، في سبيل المصلحة العامة، فسوف يصرف القدر الأكبر من هذه الطاقات والإمكانات والقابليات في سبيل تدعيم المصالح الخاصة، أو في سبيل الدفاع عن هذه المصالح الخاصة.

ثم يقول: في هذا الجو العام بهذا الاتجاه سوف يضطر كل إلى التفكير في نفسه والدفاع عن نفسه، وإلى تثبيت نفسه، وبذلك تصرف ثمانين بالمئة من طاقاتنا داخل الإطار، بالمعارك داخل الإطار، بينما هذه ال ٨٠٪ من القوى والطاقات التي تصرف في معارك داخل الإطار كان بالإمكان - لو كنا نتحلى بأخلاقية الإنسان العامل يعني لو كنا نتحلى بأخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة – أن نحول هذه ال٨٠٪ للعمل في سبيل الله للعمل في تدعيم الإطار ككل، لتكريسه لتكديسه، لتوسيعه، وبذلك كنا نستفيد- لو كنا نعقل كنا نستفيد- حتى بحساب المقاييس العاجلة أيضا أكثر مما نستفيد ونحن تنازع ونتعارك ونختلف داخل إطار معرض للتمزق ، داخل إطار مهدد بالفناء.

ثم يختم هذه الجزئية قائلا: أخلاقية الإنسان العامل أول شروطها هو أن يكون عند الإنسان شعور واستعداد بالتضحية بالمصلحة الصغيرة، في سبيل المصلحة الكبيرة، وهذا ما لابد لنا من ترويض أنفسنا عليه. (كتاب: ومضات للصدر).

ولكن رغم هذه التعدّديّات إلا أنها يُفتَرض أن تأتي في سياقها التّاريخي الطّبيعي، فالاختلاف أمر طبيعي بين البشر، إلا أن البيئة العربية والإسلاميّة على مستوى الشّعوب عاشت فترات استبداد طويلة كان من أهم آثارها التنشئة عبر الزّمن على أحاديّة التفكير ورفض الاختلاف، لأن الاختلاف كان يواجه من السّلطة بعنف، وبالتّالي كان هذا العنف يتحوّل إلى وسيلة قمع وإرهاب غير مباشر ضد الشعوب، بالتّالي تم وزْد فكرة حريّة الاختلاف والتّفكير، وباتت الفكرة الرّائجة كحقيقة هو دين السّلطة ومنظومتها الفكريّة، وأي خروج عن ذلك يعتبر نوع من أنواع الكفر والخروج عن السائد الاجتماعي، لذلك نحن علينا أن نحوّل تحدّي الاختلاف إلى فرصة إلى رفع منسوب الوعي عن الجماهير بأهمية الاختلاف في تأسيس دولة الإنسان والمواطن، و أهميّة ذلك في تأطير منسوب الاستبداد ورفع منسوب العدالة وتحقيق الكرامة الإنسانية، ورفع مستوى الوعي الحقوقي وأهميته في منظومة الفكر الإنساني والاجتماعي، إذا هذا يحيلنا إلى الجزء الآخر من السؤال هل العلمانيّة هي الحل؟

هناك من ينادي بالعلمانية. كخلاص لمنطقتنا من الظلام، ولكن هل هي فعلا الخلاص أم هي هروب آخر نحو المجهول؟ نحن لا نعالج جذور المشكلة كي نضع لها حلولا مناسبة، نحن غالبا نهرب بعلاجات ترقيعية مستوحاة من الآخرين، دون حتى الالتفات إلى الفروقات الجوهرية بين الثقافات المختلفة والهوية، ونعمد إلى عملية استلاب لكل حواضننا الثقافية، باستيراد تلك الحلول، التي نهرب من خلالها من الواقع، حتى لا نشمر عن سواعدنا ونوغل في فهمه وحل مشكلاته.

والسبب هو التداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة لتلك المشاكل، التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني، ليخنق الإنسان لا ليخدمه.

والحقيقة أن ما هو سياسي ليس ما يجب أن تكون عليه السياسة، وما هو معرفي ليس حقيقة ما يجب أن تكون عليه المعرفة، وما هو ديني ليس ما هو دين أو ما وجد كدين، التشابكات الحاصلة هي ثمرة أفهام بشرية متداخلة، ساقت لنا تجاربها وعصارة أفكارها لتصنع لنا واقعنا .

ما نحتاجه كخطوة أولى حقيقية هي فك هذه التشابكات، من خلال فهم واقعها ومواجهة كل الانحرافات التي بها، ومن ثم معالجتها بالحقيقة.

وهنا نقع في مأزق الحقيقة، فأي حقيقة وأي منهج يوصلنا لتلك الحقيقة؟

في ظل فوضى المعرفة وادعاء امتلاك الحق والحقيقة، لا يمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق، بل علينا أن نمتلك الجرأة والقدرة على مواجهة كل التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من أدوات منهجية، فلن ادعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ، ولكنني أجرؤ على القول، أننا يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك .

إن أول عقبة وحائط صد يمكنه الوقوف أمام هذا الطريق الشائك، هو أغلب النخب الدينية والفكرية، والسبب هو تداخل المصلحة الذاتية مع مسار المعرفة البشرية، تداخلا متشابكا يُغَلِّب فيه هؤلاء مصالحهم على معارفهم، والضحية هو الإنسان الذي منه تتشكل المجتمعات.

لذلك أرى أن الخطوة الأولى للتشخيص هو مواجهة الذات، من خلال تسليط الضوء عليها ومعرفة خباياها وطرق تحفيزها وتوجيهها للخير العام، وليس فقط للخاص، مع تشخيص دقيق لمفاهيم الخير والصلاح وفق المشتركات البديهية البشرية التي تتفق فطرة البشر عليها خاصة في الجانب القيمي فيها، كون العقل قادر على تشخيص الحسن والقبيح وفق آراء أغلبية الباحثين في هذا الصدد، إضافة لانخراط أولئك الذين تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم وذواتهم، أولئك المستعدون للمواجهة الكبرى مع الذات من جهة، ومع الآخر من جهة أخرى .

مواجهة معرفية تمتلك القدرة على فهم الواقع وتشابكاته، ومن ثم مواجهته وإصلاحه، مهما كلفها ذلك من ثمن على مستواها الشخصي أو الاجتماعي، أو حتى على مستوى ما اعتادت عليه من أفكار وعقائد.

إذا امتلكنا هذه المقدرة والقدرة، فنحن بذلك نكون قد قطعنا نصف الطريق نحو فهم وإدراك ماهية المعرفة، والإجابة عن سؤال أي معرفة؟ وما هي أدواتها وما هو منهجها السليم.

إن فهم العقل الإنساني وطبيعة الفهم البشري مدخلا ضروريا لفهم الذات والآخر، كون المعارف تشكل الافكار التي تقود العقل.

إذا خطوتنا الأولى تكمن في فهم الإنسان، فهم حاجاته الواقعية، صراعاته التي يعيشها مع ذاته بين فطرته وغرائزه، كيف تم نظمها وقَوْنَنَتُها.

هناك حقيقة لا يمكن الانفكاك منها، وهي حاجة الإنسان للدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته.

إن أدركنا ذلك بواقعية، نستطيع بعدها معرفة أي دين وأي مقدس، كون النص هو مصدر الدين، وهو أهم مصادر المعرفة المقدسة، وهنا يجرنا هذا الاعتراف والاقرار إلى إيلاء اهتمام خاص بهذا الجانب المعرفي من معارف الإنسان، والمحوري في تشكيل عقيدته، وتسيير سلوكه الفردي والاجتماعي .

فالدين هو مصدر التفسير الأثرى لمعنى الحياة والموت، وكون الحياة والموت مراحل أساسية للإنسان، بل هي تشكل مساراته كافة وأفكاره، بالتالي تصبح حاجته للدين حاجة وجودية واجبة، هذا فضلا عن كونها حاجة فطرية.

نحن اليوم إذا أمام أزمة فهم ديني لا أزمة دين، هذا الفهم مرجعه إلى موارد المعرفة وأدواتها وكيفية الإدراك، وهو ما يتطلب معالجة على عدة أصعدة مختلفة.

الإدراك المعرفي وأدواته:

الصعيد الأول هو الحفر العميق في منطقة الإدراك المعرفي، وكيف يتعامل عقل الإنسان ومراكز الإدراك فيه مع المعارف، ويرسم من خلالها أفكارا تشكل له عقيدة وسلوكا.

إن العمل يكون على مناهج التفكير أو ما أسماه المفكر العراقي يحيى محمد "علم الطريقة".

فيقول: " البحث الطريقي للفهم، وهو معني بمعرفة مناهج الفهم والقواعد التي يعتمد عليها والقوانين التي تتحكم فيه. كما يندرج ضمن البحث الطريقي كل ما يستجد من قواعد للفهم، وكذا طرق التقييم والترجيح بين مناهج الفهم وأنساقه. ويدخل هذا القسم في صميم علم الطريقة، وهو نظير ما يجري بحثه في) فلسفة العلم (وبهذا الاعتبار يكون عبارة عن فلسفة الفهم. لكن إطلاق سمة المنهج والطريقة عليه أولى من إطلاق لفظ الفلسفة.

وللمنهج معنيان، اذ يُقصد به المعنى الإجرائي، كما قد يُقصد به المعنى الابستيمي أو المعرفي. ويعني الأول القيام بالخطوات والضوابط اللازمة للبحث. فمثلاً في البحث التجريبي؛ على المجرب أن يأخذ بعين الاعتبار كل الخطوات التي تكفل للعملية التجريبية أن تكون مناسبة، دون أن ينقصها شيء من الشروط المعدة للبحث، كتحضير عينات من المادة المراد إجراء البحث عليها، وتعريضها لظروف اختبارية مختلفة، والاستفادة من الأبحاث السابقة في هذا المجال، وتسجيل الملاحظات الخاصة بخطوات البحث وجمعها ثم تحليلها واستخلاص ما يمكن من نتائج. والأمر كذلك في البحث الفكري، فلكي يحاول المفكر أن يقدم نظرية ما أو يشكل تصوراً دقيقاً حول قضية معينة؛ عليه أن يقوم بجملة من الاجراءات المنهجية، كشرط للدقة في النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها، من قبيل الاطلاع المسبق على النظريات والتصورات التي سبقت بحثه في القضية ذاتها، وكذا مقارنة هذه الأفكار ببعضها أو القيام بنقدها ضمن نفَس موضوعي، وكذا ألا يحمل صورة نهائية مسبقة حول القضية ليسقطها على البحث، وكل ذلك يعد من الإجراءات المنهجية للوصول إلى نتائج نهائية دقيقة. لكن ذلك لا علاقة له بالبحث المنهجي بما يعبر عن نظرية في المعرفة الإبستيمية، ففي جميع الأحوال إن الباحث سيعوّل على منهج أو أكثر من المناهج المعرفية؛ سواء التزم بدقة الإجراء المنهجي أم لم يلتزم. فقد يعتمد على المنهج التجريبي في قبال العقلي أو العكس، فهو وسيلة غرضها الكشف عن الحقائق عبر عدد من القواعد والمبادئ القبلية، التي تعمل على تحديد سير العملية المعرفية، وكل ذلك لا علاقة له بالإجراء المنهجي الآنف الذكر. والذي يعنينا هو المعنى الأبستيمي للمنهج لا الإجرائي."

وكما يرى أن علم الطريقة، هو العلم الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم. (يحيى محمد، بحث في علم الطريقة)

وتكمن أهمية هذا العلم كونه ينظم طريقة الفهم والتفكير المعنية بالتعاطي مع النص الديني، الذي يشكل رافعة أساسية في نظم الأفكار للإنسان والبشرية كافة. خاصة في وطننا العربي والإسلامي، والذي يعتبر اليوم أهم إشكالية جدلية نتجت عنها مدارس عدة، منها مدرسة داعش التي اعتمدت على القراءة النصية المغلقة للنص، دون مدخلية للعقل أو للزمان والمكان، ودون مداورة لتلك النصوص وإعادة موضعتها فيما يتناسب مع منجزات الحاضر ومعطياته.

هذا الحفر في الجهاز المعرفي والإدراكي يُمَكّننا من الخروج بمنهج لعلم الطريقة، الذي بدوره ينظم عملية التفكير والفهم. وهو ما قد يقلل مساحات الاختلاف بين كافة المدارس الدينية في قراءة النص الديني، ويحقق منسوب وعي وازن، قادر على إيقاع تغيير يحقق العدالة والكرامة البشرية، واللتان هما قيمتان لا يختلف عليها بشر. إلا أن التطبيق محل الاختلاف، لاختلاف مناهج التفكير ومصادر المعرفة، فموضوع التغيير والاصلاح مرتبط أساسا في بنية تفكير الفرد التي تحدد ذاته الداخلية وتبنيها، ومن ثم توجه سلوكه الخارجي. فأي حديث حول التغيير لابد أن يحفر في عمق المجال الإدراكي للفرد، وفهم عقله، وطرق بناء منظومته الفكرية، ومن ثم معرفة طرق التأثير، وتحقيق التغيير باتجاهات مقاصدها العدالة والكرامة. وهدف التغيير يتطلب مقدمات تشكل أساسا هاما في تحقيق التغيير كهدف آلي للعبور نحو العدالة. ومن أهم المقومات هو وجود الدافع لدي الإنسان، وهذا الدافع هو حصيلة بنيته الفكرية وفهمه للكون ولوظيفته، وعلى ضوئها يستطيع تشخيص الخلل الخارجي، ويقوم بمجموعة مقارنات تخلق لديه الدافع نحو تحقيق هدف التغيير، وإحراز العدالة التي تحقق له كرامته ووجوده الإنساني. ويتشكل الدافع وفقا لبنيته الفكرية والمعرفية، لذلك تتفاوت دوافع البشر في شدتها وضعفها وقوتها وعمقها وفاعليتها، بناء على الاختلاف الكبير في البنية الفكرية والمعرفية.

إن إشكالية الدين والدولة هي إشكالية قديمة جدا دخلت في صراعات كثيرة كان عنوانها الرئيسي سياسي بامتياز، حيث مرت هذه الإشكالية بمراحل عديدة وصلت بنا اليوم إلى النظرية العلمانية،"سواء في العلمانية الجزئية وهي وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة " فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية". والعلمانية الشاملة وهي رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها عبد الوهاب المسيري أيضاً "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة)". ونستطيع القول بتطور العلمانية كنظرية حيث بدأت من الرؤية الجزئية في فترة كانت لا تزال هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية متأثرة بالحكم الكنسي لذلك العصر، ثم بعد سيطرة الدولة ومؤسساتها على الحياة الفردية في المجتمع، فتم توسيع الرؤية والنظرية لتشمل كل مناحي الحياة وتطرح العلمانية الشاملة. أما بالنسبة لحكم الدين للدولة وعدم فصله عن الواقع السياسي فقد مرت أيضا التجربة الإسلامية بمراحل عديدة أدت أيضا إلى تجيير الدين أو دعم الفهم و الرؤى الدينية التي تصب في صالح الحكم والحكام لكل فترة زمنية. وعلى الرغم من نجاح أول تجربة دينية دستورية في الواقع الإنساني والتي كانت بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله حيث شكلت الدولة الإسلامية في المدينة، إلا أن عدم نضوج هذه التجربة وارتحال قائدها قبل اكتمال معالمها، وانتقالها بعد الخلافة إلى الدولة الأموية ومن ثم العباسية إلى الخلافة العثمانية، أدى إلى تشويه التجربة الإسلامية نتيجة ممارسات تلك القيادات والتي كانت تعبر بشكل أو بآخر عن تمثيلها للإسلام في المفهوم العام. ونستطيع القول أن التعسف والديكتاتورية التي كانت تمارسها تلك القيادات باسم الدين شبيهة إلى حد كبير بتلك الممارسات المتعسفة التي كانت تمثلها الكنيسة المسيحية، مع وجود اختلافات في المنطلقات والمفاهيم.

لذلك تبلورت القناعات والإدراكات المعرفية في ظل هذه التجارب الغير ناجحة، لتزداد قناعة ـ خاصة وأن التجربة الغربية الظاهراتية للدولة الحديثة ماثلة أمام النخب ـ من أن النجاح والتطور ونهوض الدولة مرتبط بشكل حتمي مع فصل الدين عن الدولة، واختلفت هنا الدعوات في درجة العلمانية المطلوبة، بين أصوات نادت بالعلمانية الشاملة، وأخرى اكتفت بالعلمانية السياسية الجزئية، التي تكون فيها الدولة محايدة دينيا لا تتبنى أي وجهة دينية، ولا مدخلية للدين في التشريعات والتقنين وكانت هذه الأصوات مصدرها غالبا من النخبة من المثقفين خاصة، متذرعين بما آلت إليه أمور المسلمين نتيجة قيادة الدولة باسم الدين. ونحن لا نستطيع أبدا أن نقر أن ما قامت به الدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية يمثل بشكل أو بآخر الإسلام أو حتى يشبه قيادة رسول الله للدولة الإسلامية في صدر الإسلام، لأن التشويه المفاهيمي للدين ودوره في قيادة الدولة بدأ بعد ارتحال رسول الله وبشكل تدريجي وليس دفعي، إلى أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه.

ولذلك وجد الكثير من المفكرين المسلمين أن الحل يكمن في العلمانية وفصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية يسودها القانون، في ظل احترابات ذهب ضحيتها كثير من حيوات الأبرياء، وانتقصت إنسانية الإنسان وكرامته باسم الدفاع عن الدين، تحت مظلة دولة يحكمها مستبد تلبس ثوب الدين ليهيمن على عقول الناس، وليصبح هو ربهم لا الله.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

هل العلمانية هي البديل؟

"منذ تسعينيات القرن الماضي يكرر الفرنسي أوليفييه روا Olivier Roy والأمريكي ريتشارد هاس Richard Hass، وهما قريبان من مؤسسات القرار السياسي، القول بأن أفضل طريقة للتخلص من الإسلاميين هي في نزع الأسطورة والمصداقية عنهم، وذلك بأن يصلوا إلى السلطة ويجربوا الحكم فيفشلوا عندئذ في تنفيذ البرامج التي وعدوا بها، وقد وصل العديد من الإسلاميين إلى السلطة في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة وفي وجود مشاكل اقتصادية واجتماعية، على الأقل، فشلت دول كبرى في إيجاد الحلول لها بدليل الأزمة الحادة التي تعصف بالولايات المتحدة وبالقارة الأوروبية وبالنظام المالي والاقتصادي العالمي منذ عام 2008". (كتاب: التحولات في النظام العربي)

بعد تجربة الإسلاميين في السياسة والسلطة سؤال يطرحه أغلب المثقفين: هل العلمانية هي البديل؟

بداية لتقييم أي تجربة لابد لنا من قراءتها ضمن ظروفها المحيطة زمانيا، وضمن جغرافيتها مكانيا والتحديات الداخلية والخارجية، فاستلام الإخوان المسلمين للحكم في مصر لم يتجاوز العام، وجاؤوا لحمل إرث النظام السابق بكل فساده وأبجدياته، وهذا لا يبرئ ساحتهم من ارتكاب أخطاء، وهو أمر طبيعي بشريا، ولكن الإنصاف يتطلب منا قراءة التجربة قراءة موضوعية، فالأصل في ذلك فهم ما حدث وتقييمه والخروج منه بفائدة.

وعادة في الثورات التحول والتغيير للأفضل يحتاج التالي:

١. رؤية حول مشروع الدولة وآليات التطبيق ضمن خطة استراتيجية ثاقبة،

٢. ولوضع الرؤية لابد أن يكون لديهم إحاطة بالميدان، سواء الاجتماعي وماهيته وتركيبته، أو السياسي وخارطة طريق الأحزاب والسلطات والتغيير المطلوب.

٣.الخروج من عقل الجماعة والحزب إلى عقل الدولة الجامعة لكل المكونات.

وهذا يتطلب تجربة في الساحة السياسية، وتجربة بقيادة الدولة طويلة ممارسة وتنظيرا، وتجربة سياسية وثقافية في الفضاء الحر، وليس في سراديب السجن والمجتمع، وفي سراديب العمل السري.

٤. وقت زمني طويل ومرحلي وتدريجي، كي يستطيع التخلص من تراكم الفساد للنظام السابق من خلال تخلصه من كل توابعه، وكي يعيد تأسيس بنية الدولة على أساس سليم مستفيدا من أخطاء النظام السابق ومستلهما من تجارب الآخرين.

٥. منظومة قيم ومعايير ومبادئ قادرة على الصمود والمواجهة لكل أنواع الضغوط، كون إعادة بناء نظام دولة على أسس صحيحة تتبنى المبادئ السليمة، سيكون له وقع كبير ورد فعل أكبر معاكس يحاول إفشاله وزعزعته.

فقيادة الدولة تحتاج رؤية حول الدولة والشعب، رؤية تنهض وتقوم مسيرة من مضى وتعيد رسم خطى الدولة وفق أبجديات الدولة الحديثة التي تحقق العدالة.

٦. قراءة وإحاطة عميقة لظروف المنطقة السياسية والتحديات الكبرى التي تواجهها من قبل الدول العظمى وفهم حدود العلاقة مع هذا المحيط، وكيفية التعامل مع هذه الظروف والتحديات، دون التنازل عن المبادئ الكبرى، ودون تكبد خسائر على مستوى الداخل.

وهي تختلف تماما عن قيادة الحزب والتيار والجماعة، فلا تجربة الإخوان المسلمين في مصر يمكن تصنيفها بالفاشلة، رغم كل الممارسات الخاطئة التي ارتكبها الإخوان في الحكم، وهي ممارسات تأتي في سياقها غالبا الطبيعي نتيجة حداثة التجربة وحداثة ممارسة إخوان مصر تطلعاتهم وأمنياتهم في الفضاء الحر، هذا فضلا عن الأدوات التي استخدمها الإخوان في مصر من أجل الوصول إلى السلطة، وفي أغلبها هي أدوات لا تتناسب وهدف الاصلاح كون أغلبها فاسد .

ولا تجربة إخوان تركيا يمكن الاتكاء عليها كتجربة ناجحة نتيجة ازدواجية المعايير والقيم التي ينتهجها زعيم تركيا الحالي الرئيس رجب طيب أردوغان وأخوانه وأدواته، ونتيجة تلوث أياديهم بدماء السوريين والعراقيين والفلسطينيين من خلال دعمهم للجماعات التكفيرية، وعلاقاتهم مع الكيان الصهيوني رغم مواقفهم العلنية ضده.

هذا فضلا عن أن إخوان تركيا لا يشبهون الإخوان في العالم العربي، لجنوحهم الحاد في الآونة الأخيرة نحو فكرة أظهرت حقيقة تحركاتهم وتطلعاتهم وطموحهم، وهي فكرة إحياء العثمانية بثوب جديد، لذلك أطلق عليهم العثمانيون الجدد، وهذا لا يعني أنها تجربة غير ناجحة، ولكن تحتاج عدة عقود لتظهر مدى فاعليتها، لأن التداعيات الممارساتية للتجارب في الواقع البشري لا تظهر إلا بعد أكثر من عقد من الزمن.

والتجربة الإيرانية في الحكم قياسا إلى مرور عقود بعد الثورة، هي تجربه أيضا لها ما لها وعليها ما عليها، لكنها إلى الآن تجربة صمدت في وجه أعتى الرياح وتطورت رغم كل العقبات، وحجزت لها موقعا متقدما في خريطة العالم العربي والإسلامي وباتت إيران رقما صعبا إقليميا أحدث خللا في ميزان القوى وفرض معادلات سياسية جديدة ، ولكن مازالت تقف أمام عقبات داخلية أهمها الخوف من العسكرة، والفساد الذي يَتبدّي تدريجيا من بعض رجالات الثورة وحوارييها، وهذه العقبات هي وليدة تحديات خارجية تحاول زعزعة الداخل لتقويض النظام، مما ينعكس على الداخل أمنيا واقتصاديا .

لكنها التجربة الأكثر ثباتا ونجاحا إلى الآن في الحكم من قبل الإسلاميين قياسا مع غيرها من التجارب في منطقتنا، وقياس نجاحها يكمن في عدم تنازلها عن مبادئها وشعاراتها التي حملتها في بدايات الثورة خاصة فيما يتعلق بقضايا الأمة وتحدياتها وأهمها قضية فلسطين وعداؤه للكيان الصهيوني، ودعمه لحركات التحرر في المنطقة معنويا، وهي الآن تتقدم علميا وعسكريا باعتراف أعدائها وخاصة الأمريكي الذي يعجز إلى الآن من شن حرب حقيقية عليها لمعرفته بالإمكانيات العسكرية والعلمية التي تملكها إيران، رغم أنه خاض حروب عديدة في منطقتنا على أنظمة بحجة فسادها وهوس تطبيق الديموقراطية ، وطبعا هذا يتطلب إفراد دراسة منهجية خاصة مقارنة بين تجارب الإسلاميين في الحكم بشكل تفصيلي علمي موضوعي. إلا أننا لا ننكر أن هناك عسكرة داخلية للفن والثقافة والمجتمع تطغى على الحالة المدنيّة في الدّاخل الإيراني، وهذا يأتي نتيجة طبيعة المواجهة وما تفرضه عليها من هواجس أمنيّة تبقى طاغية على الهواجس المعرفية والفكرية والثقافية، رغم أن الأصل هو في المعرفة، وتأتي القوة والعسكر لحماية التجربة المعرفية والمدنيّة للدّولة وهذا ما لم يتحقق غالبا في تجربة إيران.

وكوننا نتكلم عن التجربة في العالم العربي بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي، فإن سؤالا يطرح نفسه من معطيات تلك التجارب:

هل يعني ذلك ترسيخ قناعة في ذهنية الشعوب من قبل النخب والمثقفين مفادها الحاجة إلى العلمانية كحل بديل يحقق رغبات الاصلاح والعدالة للشعوب؟

إن إشكالية الفصل بين الديني والسياسي إشكالية منهجية في العقل العربي، الذي هيمنت على جزء كبير من نخبه ومفكريه العلمانية التي لها ما لها وعليها ما عليها.

الاشكالية المنهجية تكمن في عملية ترقيع الأفكار في الثقافة المكونة للهوية، هذا الترقيع حتما يولد جنينا مشوها ومعاقا بنيويا.

مما ينتج عنه التخرصات التي نراها سلوكيا لدى أغلب العلمانييين العرب، الذين لا أراهم إلى الآن قدموا مشروعا للدولة، غير التطرف غالبا في مواجهة المختلفين معهم من الدينيين إن صح التعبير، خاصة في الخليج، فلا الإسلاميين قدموا عملانيا ما تبنوه نظريا، وفشلوا في تقديم مشروعهم عن الدولة في الوطن العربي، ومارسوا ازدواجية صارخة بين النظرية والتطبيق، بل ازدواجية معيارية كشفت عن غلو في فهم الدين، وعن تطرف مذهبي وقيمي بل حتى ازدواجية في فهم منظومة الحقوق الإنسانية التي لم أجد لها فهرسا في قاموس أغلبهم.

فنحن وقعنا بين أمرين:

١. الاستلاب ومن ثم الانبهار بنفسية مهزومة نفسيّا وأخلاقيّا.

٢. التقوقع على الذات والفوبيا بحجة الحفاظ على الهوية.

أي فكرة لها وعاء نمت فيه وترعرعت، والعلمانية هي نتاج مسيرة طويلة في الصراعات الفلسفية التي حدثت بعد النهضة والتنوير في أوروبا، واللتان كانتا نتيجة الانقلاب على الكهنوت والاختزال الكنسي للدين وتحويله لسلطة على رقاب الناس.

نمت كفكرة وترعرعت بعد مخاضات فكرية وعقلية، والسير في تجارب ميدانية اجتماعية وسياسية تدرجت في إبعاد الدين الذي مثلته الكنيسة عن الحياة، بدأت بعزلها عن السلطة وانتهت ليكون الدين مجرد طقوس بسيطة فردية تؤدى في الكنيسة يوما في الاسبوع.

ونحن أمام علمانيات ذات مراتب متفاوتة شدة وضعفا، فهناك العلمانية الشاملة والحادة المتطرفة كما في فرنسا، وهناك العلمانية المعتدلة كما في كندا، وتتراوح درجة العلمانية في الغرب بين الدول الأوروبية شدة وضعفا.

فلكي نستطيع بشكل جدي أن ننهض بواقعنا من وجهة نظري هو ليس باستيراد تلك الافكار التي نجحت في مجتمعات، نتيجة ظروفها السياسية وتراكماتها العقلية والعملية نجاحا ظاهريا في أبعاده المادية، مع وجود خلل كبير في أبعاده الأخرى، بل بالاستفادة من تلك التجربة البشرية العريقة ومحاولة المراجعة وإعادة النظر في القراءة الدينية وتصويبها، لمعرفة ماذا نريد من الدين؟ ما هي مساحات الاشتغال التي يجب أن يشغلها في حياتنا وما دور العقل فيه؟

هل واقعا هناك شيء اسمه دين وسياسية؟

واقعا هناك سلطة دينية تستخدم السياسة بمعناها الحالي وليس كما هي، فكلمة لا إله الا الله هي عين السياسة، لأنها إقرار برفض أي سلطة علينا لغير الله وبالتالي رفض أي سلطة خارجة عن إرادة الله وحدوده، وهذا يترتب عليه رفض الاستبداد وأنظمته كلها، ولكن لا على الطريقة السلفية التكفيرية، وإنما على الطريقة الحضارية التي ترى الدين خالدا بحركيته ومرونته، وأصيل بثواته التي تعتبر هيكله العظمي.

فإبعاد الدين هو تكريس للاستبداد بأشكال مختلفة، لأن محورية الدين تكمن بكلمة " لا"، وهي تعني الرفض لكل أنواع الهيمنة خارج إرادة الله وفق قراءة عقلية معتدلة لهذه الإرادة التي مثلها الدين وشريعته.

فالأنظمة التي حكمت منطقتنا أنظمة لا دينية، لكنها مستبدة استغلت الدين لتخدير الشعوب وتعطيلهم عن مواجهتها ومحاسبتها.

وأما التوحش الجديد الذي ظهر حاملا راية الدين ، ومتكأ على فتاوى تكفيرية إقصائية ، فهذا يحتاج إلى إفراد دراسة خاصة به ومع ذلك لا يمكننا الحكم على الدين من خلال فئة ، لكننا يمكن أن نعتبر أنها فئة ظهرت نتيجة الدين السلطوي الذي كرس فهم الدين في تصورات الشعوب على أنه مجموعة من الطقوس والشعارات من جهة ، وأزاح دور العقل وأقصاه ليوطن للنصوص الحديثية دورا محوريا وفق منهج تخديري وتسليمي، لا يقيم للقرآن أي مرجعية معرفية تغربل وتعيد النظر في النصوص الحديثية المختلفة معه ، بل حولت القرآن أيضا لأسفار يحملها قراء يجيدون تجويد الآيات وترتيلها بصوت شجي ، دون أن يدركوا عمقها وآفاقها وتطبيقاتها على أرض الواقع الإنساني، وكيفية إدارتها لحياته الخاصة والاجتماعية ونظمها لأمره.

هي جماعات استلهمت منهجية الحكم من الأنظمة المستبدة بأشكال اختلف ظاهرها واتفق باطنها وأهدافها، هي عبارة عن ولادات لأنظمة سلطوية أخرى، لكن الفرق أن تلك الأنظمة تحالفت مع السلطة الدينية لتشرعن وجودها، أما هذه فهي استخدمت الدين مباشرة لتتسلط به على رقاب الناس، بعد فشل الأنظمة تلك وانغماسها في التآمر على الشعوب وانكشاف أمرها.

واستطاعت هذه الجماعات المنحرفة في ظل خواء روحي وتغييب عقلي متراكم للشعوب ، وفي ظل شعارات جاذبة لكنها خاوية في حقيقتها ، وفي ظل حالة يأس تعم فئات كبيرة من الشباب في الوطن العربي الذي يعاني من الفقر والبطالة والتهميش والظلم ، والفراغ ، والتغييب وغيره ، استطاعت أن تجذب إليها عددا كبيرا منهم، إما بالإغراء المالي أو بالاغراء الديني الشعاراتي الذي يربطهم بنعيم الآخرة ويخلصهم من شظف العيش، في ظل منظومة دينية فكرية اعتاد عليها هؤلاء ، ربطتهم دوما بأن الدين لأجل الموت وليس لأجل الحياة ونظمها وتسيير الإنسان وفق نظام إلهي يقوده لحياة طيبة وآخرة سعيدة.

"وإذت كان التيار الديني، قد تلاعب بالنص لحفظ الواقع القائم وتبريره، كونه يبقي على التشكيلة الاجتماعية والسياسية التي تحافظ طبقيا على منافع الأولياء على الدين وأدعياء الوصاية، فإن التيار العلماني الفاقد لسلطة نافذة في الحياة العربية والإسلامية سيما بعد فشل المثقف الذي أعلنه تيار النهضة ومن بعده، وهو الآخر سعى لتطويع النص ـ ولو من الخارج أحيانا ـ أو سعى لنسفه تحقيقا لمصالح أخرى، إذا أردنا أن نكون أوفياء لتحليلنا السيسيولوجي (الاجتماعي) و ...". (الشيخ حيدر حب الله)

"فالصعود الإسلامي بعد الثورات العربية لم يدم وقتاً طويلاً، ففي مصر انتهي عام واحد من حكم الإخوان المسلمين بانتفاضة شعبية عليهم، سميت ثورة 30 يونيو، عاد بعده الجيش إلى السلطة لقيادة مرحلة انتقالية جديدة يعصف بها العنف والإرهاب والمجهول حول مستقبل الدولة المركزية المصرية، وفي تونس لم يتسن لحزب النهضة الإسلامي وحليفيه في الترويكا قيادة مرحلة انتقالية هادئة، وإذا بالحركات الإسلامية الجهادية والتكفيرية تحتل المشهد في المنطقة العربية على حساب الإسلام السياسي الموصوف بالمعتدل، مما أدى إلى ارتباكات معقدة وخطيرة في النظام الإقليمي العربي وفي تعاطي الدول الكبرى معها.

اليوم تقف الدول العربية كلها، والتي يتشكل منها النظام الإقليمي، وليس دول الثورات فحسب أمام تحدي توضيح العلاقة بين الدولة والإسلام السياسي، وهو تحد يضرب جذوره العميقة في التاريخ والاجتماع السياسي العربيين، وهذا التحدي يرافقه نظير له لطالما كان خلف إشكالية العلاقة ما بين الإسلام والعروبة في منطقة عربية تسكنها أقليات عرقية غير عربية، وهذه الإشكالية كانت وما تزال سبباً لعدم الاستقرار في عدة دول عربية في مقدمتها المغرب والجزائر ولبنان والعراق وسوريا، دون أن ننسى مشكلة الأقليات المذهبية والدينية أيضاً والتي تضيف زيتاً متجدداً إلى نار الفتن المتوقدة". (التحولات في النظام العربي)

لذلك في ظل غياب شبه كلي لفهم عقلي معتدل لعلاقة الدين بالحياة، والاستبداد السياسي بغطاءات إما علمانية أو دينية متشددة، قد تكون بعض الحلول التي يمكن أن تعيد صناعة أنظمة أكثر خدمة لشعبها وأقل عمالة للخارج ضد داخلها تكمن في التالي:

- العمل الأهلي في منظمات اجتماعية، كونها تدمج الأفراد في المجتمع وتنمي انتماءهم له وللوطن لا للأنظمة، وتكون لها سلطة أهلية تصوب العمل السياسي وتخفف من الاستبداد، وتلعب دورا في صناعة الأنظمة وفق معايير تتناسب وبيئاتها الاجتماعية وهويتها وظروفها .

ـ انطلاق شبكة تنسيقية بين أصحاب الفكر المعتدل حقيقة من العلماء كافة ومن الأديان كافة والنخب تعمل على تظهير حقيقي لعلاقة الدين بالإنسان، دون مجاملات ولا عصبيات، آخذة بحسبانها قراءة الدين على ضوء الراهن وأحداثه ومستفيدة من التجارب البشرية في هذا الصدد، لا تكون لها ارتباطات بالأنظمة حتى لا يكون حراكها مرهونا لتلك الأنظمة.

وأما موضوع تنظيم الأحزاب، فإلى الآن لم تستطع أغلب الأحزاب في الوطن العربي أن تخرج من عقلية الأنظمة الاستبدادية كليا ، فغالب الأحزاب لابد أن تصاب بمس الاستبداد ، كون البيئة السياسية تاريخيا شكلت العقل العربي بطريقة تسللت فكرة الاستبداد إلى بنيته العقلية والمفاهيمية، وكرستها كسلوك يختلف شدته وضعفه من حزب إلى آخر ، لذلك نحتاج إعادة النظر في مفهوم الحزب في العقل العربي وإمكانية تغييره وإعادة هيكلياته وأهدافه على ضوء التجربة الغربية وغيرها من التجارب التي قدمت نجاحات بنسب مختلفة، وأهمها أن لا تكون الأحزاب جزء من السلطة بل صانعة لها وفق معايير تمنع التسلط وترتفع بمنسوب وعي الشعوب وحريتها والنهوض بالعقل والفهم ومعايير النهضة والابداع .فالسلطة وسيلة لخدمة المجتمع لكنها تحولت لغاية فانهدم المجتمع لأجل تلك الغاية.

إن إشكالية أغلب التيارات الدينية اليوم هي في عقول رموزها المتحجرين غالبا، وإلا كان يمكن أن تتحول تلك التيارات لمؤسسات تصنع السلطة التي تخدم الناس وتحقق العدالة.

ورغم أن هذه التيارات تنتمي لمشارب دينية، إلا أن أغلب ممارساتها في العمل الميداني التطبيقي هي ممارسات علمانية مختلطة مع فهم سلطوي.

فالأهداف نبيلة إصلاحية غالبا، لكن آليات وأدوات تطبيقها فاسدة في الأعم الأغلب، فهي تعتمد غالبا على البراغماتية الغربية وعلى الطاعة السلطوية، وعلى إقصاء المختلف و وتجميد الطاقات وعدم توزيع الأدوار واحتكار السلطة وعدم الإيمان بتدويرها ، إضافة لهامش الحرية الضيق الذي يحول الفرد المنتمي لها إما إلى شخص آلي ينفذ مخططات السلطة العليا دون نقاش بحجة الطاعة ، أو إلى منافق يبدي لأعضاء التيار ما لا يخفيه ليحقق مصالحه التي لا يمكن له تحقيقها، إلا في إطار هذا التيار أو الحزب كونه يملك الجمهور .

والمشكلة أن من يأتي بشعارات إصلاحية لما هو موجود، نراه تدريجيا ينغمس لأجل تمكين مشروعه ودخوله صندوق ضيق، نجده يمارس بشكل أو بآخر نفس تلك الممارسات ويبرر لها كونه بات ضمن منظومتها.

بل يصل الأمر لممارسات شبيهة بممارسات الأنظمة السلطوية من خلال توزيع الوجاهات، وتقريب الأشخاص وفق معايير شخصانية تعتمد على الوجاهات الاجتماعية، ومدى قدرة توظيفها في المشاريع التي تطرح باسم الاسلام، وضمن شعار في سبيل الله، وواقعها في سبيل كل شيء إلا الله.

لذلك أغلب الأحزاب والتيارات الدينية رغم رفعها لشعارات دينية إلا أنها منغمسة بالعلمانية عملانيا وتطبيقيا وأداتيا، سواء شعرت بذلك أو لم تشعر، رغم أن الإسلام قدم لما منظومة أخلاقية كاملة لتكون في خدمة التطبيق النظري لنظرياته.

ومن هنا لا يمكنني بحجة الممارسات الخاطئة للإسلام أن أتبنى العلمانية، ولا يمكنني أن أحارب العلمانية بإقصائها كخيار على مستوى الدولة، بمعنى حيادية الدولة دينيا كمظلة للجميع، وهو ما يتطلب دراسة معمقة لدرجات هذه الحيادية في كل دولة ومجتمع على حدة، ودرجات علمانية الدولة أيضا في كل منطقة ودولة على حدة، خاصة أننا في منطقة غالبها من المسلمين، ويمكن الخروج برؤية تعايشيه تتبناها الدولة، ولكن هذا يتطلب تظافر جهود النخب كافة دون تحييد أحد، للخروج برؤية في هذا الصدد والإجابة على تساؤل أي دولة نريد.

بل على النخب أن تقدم مشروعا تطبيقيا حقيقيا بديلا، فعلمانية الغرب تدفع لإعادة قراءة فهم الدين ومساحات اشتغاله في الحياة وعلاقته بالدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع الأهلي، لا أنها تجعلني اخلع هويتي وألبس ثوبها الذي لا ينفع أبدا مع قابليات هذه المجتمعات في العالم العربي وخاصة في الخليج، تحت حجة ممارسة أغلب التيارات الاسلامية وتشددها باسم الدين وفشلها في السياسة وفي تحقيق العدالة والأمن.

فدور الدين في الحياة محوري، بل أصل لا ينفصل عنها، أراه دورا بناء غير لاغيا للانسان وعقله، بل الأصالة فيه للعقل القارئ للنص و المُثَوّر له، فلا العقل دون نص يملك قدرة تامة، ولا النص الديني دون عقل يمكنه أن ينفع الإنسان.

وقد طرح "إرنست فولفكانغ بوكنفوردا ـ Ernst Wolfgang Boeckenfoerde" في منتصف الستينات من القرن الماضي في معادلة ملفتة للنظر: ألا تتغذى العلمانية الحرة من فرضيات معيارية لا يمكن أن تضمنها هي بنفسها.

تتضمن هذه المعادلة كما يصف الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" شيئين اثنين:

١. الشك في إمكانية الدولة الدستورية الديموقراطية تجديد شروط وجودها المعيارية عن طريق إمكانياتها الخاصة.

٢. والاعتقاد بأن هذه الدولة في حاجة إلى تصورات قديمة للعالم أو تصورات دينية، وهي في كل الأحوال تصورات أخلاقية جماعية موروثة. وقد يؤدي هذا الاعتقاد بالدولة بالنظر إلى موقفها المحايد لتصور خلق العالم و " واقعة التعدد" (كما يقول راول Rawl) إلى مشاكل كثيرة. ولا تتناقض النتيجة مع الاعتقاد السالف الذكر (هابرماس: جدلية العلمنة ـ العقل والدين). أي الاعتقاد بأن هذه الدولة في حاجة إلى تصورات قديمة للعالم أو تصورات دينية (إضافة المترجم).

ويعتبر يورغن هابرماس من العلمانيين الذين نادوا بشكل عنيف لتحييد الدين عن الدولة في القرن الماضي، إلا أنه مؤخرا بعد نقد وتقييم الحداثة، أي ما بعد الحداثة، وجد أن الكنيسة والمتدينين يمكنهم أن يقدموا رؤى تساعد في تقنين قوانين تخدم الإنسان والمجتمع، وكونهم مكون هام من مكونات المجتمع فلهم الحق في هذه المشاركة، وقد طرح "هابرماس" تساؤلا مهما حول ذلك قائلا: هل السلطة السياسية ممكنة بعد استكمال القانون الوضعي، هذه السلطة التي لا تستند مشروعيتها لا من الدين ولا من أية ما بعد ميتافيزيقيا؟ ويكمل قائلا:" حتى وإن أقر المرء بهذه المشروعية، فإن الشك يبقى على المستوى الانفعالي ويكمن هذا الشك في التساؤل ما إذا كان في الإمكان تعزيز أسس الحياة المجتمعية المتعددة عن طريق خضوعها إلى خلفية معيارية متفق عليها شكليا في أحسن الأحوال، يعين خضوعها إلى نمط عيش معين. ويمكن القول حتى وإن تفهم اللائكية الثقافية والمجتمعية كصيرورة تعلم مزدوجة، يكون في حاجة لها أتباع تقاليد الأنوار والتعاليم الدينية على حد سواء للتفكير في حدود تخصصهما.(المصدر نفسه)

هذه المراجعة المهمة التي قام بها "يورغن هابرماس"، حول دور الدين والمتدينين في الحياة السياسية، وفي التضامن الاجتماعي وسن الدولة لقوانين خادمة لكل مكونات الدولة، هي مراجعة منهجية لتجربة طويلة في ظل دولة علمانية شاملة، وصل فيها إلى قناعة مهمة مؤخرا أقر فيها عن ضرورة الاستفادة من الدين والمتدينين في الدولة.

ومن هنا بات لزاما على التيارات والأحزاب الدينية والشخصيات والنخب الفاعلة، أن تعيد قراءة تجربتها على ضوء تطورات المنطقة الجديدة وإرادة إدارة التوحش ، حتى لا يتم اختطاف الدين من قبل مجموعات متطرفة ومتوحشة تعتمد على التكفير والإقصاء لكل مختلف، وتحول العدو في ذهنية الشعوب من العدو الحقيقي إلى عدو وهمي ، وتلعب على الفروقات المذهبية والطائفية كوسيلة ناجعة في إدارة التوحش ، وتمكن مشروع الاستعمار بمزيد من الهيمنة وتصنع مفاهيم جديدة في بنية العقل العربي تستحضر من التراث المنحرف ما يمكن تحويله لحقيقة في راهننا ومستقبلنا ، تكمن خطورته في حرف مسار الأمة يراكم انحرافات الماضي ويشرعنها، بل يكرسها كواقع لا يوجد غيره بديل ، فتصنع إسلاما مشوها، وتدريجيا يصبح مرفرضا كونه ينافي ما فطر عليه الإنسان ، ومن ثم تدريجيا تصبح القناعة الشعبية للجماهير هي في استبعاد الدين عن الحياة كما حدث في العهد الكنسي، ومن المهم الاستفادة من تجربة الغرب في إقصاء الدين كليا، وسلبيات هذا الإقصاء الشامل، ومراجعاته في هذا الصد خاصة ما بعد الحداثة. ولابد من فهم حقيقة الدين وفطريته وميله له، فمحاولات نزعه في منطقة تضج حضاريا بوجوده وتراثيا بمعالمه وميدانيا بقصصه، ستكون ارتداداتها عكسية تماما نحو مزيد من التمسك بالدين، ولكن بطريقة متطرفة تنشئ ردود فعل عنيفة وعكسية وتدميرية في ذات الوقت، فيتحول هم البناء والتطوير بإقصاء الدين إلى وسيلة تدميرية قاتلة لروح الإنسان.

***

حاورها: ا. مراد غريبي

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س7: أ. مراد غريبي: بحثتم قضايا التجديد والتغيير والإصلاح وما يتصل بالواقع العربي في حقول الإعلام والثقافة و الدين و الإجتماع، ماذا عن الإصلاح عربيا في ظل المعوقات التاريخية و الإشكالات النهضوية؟

ج7: أ. إيمان شمس الدين: يعتبر الإصلاح من أدوات التغيير اللازمة والمتحركة عبر الزمن، فما من جماعة فاعلة وناشطة في ساحة التاريخ، سواءً كانت حركة أو حزبا أو تيارا .. الخ، مع التقادم، إلا بحاجة لعملية نقد وتقويم وإصلاح لمسارها، سواء لأجل مواكبة العصر المتغير، أو لأجل تصويب المسار للاستمرار والديمومة نحو تحقيق الأهداف والغايات، التي لأجلها قامت وتفاعلت مع العالم والواقع الخارجي. وقد واجهت عمليات الإصلاح عبر التاريخ الكثير من العقبات والإشكاليات، التي إما حالت دون إتمامها، أو حرفت مسارها، وأعادت تشكيل أهدافها بعيدا عن غاية الإصلاح والتغيير. خاصة أن الإصلاح مفهوم له مصاديق كثيرة، أهمها عبر التاريخ، الاصلاح السياسي والديني، حيث يندرج تحتهما كثيرا من مصاديق الإصلاح، كالثقافي والتعليمي والتربوي وإلخ.

ومن أهم الإشكاليات التي واجهت مسيرة الإصلاح عبر التاريخ هي:

١.غياب النزعة النقدية.

٢. التخلف والاستبداد.

٣. الارتهان السياسي واعتبارات القداسة.

فالاصلاح عبارة عن حركة تفاعلية وليست انفعالية بين الإنسان والواقع، فالتفاعل مع المتغيرات ومحاولة التدافع الإيجابي نحو النهضة، جزء من حالة التغيير، بل يشكل في كثير من الأحيان أصل، و تكتنز هذه الحركة عدة أبعاد:

١. البعد الذهني الذي تتشكل فيه الأفكار المرتبطة بغايات الإنسان، أو ما نسميه المحتوى الداخلي للإنسان، وقد سلطت الضوء في الفصل الأول على المحتوى الداخلي وأهميته في عملية التغيير.

٢. الواقع ومتغيراته وأحداثه وتأثيره على حياة الإنسان الفاعل والمتفاعل معه، وما نطلق عليه المحتوى الخارجي أو الحاضنة والبيئة.

٣. السلطة ( دينية ـ سياسية ـ–ثقافية، فكرية ) ودخالتها في تشكيل الواقع، أي المحتوى الخارجي، وتأثيرها على تشكيل المحتوى الداخلي للإنسان.

وسأسلط الضوء على غياب النّزعة النّقدية وأترك للقارئ مراجعة كتاب التغيير والإصلاح مطالعة في التّأسيسات والإشكاليّات والمعوّقات، الذي صدر عن دار الانتشار العربي وفيه تفصيل أكثر حول النقاط الباقية.

غياب النزعة النقدية:

النظريات السيسيولوجية (الاجتماعية) تهتم بدراسة ظاهرة واحدة في أكثر من مجتمع، وغياب النزعة النقدية ظاهرة إسلامية بشكل عام، وعربية بشكل خاص، وخليجية بشكل أخص، وتعتبر من أهم عوائق الاصلاح ومراكمة الفساد، وتشكل عقبة حقيقية في مسار النهضة والتطوير والتقييم، وكونها ظاهرة مشتركة في أكثر من مجتمع، فسنسلط الضوء على ملابسات هذه الظاهرة وأسبابها، بل دورها المحوري في عملية الاصلاح، والتي هي مظهرا جليا من مظاهر التغيير في المجتمع. وهنا نحن لا نقتصر في استهدافنا للإصلاح على المجتمع، بل نعني به أيضا الاصلاح على مستوى الفرد، لأن التغيير يبدأ من الداخل لكي يحقق ثمرات التغيير الخارجي كما أشرنا في الفصل الأول، ولذلك، فإن الاصلاح أيضا كمصداق من مصاديق التغيير، له عدة مراتب في امتداد بعضها البعض:

1. مراتب داخلية متعلقة بالفكر والنفس، في بعديهما المعنوي والأخلاقي المؤثر في السلوك، خاصة فيما يتعلق بإصلاح منظومة الأفكار، وعلى ضوئها إصلاح منظومة المعارف والأخلاق، ومنظومة القيم والمعايير.

2. مراتب خارجية متعلقة بالأهداف ووسائل تحقيق الأهداف، وبعملية الاصلاح السياسي والاجتماعي والديني، ومنهجها وإشكالياتها.

ويعتبر النقد مقدمة مهمة وأولية في تشخيص الخلل، والإشكاليات المعيقة للإصلاح والنهضة، وعملية التغيير الفردي والاجتماعي، لأن التقييم والمراجعة والنقد والمحاسبة مقدمات هامة، بل ضرورية لتحقيق هدف التغيير والاصلاح، وغياب النزعة النقدية هو غياب لشرط تحقيق الاصلاح والنهضة.

والنقد نوعان:

١. نقد إيجابي.

٢. نقد سلبي.

فالناقد قد يمارس النقد الإيجابي للإصلاح، وقد يمارس النقد السلبي لتكريس الفساد، بمعنى أن هناك من يمارس النقد لأجل الاصلاح والتغيير، وهناك من يمارس نقد حركات الاصلاح والتغيير، لا نقدا بناء في سبيل معالجة ثغراتها، بل نقدا هداما مضادا مواجها للإصلاح والتغيير، ومكرسا للفساد بل مراكما له، "فلقد انتقد المشركون من أهل مكة نوع النظام الاجتماعي الذي جاء به الاسلام، وذلك لما ينطوي عليه من تبديل للعادات والتقاليد، أو إقرار التشريعات الاسلامية والتعاليم غير المألوفة في أسلوب الحياة الجاهلية وثقافتها"..وهو مصداق للنقد السلبي، الرافض للتغيير نتيجة التنميط الاجتماعي، والاعتياد والخوف على المصالح الخاصة لكبار القوم من أن تتضرر، نتيجة النقد والمطالبة بالتغيير “فيما انتقد النص القرآني هذا المجتمع المتخلف، ووصفه بالجاهلي، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، وتصحيح تصوراتهم الفاسدة، وتحقيق العدالة الاجتماعية فيما بينهم.."

ونحن هنا معنيين بالنقد الإيجابي الذي يحقق الاصلاح، ويحدث تغييرا في البنى الاجتماعية السياسية والاقتصادية والدينية.

وبين النقد الإيجابي والآخر السلبي تدافع مستمر، وهذا التدافع والتنافس يخلق آفاق للعملية الإصلاحية، لو أدرك المصلحون وأصحاب النقد الإيجابي ذلك، فمواجهة الاصلاح من قبل معارضيه، يكشف للمصلحين ثغرات جديدة في جسد الفساد، ويكشف خطط المفسدين ومنهجهم، ففي حال لم يتم شخصنة الصراع بين طرفي الصراع، وعدم انجرار المصلحين الحقيقيين للانشغال في شخوص المفسدين، فإن المصلحين سيتمكنون من التركيز على نقاط الضعف، وكشف الثغرات، واكتشاف الفساد أكثر، من خلال ردود فعل المفسدين ومواجهتهم للنقد الإيجابي بنقدهم السلبي. فالتنافس والتدافع في عملية النقد بين نوعيه السلبي والإيجابي أمرا طبيعيا، ضمن قوانين الطبيعة البشرية والتاريخية، إلا أن آلية التعاطي مع النقد السلبي، هي التي تحدد قدرة المصلحين على تحقيق هدف الاصلاح من عدمه، وعلى مصداقية مقاصدهم الاصلاحية.

إننا في عملية النقد الإيجابي لتحقيق الاصلاح والتغيير نستهدف بذلك عدة مراتب:

١. المنظومة الفكرية والمعيارية والقيمية للفرد والمجتمع، لدورها الفعال والهام في رفع قابليات الجمهور، والنهوض بمستوى وعيهم، لإدراك الإشكاليات المعيقة، وتسييل المفاهيم من النخبة المتصدية للإصلاح، ومن موقع التنظير إلى موقع التطبيق، وميدان التطبيق الأول هو الجمهور.

٢. المنهج والأدوات واليات القيادة، سواء على مستوى التفكير أو التطبيق، الذاتي أو الاجتماعي.

٣. الأفراد والجماعات والمجتمع، من حيث منهجية التفكير وآليات مواجهة المشاكل والإشكاليات، وكيفية التعامل مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية والدينية، ومدى ممارستها دورها الرقابي للقيادة ومنهجها.

٤. القيادة بكافة مصاديقها ومراتبها (سياسية أو دينية، حزبية أو سلطوية، تيارية أو اجتماعية، خاصة أو عامة).4967 ايمان شمس الدين

النقد الإيجابي بهدف التدوير والتدرج:

التدوير والتدرج الوظيفي أو الموقعي، فكرة جدلية بين رافض لها مطلقا أو قابل لها مطلقا، كونها تستهدف تجديد الدماء وتغيير العقول والوجوه. ومنطقة عملها هي الرتب العالية أو بمعنى آخر، مواقع المسؤولية المتقدمة رتبيا، من حيث الموقع والمهام والسلطات والنفوذ، سواء كانت على مستوي القيادة كمرتبة، أو القيادة كوظيفة ودور، أو هي على مستوى اجتماعي وسياسي وديني، ولكل من الاتجاهين أدلته وتصويباته.

وعادة يأتي التدوير والتغيير لأسباب عديدة أهمها:

١. ممارسة التفكير النقدي للفرد على أداء المتصدين، نتيجة تقصير أو قصور أو عدم مواكبة.

٢. تغيير الموجود بمن هو أكفأ منه، نتيجة بروز كفاءات جديدة لم تكن موجودة في الساحة قبل ذلك.

٣. ضرورة زمنية متعلقة بالتقدم في العمر، وضرورة رفد المواقع بطاقات شابة كفوأة، تعطى لها الثقة   لقيادة المسيرة، مع بقاء القدماء في موقع التصويب والاستشارة لخبراتهم المتراكمة.

٤. إخفاق القيادة أو المتصدين في مواقع المسؤولية في أداء دورهم، وعدم مواكبتهم لمسيرة التطور في التفكير والممارسة والأداء والأدوات، وعدم تلبيتهم لمتطلبات الراهن ومعالجة إشكالياته بما يناسبه، وهو ما ينعكس جليا على واقع الفرد والمجتمع والجماعة، من حيث التفكير والانتاج، ومسار المنظومة المعيارية والقيمية في المجتمع.

كثيرة هي آثار عدم التدوير وتعطيل التدرج مطلقا على تهميش الطاقات، والتبذير أو الإسراف بالعقول بتعطيلها أو صرفها إلى وجهة غير وجهتها الواقعية، وما ينتج عن هذا التهميش من خلق نزاعات وصراعات نفوذ ومواقع وفتن، على مستوى الأفراد أو الجماعات، من تيارات وأحزاب ومؤسسات دينية أو سياسية أو مدنية.

فتتحرك نتيجة ذلك الفئات المهمشة أو المعطلة بعنوان الاصلاح كرد فعل، مع عدم وجود مشروع للإصلاح حقيقي يهدف لإصلاح الواقع، دون إحداث خلل في بنية المجتمع ووحدته. فالعمل تحت شعار الإصلاح كرد فعل وليس كفعل مدروس وفق مشروع بنيوي هادف، سيراكم من الخلل لا يعالجه. فحب الذات صفة مغروسة في فطرة كل انسان، وغرست لهدف خلق الدافع وبعث الارادة لدى الانسان، للعمل والتنافس في ساحات الدنيا لعمارتها بما ينفع الإنسان . وهذب الله حب الذات ووجهه نحو الخير، وليثبت الانسان ذاته عند الله وليس عند البشر، وليحرز موقعيه خالدة عند الله، وليس ليحقق مصالح دنيوية في الدنيا قد تحرفه عن الصراط، وتجعله يظلم ويهتك حرمات ويضيع حقوق، لذلك مواجهة ما فطر الله الناس عليه ستكون له آثار عكسية على الفرد والمجتمع.

ففي السنن التاريخية مواجهة الفطرة التي لا تبديل لها وتحديها، يمكن أن ينجح مدة زمنية، لكن الانقلاب في مسار المواجهة، سيعيد توجيه الفطرة لوجهتنا الصحيحة، ويعكس مسار المواجهة ليضعها في الطريق السليم. وهذا التهذيب لا يستدعي معنى الزهد السلبي، بل يخلق عند الإنسان الدافعية القصوى في عمارة الأرض، وفي الاستفادة من خيراتها ونعمها، لكن دون استحواذ وظلم.

إلا أن ما يحدث خلال مواجهة الفطرة ومدتها من تداعيات خطيرة على الواقع الفردي والاجتماعي، قد يعاني منه الأجيال، فتتوارث إرث منحرف وتُراكِم عليه، وتحرف مسار الإرادة الإلهية من خلق الإنسان، وتحرف وظيفة الإنسان الحقيقية وتحولها عن مسارها السليم، وتحدث خللا في بنية الدعوة إلى التوحيد وتحقيق العدالة. هذا فضلا عن تأخير مسار تقدم المجتمع، وتعريضه لنكسات وخيبات أمل، نتيجة عدم تطوير الأفهام والأدوات، وعدم محاكاة الواقع بعقل الراهن، ومحاولة معالجة الإشكاليات أو المشكلات بطريقة نمطية، لا تخرج عن مألوف المتصدين القدماء، ولا تكسر التابو الذي اعتادوه وألفوه كمرجعية تحدث لهم اطمئنانا موهوما، يهتز مع أقل ريح فتنة. ويعتبر تعطيل الطاقات بتهميشها، أو عدم إعطاءها فرصتها، هو انتهاك صارخ وسلب واضح لحقها في ممارسة دورها ووظيفتها، ليس فقط على مستوى القيادة، بل على مستوى التخطيط والتطوير، والنقد، والبناء والمشورة.

وفي ظل هذه المواجهة نحن امام ٣ حالات:

١.استمرار القدماء في مواقعهم، رغم تقدمهم في السن مع تراكم خبراتهم أو ضحالتها، وما يستدعيه ذلك من تأخر في العطاء، وتنميط في التفكير، والبقاء داخل صندوق مقفل عقليا في صناعة الحدث وتفسيره، أو في تشخيص المشكلات والإشكاليات ومعالجتها، وفي الابداع وحتى في مواكبة العصر. وهو ما يجعل مسار التطور والمواكبة بطيء، ويراكم من الإشكاليات والمشاكل المحيطة، بل يعمقها، و يدفع بتهميش المستحقين الأكفاء من الشباب من التصدي لهذه المواقع، بالتالي يؤدي ذلك إلى:

أ. انكفاء البعض من الكفاءات بعيدا عن الحياة العامة، كونها تسعى لرضا الله، ودرءا للفتنة ولكسب النفس من الضياع، بالتالي تترك الساحة بما هي عليه من خلل وتنجو بذاتها، وبذلك تعطل طاقة كفوأة كان يمكنها دفع المجتمع سنوات من العطاء والنهوض والتقدم. ويأتي الانكفاء كخيار بين خيارين: الانكفاء أحدهما، والآخر هو الرضا بالموجود، والانخراط في العمل حتى مع ضعف القيم وخلل المنهج والرؤية.

ب. انقلاب بعض من الكفاءات للمعارضة العنيفة بحجة الاصلاح، وممارستها للنقد وتتبع الزلات، مما يسبب فرقة داخل المجتمع وتشتت كبير، ولغط وفتنة.

ج. تطويع كفاءات وتدجينها، لأنها ترغب بالعمل لإثبات ذاتها، لكن دافعيتها للعمل لإثبات ذاتها تكون في مقابل سلب عقلها وقدرتها على التصويب والتقويم والنقد، وتنميطها تنميطا سلبيا باستخدام عناوين شرعية كالتكليف، حيث يطرح هذا العنوان بطريقة استغلالية تعطيليه، إضافة لعنوان طاعة ولي الأمر، وربطها بطاعة الله، انطلاقا من فهم محرف للطاعة، يتوافق ورغبة المتصدين في البقاء، أو فهمهم النمطي التقليدي للطاعة. وهنا نفقد ايضا كفاءات يتم تدجينها في مسار هو بالأصل فيه خلل، لنكرسه كمنهجا يتم توارثه لينتج قطيعا وجنودا، لا علماءً ومفكرين، ومنتجي معرفة.

والتكليف الشرعي: هو وظيفة الشخص المكلف في حياته على ضوء الأوامر والنواهي الإلهية، او هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا. كطلب القيام بالصلاة وطلب الامتناع عن الكذب، او التخيير بين الفعل وعدمه كالأكل، وعلى ضوء دوره كخليفة الله على الأرض. وهنا عندما نقول خليفة الله، نعني امتلاكه لكل مقومات الاستخلاف، والقابليات والأدوات التي تمكنه من أداء دوره ووظيفته.

فنحن نقول أن الإنسان خلق بالقوة ليمارس دور الخلافة، بمعنى أودعت به هذه الوظيفة فطريا بالتساوي بين كل البشر، لكن فعليا يختلف البشر بين من هو واقعا خليفة، وبين من هو ابتعد عن دوره في هذه الحياة، لبعده عن المسارات السليمة.

وبناء على ذلك يتم التكليف الشرعي لمن أدرك وظيفته في الأرض، وإذا أدرك ذلك بعقله، سعى لمعرفة الإرادة الإلهية في الأرض بطريقة عقلانية توصله إلى المطلوب. وبعد معرفة المنهج الصحيح على ضوء إرادة الله، يصبح هنا قادرا على تشخيص مساره في الدنيا ووظيفته، وهي النهوض المستمر في كل لحظة، لمواجهة كل محاولات الانحراف في المسار، أو محاولات حرفه عن جادة الحق.

لكنه في ذات الوقت يجب أن يمتلك القدرة على تشخيص مراتب هذه المواجهة وكيفيتها وآلياتها، التي تحقق هدف النهوض، كون الانحراف ليس بمرتبة واحدة، وكل مرتبة لها أسلوب مواجهة وتوقيت وطريقة.

فالنهوض حركة دائمة مستمرة على طول المسار الإنساني في الدنيا، لأن الصراع بين الحق والباطل لن يتوقف فيها، بالتالي هو بحاجة مستديمة لتقييم المسار وتقويمه والنهوض به، سواء نهوضا أخذ في حسبانه الزمان والمكان، ومواكبا للعصر. أو نهوضا يسعى من خلاله إعادة المسار بعد انحرافه لطريقه القويم. وحينما يرتبط التكليف كمفهوم بمفهوم المسؤولية، فهذا يدلل بشكل كبير على أنه ليس تعطيلا للإنسان وعقله، بل هو تصويبا له، وتثويرا لطاقاته المكنونة وغير المكنونة، وهو لا يعني إبدا أن تسلم عقلك للبشر، بل يعني أن تسلمه فقط لله، وأن تستخدمه في معرفة من هم المختصين الصالحين في إيصالك إلى طريق الله، وفي إرشادك للطريق الأقصر، وليس في تغييب عقلك أبدا.

فالمسؤولية الاستخلافية لا يمكن أن تتم بدون معرفة، والمعرفة أداتها العقل، والعقل يحتاج مرشد صالح، وهو يمتلك القدرة كعقل على تشخيص الحسن والقبيح، فبالنهاية هو مسؤول في تشخيص الأصلح، ومسؤول في معرفة الطريق، ومسؤول في تحديد الأدوات الصالحة للسير، ومسؤول في فهم الأهداف وطريقة الوصول إليها. وهذا كله يقع ضمن دائرة التكليف وليس خارجها أبدا، وهو ما يؤكد أن التكليف وخاصة الشرعي هو حركة دائمة، ولا يمكن أن يصبح تكليفا إلا باستخدام العقل وفهم المهام، فالتكليف ليس تعطيلا ولا سكونا، ولا إعفاء من مسؤولية الفهم والمعرفة، بل هو مؤكدا على مسؤولية العقل والفرد، للسعي الدائم نحو المعرفة في كل شيء، لأننا نحتاج المعرفة في كل شيء.

٢. تنازل القدماء عن مواقعهم للأجيال القادمة من الطاقات الكفوءة، والسماح لهم بخوض تجربتهم في قيادة الساحة مع عدم خبرتهم، وفقدانهم لخبرة القدماء وتجاربهم المتراكمة التي خلقت لديهم معرفة عميقة وخبرة ميدانية مهمة، خاصة انهم كفاءات سابقة. وهو ما يؤدي لنسف التجربة السابقة على يد كفاءات جديدة، لكنها لا تمتلك خبرة كافية وخاصة ميدانية، وهذا أيضا يسبب فوضى.

٣. بقاء القدماء في مواقع استشارية في الظل، مع تقديم الكفاءات الجديرة لتسنم مواقع قيادية متقدمة، وبشكل متدرج، لكنهم يبقون لرفد هذه الكفاءات بالخبرة وتصويب التجربة، وتفعيلها بالطريق الأصوب الذي يجمع بين عقلية الجيل الشاب ونظرته الحيوية لراهن العصر، وعقلية القدماء ونظرته العميقة المليئة بالخبرة والمعرفة للواقع، لأن الأحداث تتكرر غالبا لكن في قوالب عصرية تناسب الزمان والمكان. وبذلك يتم ضمان استمرار مسار الخير عبر الأجيال، حتى بعد رحيل هذه القيادات القديمة، ويتم ضمان اكتساب هذه الطاقات الشابة مع الممارسة، الخبرة اللازمة لمواصلة المسير.

٤. بعض القيادات لها فاعلية زمنية عابرة للتاريخ والزمن، بمعنى أنها قيادات تمتلك قدرة ذهنية فائقة في القراءات الاستراتيجية وفي مواكبة التطورات ومعالجة الإشكاليات، بما يتناسب والراهن والعصر الذي تتواجد فيه، هذه القيادات تمثل امتداد زمني حيوي فعال غير متوقف ولا منغلق، ومع ذلك تمتلك جهاز استشاري متخصص يرفدها بكل ما هو جديد، لتطور قدراتها وقراءتها وأفكارها وتكون على تماس مباشر مع آخر التطورات في كافة المجالات، وهذه الفئة نادرة عبر التاريخ، وتدويرها يكون خسارة حقيقية. لكن هذا لا يعني عدم نقدها وتصويبها، بل يعني السعي المستمر في النقد، وفي تغيير الجهاز الاستشاري أو تغيير الأدوات في حال عدم فاعليتها، لذلك التدوير والتغيير على مستوى القيادة قد يكون له استثناءات مشروطة ومتعلقة بشخص القيادة وصفاتها، وقدراتها العقلية والفكرية والخبروية والتطبيقية في الساحة المستهدفة للإصلاح. ومتعلقة أيضا بالظروف المحيطة بهذه القيادة، لأن الظروف المضطربة سياسيا وأمنيا، لا تتناسب وفكرة التدوير إلا إذا كانت هذه القيادة هي سبب مباشر لهذه السياسات والاضطرابات، وإلا فإن فكرة التدوير لابد أن تدرس الظروف والتداعيات، فهي فكرة يتم تطبيقها لأجل التقدم خطوة نحو الاصلاح والنهضة، واستمرار الاستقرار، بينما إذا كان التدوير لا يحقق ذلك، بل يحدث انشقاقات وفتن وخلل أمني اجتماعي، فإن التدوير هنا يكون مرفوضا.

فلا بد من توافر مجموعة شروط وحيثيات لتطبيق مشروع التدوير، وأهمها أن يكون التدوير علاجا لإشكاليات كانت سببا في حدوث خلل في الاستقرار الاجتماعي والأمني، نتيجة السياسات الخاطئة أو عدم مواكبة من هم في مواقع متقدمة للراهن، وأن يحقق التدوير التقدم والنهضة، ويغير من الواقع الراهن إلى الأحسن، وألا يعد تكرارا لأخطاء القدماء، واستخدام منهجياتهم التي لم تحقق أي تطور ونهضة تذكر.

إن تهميش الطاقات بدعاوى دينية وشرعية، وبقاء تسنم القدماء للمواقع المتقدمة في المجتمع مع عدم تحقيقهم لوظيفتهم كما يجب، وعدم إفساح المجال للجيل الشاب ليمارس دوره الفعال في النقد والاصلاح، هو تعطيل للدور الناقد التغييري في المجتمع. فعدم إعطائهم الثقة في تسنم المواقع المتقدمة، هو تجميد لطاقة النقد المودعة في الإنسان، وتعطيل هذه الطاقة الضرورية في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو تعطيل لأي محاولة تصحيح مسار وإصلاح انحراف في داخل التيارات أو المجتمع. هذا فضلا عن تعطيل الكفاءات وعدم تطوير قدراتها من خلال الارتقاء التدريجي في المواقع لكسب الخبرة، مما يثبت استمرارية المسار السليم عبر الأجيال دون توقف، إلا أن منع ذلك هو قتل للكفاءات وتعطيل للتطوير، ومع التقادم قطع للمسار، بما يدفع الكفاءات للعمل الفردي، أو اللجوء لجهات أخرى تمكنها من إثبات ذاتها، وقد تستغل كثير من الجهات المشوهة فكريا هذه الطاقات المعطلة في تمكين أفكارها اجتماعيا، وإضعاف الأفكار الرصينة.

" فقد يتولى بعض الرجال على البعض الآخر من الأتباع، ويتم التأسيس لنوع من العلاقات الاجتماعية، أو أنماط من الولاية السياسية، وذلك من خلال التضليل الفكري، وصناعة حواضن غير سوية التفكير، تقوم على صناعة المغالطات، حتى لو بأواطر شرعية، التي لا تنطلي على الناقد الفذ، فحقيقة المغالطات هي: نماذج فكرية تترتب عليها أبنية فكرية عديدة قائمة علي الخلط أو الدس أو التعمية، وذلك بالإفادة من المقدمات مغشوشة أو مشوهة الفهم، ووضعها بشكل خفي داخل في الاستدلال والاستنباط، أو في طريقة استنطاق الفتوى والاجتزاء.

ومع وجود الأتباع، والقوى الاجتماعية السائدة التي يفكر بعضها بنقد البعض الآخر، بل وفي تكفيره وإزاحته من الساحة والتنافس، يتحول المشهد من التراشق الكلامي والنقد اللفظي، إلى التفكير بوسائل العنف والتمرد والتراشق، الأمر الذي يكشف عن خطورة هذا الاسلوب في الحياة الاجتماعية والتحولات التي يمكن أن تتولد عنه في معالجة المشكلات الاجتماعية".4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

التفكير الناقد والتغيير:

” التفكير النقدي في الإسلام هو تفكير ذو طبيعة قرآنيه في الأساس، فهو من طبيعة التفكير عند الأنبياء، لها قدرة على شجب الواقع البائس للإنسانية واستثماره لتغييره. والنقد دعوة صريحة لوعي الآخرين ودعوتهم للتغيير والمشاركة في الإصلاح والنقد، والاستنكار لكل أنواع الضلالات والمغالطات السائدة التي يعج بها الواقع الإنساني.

إن النظريات التقليدية الاجتماعية، نراها ظاهرة في المجتمعات التقليدية النمطية، وهي تختزل الفضاء الاجتماعي في تفسير أحادي النظرة، غير متعدد وتفرز عنه صراعات وجودية يدخل فيها إثبات الذات نتيجة الاقصاء والتهميش والتعطيل. وتتداخل فيها الوظائف دون تحديد معالمها وهويتها والحدود بينها، ليصيح الرمز والسوبرمان، مفاهيم حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي، ومتناسب مع نمط التعطيل للطاقات، والترميز للشخوص، هذا فضلا عن خلق صورة نمطية ساكنة عن وظيفة الإنسان ودوره، تتناسب ومنهج المتصدين وأهدافهم وأدواتهم.

إن ترسيخ أداة النقد والرقابة والتأسيس لمبدأ التدوير الوظيفي والموقعي، ومشاركة كل الأطياف والفئات العمرية وفق مبدأ الكفاءة، ومبدأ تشخيص المرتبة والوظيفة لكل فئة وفق الحاجة والراهن والمتطلب، هو تفعيل لمبدأ المشاركة الاجتماعية، والدفع باتجاه النهضة والتقددم الاجتماعي، والعمل على تماسك المجتمع ومنع أي فتنة وصراع، قد تنشأ من التهميش والتعطيل، ومنع الآخرين من ممارسة دورهم في عمارة الأرض. بل هو تفعيل لوظيفة الاستخلاف الإلهية، التي تتطلب استنفار كل الطاقات في كل المواقع، لضمان استمرارية خلافة الخير في الأرض.

ويعتبر تعطيل أداة النقد الاجتماعي على مستوى الأفراد، أو مستوى الجماعات مقدمة ضرورية لتعطيل مبدأ التدوير الوظيفي والموقعي، إذ بتدجين العقول وتنميطها من خلال ثقافة الترميز الغير منطقية، والتقديس الغير شرعية، وأعني هنا بالتحديد الترميز لمن لا يستحق ومن لا يملك مواصفات الرمزية، والتقديس لغير ما هو مقدس، كما يحدث من تقديس في الوجدان الشعبي لكثير من الأشياء التي لا تتعدى كونها أمور بشرية خارج نطاق المقدسات الحقيقية، فما يحدث من تدجين وتنميط باستخدام هذه الأدوات، يعطل قدرة النقد تحت هالة المقدس واحترام الرمز، و بحجة أنه الأقدر والأكفأ على قيادة المسيرة وتدبير أمور الفرد والجماعة، سواء كان ذلك ضمن أحزاب أو تيارات أو مؤسسات دولة أو مؤسسات دينية، فإن مجرد تعطيل أداة النقد السليمة، هو تعطيل لحق الفرد في استخدام عقله، وتصويب المسيرة وإصلاح الثغرات، التي قد لا يراها الفرد في موقع السلطة منفردا، بل يحتاج لأن يجمع العقول إلى عقله حتى تكتمل الصورة وتنهض الأمة.

فنحن إذا أمام منهج تعطيلي توقيفي يبدأ كالتالي:

1. التربية على ثقافة المقدس والرمز بطريقة غير منطقية ولا عقلية، تمنع الفرد المستهدف من توظيف قواه العقلية بطريقة سليمة، وتدعوه مبكرا لتسليم أغلب زمام عقله للرمز، أو لجهة وضعت لها هالات القداسة من البشر دون وجه منطقي، وهنا لا أعني أبدا ضرب الاحترام القيمي، أو إنكار المراتب الوجودية التي رفع الله بها البشر بعضهم على بعض، ولكن أعني أن هذه المرتبية في الوجود، لا تعني الاستعباد والاستغناء، بل تعني المشاركة والتكامل والتنافس في مدارج الكمال، لترفع كل مرتبة عليا من هو أدنى منها إلى الأعلى، وتعينه على أن يتحررمن كل أنواع العبوديات والقداسات والترميزات البشرية، وتفعّل قدرته على امتلاك أدوات منطقية، يستخدم فيها العقل المناهج السليمة في التفكير والتشخيص.

2. منع النقد وتعطيله بحجة التكليف، أو القداسة التي تمنع كل محاولة نقد وتقويم، أو الرمز الذي يعتبر المخول الوحيد للقرار والقدرة على التفكير وفق هذا المنهج التعطيلي، وهنا لا أنكر وجود التكليف في كثير من المسارات، ولكن أنكر توظيف هذا المصطلح، توظيفا يعطل ويشل قدرة الإنسان على التفكير والاستقلال في القرارات المتعلقة بمصيره وعلاقته مع الله. وهو أمر يحدث مع الدين برمته، حيث يتم توظيفه على مر التاريخ من قبل فراعنة كل عصر، لكي يستطيعوا بذلك تعطيل عقول الناس واستعبادهم، سواء استعبادا مباشرا كما يحدث من قبل المستبدين بالقهر والظلم والقوة، أو غير مباشر كما يحدث من قبل كثير من الزعماء السياسيين والدينيين والمؤسسات المرؤوسة، حيث يتم كي وعي الأفراد كما أشرنا سابقا، بطرق مختلفة دينية وغير دينية، ويتم السيطرة على مجال الإدراك، بما يعطل وظيفة التفكير الذاتي المستقل لدى الأفراد، ويخلق في وجدانهم واللاوعي حالة القصور، و التي تعني الحاجة المستديمة لولاية الآخر على النفس والعقل وطرق التفكير، والاقتناع بعدم القدرة الذاتية على المشاركة، بل الاقتناع بضرورة تسليم زمام العقل والنفس والمصير في يد هؤلاء.

3. منع التدوير الوظيفي والموقعي، وهي الخطوة التي تأتي بعد تعطيل العقل بما سبق، وهنا تُعَطَّل طاقات الشباب، أو تُوَظَّف بطرق غير سليمة، أو تُهَمَّش كفاءات. وتبدأ عملية الانتكاس العكسي التي لا تظهر اجتماعيا إلا بعد مدة زمنية قد تطال عدة أجيال، لتحدث عملية الانتكاس الكبرى بشكل جلي، بعد عقد أو عقدين من الزمن من ممارسة هذا المنهج، وقد تطول المدة أو تقصر، وفقا لحركة الوعي ومدى فهم الأجيال لما يحدث، وهو ما يتطلب خروجا من الصناديق المقفلة، التي وضعت فيها هذه الجهات الجماهير. وهنا يأتي دور النخب في قيادة المجتمع نحو حراك وعي، وهو ما يحتاج لبحث منفرد حول نكسة النخب أو نجاحها في نهضة المجتمعات والشعوب. والسير في هذا المنهج يعطل الاصلاح، ويسبب ركود في الحركة والتفكير، ولكنه مع التقادم قد يؤدي لانفجار، يؤدي إلى حدوث تغيير دفعي يضر في أغلبه ولا ينفع، بينما كان بالإمكان مع وجود النقد الهادف، وتفعيل التدوير، وعدم تعطيل العقول، أن يتم التغيير بشكل تدريجي هادئ، يستغل كل الطاقات، ويعمد لصناعة عالم مليء بالأفكار وتطبيقاتها، والتي في نهاية المطاف ستصب في عمارة الأرض ونهضة الإنسان.

ولكن أين تكمن المشكلة؟ المشكلة الحقيقية ليست في النقد فقط، فهو حق مكفول، شريطة أن يتصف بالموضوعية والأدب، ونقد الفكرة لا صاحبها، وأن يتمسك بمنهجية اقرع الدليل بالدليل، واضرب الرأي بالرأي يخرج منه الصواب. ولكن نحن أمام معضلتين حقيقيتين، تتطلبا وقفة ومحاولة تفكيك وعلاج: ١- النقد حق، لكن هل هو حق مطلق لا يراعي ظروف الزمان والمكان، ومسار الأحداث؟ وهل النقد عليه أن يسبب فوضى وفتنة وتقويض بنى المجتمع؟ ٢- عدم النقد، بحجة استهداف بنية المجتمع، أو التيار أو الأحزاب أو المؤسسات بكافة أشكالها، وإذا توقفت كيف يمكن إصلاح الخلل في مسيرة هذه التيارات أو الأحزاب أو المؤسسات، وتحصين ثغراتها لتقويتها، بل ولمواجهة كافة أشكال الاستعمار، وأخطرها الثقافي والفكري؟ والتوقف أيضا يعني إضفاء هالة قداسة تعصم هذه الجهات من الخطأ، وهو ما يعمق تكميم العقل وتبعيته المطلقة، بالتالي نبقى ندور في ذات الإشكالية، وهي طرح الغث والثمين دون تمحيص وقبول الناس به، مما يعزز من حالة التردي، ويقوي حالة الشعبوية أكثر، ويمكن الاستعمار بكافة أشكاله من استلاب هويتنا، وطرح نفسه كبديل بعد معرفته للثغرات ونقاط الضعف.

"إن جميع مجاري الوجود هو مسير الحق، وأن الباطل تابع لمسير الحق، إذا فالاستعمار في جميع أشكاله وقبل أن يكون فعلا فإنه انفعال، وهذا يتعلق بميزان قدرة المقاومة والتخريب، وبنفس الدرجة يمكن أن نجد الضعف في جبهة الحق، وبالتأسيس على ما سبق فإن أفضل سبل لمواجهة الاستعمار، هو الاتجاه الإيجابي نحو جبهة الحق لتقوية الجبهة أكثر فأكثر، وليس بالضرورة تطبيق الاتجاه السلبي نحو جبهة الباطل بهدف تضعيفها.

ويجب الانتباه إلى أن التداخل الشديد بين السلب والإيجاب، لا يسمح بالفصل بينهما، والمقصود من الاتجاه الإيجابي نحو الحق والاتجاه السلبي نحو الباطل، هو وصفهم بالأصالة، حيث يمكن في باطن الاتجاه الايجابي، إعمال السلبي وبالعكس، فإذا ما كان اتجاها ما إيجابيا، فإنه يمكن ومن خلال توضيح وتبيين السلبي إيضاح وإظهار الإيجابي، وكذا فإن الاتجاه السلبي يمكن تبنييه من خلال إظهار وتوضيح الاتجاه السلبي بما فيه من وجوه إيجابية يمكن البحث فيها". لذلك يعتبر النقد الإيجابي من أهم الوسائل التي تكشف النقاب عن الثغرات والسلبيات والإيجابيات، وتميط اللثام عن نقاط ضعف غير مرئية لنا، يمكن لأي محاولات إحلال ثقافي واستلاب لهويتنا أن تنجح، نتيجة عدم التفاتنا لنقاط الضعف الخطيرة في مسيرتنا وفي جسد الأمة.

   إشكاليات منهج النقد: من وجهة نظري يمكن حل الإشكاليتين من خلال تعديل المنهج. فمنهج النقد في مواجهة الخلل هو منهج يغلب عليه التالي:

١. الصدامية من خلال الألفاظ التي تستخدم، والتخوين الذي يمارس بحق الآخر. ٢. نقد من قال وليس ما قاله، أي التصدي بالنقد للشخص وشخصنة عملية النقد. ٣. عملية النقد للكلام أو الرأي غالبا تكون شعبوية، لا تحمل مقومات النقد العلمي، إذ أن أهم مقوماته هو مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل حيث الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صدقين" (سورة البقرة) ، فأي نقد لفكرة أو وجهة نظر، عليها أن تكون نقدا منهجيا، مفندا للفكرة بالدليل والبرهان. ٤. تصدي من ليس أهلا ولا مختصا، للنقد. فحينما تكون هناك أفكار خلافية، فيفترض أن الناقد لها يكون متخصصا في موضوعاتها وفاهما لعمقها وأبعادها. وعندما يكون النقد لفكرة، فلا أقلا أن يكون الناقد شخصا يملك إحاطة بكل الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه الفكرة، حتى يستطيع طرح وجهة نظره حولها، بطريقة منهجية. وهذا لا يعني إغلاق الباب أمام عقول الناس، ولكن يعني مَنْهَجَت عملية النقد، لتكون منظمة ومدروسة حتى تأتي أكلها وتعطينا الثمرة، التي هي التغيير والاصلاح. ٥. الإسقاط الاجتماعي إما للناقد، أو لصاحب الفكرة، وهذا أسوأ ما يمارس أخلاقيا اتجاه هؤلاء. بل هو كمن يقتل نفسا قتلا اجتماعيا يتضرر صاحبه بسمعته، مما يسقطه كليا، فيعطل طاقة حية في خدمة المجتمع، بحجة الدفاع عن حمى الدين أو السلطة أو الدولة، لكنه في الواقع هو معول هدم لكل ما سبق، ويهدم فكرة ومنهج إصلاحي كاد أن يكون سببا في رقينا الفكري والحضاري. ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة في هذا الصدد، والسبب الرفض والإسقاط الاجتماعي وغياب المنهجية العلمية في مناقشة الأفكار. وقال تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (سورة المائد: 32)

فالإسراف في رفض الحق جاء بعد البينة التي جاء بها الرسل، وهو شبه كبير لواقعنا المعاصر. إن أول خطوة لتحقيق مبدأ العدالة في العلاقات الاجتماعية وفي المواقع وتوزيع الأدوار، هو تفعيل أداة النقد المنهجية بشكل سليم، وتطوير قدرات الأفراد وأدواتهم المنهجية في استخدام العقل والتفكير، وتوظيف كل الطاقات في مواقعها السليمة وتطويرها، من خلال التدرج الموقعي والوظيفي الذي يفضى إلى التدوير الموقعي والوظيفي، فلا تَغَوُّل للأفراد على حساب المجتمع، ولا تَغَوُّل للمجتمع على حساب الأفراد، ولا تَغَوُّل للرموز والقيادات التي كانت يوما في صفوف الناس، على حساب باقي الأفراد الذين يمتلكون قدرات، وهم أيضا كفاءات، ولا تَغَوُّل لهذه الكفاءات على حساب القيادات القديمة والرموز، بل هو ميزان عدل، يجب أن لا تميل كفة فيه على حساب أخرى، ووفق قاعدة لا إفراط ولا تفريط.

هذا على مستوى القيادة والمواقع المسؤولة، في أي مجال أو فضاء سياسي كان أو ديني، أو حزبي أو خلافه.

أما على مستوى الأدوات والمنهجيات، فنعني بها أدوات النقد والتغيير التي تمثل الوسيلة، والتي يجب أن تكون أدوات صالحة، فلا يمكن استخدام أدوات ومناهج وآليات فاسدة لتحقيق غاية صالحة، ولا يمكن استخدام نفس أدوات ومنهج وآليات من تم انتقادهم بعد عملية تغييرهم وتحقيق الهدف من النقد، فالنقد للإصلاح والتغيير، وليس للتنافس على المواقع وتحقيق سلطة ونفوذ على عقول وقلوب الناس ورقابهم، بل النقد للتغير في المنهج والأدوات والأهداف، لا في الصور والشخصيات.

وحينما يقوم الفرد أو المجتمع أو الجماعة بممارسة النقد الإيجابي، فهناك مراحل مهمة جدا، واستيعابها يحقق غايته من النقد، وهو الانتقال لمرحلة الاصلاح والتغيير.

فنحن حينما نمارس عملية النقد لأجل الاصلاح، نكون أمام فئات عديدة أهمها:

١. فئة انخرطت في النقد الإيجابي لا بهدف الاصلاح الحقيقي، وإنما بهدف تغيير الأشخاص وأخذ مواقعها، وهي في حال حققت ما تريد وأخذت تلك المواقع، ستمارس نفس ممارسات من انتقدتهم وثارت عليهم، بل ستستخدم نفس منهجهم، فغايتها من النقد ليس للإصلاح، بل لأجل إحراز موقع وسلطة ونفوذ، ولا يهمها أبدا عملية الاصلاح وتحقيق العدالة.

٢. فئة تمارس النقد الإيجابي، لأن مصالحها تضررت، وما أن تحقق مصالحها من خلال النقد وتغيير من سبّب في تضرر مصالحها، حتى تمارس نفس المنهج المنحرف الفاسد في الإدارة والقيادة، أو الموقع المستهدف في عملية النقد.

٣. فئة تهدف عمليا وواقعيا للتغير والاصلاح، من خلال ممارستها الناقدة، وهذه الفئة لا تطمح لموقع أو سلطة ونفوذ، ولا تسعى لتحقيق مصالح، بل همها إحراز العدالة وتصويب مسيرتها والأدوات والمنهج، وفي حال حققت هذه الفئة الاصلاح من خلال ممارستها الناقدة، فسنراها تعود إلى صفوف الجماهير لتستمر في ممارسة دورها الرقابي. وبالطبع في أي حركة نقد جماعية يمكن أن نجد هناك خليط من كل هذه الفئات، فما إن تتبنى الفئة الثالثة عملية النقد والتقويم، حتى تستغل الفئات الأخرى هذه الحدث وتركب موجة النقد لأجل تحقيق غاياتها، التي لا تتلاقي مع غايات المصلحين الحقيقيين، لذلك نجد بعض الممارسات النقدية لا تحقق هدفها، لاستغلال هذه الفئات لحركة النقد، ومن ثم نجاحها في الوصول لأهدافها، لأنها غالبا تشكل السواد الأعظم، لتقوم بعد ذلك بالقضاء على الفئة الثالثة وتهميشها وتعطيلها، بعد أن كشفت كل مخططاتها وآليات حراكها وأدواتها.

لذلك قلت في المقدمة، أن هناك مراحل على الفرد والمجتمع والجماعة إدراكها والسير بها، كي تحقق الممارسة النقدية غايتها في الإصلاح، ومن ثم التغيير.

هذه المراحل من وجهة نظري القاصرة كالتالي:

١. إدراك الإشكاليات ووعيها، وتشخيص الخلل وثغراته، ومن ثم وضع خطة منهجية لمعالجته وفق الإمكانات والقدرات، ووفق الراهن والظروف ومعطيات الواقع.

٢. استخدام أدوات صالحة في ممارسة النقد للإصلاح والتغيير، وعدم استهداف الأشخاص، بل منهجهم وأدواتهم وغاياتهم وممارساتهم وما حققوه من نتاجات ومنافع، ومدى نفعها للفرد والمجتمع.

٣. وجود قيادة صالحة أبوية، قادرة على قيادة عملية النقد والاصلاح للتغيير، بمنهج الشورى والتراحم والحجة والبرهان، وتقديم الأكفأ والأجدر.

٤. أهداف صالحة وإصلاحية واضحة، تحقق التغيير في المضمون والشكل، وليس فقط في الشكل.

***

حاورها: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

 

 

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س6: أ. مراد غريبي: ماذا عن الإشكال الغربي المتطور حول جدلية العلاقة بين المثقف والسلطات التاريخية في المجتمع، عربيا وإسلاميا؟

ج6: أ. إيمان شمس الدين: السيرة التاريخية تعكس التجارب البشرية في كل علائقها المرتبطة بوجودها الاجتماعي، وما يترتب عليه من بناءات سياسية واقتصادية، وثقافية، وفكرية، ودينية.

تشكل هذه التجارب ركيزة مهمة في المعرفة البشرية كمصدر ملهم من جهة يراكم الخبرة والتجربة، وكمعين زمني يختصر الوقت والجهد ويوفر كثير من الطاقات.

فالتاريخ تحكمه سنن تتحدد من خلال اختيار منتسبيه من البشر مساراتهم وأحداثهم، وتبين آلامهم وآمالهم، ولحظات انتصاراتهم، وهزائمهم، وغيرها. وهو من يمدنا بطاقة معرفية توضح لنا آليات صناعة مستقبل أقل أخطاء وأكثر إشراقا وخدمة للإنسان.

ولو ركزنا تاريخيا على التجربة الدينية وعلاقتها بالآراء المتعددة والآخر، قد نستخرج بإطلالة سريعة تجارب مهمة بهذا الصدد، تساعدنا في معالجة إشكاليات مشابهة في عصرنا متعلقة بأهمية العقل وآليات التعاطي مع الآخر والآراء البشرية خاصة تلك التي تستند لقراءة خاصة للنص.

ومن جهة أخرى لو استقرأنا التجربة الغربية في التطور العلمي سنجد شبها بشريا في منهجية التعاطي مع الآراء المتعددة، سواء تلك التي خرجت عن المشهور العلمي أو الإجماع العلمي.

وكوننا نعتبر المؤسسة الدينية والمؤسسة العلمية نموذجين يشكلان مرجعية معرفية مؤسسية - من خلال سلوكها وآليات تعاطيها مع الواقع والنص الديني والعلمي - تؤسس في لا وعي الجمهور بكافة أطيافه من النخب والطلبة والناس منهج التعامل مع المختلف ومع الرأي الآخر ومع الآراء المخالفة للمشهور والاجماع العلمي.4953 ايمان شمس الدين

المؤسسة الدينية والآخر:

لا نستطيع أن نتعامل مع مسيرة المؤسسة الدينية ككل واحد، من جهة تعاطيها مع الرأي الآخر والمختلف سواء الخارج عن المشهور أو الإجماع.

فعبر التاريخ كانت المؤسسة الدينية ككل عرضة إما للتطور أو الثبات وأحيانا النكوص، وفي داخلها تعددت المدارس في التعاطي مع الرأي الآخر ومع ما هو جديد. هذا فضلا عن عمقها البحثي والعلمي وغزارة عطائها، بل وجذوره المعرفية الضاربة في أرض العلم الخصبة، هذا فضلا عن تطورها البطيء جدا مع الزمن وعدم قبولها السريع لأي تغيير، وتجاوبها مع أي تطور بشكل دفعي.

وأبرز ما ميز هذه المؤسسة أصالتها المتجذرة في تاريخها المليء بالإنجازات، والثبات في الهزات المعرفية القوية، بل تشكيلها حصنا أمينا للمعارف عبر التاريخ. لكن هذا لا يعني عصمتها، خاصة مع تنامي سلطة العوام على حساب سلطة الحقيقة.

فكانت هناك ردات فعل متنوعة اتجاه ما يطرح خارج النمط السائد في المؤسسة الدينية، ومخالف لمشهور العلماء ومألوف السيرة العقلائية، أو ما ألفته الحوزة عبر سنين عديدة.

وكانت أهم الردود تدور حول ٣ اتجاهات رئيسية:

- الرفض التام لما خالف المشهور والمألوف دون نقاشه أو معرفة دليله؛

- القبول الكلي للرأي مع عدم الاطلاع على الدليل الخاص به؛

- محاورة الرأي ومحاولة مناقشة أدلته، ومن ثم الخروج بنتيجة ورأي اتجاهه.

وكان التوجه الأول لا يكتفي غالبا برفض الرأي المخالف للمشهور والمألوف، بل يتجاوز رفض الرأي لمحاولة إسقاط صاحبه اجتماعيا وإقصائه علميا.

بينما يتمترس أغلب مناصري الرأي الثاني للدفاع عن الرأي الجديد، ومواجهة الرافضين بردود فعل يوصف أغلبها باللاموضوعية واللاعلمية.

وأما التوجه الثالث فهو الأقل صخبا وعددا في تبنيه، فكان قلة من العلماء من يسلك هذا المسلك العقلاني الهادئ المبني على البرهان ومناقشة الأدلة.

وكان هذا التجاذب بين الرفض المطلق والقبول المطلق يغلب عليه الانفعال ورد الفعل، ويتحصن أغلب مناصري الاتجاهين خلف شعارات الدفاع عن العقيدة والأصالة أو التطوير ومواكبة الاسلام للتطورات الزمانية، فالأول يفرِّط بعنصر الخلود في الاسلام ويفرط بالمنهج القائم على أساس الدليل والبرهان، ويكرس شعارات تحشد الجمهور وهو منهج عاطفي مشحون بعيد عن لغة العقل والدليل، التي يقوم عليها الاعتقاد، بل الاسلام برمته.

والثاني يفرِّط بعنصر الأصالة في الاسلام، الذي يحفظ جوهره الوحياني ويبعده عن التحريف والتمييع.

وفي الآونة الأخيرة وبعد العولمة، بدأ تيار العقل والدليل ينمو ويأخذ موقعه المتقدم في هذه الحراكات المتفاوتة في تفاعلها مع الآراء المختلفة. ولكننا أيضا لا ننكر أن بعض شخصيات ومدارس هذا التيار انزلق في دائرة التطرف في العقلانية، لدرجة توحي أن العقل بات في قبال وعرض النص الديني.

لكن مدرسة العقل المعتدلة بدأت تشكل مدرسة منهجية وعلمية في التعاطي مع الآراء القادمة من الخارج والمختلفة عن جو المشهور والمألوف. وتتعاطى معها بنفس علمي نقدي وتثويري، وترفد من خلالها الدين بقراءات جديدة للنصوص حضارية، طورت كثيرا من الأدوات والمناهج في التعاطي مع تلك النصوص.

و المضي في دعم النخب لهذه المدرسة، قد يحدث قفزة معرفية مهمة، تنهض بالمناهج التعليمية وبالخطابات المنبرية، وتعيد التوازن بين الفكر والعاطفة، ولعنصري الاسلام الخلود والأصالة، خاصة لو تضافرت جهود المثقفين مع هذه المدرسة العلمائية في المؤسسة الدينية، وشكلت جبهة علمية رصينة لا تخوض صراعات داخلية، بل تنكب على البناء المعرفي لتشكيل مشروع تحصيني يتم في جسده التبادل المعرفي والثقافي الآخر، والحفاظ في ذات الوقت على الهوية، ويجيب على التساؤلات الكبرى المطروحة في راهننا، والتي ينتظر الجيل الحالي الإجابات الشافية عليها، فلا تنخرط هذه الجبهة في الجدل مع المختلفين معها داخليا، ولا تنجر لمشاكلهم وإلهائهم باسم المعرفة والدفاع عن الله، بل تنشغل فقط في بناء منهجية معرفية علمية دينية تتظافر فيها جهود العلماء والمثقفين والأكاديميين المتخصصين وتستخدم فيها العلوم المعاصرة في صناعة مشروع حضاري معتدل يحصن الجيل الشاب، ويواجه العولمة المتوحشة التي تريد ابتلاعنا وهضمنا في هويتها.

وهذا يمكن من خلال نهضة شاملة مادية ومعنوية، لو تداعت كل المؤسسات والنخب للتعاون في دعم التوجه المعتدل العلمي، وفتح آفاق التفكير في المناطق المحظورة، ودق كل أبواب السؤال المعرفي دون وجل أو خجل.

ولعل ما حدث في بعض محطات التاريخ من رفض وإقصاء للمختلف وللرأي الآخر، والتداعيات التاريخية لكيفية التعاطي مع ما هو مختلف، يعتبر من الدروس المهمة التي يجب الاستفادة منها لبناء مستقبل أكثر حضارية وتطور. يمكن مراجعة كتاب: العنف حين يأتي من الداخل لعلي المحرقي.

وكمثال على ذلك كتاب أصول الفقه للشهيد محمد باقر الصدر، والذي اعتبر في ذلك الوقت خروج وانقلاب، وتم منع تدريسه، حتى اضطر تلامذته لتدريسه في السراديب بشكل سري، لكنه بات اليوم من أهم الكتب التي تدرس في مادة الأصول وفي العلن وفي كل المؤسسات الدينية.

ومثال آخر مادة الفلسفة التي كان من يدَرِّسها أو يَدْرُسها يعتبر نجسا وكافرا، فكانت مرفوضة بشكل كبير في جسد المؤسسة الدينية ومازال إلى راهننا محظور في بعضها، واليوم تعتبر من المواد المهمة في فهم كثير من النصوص الدينية وحل كثير من الاشكاليات المعاصرة.

ويكفينا معرفة أن منهج الملا صدرا في الحكمة المتعالية بقي قرنا من الزمن مغيبا بسبب طرح الملا صدرا لمبدأ أصالة الوجود في قبال أصالة الماهية التي طرحها ابن سينا، وبقيت تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل حتى تحولت كثابت علمي لا يمكن نقده، لهيمنة شخصية ابن سينا العلمية والموسوعية على عقول اللاحقين له.

وغيرها من الأمثلة التي تعكس مزاجا إقصائيّا رافضا التعاطي مع الجديد والآخر، حيث شكل حاجزا كبيرا أمام نهضة كثير من العلوم في المؤسسة الدينية.

هذا المنهج الإقصائي كان سببا في تأخرنا الحضاري لسنين، وكان سببا في تأخر نهضة المعارف والعقول زمنا طويلا.

فكانت المؤسسات الدينية مصدر إشعاع معرفي وفكري وأخلاقي وديني، وكانت داعما للنهضة والاكتشافات العلمية العديدة.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

الغرب والآخر:

تميز الغرب باكتشافاته العلمية التجريبية، واكتشاف قوانين الطبيعة ومن ثم الهيمنة عليها، وكانت عجلة التطور تكمن في ثورته على الكنيسة وممارساتها المتطرفة اتجاه المجتمع والدين، وحتى اتجاه العقل ودوره، فكانت نتيجة هذا التطرف الحاد الرافض لتفعيل العقل في قراءة النص، انقلابا حادا على كل الدين الذي مثلته الكنيسة وفرضت فهمها له على المحيط.

فكانت الكنيسة سبب مهم لعصور الظلام بسبب ثقافة الإقصاء والمنع، ومحاكم التفتيش.

وأخذت حركة الاكتشافات العلمية والعقلية في مجال الطبيعة والفلسفة تتسارع، وكانت النظريات الفلسفية حول الانسان والكون والطبيعة تتبلور في ظل تلك الظروف، وحركة النقد العلمية للنظريات والاكتشافات كانت بارزة وملهمة لمزيد من التساؤلات والسباق العلمي.

وبدأت حركة رفض الدين تتزايد كلما تزايدت هيمنة الانسان على الطبيعة، وزادت اكتشافاه العقلية والعلمية، حتى وصل الغرب إلى مرحلة الرفض التام لأي مدخلية ودور للدين في الحياة، ومحورية الإنسان في كل شيء، وذلك بسبب سلوك الكنيسة باسم الدين فحدث الانقلاب على الكنيسة والدين معا.

وبات سؤال المعرفة في بدايات الثورة العلمية منهجا لتحرير العقل من أغلال الكنيسة، ولاكتشاف حقائق الكون والطبيعة وإشباع رغبته في المعرفة والتفكير، ومع التقادم تحول الهدف من المعرفة إلى السيطرة وبات هو المسار العام، فأخضعوا كل الوجود للحس والتجربة كمصادر معرفية لكشف الواقع ومعرفة الحقائق.

وما لا يخضع للتجربة والحس فهو مرفوض، فمر الغرب علميا في عدة مراحل:

- الانقلاب على الكنيسة.

- إطلاق العنان للعقل والاكتشاف العلمي والجغرافي.

ـ محورية الإنسان والهيمنة على الطبيعة لا فقط اكتشافها وتطويعها.

ـ هيمنة الاقتصاد الرأسمالي ومحوريته في الرؤية الكوينية.

- التشييء ومصدرية الحس والتجربة معرفيا.

وفي البين كانت هناك مراحل تتفرع عن هذه المراحل، لكن هذه أبرز المنعطفات العلمية في الحركة الغربية العلمية بعد الانقلاب على الكنيسة.

كان الغرب يبني وينقد ويعيد النظر، لكن في البين كان هناك رفض لبعض النظريات التي تخالف الجو الكنسي الذي كان مهيمنا فترة من الزمن بعد تراجع الكنيسة، فالتراجع كان تدريجيا وليس دفعيا.

فنظرية داروين للتطور والارتقاء تعرضت لنقد من أهم القساوسة الذين كان بعضهم ينتمي للكنيسة.

وتحت ضغط النقد والتكفير، تراجع داروين في طبعة كتابه أصل الأنواع الثانية عن كثير من أرائه التي طرحها في الطبعة الأولى.

وليس فقط داروين من تعرض لمواجهة رفض وإقصاء وتكفير، بل أيضا هناك شخصيات لم يذكرها التاريخ تعرضت نظرياتها العلمية الجديدة للرفض دون أساس علمي.

لكن بشكل عام كان الغرب يتعامل مع الآراء المختلفة بعلمية ويعتمد على الأدلة في الرفض والتقويم، في بدايات نهضته.

ولكن ماذا عن الغرب اليوم؟

اليوم الغرب تداخلت فيه السياسة مع المعرفة فأفسدت عليه حركته العلمية النقدية، فبات من يخالف الرؤى العلمانية والرأسمالية يواجه بالإقصاء والرفض والتهديد، كون الاقتصاد هو المنطلق للتنظير لكل الأفق، وهو الموجه للسياسات وحتى للمعارف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك مواجهة لأي رأي يرفض المحرقة النازية بحق اليهود، وكل رأي ناقد للصهاينه، ويدين جرائمهم أو فاضحا لها، وتوجه له تهمة معاداة السامية التي تم تقنينها دوليا، وباتت تهمة تخشاها الأوساط الأكاديمية والتي سجن بعض أعضائها لمجرد نقد ضد الصهاينة، أو محاولة قراءة المحرقة قراءة تاريخية موضوعية، فوجهت لهم تهمة معاداة السامية وتم سجن بعضهم و إسقاط بعضهم اجتماعيا وأكاديميا كالمفكر الفرنسي "روجيه غارودي" مفكر فرنسي اعتنق الاسلام وكان معروفا في معاداته للصهيونية، والذي أصدر بيانا احتجاجيا بعد مجازر صبرا وشاتيلا. هذا فضلا عن الحرب التي يتم إعلانها على كل من يلمح إلى نظرية التصميم الذكي الخاصة بوجود الكون، وهي نظرية تدحض رؤى المدرسة التطورية الداروينية المتطرفة، التي لا تؤمن بوجود خالق لهذا الكون. فمن يشير ولو إشارة لمفهوم التصميم الذكي تمارس ضده كل أنواع الإقصاء والتهميش، بدل ما يسمى بالانتخاب الطبيعي وبقاء الأقوى وفق التطوريون، ويتم إقصاءه ومنعه من نشر بحوثه في المجلات العلمية، أو سحب التمويل لأبحاثه، أو منعه من التدريس في الجامعة التي ينتمي إليها.

وهناك محاولات عديدة اليوم على مستوى الأنظمة السياسية في نشر الاسلاموفوبيا ومواجهة أي خيار خارج عن خيارات الدول العظمى، ومعاقبة كل من لا يخضع لإملاءاتها.

فالغرب صاحب النهضة المادية (علمية وتكنلوجية (، والذي استمد نهضته في مراحلها الأولى من النقد والتثوير العقلي، بدأ منذ زمن تشييء الكون والإنسان والطبيعة، وإخضاع كل مصادر المعرفة للحس والتجربة، بدأ يشكل لمساره الحضاري منهجا جديدا يسيطر عليه الاقتصاد الرأسمالي، وتصنع معارفه وتوجهاته الفكرية السياسة، ويخضع علومه لذلك.

فأصبح رغم كل مظاهر التعددية، أحادي الفكرة إقصائي التفكير. وهنا أتكلم عن النخب الحاكمة ومحيطها الذي يشكل لها النظريات ومراكز التفكير.

فكلما مارست الجهات العلمية النخبوية الإقصاء والرفض، تراجعت في عطائها المعرفي وبالتالي في نهضتها الحضارية، وكلمها مارست التعدد ومنهج الدليل والبرهان والحوار، كلما نمت بذورها وضربت جذورها في أرض المعرفه، ونهضت حضارتها.

فعندما كانت المؤسسات الدينية منفتحة على كل الآراء تاريخيا، ومنهجها مع مبدأ الدليل والبرهان في الرفض والقبول، تطورت علومها ونهضت وملأت الدنيا اكتشافات علمية، وعندما مارست الرفض والإقصاء وأسالت الدماء لأجل اختلاف في الرأي، وهيمنت الإقصاء المذهبي والعلمي والفكري، تراجعت وانكفأت حضاريا.

وهكذا بالنسبة للحضارة الغربية، فحينما مارست حركة النهضة نقدا وتعددا وبرهانية، تطورت مسيرتها وهيمنت وإن ماديا لكنها قدمت خدمات جليلة للبشرية، لكنها اليوم تعود للانكفاء الحضاري، والذي سيظهر جليا في السنوات القادمة أكثر.

مع فارق جوهري بين التجربتين وهو فارق مهم في موضوع الأصالة والاستمرارية والديمومة رغم الانكفاءات الحضارية، هذا الفارق هو مرجعية الله في تجربة المؤسسة الدينية، بينما عند الغرب المرجعية هي للإنسان فهو المحور، فمهما تذبذب الخط البياني في التطور الحضاري في تجربة المؤسسات الدينية، يبقى هناك عاملا أصيلا وهاما في إعادة الخط البياني لمساره التصاعدي، هذا العامل هو مرجعية النص الديني في البعد التشريعي والتقنيني، وبروز شخصيات فذة تاريخيا استطاعت بث الحياة في النص بقراءات متطورة أعادت الحياة لمسار النهضة المعرفية.

ونحن لا ننكر أن الغرب اليوم رغم أنه يئن تحت سياط المادية، وغياب المعنى والغرق في الماديات، إلا أن هناك أصوات علمية بدأت تعلو لإعادة الله إلى ساحات الحياة العلمية، ككتاب لغة الإله، ترجمة د. صلاح الفضلي ، الذي يتحدث عن الدي إن إيه (DNA) واكتشاف خريطة الإنسان الوراثية، حيث يقر مؤلف الكتاب وأحد أعضاء الفريق، الذي اكتشف الخريطة الوراثية للإنسان بوجود الله وأن المادة الوراثية هي لغة الله لخلقه.

لكن ما زالت هذه الأصوات خافته، وتعلو تلك الأصوات المادية المنكرة لوجود الله، وهي أعتى لغة إقصائية وصل لها الغرب اليوم، فبعد إقصاء الدين ورفضه، وصل بهم التطرف والإقصاء ورفض الآخر لرفض أي فكرة ترتبط بالله، بل إلى إقصاء الله من الوجود.

وهي نقطة خطرة في التطرف ورفض الآخر والإقصاء، بدأت تظهر معالمه وتداعياته، من خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والخلل الذي يظهر في المجتمعات نفسيا وسلوكيا.

خاتمة القول هنا:

إن قراءة هذه التجارب التاريخية، تمكننا من فهم كثير من القوانين في النهضة والنكوص الحضاري، وأسبابه وتداعياته، هذه المعرفة تفتح لنا أفقا في تجنب الأسباب ومعالجتها ومنع النكوص الحضاري في الحاضر والمستقبل، وتمكننا من النهوض المستمر وتحقيق الغايات الإلهية على الأرض من إقامة العدل وتحقيق الكرامة الإنسانية، فبدل الرفض والإقصاء بين المؤسسات الدينية والمثقفين والنخب، نحتاج لبناء جسور ثقة تعبد طريق المعرفة، وتزيل موانع الوصول إلى الله، وتفتح آفاق للناس لتفعل من طاقاتها العقلية، لا لنكبح جماح السؤال المعرفي وآفاقه، كذلك نحتاج بناء جسور معرفية مع الآخر المختلف كالغرب، نستفيد من تجربته البشرية بما يتناسب وقيمنا وثوابتنا ويخدم الإنسان، ونترك له ما لا يتناسب مع ذلك، دون رفض مطلق تحت نظرية المؤامرة، ولا قبول مطلق، تحت هاجس النكوص الذاتي والحضاري..

***

حاورها: أ. مراد غريبي – المثقف

15- 3 – 2023م

 

خاص بالمثقف: الحلقة الثانية مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س2: أ. مراد غريبي: كيف تجدين صورة المثقف في مقايسات مفكري العالم العربي والإسلامي المعاصر؟

ج2: أ. إيمان شمس الدين: لست هنا في صدد الحديث عن غيري طبعاً، ولكن سأتحدّث من وجهة نظري القاصرة، حول رؤيتي النّقديّة للمثقّف في راهننا ووظيفته بشكل أعم وأغلب.

هناك ممارسات باتت ظاهرة للعيان تمارسها كثيراً من النّخب ومنها:

المثقف والإرهاب الفكري:

تمارس النخبة غالبا نفوذا، بفضل مواهبها الفعلية أو الخاصة المفترضة، ويفترض في هذه النخبة أن تتولى مسألة حماية الحريات والحقوق العامة والتصدي للفساد في الدولة ومؤسساتها، وتسعى دوما لتكون في مقدمة المطالبين والمنفذين لتطبيق القانون، ورفض كل أشكال التمييز المناقضة للعدالة، ورفض التعاطي بمعايير مزدوجة في القضايا الوطنية، وقضايا المجتمع المتعلقة بحقه كمصدر للسلطات أو حقوقه العامة، كما تدفع باتجاه ترسيخ ثقافة تأدية الواجب الوطني، وتواجه النخبة كل محاولات الإرهاب الفكري من أي جهة كانت.

ولكن واقع النخبة في أغلب الدول العربية، يعاني أولا من التباس هو كيفية تجسيد المصطلح، وفي حقيقة الممارسة وفق ما يجب أن تكون عليه النخبة. خاصة فيما يتعلق بمسألة الإرهاب الفكري، كونها المعنية كنخبة في إنتاج المعرفة والأفكار، وتسريتها لكافة أفراد المجتمع.

فهناك اصطفاف حقيقي للنخبة قائم على أساس مذهبي وقبلي وعنصري، تتعامل فيه هذه النخب وفق ازدواجية معايير فاضحة، بل تمارس بنفسها عملية الإرهاب الفكري من خلال قمع كل أشكال الاختلاف في الرأي، ومحاولة فرض وجهة نظر واحدة وموجهة وفق ما تقتضيه مصلحتها السياسية خاصة.

بل تعمد بعض النخب لتمييع الحقيقة، وخلط أوراقها بالزيف، فقط لتمارس إرهابا في بسط نفوذها العقلي وفق رؤيتها الخاصة ومبدؤها: من لم يكن معي فهو ضدي.

وغالبا ما تنتقض هذه النخب عملية ازدواجية المعايير التي تمارسها نخب من فئات أخرى، إلا أنها واقعا تلجأ هي لنفس الممارسة في ازدواجية المعايير، إما تحت ضغط إرهاب الجماهير أو ضغط إرهاب النخب، التي تدخل في خصومات سياسية تتطلب منها مواقف غير مبدئية، وإنما سياسية يدور قطب رحاها حول المصلحة لا المبدأ.

وبعض هذه النخب تصبح هي بذاتها أداة للإرهاب الفكري في يد الدولة أو الرموز، وبدل أن تكون النخبة أداة بناء ووعي واستقامة تقود الجماهير نحو التقدم، تتحول لمعول هدم وتجهيل وقمع فكري، تشرف بنفسها على رسم خارطة قناعات الجمهور بما يتناسب ومصلحتها، بل يصبح الجمهور هو من يفرض رؤيته عليها وتخضع هي لذلك.

وتتجلى ممارسات الإرهاب الفكري للنخبة، في رفض التعدديات الفكرية والعقدية، وفرض وجهة فكرية أحادية خاضعة لعوامل التغيرات السياسية، التي تنبني في تفاعلاتها مع الراهن على أساس مذهبي وقبلي، وليس على أساس مبدئي.

وبعد كل هذا الارهاب الفكري لكثير من النخب، هل يمكن أن نطلق على هؤلاء مصطلح " النخبة “؟ أم أنهم واقعا هم " نكبة " على عقل الأمة؟

الإرهاب الفكري والإرهاب بالفكر:

الفكر فعل يقوم به العقل والنفس وصورته الكلام، وما أكثر الدعوة الإلهية في القرآن إلى التفكر وإعمال العقل، لما للعقل من دور كبير في حركة الوعي الجوهرية، من داخل الذات إلى خارجها.

ويمثل الفكر ثقل وقوة تضاهي القوة العسكرية، كون منطقة اشتغالها الإنسان وخاصة عقله، فهي تُعنى بعملية الإدراك والوعي العقلي والنفسي، وتحاول عملية التفكير العقلي تجلية المفاهيم والحقائق، من خلال سلسلة عمليات استقرائية معرفية، والربط بينها والخروج بنتائج غالبا ما تكون شبه حتمية.

ولأهمية عملية التفكير والنظر، نجد هناك مراكز بحثية في أمريكا مثلا، هي عبارة عن مطابخ فكرية يشتغل في حقلها عدة مفكرين لا وظيفة لهم سوى التفكير والاستقراء والاستنتاج، ومن ثم رسم الاستراتيجيات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وتعتبر هذه المراكز البحثية، نواة محورية في مؤسسات الدولة، تتكئ عليها السياسات الداخلية والخارجية.

وكما يواجه الناس والدول والمجتمعات بالإرهاب العسكري، فأيضا هناك إرهاب يواجه به الفكر وله عدة أدوات، وتختلف مستويات الإرهاب الفكري باختلاف أيضا مستوياته، فهناك إرهاب دولة، وإرهاب مؤسسة، وإرهاب إعلام وإرهاب أسري، وإرهاب اجتماعي وإرهاب المؤسسات الدينية، وإرهاب نخبوي أو مثقفين، وإرهاب شعبوي.

وأخطر إرهاب من وجهة نظري، هو الإرهاب الديني المعنية به المؤسسات الدينية، ويستخدم به أداة جدا مهمة وحساسة وخطرة في ذات الوقت، وهي الفتوى، لما للفتوى من أثر كبير في تحريك الجماهير، وتحشيدها وضرب كل إنتاجات العقل وحرقها، وفي طول ذلك من الممكن أن تضرب مشاريع الإصلاح والتغيير والتجديد الحقيقية.

وهناك أيضا إرهاب فكري بالفكر، حيث تلجأ اليوم بعض الدول العربية والإسلامية والخليجية خاصة، لتمويل مراكز فكرية، واجتذاب عقول فكرية ومثقفين مشهورة ومنتشرة جماهيريا ومؤثرة في صناعة وعيه لإدارة تلك المراكز الفكرية، إلا أن الواقع جعل هذه المؤسسات الفكرية المعنية بالمعرفة والوعي، منصات تجسسية يتم من خلالها التآمر على دول أخرى والتجسس عليها.

ليصبح الفكر أداة للإرهاب ووسيلة للتآمر، بسبب المنتسبين إليه، الذين تحالفوا مع هذه الدول، لامتلاكها المكنة المالية في تمويل مشاريعهم الفكرية والثقافية الخاصة، في تغليب فاضح وواضح لمصالحهم الذاتية بحجة أنها مشاريع فكرية وثقافية، على المصالح العامة للشعوب، معتقدين بذلك أنهم يستخدمون تلك السلطات لتحقيق حركة وعي جماهيري، وبالتالي إحداث عمليات تغيير على المدى البعيد، متجاهلين أن الغاية لا يمكنها أن تبرر الوسيلة، وأن أهداف النهضة والتغيير، لا يمكنها أن تتحقق بوسائل فاسدة وأموال مسروقة من الشعوب. أو هم مثقفي سلطة، يمتهنون مهنة الثقافة، ويستلمون في قبالها راتبا شهريا، ويبيعون المعرفة كسلعة استهلاكية، يملكون من خلالها سلطة ونفوذ ثقافي، يمكنهم من عقد مؤتمرات فكرية وثقافية بعناوين مهمة، تتصدرها قضايا الفكر السياسي والديني، ولا يكون نتاج هذه المؤتمرات والندوات سوى عملية تخدير بالكلام، وإظهار الدول الراعية كدول داعمة للثقافة والفكر، رغم حكم هذه الدول الاستبدادي، والبعيد عما يطرحه هؤلاء في مؤتمراتهم.

وهذه المراكز تصنع لهؤلاء سلطة ونفوذ تهيمن بها على الساحة الفكرية والثقافية، و ترهب بالفكر الأفكار المختلفة لمنهجها، أو ترهب بسلطتها وهيمنتها المؤسسات والشخصيات الفكرية والثقافية المقابلة لها في المنهج. هذا فضلا عن امتلاك بعض هذه الشخصيات الفكرية والمثقفة المميزة سلطة معرفية تستخدمها لترهب بها الأقل معرفة والمخالف معرفيا لها. والعلم ليس سلطة بل وسيلة نهوض ورحمة.

وإعمال العقل بالأفكار حق يملكه كل إنسان ،ولكنه لا يملك الحق في ترويج هذه الأفكار كمسلمات نهائية أولا، ولا إقحامها في مجالات خارجة عن مناطق اشتغالها وهي الفكر والعقل ثانيا، كمن يحول فكرته مثلا إلى فتوى وهو ليس بفقيه، ولا يملك أدوات ولا مقومات الفقاهة ، نعم يمكنه عرض مشروعه الفكري على الفقيه، إذا ما تعلق مشروعه بالمنظومة الفقهية كتوصيف وتقييم ، ويمكنه عرض مشاريعه الفكرية الخاصة مثلا بقراءة التاريخ أو قراءة المجتمعات أو غيره، على متخصصين في كل علم، كي يبحروا من عالم الفكرة إلى عالم التطبيق والتفصيل في المجمل.

إلا أنه للأسف ما يحصل من قبل المفكرين والمثقفين، إما طرح الأفكار كمسلمات، رغم معرفتهم بتراكم العقل المعرفي، أو إقحام أفكارهم من مستوى التوصيف والتفكير إلى تخصصات تفصيلية تطبيقية، لا يملكون أدواتها ولا التخصص بها.

وما يحدث بحق المفكرين والمثقفين وأفكارهم هو نوع من الإرهاب الفكري، إما من النخب الحزبيين الذين يعمدون إلى استخدام أدوات شخصانية، يسقطون فيها الشخص بتهم تمس سمعته أو تدينه أو نزاهته، وبالتالي يسقط مشروعه الفكري والثقافي، أو من خلال فتاوى تضرب بوجوده ككل.

وبدل مناقشة الفكرة بالحجة والفكرة وإثراء العقل، يكون الحل قتل الفكرة بقتل صاحبها اجتماعيا ودينيا، وهذا ما يمكن تسميته الكسل العلمي.

ما نحتاجه وخاصة طبقة المثقفين والمفكرين والعلماء (النخب)، هو ثقافة الخروج من الصناديق العقلية المغلقة، دون المس بالثوابت المطلقة الحقيقية، الخروج يوفر للعقل آفاق معرفية أكبر ويجعله منفتحا لمناقشة كل الأفكار، ليس كمسلمات وإنما أفكار تحرك العقل لتعيد النظر في الموروث والراهن، وتستطيع استشراف مستقبل أكثر إشراقا.

فلا يعنيني ثقافة " ما يريده الجمهور" لأنها ثقافة شعبوية توهن العقل، وتضيع الحقيقة وتدمر الحياة الإنسانية، وتعيق حركة التطور والتنمية في كافة مجالاتها.

كما لا يعنيني بحجة تشييد مركز دراسات فكرية، ثقافية، التعامل مع الشيطان، واستخدام وسائل فاسدة لتحقيق هذا الهدف.

كما أننا بحاجة ماسة للاستقلال الذاتي، بعيدا عن أموال السلطة، استقلالا يمكن المثقف والمفكر والمشتغل بالحقل المعرفي، أن يبني مشروعه المعرفي بعيدا عن الاستغلال السلطوي لأي جهة، وبعيدا عن تحويل المشروع لأداة للتخدير والتجهيل، وتحويل الفكر لوسيلة إرهاب بالفكر، تبهر الحواس بجمال وحسن الكلام، لكنها لا تحقق أي تغيير معرفي، ولا تحدث وعيا في عقول الناس يدفع باتجاه النهضة الشاملة.

ولتحقيق هذه الغاية وهي استقلال هذه المؤسسات الهامة، يتطلب منا إعادة بناء مفهوم العمل الخيري، الذي يرتكز في الذهنية العامة على بناء المساجد غالبا، رغم أن بناء الفكر وتوجيه العقل هو مقدمة لازمة حتى للصلاة التي يختص بها المسجد. وتجلية مصاديق العمل الخيري وربطها بمتطلبات الزمان والمكان، ومتطلبات الأمة من نواقص على مستوى الفهم والعقل والثقافة، وتغطية مكامن الخلل بما يعود بالخير والنفع على وعي الأمة وفهمها، لا فقط على جيوبها وطرق معيشتها، فالمعرفة بوابة ضرورية للعقل في فهم الله والكون والطبيعة، وهذا بذاته يحتاج بحث منفصل ليس مورده هنا.

ومع بروز وسائل التواصل الاجتماعي برز لدينا مفهوم جديد من وجهة نظري هو مثقف ال social media إن صح التّعبير، أي مثقف وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا بذاته يحتاج دراسة مفصّلة، فليس كل مثقف تواجد في هذه الوسائل هو لا ينطبق عليه مفهوم ووظيفة المثقف إذ أنها من الوسائل المهمة اليوم في صناعة الوعي، شريطة أن يكون من يدير هذا الحساب هو مثقف حقيقي واقعي، وليس مجرد أداة أو وسيلة جديدة لتزييف الوعي، وصناعة الوهم باسم الثقافة، هذا إضافة إلى خطورة هذه الوسائل التي أحدثت خرق مهم في المعرفة وأدّت إلى انعدام السّياق. وهذا بحث جدير جدّا في أن يتم المباشرة به، لأنه بحث إشكالي يحتاج إلى تفنيد وتحليل لفهم ملابساته وإشكالياته وسلبياته وإيجابياته. وتكمن خطورة هذا النوع من الوسائل في المعرفة والثقافة ونشرها في نوعية هذه المعارف وقيمتها ومنطق خبرها ومنهجها، إذ أنها تُطْرَح من قبل شخصيات محجوبة غير مرئية، وهو ما يتطلب تحقق مضاعف من المضمون أي الخَبَر، ومن المُخبِر، وهو ما يمكن فهمه من خلال مراجعة كتاب مدخل إلى نقد المعرفة النقليّة لإكسل جلبرت ترجمة د.صلاح الفضلي، ومراجعة د. مرتضى فرج.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

س3: أ. مراد غريبي: الحديث عن المثقف هو من صميم إشكاليات الحرية والمقدس والوعي والتجديد والإصلاح، هل برأيكم لا يزال المثقف العربي الراهن بعيد عن حلحلة جدليات الواقع؟ ولماذا؟

ج3: أ. إيمان شمس الدين: حتى أجيب على سؤالكم الكريم لابد قبلا من الوقوف على هذه المصطلحات الإشكالية وتوضيح دلالاتها حتى يتسنّى للقارئ الكريم الانطلاق من منطلق منهجي يوضح له المسار.

كنت في الأجوبة السّابقة تعرّضت لمفهوم الحريّة وتعريفه، وسأتطرّق الآن لمفهوم المُقَدّس وعلاقته بالحريّة.

يعرف المقدس بأنه في مقابل الدنيوي ويعرف المقدس في أنه مقابل المدنس، ويعرف المقدس بانه كل شيء متعال، ويعرف المقدس بأنه ما يرتبط بالدين وتجلياته وتعبيراته.

والتعريفات للمقدس تعريفات كثيرة ومتنوعة في الواقع، لكنه يمكن أن نخلص من هذه التعريفات إلى أن المقدس هو مقابل المدنس، يعني الشيء المرتبط بما هو متعال، أساساً هل أن المقدس يساوي الديني أو لا يساوي الديني، بلا شك أن المقدس هو ديني، ولكن أحياناً للمقدس حقل خارج الدين بمفهومه المتداول والمتعارف، لأنه يرتبط أيضاً بطبيعة المجتمعات وحدود المقدس فيها، هذه المسألة يمكن أن نلاحظها في انثروبولوجيا الدين، ويمكن أيضاً ملاحظتها في سيسيولوجيا الدين خلال مقاربات انثروبولوجية (علم الإنسان) أو مقاربات سيسيولوجية (اجتماعية)، أو حتى مقاربات سيكولوجية (نفسية) في علم نفس الدين، نقدر أن نتعرف على تجليات المقدس وتعبيراته وطبقات المقدس ونفوذه وعوالمه ومجالاته، المقدس ظاهرة موجودة حيث وجدت الحياة البشرية، وواحد من البنى العميقة في الوعي واللاوعي البشري، حتى المجتمعات شديدة العلمنة - اذا صح التعبير - لا يمكن أن تغادر المقدس لأنه موجود في بنيتها العميقة، ونجد دائماً تعبيراته في حياتها(د. عبد الجبار الرفاعي، جريدة الصباح، 27/1/2010م).

الحرية والمقدس:

يطرح موضوع الاعتقاد في سياقه مفهوم المقدس، وعلاقة هذا المقدس بالحرية، وهي جدلية نعيشها في راهننا وتتجلى دوما في التعدي على المقدسات بحجة الحريات، وانقسام النخب إلى قسمين:

. قسم يعتبر ذلك حرية تعبير لكل فرد حق في ذلك؛

. قسم يعتبر هذا تعدّي على المقدّسات يجب منعه ومواجهته.

هذه الجدلية تعود إلى طبيعة العلاقة المتصورة بين المقدس والحرية، وانطلاقا من كل تصور ومنشأه الفلسفي والمعرفي، تختلف زوايا النظر، فحينما ننتمي إلى مدرسة معرفية ترى أن الحرية هي القيمة الكبرى والهدف والغاية، بالتالي يجب الدفاع عنها ورفض أي شكل من أشكال تقييدها، وأن العدالة عليها أن تكون هنا في خدمة هذه الغاية الكبرى، وهذا ما يتبناه الغرب بأغلب مدارسه الفكرية والفلسفية كما أسلفنا سابقا.

في المقابل توجد أطراف تعتبر الحرية قيمة أداتية، وقيمة من مجموعة قيم ومثل عليا، بالتالي عملانيا لا يمكن التعاطي مع قيمة الحرية بمعزل عن المنظومة القيمية الكاملة، وأن تكون الضابطة هي تحقيق هذه الحرية للعدالة والكرامة الإنسانية، هذه المنظومة القيمية الكاملة تحدد بعض الحدود والضوابط على مستوى الممارسة.

واختلاف المرجعيات المعرفية والمعيارية يؤدي إلى اختلاف النظر إلى مفهوم الحرية، خاصة عندما يكون هذا الاختلاف يدور بين جهة لا ترى النص الديني مصدرا معرفيا، ولا مرجعية معيارية ضابطة، وجهة أخرى تراه أحد أهم مصادر المعرفة، وأحد أهم المرجعيات المعيارية الضابطة في منظومتها الفلسفية والفكرية.

"إن هذه الضوابط والحدود ليست تقييدا لقيمة الحرية، وإنما في هذا الموضوع أو القضية الأولوية لقيمة أخري مختلفة عن قيمة الحرية..

فمن يمارس حريته هو من يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه.. فمن لا سلطة له لا حرية له، فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز، أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء". (محمد محفوظ، ص 12 و13)

وتعتبر هذه المفاهيم كالحرية والمقدس والوعي ملفّات مفتوحة أمام عمليّات الإصلاح والتجديد عبر العصور المختلفة، كونها مفاهيم تطوريّة عبر الزمن، ومُتّصِلة بوعي الإنسان وإدراكه المتطوّر أيضا.

إن المنهج النهضوي الفكري في الإصلاح والتجديد يسير في خطين متوازيين:

الأول: البناء الداخلي، وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، واكتشاف أهم نقاط الضعف، ونقد الذات نقدا موضوعيا صريحا من موقع المتمكن، والمعتز بهويته الاسلامية، لا موقع التابع والمنهزم نفسيا، ومستفيدا من الحضارات الأخرى وتجاربها البشرية في موضوع النهضة والإحياء. ويتطلب ذلك تفكيك بنيوي داخل ديني ابستمولوجي (معرفي)، نشخص من خلاله أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الاسلامية، بالاعتماد على قراءة تجارب مصلحين سابقين.

الثاني: البناء الخارجي، والمتعلق بالحضارة الغربية والعوامل الخارجية المؤثرة في عملية التغيير. والتجارب البشرية في هذا الصدد، والاطلاع على كل إسهاماتها وأفكارها وثمارها اطلاعا علميا لا تابعا، ناقدا لا مسلما، مستفيدا لا مستنكفا، مدركا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى. وتوضيح إرهاصات كثير من الأفكار الغربية، التي أحدثت ضجيج في أوساط المثقفين والمفكرين، وبين البنى المعرفية والفلسفية التي تعتبر القاعدة التي تنطلق منها كل هذه الأفكار، محددا معالم المصطلحات وأوعيتها المعرفية التي انطلقت منها.

وللعقل دور جوهري في عملية الإصلاح والتجديد والنهضة، "فالعقل هو الوسيلة التي ينبغي أن يستثمرها الإنسان لتمييز ذلك، لأن بواسطته يستطيع تأمل تجاربه فيدرك بذلك انحرافه، وجذور تراجعه. ولقد يدلنا العقل بسهولة وبساطة ويسر، ويرشدنا إلى أن الإنسان استثمر على مدى الزمن قدراته وما أبدعه في سبيل خدمة أهداف تنافي طبيعته، وتتجاوز مقتضيات فطرته، ومن أجل غايات وهمية وآمال زائفة وطموحات متهورة، وإشباعا لغرائز متفلته ومندفعة وطاغية، لم تجد في طريق انطلاقها عائقا يحد منها، أو وازع يخفف من غلوائها، فكانت نتيجة لذلك الانهيار الشامل لتجارب والدمار الكلي لأمم، والفناء المحقق لشعوب، والقهر المقيت لمجتمعات. " (مطهري، الاسلام ومتطلبات العصر، ص ٣٥)

والمتتبع للدعوات الاصلاحية تاريخيا، ومدى تحقيق مطالبها على أرض الواقع، من خلال استقراء حال الأمة يمكنه تلمس مكامن الخلل والنكوص، والنجاح والانجاز وأسباب كل منهما. ولكن ماذا عن حقيقة دعوات الإصلاح والتجديد التي يتبنّاها كثير من النّخب والمثقّفين؟

الإصلاح وحقيقة الشعارات:

كثيرة هي الشعارات الاصلاحية التي رفعت في سبيل النهضة والتطوير، وعادة تكون الشعارات هي عناوين عامة، وخلاصات لمشاريع نهضوية، يراد لها أن تُفَعَّلْ على الواقع الخارجي.

لكن مع كثرة دعوات الاصلاح في العالم العربي والاسلامي، إلا أن واقع الحال لا يعكس هذا الكم من الدعوات والحراكات، والأسباب كثيرة لكن قد يكون أهمها هو:

* أن تكون مجرد شعارات لتحشيد كم عددي من الجمهور، مع عدم وجود رؤى واستراتيجيات حقيقية للمشروع الاصلاحي الذي رفع كشعار.

* وجود فارق وفجوة بين المُنَظّرين للعمل الإصلاحي والواقع، وعدم قراءة حيثيات ومعطيات الواقع، وما هي الاستراتيجية الموائمة لإصلاحه، سواء استراتيجيّات آنية أو على المدى البعيد، بالتالي تتحول عملية الاصلاح لمجرد نظريات غير قابلة للتطبيق، أو لا يسعى أصحابها للارتقاء بوعي وقابليات الناس، وتصويب الواقع ليصبح قابلا لتطبيق نظرياتهم.

* قد يطرح كثير من النخب والعلماء مشاريع إصلاحية فاعلة، وموائمة للواقع ومعطياته، ولكنهم لا يكملون فاعليتهم في مشاريعهم لأسباب عديدة أهمها:

١. رحيلهم عن الدنيا قبل إتمام رؤيتهم، وعدم وجود حَمَلَة أمناء يكملون مسيرتهم وتطويرها.

٢. وجود حَمَلَة لكنهم لم يدركوا أو يستوعبوا المشروع كما طرحه صاحبه، بالتالي يتم حرفه أو تفريغه من أهدافه الكبرى، لاختلاف الفهم والإدراك، بل لاختلاف العزائم والهمم.

٣ـ قد يدرك الحملة المشروع لكن تدخل أهواءهم ورغباتهم في تحصيلهم لموقع أو لمكانة ما، فيحتفظون بكثير من حقائق المشروع الإصلاحي، حتى ينسبوه لأنفسهم ويتسلقون به للوصول.

٤ـ قد يخشى بعض وارثوا المشروع على مكانتهم الاجتماعية والعلمية، ويخافون من ردود فعل العوام من الناس، أو أصحاب الرؤى الكلاسيكية والمُتَشَدّدة على ما يحمله المشروع، من قدرة لزعزعة العادات والتقاليد المخالفة للعقل والشرع، وتصويب كثير من المعتقدات المتوارثة عن الأجداد، لا وفق مبدأ الدليل والبرهان، بالتالي يخفون معالم المشروع.

٥ـ قد يتم قتل وتقويض المشروع في مهده، خوفا وادعاء لعدم قابلية الواقع الخارجي لهذا المشروع، بدل أن يشمروا عن سواعد هممهم وعزائمهم ويخوضوا معركة مع العقول والقلوب، لتهيئة الواقع والنهوض بالقابليات.

٦ـ وجود مشروع نهضوي موائم، ولكنه سابق للزمان والمكان، بالتالي مواجهته بالقتل الاجتماعي من خلال تسقيط شخصية حامله، أو محاصرة المشروع بالإرهاب الفكري والاجتماعي.

٧ـ استيعاب صاحب المشروع الإصلاحي لمشروعه نظريا، لكنه لم يدرس الآليات التطبيقية المناسبة للواقع الاجتماعي، وممارسة البعض منهم منهج الصدمة في طرح رؤاه الإصلاحية، والتي ووجهت كثير منها بردود فعل عنيفة، أفقدت ما هو حقيقة في هذه المشاريع قيمتها، وتمزقت كحقيقة بل سقطت في أذهان أغلب من سمع عنها أو أدركها، نتيجة منهج الصدمة وردود الفعل، مما يتطلب عقودا وأجيالا لإعادة إحيائها مجددا، وهو ما قد يعني تأخر في مسيرة التقدم والنهضة سنوات عديدة، فقط بسبب منهج خاطئ أو آليات تطبيقية غير مناسبة.

٨.دخول وسائل التواصل الاجتماعي في فضاء المعلومة ونقلها، وهو ما هدّد السيّاق، حتى قال أحد الفلاسفة بانهيار السّياق في هذه الوسائل، وانجذاب أغلب النّاس لهذه الوسيلة السريعة والسّهلة في تلقّي المعلومات، وهو ما هدّد منطق وأبستمولوجيا الخبر بالمعنى المنطقي، الذي يعني المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق والكذب، وقوض فكرة أهمية منهج الدّليل للوصول إلى الدّليل في عالم المعرفة والفكر. فالمعارفُ المستقاة من الأخبارِ المنقولة، بالغةُ الخطورة، لأنَّ احتمالَ الاشتباه فيها مرتفع، فهي عُرْضة لتحريفٍ مقصودٍ أو غير مقصود، عند نقلِ الخبر أو تحليلِهِ.

لذا حذَّرَ القرآنُ من التَّساهُلِ في قبولِ الأخبار من مصادر غير موثوقة، فقالَ تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ". (الحجرات: 6)

س4: أ. مراد غريبي: ننتقل لبعد آخر يتعلق بعلاقة المثقف بالدين، كيف ينظر المثقف للدين وما مدى واقعية مسمى الفقيه المثقف أو العكس؟

ج4: أ. إيمان شمس الدين: تختلف البنية المعرفية للمثقف ما بعد العولمة، عن بنيته ما قبل العولمة، وهو ليس اختلافا في الجذور وإنما في التشكيلات المعرفية الفوقية، التي ضعضعت عند بعضهم الأصول بسبب الكشوفات المعرفية التي أماطت اللثام عن حقيقة التاريخ، ومدى وثاقة ما تم نقله إلينا من رواية تقص علينا أحداثه بما تحمله من موروث ديني من جهة، وما تحمله من دلالات ومحمولات معرفية من جهة أخرى.

وخاصة مع إماطة اللثام عن مناهج علمية رصينة في قراءة التاريخ، استطاعت رسم خارطة طريق أولية لأحداث التاريخ في الماضي، وكيف على ضوء هذه المناهج تهاوت كثير من المسلمات المعرفية، التي شُيِّدت عليها ووفقها كثير من الأفكار والمعتقدات والمسارات، وانهيارها بعد تطبيق المناهج الجديدة في قراءة التاريخ عليها، قوض أغلب تلك التركيبة الذهنية المعرفية المرتبطة بها. خاصة مع غياب الممارسة النقدية السليمة، والتسالم الاطمئناني في النقل بين الشخصيات العلمية الكبيرة، التي طغت علميتها وعظم إنجازاتها رغم بشريتها على الجو العلمي العام، وساهم ذلك في نشوء هيبة علمية في ذهنية اللاحقين، منعتهم عن النقد والتقييم والمراجعة لنتاجهم المعرفي ونقلهم التاريخي خاصة فيما يتعلق في النصوص الدينية، أو ما يتعلق بالأحداث التاريخية بشكل عام والمشهد الديني فيها بشكل خاص، مع اكتشاف مخطوطات جديدة وحفريات أماطت اللثام عن حقب تاريخية كشفت لنا مشهدا آخرا من التاريخ الموروث كتابة ونقلا.

طبعا نحن هنا لا نقيم المناهج القارئة للتاريخ، ولا ما توصلت له من نتائج، ولكننا نوصف مسارا معرفيا في شكل البنية المعرفية وكيفية تكوينها ومصادر هذه المعرفة التي شكلت معارف المثقف، والمؤثرات التي لعبت دورا في تغيير هذه البنية وتقويض بعض أسسها، أو تغيير بعض مساراتها ومسلماتها، بل وثوابتها.

ومع تطور الحركة العلمية ومناهجها في قراءة التاريخ، وما تحقق من انكشافات على يد كثير من روادها، وإعادة استثمار هذه المناهج من قبل المتخصصين في التاريخ الاسلامي، وكشف كم التزوير الذي تم في كتابة التاريخ من قبل المؤرخين أو ضياع أحداث تاريخية لأسباب أهمها:

١. قيام السلطة الحاكمة بالهيمنة على عملية كتابة التاريخ، من خلال شراء كثير من العلماء والمؤخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، ودفعهم لكتابة تاريخ يتناسب ومرادهم وطموحات السلطة.

٢. ونتيجة هذا الدس من قبل السلطة تولد رد فعل معاكس من قبل تيار حاول كتابة التاريخ، لكنه فعل ذلك كرد فعل، وهو ما قد يخضعه لانفعالات ذاتية تجعله غير موضوعي في النقل، وغير منصف حتى مع السلطة التي لا يواليها، فينقل التاريخ من وجهة نظره هو.

٣. هناك من حركته العصبيات المذهبية والقبلية، وتحت شعار الدفاع عن الدين، أو الكذب بحجة الحفاظ على مدرسة هو ينتمي إليها، فقام بكتابة التاريخ ونقل الموروث منطلقا من هذه المنطلقات والتحيزات، التي عادة تبعد المؤرخ أو الراوي عن الموضوعية والإنصاف العلمي، بل تمنعه من التحيز للحقيقة، حتى لو خالفت مراده وأهدافه.

٤. هناك من كتب التاريخ ورواه ونقل الموروث بموضوعية وإنصاف، لكن هؤلاء قلة، وقد تصدى عبر التاريخ لهم إما السلطة الحاكمة، أو المخالفين لهم مما لا يريدون للتاريخ أن ينقل كما هو، فتمت إما ملاحقتهم، أو تم إخفاء كل منتجهم المعرفي وروايتهم التاريخية المنصفة، وقد كشفت بعض حملات التنقيب عن الأحافير والآثار، عن بعض المخطوطات المهمة في تلك الحقب الزمانية.

٥. الحروب وما خلفته من دمار طال المكتبات الإسلامية بما فيها من مخطوطات وموسوعات، كانت تضم كثير من أحداث التاريخ ونصوصه خاصة النص الديني، وحرق كثير من المكتبات الخاصة ببعض الشخصيات الدينية، لأسباب بعضها مذهبي وطائفي، وبعضها جاء نتيجة الحروب الداخلية أو الإغارات من قبل الأعداء الخارجيين.

إذا نحن أمام أزمة ثقة بالمنقول من الموروث، لا تدفعنا للرفض المطلق له، ولا التسليم الاطمئناني الساذج إليه، بل تدفعنا لفتح باب دراسة هذا التاريخ على مصراعيه للمتخصصين، واستخدام المناهج الحديثة في عمل حفر عميق في بنيته الداخلية والخارجية، وإعادة كتابته بعد تخليصه من التزييف الذي أحكم الخناق عليه، وأيضا يدفعنا إلى توثيق حاضرنا بطرق منهجية علمية تحفظ هذا الحاضر من أي محاولات تزوير للأجيال القادمة، لحل إشكالية وأزمة الثقة بالموروث التاريخي التي ظهرت كسمة في هذا العصر بعد العولمة.

والمثقف الناقد للاطمئنان التواضعي من قبل كثير من العلماء والنخب لما نقل من التاريخ، عليه أيضا أن لا يقوم بالرفض المطلق للموروث التاريخي بحجة فقدان الثقة ضمن تفكير عشوائي غير منظم، بل عليه أن يبدأ الحفر لمعرفة الموروث التاريخي الواقعي وأحداثه الصحيحة والاستفادة من سننه وتجربته البشرية في حاضره، وهو ما يتطلب منه تفكيرا منظما، يبني فيه رؤيته فكرة فكرة دون القفر من العام إلى الخاص أو بالعكس، ودون الاكتفاء بالنظرة السطحية للتاريخ، بل عليه الولوج إلى العمق والحفر في الداخل بتأني وصبر ليصل إلى نتيجة علمية رصينة غير متحيزة. " لأن عشوائية التفكير قد تفقد النقد قدرته على إصابة كبد الحقيقة، بل قد تقضي في بعض الأحيان إلى ضبابية الأفكار، والابتعاد عن جوهر الموضوع، وإرباك العمليات البحثية بتطويل المسافات عليها". (حب الله، التفكير النقدي)

إذا المثقف أمام مطلبين:

١.الأول: دراسة الموروث التاريخي دراسة منهجية معمقة غير عشوائية، وإعادة قراءته وفق مناهج علمية رصينة تكشف غثه من سمينه.

.٢ كتابة الحاضر وأحداثه ومجرياته بطريقة علمية منهجية، تحفظ هذا الحاضر من محاولات التزوير، حتى ينقل للأجيال اللاحقة كتاريخ دون أن يحمل عقدة الثقة والدس، التي عانى منها المثقف مع تاريخه قبل تمحيصه.

ويمكن لهتين الخطوتين أن تتما في موازاة بعضهما البعض.

ويمكنهما حل كثير من الأزمات والإشكاليات المعرفية الراهنة، التي ظهرت نتيجة التناقضات الكثيرة في الأفكار المعرفية، التي تعتبر العمدة الرئيسية في تشكيل بنية المعتقدات والثوابت المعرفية. بل إشكالية أزمة النظرية مع التطبيق في كثير من الموروثات التاريخية خاصة الدينية منها.

وأنا أميل هنا لمفهوم المثقف والنّظر الذي طرحه المفكر يحيى محمد، وهذا لا يعني تحديد القدرات والوظائف مطلقا، بل يعني أن مجمل التوصيف قائم علي مفهومين هو المثقف والفقيه، ولكل دوره ووظيفته، ولا يعني عدم تلاقي الأدوار واشتراكها في كثير من الأهداف، وأيضا لا يعني عدم وجود استثناء وهو أن يكون المثقف أيضا فقيها أو أن يكون الفقيه أيضا مثقفا، ولكن في الأوساط الدينية التخصصية خاصة في الحوزات العلمية، فإن إطلاق مثقف على طالب علم وصل لمرحلة الاجتهاد وتنوّعت معارفه بين العلوم الدينيّة والإنسانية، هو في عرفهم انتقاصا وليس كمالا مع الأسف الشّديد.

وهذا يحيلنا إلى علاقة المثقف بالفقيه كونه المتخصص بالمسألة الدينية في عصرنا وإن كان موضوع اقتصار فهم الدين على الفقيه فقط هو موضوع إشكالي جدلي، ولكن لنبني على ما هو موجود كيف هي علاقة المثقف بالفقيه؟

من الطبيعي أن يكون في أي كيان اجتماعي أدوار متنوعة، يقوم بها أفراد المجتمع تصب كلها في هدف رئيسي ألا وهو النهوض بوعي المجتمع وتقدمه، واستنطاق ابداعاته وتحقيق إنجازاته التي ترتقي بالوطن.

فكل طبقة لها تخصصها الذي يصب في الهدف الأم، إذ أن صريح القرآن يفيد أن الله رفع بعضنا فوق بعض ليتخذ بعضنا بعضا سخريا.

وهو ما يعكس أهمية كل طبقة وظيفية إن صح التعبير- في تركيبة المجتمع ككل، وعدم إنكار أي دور لأي طبقة من هذه الطبقات الوظيفية، التي يعتمد بعضها على بعض ويكمل بعضها البعض الآخر.

ولعل من أهم الوظائف الاجتماعية هي التربية والتعليم والتزكية، وهي وظيفة تتعلق بالبعد المعرفي للإنسان الذي ينعكس على سلوكه الفردي والاجتماعي، ويكون له الأثر الكبير إما في انضباطه أو تفلته.

ومن أهم الجهات التي تقوم بدور مهم كهذا هما العالم والمثقف، وعلاقة المثقف بالعالم علاقة تتعدد أدوارهما فيها، وتتوحد أهدافهما في حال كان هناك بناءا سليما لجسور التواصل، تعكس انسجاما في الأدوار والأفكار والاهداف.

فالمتعارف أن المثقف يشكل حلقة الوصل أو جسر التواصل بين العالم والناس، إذ يفترض أنه الأكثر تواجدا على أرض الواقع ، والأكثر احتكاكا بأهم إشكالياته، والأقرب لتشخيص المشكلات الاجتماعية التي يجب أن يعكسها للعالم، والذي بدوره يترجمها إلى واقع فقهي اجتماعي قانوني يفيد الناس ويرتقي بهم.

بل قد يتعدى دوره إلى إنتاج المعرفة على المستوى النظري، ومواكبتها ورفدها بالواقع الفقهي بالتعاون مع العلماء، للخلوص إلى نظريات إسلامية حضارية قادرة على محاكاة الواقع الاجتماعي وجعل الدين، دين حياة .

إلا أن واقع الحال يحاكي خلاف هذه الحقيقة غالبا، لأن العلاقة بين العالم والمثقف في راهننا هي علاقة جدلية بامتياز، يغلب عليها طابع الخلاف أكثر من غلبة طابع الاختلاف، وتمارس فيها عمليات متبادلة للقهر والاستبداد، وهو ما انعكس على جدلية الأدوار بينهما، وتحول الأدوار من أدوار تكاملية، إلى أدوار تقابلية يعترض أحدها الآخر، ويهمش أحدها الآخر ويبطل مفعوله التوعوي في ذهنية المجتمع، وهو ما يشكل خطورة كبيرة على توجيه الوعي وتشويهه.

ولنعترف أن العالم لا يمكنه أن يحيط بكل الأحداث والعلوم، فهو يحتاج إلى المتخصص المثقف أو الأكاديمي، وأن الأخيرين لا يمكن أن يتحركا في فضاءات الفكر والعلم، دون أن يتعرفا على حكم الله، وهو ما يدلل على أهمية وجود كل طرف للآخر.

ولكن لماذا هذه الجدليّة في العلاقة بين الطرفين التي انعكست بشكل غير مباشر على الدين؟

إن انعكاسات الثورة التنويرية على واقع الأمة العربية والإسلامية كان لها أبعادا إيجابية وأخرى سلبية، إلا أن رجحان كفة السلبيات على الإيجابيات يعود بعضه إلى سوء تلقي المثقف العربي والمسلم لرياح هذه الثورة، وبعضه يعود إلى ديموغاجية بعض العقليات العربية والإسلامية، وخاصة في المؤسسات الدينية، التي في الغالب تقدس التراث وترفض كل ما هو قادم من الخارج ظنا منها أنها تحافظ على الدين.

إلا أن أهم بعد إيجابي لهذه الثورة التي أفادت الغرب هي عودة عدد لا بأس به من المتنورين العرب والمسلمين ومن العلماء إلى الذات مرة أخرى، بمعنى أنها استثارت لديهم الكثير من التساؤلات الحقيقية التي أرجعتهم للغوص في بحر النصوص، واستخراج كنوزه وبناء نظريات حضارية كانت بمثابة الصفعة على وجه كثير من النظريات الغربية التي بان فسادها مع تقادم الأيام.

ومن أهم السلبيات التي انعكست على واقعنا، هي تسرب دلالات لفظ المثقف الغربية ودوره إلى عقلية المستنير في عالمنا، وانعكاس ذلك على حراكه الذي تطرف في كثير من الأحيان ضد الدين وعلماء الدين. فأصل اللفظ هو وليد سياق الأحداث التي وقعت بعد الثورة على الكنيسة، ولكن دلالاته ومعانيه والوظيفة التي يقوم بها، موجودة عبر التاريخ بمصاديق مختلفة، ولو استقرأنا التاريخ، لوجدنا ألفاظا مختلفة لكن مشتركة في الدلالة والمعنى مع لفظة المثقف. فلفظ “الملأ” ـ علي سبيل المثال ـ الذي ورد في القرآن الكريم في عدة موارد كان يطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة “الملأ” أصلا من الملء. (شيرازي، مكارم، التفسير الامثل، ص607)

وللأسف رغم أن التاريخ يذكر لنا مواقف شبيهة في عصر الرسالة وكيفية تعامل النبي في التصدي لأي غزو ثقافي عقائدي، إذ اتسمت الطريقة بالاستيعاب والتسامح الأخلاقي على المستوى العملي والمحاججة بالدليل والبرهان على المستوى النظري، إلا أن كثيرا من علماء المسلمين خاصة في راهننا كانت ردة فعلهم انفعالية وصدامية بدل أن تكون فاعلة على أسس الدليل والبرهان ومستوعبة. وظهر إلى واقعنا أسلوب جديد في المواجهة الاجتماعية بين المؤسسة الدينية والآخرين من المجددين أو المتغربين أو المصلحين الحقيقيين، وهو أسلوب فتاوى التضليل والتكفير، أو ممارسة أنواع من الإرهاب غير المباشر، من خلال الإقصاء العلمي عن مراكز البحوث، أو منع الرواتب المالية عمن يتصل بهذه المؤسسات عمليا.

فوقع المثقف العربي المسلم في فخ الخلط بين الدين والممارسة، و بعضهم أسقط التجربة الغربية على الواقع الذي كان يعيشه دون حتى أن يميز بين حقيقة الاسلام ورجالاته الأوائل، وبين ممارسات البعض باسم الدين. بل البعض مارس عملية نقد الدين وهو لا يعرف حتى أبجدياته، وواجه هذه الانحرافات لا بالعودة للذات، وإعادة البناء الداخلي من جديد وفق أسس سليمة، كما فعل البعض منهم، ٤ق٦٦ولكن في مواجهة المؤسسة الدينية واسقاطها.

ووقع بعض رجال المؤسسة الدينية فريسة الانفعال في مواجهة هؤلاء، بل بالغ البعض في المواجهة وتحولت من مواجهة أفكار ورؤى ومحاججتها إلى مواجهة أشخاص لتتحول العلاقة من علاقة تلاقح إلى علاقة تناطح، واهتزت جسور الثقة خوفا من كلا الطرفين على سلطة كل منهما الاجتماعية. كانت الضحية الحقيقية في هذا الصراع الحقيقة من جهة، ووعي الناس من جهة أخرى، إذ أن هذه الجدلية أدت إلى عدة أمور أهمها:

١. انقسام الناس بين مؤيدين للمؤسسة الدينية أو المثقفين أو معارضين لكليهما، واستخدمت في هذه المعارضة غالبا أسلحة خطيرة على المجتمع وعلى العقل، هي ليست أسلحة علمية يتم فيها بناء المحاججات بناء عقليا بالدليل والبرهان، بل هي أسلحة تسقيط اجتماعي، وتشهير، وضرب من جهة للدين من قبل كثير من المثقفين، وضرب للثقافة ودورها وللمثقف ودوره من قبل كثير من علماء الدين.

٢. استهداف الدين باسم الثقافة من قبل كثير من المثقفين، والخلط المتعمد في أذهان الناس بين الدين والممارسة، أدى مع التقادم لنفور كثير من المجتمعات والأفراد من الدين.

٣. استهداف كثير من علماء الدين للمثقفين وخاصة أولئك الذين يطرحون نقدا منهجيا علميا بناءا لهدف النهضة والتطوير، واستخدام أسلحة فتاكة اجتماعيا ضدهم منها أسلحة فتاوى التضليل، أو التشهير والتسقيط الاجتماعي، أدى إلى بروز ظاهرة التشدد، والتفرد بالرأي ورفض التعدد في الآراء على أساس الدليل، بمعنى أنه طالما أن القطع حجة، فإن المثقف الذي يستنفذ وسعه وطاقته في مسألة، ويستحضر عليها الدليل والبرهان ويقطع بحجيتها، فإنها وإن خالفت ما يراه عالم الدين، فالأصل هو محاججته بالدليل، فإن قطع بحجية ما عنده، بالتالي ليس على العالم كموقف علمي وعملي أن يوافقه طالما لديه الدليل بخلاف قطعه، ولكن أن يعذره على ما بناه من رأي وفق دليله، وجل ما يمكن للعالم فعله هو محاججته بالدليل والبرهان وتوضيح مخالفته لرأيه وفق ذلك أمام الناس، وليترك للناس الحكم، بمعنى على الناس إدراك أين الحقيقة، من خلال المحاججة المبنية على الأدلة. لا أن يلجأ لأسلوب التوهين والتسقيط والتضليل، وكذلك المثقف عليه أن يحاجج وفق نفس المبدأ، لا أن يفرض رأيه ويلجأ لتوهين رأي العالم، أو الاستهزاء به.

٤.هذه الجدلية التي قامت على التوهين بين الأطراف، انعكست جدلية بين الناس على الله، وبدل البحث عن الله والتعرف عليه، بات إنكار وجوده سمة العصر، رغم أن المطلوب من المثقف والعالم أن يوصلا الناس إلى الله، لا أن يخرجوهم من حواضن الله ورحمته. بل تكرست منهجية العنف، وبدأت تظهر في الممارسات الاجتماعية، والنقاشات الفردية والجماعية، في مختلف الفئات، تتمثل المنهجية في إقصاء الرأي المخالف ورفضه، بدل الحوار على أساس “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” سبأ / ٢٤ وهي دفع باتجاه التفكير والتمحيص لكلا الفريقين، من خلال الدعوة إلى النظر في علامات وخصائص الحقيقة ومدى تطابقهما مع أدلة كل جهة، وهي كما جاء في تفسير الأمثل: هي أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة التفكر والتفاعل.  مع العلم أن الخطاب هنا موجه للمشركين، فإن الأولى بالاحتواء والتفاهم كل من هم دونهم.

وقد خلف هذا المنهج خسارات معرفية كبيرة، وأدى لاستنزاف طاقة المجتمعات والأفراد في ما لا يعتبر من أولويات النهضة والحضارة، بل كانت معول هدم في القيم الإنسانية والحضارية، بل وهدم للدين، وبدل أن يكون المثقف والعالم جسور الوصول إلى الله بالدليل والبرهان، بات أغلبهم حوائط صد عن الله.

س5- أ. مراد غريبي: هل استطاع الفقيه المثقف أن يجيب على تساؤلات المثقف اللاديني؟

ج5- أ. إيمان شمس الدين: وفق التّجربة الميدانيّة مع عدة علماء لهم جامعيّة بين العلوم الدينية والأكاديمية خاصة في مجالات العلوم الإنسانية التي تفتقر لها المؤسسات الدينية بشكل عام، ومواكبين لإشكاليّات العصر، نعم هناك من استطاع تقديم إجابات علمية أكاديميّة معتبرة ومنطقيّة، خاصة أن منهم من يستخدم أدوات استقرائية في التحليل المنطقي للإشكاليّات، وليس فقط النص الديني في الاستدلال، والاستقراء وسيلة منطقيّة للإجابة على الإشكاليّات المطروحة من قبل اللادينيين، فهو يعتمد على الاستقراء المنطقي في منهجه، وهو المنهج الذي أسس له الشهيد السيد محمد باقر الصّدر في حوزة النّجف، هذا المنهج من أهم المناهج العلمية اليوم في الاستدلال، ويحتاج مُكنة وممارسة، بل على حد علمي أن بعض المراجع الدينية تستفيد منه في الفقه والعقائد، وإن بشكل غير مباشر. ولكن مازالت لدينا إشكاليّة حقيقية تواجه النهضويين من الفقهاء وعلماء الدين والمثقفين الدينيين، وهي إشكالية الدّعم المالي من جهة، وإشكاليّة الإعلام والانتشار من جهة أخرى، وبعضهم يعاني من إشكاليّة الخطاب، وأغلبهم يعانون من إشكاليّات التّوهين في أوساط الحوزة الدينية أو في المجتمعات المحيطة بهم. ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي يمكن التّخفيف من إشكاليّة وتحدّي الانتشار، ولكن تبقى لهذه الوسائل سلبيّاتها التي قد تهدد المشروع برُمّته.

***

حاورها: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1 – 3 – 2023م

خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

ا. مراد غريبي: إيمان شمس الدين كاتبة وباحثة، طالما أثرت المكتبة ببحوثها القيمة وإصداراتها التي كرستها لتقديم رؤية فكرية وإسلامية معاصرة، فكانت وماتزال تكتب في قضايا، الفكر المعاصر، المرأة، التجديد، السياسة. وقد تميزت بحثوها بالموضوعية، وممارسة النقد البناء.  اتقدم بالشكر والامتنان للأستاذة ايمان شمس الدين، واتمنى عليها تقديم نفسها للقارئ الكريم:

إيمان شمس الدين

⁃ كاتبة وباحثة في مجالات الفكر

⁃ (الحقوقية، السياسية، الدينية)

⁃ عضوة في منظمة Front Line Defenders

⁃ بكالوريوس ميكروبيولوجي ومساند كيمياء حيوي

⁃ ماجستير علم اجتماع سياسي وعنوان البحث " المرأة والعمل السياسي في الحضارات والأديان - التكون والصيرورة."

⁃ مهتمة في المجال الحقوقي (الديني – السياسي)، من ناحية بحثية.

المؤلفات:

- في قضايا التجديد والمعاصرة (دار القارئ - مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة).٢٠١٩

- التغيير والاصلاح مطالعة في التأسيسات والمقومات والإشكاليات (دار الانتشار العربي) ٢٠١٩.

⁃ المثقف وجدلية القهر والاستبداد (دار الانتشار العربي)٢٠٢٠.

⁃ عقلنة الثورة وتأصيل النهضة: محاولة لقراءة الواقعة من زوايا مطلبية معاصرة (دار الانتشار العربي)٢٠٢١.

⁃ الهوية والاستلاب: اغتراب الإنسان المعاصر.. دار روافد للطباعة والنشر، بيروت ٢٠٢٢.

⁃ حوار حول الدين والإنسان قيد الطّباعة.

المشروع البحثي والاهتمام الرّاهن:

دراسات مقارنة في موضوع منطق الخبر (الشّهادة – Testimony) واللغة والدلالة، بين ما توصل إليه الغرب في آخر دراساته حول الموضوع، وما طرح في علم أصول الفقه وعلم الرجّال في المذاهب الإسلامية خاصّة الإماميّة الإثني عشريّة منها.4894 ايمان شمس الدين

المحور الأول: جدلية المثقف وفلسفة الإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي

س1: أ. مراد غريبي: عندما نذكر المثقف تتعدد المقاربات وتتنوع القراءات بين الأكاديمي والأديب والمؤرخ والمنشغل بالفلسفة، أين يقع المثقف عربيا ضمن أسئلة الواقع حول الحرية والتسامح وآفاق المعرفة؟

ج1: أ. إيمان شمس الدين: بداية من ناحية منهجيّة، وحتى يتسنّى لنا تخصيص العام من خلال توضيح المفهوم وتعريفه ليسهل على القارئ الكريم فهم المجال الذي يحيط بالمفهوم وملابساته. فالمفهوم عادة له ولادة ونشأة وبيئة أدت إلى ظهوره وتطوّره وانتشاره وأحيانا تبدّل دلالاته، ومن هذه المفاهيم مفهوم المُثَقّف الذي يعتبر في راهننا مفهوما قَلِقاً وأحيانا إشكاليّاً خاصّة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أدّت إلى خلط المفاهيم أو تغيير دلالاتها، أو إفراغها من محتواها ومعناها ودلالاتها، بل ووظيفتها.

وتعتبر قضية المثقف من القضايا الهامة جدا ومن الموضوعات القلقة على المستوي المحلي والإقليمي في أغلب بلدان العالم، وتكمن أهميتها في الدور الذي يلعبه المثقف في التنمية الثقافية ورفع منسوب الوعي الفردي والاجتماعي، وبالتالي تأثيره على أنماط التفكير الإجتماعي ودوره البارز في إحداث تغييرات فيها، قادرة على كسر الأطر التي تم تنميط المجتمع والشعوب عليها، وفي ذات الوقت رافدا معرفيا وقيميا في مواجهة كل محاولات الاستلاب والاغتراب، هذا فضلا عن خطورة دوره فيما لو استغل ما يملكه من سلطة علم ومعرفة في تسخير وعي الناس لصالح السلطة أي كان شكلها، أو لتسخيرها في سبيل تحقيق مصالحه وإنجاز طموحاته تحت شعار الثقافة.

وقد طرحت هذه القضية في العالم بعد نهاية العصور الوسطى، ومنذ القرن السابع عشر تشكلت في أوروبا طائفة تسمي شريحة المثقفين، وبعد القرن التاسع عشر أخذت الطائفة تشق طريقها إلى الدول غير الأوروبية من إفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية، وذلك باسمها وخصائصها وسماتها التي تشكلت بها في أوروبا (علي شويعتي، المثقف ومسؤوليته، ص5). وقد عرفت هذه الطبقة بطبقة المنشغلين بالفكر بالمعنى الأخص، لأن الانشغال بالفكر سمة ليست خاصة في ذلك القرن بطبقة المثقفين، بل كانت الكنيسة ورجالاتها لها انشغالات فكرية ودينية وروحية، بل الانشغالات الفكرية سمة كثير من الكتاب والمعلمين وغيرهم من الذين يزاولون أعمالا فكرية، لكن المعني الأخص هنا المقصود به، الطبقة الخاصة التي تسيطر على المجتمع البشري في العالم، وهي طبقة ظهرت في القرون الوسطى في مواجهة علماء الدين الذين كانوا يسيطرون على العلوم في التّعليم والتّعَلّم، ويعتبرون المرجعية العلمية الوحيدة التي تترشّح عنها العلوم والمعارف، إذ منعت الكنيسة غير منتسبيها في تدريس الإنجيل وقراءته وفي توجيه العلوم والمعارف، وقد درس أفراد هذه الطبقة العلوم الجديدة والفلسفة الجديدة بعيدا عن المدارس الدينية ومراكز العلوم القديمة، وقاموا بذلك بالرغم من علماء المذهب الكاثوليكي وإرادتهم في مدارس وجامعات غير دينية تعادي الكنيسة، ثم بدؤوا بالدعوة لفكر جديد، وجعلوا العلم في خدمة الحياة، ثم دخل هذا العلم ـ الذي يختلف عن العلوم التي روجت للدين ـ إلى المجتمع (المصدر نفسه، ص 10 و11).

تتشكل الطبقة في علم الاجتماع عندما تظهر مجموعة ما لا بأس في كمها، تشترك في الهموم والمهام، وفي الآفاق والأهداف، وتظهر في بنية المجتمع ككل، ثم تبدأ بالانتشار وإن تدريجيا، وتنشأ الطبقة كنوع من التفاعل مع الظروف المحيطة الواقعية، والحاجات الحقيقية التي نتجت من التفاعل مع الأحداث، والمحيط الاجتماعي وحينما تشترك مجموعة بنفس الهموم والتوجهات والاشتغالات المعرفية، لذلك طبقة المثقفين في أوروبا نشأت وفق ظروف تاريخية اجتماعية خاصة فيها، جاءت نتيجة تفاعلاتها مع المحيط وظروفه، وتميزت نتيجة هذا التفاعل بخصائص فكرية، وتجارب واقعية شكلت وجدانها، ومنظومتها الفكرية.

يشير جان بول سارتر (١٩٠٥ ـ ١٩٨٠) في مقدمة كتابه “المنبوذون في الأرض” إلى أسلوب صناعة المثقف الشرقي في الغرب ومجال استخدامه قائلا: كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن النرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الإجتماعية الجديدة ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو والاستقبال والاستدبار، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجة أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة ضمن أثاث جديد، وطراز جديد من الزينة، واستهلاك أوروبي جديد وغذاء أوروبي، كنا نوحي ونلهم في أعماق قلوبهم الرغبة في تغريب بلادهم ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، لم نكن نجذ منفذا إليها، كنا بالنسبة لها رجسا ونجسا وجنا، كنا أعداء يخافون منا وكأنهم همج لم يعرفوا بشرا. لكننا بمحض أن أرسلنا المثقفين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا بمجرد أن نصيح من أمستردام أو برلين أو بلجيكا أو باريس، قائلين: الإخاء البشري، نرى أن رجع أصواتنا يرتد من آقاصي أفريقيا أو فج من الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى أو شمال أفريقيا، كنا نقول (الإخاء البشري) وكانت (... البشري) ترتد من الطرف الآخر، كنا نقول: (ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة) وكانوا يردوون (... المختلفة) تماما مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا من أفواههم، وحينما كنا نصمت، كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضا، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاسا صادقا وأمينا لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها، ثم أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المثقفين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها.” وهذه الإطلالة هي فقط للتمييز بين المثقف الأصيل والمثقف المُقَلِّد.

ومازالت هذه الألفاظ تشغل المفكرين إلى يومنا هذا، وكانت أيضا للنخب في الوطن العربي والإسلامي انشغالات في هذا الصدد، لكن في العقود الأخيرة غلب عليها طابع الانشغال الاستنساخي، أكثر منه انشغالا إنتاجيا مستقلا. خاصة فيما يتعلق بمفاهيم غنية ومهمة كمفهومي الثقافة والمثقف، فحينما نستهلك مصطلحات وتعريفات الآخر دون أن ننظر للبناء الفكري والوعاء الزمكاني (الزمان والمكان) الذي انطلقت منه هذه المفاهيم، فإننا بذلك نستنسخ ما لدى الغربيين استنساخا تجريديا لهذه المفاهيم، ونزرعها كثمرة في داخل عمقنا المفاهيمي والثقافي، أي في تربة مختلفة بيئيا وتكوينيا عنها، دون أن نحلل ما فيها من ألغام مفاهيمية، أو دون أن نعيد صياغتها وفق هويتنا الخاصة مفاهيميا، لننتج إرثنا المفاهيمي الفكري المستقل والمتناسب مع راهننا وقاعدتنا المعرفية والفكرية، مما يؤدي إلى خلط مفاهيمي وفكري يؤثر على توجه الثقافة العامة لدى النخب والجماهير، وتؤثر على هوية ووظيفة المثقف، وتغير أهدافها بل أدواتها ومنهجها، وبالتالي نقع في مستنقعات فقدان الهوية والذات.

ولعل الثقافة والمثقف من المفاهيم المحورية في الحياة الإنسانية، والتي لها تأثير كبير ومؤثر في وعي الإنسان في كل مناحي الحياة . ولأهمية هذان المفهومان وخصوصيتهما المحورية في حياة الإنسان، فلابد من الاهتمام بهما خاصة في عصرنا هذا وهو عصر العولمة على كافة المستويات، ومنها العولمة الفكرية والمفاهيمية، رغم ما تعرضت له الثقافة الغربية من انهزامات وانتكاسات بين فينة وأخرى، وما تتعرض له اليوم أيضا من مراجعات نقدية، مع أننا لا يمكننا أن ننكر ما للغرب من أسبقية في كثير من المفاهيم الإيجابية التي تتناسب وبناءنا الفكري والإنساني من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن السباق الغربي الفكري كان دافعا لكثير من مفكرينا الإسلاميين المعتدلين، ليواجهوا ويحاوروا ويسلطوا الضوء على الكثير من الأفكار الغربية، ويعيدوا بناءها من جديد على أسسنا الفكرية للمعرفة، مما أثرى السباق الفكري بينهما.

لذلك نحن لا نستطيع أن ننظر للفكر الغربي على أنه شر مطلق، ولا على أنه خير محض، بل علينا أن ننظر له بعين الناقد المتمكن الذي يقف على أرض فكرية غنية قادرة على التجريد، وإعادة الصياغة والبناء وفق أسس معرفية سليمة لا مادية محضة ولا معنوية محضة، بل تجمع بين البعدين المادي والمعنوي، فالتجربة البشرية غنية بالمعارف وهي أحد مصادرها . ومن هذا المنطلق سنكون معنيين بتسليط الضوء على مفهوم مهم في الحياة الإنسانية هما الثقافة والمثقف، لما لهما من الأثر الكبير في وعي المجتمع ورقيه وبناءه الفكري والثقافي، ونقله إلى حواضن الأجيال القادمة بصورة قادرة على حفظ الثابت الأصيل، وبناء المتغير على أسس تهتم بالوعاء الزمكاني لأي إرث ثقافي متوراث، فترسخ الثابت في أرض خصبة، وتبني المتغير على أسس عصرية متينة لتستمر مسيرة الإنسانية نحو التطور والتنمية على كافة المستويات.

والمثقف كما يشرحها الدكتور شريعتي (المصدر نفسه، ص8)، هو الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها وإفهامها للآخرين. فرسالة المثقف هي الأخذ بيد الناس والارتقاء بالمستوى الثقافي للمجتمع.

فللثقافة تعريفات كثيرة منها:

كما عرفها الأستاذ إبراهيم جواد (الثقافة)، تعريف تايلور، كوينسي رايت مالينوفسكي، غوستان فون غرونبوم (معن زيادة، تحديث اللفكر العربي، ص30). وهذه التعريفات كلها تبرز بشكل واضح أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان. هذه التعريفات عند المفكرين الغربيين و هناك تعريفات الثقافة عند العرب و المسلمين كتعريف الدكتور عبد الكريم عثمان ومالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة) الدكتور علي شريعتي. والتركيز على الأخير في موضوع المثقف يعود إلى سبب جوهري، وهو أن مصطلح المثقف من المصطلحات التي شاعت وراجت في عصر شريعتي وأولى لها اهتمامات كبيرة لتخصصه في علم الاجتماع واطلاعه في ذلك الوقت على الجدليات الغربية الشرقية في هذا الصدد.

وهناك الفيلسوف الأمريكي المعاصر، نعوم تشومسكي، المناهض لسياسة الإدارة الأمريكية الخارجية، يرى أن "المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة".

وبعد هذه الإطلالة السّريعة حول نشأة المفهوم وتعريفاته المتعدّدة بين الشرق والغرب، نجد أن المقدار المُتّفق عليه حول المثقّف أنّه المشغول بالهم الثقافي والفكري، والمهتم بقضايا وإشكاليّات محيطه الاجتماعي والأممي، في مجالات السياسة والدين والاقتصاد، والسّاعي عملانيّا إلي تغيير واقعه إلى واقع أفضل، لأنه مهموم بفهوم العدل والعدالة. بل هو كما أشار تشومسكي أنه يحمل هم الحقيقة في وجه القُوّة مهما كان مصداق هذه القوّة من سلطة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أسرية، ولكن كيف يحمل الحقيقة ومنهج وطريقة حملها في وجه القوّة هي التّكتيك الذي يجب على المثقّف المهموم بهم التغيير والوعي أم يُتقِنُه ويدرك متى وأين وكيف، حتى يستطيع أن يحقق هدفه في التغيير وصناعة وعي وازن.

وطالما تحدّثنا عن العدالة فلا بد أن نتحدّث قبلها ومن ناحية منهجيّة عن الحريّة التي اعتبرها قيمة أداتية وليست قيمة غائية، وعلاقة المثقف بها.

فالحرية هي الطريق الأداتي لتحقيق العدالة ومن ثم الكرامة، فهي قيمة أداتية طريقية لتحقيق قيمة أكبر غائية مقصدية، إلا أنها كمفهوم كلي يتفق عليه الجميع ويقر به كل بني النوع الإنساني ، فهو جزء من الوجدان الأخلاقي في الإنسان، بل حق بديهي قد تحجبه ظروف خارجية قهرية لكنه سرعان ما يكون في مقدمة القيم الدافعة لصاحبه للتحرر من تلك الظروف والقيود، والعودة مجددا لهذا الحق وممارسته بكل الوسائل ، لكن منطلقات هذا المفهوم الفلسفية تختلف من ثقافة إلى أخرى ، وتحديد مصاديقها الخارجية كذلك يعتمد على البناء الفلسفي والفكري للمفهوم، وبالتالي سلوك ممارسة هذا الحق وكيفية ممارسته وحدود هذه الحرية تختلف بناء على ذلك.

فالمبدأ القرآني في حديثه مع أهل الكتاب للاجتماع على كلمة سواء وهي عدم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا حيث قال تعالى "قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران: 64)

هو مبدأ تأسيسي لتحرير الإنسان من كل قيود خارج قيود الله، وفي رفع سقف الحريات البشرية وتحريرها من كل قيد مادي يحكم السيطرة على العقل والفكر، ومن ثم يعرقل مسيرة الإبداع والتطور، بما يعطي للإنسان الحق في رفض الاستبداد ورفع سقف حريته بما يتناسب وإنسانيته وكرامته وآدميته، وهو يمد جسور التعاون وجمع العقول على مبدأ تحريرها من الرضوخ والعبودية لغير إرادة الخالق التقنينية والتشريعية، وفق أسس منهجية يكتشفها العقل الإنساني من خلال النصوص التي وصلت إلينا.

فأنت حر حرية مسؤولة وفق أسس الشرع ومعايير العقلاء، إذا أنت إنسان تفكر وتبدع وتنهض بالأرض. لذلك تعتبر الثقافة من المعارف المهمة في تحديد معالم هويتنا والحفاظ عليها.

وحينما يؤمن المثقف بمبدأ الحرية كقيمة أداتية مفتاحية لتحقيق العدالة، فهو يؤمن بها كمبدأ ثابت وليس نسبي على مستوى النظرية، وحتى في كثير من الأحيان على مستوى الفعل. فالحرية الأداة المفتاحية التي يحتاجها الإنسان ليحقق فاعلية إرادته واختياره، فلو فقدت حرية الإنسان لن يكون بمقدوره أن يختار ما يريد، ولذلك كان من أهم القيم التي يجب أن يدافع عنها المثقف ويقاتل لأجلها هي الحرية.

إذ أن تحقيق العدالة بكافة مصاديقها تتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم لهذا المصطلح، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتّحرّر، وأهم ما تحققه العدالة هو رفع الحجب التي فرضتها المسلكيات البشرية نتيجة الفهم البشري المتراكم للنص الديني والحياة ومسارها المعرفي، والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، مما أدى إلى حجب الحقيقة وتشويه المفاهيم وتغييب منظومة القيم، مما انعكس بالتالي على السلوك فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة، ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فحجبت الحقيقة وعلى ضوئها حجبت المعارف، وألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية.

إن تحقيق العدالة وفق واقع الأمر يعني رفع كل تلك الحجب عن العقل البشري، واستجلاء المفاهيم وفق دلالاتها واستعمالاتها وبناءاتها الصحيحة، ليتجلى الأمر بحقيقته بعد ذلك في النفس، فترى الحقيقة وتستقيم الذات وفق أسس العدالة السليمة، وتنعكس عدالة الذات على تحقيق العدالة في الخارج فترتفع الحجب عن كثير من المعارف والعلوم، وتنتظم الحياة تحت عنوان القيم وجوهرها ألا وهي العدالة.

إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته وفق الرؤية الإلهية ومصادر المعرفة في الأرض ليقيم المشروع الإلهي فيها.

فوفق مقولة العدالة تتحقق الحريات بما يحقق العدالة، وتكون المساواة وفق ما يحقق العدالة، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق والواجبات وفق مطلب تحقيق العدالة، وإذا تحققت هذه القيم في طول مطلب العدالة، تحققت بذلك كل مقومات الكرامة الإنسانية، وتأهلت النفس لأداء وظيفتها.

فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية.

فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة، بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.

ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟

عقل الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه إلا بتعليم من الوحي أو من بذل الجهد في ولوج أبواب مصادر المعرفة الأخرى التي هي في طول الوحي كمصدر معرفي، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها.

إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل، والبحث عنه، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال وآليات تحقيقه ومصاديقه، فكلما ابتعد الانسان عن السماء ـ إن صح التعبيرـ كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك.

فرغم السعي التاريخي الحثيث للإنسان نحو تحقيق العدالة في الأرض، إلا أننا ما زلنا إلى الآن لم نقم جوهرة القيم) العدالة) ولم نحققها، ولعل أبرز الأسباب في هذا القصور هو الجدل الانساني الذي ينعكس في الواقع الخارجي إلى جدليات متشابكة الأهواء والمصالح ومتناقضة القيم والغايات، وهذا الجدل أدى إلى تشويه مفهوم الكمال بعد الانحراف عن المبدأ والغاية والهدف، وبالتالي انحراف آليات تحققه. لذلك كان التشديد على معرفة " من أين وفي أين وإلى أين"، وهي معرفة ترسم خارطة طريق كاملة للإنسان في هذه الدنيا ليحقق هدف الكمال وآليات الوصول اليه.

إن القيم غاية يتطلب تحقيقها وقيامها قيام جوهرها أي العدالة وهذه الجوهرة تتطلب أن تحقق في ذات الإنسان كي تصبح لها قيامة في الأرض" أقم العدل في نفسك يقوم العدل في أرضك"، فالله لا يغير ما في القوم إلا إذا تغير ما في أنفسهم.

فالعدالة هدف السماء لأهل الأرض، لأن بها تستقيم أمور الإنسان ويهتدي إلى الطريق الذي من خلاله تتحقق كرامته، لتقوم إنسانيته ويؤدي بها وظيفته. ولذلك كان من أهم ما يجب على المثقف تحقيقه أولا هو عدالته النفسية التي تخلق لديه حالة الإنصاف من النفس وللعدو أيضا، ومن ثم تجعل تحقق العدالة الخارجية بالنسبة له هدفا هاما، وأدوات تحقيقه يجب ألا تحيد أيضا عن العدل، فيصبح كل مشروعه بأهدافه وأدواته معروضا على قيمة العدل، كمرجعية معيارية له، وفي ذات الوقت يبذل كل جهده لتحقيق الحريات المنضبطة كونها بوابة أداتية للعدل، ولأنها بوابة فلا بد أن تكون تلك الحريات لا يتم تحقيقها بالظلم، ولا تمارس ظلما تحت شعار الحرية. ووضوح الصورة بهذه الطريقة في ذهنية المثقف، يملكه القدرة على تشخيص الحرية التي تحقق العدالة، من تلك التي تكرس الظلم. فالمثقف يرتكز في حراكه وفي جوهر هذا الحراك على الحرية والعدالة، اللتان تحققان كرامة الإنسان، وهي غاية وجوده.

وأين يقع المثقّف في راهننا العربي في قيم كالتسامح والحرية وآفاق المعرفة؟

* هو هذا الهم الذّي يُؤرّق كل مشتغل بحقل الثقافة والفكر، لأن هنا فرق بين ما هو ظاهر على السّاحة باسم المثقفين والنّخب، وبين ما هو واقعي وحقيقي لكن مخفي عن نظر عامّة النّاس، لأن طبيعة الناس تميل للحس وبالتالي لما يظهر لهذا الحس من صور خارجيّة يُخَيّل لعامة النّاس أنها ترسم لها واقع حقيقي يصنع وعيها.

***

حاورها: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1 – 3 – 2023م

3176 عدنان عويد ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الثاني: الدين والإنسان والحياة:

س13: أ. مراد غريبي: بحكم تخصصكم الأكاديمي لديكم اشتغال بقضايا علم الاجتماع، وهو علم واسع يشمل العديد من الحقول المعرفية، من بينها حقل الدين، فماذا عن مفهوم الدين سوسيولوجيا وموقعه ضمن التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافية التي شهدتها المجتمعات العربية المعاصرة؟

ج13: د. عدنان عويد: لا شك عندنا، بأن البعد السوسيولوجيّ (الاجتماعيّ) للدين يتحدد بالواقع المعيش، على اعتبار أن الدين شكل من أشكال الوعي. فهو يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بالواقع. والواقع هو الذي يحدد طبيعة نصوصه المقدسة، أي هو الذي فرض ويفرض على النص المقدس أن يتعامل مع هذا الواقع بأبعاده الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والقيمّة، وما يترتب على هذه الأبعاد من مهام ووظائف عبر الممارسة من جهة، والواقع ذاته هو من يفرض أيضاً على من يشتغل بهذا الخطاب الدينيّ أن يعمل على تفسير وتأويل نصوصه المقدسة بما يتفق ومصالح الفرد والمجتمع وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيشة من جهة ثانية. والواقع أخيراً في حركته وتطوره وتبدله هو من فرض الناسخ والمنسوخ على هذا النص المقدس، وبالتالي التأكيد على أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال من جهة ثالثة.

فهذا الشيخ الإمام "محمد عبده" يتعامل مع الفكر عموماً ومنه الفكر الدينيّ خصوصاً، بكل جرأة وعقلانيّة وفقاً لهذه الرؤية السوسيولوجيّة بقوله: (نعم إن الإنسان إنسان بكل فكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً، وكل فكر له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأفكار والأعمال ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد) . (الأعمال الكاملة – محمد عبده- ج3- ص 286 وما بعد).

إذن إن للدين موقفاً وظيفيّا تفرضه كما قلنا أعلاه طبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة بالنسبة لحالات التطور والتقدم التي تصيب المجتمع والدولة تاريخيّاً أولاً، وبالنسبة لقوة حضور هذا الدين ودرجة فاعليته في حياة هذه الدولة والمجتمع بشكل عام ثانياً. ولكن يظل في المحصلة للدين دور وظيفيّ في شقيّه الإيجابيّ والسلبيّ في حياة الشعوب ودولها أدتها حوامله الاجتماعيّة في الماضي (مشايخ ورجال دين)، ولم تزل تؤديها في تاريخنا المعاصر.

فالدين من الناحية الايجابيّة: يقوم بربط الفرد بالمجموعة، ويقدم له العون المعنويّ عند الضياع والخيبة والاحتجاج، أو عند القناعة والرضى والرضوخ، كما يقدم له العون الماديّ أحياناً من قبل أصحاب هذا الدين أو ذاك أو تفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة.

إن من وظائف الدين الايجابيّة ضبط وتعديل جملة التوازنات الممكنة بين الفرد وذاته، وبين الفرد والمجموع، كما أن آليات الضبط هذه تشتغل على وظيفة الفرد الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أي وظيفته كإنسان في نهاية المطاف. ومن وظائفه الايجابيّة أيضاً، يشكل الدين في مفاهيم عدالته وموقفه من الظلم والاستعباد والاستغلال أحد الوسائل الأساس التي يتكئ عليها المحتجون أو المعارضون من الفقراء والمحرومين والمهمشين والمقصيين من الأنظمة السياسيّة المستبدة القائمة.

أما بالنسبة للمواقف السلبيّة التي يحققها الدين وخاصة في مواقف حوامله الاجتماعيين الاحتجاجيّة: فهي أن الدين يُعَمَمُ هنا على مجمل مستويات قوى الاحتجاج، أي يغيب البعد الطبقي عند القوى المحتجة إلى حد بعيد، طالما أن العدو واحد في مرحلة تاريخيّة محددة. ولكون الدين في رؤيته لمفاهيم العدالة بكل مستوياتها أو تفريعاتها تقوم على رؤى ثابته (معياريّة) غير قابلة عند الكثير من مشايخ الدين للنقد أو المراجعة أو التعديل، لذلك نجد الدين يَحُولُ دون تطور ونضوج قوى الاحتجاج وإيصالها إلى قوى تغييريّة شاملة قادرة على تحقيق ثورة حقيقيّة قد تكون أساسيّة وضروريّة في مرحلة تاريخيّة محددة من تاريخ الدول والمجتمعات التي تعيش حالات من القهر والظلم والاستبداد. فمكانة الدين كـ (أفيون للشعوب)، لا تستثمر الدين عقلانيّا وبما يتفق وروح العصر. ومن ناحية أخرى يظل لوظيفة الدين سلبياتها على حياة المجتمعات ودولها انطلاقاً من الوظيفة الانتمائيّة للدين، هذه الوظيفة التي تتناقض مع تكوين الهويات الأخرى غير الدينيّة التي تقتضيها الوضعيات المعاصرة للأمم والشعوب، كالانتماءات الكبيرة مثل الانتماء للوطن أو للقوميّة، أو الانتماءات الصغرى مثل الحزب أو النقابة أو المنظمة... الخ.

إن الدين في وضعيته الانتمائيّة القائمة على العقيدة، يصبح هنا عامل تقسيم وتشرذم خصوصاً داخل المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، حيث تؤدي هذه الانتماءات الدينيّة الضيقة إلى صراعات دينيّة وأهليّة تهدد وحدة المجتمع ككيان حضاريّ وثقافيّ وسياسيّ.

تظل أخيراً هناك وظيفة سلبيّة للدين على درجة عالية من الأهميّة وهي، تحول الدين إلى أيديولوجيا بيد السلطات الحاكمة التي لا تعبر عن مصالح شعوبها، ففي تاريخناً الماضي والحاضر اتكأت السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة على الدين ووظفته تفسيراً وتأويلاً بما يحافظ على وجودها وبالتالي مصالحها. بل إن الدين ظل يحكم طبيعة السلطة ذاتها من حيث الانتماء الصلبيّ إلى البيت القرشي، أي الانتساب للرسول بالنسبة للدين الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر. وهذا التوجه القبليّ/العرقيّ ظل قائما في عالنا الإسلاميّ حتى سقوط الخلافة العباسيّة. والملفت للنظر أن من ينتمي لآل البيت من مشايخ الدين له حظوة اجتماعيّة كبيرة لدى المجتمعات الإسلاميّة إن كان من السنة أو من الشيعة.. كما أن من الآليات المهمة التي يعمل الدين عليها في توجهاته السلبيّة، هو التواطؤ الذي يقوم بين الطبقات الحاكمة والكثير من علماء الدين نتيجة مصالح مشتركة بينهما، وذلك عن طريق بعض المؤسسات الدينيّة وعلمائها، هؤلاء العلماء الذين كانوا بغالبيتهم وفي مختلف عصور الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، خاضعين سياسيّاً واقتصاديّا للقوى الحاكمة. وهم من يقوم بعملية تفسير وتأويل النص الديني وإصدار الفتاوى لمصلحة هذه القوى السياسيّة الحاكمة أو تلك. أما الخطر في هذا التحالف المشبوه بين رجال الدين والسلطة، فيتجسد في تشجيع الفكر السلفيّ الغيبيّ الامتثاليّ وخاصة الأشعريّ والصوفيّ منه على وجه التحديد كونهما يعملان على محاربة العقل والإرادة الإنسانيّة من جهة، ومحاربة الفكر التنويريّ التقدميّ وحوامله الاجتماعيين، ونعتهم وأفكارهم بأنها أفكار زندقة وكفر من جهة ثانية.

س14: أ. مراد غريبي: مقاربة الظاهرة الدينية في المجال العربي تثير اسئلة جوهرية ذات علاقة بمباحث من قبيل: ماهية الإنسان، العلمانية، الاجتماع المدني، القيم الإنسانية، الدولة، التطرف، التسامح، الاختلاف وما هنالك من قضايا كان لكم السبق في تناولها، هل التدين عربيا لايزال بعيدا عن وعي هذه المباحث وكيف الإصلاح بنظركم دكتور عدنان؟

ج14: د. عدنان عويد: منذ أن أصدر الخليفة العباسيّ المتوكل عام (232) للهجرة، أوامره لرجال الدين بترك العقل والتوجه نحو النقل، مع فرض العقوبات الصارمة من قبل محاكم التفتيش التي شكلت لمن يخالف هذه الأوامر، لم يعد هناك مجال تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة في المشرق العربيّ لأي نشاط فكريّ عقلانيّ خارج فهم النص الدينيّ المقدس للقوى السلفيّة التي فسرت وأولت هذا النص وفقاً لرؤيتها، وبما يخدم مصالحها ومصالح أسيادها من القوى الحاكمة. فعلى أساس هذا الموقف الفكري الجموديّ توقف الاجتهاد العقلانيّ من جهة، وتوقف الاشتغال فكريّاً على العلوم الأخرى (الوضعيّة) التي تناولها فلاسفة ما قبل مرسوم الخليفة المتوكل، واقتصر العمل بشكل عام على علوم الدين من حديث وفقه وعلم كلام وتصوف وعبادات وغير ذلك. واعتبر أي خروج فكريّ عن هذه العلوم بدعة وضلالة، إن كان من حيث الاشتغال على الفكر الوضعيّ، أو الخروج فكريّاً عن رؤية علماء الدين السلفيين في تفسير وتأويل النص الدينيّ المقدس، أو ما أصل له الشافعي في الفقه وأصوله. هذا مع تأكيدنا هنا بأن هناك اتجاهات فكرّية عقلانيّة راحت تتعامل مع النص الدينيّ وفهم الواقع إن كان في المغرب العربيّ، أو في الأندلس كابن حزم وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، كون هؤلاء كانوا خارج توجهات سلطة القوى السلفيّة وداعميها بالمشرق العربيّ، بالرغم من أن بعض هؤلاء المفكرين الفلاسفة لم يسلموا من الحسبة على ما طرحوه من أفكار عقلانيّة كان للبعد السياسيّ دور فيها، كما جرى لابن رشد وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر.

إذن نستطيع القول: من تاريخ المتوكل حتى سقوط الدولة العثمانيّة كان هناك حصار قد فرض على التفكير العقلانيّ بشقيه الدينيّ والوضعيّ. ولا نستغرب أن علماء الأزهر وغيرهم في مصر قد اختلفوا في تاريخنا الحديث على النظر في مسألة السماح باستخدام (حنفيّة الماء) في الحياة العامة، فمنهم من رفضها باسم الدين ومنهم من قبلها باسم الدين أيضاً، كدعاة الفقه الحنفيّ، ومن هنا جاء اسم (الحنفيّة) نسبة إلى المذهب الحنفيّ. ولا نستغرب أيضاً أن مشايخ الدين السلفيّ قد أفتوا بعدم صحة التعلم بالمداس الحكوميّة زمن محمد علي باشا عندما أسس الطهطاوي هذه المداس بأمر حكوميّ، الأمر الذي كان يدفع أولياء الطلاب بتوجه من مشايخ السلفيّة المتزمتة والجاهلة إلى ممارسات لا إنسانيّة بحق أعضاء أولادهم الجسديّة حتى لا يلتحقوا بهذه المدارس اللادينية. كقطع اليد أو الرجل أو فقع العين... الخ

على العموم مع بداية القرن التاسع عشر راحت تظهر توجهات عقلانيّة نحو العلم الحديث وخاصة في مصر محمد علىّ باشا، وفي تونس خير الدين التونسيّ، دون أن ننكر تلك الارهاصات الأوليّة لهذا التحديث في المشرق العربيّ، كتجربتي فخر الدين المعنيّ في سورية، وطاهر باشا في العراق، إلا أن كلا التجربتين قد أجهضتا، وبقي لتجربتي محمد على باشا وخير الدين التونسي تأثيرها على تاريخنا الحديث والمعاصر. وراحت نتائجهما تظهر بوضوح مع الطهطاوي وتلامذته من جهة، ثم مع مدرسة جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده من جهة ثانية. فهذه المدرسة التنويريّة الإسلاميّة راحت تتعامل مع مفردات أفكار الثورة الفرنسيّة، كالديمقراطيّة والحريّة والعلمانيّة وماهية الإنسان، والاجتماع المدنيّ، والمرأة، والقيم الإنسانيّة، والدولة، والتطرف، والتسامح وغير ذلك من مفردات وضعيّة، محاولين أسلمتها من خلال البحث عن نصوص دينيّة أو مواقف ذهنيّة لهذا الخليفة أو ذاك أو لهذا الفقيه أو ذاك تتوافق مع مضمونها. فالديمقراطيّة وجدوا مرادفة لها الشورى. والعدل والمساوة وجدوا له أحاديث وأيات وموقف ذهنيّة كموقف عمر بن الخطاب من قضية ابن عمر بن العاص.. والعلمانيّة وجدوا لها حديث للرسول وهو تأبير النخل.. وللمرأة وحريتها كان موقف عمر ابن الخطاب من المرأة التي حاججته وأخذ برأيها.. وهكذا دارت أمور التحديث. وبالرغم من أن هذا التوجه التنويريّ راح يتسع فيما بعد مع بناء الدولة الحديثة وتوسع التعليم المدنيّ في كل مراحله، ودخول الاختصاص الفلسفيّ في الجامعات. إلا أن شهوة السلطة في الأنظمة العربيّة التي تحولت إلى أنظمة شموليّة حاصرت أصحاب التوجهات الفكريّة التنويريّة وفسحت في المجال واسعاَ للتيار السلفيّ كي يمارس دوره في الوقوف بوجه التيار العلمانيّ التنويريّ، والتصدي لرجالاته ومحاصرتهم وتكفيرهم والتشهير بهم كونهم مارقين عن الدين، ولم يتوانوا أحيانا في التعدي على بعضهم أو تصفيته جسديّا.

أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالكم حول الحل أو الاصلاح في عالمنا العربي للخروج من مأزقه، فالإجابة على مثل هذا السؤال الإشكاليّ ليست وصفة طبية لمعالجة مرض فيزيائيّ يصفها طبيب لمرض شائع، وإنما المرض الذي نعاني منه هو مرض اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ. فإذا كان المرض الاجتماعيّ يتجسد في البنية الاجتماعيّة المفوتة حضارياً، أي التي لم تزل مسكونة بمرجعيات تقليديّة سيطرت عليها روح وعلاقات القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب، والكثير من القيم الأخلاقيّة التقليديّة المحكومة أيضاً بالعرف والتقليد والعادة، و هي قيم معياريّة تعود إلى مئات السنين أشبعت بقيم الدين التي لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، مع تأكيدنا على انتشار الجهل والفقر والتخلف. فإن المرض الاقتصاديّ محكوم بدوره بقوى وعلاقات إنتاجية متخلفة وهجينة أو متعددة الأنماط يسيطر عليها اقتصاد السوق البسيط او الصغير على مستوى الداخل، والاقتصاد الريعيّ والاستهلاكيّ على مستوى التعامل مع الخارج، وإن وجد هناك اسواق صناعيّة في بعض الدول العربيّة، فهي أسواق صناعيّة تجمعيّة أو ذات اللمسات الأخيرة، ومعظم مكونات هذه الصناعة مستوردة من الخارج. وهذا الواقع الاقتصاديّ المزري سينتج عنه بالضرورة اقتصاد متخلف غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي من جهة، ثم خلق أسواق قادرة على المنافسة مع الخارج من جهة ثانية، وأخيراً غير قادر على إنتاج طبقة صناعيّة وطنيّة قادرة على وعي نفسها ودورها التاريخيّ وبالتالي التخلص من سماتها وخصائها الكومبرادوريّة، وتحقيق إمكانيات قيادتها للدولة والمجتمع من جهة ثانية. أما على المستوى السياسيّ فغياب المجتمع المدنيّ واقتصاد السوق المستقلة، سيؤديان بالضرورة إلى غياب البنية السياسيّة العقلانيّة بحواملها الاجتماعيين المؤمنين بتداول السلطة والمشاركة السياسيّة ودولة القانون والمواطنة.. الخ. وبناءً على ذلك ظلت البنية السياسيّة مرتبطة بحوامل اجتماعيّة تقليديّة يسيطر عليها شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة، تحت أسماء متعددة ولكن جوهرها واحد، كالأمير والملك والزعيم والقائد الملهم وغير ذلك، والملفت للنظر أن عدوى هذا المكونات السياسيّة التقليديّة انتقلت إلى الأحزاب التي تدعي التقدميّة والعلمانيّة وراح قادتها يعملون على التوريث مما زاد في الطين بلة بالنسبة لأزمة الخطاب السياسيّ في هذه الدول التي راحت تسير في خطابها السياسيّ كـسيران (بول البعير)، أي الرجوع إلى الوراء. الأمر الذي كان وراء ما سيمّي بثورات الربيع العربيّ التي كشفت عورات هذه الأنظمة وبينت مساوئها ومساوئ القوى المعارضة لها على السواء. أما بالنسبة للمسألة أو البنية الثقافيّة فقد أشرنا إلى تخلفها وهجانتها وسكونيتها ووثوقيتها وشفويتها واستسلام حواملها الاجتماعيين لما هي عليه، كما بينا دور القوى السياسيّة المتخلفة التي تدفع باتجاه تكريس هذا الثقافة المفوّتة حضاريّاً خدمة لمصالحها يساعدها في ذلك مشايخ السلطان ومؤسساته الدينيّة والعديد من المثقفين والاعلاميين من المطلبين  والمزمرين الذي يعملون ليل نهار على تكريس التخلف وتغييب الفكر العقلانيّ التنويريّ، ومحاربة حوامله الاجتماعيين، إما عن طريق سجنهم كأصحاب رأي أو دفعهم للهجرة خارج الوطن، أو تحريض مشايخ السلطان عليهم للتشهير بهم، تحت ذريعة الكفر والالحاد من جهة، أو الفسح في المجال للقوى الأصوليّة الجهاديّة على قتلهم والتنكيل بهم من جهة ثانية.

س15: أ. مراد غريبي: الإنسان العربي يرنو لمجتمع حداثي بكل عناوينه المدنية والمواطنة والعدالة وما هنالك، لكن يا ترى هل التحليل السوسيو ثقافي للظاهرة العربيّة المعاصرة يوحي بأفق حضاري منسجم مع ما هو حداثي وتقليدي بالنظر لمركزيّة الدينيّ والسياسيّ في الوعي الجمعيّ العربيّ؟

ج15: د. عدنان عويد: الناس على دين ملوكها أو حكامها كما يقال، فإذا كان الحاكم تنويريّاً يهمه مصلحة شعبه، فهو يسعى جاهداً لتكريس قيم الحداثة، من علمانيّة وديمقراطيّة وحريّة للرأي، وتكريس لفكرة المواطنة، ودولة المؤسسات، واحترام المرأة ودورها ومكانتها في المجتمع، ونشر التربية والتعليم، والثقافة التنويرية العقلانيّة والعمل على تطوير البنيّة الاقتصاديّة والسياسيّة في دولته ومجتمعه. والعكس صحيح أيضاً، فعندما يكون الحاكم مستبداً وتملكه شهوة السلطة، فهو يسعى جاهدا إلى نشر الجهل والتخلف بكل أشكالهما بين صفوف شعبه، كما يمارس التسلط على رقاب أبناء هذا الشعب، من خلال تحكمه بالسلطة والتفرد بها، ومحاربة الرأي والرأي الآخر، وتغييب فكرة المواطنة على حساب تسييد سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة، مثلما يعمل على نشر الفكر الدينيّ الغيبيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الوثوقيّ ورجالاته. فلو أخذنا مثالاً واحدا من أجل تأكيد هذه الفكرة في عالمنا العربيّ، مع تأكيدنا على نسبيّة القيم التي يتبناها هذا الزعيم أو ذاك ومدى قدرته على تطبيقها في الواقع. ففي مصر على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن ما أسس له "جمال عبد الناصر" في فترة حكمه من قيم ذات توجه علمانيّ حداثي طال الكثير من بنية الدولة والمجتمع، يختلف كثيراً عما اشتغل عليه أنور السادات بعد استلامه دفة الحكم، حيث تصدى للقوى التنويريّة، وفسح في المجال واسعا لنشاط القوى الإسلاميّة الأصوليّة السلفيّة التي لم ترضيها سياسات السادات نفسه، فراحت تطالبه بأسلمة الدولة نهائيّاً.

إذن، تأتي مقولة عثمان بن عفان ("إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".). صادقة تماماً في تطبيق قيم الدين وشريعته، أو تطبيق قيم الدولة العلمانيّة الحداثيّة ومؤسساتها أيضاً.

عموماً إن الحداثة بكل مفرداتها تفرض نفسها شيئاً فشيئاً حتى على الأنظمة الأكثر قهراً وحصاراً لشعوبها، والحداثة في سيرانها أو جريانها برأيي تشبه جريان الماء تحت أساسات البناء، ربما لا تظهر نتائجها بشكل مباشر لسنوات طويلة، ولكنها تظهر فجأة وبمساحة واسعة في حياة الشعوب عندما تصل في درجة تحولاتها إلى حالة التحولات النوعيّة. والانفجار هنا هو تلك التحولات النوعيّة العميقة في حياة الشعوب، التي قد تأتيّ لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة. فهذه المملكة العربية السعوديّة تقدم لنا مثالاً حيّاً عن تلك التحولات التي فرضتها الطبيعة السياسيّة في بنية الدولة مع مجيء وليّ العهد "محمد بن سلمان بن سعود"، الذي استطاع بقرارات سياسيّة شخصيّة لها طابع سلطويّ أن تُظهر كل المستور من قيم الحداثة لدى الشعب السعوديّ فجأة بعد أن كان هذا الشعب مكبوتاً في حريته وإرادته ورغباته والتعبير عن شخصيته، فها هو اليوم يمارس الحداثة وخاصة الاجتماعيّة منها بحريّة بغض النظر عن مدى توافقها مع قيم الحداثة في جوهرها, وهذا دليل على أن الشعوب كما جاء في سؤالك هي تعشق الحداثة والتغيير، وهي قادرة على ممارستها عندما تسنح لها الفرصة. ولكن الأنظمة الشموليّة المستبدة هي برأيي من يعرقل تطبيقها وتقدمها في حياة الكثير من مجتمعات دولنا العربيّة، التي تحاصر الحداثة أمام فسح المجال واسعاً للقوى الأصوليّة وفكرها الظلاميّ كي ينشطا بحريّة.

س16: أ. مراد غريبي: ننتقل لمسألة الخطاب الديني خاصة التقليدي، ماذا عن نشأته وتجذره في البناء المجتمعي العربي وكيف يمكن تجاوز المأزق الذي يشكله كتيار مهدد لكل صور المجتمع المدني ودولة الإنسان ومجتمع المعرفة والحقيقة البديهية كما يعبر تشومسكي؟

ج16: د. عدنان عويد: نقول هنا إذا كان الشافعي (أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ 150-204هـ / 767-820م) هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، قد أسس في القرن الثاني للهجرة أصول الفقه السلفيّ، في كتابه الرسالة، حيث حدد مصادر التشريع بالقرآن والحديث والاجماع والقياس، وبناءً على هذا التأصيل، حوصر العقل والمنطق وحرية الإرادة الإنسانيّة لدى الفقيه ذاته فيما بعد أمام فتح باب الاجتهاد، من جهة، ثم الوقوف وبحزم بوجه كل من حاول أن يستخدم عقله في قراءة النص الدينيّ المقدس من خارج هذه المدرسة السلفيّة من جهة ثانية، وبالتالي اعتبرت أعمال فقهاء هذه المدرسة فيما بعد نصوصاً مقدسة أيضا، الأمر الذي ساهم في تجذير مدرسة النقل المعروفة في تراثنا الإسلاميّ، حتى أصبحت تفاسير أتباعها وخاصة الحنابلة منهم نصوصاً مقدسة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها. وأصبح عندهم كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

نعم إذا كان "الشافعي" قد أصل فقهيا، لما جئنا عليه هنا مع بن حنبل، فإن "الخليفة المتوكل" قد أصل سياسيا لهذه المدرسة عندما وصل إلى الخلافة عام 232 للهجرة، وأصدر فرمانه السيئ الصيت القاضي بمنع استخدام العقل نهائيا والعودة إلى النقل بعد أن أخذ العقل المعتزليّ مجده في زمن المأمون والمعتصم والواثق. ومنذ ذلك التاريخ وصولا إلى زمن أبي موسى الأشعري الذي أصل بدوره لهذه المدرسة فلسفيّاً من خلال علم الكلام الذي اشتغل عليه، وجعل من العقل ذاته وسيلة لتثبيت النقل والتأكيد عليه، مما أعطى الفكر السلفيّ السنيّ دوره ومكانته في الحياة السياسيّة والفقهيّة (التشريعية)، حتى عصرنا الحديث، هذا إذا ما أشرنا أيضاً إلى المدرسة الفقهيّة الشيعيّة وخاصة الجعفريّة منها التي انطلقت منذ جعفر الصادق، وراح يتواجد لها فقهاؤها الأصوليون. فكان من أبرز سمات هذه الأصوليّة الشيعيّة الجعفريّة هو اعتمادها على المراجع التقليديّة في المسائل الفقهيّة، وهي مصادر التشريع عند الأصوليين السنة، عدا القياس: الذي استبدلوه بالعقل، ولكن أغلب اعتمادهم في التشريع جاء علی القرآن والروايات والأحاديث الواردة في الكتب الأربعة، وقلّما يثبت عندهم حكم بالدليل العقلي، أو الإجماع. ومن أبرز الفقهاء الشيعة في العصر الوسيط يأتي:

1- الشيخ المفيد (413هـ-1022م). ففي رسالته (الأصوليّة) قام بإعادة تأسيس المعارف الإماميّة، وتأصيل أصول التفريع الفقهي، وذلك بعد أقل من قرن كامل على الغيبة الكبرى. ويعدّ كتابه أوّل كتاب مسقل يتناول علم أصول الفقه عند الإماميّة.

2- ثم يأتي السيد المرتضى (440هـ-1048م) الذي حدد وفصل في كتابه «الذريعة إلى أصول الشريعة» المباحث الأصوليّة التي عرّفها الشيخ مفيد، وذلك للتشويش الذي ظهر في عصره. وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الاصوليّة.

3- ثم قام الشيخ الطوسي (460هـ-1068م) بتطوير المدرسة الاجتهاديّة وبدأ بممارسة الكتابة، فكتب كتاب «عدّة الاصول» وميّز فيه البحوث الأصوليّة عن الفقهية. حيث جعل مصادر الاستنباط وأدلّة الفقه أربعة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل.

4- وفي القرن العاشر دخل الاجتهاد عند مدرسة الاصوليّة الشيعيّة مرحلة جديدة على يد المحقق الأردبيلي (993هـ-1585م)، حيث يظهر الاتجاه العقليّ بصورة واضحة في مجال الفقه الاجتهاديّ، ويتم تأكيد عمليّة تربيع مصادر الأحكام في المدرسة الأصولية. (1) الويكيبيديا.

إذن ما نريد التأكيد عليه هنا هو، إن الفكر الأصوليّ الفقهي بتياراته انعكس بالضرورة على علم الكلام والفلسفة ماضياً وحاضراً، وظل هو الفكر الأكثر حضوراً وقوة وتأثيرا على الحياة الفكريّة العامة والخاصة، لا سيما وأن كلا التيارين السنيّ والشيعيّ وجدا من يدعمهما وبقوة من قبل الحكومات القائمة وخاصة السنيّة منها التي وجدت في الفكر الأصوليّ الأشعريّ سنداً وعوناً لها في تغطية وتبرير ظلمها ومفاسدها، على اعتبار أن أصحاب هذا التيار يبررون للحاكم فساده وظلمه للرعيّة، وإن كان لدى بعضهم احتجاجاً على هذا الظلم فهم يبررون ذلك بقولهم إن مجيئ هذا الحاكم الفاسد الظالم، هو انتقام من الله للرعيّة الذين حادوا عن اتباع الدين الحنيف وفقاً لرويتهم هم له. وبالنسبة لتيار الشيعة فقد لعبت إيران دوراً كبيراً في دعم هذا التيار بعد قيام الثورة الخمينيّة، والعمل على نشر الفكر الجعفريّ في المحيط العربيّ والإسلاميّ.

أما كيفيّة تجاوز هذا الفكر المتغول في عقول ونفوس المسلمين من جهة، ووجود من يدعمه سياسيّاً من جهة ثانية.

نقول: إذا كانت إجابتنا على الشق الثاني من السؤال الثاني المتعلق في كيفيّة الإصلاح وبناء المجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة، أو بناء الحداثة وترسيخها بشكل عام في واقعنا العربيّ المترديّ، فإن إجابتنا هنا ستقتصر بالضرورة على إشكاليّة الفكر المتخلف السائد في الساحة الفكريّة لوطننا العربيّ، ويأتي في مقدمته الفكر الأصوليّ التكفيريّ الامتثاليّ الاستسلاميّ اللاعقلانيّ.

إن من يتابع الواقع الثقافيّ السائد في الساحة الثقافيّة العربيّة بشكل عام، ويتعرف على أبرز سماتها وخصائصها، سيجد أن هذه الثقافة السائدة هي الثقافة الشفويّة.

فالثقافة الشفويّة في سياقها العام، هي مجموعة الآراء والأفكار والمبادئ والرؤى والقصص والحكايا والأمثال الشعبيّة، دينيّة كانت أم وضعيّة. التي يتداولها الناس في أي مجتمع من المجتمعات بشكل يوميّ، وبكل ما تتضمنه هذه الثقافة من مواقف سلبية أو إيجابية تجاه علاقة الإنسان بنفسه أو بالمجتمع والطبيعة معاً. يضاف إلى ذلك أنها ثقافة أُنتج معظمها في الزمن الماضي، وأصبحت متوارثة، ولم تزل تُجتر ويتداولها الناس فيما بينهم للتعبير عن قضياهم الحياتيّة اليوميّة المباشرة في الفكر والممارسة، على اعتبارها أصبحت تشكل قيماً (معياريّة) ناجزة اختزلت التجربة الإنسانيّة وراحت تضبط وتوجه في عصر إنتاجها حياة الفرد والمجتمع، مثلما هي قادرة عند حملتها الاجتماعيين اليوم على تحقيق هذا الضبط والتوجيه حاضراً ولاحقاً، كونها جزءاً من الفردوس المفقود اولاً، وأن معطيات الواقع المتخلف تساعد كثيراً على إعادة إنتاجها ثانياً.

إذن بتعبير آخر نقول: إن الثقافة الشفويّة الأصوليّة اللاعقلانيّة في معظم حمولتها الفكريّة، تظل في جذورها وأصولها وامتداداتها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة حتى زمننا المعيش، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

إن أي متابع لجذور هذه الثقافة، سيجدها تمتد في عمق تاريخنا، وأن فروعها وأغصانها ظلت تمتد عبر السنين اللاحقة، وخاصة بعد ظهور الدعوة الإسلاميّة التي شكلت عقيدتها وقيمها الأخلاقيّة المعياريّة المساحة الأكبر في وعيّ المواطن العربيّ بشكل خاص والإسلاميّ بشكل عام. حيث استطاعت هذه الثقافة الشفويّة ممثلة هنا في قسمها الأكبر بالوعيّ الدينيّ (الفقهيّ) أن تعرش على وعيّ أبناء هذه الأمّة حتى اليوم. علماً أن الدعوة الإسلاميّة جاء في صلب ما جاءت من أجله، هو إنهاء هذه الثقافة الشفويّة وتحويلها (من ثقافة الفم إلى ثقافة القلم) مع أول آية نزلت على الرسول وهي: (اقرأ)، من جهة أولى، ووضع حدً لتمسك الناس بأفعال آبائهم بِعُجْرِهَا وبُجْرِهَا من جهة ثانية. إلا أن قوة الماضي ممثلة بما كان يفكر ويفعل آباؤنا ظلت مسيطرة وفاعلة تحت شريعة (هكذا وجدنا آباءنا يفعلون). مع تأكيدنا هنا على الدور الذي مارسته السلطات الحاكمة في تاريخ الدولة العربيّة السياسيّ في تسييد هذا النمط من الثقافة الماضويّة التقديسيّة، بهدف تجهيل الناس والحجر على عقولهم، حيث وجدت القوى الحاكمة المستبدة في سياسة التجهيل، سر بقائها واستمراريتها في السلطة. الأمر الذي دفع هذه السلطة عبر تاريخها الطويل إلى محاربة الثقافات الإبداعيّة التي وجدت فيها خطراً يهدد مصالحها، إن كان أثناء قيام الدعوة الإسلاميّة من قبل كبار كفار مكة، أو من قبل الكثير من الخلفاء ومشايخ السلطان عبر تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة التي تتخذ من الدين مرجعيّة دستوريّة وتشريعيّة لها حتى تاريخ دولنا المعاصرة.

نقول: من خلال عرضنا أعلاه، نستطيع تحديد أهم سمات وخصائص هذه الثقافة:

1- هي ثقافة ماضويّة، أنتج معظمها في الزمن الماضي، وغالباً ما يطغى عليها الطابع الدينيّ (الفقهيّ) في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، كون الدين كان ولم يزل هو المصدر الأهم للمعرفة، وحتى الثقافات الوضعيّة التي أنتجت في ذلك الوقت وخاصة الفلسفيّة منها إضافة إلى علوم الطب والكيمياء والتنجيم وغيرها، ظلت محكومة بالدين أيضاً، على اعتباره هو من يحلل ويحرم التعامل مع هذه الظاهرة العلميّة أو الاجتماعيّة أو تلك.

2 - هي ثقافة جماهيريّة، أو بتعبير آخر، هي ثقافة ظل يعاد إنتاجها واستهلاكها من قبل الجماهير الواسعة، فغالباً ما تجد الناس في كافة مفردات حياتهم اليوميّة يستشهدون بمقولاتها وقصصها وحكاياها وأمثالها الشعبيّة ونصها المقدس، خدمة لمصالحهم اليوميّة المباشرة، أو لإعطاء الفكرة التي يقولون بها أو العمل الذي يمارسونه المصداقيّة والشرعيّة، في المنزل والسوق والجامع والدائرة وغير ذلك من أماكن تواجدهم.

3-هي ثقافة تعتمد كثيراً على إيراد نص قرآني أو حديث أو رأي صحابيّ أو فقيه، إضافة إلى إيراد قصص وحكاية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، كونها الأكثر قدرة على غرس المعلومة المراد توصيلها للمستمع، لذلك لا نستغرب أن نجد أحد مشايخ الدين يقول: إن القصص والحكاية جنود مجندة سخرها الله لنا كي نعلم بها الناس الدين والفضيلة.

4- هي ثقافة تركز كثيراً عند حملتها ودعاتها على القيم الأخلاقيّة، وخاصة قيم السلف الصالح، الذين أسسوا بناء الدولة الإسلاميّة وحضارتها. وبالتالي هذه القيم تشكل عند دعاتها الفردوس المفقود بعد أن راحت تتخلى عنها الأجيال اللاحقة، أو تجاوزها الزمن. وإذا أرادت هذه الأمّة أن تعود لمجدها وعزتها، فهي لن تعود إلا إذا عادت إلى القيم الأخلاقيّة تلك، (ولن يُصلح حال هذه الأمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها.).

5- حازت هذه الثقافة على صفة التقديس، كون معظم مكوناتها مرتبط بالدين، وأكثر من أسس لها هم رجال الدين الذين ضبطوا علم الجرح والتعديل الذي وضعوه لتحديد الغث والسمين في هذه الثقافة، وبالتالي فكل خروج عن سمين هذه الثقافة هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

6- هي ثقافة تقوم على التراسل (العنعنة)، كون أصلها شفهيّ، وخاصة ما يتعلق منها في الحديث النبويّ وأقوال الصحابة والتابعين.

7-هي ثقافة تحاصر الإبداع والمبدعين، الذين يريدون التجديد في علوم الدين والدنيا، وبالتالي يعتبر هؤلاء المجددون بنظر دعاة هذه الثقافة منحرفين إذا ما حاولوا طرح أفكار لا تتفق مع ما هو ثابت ووثوقيّ في هذه الثقافة، إن كان لدى المذاهب أو الفرق الدينيّة، أو لدى الأحزاب ذات الأيديولوجيات الوضعيّة.

8- هي ثقافة تعالج تناقضات المجتمع وصراعاته الطبقيّة القائمة على الاستغلال، من منظور أخلاقيّ، يقوم على مناجاة الضمير والوجدان لدى هذا الفرد أو الجماعة، عندما يمارس أو يمارسون عملاً صالحاً، والعكس صحيح. فهم يطالبون الأفراد والمجتمع بضرورة التمسك بأخلاق التضحيّة ونكران الذات والإثار والمحبة والتسامح، كما مارسها السلف الصالح الذين حققوا بها العدالة والمساواة بين الناس كما يدعون، وغالباً ما يتخذون من بعض الرموز الدينيّة قدوة للحاكم والرعيّة أيضاً في نشر العدل بين الناس، دون أن يضعوا في حساباتهم خصوصيات كل مرحلة تاريخيّة من حيث ظروفها الموضوعيّة والذاتيّة ومكوناتها الاجتماعيّة وحدودها الجغرافيّة، ودرجة تطور المجتمع فيها أو تخلفه.

9- هي ثقافة تدعو إلى التسليم والامتثال لكل ما أنتج من معارف أقرها السلف في القرون الهجريّة الثلاث الأولى، أو ما حدده فقه (الحاكم) في الأنظمة السياسيّة الحديثة، وخاصة في الدولة الشمولّيّة، وبالتالي هي تعمل على محاربة الحريّة الفرديّة والإرادة الإنسانيّة والرأي الآخر.

10- هي ثقافة ذات توجهات أيديولوجيّة مغلقة، تعتبر الحقيقة قد أعطيت مرة واحدة وإلى الأبد، وعلينا أن نعمل دائماً على إعادة إنتاجها، وليّ عنق الواقع كي ينسجم معها. أي هي ثقافة ضد النسبيّة والحركة والتطور والتبدل.

على عموماً ما نريد قوله في هذا الاتجاه بالنسبة للثقافة الشفويّة: إنها ثقافة فرضت عبر تلك السنين الطويلة من سيادتها، العقل الإيمانيّ والتسليميّ على المواطن العربيّ، بحيث لم يزل النص المقدس وأقوال الأئمة والفقهاء وكبار مشايخ السلفيّة والقادة السياسيين، يشكل المرجع المعرفيّ والسلوكيّ للفرد والمجتمع مع غياب فاضح للضبط المنهجيّ وللرأي الآخر. أي هي من يشكل الحكم أو المعيار على أقوال الناس وسلوكياتهم وبالتالي استغلاله والاحتماء به دوماً. هذا إضافة لاستغلال وتوظيف ثقافة الخوارق والخرافة والأسطورة، وتطبيق الخاص على العام، أو الجزء على الكل في التعاطي مع أحداث التاريخ والواقع، وكذلك الانخراط بالموروث والمحافظة على الشكليات فيه، كالدعوة إلى التمسك بالرحمة والتسامح، وعند الضرورة لا بد من التمسك بالجهاد أيضاً انطلاقا من التكليف بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما ساهم في خلق حالات من الفوضى والتناقض في هذه الثقافة الشفويّة وبخاصة الجانب الفقهيّ فيها على سبيل المثال لا الحصر، كون هذا الجانب يتعامل مع مسائل الوجوب والإباحة والمحرم، والعقل والنقل وطريقة الحصول على المعرفة.

من خلال عرضنا هذا لطبيعة الثقافة السائدة في عقولنا وتجذرها، لا بد لنا من ثورة ثقافيّة حقيقة لكشف أبعاد هذه الثقافة ومكوناتها وآليّة عملها والقوى التي تشتغل عليها وتساعد على استمراريتها وتعميقها وإعادة إنتاجها في عقول الموطنين بغية تحقيق أهداف يوجد وراءها قوى اجتماعيّة لها مصالحها الأنانيّة الضيقة. بيد أن هذه الثورة الثقافيّة التي نقول فيها، هي ليست ثورة مجرة من مكوناتها الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسيّة، بل هي ثورة مركّبة من كل هذه المكونات.

س17: أ. مراد غريبي: لديكم مقاربات للإنسان بلحاظ التاريخ والتربية والثقافة والمواطنة، هل الأوهام التي ناقشتموها شكلت سياجاً دوغمائياً في صياغة الإنسان العربي المتخلف باسم الحاكمية؟

ج17: د. عدنان عويد: إن ما جئنا عليه قبل قليل بالنسبة لواقعنا المأزوم بثقافة شفويّة وبنى اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة متخلّفة، يشير وبكل وضح هنا إلى أن هذه التخلف البنيويّ محكوم ليس بحاكميّة أصوليّة دينيّة فحسب، بل هو محكوم بحاكميّة أنظمة وضعيّة شموليّة أيضاً، يضاف إليها حاكميّة التخلف المعيش بكل مفرداته، إن كان على مستوى العرف والعادة والتقليد، أم حاكميّة الكثير من القوانين الوضعيّة المطبقة على واقعنا الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ .

أقول: إن معظم ما قمت بطرحه من قضايا فكريّة وفلسفيّة وأدبيّة تتعلق بالحداثة ومفرداتها، إن كان على مستوى الوطن والمواطنة والانتماء والقوميّة والديمقراطيّة والعقلانيّة والعلمانيّة والاستبداد والدولة الشموليّة والليبراليّة وقيمها وما بعد الحداثة وطبيعة المجتمع الاستهلاكيّ ورأسماليّة الدولة الاحتكاريّة والثقافة والمثقف والمثقف العضويّ وغير ذلك ن قضايا تتعلق بتخلفنا ونهضتنا. فكلها تشير في الحقيقة إلى قضيّة أساسيّة هي: إن هناك واقعاً عربيّاً متخلفاً ومأزوما حضارياً، وقد تقدمت عليه الكثير من دول العالم وحتى المتخلفة منها، ونحن للأسف لم نزل كـ (بول البعير) نرجع إلى الوراء، وبطريقة يندى لها الجبين، فواقعنا أكثر ما يقال عنه، أنه يعيش تحت مظلة أنظمة استبدادية فاشيّة، ذات توجهات مرجعيّة طائفيّة أو قبليّة أو عشائريّة مأزومة، جوعت بعض هذه الأنظمة شعوبها وافقرتها، ودفعت الملايين منها إلى الهجرة وترك الأوطان، ليبقى فيها السفلة والمجرمون وتجار الوطن والدم والفقراء المعدمين الذين ليس لهم قدرة على ترك الوطن أو الدفاع عنه.

من هنا تأتي أهمية العمل على تغيير طبيعة الأنظمة السياسيّة القائمة، وبالتالي اصبحنا هنا بحاجة ملحة لثورة سياسيّة بعيدة عن العنف والعنف المضاد، فثورات الربيع العربيّ اثبت فشلها الذريع بسبب غياب الوعيّ الثوريّ لدى حملتها الاجتماعيين، وخاصة عندما استخدمت العنف ضد هذه الأنظمة المشبّعة بمعرفة كل أشكال العنف الناعم منه والقاسي، فمثل هذه الأنظمة بحاجة لحراك اجتماعيّ واعي لطبيعة النشاط السلميّ وبأن الحل يكمن في هذا النشاط، كي لا يترك مجالاً لقادة هذه الأنظمة أن يجعلوا من حراك المعارضة قوى إرهابيّة. إن رفع شعارات الديمقراطيّة والعلمانيّة والحداثة بوجه هذه الأنظمة سيجعلها ترضخ بالضرورة كونها مطالب حق، ولن تستطيع هذه الأنظمة اتهام دعاتها بالإرهاب أو الخروج عن القانون.3176 عدنان عويد ومراد غريبي

س18: أ. مراد غريبي: في مقاربتكم لفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة أين الفخ وأي أمن ثقافي من شأنه توليد حداثة عربية منسجمة مع سلطة الدين في حياتنا؟

ج18: د. عدنان عويد: دعنا نعيد تعريف الحداثة وما بعدها هنا قبل الإجابة عن هذا السؤال الهام في مضمونة ودلالاته.

إذا كانت الحداثة في سياقها العام، هي كل جديد في حياة الإنسان أغرزته بالضروة طبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة أثناء تطورها وتبدلها، إن كان هذا التطور والتبدل قد جاء بفعل داخليّ أو خارجيّ، وبالتالي سيجد هذا الجديد مجالاً حيويّاًّ له، وتقبّلا عند أبناء هذا المجتمع أو ذاك بسلبه وإيجابه. فإن ما بعد الحداثة هي نمط حياة تمثله الدول والمجتمعات الغربيّة بشكل عام وأمريكا بشكل خاص. فبعد انتهاء الحربين العالميتين وما تركته من دمار ماديّ وقيميّ على حياة الفرد والمجتمع الأوربيين، راحت تتجذر بشكل أكثر فاعليّة مسألة الضياع الإنسانيّ بعد أن ساد النظام العالميّ الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة - وما تمثله من قيم السوق (الربح) على كافة مستويات الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، حيث راح الإنسان ذاته يُسلع في هذا النظام، ومع تسليعه وتشيئه واستلابه وتغريبه روحيّا وجسديّا، أدخلوه بالضرورة في عالم اللامعقول، فالحياة تحت مظلة هذا النظام التي أخذ يعبر عنها فلاسفة ما بعد الحداثة، لم يعد لها معنى أو حيويّة، حيث تبين أن كل قيم الحداثة الداعيّة إلى الحريّة والعدالة والمساواة والمواطنة ودولة القانون وغيرها قد تلاشت ولم تعد صالحة أو أثبتت فشلها، وبذلك تحولت الحياة كلها إلى عبث، وراحوا يؤكدون على موت القيم والدين والفن والأدب والكتل الاجتماعيّة، ليسود عالم من التذرير الاجتماعيّ، وليظل الفرد وحده سيد هذا الوجود، فكانت الوجوديّة بشقيها الماديّ والمثاليّ، وسادت العدميّة والعبثيّة دون أي ضابط أخلاقيّ. ومع سيادة هذه القيم راح يتذرر الإنسان ويتنمذج وفق ما يريده أصحاب الرأسمال المتوحش الذين يديرون سياسات العالم، بحيث لم يعد لهذا الفرد المنمذج (أي لون أو رائحة أو طعم، إلا لون ورائحة وطعم ما يريده إعلام وسياسة وثقافة وفن وأدب كباتنة الرأسمال المتوحش المتحكمين بالنظام العالميّ.

على العموم نستطيع القول: إن الحداثة قد انطلقت برأيي من أساسين اثنين هما: أساس طبيعيّ فرضته طبيعة حياة الإنسان الذي يبحث دائما عن حريته وتأمين حاجاته الماديّة والروحيّة، وهذا ما جعله يسعى في مناكبها كي يكتشف أسرارها ويسخر ما يستطيع تسخيره في هذا الحياة بشقيها الطبيعيّ والاجتماعيّ لمصلحته، وقد استطاع فعلاً أن ينجز الكثير في هذا المجال على المستويين الماديّ والفكريّ. فمن اختراعه للفأس الحجريّة وصولاً إلى اختراعاته بمستوياتها العليا في مجال التكنولوجيا، ومن اكتشافه للحرف وصولاً إلى مستويات عليا أيضا في التفكير واستخدامه في مجالات الفلسفة والفن وادلأب وكل مجالات العلم. هذه هي الحداثة والتجديد - على اعتبار أن كلاهما وجهان لقضيّة واحدة في نسقها الأول.

أما الحداثة في نسقها الثاني: فهي الحداثة التي شكلت نظام حياة، وقد تجسد عبرها جملة من التحولات الماديّة والفكريّة بقيادة طبقة جديدة هي الطبقة التجاريّة في بدايتها، التي شكلت بدورها مع بداية القرن الخامس عشر الحركة الأنسيّة في الحداثة في مدن إيطاليا التجارية (فلورنسا والبندقيّة)، ثم ظهرت الطبقة الرأسماليّة الصناعيّة التي تحولت تاريخيّاً من طبقة تقدميّة كانت وراء عصر التنوير في القرن الثامن عشر، إلى طبقة استغلاليّة مارست وتمارس القهر على شعوبها وشعوب العالم الضعيفة والمتخلفة ومنها وطننا العربيّ منذ ظهور المرحلة الإمبرياليّة وصولاً إلى المرحلة الرأسماليّة الاحتكاريّة ونظامها العالميّ الجديد.

نقول: إذا كانت الحداثة هكذا هي في سياقها التاريخيّ، فالسؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: أين نحن من الحداثة وما بعدها؟.

لا أحد ينكر أن العرب عبر امتدادهم التاريخي قد أوجدوا حضارات كبيرة لها عمقها التاريخيّ وتجلياتها الماديّة والروحيّة في بلاد الشام وبين النهرين وإفريقيا ومصر. ولكن هناك قطع تاريخيّ كبير قد حدث في مسيرة هذه الحضارات، حيث تحولت معالمها اليوم إلى مناطق سياحيّة يجوبها عشاق السياحة في العالم، أما الذي ساهم في تحقيق هذا القطع، فهي الحروب التي كانت تدور بين دولها قبل التاريخ من جهة، ثم سيطرة الرومان واليونان والفرس عليها وطبعها بميسمها من جهة ثانيّة، وأخيراً وهذا هو المؤسف حقاً، هو ظهور الإسلام بعظمته وسيطرة قوى اجتماعيّة ذات عقليّة بدويّة على مقاليد أموره وبالتالي إدخاله في عالم القبيلة والغنيمة أولاً، ثم ممارسة الاستبداد على الشعوب التي خضعت له روحيّاً وجسديّاً في المناطق التي انتشر فيها من قبل طبقة سياسيّة ذات عقليّة بدويّة فقدت منذ البداية قدرتها على فهم هذا الدين العظيم ومقاصده ثانياً، كما فقدت بالتالي سيطرتها على أمور قيادة الدولة والمجتمع والخضوع لقوى غريبة هم من أدخلوها السلطة، وراحوا فيما بعد بسبب صراعاتهم على هذه السلطة أن يتحكموا بهم وإيصال حلفائهم من الخلفاء إلى ببغاوات ينفذون ما يأمرهم به البويهيّ والبرمكيّ والسلجوقيّ وغيرهم.

إذن نحن قي عالمنا العربيّ فقدما زمام مقومات الحداثة في نسقها الطبيعيّ الذي أشرنا إليّه أعلاه، وإن بقي لدينا بعض من مقومتها فقد هُجرت بالقوة إلى سمرقند واستانبول وغيرها من عواصم الدول الغازيّة التي حكمتنا مئات السنين باسم الإسلام. الأمر الذي جعل الباحث الجبرتي يذكر في كتابه (تاريخ الجبرتي) عن مفردات بعض الحضارة الغربيّة التي دخلت مصر مع حملة بونابرت:( ولهم فيها أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا). أو كما يقول الطهطاوي بعد عودته من فرنسا: ( بأن هناك خمسة عشر علما تقوم عليها الحضارة في الغرب نحن نفتقد إليها في مصر، وسماها بالعلوم البرانيّة، أذكر منها: علوم التربيّة التي يدخل فيها الحساب والهندسة والجغرافية والرسم، وعلم تدبير العلوم كالحقوق الطبيعيّة والحقوق البشريّة والحقوق الوضعيّة، وعلم الاقتصاد كالمصارف وتدبير المعاملات والمحاسبات وحفظ بيت المال، وهناك العلوم العسكرية والبحريّة، وعلم السفارات، وفن المياه، وعلم الميكانيك وهندسة العمارة، وفن الرمي بالمدفع، وفن سبك المعادن، وعلم الكيمياء وصناعة الورق، وعلم الغلافة، وعلم الطبيعيات، وعلم الطباعة وفن الترجمة). هذا في مصر ذات الحضارة الفرعونيّة، فماذا عن حضارات المشرق العربيّ كالآراميّة والفينيقيّة والبابليّة والسومرية والأكديّة.؟. فهذا الكاتب النهضويّ "أحمد فتحي زغلول" يوصف حالة المشرق العربيّ المزريّة عام 1899 فيقول: (نحن ضعفاء في كل شيء تقوم به حياة الأمم، متأخرون في كل شيء عليه مدار السعادة .. ضعفاء في الزراعة.. ضعفاء في الصناعة.. وليس منا إلا الفعلة والعتالون ومنفذوا إرادة الأجنبي ليبقى هو ونموت نحن، هذه المعامل الفسيحة والمصانع العظيمة التي أقيمت بين بيوتنا كلها للأجنبيّ. ثم يتابع قوله: نحن ضعفاء في التجارة والعلم، اللهم إلا علم مداره جهل حقائق الأشياء في الوجود، أما المفيد منه فقد اقتصرنا منه على ما يختص بعلاقة الأنسان مع ربه، والباقي حكمنا عليه بالإعدام.).

هذا ويجب أن نشير هنا إلى دور التقسيم الدوليّ للعمل وتأثيره على دول المتروبول ومنها وطننا العربيّ. حيث كان لهذا التقسيم آثاراً سلبية انعكست على حياتنا حيث وصفها أحد الأوربيين المقيمين في لبنان في نهاية القرن التاسع عشر بقوله: (إن مخازن هذه المدينة مليئة بالسلع من مصانع أوربا وأمريكا، ويكاد السائح يجد في كل شارع من شوارعها سلعاً وبضائع من جزر الهند الغربية... أقمشة قطنية من انكلترا... وأجواخ من مانشستر... أقمشة اسكوتلىنديّة.. حرائر فرنسيّة.. ومناديل سويسريّة.. والذين يعرفون كيف كانت بيروت من سنة 1835 – إلى 1855. فهي أشبه بالفرق بين منتصف الليل ومنتصف النهار.). وهذا الوضع الاقتصاديّ تحت مظلة التقسيم الدوليّ للعمل دفع المفكر النهضويّ "نسيب شبلي" يكتب عام 1886عن الوضع الاقتصاديّ في البلاد العربية ومنافسة الاقتصاد الغربيّ له قائلاً: (يكاد المال أن يفرغ من يد أبناء البلاد، وما ذلك إلا لقاء سلع الأجانب علينا، ولا نرى ندحة من اقتنائها. ثم يتساءل: أين محصولاتنا؟. أين صناعاتنا؟. أين المواشي؟. أين المعامل؟. أين المصانع؟. أين الزراعة؟. أين كل أساليب التمدن؟. هذه كلها أسئلة يخجل المتكلم عن الجواب عليها.).

أمام هذا التردي العربيّ حضاريا مقارنة بالحضارة الغربيّة الغازيّة، تأتي دعوة المهندس الفرنسي "جومار" الذي وقف أمام البعثة الدراسيّة المصريّة التي أوفدها "محمد على باشا" إلى فرنسا خطيباً أثناء تخرجهم قائلاً: (أمامكم مناهل العرفان فاغترفوا منها بكلتا يديكم، اقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوربا على أجزاء الدنيا. وبذلك تردون لبلدكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون في الأزمان الماضيّة، فمصر التي تنوبون عنها ستسترد بكم خواصها الأصيلة).

نعم إن دعوة "جومار" هذه، كانت دعوة لتبني الحداثة الغربيّة كنظام حياة وقد تبناها الكثير من الكتاب والمفكرين العرب من الطهطاوي مروراً بشبلي شميل وفرح انطون وأديب اسحق ومحمد عبده وسلامة موسى وطه حسين وكل المفكرين التنويريين اللاحقين من الجابري والعروي والتيزيني وجلال صادق العظم ومحمود أمين العالم وزكي نجيب محمود وحسن حنقي وغيرهم الكثير، ممن حمل لواء الحداثة على المستوى الفكريّ والعمليّ، بيد أن طبيعة الأنظمة الاستبداديّة التي تسيطر على حياة البلاد والعباد حالت دون تحقيق النهضة الحداثيّة، وحاصرت الفكر التنويريّ العقلانيّ، لتفسح في المجال واسعاً أمام الفكر الظلاميّ الأصوليّ الذي يعمل على تجهيل الشعب وإبعاده عن التفكير العقلانيّ بواقعه المعيش، وربط تفكره بالله واليوم الاخرة وعذاب القبر وناكر ونكير والجنة والنار وحور العين وأنهار الخمر والعسل وأرائك الاستبرق.

إذا كان هذا هو واقع الحداثة في علمنا العربي فما هو واقع ما بعد الحداثة.

إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة منها، والفنيّة والأدبيّة بشكل عام على الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة، محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار، بأساليب ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس الفكريّة وامناهجها ، وخاصة الما بعد حداثويّة، أملا في تجاوز أزمة الواقع العربيّ المتردي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهميّة الكبرى لمضمون النص المقتبس من الغرب، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فلسفياً، بعد عزله عن محيطه، وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، على اعتبار أن هذا النص له عالمه الخاص به، وحركته وسياقاته التي تتم من داخله فقط، ولا تأثير عليه من المحيط الذي ينوجد فيه، أو ما يساهم في إنتاجه بالأصل.

إن هذا التوجه المنهجي التفكيكيّ أو البنيويّ، جاء برأي، عند هؤلاء المتبنين لمناهج ما بعد الحداثة، إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكل من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع  المعيش عقلانيّا، وبالتالي إظهار أسباب أزمته وتخلفه، أو جاء نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم، وسيادة نزعة التقليد والتجريب، دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المناهج في أوربا.

نقول: إن معظم محاولة التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها مهما كانت طبيعتها، ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً، والسير بهما نحو التحرر والتقدم وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي تتطلب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّا ومترهلاً ومتخلفاً منها، والفسح في المجال لبناء بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر، إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخيّ مهما كانت نيات حواملها الاجتماعيين،

أي هي حداثة دائرة في فراغ، ومفضيّة إلى فراغ، وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثيّ مغترب، لا يلامس الحالة الوطنيّة، ولا يقارب الواقع الموضوعيّ الملموس، أو المعيش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو بدونه، تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربيّ والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريس وضعيّة اجتماعيّة معينة تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب.

إذن، من هنا علينا أن نبين عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها... ما بين الحداثة كتوجه عقلانيّ نقدي تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها، وهي فعل إيجابيّ يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال، وبين الما بعد حداثة، كتوجه حداثيّ سلبيّ يقفز فوق الواقع وخصوصياته، بغية تحقيق مصالح معينة تقوم على دوافع ذاتيّة إرادويّة بعلم حاملها الاجتماعيّ لخطورة هذا التوجه أو بدون علمه. لذلك أن الموقف المنهجيّ العقلانيّ النقديّ والأخلاقيّ معاً، يتطلب منا أن نكشف الأبعاد الحقيّقة لهذا النمط من الخلط المنهجيّ بين الحداثة وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفن والفكر عموماً، إذا لم يعبر عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع، أو ما قيمة أدب وفن وفكر يبحت عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات، أو عالم البنى الثقافيّة التقليديّة، أو تحت مظلة التخيل والتأمل السلبيّ، ملغيّاً الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمن غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا، ووضع الحلول لها، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيىء والاستلاب والضياع والغربة.

إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيش، هو ليس أكثر من البحث عن حداثة أو ما بعد حداثة الاغتراب الماديّ والقيميّ معاً، وبالتالى هذا ما يجعلنا نعيش فقط في سحر الكلمات وتراكيبها، وصورها الفنيّة وألوانها، وعالم أوهام شعر وأدب خالٍ من أي مضامين إنسانيّة سوى مضامين الدهشة التي تنتهي بانتهاء قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلياتها. أي عالم الفن من أجل لفن وليس من أجل المجتمع.

س19: أ. مراد غريبي: الحياة العربية على ضوء دور الدين فيها تثير موضوعا جدليا في قبال الديمقراطية، أقصد الشورى، ماذا عن المواطنة في ظل مقتضيات أو شروط الشورى؟

ج19: د. عدنان عويد: دعنا بداية نتعرف على الديمقراطيّة والشورى.

الديمقراطيّة:

هي المشاركة الشعبيّة في قيادة الدولة والمجتمع، واحترام الرأي والرأي الاخر، وهي الاقرار بالمساوة بين الجنسين، وهي التعدديّة وتداول السلطة، وهي في المحصلة إلغاء كل حالات التمايز السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من أجل سيادة المواطنة. والديمقراطيّة من جهة أخرى ليست شكلاً فحسب تتجسد في صناديق الاقتراع.. الديمقراطية جوهر.. وجوهرها تنمية الإنسان والعودة به إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه تاريخيّاً بفعل ضياعه في منتجاته داخل علاقاته الاجتماعيّة الاستغلاليّة من جهة، وبفعل القوى التي مارست عليه الاستبداد والاستغلال والتجهيل والضياع من جهة ثانية.. فالديمقراطيّة إذن هي مشروع إنسانيّ هدفه الإنسان، ووسائل تطبيقه في المحصلة هو الإنسان نفسه، ونقصد بالإنسان هنا، من يبحث عن إنسانيته الضائعة والمستلبة والمشيئة والمغتربة عبر الديمقراطيّة. هذا وللديمقراطيّة أساليب إدارتها ولها قيمها أيضاً.. فأساليب عملها هي المؤسسات التي تديرها إدارات محليّة ومجالس نيابيّة ودساتير، ومؤسسات إداريّة، وتمثيل شعبيّ، وصناديق اقتراع ...الخ. أما قيمها فهي السمات والخصائص الأخلاقيّة والقيميّة التي يتمتع بها مجتمع من المجتمعات أو أمّة من الأمم وبالتالي على المشروع الديمقراطيّ أن يراعي هذه الخصوصيات القيميّة عند كل مجتمع من المجتمعات، ولا نقوم بنقل تجارب ديمقراطيّة لأمّة ما إلى أمّة أخرى، ولكن علينا أن نستفيد من تجارب تلك الشعوب او الأمم إذا كانت تتوافق وواقعنا المعيش وقيمنا.

من هنا نقول: إن الديمقراطّيّة صيغ وليست صيغة واحدة صالحة لكل زمان ومكان.

أما الشورى:

فهي مشروع لتداول الرأي في قضايا تهم الفرد والمجتمع، أمر بها النص القرآنيّ بآيتين هما (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (- آل عمران159). (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38- آل عمران).

وهي في المصطلح، الوجه الآخر للديمقراطيّة، إلا أنها ظلت محكومة في فهم وتفسير القرون الوسطى لها، وبالتالي لم تحدد لها آليّة عمل أو وسائل تطبيق كما هو الحال في الديمقراطيّة، مع تأكيدنا بأن هناك رؤى إسلاميّة راحت تعمل على إعادة قراءة الشورى بفهم معاصر من حيث ألّيّة عملها ودور ومكانة الإنسان في تقرير مصيره عبرها كما هو الحال في الفهم الإخواني المعاصر لها، او فهم الثورة الإسلاميّة لها. ولكن ظلت آلية عمل الشورى محكومة بالنص المقدس وتشريعاته، وبالتالي هذا ما يحد من فتح آليّة عملها من قبل الإنسان كسيد نفسه ومن حقه أن يحقق مصيره وحياته وسبل عيشه وفقاً لرغباته لا وفقاً لما يريده النص المقدس.

أما بالنسبة لقضية المواطنة، فالديمقراطيّة تركز على مسألة الوطن والمواطنة، واعتبارهما هما المنطلق لتحقيق العدالة والمساوة والأمن والاستقرار ودولة القانون والمؤسسات الخاصة بشعب محدد أو أمّة محددة.

أما بالنسبة لموقع المواطنة في الخطاب الإسلاميّ بشكل عام والشورى من ضمن آليّة عمل هذا الخطاب، فهي تتجاوز بنية الوطن وبالتالي المواطنة، ففي الشورى هناك مسلم وليس سوريّاً أو مصريّاً أو عراقياً أو عربيّاً... الخ. لذلك هي تعتبر غير المسلم في الدولة الواحدة ذميّاً له حقوقه وعليه واجباته التي تختلف إلى حد كبير عن حقوق وواجبات المسلم، هذا من جهة. في الوقت الذي تعتبر فيه أرض الإسلام هي أرض كل مسلم ولا تمتلك هذه الأرض حق التخصيص لهذا الشعب أو ذاك أو لهذه الأمّة أو تلك غير الأمة الإسلاميّة، وعلى هذا الأساس فهناك داران في الخطاب الإسلامي، دار كفر ودار إيمان. من هذا المنطلق يفقد الوطن جذوره الجغرافيّة والسياسيّة، مثلما تفقد المواطنة سماتها وخصائص الوطنيّة أو القوميّة. وهذا ما اشتغل عليه الإخوان والقوى السلفيّة الجهاديّة ومشروع الثورة الخمينيّة في إيران ومن يواليها في العالمين العربيّ والإسلاميّ.

س20: أ. مراد غريبي: كيف تقرأون تمثلات الإسلام السياسي عربيا في الخمسين سنة الأخيرة وماذا عن حركة التاريخ في ذلك كله؟

ج20: د. عدنان عويد: إن من يتابع الحراك الفكريّ والسياسيّ في الخمسين السنة الماضية، يلمس وبكل وضح ذاك التوجه المحموم نحو شعار أو مقولة (الإسلام هو الحل)، وارتباط هذا الشعار بفكرة الحاكميّة التي بينا دلالاتها في موقع سابق من إجاباتنا، فمنذ سبعينيات القرن الماضي بدأت تظهر على الساحة العربيّة نشاطات دينيّة تدعوا إلى ضرورة العودة إلى الإسلام بعد أن فشل الحكام العرب في تحقيق انتصارات حاسمة، إن كان على مستوى القضية الفلسطينيّة، أو على مستوى مشاريعهم الوطنيّة أو القوميّة باسم الاشتراكيّة أو القوميّة، على حياة الدولة والمجتمع، فهناك زيادة في نسبة الفقر والهجرة ورفض تداول السلطة ومحاربة الرأي والرأي الآخر، واختزل الديمقراطيّة والعلمانيّة بشعارات على مقاس القوى الحاكمة، وتكريس المرجعيات التقليديّة في السلطة وحتى داخل الأحزاب التي تدعي العلمانيّة. فمن هذه الوضعيّة المتردّية جاء التوجه الإسلاميّ المحموم الذي ساعد على تنشيطه قيام الثورة الإسلاميّة في إيران، وبدء تحرك الإخوان المسلمون من جديد تساندهم الثورة الخمينيّة، مثلما راحت بعض الأنظمة العربيّة تتناغم مع التيار الإسلاميّ عبر مؤسساتها الدينيّة محاولة الالتفاف على هذا التيار كما جرى في العراق وسورية ومصر وليبيا، ولكن من اعتمدت عليهم مشايخ ورجال دين كانوا أذكى من هذه الحكومات، ففي مصر قتلوا السادات، وفي العراق انهوا نظام صدام وكذلك الحال في ليبيا، وفي سوريّة ظهرت العشرات من فصائلهم المسلحة التي حملت السلاح بوجه الدولة.

لاشك أن دعاة التيار الإسلاميّ قد فشلوا حتى اليوم في مشروعهم الذي قاتلوا من أجل إقامته، والذي تجلى واضحاً في ما سمي بثورات الربيع العربيّ، وقد صفيّ جسديّاً الكثير منهم، وكان لتوجاتهم السياسيّة غير العقلانيّة التي لم تراع خصوصيات الواقع ولا التطور الزمني الذي حدث في بنيتي الدولة والمجتمع العربيين، ثم لعدم معرفتهم الحقيقيّة بطبيعة الأنظمة الحاكمة وآليّة عملها، فكل ذلك انعكس سلباً على دعاة هذا التيار، وعلى الدول والمجتمعات التي تحركوا فيها، ودفع الجميع الثمن باهضاً, وأرجاع البلاد والعباد مئات السنين إلى الوراء.

س21: أ. مراد غريبي: كيف يمكن لاهتمامك بالمجتمع المدني أن يفيدك في فهم ما يصلح للإنسان العربي وحياته المستقبلية؟

ج21: د.عدنان عويد: دعنا نتعرف على مفهوم المجتمع المدنيّ أولا، فالمجتمع المدنيّ في سياقه العام، هو المجتمع الذي تجاوز في علاقاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة، وهو المجتمع الذي راح يُحكم بالقانون ودولة المؤسسات، ولم يعد يحكم بالعرف والعادة والتقليد. وهو المجتمع الذي أصبحت فيه المواطنة جوهر العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الفرد والمجتمع والدولة من جهة ثانية، وهنا تلغى التراتبيّة في تحديد طبيعة هذه العلاقة من الناحيّة الاجتماعيّة والسلطويّة والاقتصاديّة، داخل المجتمع المدني، كما تسود في هذا المجتمع الثقافة العقلانيّة التنويريّة التي تركز على القيم الإنسانيّة واعتبار الإنسان سيد قدره ومصيره، لا ثقافة النقل والمطلق وتقديس الأفكار والأشخاص والثبات والسكون والتحجر والشكلانيّة. أو بتعبير آخر إقصاء ثقافة الأموات والهروب من الدنيا والتفكير بعذاب القبر والبحث عن حور العين وأنهار السمن والخمر والعسر وحور العين, أي تكريس ثقافة الأموات.

أمام هذه المعطيات المتعلقة بمفهوم المجتمع المدنيّ، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين واقعنا العربيّ بكل مستوياته أو مكوناته من هذا المجتمع؟.

لا شك أن الاجابة ستكون، بأننا بعيدون كثيراً عن عالم هذا المجتمع، ونحن لم نصل إلية في علاقاتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، لا على مستوى حياة الفرد أو المجتمع أو الدولة. نحن لم نزل نعيش حياة المجتمعات التقليديّة المشبعة مرجعياتها التقليديّة، وسياستها القائمة على عقليّة البطل الملهم إن كان داخل بنية العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الطريقة الصوفيّة أو الحزب أو قيادة الدولة. أما دولنا فهي دول ما قبل الدول، دول تمثلت في الشكل مهمة الدولة الحديثة، من حيث مؤسساتها وعلمها ودساتيرها وحتى صناديق انتخاباتها، ولكنها في الجوهر بعيدة كل البعد عن جوهر الدولة المدنيّة. فالدساتير في مضامينها النظريّة عند الكثير من دولنا العربيّة مليئة بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والمواطنة، ولكنها في التطبيق بعيدة كل البعد عن هذه المضامين، حيث تتجلى في الممارسة سياسات القهر والظلم والاقصاء والاستبداد والتحكم بالسلطة ومحاربة المختلف، وعلى مستوى البرلمانات، تجري بطريقة تسويقيّة محددة نتائجها سلفاً, إما عن طريق التعيين من قبل الحاكم بأمر الله، أو تجري بطريقة ديمقراطيّة صوريّة مدروسة وموجهة لخدمة الحاكم بأمر الله أيضاً. أما على مستوى الاقتصاد فهناك أنماط متعددة للإنتاج يغيب فيها وضوح الخط الاقتصاديّ، فلا هو اقتصاد سوق رأسماليّ، ولا هو اقتصاد سوق اشتراكيّ، بل هو اقتصاد سوق هجين يعمل على خدمة القوى البرجوازيّة البيروقراطيّة التي تتحكم بالمواقع السياسيّة والإداريّة الهامة في الدولة ومن يدخل في نطاقها وخدمة لها من البرجوازيّة الطفيليّة في المجتمع. هذا عدا عن كونها لم تزل محكومة سياسيّاً وفكريّاً بأيديولوجيات أثبت الزمن فشلها وعدم قدرتها على مجاراة حركة الواقع، لذلك نجد أن حواملها الاجتماعيين من رجال دين أو رجال سياسية وضعيين عملوا وبشكل قسريّ على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع أيديولوجياتهم المفوته حضاريّاً.

هذا غيض من فيض التردي والتخلف في واقع دولنا ومجتمعاتنا، لذلك لا بد لنا من طرح رؤى وافكار واتخاذ سلوكيات تجاري الواقع من جهة، وتعمل على تغييره دائما لمصلحة الفرد والمجتمع من جهة ثانية. فنحن بحاجة لفكر عقلانيّ بعيد عن الفكر الأيديولوجيّ الجامد والمتحجر... نحن بحاجة لرؤى فكريّة سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة وإداريّة ومجتمعيّة تطابق واقعنا وتراعي خصوصياته، وهذا لن يتحقق إلا من خلال حوامل اجتماعيّة مؤمنة بوطنها وشعبها ومصالحهما، وهي تستطيع من خلال وصولها إلى السلطة عن طريق الشعب، وبوسائل انتخابيّة نزيهة، على إدارة شؤون البلاد والعباد لإخراجهم من مازق التخلف البنيويّ الذي هم فيه، وبالتالي محاسبة من يفشل في تحقيق هذه المهمة وإقصائه. وهذا الأمر لن يأتي بالنوايا الحسنة ولا بالدعاء وكثرة السجود، فلا بد من حراك شعبيّ غير حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ التي مارست حوامله كل موبقات الثورات، فكانت النتيجة كره الشعب للثورة وللديمقراطيّة وللحريّة، لتعود بعض الدول العربيّة كمصر وتونس والجزائر إلى حكم العسكر من جديد بعد ان أسقطت هذه الثورات أنظمتها الشموليّة.. نحن بحاجة لثورات شعبيّة معقلنة لا تستخدم السلاح والعنف السلبيّ، نحن بحاجة لثورات سلميّة تحاصر القوى المستبدة المتمسكة بالسلطة حتى ترضخ لمطالب الشعب العقلانيّة.

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي - صحيفة المثقف

14 – 1 – 2022

 

3030 مراد ومحمودالمثقف: الحلقة الرابعة والأخيرة من مرايا فكرية مع الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الرابع: عن اللغة العربية (الفلسفة، إقتصاد المعرفة، الآفاق الحضارية)

س28: أ. مراد غريبي: ستظل مصر عاصمة العروبة بتاريخها ومؤسساتها ورجالات نهضتها الأدبية والفكرية والفلسفية، كيف ترون مستقبل اللغة العربية من خلال المشهد الثقافي المصري ومدياته عربيا؟

ج28: د. محمود محمد علي: تعرضت اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين لتحديات لا تقل خطورتها وعنفها عما تتعرض له من تحديات سياسية واقتصادية، وبعض هذه التحديات نشأ مع ظهور النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر واستمر حتى اليوم، وبعضها من آثار النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادى والعشرين، وحول رؤيتنا لمستقبل اللغة العربية من خلال المشهد الثقافي المصري ومدياته عربيا؛ فأري أن هذا يمكن توضيحه من خلال بين خلال الصراع بين الفصحي والعامية، حيث تجسد الجدل حول هذه القضية من خلال ثلاثة اتجاهات ؛ فأما الاتجاه الأول : فكان يدعو إلى اتخاذ العامية لغة قومية محل الفصحي واتخاد حروف غير عربية لرسمها، والاتجاه الثاني : ويدعو إلى الحفاظ علي الفصحى والإبقاء على رسمها والتقريب بينها وبين العامية وتطويرها وفق نموذج لغوي غربي، والاتجاه الثالث: ويدعو إلى الحفاظ على الفصحي، والاعتداد بتغير معظمها والإبقاء على رسمها، والتحكم في هذا التغير وفق مخطط قومي.

وأنا من أنصار الاتجاه الثاني والذي بناه سلامة موسي وطوره محمد حسين هيكل، فقد كان سلامة موسي من الذين دعوا إلى التقريب بين الفصحى والعامية مرحليا، حين أدرك أن العامية في عصره،لا يمكنها أن تحل محل الفصحى للتعبير عن العلوم والآداب، ولهذا دعا إلى ما يسميه " التسوية" بينهما .

وقد لقيت هذه الدعوة صدى لدي كثير من الكتاب والباحثين، ومن أهمهم وأشهرهم الدكتور " أحمد لطفي السيد " الذي دعا إلى تمصير اللغة العربية، وقد اتخذت دعوته في التمصير من خلال اتجاهين :

الاتجاه الأول : قبول الأسماء الأجنبية الخاصة بالمستحدثات المستخدمة في اللغة اليومية مثل : البسكليت والأتوموبيل ... الخ ولا يرى فائدة من استحداث كلمات عربية تحل محل محلها، ومع ذلك يشترط لقبولها أن تجري على أوزان العرب، وتجري عليها أحكام الإعراب فتصبح عربية بالزمان .

والاتجاه الثاني: احتضان المفردات العامية العربية، فيردون ما تشوه منها إلى أصله العربي ويستعملونه صحيحا، وما لم يشوه يستعمل على حاله .

وفي استعمال مفردات العامة وتراكيبهم إحياء للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة، وهكذا أن أحمد لطفي السيد يريد أن يرفع لغة العامة إلى الاستعمال الكتابي، وينزل بالضروري من لغة الكتابة ‘لى ميدان التخاطب والتعامل، وبذلك يمكننا أن تكتب الكتاب مفهوما، ونتحدث الأحاديث عربية صحيحة بالزمان .

وقد أثمرت هذه الدعوي التي نادي بها لطفي السيد ثمرات طيبة فظهرت معاجم للعامية المفصحة، ومن هذ تلك الدراسة التي قدمها كل من" المجمعي " محمد فريد أبو حديد"، والشوباشي.

فأما محمد فريد أبو حديد فقد أكد على وجوب العمل على التقريب بين الفصحى والعامية، فكانت وسيلته في هذا التقريب الـامل في حياة هذه العامية ومحاولة تحديد خصائصها لأن في حال هذه العامية فائدتين : الأولى أنها تساعد على تصحيح العامية وردها إلى الفصحى، والثانية أننا قد نجد عند حصر خصائص العامية أن فيها ما يساعد على تطوير الفصحى نحو ما هو أسمى مع الاحتفاظ بسلامتها، وبذلك نكسب كسبا مزدزجا.

وأما الشوباشي فمن محاولته في التقريب ما اتضح ذلك من خلال كتابه (لتحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه)، حيث نجده يدعو إلى الحفاظ على اللغة العربية الفصحى وتطويرها ويؤمن بدورها في حياتنا المعاصرة.

س29: أ. مراد غريبي: هناك ارتباط وثيق بين الفلسفة واللغة في الثقافات الأخرى ماذا عن علاقة الفلسفة باللغة العربية في حقل الدراسات العلمية عربيا؟

ج29: د. محمود محمد علي: في اعتقادي أن علاقة الفلسفة باللغة العربية في حقل الدراسات العلمية عربيا تتجسد من خلال ما يسمي بقضية العلاقة بين المنطق والنحو ؛ حيث تعد من أدق موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولا، ويهتم بها المناطقة والفلاسفة والنحاة منذ أقدم العصور، بل من قبل أن يصيغ أرسطو المنطق ويضع قواعده ؛ بل لقد استمرت الصلة وثيقة بين المنطق والنحو عند المفكرين اللاحقين على أرسطو والرواقيين، حتى بعد أن اختلط منطق أرسطو بالمنطق الرواقي Stoic Logic عند مفكري ما قبل وما بعد الميلاد من أمثال "شيشرون" Cicero (106-43 ق. م)، و" جالينوس" Galen (129-200م)، و" سكتوس أمبريكس" Sextus Empiricus (160-210م )، وغيرهم، وقد زادت درجة الصلة ما بين المنطق والنحو توثيقاً عند مفكري ما بعد الميلاد، وذلك بفضل علم جديد هو القانون الروماني، الذي احتاج واضعوه إلي التسلح بمزيد من المنطق والنحو يساعدهم في اشتقاق الألفاظ، وتكوين المصطلحات الجديدة للتعبير بها عن الحالات القانونية والاجتماعية التي كانت تطرأ عليهم كل يوم.

ولهذا حاولت جاهدا أن أفسر علاقة الفلسفة باللغة العربية من خلال كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق، حيث شرحت من خلال رؤيتي الفلسفية (التي تعلمتها من خلال أستاذي الدكتور " حسن عبد الحميد" )، حيث أكدت علي أن المقال في المنهج لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم نفسه؛ ومعني هذا المبدأ ببساطة أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره هو ضرب من التبسيط المخل "بالتجربة العلمية"، والتزييف المتعمد للروح التي ينبغي أن تقود العلم وتوجهه . فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم، والتي سبق أن أوضحناها في نهاية الفصل السابق، وهي المرحلة الوصفية، ثم المرحلة التجريبية، ثم المرحلة الاستنباطية، ترتبط ارتباطًا عضويًا بمراحل تطورية تناظرها في المنهج، أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه.

ويترتب على هذا المبدأ الأبستمولوجي أننا لا نستطيع أن نحدد – كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم – منهجا بعينه لعلم بعينه – حتي ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التأريخ للعلم الذي نتحدث عنه . والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه . ولكن المنهج الذي يعمل علي إضفاء بنية جديدة للعلم هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء على استخدامه، ويترتب علي ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم هو قفل باب الاجتهاد في العلم، ودعوة إلى تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل "سجن" الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم.

وإذا ما طبقنا ذلك على النحو العربي، نجد أن هناك فصل للمقال عن المنهج عن المقال عن العلم في بداية نشأة علم النحو، فلم يكشف لنا رجال هذا العلم ومؤرخيه الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة النحو؟ ولا الشخصيات التي تنسب إليها ريادة البحث النحوي، كما لم تتضح لنا بعد صورة النحو العربي في مرحلته الوصفية سواء فيما يتعلق بفهم طبيعة المرحلة التي تنسب إليها نشأة الدراسات النحوية، أو بفهم طبيعة اللغة التي تتناول نشأة نحوها بالدرس ؛ فالنحو العربي بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين كان في بداية منشئه " غامض كل الغموض، فأننا نرى فجأة كتابا ضخما ناضجا هو كتاب سيبويه ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء "، فإن هذا يعني العجز عن التفسير .

س30: أ. مراد غريبي: بنظركم هل يمكن للغة العربية أن تشكل جسرا ثقافيا بين العرب والآخرين كما حصل في زمن الحضارة الإسلامية؟ وكيف السبيل إلى ذلك في ظل تحديات الجهل والتخلف وتراجع الترجمة والإنتاج العلمي عربيا؟

ج30: د. محمود محمد علي: أنا من المؤمنين بأن اللغة العربية تعد كما قال أستاذنا الدكتور علي مصطفي مشرفة أداة العلم ؛ خاصة وأن اللغة العربية اجتازت في عصرنا الحالي مرحلة من مراحل تطورها، فها ننسي اللغة العربية التي كان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم في صحرائهم وبين ابلهم ارامهم والتي صارت بعد ذلك لغة الكتاب والفلاسفة في عصور المدنية الإسلامية، يتناولون بها سائر المعاني الأدبية والفلسفية .

وإذا نحن قارنا البيئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه في أيام ازدهار الحضارة العربية فلعل أول ما يسترعي نظرنا سيطرة الروح العلمية علي تفكيرنا الحديث، وهذا الأمر جعل رجالات مجامع اللغة العربية في كل أرجاء الوطن العربي يطورون اللغة العربية من خلال إدخال كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة إليها كما تغيرت معاني الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغربية علينا أو التي لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب في اللغة قربها إلى عقولنا ساعد على حسن استخدامها.

إن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم، فاللغة كما قدمت في دور التكوين سر بقائها، ولذا أقول ففي يدنا قتلها وفي يدنا إحياؤها .. أما قتلها فيكون بالجمود بها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها علي توحيدها والمحافظة علي وحدتها .. وأما احياؤها فيكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشي بها في السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة، ولذلك كان لزاما علي الأدباب والمفكرين من أهل اللغة العربية في عصرها الحالي أن يحوطوها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة في بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح إليها وتحتويها، فاللغة   كالكائن الحي في تفاعل مستمر مع البيئة التي تحيط بها .. فإما تلاءما فاشتد الكائن وتكاثر .. أو إما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك .3030 مراد ومحمود

س31: أ. مراد غريبي: بين الفلسفة والمعرفة العلمية علاقة وثيقة ومتشابكة، ماذا عن فلسفة العلوم من جهة واقتصاد المعرفة من جهة أخرى في أروقة الفعل الاكاديمي عربيا وبمصر تحديدا؟

ج31: د. محمود محمد علي: أنا مؤمن بأن اقتصاد المعرفة فرع من فروع فلسفة العلوم التي تهدف إلي تحسين رفاهية الأفراد والمجتمعات عن طريق دراسة نظم إنتاج وتصميم المعرفة، ثم إجراء التدخلات الضرورية لتطوير هذه النظم، وبذلك فإنه كما يقول "سولو" يولد نماذج نظرية من خلال البحث العلمي، ويطور الأدوات والتقنية وتطبيقها علي الواقع، وبناءً عليه فإن اقتصاد المعرفة يهتم بكل من : إنتاج المعرفة من خلال (ابتكار، اكتساب، نشر، استعمال، تخزين المعرفة)، وصناعة المعرفة التي تعتمد علي (التدريب، الاستشارات، المؤتمرات، البحث، والتطوير).

ومصر كغيرها من الدول النامية تحاول الاستفادة من ثورة المعلومات والاتصالات السائدة في عالم اليوم، وفي هذه الورقة نحاول أن نبرز كيف تمثل المعرفة الصفة الأساسية للمجتمع الإنساني، إذ من خلالها تحقق تحولات عميقة مست وغطت تقريبا كل مناحي الحياة، فالمعرفة هي إحدى المكتسبات المهمة للاقتصاد والمجتمع علي حد سواء، حيث أضحت في هذ الاقتصاد الصاعد الجديد المحرك الأساسي للمنافسة الاقتصادية بإضافتها قيم هائلة للمنتجات الاقتصادية من خلال زيادة الإنتاجية والطلب علي التقنيات والأفكار الجديدة، وقد واكبت هذه المنتجات فعليا التغيرات الثورية في كل الأسواق والقطاعات.

والاقتصاد القائم على المعرفة يتكون من أربعة ركائز أساسية: هي النظام الاقتصادي والمؤسسي الذى يقدم حوافز الاستخدام المعرفة بكفاءة ويعمل على ازدهار ريادة الأعمال، والتعليم والمهارات والذى يمكن الشعب من الإنتاج، والبنية التحتية للمعلومات والاتصالات والتي تسهل التواصل بفاعلية، ونظام الابتكار في الدولة وفي الشركات والمراكز البحثية.

س32: أ. مراد غريبي: في عصر العولمة، هل هناك أفق مستقبلي للثقافة والفنون والآداب العربية؟

ج32: د. محمود محمد علي: أنا من المؤمنين بأن تراث الأمم كما قال أستاذي مصطفي الفقي هو رصيدها الباقي، وهو ما تعتمد عليه في مواجهة غيرها وتتميز به عن سواها، ولا يمكن أن تنقطع جذور أمة عن تراثها العريق، ثم تصبح بعد ذلك شيئاً مذكوراً، لكن التراث لا يتعارض مع الحداثة، ولا يصطدم بالتجديد، بل إنّ الالتزام الأشد بالتراث يؤدي بالضرورة إلى تألق روح الحداثة ومفهوم التجديد والشواهد على ذلك كثيرة، إذ لا مستقبل لأمة ليس لها ماض، ولا تألق لشعب ليس له تراث.

ولا شك في أن استشراف مستقبل واعد للثقافة والفنون والآداب العربية، لا يمكن أن يتأتّى إلا من خلال تبني سياسة ثقافية واضحة، من شأنها المساهمة في تطوير الثقافة المحلية، والمحافظة على الهوية والخصوصية، وفق مخطط ثقافي محكم وواضح المعالم، ولو ألقينا نظرة خاطفة على الأفق الثقافي في المنطقة العربية، فإنه يمكن القول بأنه توجد فرص هائلة للتطوير في القطاع الثقافي والفنس والأدبي، والارتقاء بمستوى المخرجات والإنجازات ذات الصلة بهذا القطاع، خاصة في ظل وجود العديد من العوامل المشجعة التي تحتاج إلى رفع وتيرة التسخير الأمثل لها، فوطننا العربي يزخر بطاقات شابة هائلة، تحتاج إلى التحفيز والتشجيع للدخول إلى عالم الثقافة والآداب والفنون، وتنتظر من المؤسسات أن تأخذ بأيديها من خلال احتضان المشاريع والمبادرات، وإيجاد المنصات المثلى التي تطلق العنان لمهاراتها الخلاقة، وتسليط الضوء على إبداعاتها محلياً وإقليمياً وعالمياً.

س33: أ. مراد غريبي: في الختام، دكتور محمود، كيف تقاربون سبل النهضة عربيا، أي ماهي أهم المعاملات الضرورية للإقلاع الحضاري العربي؟؟

ج33: د. محمود محمد علي: لكي نقارب سبل النهضة عربيا فلابد من أن نجيب على سؤال : كيف نخرج أمتنا من هذا المأزق الحضاري، الذي يأخذ منها بالخناق؟

وقد اعجبتني إجابة الدكتور " محمد عمارة " حين قال بأنه لا بد من معرفة الأسباب التي دفعت الأمة إلى هذا المأزق... لأن علاج أسباب التراجع الحضاري، هو السبيل إلى الإقلاع الحضاري من هذا المأزق الذي تردينا فيه. لقد بدأت أمتنا طورها الحضاري العربي الإسلامي بنهوض وازدهار، تعلمت منه الدنيا، ولانزال نباهي به حتى الآن... فلماذا حدث استبدال التخلف بالتقدم؟ والجمود بالتجديد؟ والأزمة بالانطلاق؟ والقيد بالانعتاق؟ .. إن الوعي بأسباب التراجع الحضاري، وسمات استبدال أسباب التراجع بأسباب التقدم، هو الذي يضع عقولنا وأيدينا على المفهوم الصحي والحقيقي لمقولة: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها...». فليس المراد الهجرة من الزمن الحاضر إلى الزمن الخالي... وإنما المراد الوعي بأسباب النهوض الأول، ومناهجه، لنسلكها سبلاً للنهوض الجديد المنشود.

وحول معرفة أهم المعاملات الضرورية للإقلاع الحضاري العربي اعتقد أنه يتجسد من خلال ثلاث محطات: الأولى تحديث المناهج التعليمية وتطوير النظم التربوبة، والثانية دعم البحث العلمي في جميع حقول المعرفة، والمحطة الأخيرة تجديد أساليب الحياة العامة والخاصة على اعتبار ان المجتمعات العربية تتخبط في مشاكل لا حصر لها .

 

حاوره: أ. مراد غريبي

 

 

3175 عدنان عويد ومراد غريبيخاص: المثقف: تستضيف المثقف الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث

س1: ا. مراد غريبي: بادئ ذي بدء، ماذا عن سيرتكم الذاتيّة ومنجزاتكم العلميّة والفكريّة والنقديّة التجديديّة؟

ج1: د. عدنان عويد: باحث وكاتب عربي سوري، يكتب في قضايا النهضة والتنوير.

ولد في دير الزور عام 1950.

دكتوره بالعلوم السياسيّة

أستاذ محاضر في جامعة الفرات – كليّة الآداب - قسم علم الاجتماع

إصداراته:

1- الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة. إصدار دار العلم، ودار والتكوين. دمشق. 1994-2006

2- إشكاليّة النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 1997- 2006

3- التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 2000- و2007

4- معوقات حركة التحرر العربيّة في القرن العشرين. إصدار دار المدى. دمشق. 2002

5- الأيديولوجيا والوعي المطابق. إصدار دار التكوين. دمشق. 2006

6- رأسماليّة الدولة الاحتكاريّة. إصدار دار التكوين. دمشق. 2008

7- قضايا التنوير. (ترجمة عن اللغة الانكليزية). إصدار دار التكوين. دمشق. 2011

ينشر في العديد من المجلات والجرائد والمواقع الالكترونية في الوطن العربي.

س2: ا. مراد غريبي: نستهل بحسب مناهج البحوث الأكاديميّة، قراءة في مفاهيم هذا المحور الأساسيّة: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين..؟؟

ج2: د. عدنان عويد: لا شك أن هذه المفاهيم المطروحة هنا... العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. تشكل في وضعنا الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر، إشكاليّة قائمة بذاتها، لاعتبارات عديدة يمكننا الاشارة إلى أهمها:

1- أن معظم هذه المفاهيم في صيغها المتعارف عليها اليوم، قد طُرحت في الغرب مع بداية عصر النهضة الأوربيّة، مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفلاسفة قرنيّ التاسع عشر والعشرين. وإن هذه المفاهيم راحت تتسرب إلى خطابنا الثقافيّ مع بداية القرن التاسع عشر، بفعل عوامل كثيرة منها:

1- تَأَثُر الطلاب العرب الذين ارسلوا إلى أوربا للدراسة هناك، وخاصة البعثات التعليميّة التي اشتغل عليها "محمد علي باشا" في مصر "وخير الدين التونسي" في تونس، أو بفعل حملات التبشير الأوربيّة في المشرق العربيّ التي فتحت المدارس الخاصة بها في هذه المنطقة، إضافة لما حققته البعثات أو المنح الدراسيّة إلى اوربا، التي خصصتها الإرساليات التبشيريّة للطلبة المتفوقين من خريجيّ هذه المدارس. الأمر الذي أوجد العديد من المثقفين والمفكرين ممن تأثر بالفكر الغربيّ ومناهجه كأديب اسحق، وشبلي شميل، وفرح انطون، والبستاني، واليازجي وغيرهم الكثير.

2- بفعل الطلبة العرب الذين درسوا في أوربا منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، وهم كثر في الحقيقة، حيث تأثر الكثير منهم بالفكر الغربيّ ومناهجه، وراح العديد منهم يشتغل بعد إنهاء دراساته في الغرب على مشاريع فكريّة تأثرت كثيرا بالمناهج الغربيّة، كالعروي الذي تاثر بالمنهج التاريخانيّ، وحسن حنفي بالمنهج الظاهري، والتيزيني بالمنهج الماديّ التاريخيّ، والجابري بالمنهج الابستمولوجي (المعرفي)... الخ.

بيد أن التاريخ العربيّ في العصر الوسيط لم يعدم المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على العقل بشكل خاص، كابن رشد والفارابي والكندي وغيرهم، بالرغم من أن مفهوم العقل ظل عند الكثير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين ينوس بين الدماغ والقلب، وقليلون هم الذين عرفوا العقل بالمخزون الثقافيّ الذي تكون أثناء إنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة تاريخيّاً، كابن رشد وابن خلدون والكندي، وبالتالي فصلوه عن الدماغ ككتلة عضويّة في الجسد البشري لها دورها الوظيفيّ في تخزين المعرفة ومعالجتها وفقاً لما يريد صانع هذه المعرفة وحاملها الاجتماعيّ،. علماً أن الذين قالوا بهذا الرأي عن العقل من فلاسفة العصور الوسطى العرب والمسلمين، تأثروا أيضاً بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ بعد أن قاموا بترجمة كتب الفلاسفة الماديين اليونان.

في تاريخنا المعاصر، درس الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الفكر الفلسفيّ العقلانيّ في العصور الوسطى، وسلطوا الضوء على الفلسفة الماديّة منها، كحسين مروة في كتابه (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة) على سبيل المثال لا الحصر.

عموماً نستطيع القول هنا: إن كل تلك المفاهيم الحداثيّة التي جاءت في سؤالكم: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. يظل العقل النقدي يشكل العمود الفقري لها، إذا لا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يحوز على حقيقته أو مصداقيته التي طرح من أجلها إلا من خلال ارتباطه بالعقل. فالديمقراطيّة بدون عقلانيّة تتحول إلى فوضى.. والهويّة بدون عقلانيّة قد تعود لمرجعياتها التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة.. والتراث من غير إدخال العقل فيه وتحليله وإعادة قراءته كتاريخ شعوب تحركه تناقضات وصراعات مصالح الناس، سيظل تاريخ ملوك وأمراء وأيديولوجيا دينيّة، الأمر الذي سيدفعنا إلى التعامل معه بعواطفنا أكثر من عقولنا، وسنتمسك بهذا الماضي كفردوس مفقود بِعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ. والعلمانيّة التي يغيب عنها العقل تفقد مصداقيتها وتتحول إلى ترف فكري، بدل أن تمثل في واقع أمرها الدولة المدنيّة.. أو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات... الخ ، وكذا حال التثاقف الذي سيتحول عند تبادل المعرفة، إلى مركزيّة أوربيّة أو شرقيّة، وظهور نرجسية الحامل الاجتماعي للثقافة عند تداولها مع المختلف إذا لم يتم تحكيم العقل.. وهذا حال الحداثة التي ستتحول إلى تقليد الضعيف للقوي في حال غياب العقل القادر على تحديد خصوصيّة المجتمعات وما هي حاجاتها الضروريّة من مفاهيم الحداثة، وما هو الصالح منها القادر على تحقيق تنمية الفرد والدولة والمجتمع، وما هو الطالح فيها الذي سيعرقل تقدم المجتمع إذا ما أخذ منها. وهذا الموقف المنهجيّ من العقل، وضرورة التعامل معه ينطبق على الأيديولوجيا الوضعيّة والدينيّة معاً، فكلاهما سيتحولان إلى وعي جموديّ غير قابل للنزول إلى الواقع عند غياب العقل الذي يعمل دائما على ربط الفكر بالواقع.

عند حديثنا هنا عن العقل، أقصد به العقل النقديّ الجدليّ، وليس العقل البذيء القائم على المثاليّة الذاتيّة والحدسيّة أو المثاليّة الموضوعيّة.

س3: ا. مراد غريبي: لننطلق من العقل والعقلانيّة في حوارنا معكم دكتور عدنان، ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟

ج3: د. عدنان عويد: عند إجابتي على سؤالكم الثاني أشرت إلى دور ومكانة العقل في ضبط المفاهيم التي نتعامل معها بشكل عام، كما بينت الصيغة العقليّة أو العقلانيّة التي علينا التعامل معها منهجياً. وهنا أحب أن أوضح مسألة منهجيّة في هذا السؤال الثاني قبل الاجابة عنه. وهي مسألة التفريق بين العقل والعقلانيّة.

العقل كما أشرت إليه سابقاً، هو مجموعة المعارف والمهارات بما فيها المواقف الداخليّة النشطة من أحاسيس وعواطف وتخيل ومهارات عقليّة، التي اكتسبها الإنسان تاريخيّاً عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع. فالعقل وفق هذا المفهوم هو الثقافة المكتسبة في أعلى تجلياتها.

أما العقلانيّة: فهي منهج في التفكير، أو موقف عقليّ جدليّ نقديّ، يمارسه العقل عند توظيف معارفه في نشاط الإنسان الماديّ والروحيّ، فهناك فرق كبير عند توظيف العقل كوسيلة أداتيّه (العقل الأداتيّ) على سبيل المثال، خدمة لمصالح قوى اجتماعيّة محددة لا يهمها الجانب الإنسانيّ الايحابيّ من دور أو أداء العقل، وبالتالي يأتي العقل عند هذه القوى وكأنه أداة عضويّة قادرة لوحدها على إنتاج الأفكار المجردة وتسويقها بعيداً عن الواقع الذي أنتجها، وهو هنا النشاط الإنسانيّ الماديّ والروحيّ في هذا الواقع المعيش. الأمر الذي يكون فيه دور العقل في هذا النشاط، هو تغييب الوظيفة الإنسانيّة المنوطة به كما أشرنا قبل قليل، واقتصار وظيفته على العمل داخل اقتصاد السوق، وتحقيق الربح للحامل الاجتماعيّ له.

أمام هذا الموقف المنهجيّ والمعرفيّ للعقل، نعود لنجيب على السؤال المطروح هنا وهو: ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟.

نستطيع القول: بأننا أمام غياب أو عدم حضور الفكر العقلانيّ الذي أنتجه فلاسفة العصور الوسطى في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ منذ أن أصدر الخليفة المتوكل أمره أو مرسومه القاضي بمحاربة العقل والعودة إلى النقل عام (232) للهجرة، بعد أن فسح الخليفة المأمون المجال للفكر المعتزليّ أن يأخذ دوره ومكانته في الحياة الفكريّة والفقهيّة بعد إصداره مرسومه الذي يدعو فيه إلى محاربة النقل واحترام العقل عام (212) للهجرة، فمع مرسوم المتوكل بدأ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ يأخذ مكانته في الساحة الثقافيّة والفكريّة والفقهيّة عموماً مع ابن حنبل وكل من آمن بفكره منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.

إذن مع هذه الردّة الفكريّة السلفيّة التكفيريّة التي جسدها "المتوكل" وابن حنبل وتياره، انحسر دور العقل والفكر العقلانيّ ليسود منذ ذلك التاريخ حتى اليوم فكر النقل المشبع أكثره بالأسطورة والخرافة والكرامات واللامعقول، واستمرار كل ما اشتغل عليه فقهاء العصور الوسطى من قضايا تهم ذلك العصر، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

نعم.. لم يعد مسموحاً الاشتغال على العقل في التعامل مع الواقع والعمل على النهوض به، إلى أن بدأت عمليّة الانفتاح على الغرب والحضارة الغربيّة بالطرق والوسائل التي أشرنا إليها في موقع سابق، هذا الانفتاح الذي ظل في الحقيقة قائماً أو محصوراً على النخب ولم يتحول حتى اليوم إلى ثقافة شعبيّة.. ومع ذلك لا يمكننا إنكار ما حققته هذه النخب المثقفة والمتعلمة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى اليوم على كافة مستويات الساحة العربيّة، من خلال ما أوجدته هذه النخب من صحف ومجلات ودور نشر وأحزاب ذات توجهات تقدميّة، أو من خلال وجودها في مواقع عملها الحكوميّ، رغم أن كل ما كانت تمارسه من نشاط تنويريّ كان يحسب عليها، وقد تدفع ثمنه باهضاً من قبل المؤسسات الدينيّة المتحكمة بهذه الدرجة او تلك بناءً على قوة التأثير التي تتمتع به هذه المؤسسات الدينيّة على القرار السياسيّ للكثير من الدول العربيّة، ونحن لن ننسى ما جرى لسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وفيما بعد لفرج فوده، وحامد أبو زيد، من قبل المؤسسات الدينيّة، وسكوت السلطات الحاكمة في الكثير من الدول العربيّة عن موقف هذه المؤسسات الدينيّة في محاربة الفكر العقلانيّ وحوامله الاجتماعيّة من النخب المثقفة، وهذا الموقف العدائيّ للفكر العقلانيّ التنويري هو امتداد في الحقيقة للمواقف العدائيّة ذاتها التي اُتُخِذَتْ ضد غيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وابن المقفع، والكندي، وابن خلدون، وابن رشد وغيرهم الكثير، الذين كانوا ضحيّة لرجال أو مشايخ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ القائم على النقل.

نقول: رغم كل الحصار الذي فرض على الكتاب العقلانيين التنويرين العرب في تاريخنا المعاصر، والاتهامات التي وجهت لهم من قبل أعداء التيار العقلانيّ، إن كانت هذه الاتهامات ذات طابع دينيّ تكفيريّ، أو سياسيّ تخوينيّ، أو أخلاقيّ تهتكيّ. إلا أن التيار التنويريّ العقلانيّ مارس تحديه للقوى السلفيّة، وكانت كتابات حامله الاجتماعيّ وكتبهم مليئة في قضايا التنوير والحداثة. لقد اشتغلوا سياسيّاً على المطالبة بضرورة تطبيق الدولة المدنيّة ومفرداتها من ديمقراطيّة وعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة ومحاربة الاستبداد السياسيّ.. كما اشتغلوا على فكرة الحريّة في بعدها الاجتماعيّ والفلسفيّ، فطلبوا بتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الاخر، واشتغلوا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الاستغلال، ونشر التعليم ومحو الأميّة، ومحاربة المرجعيات التقليديّة من طائفيّة وعشائريّة ومذهبيّة..

إن هذه القضايا التي اشتغلوا عليها، وجد الكثر من مفردتها عبر القرن العشرين حضوراً في الساحة الثقافيّة والمؤسساتيّة استطاعت أن تؤسس في الحقية لمشروع حداثي، رحنا نلمسه من خلال تعليم المرأة ودخولها مجال العمل. ومن خلال تشكل الأحزاب وتعدد توجهاتها الفكريّة، مثلما وجدناها في الحركات السياسيّة الكثيرة ووصل الأحزاب الديمقراطية الثورية إلى السلطة كالناصريّة والبعثيّة وغيرهما، وما حققته هذه الأحزاب عند وصولها للسلطة من دور في تطوير المجتمع والدولة، مع تأكيدنا بأن الكثير من قادتها حكمتهم فيما بعد شهوة السلطة، الأمر الذي حول دول أحزابهم إلى دول شموليّة مستبدة، جاء حراك الربيع العربي ليبين عوراتهم وفسادهم وابتعادهم عن مصالح الشعب.

س4: ا. مراد غريبي: العقلانيّة في الخطاب العربيّ اتسمت بأنماط فكريّة متعددة توزعت بين التيار الدينيّ التجديديّ والتيار العلمانيّ الحداثيّ، والتساؤل كالآتي: ما راهن الخطاب العقلانيّ العربيّ في ظل تحديات التطرف والتخلف والتفاهة في عمق الساحة الفكريّة العربيّة المعاصرة؟ وهل فعلا العقلانيّة هاجرت من مجالنا العربيّ المعاصر ككل الأدمغة المستنيرة علميّا وثقافيّا؟

ج4: د. عدنان عويد: لنعد إلى موضوع سؤالكم عن: موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟. لقد قلنا إن الفكر العقلانيّ قد ارتبط منذ بداية طرحه على الساحة الثقافيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، بالنخب المثقفة حتى منتصف القرن العشرين، وخاصة الأوائل منهم الذين حاز معظمهم على شهاداته العليا من جامعات الغرب. وكان لهم الأثر الكبير على طلابهم في الجامعات العربيّة، حيث تخرج من تحت أيديهم مئات آلاف الطلاب والطالبات على كافة المستويات الفكريّة، الفلسفيّة منها والأدبيّة والفنيّة، الذين تأثروا بفكر أساتذتهم العقلانيّ ومناهج بحوثهم. حيث رحنا نجد أفكار الحداثة التي رافقت عصر الثورة الصناعيّة في أوربا تنتشر بين صفوف الطلبة وعشاق المعرفة، إن كان على المستوى الفلسفيّ أو الفني والأدبي. فهذه الأفكار الفلسفيّة أخذت تُدرسها أقاسم الفلسفة وعلم الاجتماع في العديد من جامعات الدول العربيّة، كفكر فرانسيس بيكون، ورينيه، وديكارت، وهوبس، وسبينوزا، ولوك، أو فكر رواد الفلسفة الانكليزيّة، كابريكلي وهيوم، أو فكر الفلاسفة الألمان كاليبنتز وليسنغ، وفيما بعد هيجل وفورباخ وفيورباخ وماركس وانجلز، كما تاثروا كثيراً بأفكار فلاسفة عصر التنوير الفرنسيّ، كفكر مونتسكيو، وكوندياك، وديدرو، وروسو وريكاردو وهلفينيوس وفولتير.. الخ. ومع مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى والثانية، راحت أفكار مدارس ما بعد الحداثة تغزوا الساحة الفكريّة العربيّة أيضاً على كافة مستوياتها الفلسفية والأدبيّة والفنيّة، حيث رحنا نجد من يروج للوجديّة كعبد الرحمن بدوي، وللمدرسة الوضعيّة والوضعيّة الحديثة عند زكي نجيب محمود، وللمنهج الماديّ التاريخيّ عند محمود امين العالم والطيب تيزيني وحسين مروة، وغيرهم الكثير ممن تبنى الماركسية منهجاً، وكذلك وجدنا الفكر الديكارتيّ ومنهجه، عند طه حسين وجلال صادق العظم.. في الوقت الذي رحنا نجد فيه أيضاً الفكر الإسلاميّ التنويريّ يأخذ دوره الواسع في إعادة قراءة النص الدينيّ كما فعل حسن حنفي والسيد القمني وماجد الغرباوي وهادي العلوي والجابري ومحمد عماره وأركون، مثلما وجدنا التيارات الفكريّة السياسيّة بمناهجها الليبراليّة عند العروي وياسين الحافظ والياس مرقص. ولم نعدم الفكر الما بعد حداثويّ عند علي حرب، أما في الأدب فقد كان للفكر الغربيّ ومدارسه الدور الكبير على الأدباء العرب، حيث انتشرت المدارس الأدبيّة كالواقعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة والبنويويّة وغيرها. وكان للشعر بشكل خاص تأثره الكبير بالمدارس الغربيّة، حيث شق السياب ونازك الملائكة وأدونيس وفيما بعد مدرسة الشعر الطريق لهذا التوجه الحداثي. وهذا وجدناه في الفن أيضاً ومدارسه كالمدرسة الرومانسيّة والواقعيّة والرمزيّة والتكعيبيّة والتعبيريّة والسوريالية.. الخ.

ملاك القول: يمكننا التأكيد هنا بأن العقلانيّة لم تهجر الساحة الثقافيةّ العربيّة كليّاً رغم هجرة العديد من حواملها الاجتماعيين إلى أوربا، بسبب السلطات الاستبدايّة في العديد من الأنظمة العربيّة ومؤسساتها الدينيّة الرجعيّة التي حاربت الفكر التنويريّ العقلانيّ، وعملت على تشويه العلمانيّة والديمقراطيّة، عندما حولتهما إلى مفاهيم شكليّة تتاجر بها أمام القوى التنويريّة في الداخل والخارج، بينما كانت تعمل في السر والعلن على نشر الفكر السلفيّ الظلاميّ التكفيريّ القائم على النقل وتسطيح العقل. وقد جاءت ثورات الربيع العربيّ رغم كل فوضويتها وعدم عقلانيتها وانضباطها فكريّاً وسلوكيّاً، لتكشف عورات هذه الأنظمة، وتبين طبيعة الفكر الذي اشتغلت عليه عشرات السنين، وكان وراء ما سمي بالصحوة الإسلاميّة التي اخترق رجالاتها ومريدوها ثورات الربيع العربيّ. هذا ونستطيع القول أيضاً إن الفكر العقلانيّ التويريّ ودعوات العلمانيّة والديمقراطيّة والعقلانيّة النقديّة، لم تغب عن الساحة الثقافيّة والسياسيّة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ ومواقع النشر الالكترونيّ الكثيرة التي تعمل خارج سيطرة السلطات الحاكمة المستبدة عدوة العقل والعقلانيّة.

س5: ا. مراد غريبي: العقلانيّة تدفعنا نحو سؤال الحريّة، برأيكم ماهي المعياريّة الناظمة لشروط تشكل العقل العربيّ الحر؟

ج5: د. عدنان عويد: دعنا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما يقول " سبينوزا وهيجل وماركس "، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي اتجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حرية مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حرية ينتجها الواقع المعيوش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة من جهة، وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من جهة ثانية، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخية المعيوشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة التي كان يباع فيها الإنسان ويشرى في أسواق النخاسة، هي غيرها في النظام الرأسماليّ او الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.

من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة يأتي موقفنا منها، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.

إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة المتحكمة فيه.

إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ مفوت حضاريّاً، لم تزل تتحكم به مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق. وبالتالي هو لم يحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام في هذا الوجود، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومة ومحكومة هنا من قبل الدولة التي تريد حريّة على مقاس القوى الحاكمة لها، والمجتمع يريد حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة بالغالب بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل الدولة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الخرافة والأسطورة وقصص الأولين، المرتكزة على الفضيلة المجردة، والتي تهدف إلى التركز على ثقافة كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوما بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق وطه حسين وجلال صادق العظم وغيره الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي بسبب أفكارهم العقلانيّ التنويريّة.

هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان. وبالتالي لتحرير عقول كل هؤلاء والفسح في المجال لأفكارهم العقلانية أن تنتشر وتتجذر، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيوش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن هذه الثورة التقافيّة التي عولنا عليها الكثير مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ، خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة، أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيف من الزمان.

س6: ا. مراد غريبي: هل هناك تفكير عربيّ جاد واشتغال فلسفيّ عميق حول سؤال الحريّة وجدلياتها مع الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عرفناه خلال القرن العشرين؟

ج6: د. عدنان عويد: أعتقد أننا قد تناولنا موضوع الحريّة في إجابتنا عن السؤال السابق. أما سؤالك عن الاشتغال على الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين، في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عرفناه خلال القرن العشرين. فيمكنا الاجابة عن ذلك بقولنا:

لا شك أن هناك من اشتغل على الأيديولوجيا أو السرديات الكبرى في عالمنا العربيّ المعاصر منذ بداية الربع الأول للقرن العشرين حتى منتصف القرن ذاته، وخاصة عند القوى اليساريّة والدينيّة والقوميّة ممثلة بالأحزاب الأمميّة، كالأحزاب (الشيوعيّة)، وحزب (الاخوان المسلمون). ثم تلتها في الربع الثاني أحزاب أخرى ذات طابع قوميّ، توزعت بين أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربيّة الشاملة كحزب (البعث العربيّ الاشتراكيّ)، وأخرى ذات طابع إقليميّ كالحزب (القوميّ السوريّ الاجتماعيّ). وغيرها.

إن هذه الأحزاب اشتغلت في الحقيقة على تكريس أيديولوجات خاصة بها، رسمت من خلالها الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة لعملها داخل الساحة السياسيّة العربيّة، فهذه الأحزاب الشيوعيّة مثلاً قد تبنت في تنظيماتها الأيديولوجيا الشيوعيّة طريقاً لتحقيق العدالة والتنميّة، وخاصة بصيغتها الماركسيّة اللينينيّة، كما تبنى الإخوان الأيديولوجيا الدينيّة (الحاكميّة) التي نظر لها في صيغتها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة ابو الأعلى المودودي، وتبناها مفكر الإخوان "سيد قطب" وخاصة في كتابه (معالم في الطريق). أما الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة كحزب البعث والاتحاد الاشتراكيّ، فقد تبنت الأيديولوجيا القوميّة التي ارتبطت مع الاشتراكيّة العلميّة، تحت مسميات جديدة نظروا لها فكريّاً تحت اسم (الطريق العربيّ إلى الاشتراكيّة)، وطبقيّاً تحت اسم (تحالف قوى الشعب العاملة). يبقى لدينا الأحزاب القوميّة الاقليميّة، مثل الحزب السوريّ القومي الاجتماعيّ، أو النزعات الاقليميّة كالفينيقيّة والفرعونيّة والبربريّة والأمازيغيّة وغيرها، وهذه أحزب حملت أيضاً بعداً قوميّاً اجتماعيّاً لم تزل قائمة حتى اليوم.

إن مشكلة هذا الأيديولوجيات أنها أغرقت بالشعاريّة على حساب الواقع أو الممارسة. وهذا ما أوقعها في مطبات كثيرة أثناء استلام بعضها السلطة. فظروف الواقع العربيّ المتخلف أثر تأثيراً كبيراً على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. فالأحزاب الشيوعيّة ارتبطت من جهة بالسياسة الأمميّة على حساب السياسة الوطنيّة والقوميّة، مع غياب واضح للحامل الاجتماعيّ المؤهل لقيادة هذه الأحزاب، الأمر الذي أوقها في فخ المرجعيات التقليديّة من جهة ثانية، كما جرى للحزب الشيوعيّ اليمنيّ الذي وقع في فخ القبليّة، والحزب الشيوعيّ السوريّ في فخ العرقيّة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت تنظيمّه إلى تنظيمات عدّة. أما الإخوان فقد اشتغلوا في سياساتهم على البعد الأممي وتجاهلوا خصوصيات الدول التي انوجدوا فيها، مثلما اغرقتهم أيديولوجيا الحاكميّة وعدالتها في عالم القيم والمثل على حساب الواقع، فاصدموا بالواقع عند وصولهم إلى السلطة، فكان فشل التجربة في مصر وتونس. اما الأحزاب القوميّة فقد عاشت في عالم الشعارات القوميّة والعدالة الاجتماعيّة.. فلا هي استطاعت أن تحقق الوحدة العربيّة، ولا حتى الوحدة الوطنيّة داخل الدول التي سيطرت على الحكم فيها، ولم تستطع أيضاً تحقيق العدالة السياسيّة حيث تحولت إلى دول شموليّة، ولا العدالة الاجتماعيّة بعد أن حولت مشروعها الاقتصاديّ إلى رأسماليّة الدولة، فتشكلت قوى اجتماعيّة جديدة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة التي سرقت أموال الشعب والوطن. هذا في الوقت الذي غلب على قياداتها شهوة السلطة فراحت تمارس تسويات سياسيّة وثقافيّة كان من أبرز نتائجها المدمرة، أن أحيت المرجعيات التقليديّة واتكأت على القوى الدينيّة السلفيّة لكسب رضا الشعب باسم الدين، فكانت النتيجة تدمير كل ما بنته خلال عقود من الزمن في بنية الدولة من قبل القوى اليمنيّة بكل أشكالها وفي مقدمتها القوى الأصوليّة الدينيّة، كما خسرت قوى اليسار والوسط معا.

إن ما يعيشه عالمنا العربيّ اليوم من فوضى على كافة المستويات تظهر نتائجه واضحة في حالات الجوع والفقر والهجرة التي يعانيها المواطن العربيّ، هذا إضافة إلى ارتماء أكثر هذه الأنظمة في أحضان دول أجنبيّة بهدف حماية الطبقة الحاكمة من شعوبها بسبب ما مارسته من سياسات انانيّة ضيقة تصب في مصلحتها وليس مصلحة شعوبها خلال عشرات السنين.3175 عدنان عويد ومراد غريبي

س7: ا. مراد غريبي: السياق الجدليّ حول الحريّة في الفكر العربيّ لأكثر من خمسة عقود تراوح بين ثنائيات الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة ، التراث والحداثة، كيف يمكن العبور من الجدل إلى التأسيس الثقافيّ لفعل الحريّة؟

ج7: د. عدنان عويد: لقد تكلمنا عن الحريّة وواقعها في الخطاب السياسيّ عند إجاباتنا السابقة، أكثر من تكلمنا عنها في الجانب الفكريّ، وقد كان للقوى الحاكمة الدور الكبير في الحجر على حريّة الفرد والمجتمع، والنيل من الفكر العقلانيّ ومحاسبة حوامله الاجتماعيين من ابن رشد حتى حامد أبي زيد. لذلك دعنا نجيب عن هذا السؤال الذي ركز على الحريّة في الجانب الفكريّ، والتي تجلى الصراع حولها من خلال الصراع بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والتجديد.. بين العقل والنقل.. وغير ذلك من مفاهيم تدور حول علاقة الفكر المعاصر مع التراث بكل ما يحمله هذا الفكر بشقيه من دلالات.

نقول: مع بدء حركة التحرر العربيّة من الاستعمار الغربيّ في عالمنا العربيّ، بدأت تظهر لنا حركة فكريّة جديدة ذات توجهات يساريّة وليبراليّة في العديد من الأنظمة العربيّة وخاصة في الأنظمة التي انتهجت الخط القوميّ الاشتراكيّ طريقاً لها، أو الأنظمة التي تأثرت بعلمانيّة أتاتورك والفكر الليبراليّ عموماً. ففي هذه المرحلة الممتدة من ستينيات القرن الماضي حتى نهاية العقد التاسع من القرن ذاته، أي حتى قيام الثورة الخمينيّة في ايران وبدء تأثيرها على الساحة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة، كان هناك حراك ثقافيّ تنويريّ مشبع بالفكر اليساريّ والليبراليّ، الذي ترك أثره المباشر على فكر حتى المفكرين الإسلاميين الذين راحوا يعيدون قراءة النص التراثيّ قراءة معاصرة تسعى إلى فتح النص الدينّي على العقل، كما عمل حسن حنفي في كتابه التراث والتجديد، وعلي عون قاسم، وحسن صعب في كتابه الإسلام وقضايا العصر وغيرهم من المفكرين الذين وجدوا في انتشار الفكر اليساريّ ومنهجه الماديّ التاريخيّ، تحديّاً حقيقيّاً للخطاب الإسلاميّ في صيغته الوثوقيّة السلفيّة المتمسكة بالنقل والرافضة لاستخدام العقل وفتح النص المقدس على مخزونه الدلاليّ الإنسانيّ.

نعم لقد كان لانتشار المشاريع الفكريّة التي تناولت التراث وضرورة التجديد، كمشروع الطيب تيزيني من التراث إلى الثورة، أو مشروع الجابري في بنية العقل العربيّ، أو مشروع حسين مروة النزعات الماديّة في في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، أو مشروع حسن حنفي التراث والتجديد، ولا حقاً مشروع حامد أبي زيد، وغيرها من مشاريع فكريّة، أو كتب منفردة لكتاب يسارين مثل الكاتب أحمد عباس صالح في كتابه اليمين واليسار في الإسلام، فكل هذه المعطيات الفكريّة اشتغلت على مفهوميّ الأصالة والمعاصرة، ودور القوى الاجتماعيّة في صناعة التاريخ، دون أن نغفل تلك الندوات الفكريّة التي أعدتها مؤسسة دراسات عربيّة، كندوة التراث والتجديد، أو ندوة الكويت المشهورة حول (أزمة الحضارة العربيّة). دون أن ننسى الندوات الكيرة التي قامت أيضاً حول القضايا المعاصرة كالديمقراطيّة والعلمانيّة والفكر القوميّ وربط العروبة بالإسلام، وما قدمته كذلك مجلة الوحدة من محور كثيرة حول قضايا النهضة والتحرر والتنمية. إن كل هذا النشاط الفكريّ في تلك الفترة كان للحريّة دورها فيه، إن كان من حيث رضا الأنظمة الحاكمة في الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة على تناول هذه الدراسات والحوارات من جهة، كما هو الحال في سورية على سبيل المثال لا الحصر كتلك الحوارات التي كانت تدور في ثمانينيات القرن الماضي بعد أحداث الإخوان في سوريّة بين محمد رمضان البوطي والطيب تيزيني على شاشات الإعلام السوري، أو على مدرجات جامعة دمشق، أو إن الحريّة راحت تدخل جوهر عالم المقدس من التراث من جهة ثانيّة، ومحاولة نقده وتبيان ما يخدم واقعنا المعاصر منه، وما يضره وضرورة التخلي عنه، ومع ذلل كانت هناك من قبل ناقدي التراث وجهات نظر عقلانيّة لم ترفض التراث كله، بل دعت غلى استلهام التراث وضرورة توظيف ما هو إيجابي فيه لمصلحة المعاصرة ودعاتها من سياسين ومفكرين يعملون لمصلحة الشعب وقضاياه المصيريّة.

إن كل هذا الحراك الفكريّ العقلانيّ الذي جئنا عليه راحت تخفت أضواءه، في الوقت الذي أخذ فيه الفكر الأصوليّ السلفيّ يتخذ له مواقع قويّة على الساحة الفكريّة العربيّة مع قيام الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أولا، ثم ابتعاد القوى الحاكمة في الأنظمة القوميّة الاشتراكيّة عن استراتيجياتها الثوريّة التي بشرت بها عند استلامها السلطة، وبدء التزلف للقوى الإصوليّة التي وقفت ضدها قبل قيام هذه الثورة، ثانياً، هذا التزلف الذي كانت له أسبابه الموضوعيّة والذاتية أيضاً وهي:

1- فشل الأنظمة التي ادعت العلمانيّة والتقدم في تحقيق مشاريعها التنويريّة على كافة المستويات، ومنها الاقتصاديّة والسياسيّة، وغُلْبَتْ شهوة السلطة عليها التي حولتها إلى أنظمة شموليّة استبداديّة لم يعد الشعب يثق بها.

2- الثورة الإسلاميّة في ايران وإحياء المشروع الأصوليّ السلفيّ وخاصة الإخوانيّ منه الذي لقى الدعم من قادة الثوة الايرانيّة ذاتها.

3- دور الحركة الوهابيّة والقوى السياسيّة الداعمة لها في السعوديّة بشكل خاص، لنشر الفكر الأصوليّ بصيغته السنيّة لمواجهة مشروع الثورة الإسلاميّة الخمينيّة الشيعيّة، وبالتالي ظهور ما يمكن تسميته بحمى الفكر الأصوليّ بشقيه السني والشيعي على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة.

4- انتشار الفقر والحرمان والاضطهاد السياسيّ على مستوى الساحة العربيّة، بسبب طبيعة الأنظمة الشموليّة التي فرخت قوى طبقيّة من البرجوازيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة التي نهبت ثروات الدولة والمجتمع من جهة، ثم ظهور النظام العالميّ الجديد بصيغته الراسماليّة المتوحشة التي راحت عبر الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالميّ من خلال اتفاقيّة الجات وصندوقيّ النقد الدوليّ والبنك الدوليّ للإعمار والتنمية، أو من خلال دخول الرأسمال الوطنيّ المنهوب في دول العالم الثالث من قبل حكام هذه الدول وفاسديها في عالم الرأسمال الاحتكاريّ والتحالف معه ضد مصالح الشعوب.

5- تراجع الفكر العقلانيّ التنويريّ عن دوره في توعية الشعب العربيّ، وكشف دور ومكانة الفكر الصوليّ السلفيّ، وبدء انتشار هذا الفكر بصيغته الجهاديّة التكفيريّة عبر القاعدة وفصائلها، وهذا ما رحنا نلمس نتائجه مع ثورات الربيع العربيّ الذي أسلم هذه الثورات، وراح يتعامل مع الواقع من منطلق ايديولوجيّ جموديّ يريد للواقع أن يرتقي بحد السيف إلى النص المقدس كما فسروه هم وأولوه، وهنا رحنا نعيش ردّة فكريّة وسلوكيّة معا، اتخذت من القرون الهجريّة الثلاثة الأولى منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً لها.

س8: ا. مراد غريبي: واقع الهويات في المجال العربيّ يعكس أزمة إشكال تاريخيّ حول الحريّة، هل الخصوصيات الاثنيّة والدينيّة والطائفيّة والثقافيّة أصبحت عبءً على بناء مرجعية ثقافيّة جامعة لوعي الحريّة المشتركة وترجمتها في عقد اجتماعيّ مناسب؟

ج8: د. عدنان عويد: إن من إشكاليات النهضة والتقدم والتنمية، وأخيراً الاستقرار الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ في عالمنا العربيّ هو تعدد مكونات هذه الأمّة الدينيّة والأثنيةّ.

وهذا التعدد الدينيّ والاثنيّ، لعبت فيه عوامل تاريخيّة قديمة أهمها، ما سميّ بالفتوحات الإسلاميّة، التي جمعت تحت مظلة الخلافة شعوباً كثيرة لها ثقافاتها ومكونات وجودها الخاصة بها لم يستطع خلفاء هذه الأمّة وقادتها صهر هذه المكونات في بوتقة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة واحدة، رغم أن الأيدولوجيّة الدينيّة في سياقها الفكريّ العام هي دعوة للتوحد من جهة، ودعوة لنشر العدالة والمحبة والتسامح من جهة ثانية، ولكن شهوة السلطة وتركيز الخلافة تاريخيّا في البيت القريشيّ ساهم في خلق نزعات قبليّة منذ السقيفة، ثم راحت تتوسع هذه النزعات لتتحول إلى صراعات مع وصول الأمويين والعباسيين للسلطة، حيث رحنا نجد تلك المعاملات غير الإنسانيّة تجاه الموالي من الأقليات الدينيّة والعرقيّة، هذه الأقليات التي لم ترض بدورها عن ذلها وإهانتها، وعبرت عن ذلك في ردود أفعال سياسيّة وثقافيّة كثيرة ظهرت بأعلى صورها مع ما سمي بالحركة الشعوبيّة في زمن ضعف الدولة العباسيّة، هذه الحركة التي راحت تنال من العرب ومكانتهم التاريخيّة وثقافتهم، فكان للكتاب والمؤرخين العرب ردود أفعالهم اتجاهها على عدّة مستويات، حيث ظهرت كتب تدافع عن اللغة العربية وأهميتها ودورها كلغة القرآن، كما وجدت كتب تدافع عن العرب ونسبهم وغير ذلك ككتاب تاريخ أنساب الأشراف للبلاذري، والبيان والتبيين للجاحظ. والأصمعيات والمعضلات للضبي، وكتاب المعارف لابن قتيبة، وكان هناك فتوح البلدان، وغير ذلك.

إن هذا التعدد في مكونات هذه الأمّة، ظل قائماً ونشطاً منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. وقد لعب المستعمر الأوربيّ في تاريخنا الحديث والمعاصر على وتره من أجل إضعاف هذه الأمّة أكثر مما هي ضعيفة، وبالتالي السيطرة عليها والتحكم بمقدراتها، وقد ساعدها علي ذلك أنظمة سياسيّة متخلفة لم تراع خصوصيات واقعها، فراحت تشتغل بعقليّة العشيرة والقبيلة والطائفة في إدارة أمور بلادها، رغم أن بعض هذه الأنظمة ادعت العلمانيّة والديمقراطيّة والمواطنة ودولة المؤسسات، ولكن كل ما كانت تدعي به، ليس أكثر من شعارات براقة لتلهي به من تحكمهم وتذر الرماد في عيونهم، في الوقت الذي تمارس فيه سراً وعلناً كل ما يساعد على تفتيت اللحمة الوطنيّة وزرع الحقد والكراهية بين مكونات شعوبها.

من هذا المنطلق الذي جئنا عليه، لم تزل النزعة الفرعونيّة قائمة، وكذلك الفينيقيّة والأمازيغيّة والبربريّة والكرديّة والتركمانيّة، يضاف إليها النزعات الدينيّة على مستوى الديانات الكبرى وتفرعاتها الطائفيّة والمذهبيّة، من سنة وشيعة.. فالسنة مثلتها المذاهب الأربعة المعروفة، والشيعة توزعت طوائف ومذاهب وفرق أيضاً، وكل من هذه المذاهب والطوائف يتربص ببعضه ويحاول النيل من فكره الدينيّ ومكانته الاجتماعيّة والسياسيّة،. وهذا الصراع بينها وجدت فيه القوى الاستعماريّة منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، الأداة الفعالة في تقسيم واضعاف هذه الأمّة. فهذه حملات التبشير كما بينا سابقاً قامت باحتضان هذه الأقليات والعمل على تفتيتها من جهة، بحيث رحنا نجد الطائفة الدينيّة الواحدة تتناهبها الدول الاستعماريّة المسيطرة وتحاول كل دولة ضم قسم منها لصالحها، فطائفة السريان العرب راحوا يتفتتون إلى سريان كاثوليك وسريان بروستانت وسريان لاتين.. الخ.

إن مشكلة الأقليات الدينيّة والعرقيّة في عالمنا العربيّ تحولت اليوم كحصان طروادة بيد الغرب وامريكا والصهيونيّة في عالمنا العربيّ، فكل مكون التجأ لقوى أجنبيّة تحميه وتقدم له الدعم الماليّ والسياسيّ من أجل انفصاله عن جسد الأمة العربيّة، أو من أجل إيجاد خلل في استقرار هذه الدولة أو تلك واستنزاف أموالها في حروب أهليّة لم تعد خافية على أحد.

لاشك أن كل الذي جئنا عليه هنا، ساهم في خلخلة المسألة الثقافيّة أيضا، فبدلاً من استخدام الفكر العقلانيّ التنويريّ من أجل وحدة هذه الأمّة ونهضتها، رحنا نجد توجهات محمومة نحو بلورة لغات تتعلق بهذه الأقليات، وتوجهات فكريّة ذات نزعات عرقيّة أو طائفيّة، كلها تعمل على إضعاف هذه الأمّة وزعزعت استقراها.

س9: ا. مراد غريبي: بين الايديولوجيا والحريّة قصة معقدة، ما هو مفهوم الأيديولوجيا، وما هو الفرق بينها وبين الوعي المطابق، ولماذا عربيّا نتأدلج أكثر مما نتحرر، نتصادم أكثر مما نتحاور، أين نحن من ثقافة الاختلاف الحضاريّة؟

ج9: د. عدنان عويد: عرفنا الحريّة في موقع سابق من إجاباتنا على هذه الأسئلة، وقلنا هي تعني في سياقها العام، وعي الضرورة، أو الضرورة الواعيّة كما يقول " سبينوزا وهيجل وماركس "، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعيّ اتجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

أما تعريفنا للأيديولوجيا: فهي أيضاً في سياقها العام، مجموعة الآراء والأفكار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تعبر عن واقع أمّة ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة. لها حواملها الاجتماعية، وهي لا تفرخ مجردة، أنها تاريخية بامتياز، تصوغها حواملها الاجتماعيّة للتعبير عن مصالحها.

ما أريد التأكيد عليه هنا، هو: إن أيّة نظريّة أو أيديولوجيا عندما تنغلق على نفسها وتتحول إلى مكوّن فكريّ منعزل عن الواقع ومتعالي عليه، وغير قادر على استيعاب حركته وتطوره وتبدله وكل مكوناته الاجتماعيّة، عرقيّة كانت أو ودينيّة بكل مفرداتها المذهبيّة والطائفيّة وآليّة حركتها، سيتحول هذا المكوّن الفكريّ (الأيديولوجيا أو النظريّة)، إلى قوة فكريّة وماديّة سكونيّة، جامدة، فاقدة لحيويتها، وبالتالي ستعرقل عبر ممارستها حركة الواقع بدلاً من تقدمه، وستجعل من حملتها الاجتماعيين مجرد أدوات منغلقة هي أيضاً على نفسها عقليّاً واجتماعيّاً (طبقيّاً) وسياسيّاً، يمارسون عصبويتهم وعنصريتهم وفوقيتهم ونخبويتهم وتمايزهم عن الآخرين من جهة، ثم ليّ عنق الواقع الذي يعشون فيه كي يرتقي دائماً إلى نظريتهم أو أيديولوجيتهم وبالتالي مصالحهم، حتى ولو رجعوا بهذا الواقع مئات السنيين إلى الوراء. وبالتالي فكل من يخالفهم في الرأي هو في المحصلة إما خائناً أو عميلاً ضد الدولة، هذا بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الوضعيّة عندما يكونون في السلطة أو خارجها، أو مبتدعاً وخارجاً عن أهل الفرقة الناجيّة والجماعة بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الدينيّة إن كانوا في السلطة أو خارجها أيضاً. وهنا تكمن الخطورة، حيث يبدأ تشكل التطرف من قبل كل حملة هذه الأيديولوجيات المغلقة الوضعيّة منها والدينيّة، وما يرافق هذا التطرف من إرهاب واستخدام لوسائل القمع والمنع في محاربة الآخر واقصائه، حيث تصل درجة المحاربة إلى حد التصفية الجسديّة في أحيان كثيرة. ولكن في المقابل تستطيع هذه الأيديولوجيات الدينيّة أو الوضعيّة أن تتحول إلى قوة ماديّة وفكريّة تعمل على خدمة الإنسان ورقيه ونموه. أي تصبح قادرةً على مراعاة مصالح مجتمعاتها وخصوصيات واقعها المعيش. أو بتعبير آخر، تصبح قادرةً على مراعاة حركة هذا الواقع وتطوره عبر التاريخ، عندما لا تغريها شهوة السلطة وتجعل في أولى اهتماماتها مصالح المجتمع قبل أي شيء آخر. أي تتحول إلى وعي مطابق، له أهدافه التكتيكيّة والاستراتيجيّة معاً.

ملاك القول هنا: إن كل أيديولوجيّة أو نظريّة فكريّة تنغلق على نفسها وتعمل على ليّ عنق الواقع بكل مكوناته كي ينسجم هذا الواقع معها، أي مع مصالح حواملها الاجتماعيين إن كانوا في السلطة أو خارجها، هي أيديولوجيّة وثوقيّة جموديّة سكونيّه تعتمد على مرجعيات عصبويّة اجتماعيّة تقليديّة، طائفيّة كانت أو مذهبيّة أو عرقيّة، أو تعتمد على مرجعيّة نخبويّة تعتبر نفسها وصيّة على الجماهير، وليست هذه الجماهير بنظرها أكثر من رعايا، غير قادرين على قيادة أنفسهم، وبالتالي هي وحدها المسؤولة عن مستقبلهم وحياتهم بِعُجْرِها وبُجْرِها.

أما عندما تتحول هذه الأيديولوجيا أو النظريّة إلى (وعي مطابق).. أي تتحول إلى مجموعة من الرؤى والأفكار التي تجاري الواقع في حركته وتطوره وتبدله، وضبط هذا الواقع وخلق حالات توازن بنيويّ فيه وفقاً لخصوصياته، ومصالح بنيته أو تكويناته الفرديّة والاجتماعيّة.. فهي هنا ستتحول بالضرورة إلى ايديولوجيا منفتحة على الواقع، وخاضعة لظروفه، ومساهمة في تغيير هذه الظروف لمصحة الفرد والمجتمع.

إذاً يظل الواقع، أو ما نسميه بالوجود الاجتماعيّ وما يحمله هذا الوجود من بنى فكريّة عقلانيّة تنويريّة، هو المرجع الأساس لهذه الايديولوجيا في صيغة (الوعي المطابق). ويظل أيضاً المجتمع هو صاحب القرار النهائيّ في تحديد مسيرة حياته في حاضرها ومستقبلها، وذلك عبر ممثليه الحقيقيين الذين يختارهم أبناء المجتمع، وليس من يُفرضون عليه فرضاً باسمه من قبل قوى سياسيّة أو اجتماعيّة من داخل السلطة أو من خارجها.

ختاماً نقول: إن الأيديولوجيا عندما تتحول إلى (الوعي المطابق) تستطيع أن تحقق أولى مهامها، وهي خلق المواطنة والمواطن الذي يؤمن بهذه المواطنة، أي الفرد الذي ينتمي للدولة والمجتمع وليس لعقيدة دينيّة أو مذهبيّة أو عشائريّة أو قبليّة أو حزبيّة وصائيّة.

اما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك الكبير وهو: لماذا عربيّا نتأدلج أكثر مما نتحرر، نتصادم أكثر مما نتحاور، أين نحن من ثقافة الاختلاف الحضاريّة؟

إن الأيديولوجيا المغلقة تنمو وتترعرع في المناخ الاجتماعيّ المتخلف، وكلما كان التخلف أكثر عمقاّ في هذا المجتمع أو ذاك، كلما أغرقت الأيديولوجيا في الفاشية في صيغتيها الوضعيّة والغيبية. وهذا هو حال مجتمعاتنا ودولنا المغرقة بالتخلف، رغم ما حصل فيها من تطور على المستوى الماديّ، وخاصة في القاعدة الخدماتيّة والعمران السكنيّ والحكوميّ، أو على مستوى الصناعة من خلال إيجاد صناعات تكميليّة، أو تجميعيّة، أو صناعات اللمسات الأخيرة، ولكنها ظلت متخلفة وبعمق في الجانب الفكريّ. وهذا ما ساهم في وجود الأيديولوجيا الجموديّة الاقصائيّة. فعلى المستوى الوضعيّ وجدنا حضوراً للأيديولوجيا القوميّة والاشتراكيّة، ولكن الأحزاب المتبنية لها حولتها إلى إيديولوجيا مقدسة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، وكل من يحاول انتقادها من داخل بنيتها التنظيميّة، يعتبر منحرفاً فكريّاً عن الخط الأيديولوجي للحزب ويجب طرده من التنظيم أو تصفيته جسديّا إذا اقتضت الحاجة، وبالتالي كثيراً ما يتم تغيير بعض مفاهيم هذه الأيديولوجيات عن طريق العنف واستخدام القوى العسكريّة لتحقيق هذه المهمة. أما بالنسبة للقوى التي هي من خارج التنظيم، فعندما تقوم بنقد ايديولوجيا الأحزاب الحاكمة، مهما تكون هذه القوى يمينيّة أو يساريّة أو معتدلة ليبراليّة، فهي قوى خائنة ومرتبطة بالخارج تريد النيل من الأحزاب الحاكمة ومهمتها التاريخيّة المنوطة بها، وفي مثل هذه الحالة ستجد أبواب السجون والمعتقلات مفتوحة امامها، وقد تكون النتيجة عقود من السجن أو التصفية الجسديّة للمعترض والمنتقد لهذه الأيديولوجيات، وسجون ومعتقلات الأنظمة الديمقراطيّة الثوريّة وغيرها من الأنظمة العربيّة التي حكمت باسم القوميّة والاشتراكيّة، مثالاً على ذلك.

هذا الموقف العدائيّ والتنكيليّ بالمختلف، نجده عند القوى الأصوليّة السلفيّة الإسلاميّة، التي اتخذت من الدين ايديولوجيا لها، وجعلت من الحاكميّة لله منطلقاً لسياساتها عندما كانت خارج السلطة، أو عندما وصلت إليها في بعض الدول العربيّة بعد حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ.

إن ممارسة العنف من قبل هذه القوى الأصوليّة الجهاديّة فاقت كثيراً شدّة العنف الذي مارسته القوى السياسيّة ذات التوجه الوضعيّ أيديولوجياً، فما جرى ويجري في سورية والعراق وليبيا من ممارسة للعنف اتجاه المختلف يصل إلى درجة التوحش، في أسباب القتل أو أساليبه، وداعش كانت انموذجاً حيّاً على ذلك.

إن قبول الآخر مسألة ترتبط في تطور الوجودين الماديّ والفكريّ للمجتمعات والدول، فالتقدم الماديّ لوحده لا يحقق استقراراً في الدولة والمجتمع، والتقدم الفكريّ لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوازي مع التقدم الماديّ، وهذه معادلة أثبت صحتها الواقع الأوربيّ في سياق تطوره. فتطور الثورة الصناعيّة رافقه بالضرورة تطور في الفكر الفلسفيّ والقيميّ والفنيّ والأدبيّ الذي اشتغل على توعية الفرد والمجتمع مئات السنين حتى استطاع تخليصهم من حروبهم الدينّية والعرقيّة تجاه بعضهم. بغض النظر هنا عن ما مارسته الرأسماليّة المتوحشة من قهر لشعوبها وشعوب العالم بعد أن امتلكتها شهوة السلطة وشهوة المال معاً كما نشاهد اليوم في النظام العالميّ الجديد.

نحن في الحقيقة بحاجة لثورتين متوازيتين في خط سيرهما، ثورة ماديّة صناعيّة زراعيّة تنكنولوجيّة، وثورة فكريّة تجسد في عقل الفرد والمجتمع قيم النهضة والتقدم وقبول الرأي والرأي الأخر، أو احترام المختلف والدفاع عن حقه في هذه الحياة.

إن التقدم في سيرورته وصيرورته كعربات القطار تسير كلها معاً في وقت واحد، وتقف كلها معا في وقت واحد.

س 10: ا. مراد غريبي: المرحلة الراهنة للفكر العربيّ تتجه نحو المزيد من التأزم والعنف والتناقض. ولعل مرد ذلك لإشكاليات المناهج والتراث وقضايا المدنيّة والحداثة والتنوير وغيرها كثير مما استهلك ضمن مقتضيات ملء الفراغ، ماهي بنظركم أهم العوامل الذاتيّة والموضوعيّة التي أنتجت مجتمعا عربيّا استهلاكيّا لمعضلات التراث وإخفاقات التاريخ أكثر من وعي معالم التقدم والنهوض؟

ج10: د. عدنان عويد: أعتقد أننا أجبنا عن مضمون أو مضامين هذا السؤال في إجاباتنا السابقة، وقد حددنا العوامل التي ساهمت في إنتاج مجتمعنا الاستهلاكيّ لمعضلات الفكر الوضعيّ بكل تياراته، إضافة للفكر السلفيّ الأصوليّ، وقد حددنا أهم هذه العوامل بالتالي:

1- تخلف البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة للوجود الاجتماعيّ للدول العربيّة منفردة بشكل خاص، ولها مجتمعة بشكل عام.

2- هيمنة التراث بصيغته الوثوقيّة السلفيّة وتحكمه في فكر وسلوك الفرد والمجتمع حتى اليوم، من خلال الاعتماد على النقل بدل العقل، وقياس الشاهد على الغائب.

3- سيادة الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، واتكائها على العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب في إدرارة الدولة والمجتمع.

4- غياب البنّية الطبقيّة الواعيّة لذاتها، والقادرة على العمل لمصلحتها ومصلحة شعوبها، أي غياب الوضوح الطبقيّ بسبب تداخله، وسيطرة الكتلة الاجتماعيّة الأكثر تنظيماً عليه هنا ممثلة بالعسكر، على الحياة السياسيّة خدمة للقوى الحاكمة بصيغتها التي جئنا عليها أعلاه.

5- اقتصار الفكر التنويريّ على النخب المثقفة، رغم ما تعانيه هذه النخب من إقصاء من قبل القوى الحاكمة، والمؤسسات الدينيّة الخادمة لها.

6- السيطرة غير المباشر للقوى الاستعماريّة على معظم القيادات السياسيّة الحاكمة في عالمنا العربيّ، هذه القيادات التي وجدت بالمستعمر حليفا استراتيجياً لها ضد شعوبها المجهلة والمفقرة والمغربة والمهجرة بسبب سياساتها اللاعقلانيّة واللاأخلاقيّة معا.

س11: ا. مراد غريبي: ثمة تناقضات أيديولوجية حادة في التراث الدينيّ أربكت الفكر العربيّ المعاصر، حيث عقدت طرح الإشكالات الاستراتيجيّة، الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقديّة للتراث تذهب إلى جذور المآزق التاريخيّ في مدوناته وإفرازاته، من أجل تجاوز دوامة الإخفاق التي تحاصر الواقع العربيّ داخل دائرة فوضى التنظير، هل الخلاص في العلمنة أم الدين وأي حاجة لكلاهما؟

ج11: د. عدنان عويد: إن مشكلتنا مع التراث لإسلاميّ بشكل عام، والنص المقدس منه (قرآن وحديث) بشكل خاص، ابتدأت بعد وفاة الرسول بشكل عمليّ من خلال الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار وتوظيف حديث للرسول يقول: (الخلافة في قريش)، ثم من خلال تفسير النص وتأويله فيما بعد.

إن الرسول كان يدرك أن القرآن حمال أوجه وهو القائل: (القرآن ذلول حمال أوجه فخذوه على وجهه الحسن)، وهو في ذلك مصيباً كونه يدرك دلالة الآية السابعة من آل عمران التي تقول: (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ). فالآية واضحة في دلالاتها المعرفيّة من جهة، وبالحوامل الاجتماعيّة ممن في قلوبهم زيغ، الذين سيوظفون هذا النص لمصالحهم من جهة ثانية. لذلك على هذا الموقف المعرفيّ والسلوكيّ جاءت تلك الصراعات الفكريّة والسياسيّة التي كلفت الدولة والمجتمع منذ السقيفة حتى اليوم الكثير من الدماء، والتي لعبت على وترها السياسة، تحت مظلة تفسير النص الدينيّ وتأويله خدمة لأجندات كثيرة، أدت إلى انقسام المجتمع العربيّ الإسلاميّ إلى ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة تقول هي الفرقة الناجية.

إن من يتابع المسيرة الفكريّة للخطاب الإسلاميّ من السقيفة حتى اليوم، يجد تلك التناقضات والخلافات على مستوى علم الكلام والفقه، فعلى مستوى علم الكلام، كان هناك المعتزلة وخطابهم العقلانيّ الذي يبجل العقل وحريّة الإرادة في تقرير الإنسان لمصيره، وقد اتكأ عليه المناوئون للسلطة الحاكمة التي قالت: إن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وإن السلطات الحاكمة يجب أن تحاسب على أخطائها لكونها من فعلها هي. وكان هناك الفكر الجبريّ الذي اتكأت عليه السلطة الحاكمة، التي كانت تسوق للرعيّة بأن سلطتها مقدرة من قبل الله وما عليهم إلا الطاعة والرضوخ لإرادة الله، وكل من يخرج على السلطات الظالمة هو يخرج بالضرورة على ما قدره الله له، حتى ولو كان الحاكم فاسقا وفاسدا. وهذا الموقف الجبريّ سوق له التيار الحنبليّ والأشاعرة والماتريديّة، وعلى هذا الصراع الفكريّ المتكئ أصلاً على النص المقدس كما أشرنا أعلاه، توقف عليه الموقف الفقهيّ ذاته، وظهور المداس الفقهيّة كالشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة والحنفيّة، بالرغم من أن المذهب الحنفي يأخذ بالرأي، إلا أن بقية المذاهب الأخرى المغرقة بالجبر قد حاربت أصحاب هذا المذهب، وعملت على تحجيمهم، ولكن دوره أو حضوره لقي حظوة عند السلطات الحاكمة، التي تريد تبرير ما تقوم به من أفعال لا ترضي بقيّة المذاهب الجبريّة.

إذن إن الصراع الفكريّ جاء من طبيعة النص المقدس ذاته كونه حمال أوجه من جهة، ومن موقف الذين في قلوبهم زيغ الذين فسروا هذا النص وأولوه لمصالحهم ومصالح القوى الحاكمة التي يعملون في خدمتها من جهة ثانية. أما الضحيّة فهم الرعيّة، الذين لا حول لهم ولا قوة... الرعيّة التي كان ولم يزل وعيها مغيباً عن حقيقة هذا النص المقدس، وعن من قام بتفسيره وتأويله لاحقاً لهم. وبالتالي كانت الرعيّة في المفهوم القروسطيّ، والجماهير في المفهوم المعاصر، ليست أكثر من حطب وقود لأيديولوجيا مفوّته حضاريّا، ولقوى اجتماعيّة تشتغل عليها حتى اليوم خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة. وأن كل ما جرى ويجري اليوم من حروب أهليّة وصراعات طائفيّة ومذهبيّة، وراءها قوى اجتماعيّة وسياسيّة لها مصالحها التي تريد تمريرها عبر الخطاب الديني نفسه، مستغلة تلك التناقضات العميقة فيه التي أشرنا إليها أعلاه.

أما بالنسبة لمسألة الخلاص من المأزق الذي نحن فيه اليوم، أعتقد أن الخلاص منه لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالأمنيات أو الدعاء لله كي يخلصنا مما نحن فيه من مآسي، راحت تزداد علينا يوماً بعد يوم، بالرغم من تكاثر عدد المساجد في عالمنا العربيّ والصرف عليها مليارات الدولارات لتزيينها بالموزايك والصدف والأرابيسك وحتى بالذهب. ولن يأتي الخلاص أيضا من قبل القوى الحاكمة التي وظفت الدين لمصالحها الأنانيّة الضيقة، وتاجرت بالعلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون، ووظفت كل ذلك لمصالحها أيضا. إن الخلاص بحاجة لقوى اجتماعيّة مؤمنة بوطنها ومصالحه، وبالتالي مصالح الجماهير المعذبة والمسحوقة والمغربة والمستلبة والمشيئة.. إن الخلاص بحاجة أيضاً لثورة عقلانيَّة تنويرية تؤمن بالإنسان ودوره في تقرير مصيره.

ربما يسأل الكثير اليوم من هي هذه القوى الاجتماعيّة المؤهلة لحمل المشروع النهضويّ التنويريّ في عالمنا العربي؟.. أقول: هي القوى التي ستظهر من أقبية الظلام والجهل والمعاناة والفقر والجوع والحرمان.. وإن كل الظروف مهيأة اليوم لخروجها، وهذا الفرق بين فكرة الإمام المنتظر لتحقيق الخلاص لدى الشيعة والسنة، أو المسيح المخلص لدى المسيحيّة وحتى اليهوديّة. إن المخلص هنا هم القوى المسحوقة من الشعب التي فقدت كل شيء إلا كرامتها وقدرتها على التغيير.

س12: ا. مراد غريبي: التراث مستويات وكل مستوى متوقف على مدى تأثيره في الراهن، كما أننا في قبال الحداثة والتجديد والعلمانيّة يبرز عنوان التقليد والرجعيّة وما هنالك، فأي تراث نستهدف قراءته وتصحيحه وتمحيصه وماهي المستويات الأخطر فيه؟ وهل يمكن التعامل مع التراث بنظم التثاقف؟

ج12: د. عدنان عويد: نعم للتراث مستوياته المعرفيّة ( الأبستمولوجيّة)، التي اختزلها الجابري في كتابه (بنية العقل العربيّ)، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا بطبيعة الحال، ما بين عقل بيانيّ، وآخر عرفانيّ، وآخر برهانيّ، وأخيراً العقل السياسيّ.

فالتراث العربيّ في سياقة العام هو هذه الأنساق المعرفيّة. فإذا كان العقل البيان قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبية واستعارة وتمثيل وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تاويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة من حيث قراءة النص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، وفقاً لمواقف وجوديّة مثاليّة من الحياة، أهم ما فيها هو أكراه الجسد واقصائه عن عالمهم، ليتفرغوا للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيوش، والارتقاء بها إلى المصاف العليا، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، أو الوصول إلى وحدة الوجود كما فعل ابن عربي على سبيل المثال لا الحصر، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة الكبار أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخهم يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة. اما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربي الإسلاميّ أيضاً على إعادة قراءة وتأويل النص ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفي اليوناني (المنطق الأرسطي) بشكل خاص، لقد تأثر بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقية، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع تفسير النص وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، فكان لهم الحكام ومشايخهم بالمرصاد دائما، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتلهم. أما العقل السياسيّ فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفية وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك الماوردي في كتابه (احكامه السلطانيّة)، وبدر الدين بن جماعة في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). وابو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانيّة).

هذا وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ اشتغل على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.

هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ لمئات السنين ولم يزل، هذه البنية المفوّتة حضاريّاً، خلقت في عالمنا العربي (أسرى الوهم)، الذي تحول بدوه بفعل القوى السياسيّة الحاكمة ومشايخها وبعض التيارات السياسيّة الداعية إلى الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكرياً وسلوكياً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.

إذا إن أسرى الوهم، أو الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، قد أسرتهم حقائق العقائد الدينيّة وشروحاتها وطقوسها ورمزها، ووعودها بتعويضهم عن ما عانوه من حرمان في واقهم المعيوش، بالفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي بينته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها التي قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى، كمإ أن هذا الأسر ارتبط أيضاً في المستقبل الذي رسمته لهم هذه الكتب ذاتها حيث اُعتبر الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك رغبة بما تشي به أحلام المستقبل.. الجنة.

إذن، إن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ تكمن فيه معرفة طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضر يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما يدعي من جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر أولاً، ثم عذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد ثانياً.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانية وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.

على العموم إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة،   وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبية منها والايجابية فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة، يأتي الشق الآخر من السؤل وهو أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟

نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكر المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد كل البعد في معظمه عن المناهج العقلانيّة الحديثة، نحن بأمس الحاجة لقوى اجتماعيّة منسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة، قوى اجتماعيّة مومنة باوطانها وبالمواطنة ذاتها، تعمل على محاربة واقصاء المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب، ومؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويري الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). في حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعول كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها.

 

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

 

 

3030 مراد ومحمودالمثقف: الحلقة الثالثة من مرايا فكرية مع الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الثالث: عن الإصلاح الديني في مصر (التاريخ، الأعلام، الآفاق)

س17: أ. مراد غريبي: بداية لابد من الضبط المفاهيمي: ماذا يعني الإصلاح الديني عربيا و إسلاميا، و هل هناك تداخل مفاهيمي بين الإصلاح و التجديد و التحرير و التنوير، و ماهي أوجه التمايز بينها، ثم أي مجال للإصلاح الفكر فقط أم على عدة مستويات في الحياة؟

ج17: د. محمود محمد علي: بالنسبة لسؤال ماذا يعني الإصلاح الديني عربيا وإسلاميا؟ .. أقول لا يوجد ما يسمي بالإصلاح الديني عربيا وإسلاميا، ففكرة الإصلاح الديني فكرة مسيحية بروتستانتية انبثقت كحركة داخل المسيحية الغربية في أوروبا في القرن السادس عشر حيث شكلت تحديًا دينيًا وسياسيًا للكنيسة الكاثوليكية الرومانية والسلطة البابوية بشكل خاص، ومن ثم ففكرة الإصلاح الديني جاءت نتيجة لوجود اعتقاد الأوربيين بوجود انحراف في الدين ويحتاج إلى إصلاح .. بينما لدينا نحن المسلمون الدين بالنسبة لنا ثابت الأركان ومن ثم لا يمكن تطبيق فكرة الإصلاح الديني، إلا من خلال تجديد ما يسمي بالخطاب الديني.

أما فيما يخص التمييز بين الإصلاح والتجديد والتحرير والتنوير فأقول بأن الإصلاح والتجديد مرتبطان معا، فالبعض يعتبرهما مترادفان فيستعملون كل واحد منهما مكان الآخر، ولكن في نظري هناك فرق بينهما، فالإصلاح يفترض نقصا ما في الواقع. وقد يصل هذا النقص إلى  درجة الخلل وهذا يستلزم شيئا من الهدم وإعادة البناء، ولذلك فإن الإصلاح يقتضي أيضا عدم التسليم بالموروث واعتبار أن خطئا ما قد وقع عند السابقين فهما أو تطبيقا أو هما معا.. أما التجديد فيتمثل في عملية إضافة جديدة لا تنكر علي القديم بالهدم أو البطلان بل تُضيف الجديد الذي يحتاجه العصر وموقفها من القديم مبني علي فكرة القائم بواجب الوقت، وان السابقين قد قاموا بواجب وقتهم بناءا علي مقتضيات حياتهم وأزمانهم وأنهم حققوا نجاحات، وأن لكل عصر واجب يختلف عن واجب العصور السابقة، ولذلك فمع احترامنا للموروث إلا أننا لا نقف عنده ولا نقف ضده،بل نحترمه ونضيف إليه ونعيد صياغة مناهجه بصورة تتسق مع ما أضفناه من مناهج جديدة أيضا.. وأما التحرير والتنوير فهما مرتبطان معا، وإن كان هناك فرق واختلاف بينهما، فالتحرير فيعني التحرر من الأفكار الدوجماطيقية التي تعوق الإنسان نحو التفكير العلمي، والتحرير هنا مهامه نبذ التقليد والدعوة إلى الإبداع الفكري والعملي ..أما التنوير فهو مصطلح أوربي يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية في القرن الثامن عشر قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة.

وفيما يتعلق بسؤال أي مجال للإصلاح الفكر فقط أم على عدة مستويات في الحياة؟ .. فأقول فالإصلاح يكون على عدة مستويات وذلك لأن الإصلاح ينجب شامل ومرتبط بالثقافة السائدة على كافة المستويات: الفكرية والاقتصادية والاجتماعية .. الخ.. ومن ثم يكون الفكر شاملا ومعالجا لما هو كائن وليس ما ينبغي أن يكون.

س18: أ. مراد غريبي: تعتبر مصر مركز فكرة الإصلاح الديني الحديث في العالم العربي، هل كانت البداية بعد  حملة نابليون على مصر أم قبل ذلك؟ و ما هي أهم الأسباب التي أنتجت فكرة الإصلاح الديني في مصر؟

ج18: د. محمود محمد علي: مصر بلا شك كانت كما قلتم هي مركز فكرة الإصلاح الديني الحديث في العالم العربي، والبداية لم تكن بعد حملة نابليون على مصر، فنابليون لم يكن تنويريا، بل كانت قبل ذلك عند حسن العطار والجبرتي، فلا أنسى مقولة العطار؛ التي يقول فيها:" إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم ..."، وقد أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه "رفاعة الطهطاوي"، الذي سافر بدوره إلي فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان .. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بدينهم، سواء بسواء .

وحول أهم الأسباب التي أنتجت فكرة الإصلاح الديني في مصر، هو المجتمع نفسه أو شعور الجمهور أو العقل التابع وحاجته إلى التغيير، حيث انتشر التخلف والشعوذة علاوة على الاستعمار الذي بدأ يعذوها.. 

س19: أ. مراد غريبي: ارتبط عنوان الإصلاح الديني في مصر بشخصية الإمام الشيخ محمد عبده، لماذا و ماهي أهم الشخصيات الإصلاحية التي عرفتها مصر منذ عصر الشيخ عبده و إلى زماننا هذا؟؟

ج19: د. محمود محمد علي: نعم لقد ارتبط عنوان الإصلاح الديني في مصر بشخصية الإمام الشيخ محمد عبده، وذلك لكونه على رأس المجددين للفكر الديني والتحديث وكأول رائد للإصلاح في مصر، حيث نقل فكرة الإصلاح إلى عقل وقلب المجتمع المصري في المقاهي والبيوت والأزقة والشوارع، وكأنه سقراط مصر الذي جاء ليوّلد هذا الإصلاح، ولذلك وجدنا دعوته الرئيسية بعد عودته من المنفى لمدة ست سنوات، بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، هي الإصلاح، إصلاح الأزهر ونظام التدريس فيه، إصلاح المحاكم الشرعية، الإفتاء، والأوقاف الإسلامية، وإنشاء مدرسة للقضاء الشرعي 1907..

وحول أهم الشخصيات التي عرفتها مصر منذ عصر الشيخ عبده و إلى زماننا هذا، نذكر مثلا الشيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمد حسن الباقوري، ومصطفي المراغي، ومحمد الغزالي، محمد البهي، ومحمد متولي الشعرواي، وزكي نجيب محمود، علاوة على رجال من أمثال: عبد المتعال الصعيدي، وأمين الخولي.. الخ.3030 مراد ومحمود

س20: أ. مراد غريبي: هل عملية الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده فعلا هي امتداد لدعوات نجد بشبه الجزيرة العربية، كما يرى البعض؟

ج20: د. محمود محمد علي: لم تكن عملية الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده هي امتداد لدعوات نجد بشبه الجزيرة العربية، بل كانت ضدها حيث أن دعوة نجد تركز على الاكتفاء بالقديم، بينما دعوة محمد عبده هو أخذ القديم لغربلته وأخذ النفيس منه فقط والصالح للتطبيق في الزمان والمكان الذي أعيش فيه .. أما التجديد فلا يؤخذ على عواهنه ولكن نأخذه كي ننقيه من الشوائب وإدخاله ضمن الخطة العملية الإصلاحية الخاصة، وهذه تمثل عبقرية محمد عبده في الأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد...

س21: أ. مراد غريبي: هل هناك ترابط بين تطور الفكر النهضوي العلماني و فكر التجديد الديني في مصر؟ و ماهي أهم الإشتغالات المتناسقة  بينهما إن وجدت؟

ج21: د. محمود محمد علي: نعم هناك ترابط بين تطور الفكر النهضوي العلماني و فكر التجديد الديني في مصر، حيث يوجد لدينا ما يسمي الفكر العلماني العربي وهو مختلف تماما عن الفكر العلماني الغربي، فالأول يطرد الدين وينحيه عن السياسة فقط في حين الثاني يطرد الدين عن كل أمور الحياة، ولذلك  العلمانية في بلاد الغرب نتاج ظروف وتطورات ومعطيات دينية وتاريخية واجتماعية وفكرية وسياسية وموضوعية وخير مثال للفكر النهضوي العلماني العربي كتاب " الإسلام دين العلم والمدنية لمحمد عبده، حيث كلمة "مدنيك" التركية هي الموازية لكلمة العلمانية .

وحول أهم الإشتغالات المتناسقة  بينهما إن وجدت فنجدها متمثلة في التفكير العلمي والتطبيق العملي حيث كان المنظرين هم المطبقين.

س22: أ. مراد غريبي: هل خطاب الإصلاح الديني المعاصر في مصر، لا يزال ينهج نفس مسلكيات السابقين في مقاربة  مشروع الإصلاح الديني أم أنه فعلا جدد في الفهم و المنهج و التطلع؟

ج22: د. محمود محمد علي: والإجابة تكون بالنفي، حيث كان خطاب الإصلاح الديني المعاصر يمثل نقلة نوعية عن منهج السابقين بحيث تجعله يسهم بدور أكبر في مواجهة المشكلات الحياتية للمسلمين، واللجوء إلى الحلول العلمية للمشكلات؛  ذلك أن عالمنا المعاصر عالم مختلف اختلافاً جذرياً عن العوالم السابقة بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة العلمية والتكنولوجية، وذلك فضلاً عن تداعيات عصر العولمة في مختلف الاتجاهات.

ولا شك في أن خطاب الإصلاح الديني المعاصر قد جدد في الفهم من خلال الدعوة إلى دور دعاة الإسلام في قيادة عامة للناس إلى حب الحياة، والى العمل من أجل التعمير والبناء والتنمية، متسلحين بثقافة الأمل، حيث علمنا ديننا الإسلامي أن نعيش على الأمل، وأن نجتهد في إصلاح أحوالنا،  كما دعا أيضا بأن يطور علماء ودعاة الإسلام في خطابهم الدعوي، بما يجعله أداة حقيقية للتغيير والإصلاح والنهضة التي ننشدها، بحيث يواجه العلماء والدعاة ما يبثه أعداء الأمة في نفوسنا من مشاعر إحباط ويأس وقنوط.

س23: أ. مراد غريبي: في أغلب محطاته الفكرية، كيف قارب الإصلاح الديني في مصر مسألة السلطات الدينية وصيغة المواطنة؟

ج23- د.محمود محمد علي: بالنسبة لمقاربة الإصلاح الديني في مصر لمسألة السلطات الدينية وصيغة المواطنة، فهذه المقاربة في اعتقادي قد تجسدت من خلال مواءمة الوعي العام للمصريين، مع متطلبات التنمية والإدراك الحي بمناخ العصر وتحدياته، وهذه المواءمة قد دعا إليها الإمام محمد عبده،عندما نادى في خطابه الإصلاحي بتوطين بعض المفاهيم المعاصرة في جسد الخطاب الديني؛ مثل مفهوم الدولة الوطنية والشرعية الدولية، ومفهوم المواطنة الذي تتساوى فيه الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق والطائفة والدين.. وعلى هذه الخلفية احتلت قضية المواطنة في مصرنا أولوية كبيرة فى بناء مواطنة مدنية ذات بعد كونى حداثى قادرة على أن تواصل مسيرة بناء مصر الجديدة والمحافظة على مكتسباتها. وهنا صارت المواطنة لها حق وهذا الحق لا يتحقق بالقوانين وحدها لكن لابد أن ترتكز الممارسات أيضاً على المساواة الكاملة بين جميع المصريين وعلى حكم القانون المطلق بينهم فحق المواطنة هو الرابط بين الدولة والمجتمع وغياب حق المواطنة يجعل من الدولة سلطة فوقية معزولة عن مجتمعها.

س24: أ. مراد غريبي: هناك جدل واسع حول ماهية الإصلاح الديني من خلال إشكاليات وعي العلمانية و الحداثة لدى العديد من دهاقنة الإسلام السياسي، بنظركم هل الإصلاح الديني في مصر بحاجة لعلمانية إسلامية للتحقق أم العكس هو من ينتج العلمانية الإسلامية؟

ج24: د. محمود محمد علي: في اعتقادي أن الإصلاح الديني في مصر ليس بحاجة لعلمانية إسلامية، لا سيما بعد أن تبين للمصريين بأنه دهاقنة الإسلام السياسي كان ظهورهم على الساحة السياسية نتيجة مؤامرة إمبريالية أتاحتها لهم ملابسات ثورة 25 يناير سواء الداخلية والخارجية، لتحقيق مشروعهم لأسلمة نظام الحكم في مصر، والإنطلاق لتفعيل مشروع إسلامي إقليمي، هو في الواقع في سياق مشروع دولي لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية برعاية أميركية، تقضي على آمال توحيد المنطقة.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد راهنت على رغبة شديدة في أن يتولى أقطاب الإسلام السياسي الحكم في مصر مع ضعف في الخبرة، وذلك مقابل محاربة الأعداء والمنافسين المشتركين وتبديل ما هو عدو استراتيجي وتحويله إلى عدو تكتيكي وتحويل ما هو خصم أو منافس تكتيكي إلى عدو استراتيجي . وعلى ضوء ذلك تقدير الإدارة الأمريكية لطبيعة المعركة وأدوار اللاعبين الإقليميين، تم استبدال الثنائي الباكستاني السعودي كحلفاء في تحويل الإسلاميين في الثمانينيات بثنائي جديد، تركيا القوية الجامحة لمواصفات الهوية والشرعية الإسلامية والحداثة والنجاح الاقتصادي والتجربة الديمقراطية العلمانية، وإمارة قطر الغنية بالنفط والغاز ومالكة قناة الجزيرة التي خطفت الجمهور العربي بإبهارها وتكتيكاتها وصدقيتها الإعلامية الناعمة والعابرة للدول ومن خلال انفتاحها على حركات الإسلام السياسي في مصر.

س25: أ. مراد غريبي: للإصلاح الديني مقتضيات من بينها: الفصل بين الدين والتدين، نقد الفهم الديني، تجديد فهم مقاصد الشريعة، تجاوز إشكاليات العلمنة والحداثة، أين محاولات الإصلاح الديني في مصر من هذا كله؟ و كيف ينظر لتجارب القمني، يوسف زيدان و عبد الجواد ياسين، نبيل عبد الفتاح و الأزهريين الثائرين و غيرهم على ضوء مشاريع الإصلاح الديني في العالم الإسلامي؟

ج25: د. محمود محمد علي: إن فكرة الفصل بين الدين والتدين، ونقد الفهم الديني، وتجديد فهم مقاصد الشريعة، وتجاوز إشكاليات العلمنة والحداثة ترتبط في نظري بمدى التغير الجذري الذي يمارس به المفكر دوره في الحياة الفكرية في عصره، ومدى الأثر العميق الذي يحدثه في مجرى الحياة الفكرية التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة وزعزعة الأفكار السائدة، وتأسيس نوع من الانقطاع الإبستمولوجي بين المعارف القديمة من جانب، والمعارف الجديدة من جانب آخر، مستهلاًُ الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على الفكر، نفياً لتقاليد الأتباع وتأسيساً لقيم الابتداع.. وتتجسد في حضور هذا النوع من المفكرين نقاط التحول الحاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث لا توجد استمرارية في منهجية المفكر، بقدر ما توجد قطائع واستحداثات لا تنتهى".. هذا النوع من المفكرين يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التي تتغلغل في كل الأركان، فلا تبقى شيئاً على حاله الذي كان عليه، حتى في دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير. فحدة العاصفة التجديدية التي تندفع بها رؤية هذا المفكر لا تقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها، والأثر العميق لمتولياتها، والتغلغل الناتج لنوافذها؛ خصوصاً إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري, دافعة إليه ومتجسدة في الرؤية الشاملة للمفكر، ومتحققة بها في الوقت نفسه.

والسؤال الآن: هل تجارب سيد القمني، ويوسف زيدان وعبد الجواد ياسين، ونبيل عبد الفتاح والأزهريين الثائرين وغيرهم قد قاموا بعمل مشاريع للإصلاح الديني بحيث أن نقول إنها أحدثت نوع من القطيعة المعرفية؟

والإجابة في نظري تكون بالنفي لكونهم لم يحدثوا في فكرهم نوع من القطيعة المعرفية، فالقطيعة المعرفية في نظري تحتاج لمفكر أو فيلسوف يتميز بالمشاغبة ؛ فالمشاغب في نظري هو ذلك المفكر الذي يتمتع بمواهب لا تنكر وبطاقة فلسفية حقيقية، بحيث يفرض على الجميع أن يكون أحد الأسماء الهامة واللامعة في فكرنا المعاصر، وأن يسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، بحيث تكون اللبنات الفكرية والأدبية والسياسية التي يضعها تكون بمثابة الأساس الذي يبني عليه الكثيرون (سواء من تلاميذه، أو من مشاهديه) مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، وأن يكون ليس مجرد فيلسوف يدعي أنه نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، ولكنه لابد  أن يكون إنساناً في تفلسفه،وفيلسوفاً في إنسانيته،وبين الإنسان والفيلسوف تتجلى المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم،أو محقق،أو ناقد،أو سياسي،أو أكاديمي،أو أديب.. الخ.

علاوة على أن الفيلسوف المشاغب في نظري يجب أن يتمتع بصفات أخرى منها: أن يكون مغامراً لا يحدّه خوف، ومناضلاً لا تتعبه خيبة، ومقاوماً لا تكسِره شراسة الأيام، وأن يخوض بمفرده أشرس المعارك الفكرية، وأن يتحمّل ما يكفي من معاناة أزهرت فيما بعد كتباً لم تكن في الحسبان؛ بحيث يكون سلاحُه الاحتراف والاشتغال على الذات، وأن يكون صاحب فكر متّقد انتهج النقد سبيلاً، والتجديد أسلوباً، والكشف عن المنسي هدفاً، وألا يكون لديه القدرة في التواصل البنّاء مع المتلقّين من حوله، وألا يرضي بالبكاء على الأطلال، ولا التغني بنهضة سبقت، إنما يُسنّ قلمه ويُنهض بنفسه في حراك لا يهدأ سفراً، وبحثاً، وإنتاجاً، وأن يكون له حركةٌ هادرةٌ لا تعرف الراحة، وأن تكون لديه القدرة علي  الدورانٌ في المعنى، والاستنطاق المستدامٌ الذي لا يعرف السكون، وأن يكون هو جيشٌ من الفعلة هو، وأن يكون مبدعاً في أكثر من مجال؛ وكأنه مركز أبحاث، أو خلية نحل لها استراتيجية خاصة بكل يوم، تنجزها وتنتقل إلى أخرى متّجهة نحو حقل أبعد.

وللأسف تجارب سيد القمني، ويوسف زيدان وعبد الجواد ياسين، ونبيل عبد الفتاح والأزهريين الثائرين وغيرهم لم تعمل على إقامة مشاريع للإصلاح الديني بحيث تحدث نوع من القطيعة المعرفية، صحيح أنهم أمنوا بتحرير العقول وطرقوا قضايا دينية، فلسفية، وتاريخية راسخة في الوجدان العربي ربما لم يطرقها أحد من أبناء جيلهم..

ولذلك فأنا لا أنكر أن كتابات هؤلاء فيها من الايجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكننا إذا وضعناها تحت مجهر الابستمولوجيا المعاصرة؛ وخاصة ابستيمولوجيا " جاستون باشلار" القائمة على فكرة القطيعة الابستمولوجية، نجد أنها لا تستطيع أن تخلف لنا الأثر الجذري الذي تركته أعمال زكي نجيب محمود، ولذلك ظلت بحوثه الفلسفية بعيدة عن خلق قطيعة ابستمولوجية، ولذلك لا أستحي أن أقول بأن كتابات هؤلاء  لم تحول مجرى التفكير الفلسفي السائد والمنقول إلى تفكير إبداعي يحمل رؤية خاصة تتواءم مع مستجدات واقعنا الفكري. ومن ثم لم تُحدث تلك النقلة الكيفية في أدوات البحث الفلسفي، وإن استخدم الدكتور الشنيطي، قضايا ومشكلات فلسفية تناسب حركة الحياة الفكرية في عصره.

عندئذ يكون الأثر التجديدي لإنجاز هذا المفكر شبيها بالزلزال، الذي يحدث تأثيراً جذرياَ فى صميم بنية العلم السائدة، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز التجديدي في تتابعه المتصل أو تصاعده المستمر، متوازية مع عمق الأثر الذي يتركه في مجالات فلسفية كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع المصري بأسره.

س26: أ. مراد غريبي: أحد النماذج المعاصرة للإصلاح و التجديد الديني في مصر و الذي يعتبر مؤسس اليسار الإسلامي المفكر الراحل الدكتور حسن حنفي، ما أهم ما تميز به مشروعه الإصلاحي الثوري عن غيره ممن سبقوه أو عاصروه في حقل تحرير الفكر الديني؟

ج26: د. محمود محمد علي: في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت مصر الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة،وكان المفكر والباحث والكاتب الدكتور حسن حنفي، واحداً من كبار المفكرين المصريين المعاصرين والذي تميز بإنتاجه العلمي الفكري الثري والمتنوع في مختلف أبعاد وجوانب العلم والثقافة والفكر .. الخ

وحسن حنفي له مشروع متميز حول ما يسمي بـ  "التراث والتجديد" والذي يوصف بأنه "مانفيستو حسن حنفي" لأنه يقدم تفصيل لمشروعه الفكري في تجديد التراث الديني، وهذا التجديد يحمل هموم الإنسان فكرًا وواقعًا ووطنًا في العالم العربي المعاصر، وهو يقاوم لإبداء الموقف الحضاري من التراث العربي الإسلامي ومن التراث الغربي ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية والفكرية والفلسفية .

وهذا المشروع يتوزع حول «التراث والتجديد» على عدة محاور رئيسية؛ بحيث شملت معالجاته أغلب القضايا التراثية من جهة، وأهم التيارات الفكرية الغربية من جهة أخرى. ومن ثم، يمكن القول: إن السمة الرئيسية المميزة لمشروع، أو قراءة، حنفي للتراثين: العربي والغربي، تتمثل في اتساع رقعة المشروع والشمولية، الأمر الذي انعكس بصورة سلبية على حساب الدقة في الطرح، والموضوعية في التناول.

هذا ويقوم مشروع حنفي لقراءة التراث العربي الإسلامي، في جوهره، على استقراء المدونة التراثية الشاملة بخطوطها السبعة: (علم الكلام، والفلسفة، والتصوف، وأصول الفقه، والعلوم النقلية كالتفسير والحديث والسيرة، والعلوم العقلية كالرياضيات والطبيعيات، وأخيرا العلوم الإنسانية). وينطلق هذا المشروع الضخم من عام 1400 هجرية ليقف بنا على مشارف مرحلة السبعمائة الثالثة من تاريخ الحضارة الإسلامية، بعد مضي وانتهاء مرحلة السبعمائة الأولى التي كانت تمثل مرحلة المد والازدهار، ثم مرحلة السبعمائة الثانية التي كان انقلابها الجدلي إلى الذبول والنكوص والاضمحلال.

س27: أ. مراد غريبي: ماهي أهم ملامح الإصلاح الديني في مصر الراهنة و هل هناك أفق مستقبلي بعودة الأزهر الشريف لدوره الريادي في التقريب و التنوير و التجديد و النهوض بالحوارات الحضارية بين المسلمين و مع الأديان الأخرى و كذا الغرب خصوصا جامعة دار العلوم التي شكلت طفرة في تاريخ  الفكر الإسلامي من أيام الشيخ عبده و الشيخ عبد الرزاق مرورا بالدكتور طه حسين إلى غاية زمن الدكتور حسن حنفي و راهنا الدكتور محمد عثمان الخشت؟

ج27- د.محمود محمد علي: نعم، فلقد لعب الأزهر أدوارا كبيرة في حماية الهوية الثقافية العربية الإسلامية، والدفاع عن قيم الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، ونشر العلوم الشرعية واللغة العربية، والتصدّي لتيارات التطرف والغلوّ التي تشذ عن صحيح الدين وتنحرف عن جادة الحق ومحجة الصواب، وهو حقا يمثل قلعة متقدمة للدفاع عن مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة والفكر الإسلامي المستنير وعن القيم الراقية في الثقافة والحضارة الإسلاميتين،وقد اتضح لي ذلك من خلال أقوال فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب والتي أكد في أكثر من مرة بأنه لا صراع حضارات كما قال هينتجتون، ولا نهاية التاريخ كما قال فوكاياما، وإنما نقول صراع التفاهات، وليس صراع الحضارات.. وأشار إلى أن حضارة الإسلام كانت مفتوحة على العالم، وتعاملت مع الأديان والحضارات بكثير من الاحترام والتواصل وتمد يدها للحضارات الأخرى وتستفيد وتفيد، فكان الإسلام أول من سعى للعالمية بثقافته المتنوعة..

وأعرب شيخ الأزهر عن أمله في حوار داخلي يجمع بيننا ويوحدنا قبل حوارنا مع الغرب الذي لا يعرف سوى لغة الاتحاد وليس في يده كتاب مقدس كالقرآن يحثهم على الاتحاد، بل إن الغرب الذي اتحد وزاد اتحاده قوة لا يمتلك من أسباب الوحدة ما لا يملكه المسلمون، ونحن العرب لنا لغة واحدة ودين واحد ومصحف واحد ونبي واحد ومع ذلك يقع بيننا العنف والبغضاء والمذهبية التي يسعى ديننا لاحتوائها جميعا. كما طالب بأن يحترم أهل كل مذهب الآخر، وألا يتخذ طرف من الأطراف هذه الخلافات لإحداث فتنة أو ينشر بها الكراهية بين أتباع الدين الواحد، وأن تقطع الطريق نهائيا عن الألاعيب السياسية.

انتهى

 

حاوره: ا. مراد غريبي

12 – 12 - 2021

 

 

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما في المثقف:

التصوف ولغة الرمز

س12: أ. مراد غريبي: المعجم اللفظي أو التداولي الصوفي مميز بشيفراته وتعقيداته، لماذا الغموض الترميزي والتأويلي.. هل لخصوصية المعارف الروحانية للتصوف أم لغير ذلك؟

ج12: د. مجدي إبراهيم: تقتضي الإجابة على هذا السؤال نظراً عميقاً إلى التراث الصوفي نفسه، بل أستطيع أن أؤكد لك أنّ الصوفية الكبار أنفسهم قد أجابوا عليه إجابة لا تحتاج إلى إعادة تكرار فمثلاً ممّا رواه الكلاباذي (ت380 هـ) أن أحداً من المتكلمين قال لأبي العباس بن عطاء مستفزاً إيِّاه وقاصداً إثارة حفيظته بقوله: "ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظاً أغربتم بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد، هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعِوَار المذهب؟! فأجابه أبو العباس قائلاً:" ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه، لعزَّته علينا، كيلا يشربها غير طائفتنا". تلاحظ هنا أنه إذا كان السؤال مستفزاً فالإجابة رادعة!

ولنلحظ في إجابة أبي العباس بن عطاء كلمتي "الغيرة" و"العزة"؛ فعليهما وحدهما يمكن البرهنة على خصوصية الطريق بمقدار ما يتسنَّى استخلاص السبب الوجيه من وراء الضن بمثل هذه الإشارات ضناً نرجع فيه إلى طبيعة علوم القوم؛ لأنهم تكلموا فيما يقول السَّراج الطوسي في كتاب "اللمع" (في مَوَاجيد القلوب ومواريث الأسرار). ومن المؤكد أن هذه المواجيد القلبية والمواريث السرية مواهبَ لا كسب فيها ولا حيلة تؤتى بالتحصيل وبذل المجهود، ولكنها تؤتى بالصفاء والنقاء وخلوص السريرة مع الله.

بيد أنهم وصفوا علومهم بلغة تعجز عنها إحاطة العبارة العادية وراحوا يستنبطون في ذلك إشارات لطيفة ومعان جليلة واختلفوا بما استنبطوه عن الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين وامتازوا عنهم؛ لأنهم تميزوا بالتجربة الروحية وتذوق علوم الحال، ومن ثم يلزم للذي يريد أن يفهم مسائل المتصوفة ألا يَرْجع فيها إلى الفقهاء أو المحدِّثين أو المتكلمين، وإنما يرجع إلى عارف ممارس لهذه الأحوال مُسْتَبْحث عن علومها ودقائقها؛ لكأنما الإشارة الصوفية قائمة في الأساس على "الحال"، ومؤسسة عليه. والحال يُذَاق ذوقاً ولا يُكيف بلفظ ولا بحرف ولا بلغة. قد تعطي اللغة كما يعطي اللفظ والحرف العبارة العادية، فيجيء المفهوم من ورائها متاحاً لكل قارئ ولأي قارئ؛ لكن عبارة الوجدان يعطيها "الحال"؛ لأنها فيما قال الطوسي (مواجيد قلوب ومواريث أسرار)، فهى من ثم إشارة من بطن التجربة ومن ذوق المعاناة فيها.

ومن هنا صار ما يعطيه "الحال" إشارةً. وصارت كتابة الصوفي أو أقواله إنْ هى إلا "حالات"؛ حالات قد لا ينتظم فيها النسق العقلي ولا تضبطها قوانينه، وهى ليست ممّا يخضع بالمرة لقوانين العقل وحسابات المنطق، ولذلك فهى تقصر وتنضغط بمقدار ما تتفلت من تلك القوانين المنطقية. وأستطيع أن أقول؛ إنها لكذلك تُخفى وتنغلق أمام العقول التي انطمست فيها بصيرة الإدراك الذوقي أو عَقَمَتْ؛ لا لشيء إلا لأنها حالات ليست بحاجة إلى النسق المنطقي الصارم الذي لا يعرف معاناة الشعور، ولا مواجيد القلوب، ولا مواريث الأسرار في عالم التجريب.

الصوفي يصدر عن تجربته فيما يقول أو يكتب، ولا يصدر عن كدِّ الأذهان أو عنت العقول. أقول؛ إذا نحن لاحظنا إجابة ابن عطاء عن السؤال الذي طرحه ذلك المتكلم في استخفاف أو استفزاز، ووضعنا في اعتبارنا عزة الطريق ووعورة السير فيه، أمكننا أن نفهم معنى حَجْبَهُ عن الأغيار، ونقدر بعد الفهم معنى "الغيرة" عليه من أن تناله أَفْهَام القاصرين.

والقاصرون في الفهم سيان في إنكارهم مهما اختلفت الفِرَقْ التي تواردوا عليها وانتسبوا إليها، فليس من منصف فيهم يحسن الظن إزاء (علم الإشارة الصوفية)؛ يقبل بواديها فيرجع إلى نفسه فيحكم بقصور فهمه عنها، أو ترجع إشارة المشير فيما عَسَاهُ يشير إلى سوء الظن بقائلها فينسبه السامع كالعادة إلى الهذيان، ومن أجل ذلك؛ صَدَقَ الكلاباذي لمَّا أن قال:"وهذا أَسْلَم له من رَدّ حق وإنكاره".

ولو أن أحدهم فهم الإشارة وأرتد بها إلى معارف القوم وعلومهم، التي هى كما يقول السراج الطوسي ليست لها نهاية، لأنصف من نفسه فحكم بقصور فهمه عنها وبقلة خبرته أو عدمها في التعامل مع إشاراتهم ومعارفهم، ولعَفى الصوفية، من ثمَّ، من سترها تحت غشاوة الرمز المألوف لديهم أو حُجُب الغموض المتعمد؛ وذلك لأنها في المطلق (أي مثل هذه العلوم والمعارف الصوفية ذات الأذواق والمواجيد العالية) ليست في مقرراتهم سوى إشارات وبوادٍ وخواطر وعطايا وهبات يغرفها أهلها غرفاً من بحر العطاء، وسائر العلوم لها حَدِّ محدود، وجميع العلوم تؤدي إلى التصوف. هكذا قال الكلاباذي صاحب كتاب التعرف ومن حذى حذوه من أهل التجارب الكبرى.

إنما أقوالهم في أحوالهم أسرى؛ فكل إشارة تحتها حكم الحال وإنها لتغمض لغموض الحال وخفائه، وليس لهم حيلة في تحويله من حال إلى حال؛ كما قال قائلهم وهو ينشد:

إذا أهْـــــــلُ العِـــــبَارة سـَـــــائلـوُنَا

أجَبْــنَــــاهم بأعْـلام الإشَـــــــــارَة

*

نُشِــيُر بها فَنَـجْعَلها غُمُــــــوضَاً

تُقَـــــصِّر عَنـْــــــهُ تَرْجَمَةُ العِبَارَة

*

وَنَشْــــــــهَدُهَا وَتَشْــــــهَدُنَا سُرُوَرَاً

لهُ في كلِ جَــــــارِحَة إشَـــــــارَة

تَرى الأقْـوَالَ في الأحْـوَال أسْرَىَ كأسْــرٍ العَارفِينَ ذَوْي الخِسَـارة

وَجَبَ إذن من هنا: أن تكون "الغيرة" لعزة الطريق لها ما يبررها في موقف الصوفية من الضَّن بعلومهم عن أن تُشَاع في غير أهلها بين مَنْ يَفهم وَمَنْ لا يَفْهم، ولعلَّ الباعث الأهم في ممارسة ذلك الموقف واتخاذه على هذا النحو تأكيداً لإجابة أبي العباس بن عطاء السالفة، هو باعث الغيرة على الكيان الآدمي من أن يكون عُرْضة للسير كما السوائم كما تسير السائمة مع القطيع، عُرْضَة للعبودية لغير الله ممّا عَسَاهُ يصيبه من لوثة الأغيار.

الغيرة على كيانك كله: على وعيك وعلى إدراكك، وعلى عقلك، وعلى تفكيرك، وعلى ذوْقك، وعلى شعورك، من أن يصيبه عَطب المفسدين، لاسيما فيما لو كانت بضاعة المفسدين تلك، فضلاً عن عطبها وفسادها، هى من الكساد والفقر وضعف التهذيب بحيث تُرجِع من فورك أصحابها إلى رذائل يتَّصفُ بها الخارجون حتى عن معنى الإنسانية، الساقطون عن القيم في أبسط معطياتها؛ فهؤلاء الذين يتمنَّوْنَ على الدوام أن يفسدوا وأن يشيع في الناس الفساد ليفسد من ثمَّ غيرهم، وأن يفسد بالضرورة غيرهم لفسادهم، هم لا إلى الإنسانية أقرب بمقدار قربهم في الواقع إلى العدميَّة والموات!

ولمَّا كانت أهمية الوازع في اتخاذ هذا الموقف ترتدُ عندنا إلى الغيرة على الكيان الآدمي كُله من أن تلوِّثه أذواق المفسدين، هذا إنْ صح أن يكون للمفسدين أذواق!، صارت هذه الغيرة هى غيرة على" الوعي الذاتي"، أو إنْ شئت قلت: "الوعي الصوفي"؛ كذلك من أسباب التلويث وعوامل التكْدير.

فإنّ الذي يُعطي الوعي حقَّه من الإدراك لهو هو الذي يُعطي لنفسه احترامها، والذي يتنازل عن وعيه يتنازل في الوقت عينه عن احترامه لنفسه؛ إنْ لم يكن يتنازل عن ذاته في المطلق (بعد التطهير) بكل ما فيها من أعلى المدارك وأسمى الصفات. فقد تصطدم بالوعي لديك مع مَنْ لا يعي فتكون في الغالب كارثة، إذْ ليس كل وعي من المطلوب إذاعته ونشره ولا كل وعي يَصحُ تقديمه لمن لا يعرف للوعي قيمة ولا قانوناً، لكنما الوعي الذي يُذَاع ويُنشر ويصحُّ، من ثمّ، تقديمه، هو الوعي فيما يخدم المآرب الرَّبانيَّة العليا لمن يستحقها، ولمن يطلبها، ولمن هو جديرٌ، على استحقاق، بمثل هذه الخدمة الواعية، وبمثل هذا التقديم المأهول، ثم هو، من بَعْدُ، لا يُحجِّر على عقول البشر فيما يريدون من عقولهم أنْ تصيبه على ديْدَن الإدراك فيما لو كانوا هم من أهله وذويه.4465 مجدي ابراهيم ومراد غريبي

 س13: أ. مراد غريبي: التصوف متوزِّع على طول خريطة الاجتماع الثقافي الإسلامي بمدارسه الفقهية والأخلاقية والكلامية، هل التصوف يمكن أن يسهم في اللقاء بين الإخوة المسلمين كقاعدة مشتركة لولوج ما يعبر عنه الآن بحوار الأديان أم لكم مُقاربة أخرى؟

ج13: د. مجدي إبراهيم: بالطبع؛ هذه أولى مهماته الأساسية واعتقد أن ما ذكرته في السابق يشهد من الوهلة الأولي على بلوغ التصوف هذا المبلغ، ويزيد. فمع كونه تجربة روحية وعملاً فرديَّاً ذاتياً فريداً؛ فهو ظاهرة حضارية ممتازة جذبت إليها النوابه من كبار العقول والقلوب لا في الإسلام فحسب؛ بل في سائر الحضارات والثقافات والديانات الأخرى؛ لأنه ظاهرة إنسانية بكل المقاييس تتركز فيه وحده دوناً عن سواه: وحدة الروح الحضاري الإنساني؛ فما من حضارة قامت في القديم والحديث إلا وفيها هذا العنصر الروحي الممتاز، حتى إذا ما أردنا أن نركز كلمة جامعة عن وحدة الحضارة الإنسانية؛ قلنا بغير مبالغة في القول ولا شطط هى: (التصوف).

ولك إن شئت أن تسأل: إذا كان مشتركه الفعلي ظاهراً في الإنسان على التعميم، لا يفرق بين شرقي ولا غربي؛ لأنه مساس الروح الإنساني وشوق من أشواق النفس البشرية، فكيف بأبناء الديانة الواحد والعقيدة الواحدة، لا بدّ أن يجمع شملهم ويقوي روابطهم إذا هم تحققوا به وعرفوه حق المعرفة وحق الفهم، وإذا لم يقم فيما بينهم: السطحي والرجعي والغبي والمتخلف وبليد الطبع والحس، وفقير الشعور وضعيف الإدراك، ولا تخلو أمة من أمم البشرية من هذه الأنواع والأصناف، وهم الذين يتخذون من توجهاتهم العلمية أو العرقية أو السطحية عداءً للتصوف وللصوفية وهذا سبب البلاء.

وأنا مضطر أن أذكر لك نصاً "لهاملتون جب" في كتابه "دراسات في حضارات الإسلام" حين لخص بعضاً من مراحل التصوف حيث قال: في التصوف قاعدة فعالة هى قدرته على استثمار التجربة الدينية على نحو منظم. وهو ينشأ كعلم الكلام في مراحل راقية من التطور الديني. ولم يكن في القرن الأول من تاريخ الإسلام متكلمون أو متصوفة، ففي ذلك القرن كانت الجماعة الدينية المسلمة تمثل نوعاً من المجتمع الأخلاقي القائم على المبادئ المحسوسة حول الله واليوم الآخر، وعلى الواجبات الدينية المحسوسة التي وردت في القرآن الكريم، ولكن حين ولَّد تزايد نطاق النشاط الفكري وانتحال المناقشات الفلسفية منبى تشريعياً منظماً أولاً، وعلم الكلام متسقاً من بعد ذلك، أصبح البصر الديني الحدسي على مراحل متوازية". (أ. ه).

ادْرس إنْ شئت كبار العقول الصوفية وانظر فيماذا كانت تبحث؟ لترى أن المشترك الحضاري منطلقها، وأن المطالب الإنسانية وحدها هى مُتوجهها. لكن هذه الرؤية شيء، وأن يتحوّل التنظير الفكري إلى أهواء وتعصُّبات لآراء يجوز فيها الخطأ كما يجوز فيها الصواب، شيء آخر.

وكل تخريف غير علمي، غير عادل، لا يظهر من الحقيقة حقاً على الإطلاق فهو غير مقبول لدينا وغير معقول، وكيف يتأتى له أن يظهر هذا الحق وهو لا يتحرّاه ولا ينشده؟!

ألا فلنسأل، تُرى: هل كان التصوف هو هو الذي يعبد الشكليات أكثر من الحقائق أو يموت من أجل الخرافة أكثر ممّا يحيا في سبيل الحق؟! وإنَّا لنجيب: نعم ولكن أي حق؟ إنه الحق الذي تدَّعي الأنفس الراسخة في الطُهْر امتلاكه على عقول العوام.

س14: أ. مراد غريبي: هل فعلاً هناك مأزق منهجي في فهم التصوف بالنظر إلى كونه (التصوف) مرتكزاً على الولاية السلوكية من جهة وعدم حضور المرجعية التشريعية بشكل واضح مثلما الحال في باقي المذاهب الإسلامية؟

ج14: د. مجدي إبراهيم: عدم حضور المرجعية التشريعية! كيف هذا؟ وكيف تقوم ولاية سلوكية مع عدم حضور المرجعية التشريعية، تقوم، إنْ قامت، على ماذا إذن؟!

اعتقد أن هذا مخالفاً تماماً لطبيعة التصوف في الإسلام ككل، والسُّني منه على التخصيص؛ لأنه لا يقوم تصوف على الإطلاق ولم يوجد فيه حضور للتشريع .. لكن التشريع منزلة من منازل سير الولي إلى الغاية؛ ليأتي بعدها منزلة أخرى وهي (التحقيق) فلا تحقيق بغير تشريع ولا تشريع على الإطلاق بغير تحقيق. وهنالك من مقولات العارفين الذوقية الحكيمة ما يثبت هذا ويؤيده. (الولي لا يأتي بشرع جديد ولكنه يأتي بفهم جديد): عبارة في تقديري عبقرية معجزة، مبلغ الدلالة فيها ينقض كل ما قيل عن تجرّد الصوفية عن ملابسة الشريعة والامتثال لتعاليمها؛ وها هو أحدهم يخلق من الفهم في ميزان الشريعة خلقاً علي غير مثال سابق، ما لم يستطع غيره أن يخلقه. هذا الاعتقاد الصادق في أن الشريعة التي هى ظاهر الدين، ينبغي تحصيله والوقوف عليه لبلوغ الحقيقة التي هى باطن الشرع؛ فلئن كانت الشريعة هى ظاهر الدين؛ فالحقيقة هى باطن الشرع؛ فليس ثمة فصل بين الشريعة والحقيقة ولا تباعد، لأن كلتاهما تؤدي إلى الأخرى وتتمّم الواحدة منهما الأخرى.

حقاً .. لقد كانت كبوة الدكتور محمد إقبال، رحمه الله، حين سئل عن بعض تفسيرات ابن عربي للقرآن فقال:" أنا لا أنكر عظمة الشيخ ابن عربي، ولكن التماسه معان باطنة في "قانون أمة" هو مسخ لهذا القانون". وأنا لا أنكر عظمة الدكتور إقبال، ولكن هذه كبوةً لم يستطع أن يوظفها توجيهاً ودلالة؛ لأن الشريعة نفسها فيها فقه الظاهر، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح. وفيها فقه الباطن، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب؛ فالتماس المعاني الباطنة من قانون الأمة (القرآن) على حد وصف "إقبال"، لا يعني مُفارقة حكم الباطن عن حكم الظاهر ولا غياب أحدهما عن الآخر، أو استحالة الجمع بينهما؛ بل يعني التكامل والاتفاق في وحدة قائمة تجمع بين مسلك التشريع ومسلك التحقيق. ومن هنا كان للشريعة ظاهرٌ وباطنٌ لا على معنى أن الشارع أظهر حكماً وأبطن حكماً كما يقول "الباطنية"، ولكن على معنى أن للشريعة حكماً على المُكلَّفين من حيث ظاهر أعمالهم، وحكماً عليهم أيضاً من حيث باطن أعمالهم. وهذا هو معنى قول الصوفية إن للشريعة ظاهراً وباطناً. ولم يكن ابن عربي بمعزل عما ينهجه الصوفية في تناولهم لهذا القانون والتماس المعاني الباطنة منه.

ولا بدّ آخر الأمر أن يفترق مسلك التشريع الظاهر عن مشهد التحقيق الباطن من حيث جواز التأويل الروحي؛ ففي الحالة الأولى ليس بجائز، وفي الحالة الثانية، في مقام الشهود، تنتفي المُباينة وتحل الوحدة؛ فيجوز ممّا لم يكن جائزاً في الحالة الأولى. ومحال أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء. ولنقف عند العبارة التي ذكرها الشعراني في طبقاته كما أوردناها في السابق:"إنّ الولي لا يأتي قط بشرع جديد؛ وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسنة. هذا الفهم لم يكن يعرف لأحد قبله، ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق ويقول على وجه الذم: هذا لم يقل به أحد. وكان الأولى أخذه منه واستفادته من قائله على وجه الاعتقاد".

لا حظ أولاً أن قول الشعراني حيث يردَّ قول من يذم أهل الطريق وينسب إليه عبارة: (هذا لم يقل به أحد)، تجدها عبارة دالة من الوهلة الأولى عن تقليد عند قائلها في تقليد؛ لكأن صاحبها يسوئه أن يرى جديداً ذا فهم جديد، فيعترض ويستنكر، حتى إذا كان التشريع هو بالقطع من عند الله ومقتصر عليه سبحانه وتعالى لا على سواه؛ فلا يمكن أن يأتي الولي بشرع جديد بل بالإمكان الإتيان بالفهم الجديد في التشريع الذي هو من عند الله: قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

وهذه النقطة على التخصيص فيما أرى جوهرية؛ لأنها نفسها النقطة التي تمكّن العقل الحداثي في مقابل (العقل التراثي) بوضع الضوابط والمتغيرات لمواكبة الإنسان لتطوراته العصرية وتفتح أمامه السّعة في الفهم والتصرُّف في شئونه الدنيوية كيفما يشاء، وبغير قيود وحدود.

لم يكن الشعراني بالمخطئ بل هو مصيب في تلك الومضة البارقة إصابة لا نظير لها حين ذكر في طبقاته الموسوم بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار: أنّ الولي لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسُّنة. ولم يكن هذا الفهم ليعرف لأحد قبله، وإنْ قابله الناس ممّن لا إيمان لهم بالاستغراب والدهشة والإذهال والاستبعاد ثم بالإنكار. وتلك أمور لا غرابة فيها لأن الفهم الجديد يقابل بمثل هذا الإنكار ويزيد.

لنلحظ أولاً عبقرية التسمية التي أطلقها عليه بهذا العنوان: "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار"، أو الطبقات الكبرى، فباتجاه النظر إلى العنوان: لواقح الأنوار، يقفز إلى الذهن هذا التساؤل: كيف تتلاقح الأنوار؟ وما علاقة هذا التلاحق بعنوان يحكي تجارب وخبرات بعض السادة من العارفين والأولياء؟ يظهر معنى كلمة لواقح التي ينقلها الشعراني نقلاً ذوقياً مباشراً من الدلالة الحسية الضيقة المباشرة إلى الدلالة المعنوية المفتوحة في أن كلمة (لواقح) بمعنى حوامل، جمع لاقح ولاقحة، ولاقح اسم فاعل من الفعل لقَحَ، وجمعه لواقح، ولقحت الحرب بمعنى اشتدت، وحرب لاقح: شديدة هائجة وهو تشبيه الحرب بالمرأة الحامل التي أوشكت ولادتها. ولقحت الناقة: أي قبلت ماء الفحل، ولقحت النخلة: أي تلقت اللقاح، ومثله لقح الزَّرع، ولقحت المرأة أي حملت.

ولم ترد كلمة (لواقح) في القرآن إلا في آية واحدة من سورة الحجر، الآية (22) "وأرسلنا الرِّيَاح لواقح"؛ بمعنى أن الرياح تلقح الأشجار والسحاب، تلقح السحاب فيدر الماء وتقوم بتلقيح الأشجار فتتفتح أزهارها وتنمو أوراقها. ولننظر؛ من بعدُ، إلى نقل الدلالة من ظاهرها اللفظي الحسي إلى باطنها المعنوي الروحي؛ لنجد فيما تجيزه الاستعارة مقدار ما تجوّزه لغة الإشارة الصوفية، أن ذهن الولي، إذ لا يأتي بشرع جديد، ولكنه يتلاقح مع الشريعة لقحاً أو أن الشريعة هي التي تلقحه فتمده من نورها ليستقر في أعماق وجدانه؛ فإذا هو يفهم مقاصد الشريعة فهماً جديداً قائماً على هذا التلقيح؛ فكما تلقح التجارب عقل الفيلسوف فتمكنه من التفكير العميق كذلك تلقح الشريعة عقل الولي فتزوده من أنوارها تماماً كما تلقح الرياح الشجر كأنها تثمره، أو تلقح الناقة إذ تقبل ماء الفحل، أو تلقح النخلة إذ تتلقي اللقاح أو كما يلقح الزرع أو تلقح المرأة فتحمل وتوشك على الولادة؛ فالرياح هي الحوامل بالخير والعطاء، وكذلك أنوار الولي حوامل بكل خير وعطاء وإبداع على غير مثال مسبوق. وكذلك تلقح أنوار الولي على هذا القياس كل من يمتد إليه بصره بالرعاية والإحاطة والموالاة.

وهكذا تكون مادة (لَقَحَ) دالة من الوهلة الأولى على الفاعلية الجوانيّة الباطنة لا أساس لها في الظاهر السطحي البراني، وإنْ كانت مُشاهدها وآثارها من ظواهر الكون والطبيعة، ولكن الفاعلية نفسها عملية حيوية باطنة.

وبنظرة واحدة إلى الآية الكريمة "وأرْسَلنَا الرِّيَاح لوَاقِح" تجد هذا المعنى دالاً على التفاعل الحيوي بين مرسل ومستقبل دلالة تخليق وإبداع وإثمار نافع جديد ومفيد. دلالة فاعلية حيويّة: وأرسلنا الرياح تسخيراً لتلقيح السحاب؛ ليحمل المطر النافع والخير الوفير؛ فالرياح تلقح السحاب ليمتلئ بالمطر فيعم خيره ويتسع نفعه، وكذلك أنوار الشريعة تلقح باطن الولي: عقله وضميره وقلبه وسريرته؛ لينتج النور ويثمر الهداية ويعم النفع. وبمثل هذا التفاعل الحيوي كحركة باطنة في جوف التجربة يأتي الفهم الجديد والفتح الجديد، ويرسل أشعته الكريمة كما ترسل الرياح لواقحها بمدد من عناية الله، وكما يحدث هذا كله في تلقيح النخل وتلقيح المرآة والناقة والشجر، يحدث في المستوى الأعلى: مستوى النور بالنسبة للأولياء؛ إذْ تتلقى قلوبهم تلقيح الشريعة ظاهرة وباطنة؛ فتنتج النور كما تنتج الأزهار أريجها في مساق الطبيعة.

عملية إبداع أصيلة تحاكي الطبيعة وتماشي السنن الكونية ممّا يتسع له فهم القلوب النظيفة.

وعليه؛ فالولي لا يأتي بشرع جديد ولكنه يأتي بفهم جديد هو نتيجة عمله بالكتاب والسنة. على أن هذا الفهم هو عملية خلق كاملة، إبداع على الأصالة، ولهذا تستغرب علوم الأولياء وتستنكر ممَّن لا حظ لهم لا من الشريعة ولا من الحقيقة، وهى وإنْ تكن علوم تقوم على الوهب والعطاءات الإلهية؛ فإنّ فضل الاجتهاد فيها غير منكور. ولم تكن لفتة الشعراني في هذا السّياق لفتة عارضة وهو وإنْ استوحاها من الآية الكريمة إلا أن دلالتها في سنن الكون الطبيعي ظاهرة بغير جدال. وبقدر ما يكون ذوق المتلقي فاعلاً مستشرفاً على فهم الدلالة هنا أمكنه أن يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، ولكنه لا يدرك هذا بمحض جهالة وعمى ولكن بمحض تبتل وانقطاع، أو بعبارة الشعراني نفسه بمحض: "تبحُّر في علوم الشريعة" حتى يبلغ منها الغاية فيصير عالماً بمنطوقها ومفهومها وخاصّها وعامها وناسخها ومنسوخها؛ بالإضافة إلى تعمقه في لغة العرب حتى يعرف مجازاتها واستعاراتها.

والخلاصة هى أن كل صوفيّ فقيه وليس شرطاً أن يجيء العكس، أن يكون كل فقيه صوفيّ. وكما يعطى الفقيه قوة الاستنباط في الشرع نظير الأحكام الظاهرة كالواجبات والمندوبات والآداب والمحرمات والمكروهات كذلك يعطي الوليّ قوة الاستنباط الظاهرة والباطنة معاً؛ لأن قوام القوتين اجتهاد من جهة وتوفيق من جهة أخرى. وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئاً لم تصرح الشريعة بوجوبه أولى من إيجاب وليُّ الله تعالى حكماً في الطريق لم تصرّح الشريعة بوجوبه. وإذا لزم الاجتهاد للفقيه فيما لم تصرح به الشريعة من أحكام الظاهر لزم الاجتهاد للولي فيما لم تصرح به الشريعة من أحكام الباطن. والمعنى من وراء ذلك أنهم كلهم عدول في الشرع، أختارهم الله عز وجل لدينه فمن دقق النظر، على حد عبارة الشعراني، علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله عن الشريعة؛ إذ كانت هذه العلوم، كما قال الجنيد، مشيّدة على الكتاب والسّنة.

هنالك يصبح التصوف "عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة؛ فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم ومعارف وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسنة نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا من عمله العلل وحظوظ النفس.

من غير المفهوم إذن بعد هذا كله أن يلغط أكثرهم بمفارقة الصوفية للشريعة؛ إذ ذاك يصبح لغطاً لا يقوم على دليل. وعندي أن إعادة تكرار البحوث والدراسات في إبراز الصلة بين الشرع والتصوف لا يسفر عن جديد بل يسفر عن عقم فكري لأمور تم إلقاء الأضواء عليها حتى أشرقت وقتلت بحثاً وتنقياً في القديم والحديث. ولئن كان هنالك من الفقهاء الجدد من ينكر العلاقة بين الشريعة والتصوف فلا أقل من أن يكون إنكار الجديد كإنكار القديم سواء: يمثل عقماً فكرياً وبصيرة مطموسة قلّ أن تدرك ظاهر هذه العلاقة فضلاً عن باطنها الكامن فيها بغير جدل طويل.

هذه واحدة، أمّا الثانية؛ فلأن نزعة التصوف حديثاً كما كانت قديماً هى نزعة استقلالية ذاتية صرفة على الأصالة، بعيدة عن حركة العمل في مجال الفقه أو في مجال التشيع، وإنْ كانت هذه النزعة قريبة كل القرب من معدن الشريعة. لم يكن رفض الشيعة للتصوف قديماً بالأمر الذي يمر علينا من غير تمحيص أسبابه وتخليص آثاره الباقية، فإنّ الدلالة فيه أظهر من تخفى؛ لأن الشيعة لم يقبلوا التصوف لنزعته الروحية المستقلة بعيداً عن التوسُّل بالأئمة فهو لأجل هذا مستقل ذاتياً عن التشيع. وقد نصّ "ماسينيون" في احدى دراساته فقال: جاءت الشيعة الإمامة الزيدية والإثني عشرية والغلاة في القرن الثالث الهجري فانكروا كل نزوع إلى التصوف؛ لأنه يُحدث بين المؤمنين ضرباً من الحياة الشاذة (صوف، خانقاه) تتمثل في طلب الرضا من غير توسل بالأئمة الإثنى عشر، وطلب إمامة تتناقض مع ما جروا عليه من تقية.

القصد من هذا واضح جداً هو أن التصوف طلاقة روحية في الإسلام لا يلزم عنها الخنوع لقيود الفقه والاستسلام لمقومات التشيع ولا الانقياد لأحد من سائر البشر، ولكنه يستقي أركان معالمه من روافد التجربة الصوفية نفسها كما يستقي الشاعر الأصيل المطبوع شعره من تجربته ومن طبيعته الفنية، ويستكشف ما للحق المطلق بذاته، فكل تجربة صوفية لها أركان ومعالم ربما تختلف عن التجارب الأخرى؛ بل تختلف عن تجارب الصوفيّة أنفسهم فيما بينهم بعضهم مع البعض الآخر.

هذه الطلاقة الروحيّة التي يعول عليها ولا يعول على سواها، هى التي شكلت استقلال الصوفي الأصيل، وتميزه بين أقرانه، ثم تفرده بينه وبين غيره من أبناء جلدته..

 ***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

3030 مراد ومحمودالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الثاني: الفلسفة في مصر: الأعلام، المدارس، المنجزات

هذه الحلقة من حوارنا مع الدكتور محمود محمد علي، المفكر والأكاديمي العربي النشط نخصصها لفتح ملف الفلسفة في مصر الحديثة والمعاصرة، الأعلام والمدارس والمنجزات:

س11: ا. مراد غريبي: عرف الفكر الفلسفي تطورا مهما في مصر الحديثة والمعاصرة بفضل أسماء عديدة ساهمت في إثراء التأليف الفلسفي، هل يمكنكم تحديد أهم الشخصيات التي نهضت بالفكر الفلسفي الحديث والمعاصر في مصر؟

ج11: د. محمود محمد علي: هناك كثير من الشخصيات التي نهضت بالفكر الفلسفي الحديث والمعاصر في مصر نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: الأمام محمد عبده، طه حسين، وزكي نجيب محمود فهل، ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن بدوي، وحسن حنفي وغيرهم كثير، والحديث يطول لو تكلمنا عن كل واحد من هؤلاء، ويكفينا الكلام عن حسن حنفي رحمه الله والذي كان من أبرز مشاريعه الفكرية قضية "التراث والتجديد" الذى ينقسم إلى ثلاثة مستويات يخاطب الأول منها المتخصصين، والثانى للفلاسفة والمثقفين، بغرض نشر الوعي الفَلسفي وبيان أثر المشروعِ فى الثّقافة؛ والأخير للعامة، بغرض تحويل المشروع إلى ثقافة شعبية سياسيَّة.. قدم الراحل الدكتور حسن حنفى مجموعة من المؤلفات فى عدة مجالات منها: "سلسلة موقفنا من التراث القديم مكونة من 4 مجلدات، ومن العقيدة إلى الثورة، وحوار الأجيال، من النقل إلى الإبداع المكونة من 9 مجلدات، وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية، وفيشته فيلسوف المقاومة، حوار المشرق والمغرب، من النقل إلى العقل" وكان أخرها "ذكريات" التى تضم حياته الشخصية ومسيرته العلمية.

س12: ا. مراد غريبي: يرى المتتبعون أن الفكر الفلسفي المصري المعاصر عرف ذروة تطوره في العالم العربي في الربعين الأخيرين من القرن الماضي مع أعمال الأعلام عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ويوسف كرم، ثم لم يصبح مستقلا وإنما أكثر تأثرا بالمنتج الفلسفي الغربي وإعادة إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي، هل صحيح وماذا عما بعد اهرامات الفلسفة المصرية الحديثة ؟

ج12: د. محمود محمد علي: ليس صحيحا القول بأن جهود عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا كانوا أكثر تأثرا بالمنتج الفلسفي الغربي وإعادة إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي، فلا ننسي عبد الرحمن بدوي والذي قال عنه طه حسين بأنه أول فيلسوف عربي استطاع في كتابته أن يبين دور الفلسفة في تاسيس الوعي والروح التي يمكنها خلق حياة جديدة، ونظرة جديدة للكون، والحياة، والتاريخ، فتأسيس النظر أساس العمل، والثورة الروحية أساس الثورة السياسية والحضارة الجديدة... كذلك لا ننسي ما قدمه زكي نجيب محمود الذي أسهم فى إثراء العقل العربى وفند نظريات فلسفية قديمة وحديثة وقدمها للقارئ العربى بسلاسة «وغاص» فى أعماق الحياة بكل تفاصيلها، وكان كما قال عنه بحق العقاد؛ أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو الذى رفض الاستعلاء والتنظير وسعى للتفكير العلمى والقابل للتطبيق، وقدم كتبه الفلسفية بقلم أديب ذو نكهة خاصة... وحول سؤالكم الطيب: ماذا عما بعد اهرامات الفلسفة المصرية الحديثة ؟.. أقول لكم هناك فلاسفة معاصرين خرجوا من رحم عبد الرحمن بدوي وزكي محمود وفؤاد زكريا من أمثال: عصمت نصار، وحسن عبد الحميد، ومحمد علي أبو ريان، ويحي هويدي، وزكريا إبراهيم، ومحمد مهران، ومصطفي النشار، وأحمد الجزار، ومحمد عثمان الخشت، ومحمد صالح، وفيصل بدير عون، ومحمد حسيني أبو سعده، ومني أبو زيد، ومجدي الجزيري، وأحمد سالم .. الخ، ومن قبلهم جميعا أستاذنا عثمان أمين صاحب فلسفة الجوانية والتي أكد من خلالها أن الإصلاح والتغيير على جميع المستويات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية ينبغي أن ينبع من الداخل، ولا يُفرض من الخارج، أي أن تكون عملية الإصلاح "جوانية" وليست "برانية"، تركز على الداخلي والقلبي والإنساني الوجداني، وتنبع من الذات الحضارية، ولا يتم فرضها من الخارج سواء بالإملاء أو التقليد.. والحديث يطول ويطول لو أخذت أسرد لكم ما قام به الخلف من المصريين في مجال التفلسف والإسهام البناء في تطور الفكر المصري المعاصر.

س13: ا. مراد غريبي: ماهي أهم المدارس الفلسفية التي عرفتها مصر وهل لايزال حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفين أم أن الفلسفة الإسلامية الأكثر حضورا في الفكر الفلسفي المصري المعاصر؟

ج13: د. محمود محمد علي: شهدت مصر مجموعة من المدارس الفلسفية في العصر الحديث، بدأت بمدرسة رفاعة الطهطاوي، مرورا بمدرسة الشيخ مصطفي عبد الرازق، ووصولا إلي جيل المعاصرين الذي حمل مشعل التنوير الفلسفي من أمثال مراد وهبة ونازلي إسماعيل وأحمد محمود صبحي وعبد الغفار مكاوي وحبيب الشاروني وغيرهم، علاوة علي الدور المؤثر والخطير والمؤثر في مسيرة الفلسفة المصرية المعاصرة كسلامة موسي وإسماعيل مظهر ومنصور فهمي وأمين الخولي ومحمد يوسف موسي ومحمود الخضيري ومحمد عثمان نجاتي ومحمد عبد الهادي أبو ريده ونجيب بلدي ومحمود قاسم ومحمد ثابت الفندي ومحمود فهمي زيدان ومحمد فتحي الشنطي وعزمي إسلام .. وحول سؤالكم الكريم: هل لا يزال حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفيين أم أن الفلسفة الإسلامية الأكثر حضورا في الفكر الفلسفي المصري المعاصر؟..

 نعم هناك حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفي،وقد حمله كل من الدكتور سليم حسن وثروت عكاشة ومصطفي النشار، حيث تمكنوا من أن يؤرخوا للفكر المصري بكل عصوره وأعلامه وأن يكتبوا عن الفلسفة المصرية القديمة وعن دور بتاح حوتب- رائد التفكير الأخلاقي، وأن يكتبوا أيضا عن دور أخناتون الملك الفيلسوف، وأن يكتبوا أيضا عن فلسفة الطبيعة وتفسير نشأة الوجود في مصر القديمة، كما كتبوا عن الفكر السياسي والاجتماعي في مصر القديمة .. الخ .. كما لا ننسي دور الفلسفة الإسلامية القديمة وحضورها لدي جمهرة المصريين المعاصرين من أمثال الشيخ مصطفي عبد الرازق الذي رد علي كل المستشرقين الذي تنكروا للفلسفة الإسلامية فقال لهم لا تنسوا أن لدينا فلسفة إسلامية متجسدة في علم أصول الفقه، كما النزعة السلفية الإسلامية التي حملها محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" .. كما لا ننسى فكرة الروحية الجديدة التي جسدها عصمت نصار .. والحديث يطول ويطول ويكفينا تجديد علم الكلام عند حسن حنفي من خلال رائعته " من العقيدة إلى الثورة".

س14: ا. مراد غريبي: يجد المتتبع للتحولات التي عرفها الإنتاج الفلسفي في مصر المعاصرة أن هناك تباينا في الاتجاهات التي اختار رواد الفكر الفلسفي المعاصرون التركيز عليها فيطرح الإشكالات وفتح مناقشات جديدة، لكنها لا تكاد تخرج عن مسارات الفكر الديني والعلمانية والتصوف وفي الأغلب ترجمات مهمة مثل ما تركه د.إمام عبد الفتاح إمام للفكر الفلسفي العربي، ماذا عن العقل والعلوم والمناهج والتاريخ والقيم بطبع عدا الدكتور عصمت نصار والدكتور نصار عبد الله الذين كانت لهم إسهامات في عدة أنساق فلسفية وإحياء الرشدية عند د. وهبة؟

ج14: د. محمود محمد علي: توجد عدة إتجاهات وتيارات في دراسة الفلسفة في الجامعات المصرية، ومن أهمها الاتجاه الخاص بالفلسفة الإسلامية بفروعها الكثيرة من علم الكلام وبحث قضايا التراث قس ضوء قضايا ومتجددات العصر الحديث والجمع بين الأصالة والتجديد، كذلك ما يتعلق بالفقه والقياس الأصولي وحل المشكلات الدينية والشرعية وما يتجدد من حوادث ومعطيات حديثة بالقياس لحلول ومطيات السابقين وما ورد فيه الكتاب والسنة المطهرة . ومن مناهج الفلسفة والدراسات الفلسفية أيضا ما يتعلق بالتفكير الفلسفي المشائي وأثره لدي فلاسفة الإسلام العقليين كالكندي والفارابي وابن رشد وابن خلدون وما يتعلق من نظريات فلسفية وعلمية ومحاولة ايجاد أصالة فكرية لدي المفكرين العرب والمسلمين في ضوء دراساتنا لمعطيات المفكرين المحدثين علماء وفلاسفة وما يواكب ذلك من تيارات فلسفية وروحانية في مجال التصوف الإسلامي وإصلاح الأخلاق وتقويم النفس وتحليل آثارها ... ومن اهم المناهج والتيارات الفلسفية تيارات التفكير الفلسفي العقلاني التي ظهرت عند نخبة من كبار مفكرينا المصريين المعاصرين أمثال زكي نجيب محمود وحسن حنفي وعلي سامي النشار ومصطفي عبد الرازق وأبو الوفا التفتازاني وعاطف العراقي وإبراهيم مدكور وتوفيق الطويل وغيرهم .. ولعل أهم ما تركه هؤلاء في مجال الفلسفة الحديث هو محاولة التواصل الفكرى والحضارى بين المتقدمين والمحدثين ومحاولة فتح أفاق جديدة من خلال الانفتاح علي أصول الحضارات والثقافات العربية الحديثة وهذا بلا شك عامل حاسم من عوامل التنوير وقد نملي هذا كله في مناهج المكفرين المصريين في كيفية دراسة أفكار ومناهج المكفرين والفلاسفة العقلانيين والحدسيين الغربيين وقد ظهرت على أثر ذلك مناهج حديثة في دراسة العلوم الحديثة كالمنهج التجريبي والتاريخى والنقدى والحدسى، وظهرت تيارات جديدة مثل تيارات الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلوم ومناهج البحث والمنطق الرمزي (من أمثال ماهر عبد القادر ومحمد السيد) والتنبه إلى ضرورة المزج بين العلوم النظرية والعلوم العملية وإدخال مناهج الرياضيات في مناهج العلوم الحديثة (من أمثال محمد ثابت الفندي ومحمد السرياقوصي).

وهناك اتجاه من المفكرين المعاصرين الذين غردوا خارج السرب من أمثال مراد وهبة وعصمت نصار ونصار عبد الله ؛ فأما مراد وهبه فيعرف عنه دعوته لضرورة إحياء فلسفة ابن رشد بوصفها "..أداة لجسر الهوة بين الغرب والمجتمع الإسلامي ونجاح ابن رشد في البيئة الأوروبية من خلال فلسفة الرشدية اللاتينية التي أسهمت كثيراً في تأسيس العقلانية الأوروبية، وما تولد عنها من إصلاح ديني في القرن الـ16، وتنوير في القرن الـ18، حيث وظفت بشكل واسع آراء ابن رشد الداعية إلى إعمال العقل في فهم النص وفي الحوار الإيجابي بين الناس، وأن هذه الروح هي ما يجب أن يسود حوار الغرب والشرق لأنها أساس السلام في أي منطقة من مناطق الأرض...".و أما عصمت نصار والذي أكد أن الفلسفة هى طوق النجاة بكل ما نحن فيه من تردٍّ وانحطاط، وسبيلنا الأقوم للنهوض والرقي، ونعني بالفلسفة (المنهج). فالمنهج هو الآلية التي تمكننا من إحياء التراث ونقد الوافد والفصل بين ثوابت الهوية والمتغيرات الحضارية في التجديد، وهى التي تقوم بتوعية الرأي العام القائد وترشده إلى ما يجب الأخذ به وما ينبغي العزوف عنه وتؤهل الرأي العام التابع بقبول التحديث والمبادئ العلمية وأصول المدنية، وهى أيضاً التي تنقذ المجتمعات من الأوهام الأربعة (خرافات الموروث، والمعتقدات الزائفة، ولجاجة العوام والسفسطة، وأكاذيب أصحاب السلطة والمشاهير ومزيفي الوعي) وهي كذلك التي تستطيع التمييز بين الأفكار الزائفة والحقيقة والخيال والواقع، وتمكن الأنا من الحوار الهادئ مع الآخر لذلك كله أرى ضرورة إعادة بناء كل برامجنا التعليمية والثقافية على أسس فلسفية... وأخير نصار عبد الله الذي سخر موهبته الشعرية لبناء فلسفة أخلاقية شعارها النسبوية والتي تعني أنَّ جميع الأحكام الأخلاقيّة ومبرراتها ليست مطلقة أو موضوعية أو عالميّة. بل هي نسبية وتتعلق بتقاليد ومعتقدات وممارسات وتاريخ مجموعة من الأشخاص. أيّ أنّ المجتمعات المختلفة والأفراد لديهم معايير مختلفة عن الحق والباطل. وتتغير هذه المعايير الأخلاقيّة من وقت لآخر في نفس الثقافة..3030 مراد ومحمود

س15-أ، مراد غريبي: قبل ختم هذه الحلقة، ماهي قراءة الفكر الفلسفي المصري للإنتاج التراثي الفلسفي والمنطقي والكلامي والديني: الغربي والعربي الإسلامي؟وماهي أهم الاستشكالات والنقاشات النقدية المثارة في المشهد الفلسفي الراهن... نرجو أن تسوق لنا بعض النماذج الفلسفية المصرية المعاصرةورؤاه التجديدية؟

ج15: د. محمود محمد علي: ليس الشعب المصري – بمخزونه الحضاري الكبير، وتاريخه الفكري والأخلاقي – بأقل من اي شعب آخر له فلسفته الخاصة به، بنظريتها وأعلامها، ومشكلاتها وحلولها، ومناهجها وتوجهاتها، وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة في تلمس الفكر الفلسفي عند شعب من الشعوب أو حضارة من الحضارات أن يبحثوا عن الأسئلة الوجودية الثلاثة، التي يطرحها الإنسان علي نفسه بعد أن يستكمل مقومات حياته الضرورية، وهي: من أين أتيت ؟.. ولماذا أنا موجود ؟... وأين المصير؟.. وهي الأسئلة التي طرحت علي العقل الإنساني، وما زالت تطرح حتي اليوم، كما أنها الأسئلة التي تعددت وتنوعت الإجابات المقدمة عنها بحسب عقلية كل فيلسوف، واتجاهه، والمذهب الذي توصل إليه ..

وإذا استعرضنا نماذج من أساتذتنا المصريين المعاصرين في هذا الأمر، فيمكننا أن أقدم لأستاذنا الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، حيث يعد كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، بشهادة الدكتور زكي الميلاد في قراءته لكتاب الدكتور مدكور بأنه يمثل أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد. ..كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد... ويُذكر لهذا الكتاب ويُسجل له أنه جاء بعد ثلاث سنوات على صدور كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر سنة 1944م، هذه الفترة الزمنية المتقاربة جعلت كل كتاب يُذكِّر بالكتاب الآخر، وهذا ما استفاد منه كتاب الدكتور مدكور، وذلك للشهرة الواسعة التي حظي بها كتاب الشيخ عبد الرازق لكونه من أسبق المؤلفات العربية في بابه.... من أكثر ما تميز وتفوق به كتاب الدكتور مدكور على الكتابات الفلسفية الأخرى، هو ذلك الجانب الذي يتصل بالمنهج التطبيقي، فهو من أكثر المؤلفات وضوحاً في المنهج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، واتسم بالتجديد والابتكار من هذه الناحية، وكانت هذه من أعظم نجاحاته، بحيث يمكن القول مع الدكتور زكي الميلاد: إنه كتاب في الفلسفة من جهة، وكتاب في المنهج من جهة أخرى، وما زال إلى اليوم يحتفظ بهذه السمة المتفوقة... وجرت هذه التطبيقات كما يقول الدكتور زكي الميلاد على خمس نظريات تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها جرت التطبيقات عليها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة والنبوة وخلود النفس، واثنتان جرت التطبيقات عليها في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية وحرية الإرادة.... ويرى الدكتور مدكور أن هذه النظريات ما هي إلَّا نماذج لدراسات ينبغي محاكاتها، وجزء من سلسلة يجب استكمال حلقاتها، وهناك نظريات أخرى بحاجة لأن تدخل في نسق هذه التطبيقات، منها نظرية واجب الوجود، والعلم الإلهي، والخلق والإبداع، والسببية والغائية، ومذهب التفاؤل، وغيرها من نظريات أخرى ميتافيزيقية وطبيعية وسيكولوجية وأخلاقية... وطريقة مدكور في تطبيقات المنهج على هذه النظريات الخمس، تبدأ بتوضيح النظرية وإعطاء فكرة كاملة عنها، وشرحها بلغة أصحابها وواضيعها، وبحسب الصورة التي ظهرت عليه في المجال الإسلامي، ومحاولة تلمس أصولها، والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم.

س16-أ، مراد غريبي: ماذا حققت دراسات الفلسفة الإسلامية في العالم العربي بعد القامتين الدكتور مصطفي عبد الرازق والدكتور إبراهيم مدكور تأريخا وتفكيرا ونقدا؟

ج16: د. محمود محمد علي: هناك محاولات بذلت من قبل كثير من المفكرين المصريين شهدتها الفلسفة الإسلامية بعد القامتين الدكتورمصطفي عبد الرازق والدكتورإبراهيم مدكور تأريخاو تفكيرا ونقدا؛ ونذكر منها علي سبيل المثال محاولة أستاذنا الدكتور علي سامي النشار، حيث أشار النشار إلى موقفه النقدي هذا في هامش الجزء الأول من كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، عند حديثه في نهاية الكتاب عن الكتب المنهجية في المصادر العربية التي تحدَّثت عن المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فأشار كما يقول الدكتور زكي الميلاد إلى أربعة منها، أحدها كتاب الدكتور مدكور. وفي نظر الدكتور النشار أن كتاب (في الفلسفة الإسلامية)، يُمثِّل محاولة الدكتور مدكور الأخيرة في بيان حقيقة آرائه التي سبق وأن عبَّر عن كثير منها في مطلع شبابه، وكانت تتمحور حول إثبات أصالة المدرسة المشائية الإسلامية، وأنها لون جديد من ألوان الفلسفة، وتتميز بجدة وأفكار لا نجدها لدى فلاسفة اليونان. وفي هذا النطاق حسب رأي الدكتور النشار، جاء كتابي الدكتور مدكور الصادرين من قبلُ باللغة الفرنسية، وهما كتاب (منطق أرسطو في العالم العربي)، وكتاب (الفارابي ومنزلته في المدرسة الفلسفية الإسلامية). الكتاب الأول يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض رائع لمنطق أرسطو في العالم العربي، وأثره في مختلف المدارس الكلامية والفقهية والعلمية والفلسفية، ومعتبراً أن كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) جاء مناقشة نقدية لهذه الفكرة... الكتاب الأول يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض رائع لمنطق أرسطو في العالم العربي، وأثره في مختلف المدارس الكلامية والفقهية والعلمية والفلسفية، ومعتبراً أن كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) جاء مناقشة نقدية لهذه الفكرة... وهنا يصل الدكتور النشار إلى موقفه النقدي، حيث يرى أن هذه المحاولة التي تمزج بين المشائية والإسلام هي محاولة غريبة عن روح الإسلام، وعن تفكيره ومنهجه العام، لأن الفلسفة في نظره إنما تنبثق من الإسلام نفسه، عن القرآن والسنة، لا عن محاولة التوفيق والتنسيق والتلفيق، وفي تقديره أن فلاسفة الإسلام المشائين قد ابتعدوا عن الإسلام روحاً ونصًّا، وعن المجتمع الإسلامي فكراً وعقيدةً وحياةً، وأن الفلسفة المشائية قد ماتت في العالم الإسلامي منذ عهد بعيد، وبقيت العقائد الكلامية ولم تمت حتى عهدنا هذا... ويضيف الدكتور النشار كما يقول الدكتور زكي الميلاد أن الدكتور مدكور كان يبحث في الفلسفة بحث العالم المؤرخ، فراعته فلسفة الفلاسفة المشائين عند اليونان وعند المسلمين، فحاول في كتبه، وفي تحقيق علمي، أن يجعلها مُعبِّرة عن أصالة إسلامية، وهذا ما أنكره تمام الإنكار، إنها فلسفة بلا شك، ولكنها ليست تعبيراً عن فكر إسلامي وحضارة إسلامية... مع ذلك فإن الدكتور النشار لا يريد تخطئة الدكتور مدكور أكثر من هذا الحد، فقد استدرك على موقفه النقدي ليذكر أن مدكور «لم يكن على الإطلاق من مدرسة الفلسفة اليونانية التي رأت في فلسفة اليونان غاية الغايات، وأن إليها يعود كل فكر، ولم يرَ الدكتور إبراهيم مدكور على الإطلاق أن فكرنا المعاصر ينبغي أن يرتبط بفلسفة أوروبا وحضارتها، تحت تأثير الدعوة الخاطئة التي قدَّمتها مدرسة طه حسين على مسرح تفكيرنا»... وهذا الموقف النقدي للدكتور النشار قد يصدق على الجزء الأول من كتاب الدكتور مدكور، ولا يصدق بتمامه على الجزء الثاني.

 

حاوره: ا. مراد غريبي

5 – 12 – 2021م

..................

(1) تم الاقتباس في الإجابات الأسئلة 15و 16 من قراءة الدكتور زكي الميلاد لكتاب الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، مجلة الكلمة، العدد (71) السنة الثامنة عشر، ربيع 2011م 1432 هـ

 

3030 مراد ومحمودخاص: المثقف: تستضيف المثقف الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور محمود محمد علي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

س1: أ. مراد غريبي: بداية، لديكم مسيرة حافلة سواءا في المجال الأكاديمي التعليمي وكذا المشهد الفكري الثقافي، قراءات مهمة لقضايا ورواد الفكر والفلسفة والحضارة والأدب والفن والعلوم، مما يستدعي تقديما منكم: كيف تشكل راهن الدكتور محمود محمد علي؟

ج1: د. محمود محمد علي: أنا محمود محمد علي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية وواحد من الباحثين المصريين المعاصرين الذين يطلق عليهم لقب المثقف الشامل، حيث ضربت بسهام وافرة في فروع الفلسفة، حيث كتبت في الفلسفة الإسلامية، والتصوف، وعلم الكلام، والمنطق ومناهج البحث وفلسفة الابستمولوجيا، علاوة علي اشتغالي بقضايا الفكر السياسي المعاصر، حيث كتبت موسوعة أجيال الحروب والتي صدر منها حتي الآن ثلاثة مجلدات، بدأت فيها من حروب الجيل الثالث إلي حروب الجيل الخامس، علاوة علي اهتمامي الشديد بقضايا الأوبئة والجوائح، ومقالاته المتعددة حول كوفيد 19، وكذلك مقالاتي في القضايا الاجتماعية والسياسية والمنشورة بالصحف والمجلات العربية والمصرية..

ولدت "محمود محمد علي محمد" في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج بجمهورية مصر العربية، في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1966، ونشأ كعادة أبناء القرى فقد نشأت على حفظت القرآن والأحاديث النبوية والشعر العربي . وفي نفس الوقت بدأت طريق التعليم فدخلت مدرسة المجلس الابتدائية . ثم واصلت تعلمي للحصول على الشهادة الابتدائية من المدرسة الإعدادية الجديدة بأخميم حسب النظام التعليمي الذي كان معمولاً به آنذاك. قد حصلت على هذه الشهادة عام 1977م . واصلت تعليمي الثانوي بمدينة أخميم أيضاً فالتحقت بمدرسة أخميم الثانوية للحصول على شهادة إتمام الدراسة الثانوية عامة 1984م . وفي نفس العام انتقلت إلى جامعة أسيوط واختارت دراسة الفلسفة للحصول على ليسانس الفلسفة متفوقاً على كل أقراني عام 1988م، وقبل أن تعييني مدرسا مساعدا بكلية الآداب – جامعة حلون , حصلت على السنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة – جامعة القاهرة , ثم حصلت على درجة الماجستير في الدراسات المنطقية وكان موضوع البحث "المنطق الإشراقي عند السهر وردي المقتول في ضوء المنطق الأوربي الحديث " تحت إشراف أ.د/ عاطف العراقي عام 1990م بتقدير عام ممتاز. عينت مدرساً مساعداً بقسم الفلسفة – جامعة حلوان، وبدأت رحلة البحث في الدكتوراه بين جامعة جنوب الوادي وجامعة القاهرة حتى حصلت عليها من جامعة جنوب الوادي تحت إشراف أ.د/عاطف العراقي في موضوع "المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة " عام 1995م بمرتبة الشرف الأولى؛ وعقب حصولي علي درجة الدكتوراه عُينت مدرسا للمنطق وفلسفة العلوم بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم حصلت علي درجة أستاذ مساعد عام 2004م، وكذلك حصل علي درجة الأستاذية في عام 2012م. اشتغلت بالتدريس في عدة جامعات مصرية وعربية، حيث قمت بالتدريس في جامعات حلوان وأسيوط، وجنوب الوادي، وفي جامعة السابع من أبريل بليبيا وذلك قبل سقوط نظام معمر القذافي، كما سافرت في مهمة علمية للولايات المتحدة الأمريكية، وحاضر بجامعة جورجيا الأمريكية في عام 2001م، التقيت بالعديد من كبار فلاسفة العلم المعاصرين، من أمثال سكوت كلينر، ويري بلاشوف، وستيفن تولمن وغيرهم، كما حضرت الكثير من المؤتمرات العلمية الدولية والمحلية . قمت بتأليف العديد من المؤلفات في الفلسفة، منها: جماليات العلم،، العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه، والأصول الشرقية للعلم اليوناني، المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصرة، والنحو العربي وعلاقته بالمنطق، والعلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري "السهروردي المقتول نموذجا"، وحروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي، ودراسات في المنطق متعدد القيم وفلسفة العلوم، وحروب الجيل الرابع وجدل الأنا والآخر، وحروب الجيل الخامس وخصخصة العنف، وجائحة كورنا بين نظرية المؤامرة وعفوية الطبيعة، هذا بجانب ترجمته لكتاب البصيرة والفهم دراسة في أهداف العلم لستيفن تولمن.

س2: أ. مراد غريبي: تمثّل قضيّة العلاقة بين الحضاري والثقافيّ الفلسفي الموضوع الرئيسي لإهتماماتكم، ماذا عن علاقة الثقافة الفلسفية بالحضارات القديمة في مقاربة النهضة العلمية في مصر أولا والوطن العربي عموما؟

ج2: د. محمود محمد علي: شهدت حضارات الشرق القديم صحوة علمية وفلسفية قبل الحضارة اليونان بمئات السنين حيث قدمت لنا تلك الحضارات ثقافة فلسفية عالية في مجالات مثل نظرية المعرفة، فلسفة الطبيعة، الأنطولوجيا، الماورائيات، فلسفة الدين، الأخلاق وفلسفة الأخلاق، المنطق وفلسفة اللغة، الفلسفة الاجتماعية وفلسفة الحضارة، وعندما جاءت الحملة الفرنسية ومعها مجموعة كبيرة من خيرة العلماء، قام أحدهم وهو شامبليون ليعلن للعالم اكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية، وليكشف لنا كيف قامت الحضارة المصرية القديمة على الأسس الثلاثة للحضارة، وهي العلم والعمل والفن؛ والعلم في الحضارة المصرية واضح في علوم التحنيط والأهرامات والعمارة الشاهقة والمعابد الخالدة، وتعامد الشمس في أبوسمبل في عيد ميلاد الملك، وتقدم الطب المصري القديم والفن والعمل واضح في العمارة والحضارة المصرية القديمة، وهي تراكمية كغيرها من الحضارات.

وقد كان اكتشاف شامبليون له شأن كبير علي ضرورة الاهتمام بالحضارات الشرقية الأخرى وبالأخص العراق القديم، حيث إن هذه الحضارة تعد مهد الحضارة لكثرة الاختراعات والابتكارات الحضارية التي ظهرت فيه قبل غيره من البلاد منذ مطلع الألف العاشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي، ففي العصر الحجري الحديث وقبل اختراع الفخار بدأ الناس بالاتجاه نحو الزراعة تاركين حياة الصيد وجمع الطعام فخلقوا أول تجمعات سكنية موسمية ما لبثت أن أصبحت دائمية خلال العصر الحجري الفخاري (نحو 7000 ق.م)، وقد كانت هذه التجمعات (القرى) هي أساس المدن الأولى التي بدأت بالظهور في العصر النحاسي (5900-3200 ق.م)، ويشتمل العصر النحاسي على حقبة العُبيد (5000-4100 ق.م) التي شهدت خلق الفنون المعقدة وصنع الأعمال الخزفية والأدوات النحاسية إضافة إلى بناء المعابد الأولى التي كانت على هيئة أبراج مدرّجة تُعرف باسم الزقورات يقوم على قمتها مقام الإله المقدّس.

س3: أ. مراد غريبي: لديكم رصيد قراءات مهمة لأهم رواد المذاهب الفلسفية خصوصا في مصر والعراق وغيرها من بلدان الوطن العربي المعاصرين والقدامى، من خلال إثارة إشكاليّات الثقافة والعلم والدين والحضارة والتاريخ،هل يعني هذا اقتناعا بقيمة الدراسة المتعدّدة الآفاق والمناهج والخلفيات للتفكر الفلسفي العربي، أي الدراسة التراكمية التوفيقية للفكر الفلسفي العربي القديم والحديث والمعاصر أم ماذا؟؟

ج3: د.محمود محمد علي: عندما شرعت في الكتابة عن رواد المذاهب الفلسفية سواء في مصر أو باقي دول العالم العربي من المعاصرين والقدامى، من خلال إثارة إشكاليّات الثقافة والعلم والدين والحضارة والتاريخ، كان هذا اقتناعا مني بقيمة الدراسة المتعدّدة الآفاق والمناهج والخلفيات للتفكر الفلسفي العربي، حتى أنني عندما قمت بنشرهم ورقيا حملوا أكثر من عنوان مثل: مفكرون مغمورون، ورجال عرفتهم، وشخصيات فلسفية معاصرة.3030 مراد ومحمود

س4: أ. مراد غريبي: الآن نحاول التركيز أكثر معكم، كيف ترون راهنية العلاقة بين الفلسفة والتاريخ بكل حمولاته الدينية والثقافية والسياسية واللغوية والحضارية في الغرب وفي العالم العربي الإسلامي؟

ج4: د. محمود محمد علي: أنا واحد من المؤمنين بأن ارتباط الفلسفة بالتاريخ ليس فقط من حيث هو تاريخ الفلسفة، بل من حيث هو فلسفة التاريخ أي التفكير في تطور التاريخ وحركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطوّر، وعندما ترتبط الفلسفة بالتاريخ تنمو وتزدهر وتحيا. وإذا انفصلت عن التاريخ تخبو وتتقلّص وتموت. ويشهد التاريخ على ذلك. فمن أسباب موت الفلسفة في العصر الوسيط أنها كانت فلسفات عقائدية لا تهتمّ بتطور التاريخ البشري ولا بحياة الشعوب ولا بمراحله المختلفة، اقتصرت على صياغة فلسفات لا تاريخية ثلاثية القسمة: منطق وطبيعيات وإلهيات دون أن يكون فيها تاريخيات أو إنسانيات كأقسام مستقلة غير ملحقة بالإلهيات. كانت العلاقة بين طَرَفي الحقيقة علاقة رأسية بين الله والعالم، وليست علاقة أفقية بين الماضي والمستقبل أي الله في التاريخ والخلود في الزمان. وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بدخولها في معارك التاريخ وباستثمارها رصيد الفكر الإنساني، وإنجازات الروح البشري. وهنا تبدو أهمية أرسطو مؤرخاً وأولويته على سقراط وأفلاطون، فعن طريق أرسطو بُعِث التاريخ، تاريخ الفكر اليوناني، فلم يكن أرسطو يبدأ أية مشكلة دون عرض آراء السابقين عليه، وقبل أن يبدأ برأيه الخاص، فأمكن رؤية جدلية الموضوع واحتمالاته المختلفة. ولمَّا كانت كتابة التاريخ نذيراً بنهاية مرحلة وبداية أخرى كما هو الحال عند أرسطو وابن خلدون وتوينبي. وفي تراثنا القديم كان يمكن للفلسفة أن تزدهر من التفكير في تاريخ الفِرَق دون تكفير بعضها للبعض الآخر، وتكفير الفرقة الناجية ـ فرقةُ أهل السُنَّة والحديث ـ كلَّ الفرق الأخرى. فتاريخ الأمة هو تاريخ فكرها دون إدانة وحكم بالمُروق. وكان للفلسفة أن تحيا بالتفكير في تاريخ الأمم والحضارات وتاريخ الفرق غير الإسلامية هذا الجزء المجهول في علم أصول الدين الذي ذكره علماء الكلام وهم بصدد الحديث عن صفة "الواحد" أو بصدد الحديث عن الحضارات البشرية السابقة على الإسلام مثل حضارات الهند وفارس والروم. كما كان يمكن للفلسفة أن تزدهر لو ظلّ الاجتهاد ولم يتوقف المسلمون عنه. وكان يمكن لها أن تزدهر أيضاً لو استأنفت تفكير ابن خلدون في علم التاريخ، في أسباب انهيار الأمم والشعوب، وتزيد عليه أسباب نهضة الأمم وشروط البعث الحضاري الجديد. وقد بدأت الإرهاصات منذ القرن الماضي في الفكر الإصلاحي والعلماني والسياسي كلٌّ بطريقته الخاصة دون أن تنشأ فلسفة أو أن يؤسَّس اتجاه أو يُقام مذهب. وهذا لا يعني أن الفلسفة قد ماتت بل يعني أن ظروف حياتها ما زالت تتهيأ وأنها على مشارف ميلاد جديد.

س5: أ. مراد غريبي: ما نوع العلاقة التي تتصوّرون بين الفلسفة من جهة والإستشراق والاستغراب من جهة أخرى في تشكل الفكر الفلسفي العربي الحديث والمعاصر؟

ج5: د. محمود محمد علي: اعتقد أن موضوع الإستشراق وما يقابله من استغراب قد اكتسب أهمية كبرى؛ لما يتضمنه من معاني وخلفيات العلاقة التاريخية والمتجذرة بين الشرق والغرب، وتحديداً بين الإسلام وعالمه، والغرب كمعطى جغرافي أو ثقافي، حيث تراوحت هذه العلاقة بين التوتر والصراع والحوار بحسب تطوّر موازين القوى بين الطرفين بين الأمس واليوم.

ولا شك أن الاستشراق والمستشرقين قد خدم تراثنا الفكري لقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه، في منشئه ومصادره وتأثره وتطوره وأثره ومقارنته بغيره، مستعينين ذلك كله بما أنشأوه من المعاهد والمراكز البحثية والمؤسسات العلمية الجامعية والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتي بلغوا فيه منذ مئات السنين، وفي شتي البلدان وبسائر اللغات، مبلغاً عظيماً من العمق والشمول والطرافة، وأصبح إنتاجهم العلمي يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لتراثنا وثقافتنا العلمية والفلسفية والقومية.

أما فيما يخص الاستغراب فبما أننا ندرس الغرب فيما أطلق عليه الدكتور حسن حنفي " الاستغراب" في كتابه القيم (مدخل إلى علم الاستغراب) لابد أن نشير إلى أن أهمية دراسة الغرب هي أنها تحولنا إلى ذات دارسة بعد أن كنّا ومازلنا موضع الدرس للأخرين (الأوروبيون والأمريكيون، ودخل الآن الساحة لدراستنا اليابانيون والصينيون وغيرهم) فالتحول إلى ذات دارسة يعيننا في التغلب على مركب النقض الذي وضعنا فيه بجعلنا موضع الدراسة للآخرين، ويعيد لنا بعض الثقة في النفس وأخذ زمام المبادرة بالعودة إلى تسلم مسؤولية الشهادة على الأمم

س6: أ. مراد غريبي: كيف هي وضعية الفلسفة في مصر بالمقارنة مع محطات القرن الماضي؟

ج6: د. محمود محمد علي: اعتقد أن الصدمة الحضارية التي تلقتها الشعوب العربية منذ بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، ثم توالي احتلال البلاد العربية الأخرى كسوريا، والعراق، وليبيا، وتونس والجزائر، والغرب، أقول أن هذه الصدمة وليست الوعي بمدي ما أحرزه الغربيون من تقدم وبمدي التخلف الذي تعاني منه الشعوب العربية بسبب ظروف هي خارجة عن إرادتها، أقول إن هذه الصدمة ولدت الوعي بمدي ما أحرزه الغربيون من تقدم وبمدي التخلف الذي تعاني منه الشعوب العربية بسبب ظروف هي خارجة عن إرادتها في كل الأحوال .

وبالطبع فقد كان أول موجة لرد الفعل على يد دعاة التحرر الوطني ودعاة الاستقلال، ومن ثم ظهرت في ثنايا ذلك حركات الإصلاح الديني ؛ فمن رفاعة الطهطاوي إلي محمد عبده في مصر، ومن خير الدين التونسي في تونس إلى عبد الحميد بن باديس في الجزائر .

وظهر في وجود هذا الجيل الأول، جيلا جديدا من المفكرين ؛ جيل منصور فهمي، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى وعلي عبد الرازق وساطع الخضري وسلامة موسى وطه حسين وعباس محمود العقاد وهو جيل تنويري حاول عبر تياراته المختلفة إلى الإسلام السياسي إلى اليسار الاشتراكي والليبرالية الرأسمالية وهي تيارات تراوحت بين الدعوة إلي التراث والنهل من علوم الحضارة الغربية ومناهجها الحديثة.

وفي أحضان هذا الجيل ظهر الجيل الثالث الذي بدأت معه المشاريع الفكرية العربية المعاصرة، جيل عثمان أمين وإبراهيم بيومي مدكور وعبد الرحمن بدوي وتوفيق الطويل ويوسف كرم وزكريا إبراهيم في مصر، وجيل محمد عزيز الحبابي في المغرب، وحسين مروة وحسن صعب ورينية حبشي وأدونيس في لبنان، والطيب تزيني وصادق جلال العظم في سوريا .

وقد بزغ من رحم الجيل الثالث الجيل الرابع، وهذا الجيل حمل بداخله عدة مشاريع فكرية مثل:

1-المشاريع الفكرية التي استندت علي الموروث دون الوافد والمتمثل في إحياء فكر الحنابلة وبعض النزعات السلفية ؛ من أمثال حسن البنا، وسيد قطب، يوسف القرضاوي، وحسن الترابي وراشد الغنوشي.

2-المشاريع التي استندت على الوافد الغربي دون الاهتمام بالموروث من أمثال: محمد عزيز الحبابي والشخصانية الوجودية، وهناك من يمثلون البنيوية في الفكر العربي المعاصر من أمثال محمد عابد الجابري في المغرب، ومحمد أركون من الجزائر وجابر عصفور وصلاح فضل من مصر.

3- المشاريع التي حاولت التوفيق بين الوافد والموروث، ويأتي علي رأسها المشروع الفكري الضخم لزكي نجيب محمود في كتابيه الشهير: تجديد الفكر العربي، والمعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ومشروع محمد عابد الجابري في مؤلفاته الشهيرة: نحن والتراث، وبنية العقل العربي، وتكوين العقل العربي، ونقد العقل السياسي .. الخ.

س7- أ. مراد غريبي: ألا ترون أن مناهج الدرس الفلسفي بالجامعات العربية اليوم بحاجة لمراجعة معمقة لموقعها الأساسي في صياغة المنظومة الأكاديمية بما يتناسب والتحديات والتحولات والرهانات في مجال التعليم العالي؟ وماهي أهم ملاحظاتكم بهذا الخصوص؟

ج7: د. محمود محمد علي: اعتقد أن الفلسفة ليست معطى سهل المأخذ، بل هي ككل الحقول المعرفية تحتاج إلى تطوير مستمر في محتواها، وفي أدوات تدريسها. ومن هنا فإن التفكير في مستجدات حقل تطور الدرس الفلسفي ضروري لتطوير الدرس الفلسفي في جامعاتنا العربية، وفي أدوات تدريسها من أجل تجويد نقل الخطاب الفلسفي النقدي العقلاني إلي الفئات المتعلمة، مع الأخذ في الحسبان النمو النفيسي والذهني للمتعلم، بتصريف اللغة الفلسفية ومبادئها ومرتكزاتها عن طريق تعليمات ٍنوعية وكفايات شمولية تجعل من المتعلم قادراً على أن ينخرط في مجتمع المعرفة والتنوع الثقافي والعرقي والمذهبي، بروح الحوار والنقد والتسامح. ويتحصل من هذا أن الفلسفة كممارسة داخل المؤسسات التربوية والتعليمية تواجه بلا شك يفي مصر والعالم العربي صعوبات على مستوى تقبلها، وخاصة في وقتنا الراهن، والذي ازدادت فيها عقلية التشدد والنبرة الطائفية قوة ونفوذاً.

وقد عرفت الفلسفة في ماضينا السياسي والثقافي والجامعي التهميش والإقصاء، وهو ما تجيل يفي تغييب تدريسها مؤسساتنا التعليمية العريقة (جامعة القرويني كنموذج) بفعل فتاوى فقهية وضغوطات سياسية. ومن جهة ّ أخرى، لا يوجد تصور بيداغوجي واضح يفي الوقت الحالي بخصوص تدريس هذه المادة.

س8: أ. مراد غريبي: ماسياق إنجازك كتاب "دراسات في المنطق المتعدد القيم وفلسفة العلوم"؟

ج8: د. محمود محمد علي: اعتاد الباحثون على أن يسموا المنطق الذى يعول علي قانون الثالث المرفوع باسم المنطق الثنائي، نظراً لاعتماده من وجهه النظر المنطقية الرياضية علي نسق ثنائي القيم، مهما يكن المعني المنسوب لهاتين القيمتين . وبالمثل أيضاً، فإن المنطق الذى يسمح بوجود ثلاث قيم سوف يسمى بالمنطق ثلاثي القيم، بينما المنطق الذي يسمى بأربع قيم فيسمي بالمنطق رباعي القيم، ..الخ، ومثل هذا يقال أيضاً عن المنطق الذى يسلم بوجود عدد لا متناهي من القيم يسمى بالمنطق متعدد القيم.ولقد خطا المنطق متعدد القيم أولى خطواته التصويرية على يد تشارلز بيرس، حيث قام بيرس بجهود منفردة ومستقلة عن أعلام المنطق الحديث أمثال فريجة، وراسل، ووايتهد،، لتطوير الجهاز الرمزي المنطقي وسد ثغرات المنطق القديم، فساهم مثلاً في إقامة أولى نظريات المنطق الرمزي، وهى نظرية حساب القضايا، ووضع بعض قوانينها . وإليه يرجع الفضل في إقامة نظرية حساب العلاقات، بادئاً من تلك الإشارات والتوجيهات التي قدمها دي مورجان، . وفضلاً عن ذلك استخدام بيرس قوائم الصدق ثنائية القيمة، وقد قادته هذه القوائم إلى تصور إمكانية بناء قوائم أخرى تتسع لقيمة صدق ثالثة وهنا وصلنا لما سمي بالمنطق المتعدد القيم، وهذا المنطق ارتبط بقضايا كثيرة في فلسفة العلم المعاصر ؛ منها مشكلة اللايقين في فيزياء هيزنبرج، ومشكلة الغموص في المفاهيم الفلسفية التي تتعلق بقضايا الذكاء الاصطناعي .. الخ.

س9: أ. مراد غريبي: ناقشتم مشروع البروفسور الراحل مهدي المنجرة فيلسوف المستقبليات، ماذا عن فلسفة المستقبل في أروقة الإشتغال الفلسفي العربي والإسلامي خصوصا في المشهد الفكري الفلسفي بمصر؟

ج9: د. محمود محمد علي: اعتقد أن الدراسات الاستشرافية لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل بل إلى التبصير بجملة البدائل المتوقعة التي تساعد على الاختيار الواعي لمستقبل أفضل.. فالاستشراف ليس تنبؤاً وتكهناً بالمستقبل أو اطلاعاً على الغيب، وليس استخدام أدوات هذا العلم الذي يمكننا على معرفة المستقبل، وإنما توقع احتمالات قد تحدث بنسب متفاوتة والاستعداد لكل احتمال. وفق منهجية علمية ومحاولة تكوين صورة واضحة عما يمكن أن يحدث وذلك على أساس معلوماتنا عن الظروف الطبيعية والحيوية لواقعنا المصري الذي نعيش فيه. وغاية الدراسات المستقبلية في مصر هو توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم.

ومن أجل الحيادية في قراءة المستقبل في مصر علينا تجنب الأفكار المسبقة أو الاندفاع لرؤية بعض الأمور التي تناسب أفكارنا وتجاهل أو نبذ الأخرى التي تزعجنا، فإذا أردنا لهذا المستقبل أن يكون أقرب ما يكون فلا بد لنا أن نضع ذلك المستقبل على شاكلة نرضاها لمستقبلنا من خلال اتخاذ القرارات التطويرية الآخذة بعين الاعتبار النتائج والتداعيات المحتملة لهذه القرارات على مدى زمن بعيد نسبياً.

س10: أ. مراد غريبي: قضيّة العلاقة بين المشروع النهضوي في الفكر العربيّ المعاصر قديمة ومتجدّدة.من أيام فرح أنطون، وشبلي شميل، وسلامة موسى من جهة، رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمّد عبده، شكيب أرسلان من جهة أخرى وصولا للمعاصرين من المفكرين والفلاسفة. أين الفكر العربيّ والإسلامي المعاصر من تفعيل هذه القضيّة حيث مسودات المشاريع تتلاحق والواقع يزداد تخلفا ونكوصا؟

ج10: د. محمود محمد علي: اعتقد أن التفكير بمشروع نهوض عربي جديد يستوجب خطوتين كبيرتين، الأولى في التأسيس المعرفي لهذا المشروع من موقع التاريخ العربي الحديث، في حين أن الخطوة الثانية تقوم على التأسيس الفكري الفلسفي النقدي له، ولذلك لا يمكن التفكير في مشروع نهوض عربي جديد دون استدعاء مرجعيات محددة، قصد بناء المعطيات التي تمكننا من توضيح محتوى ما نحن بصدد التفكير فيه؛ وفي هذا السياق يمكن العودة إلى النموذج التاريخي الحضاري الغربي، كما يمكن استدعاء بعض عناصر مشروع النهضة العربية، كما تبلورت في التاريخ العربي المعاصر خلال القرنين المنصرمين ؛ وتاريخنا العربي عامة والحديث منه خاصة، يحوي تجارب نهضوية تدل على أن فكرة النهضة ليست غريبة على تاريخنا.

ولكن للأسف عندما نشخص واقعنا العربي الحالي نكتشف أن مجتمعاتنا العربية تعاني كما قال الجابري من ثنائية أفقية قوامها بني حديثة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية تستنسخ بشكل مباشر وتقليدي بني المجتمع الأوربي المعاصر، وإلى جانب هذه البنى الحديثة تنتشر هنا وهناك وفي كل مكان بنى مجتمعنا التقليدي الذي تكرس استمرار عالم القرون الوسطى، علاوة علي ثنائية عمودية كما قال الجابري أيضا تعول علي وجود ثقافتين مختلفتين " الثقافة البدوية القروية الريفية ونخبتها التقليدية " العالمة" والثقافة المدنية العصرية الحداثية ونخبتها " المثقفة".

 

حاوره: ا. مراد غريبي

28 – 11- 2021م

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة السادسة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور السادس: إشكالية الوعي في الفلسفة الغربية المعاصرة.. جون روجرز سيرل1 نموذجا.

س98: ا. مراد غريبي: في احدى مقالاتكم الاستاذ اليوسف، تساءلتم: هل الوعي مادة؟ ما توضيحكم لهذا التساؤل.

ج98: ا. علي محمد اليوسف: هل الوعي يمتلك خواص المادة مثل الحركة والإمتداد والأبعاد الثلاثة الطول والعرض والارتفاع واضاف انشتاين البعد الرابع الزمن؟ وهل تمتلك المادة خاصية التفكير الواعي منفردة على خلاف خاصية تفكير الوعي في تعبير اللغة عن مدركات العقل المادية؟ هل المادة عقل مفكر ذاتيا يعي تفكيره؟ وهل الفكر جوهر مادي مستقل عن منظومة العقل المتعالقة بإدراك الموجودات؟ وبأي وسيلة تعبير تمتلك المادة الإفصاح الإستدلالي عن وجودها الانطولوجي دونما إدراك الوعي العقلي لها في غير دلالة اللغة؟

نقصد بالمادة هنا كل موجود غير عاقل يمتلك صفات وماهية المادة كمتعّين أنطولوجيا يدركه العقل ولا يدرك هو العقل.

لقد "وضع هوبز النزعة الآلية في الإمتداد، وأضاف جوهرا آخر للمادة هو التفكير لكي يفسح في المجال لوعي الانسان الذاتي، وجعل من هذين الجوهرين – يقصد المادة والوعي - يعتمدان على الله ".

س99: ا. مراد غريبي: إذن بماذا تحددون الاجابة على التساؤلات التي طرحتها؟

ج99: ا. علي محمد اليوسف: الوعي ليس مادة بالمعنى الحسّي المتعين أنطولوجيا، وصفات الامتداد والحركة الآلية في المادة لا غبار عليها، والوعي لا يمتلك خواص المادة ولا صفاتها بإستقلالية عن منظومة العقل الإدراكية من ضمنها اللغة، ولكي يكون الوعي متعّينا مدركا أنما يكون في إمتلاكه قابلية التحول من موضوع لافيزيائي الى لغة تعبير فيزيائي في التفكير بشيء مادي أو بموضوع خيالي. وإلا أصبح الوعي من إفصاحات النفس تجريدا التي هي ليست موضوعا مدركا بإستقلالية عن العقل. بل النفس مفهوما بتعبير لغة العقل عنه. بمعنى لكي يكون الوعي موضوعا مدركا عقليا علينا ربطه باللغة في موضعتهما الأشياء التي يعبرّان عنها. وبغير تلازم الوعي مع لغة التعبير لا يبقى وجود له في عالم الموجودات الخارجية في التعبير اللغوي المتموضع معه الوعي في كل شيء يدركه العقل بوعيه فيه وتعبير اللغة عنه. وبغير هذا التلازم بين الوعي واللغة وبين الوعي والعقل يكون الوعي صمتا تفكيريا بالذهن داخليا فقط. بعبارة ثانية الوعي هو تموضع لغوي صامت في التعبير خارجيا عن مدركات العقل، واللغة تموضع إفصاحي عن مواضيع إدراك الوعي لها. الوعي حلقة ضرورية داخل منظومة الإدراك العقلي لا يمتاز بخصائص المادة ولا يمتلك خاصية أن يكون موضوعا تجريديا أو ماديا يدركه العقل.

س100: ا. مراد غريبي: كيف يكون الربط بين علاقة تجريد كلا من الوعي واللغة ببايولوجيا العقل؟

ج100: ا. علي محمد اليوسف: الوعي حلقة تجريد يمتاز بها العقل ويمارسها وسيلة معرفية شأنه شأن اللغة، وليس الوعي جوهرا ماديا مستقلا ذاتيا ايضا. فكلاهما الوعي واللغة حلقتان تجريديتان في منظومة العقل الإدراكية. وكما لا يستطيع العقل جعل اللغة موضوعا مستقلا في إدراكه لها دونما أن تكون اللغة تعبيرا عن موضوع مدرك، وكذا يعجز العقل أن يجعل من الوعي موضوعا يدركه بإستقلالية لوحده خارج منظومة الإدراك. الوعي أو اللغة تجريدان تعبيران يرتبطان بعملية الإدراك العقلي ولا قيمة لهما في إستقلاليتهما عن موضوع مدرك. بمعنى لا يمكن للعقل أن يدرك الوعي أو اللغة تجريدان مستقلان من غير تعالقهما بمعنى قصدي يلازمهما.

ولا يكون الوعي موضوعا مستقلا لإدراك العقل له، فالوعي شأنه شأن الزمن ليس موضوعا لإدراك العقل بل وسيلة إدراكه لمواضيعه، كذلك اللغة هي تجريد تعبيري للعقل لكنها ليست موضوعا مستقلا في إمكانية إدراكه لها مجردة عن موضوع يلازمها إدراكيا، وعندما نفكر بشيء ما أو موضوع ما فنحن نفكر به لغويا تجريديا – وتموضعيا ماديا، أي بمقدار ما تكون اللغة تجريدا في تعبيرها الفكري عن الاشياء بمقدار ما تكون جزءا متموضعا ماديا في التعبير عن تلك الاشياء كموجودات تحمل لغة إفصاحاتها معها.. اللغة ليست خاصية الفكر التجريدي في التعبير فقط بل هي لغة تمثل جزءا متموضعا في كل شيء يدركه العقل. اللغة ليست إدراكا تجريديا فقط وإنما هي صفة ملازمة للاشياء التي يدركها العقل ليس بلغته بل في إكتشافه تموضع اللغة بها ويقرأها العقل وعيا تجريديا لغويا في انطولوجيا الموجودات المدركة..

وحينما يدرك الوعي المادة كتجريد لغوي فهو يكتسب خصائص الموضوع المادي المدرك المنفرد بلغة الذهن الصامت. بمعنى الوعي لا يكون ماديا حسّيا في تعبيره اللغوي عن الاشياء وإنما يبقى الوعي تجسيدا لغويا تجريديا في التعبير عن مدركات العقل المادية والخيالية. الوعي أكثر تجريدا صامتا من تجريد اللغة الصامتة والإفصاحية معا، كون الوعي فهم معرفي صامت وليس تعبيرا إدراكيا تصوريا مثل اللغة يمكن معرفته من خلال تعبيره عن موضوعه الذي يجري التفكير فيه ويعيه العقل.. وفي كل هذه الخصائص التي نتصورها خطأ أنها مستقلة عن بعضها في الوعي واللغة إلا أن حقيقتهما البايولوجية جوهران ينتظمهما الإدراك العقلي.

وحينما يعي الوعي ذاته بمعنى حينما يعي الانسان وعيه لذاته فهذا لا يخرج عن أصل التعبير في معنى مرادف هو إدراك العقل لذاته كموضوع الذي هو ماهية الانسان الفردية التي لا يدركها سوى صاحبها، في مطابقة الوعي المجرد مع كينونة العقل الفيزيائية التجريدية لغويا في تعبيره عن مدركاته وفي تعبيره الواعي عن كينونته الذاتية. وفي كلتا الحالتين لا يكون الوعي موضوعا منفصلا لإدراك العقل بل وسيلة إستدلالية له في معرفته الاشياء. الوعي لغة عقلية صامتة واللغة وعي ناطق في تعبيرات العقل عن مدركاته.

ليس هناك من علاقة إدراكية حسّية ولا حتى علاقة تخييلية ميتافيزيقية، ترتبط بهما (المادة والوعي) في إمتلاكهما خاصية الحركة والامتداد والأبعاد الثلاثة لكل مادة. فالمادة والوعي جوهرين متكاملين في وظيفة الإدراك العقلي لكنهما جوهرين منفصلين كموضوعين في إدراك العقل لهما. ولا يمتلكان (المادة والوعي) الاستقلالية التأهيلية الإنفصالية أحدهما عن الآخر ليدخلا في علاقة معرفية وإدراكية مع الله كما ذهب له هوبز.

إختلاف المادة عن الوعي أنها تمتلك صفاتها الانطولوجية كمتعيّن مادي يدركه العقل، وهذا ما لا ينطبق على الوعي كونه غير مادة لذا فهو ليس موضوعا مستقلا في إدراك العقل له. فأينما وجدت المادة وجد الوعي الملازم لها في إمكانية إدراكها. وهناك فرق جوهري كبير بينهما سبق لنا ذكره هو أن المادة تكون موضوعا للعقل بينما لا يكون الوعي موضوعا مدركا للعقل، لذا فالحركة والامتداد والأبعاد الطول والعرض والارتفاع والزمن ألإدراكي لها هي صفات للمادة فقط ولا تكون صفات ماهوية أو خصائصية للوعي الذي هو تجريد لا مادي حاله حال اللغة والزمن كمفهوم مطلق في تعبيره عن الشيء وهو ليس جزءا مدركا يلازمه.

التفكير ليس آلية خاصية تمتلكها المادة أية مادة، فالمادة لا تفكر نتيجة الوعي الإدراكي العقلي لها الذي هو جوهر لغوي تجريدي لا مادي، بل الوعي ينوب عن لغة تفكير العقل في موضعته الاشياء المادية ويبقى إدراك اللغة المتموضعة بالشيء تجريدا تفكيريا للعقل وتبقى المادة وجودا أنطولوجيا في ذلك الإدراك مستقلة وجودا. بمعنى لا توجد خصائص معينة تجمع المادة بالوعي على أنهما جوهرين منفصلين وليسا جوهرين متداخلين داخل منظومة العقل الإدراكية الواحدة.

س101: ا. مراد غريبي: هل تنطبق صفات المادة التمدد والحركة والتقلص على الوعي ايضا مع فارق التجريد بينهما في تعبير اللغة عنهما؟

ج101: ا. علي محمد اليوسف: صفتا الحركة والامتداد اللتان تمتلكهما المادة كجوهر، لا يمتلكهما الوعي كتفكير مجرد في تعبير اللغة عن مدركات العقل إلا فقط بإرتباط الوعي بموضوعه المادي ويكتسب منه الحركة والإمتداد بتجريد منفصل عنه.. وهنا يكون الوعي الملازم لإدراك الشيء في مجمل تحولاته وتغييراته هو (زمن) إدراكي ملازم للشيء بفارق أن الوعي زمن مفارق لموضوعه بعد الإدراك العقلي له بخلاف الزمن الذي يلازم الموجودات ولا ينفصل عنها إلا بوسيلة واحدة حينما يكف العقل عن إدراك شيء يكون إستغنائه عن زمن إدراك ذلك الشيء قائما بالإنفصال عن العقل وليس بالإنفصال الزمني عن الموجودات المادية، الزمن ملازم دائم للاشياء فكل مدرك مكانا هو مدرك زمانا وبغير هذا التعالق الزمكاني لا يقوم العقل بوظيفة إدراكه الاشياء، ولا يكون الزمن ملازما العقل الا وقت حاجته إدراك الاشياء، لذا فالإنسان يكون متحررا من سطوة الزمن الإدراكي عليه في حالة اللاشعور وفي أثناء النوم.

وعندما نؤشر على وجود شيء أنما يكون تأشيرنا مرادفا متعالقا مع زمن إدراكنا له، في حضور الوعي معه زمنيا إدراكيا. الوعي بالشيء مرتهن بملازمة زمن الإدراك لذلك الشيء، والزمن يلازم العقل في حضوره الإدراكي فقط ويلازم الشيء مكانا في كل الحالات وجميع الانتقالات والسيرورة والحركات. وجود الشيء هو زمن وجوده الانطولوجي، بينما وجود الوعي تعبير لغوي صامت لا علاقة مركزية دائمية تربطه بالتبعية بالشيء المدرك خارج تبعيته لمنظومة العقل الإدراكية..

أما أن يكون الوعي منفردا بإستقلالية كجوهر ميزته حركة إمتدادية في الاشياء فهذا ما لا يقبله علم وظائف وفسلجة الاعضاء كون الوعي هو حلقة غير منظورة ولا محسوسة ولا تمتلك إستقلالية تفكيرية دونما إرتباطها بمنظومة العقل الإدراكية في معرفة الاشياء والتعبير لغويا تجريديا عنها.. فالوعي يبقى حلقة تجريدية تفكيرية لا مادية يتوسط الحواس والذهن ولا يمتلك الاستقلالية ولا قابلية أن يكون موضوعا مدركا انطولوجيا متعينا بأبعاد المادة مثل الحجم والكتلة والارتفاع والطول والعرض الصلابة وحالات السيولة والغازية وغيرها من خصائص مادية ممكن إدراكها بالحواس.

س102: ا. مراد غريبي: ما علاقة الوعي الذاتي بالمادة؟ وهل الوعي تخليق عقلي ام تخليق انطباعات الحواس؟

ج102: ا. علي محمد اليوسف: علاقة الوعي بالمادة علاقة ادراكية هي من تخليق الدماغ وليست من تخليق الحواس. الوعي ليس انطباعات مصدرها الحواس، بل الوعي ناتج ردود الافعال الارادية التي يصدرها الدماغ في تفسيره لمدركات الحواس.

والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته البشرية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود أنطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الأشياء والموجودات الخارجية والمحيط.

الوعي الذاتي هو جزء إدراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، إلا في إرتباطه كحلقة في منظومة الإدراك العقلي، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها... فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت.

س103: ا. مراد غريبي: قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزّعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الإدراك العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها "كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والإمتداد مجرد صفتين له." ما تعليقكم على ذلك؟

ج103: ا. علي محمد اليوسف: في تعبير سبينوزا السابق نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالإدراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجده عند الصوفية الدينية شخصنتها الذات الإلهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الإلهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله - قوانينه الخاصة به في قدرته تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الإلهية المعجزة في إعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الإعجاز الإلهي مثلما يقف أمامها عجز الإدراك الانساني لها. ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق في إمتلاكه صفتين هما (الفكر والامتداد) اللتين هما صفتين ماديتين تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة بإستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات. من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الإلهية انه يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها بإستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.

سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة.

سبينوزا في مذهب وحدة الوجود أراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالانصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الإلهية من خلال الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية لا علاقة لأي شيء مادي محسوس بها.

بمعنى لا تمتلك المادة خاصية الفكر باستثناء امتلاك عقل الانسان قابلية التفكير إذا ما اعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركات العقل.. الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الإدراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والإمتداد موفقا مقبولا، فالإمتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الإمتداد والحركة المادية وهو ليس مادة؟ نجد عند عديد من الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المأزق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.

 

س104: ا. مراد غريبي: منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة إهتماما استثنائيا في أعقاب إطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في إمتلاك الوعي الفردي القصدي لمعرفة الذات.. هل تحدثنا عن هذه الاشكالية الفلسفية وكيف نشأت وتطورت؟

ج104: ا. علي محمد اليوسف: في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف برينتانو بمقولته (أن اللاوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثير هذه العبارة على سيرل لاحقا.. ليعقب – برينتانو - تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى إدراك الذات على أنها إشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الادراك بلوغه.. وبذلك تأثر تلميذه من بعده، هيدجر في إعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وإنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود.. وخروج سارتر لاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه.. وغيرهم.

س105: ا. مراد غريبي: كيف انتقل مبحث الوعي القصدي الى الفلاسفة الأمريكان مثل جون سيرل، وسيلارز، ورورتي وغيرهم، من اقطاب فلاسفة العقل واللغة؟

ج105: ا. علي محمد اليوسف: مبحث الوعي القصدي كان مثار اهتمام الفلاسفة قرونا طويلة، وكان التهيب من الخوض به هو الدخول في نفق ميتافيزيقي. مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى التي ركز على هذه الاخيرة بتطرف فلسفي كلا من امبرتو ايكو في التأويلية وجاك دريدا في التفكيكية. ما جعل الفلاسفة الأمريكان يستضيفون الفلاسفة الفرنسيين والألمان من هواة فلسفة اللغة ويستلموا الراية منهم. يذهب سيرل أنه استنادا الى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية يوجد فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا أدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على افتراض عدم وجود الارقام.

هذا المعنى الفلسفي كان مثار جدال حاد جدا بين الثلاثي جون لوك، ديفيد هيوم، وبيركلي، وقد تناولت اشكالية الادراك الانطولوجي في مقالة لي منشورة بعنوان (اشكالية الادراك: الاصل والصورة). وليس هنا مجال البحث في تفاصيلها لأنها تحتاج شرحا مطولا.

س106: ا. مراد غريبي: هل الوعي يرتبط بعلاقة تجريدية مع الادراك ام بعلاقة عضوية بايولوجية مصدرهما منظومة الدماغ؟ ولمن تكون الاسبقية للإدراك ام للوعي؟

ج106: ا. علي محمد اليوسف: بالحقيقة السؤال معقد ويحتاج عرض توضيحي يقوم على الثوابت التالية:

الادراك الحسي لأنطولوجيا الوجود يسبق تشكيل الوعي عنه.

والادراك يرتبط بعلاقة تجريدية بالوعي.

باستثناء الحواس والجهاز العصبي والدماغ لا توجد مفردة واحدة إدراكية ترتبط بهذه المنظومة لا تكون تجريدا مصدره الدماغ عضويا. الذهن، الانطباعات، الادراك، الوعي، الذاكرة، المخيلة جميعها مفردات تجريدية مصدرها منظومة العقل الادراكية ومركزها الدماغ.

صحيح جدا ان توصف هذه المفردات التي مررنا بها التجريد العقلي الوظائفي لكنه لا معنى لواحدة منها ولا لأكثر من واحدة منفردة قيمة يعتد الاخذ بها ما لم تكن مرتبطة بمنظومة الادراك العقلي ومركزها الدماغ والخلايا العصبية المليونية المختصة بكل واحدة من هذه المفردات الادراكية المجردة.

يوجد إختلاف ليس بالبسيط بين فهم الفلسفة لهذه العلاقة الاشكالية وبين المنظور العلمي التخصصي التجريبي في معرفة الخلايا الدماغية المسؤولة عن كل مفردة من هذه المفردات التجريدية.

ترتبط هذه المفردات التجريدية فيما بينها بصيغة التكامل الوظيفي الادراكي ولا يمكن ان يكون هناك قيمة لواحدة منها لا ترتبط مع غيرها. بمعنى لا وجود لذهن بغير حواس، ولا وجود لإدراك من غير مادة او موضوع، ولا معنى لخيال لا يرتبط بمخيلة، ولا معنى لذاكرة من دون استرجاعات تذكرّية وهكذا.

س107: ا. مراد غريبي: هل تجدون أن إدراك الشيء هو غير الوعي به وغير معرفته؟

ج107: ا. علي محمد اليوسف: في عبارة لجون سيرل أن إدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للإدراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الادراك الحقيقي المباشر له، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الاحساسات المنقولة الى الدماغ بزمن أدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الادراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الادراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا، أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا استرجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء.. وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك أدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى ألادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر أدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع إدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع إشباعات بيولوجية خالصة..

ويوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي.. فالإدراك المعرفي هو معرفة العالم الخارجي كوجود انطولوجي، والادراك الاستبطاني الداخلي فهو يتمثل بردود الافعال لمثيرات أجهزة أحاسيس الانسان الداخلية في اشباع حاجات الانسان الغريزية مثل الحاجة للأكل والحاجة للنوم او الحاجة للجنس وهكذا، وتدخل مواضيع الادراك الخيالية في تلبية اشباع رغبة استبطانية تراود الانسان اشباعها.

س108: ا. مراد غريبي: ذكرتم انه جرى احتدام شديد بين كلا من بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم حول مسألة الادراك والوعي، علما ان ثلاثتهم ينتمون الى المنطقية المثالية التجريبية. هل من إعطاء لمحة سريعة حول الموضوع؟

ج108: ا. علي محمد اليوسف: أننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في إعتبارهم موضوعات العالم الخارجي ما هي سوى انطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه العقل ونظام السببية معتبرا إياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة.. ليصبح بالنتيجة عادة وليس سببية.

وينتقد جون سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا( في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي – نسبة الى هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية ).

والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني يتم داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة او المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في اعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية.. أشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في اختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو أغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في إنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل إنعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء في إنتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما.. ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكر إنساني...

لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه.... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل التجربة الواعية ليست موضوعا للإدراك، بل هي في الواقع تجربة الادراك.2988 علي محمد اليوسف

س109: ا. مراد غريبي: نود التركيز على قضية الوعي القصدي في فلسفة جون سيرل، وبماذا يختلف سيرل على الفلاسفة الانجليز اصحاب الوضعية المنطقية التجريبية؟ وهل أعطى سيرل معان محددة لمفردات تجريدية متصلة مع الوعي القصدي؟

ج109: ا. علي محمد اليوسف: في هذه المقولة الغامضة لسيرل (التجربة الواعية ليست موضوعا للإدراك، بل هي بالواقع تجربة الادراك) نعجز عن فهم محدّد ماذا يعني لنا الوعي، وماذا تعني لنا القصدية، وماذا يعني لنا الادراك العقلي، وماذا يعني لنا موضوع الادراك، فجميع هذه الفعاليات الادراكية وتوابعها تجمعها تلك المقولة فيما أطلق عليه سيرل (تجربة) الادراك.. التي هي ليست موضوعا للإدراك فهي آلية تنفيذية مكتفية بذاتها غنيّة ان تكون موضوعا يدركه العقل.

الوعي الادراكي القصدي يحتاج الى إشباع معرفي لمدركاته لا تنفصل عن مواضيعها الادراكية من خلال التجربة الادراكية لموضوعات معرفية تختلف تماما عن إشباع القصدية لغرائز إدراكية بيولوجية مثل إشباع العطش والجوع والجنس..

في هذا النوع من الادراك البيولوجي يكون الاشباع استهلاكيا بمعنى نهاية تجربة الادراك في الاشباع البيولوجي، بخلاف الاشباع الادراكي المعرفي فهو يدّخر خزينا استراتيجيا معرفيا في الذاكرة في تجريد فكري غير مستنفد..

التجربة الادراكية في المعرفة فعالية من فعاليات العقل (الدماغ) لكن موضوع الادراك هو في كل الاحوال شكل ومضمون (محتوى) لموجود متعّين في عالم الاشياء غير مرتهن وجوده بأهمية الادراك العقلي له.. ولا يمكن للإدراك القصدي المباشر الفصل بين محتوى الشيء ومضمونه، فالمرتبة الاولى للإدراك هي في معرفة الشيء كوجود فينومينولوجي موّحد بصفاته البائنة الخارجية التي ربما تكون معرفتها هي معرفة ماهيّة الشيء المحتجبة خلفها، ... وفي نفس المعنى تقريبا فعل منهج الفينامينالوجيا في إدراك الظواهر الخارجية والماهيات غير المدركة للوجود بذاته (نومين) وجاء هذا التمييز الذي كان تقليديا راسخا في فلسفة كانط..

فإدراكنا وجود كرسي هو إدراك شخصاني انفرادي لموضوع يتألف من شكل ومحتوى متعيّن أنطولوجيا، ولا يوجد مضمون من دون شكل يلازمه.. كما لا يوجد شكل من دون مضمون يلازمه ويفصح عن ماهيته الانطولوجية كجوهر.. والادراك يكون قصديا هادفا لإشباع رغبته الفطرية الغريزية أو في الاشباع المعرفي، فإشباع غرائز فطرية عند الانسان مثل الجوع والعطش والجنس هي من باب الاشباعات البيولوجية لأهداف الادراكات القصدية، وهذه القصدية الادراكية الاشباعية أنما تكون بعفوية بيولوجية تختلف عن قصدية الادراك المعرفي للاشياء..

فالفعاليات الادراكية القصدية الغريزية العفوية البيولوجية كما في حالات إشباع العطش والجوع والجنس وغيرها لا يكون العقل المدرك لإشباعها ملزما بتجربة أدراك قصدي هي أبعد من المتحقق الاشباعي البيولوجي لها.. وتكون القصدية هنا شخصانية مكتفية ذاتيا.. وهذه تختلف عن قصدية إشباع الموضوع غير الفطري الغريزي في الالمام بتفسيره كمعرفة خالصة تبغي معرفة الشيء المدرك بخصائصه البائنة أو ماهيته المحتجبة لما يجعله العقل خزينا معرفيا استراتيجيا في الذاكرة.. ويختلف الوعي بحقائق الموجودات في ألادراك المعرفي عنه في الاشباع البيولوجي وفي هذا النوع من القصدية المعرفية (لا يكون الوعي بالشيء وعيا حقيقيا ألا بمقارنته الشخصانية الفردية بغيره من حالات الوعي الاخرى كجزء من الوعي الشخصاني الكلّي) وهذا لا يتم بغير اعتماد الخزين المعرفي الاستراتيجي في الذاكرة التي هي بنك المعلومات المكتسبة بالخبرة العقلية والتجربة..

فقد تكون موضوعات الوعي هي إدراكات تتم في الذهن والخيال الاسترجاعي من الذاكرة ولا يقابلها وجود متعيّن وحضور موضوعي في عالم الاشياء (وتمثل الاحلام شكلا من اشكال الوعي المختلف تماما عنه في حالات اليقظة) أي ألادراك في موضوعات الخيال المستمد من الذاكرة جميعها تعتمد الشعور المسيطر عليه عقليا بينما لا يكون الشعور حاضرا في الاحلام لذا يكون الادراك الحلمي اللاشعوري تداعيات متقطعة لا ينتظمها إدراك تحسّسي مترابط ولا زمن تنظيمي لها..

س110: ا. مراد غريبي: نحن لا زلنا نرغب معرفة فلسفة الوعي التي اشتهر بها جون سيرل عالميا كفيلسوف العقل واللغة والوعي، ما هي خصائص الوعي القصدي في فلسفته خاصة أنها تعتبر من أنضج المباحث الفلسفية التي تدرسها الجامعات الامريكية؟

ج110: ا. علي محمد اليوسف: سوف استعين بالإجابة عن السؤال بما كنت كتبته في احدى مقالاتي المنشورة وتعقيبي عليها. اقصد خصائص الوعي القصدي عند جون سيرل وهي:

(الوعي حقيقي غير قابل للاختزال). بمعنى غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الادراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي بالدماغ والجملة العصبية..

الوعي نوعي بمعنى (هناك نوعية تجريبية لكل حالة واعية، والوعي شخصاني أنطولوجي لا تتم معايشته ألا من قبل موضوع بشري أو حيواني)..

جميع ملامح الوعي ناتجة من دون استثناء عن عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي.

الوعي القصدي المعروف الوحيد هو الموجود في الجهاز العصبي للإنسان او الحيوان..

(تجربة الوعي الادراكي القصدية النوعية الشخصانية بكاملها هي جزء من مجال وعي ادراكي كلي). بمعنى اشتراك أكثر من حاسة واحدة في تجربة الادراك من جهة، وكل تجربة شخصانية تعتبر محدودة بالنسبة لتجارب لا حصر لها من أدراكات وعي كلي متنوع بتعدد موضوعاته من جنبة أخرى.

(مضمون الوعي مضمون الوعي القصدي يفيد معنى شروط الاشباع) بمعنى غاية وهدفية الادراك هو إشباع الرغبة في تحريك القصد نحو تحقيق غاية محددة يتوجب بلوغها.. والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا..

س111: ا. مراد غريبي: كيف يتحدد الادراك بضوء تجربة الوعي في فلسفة جون سيرل؟

ج111: ا. علي محمد اليوسف: يأخذ سيرل على الفيلسوف أ.ج. آير صاحب كتاب (اسس المعرفة التجريبية) في معرض بناء حجته على آراء مستمدة من هيوم بأن ما ندركه هو بيانات حسيّة.. ليطرح سيرل بضوء ذلك تساؤله: ما الموضوع الذي نحن واعون به مباشرة في حالة الادراك إذا لم يكن جزءا من أي شيء مادي؟ طبعا هنا كان تركيز سيرل على الادراك والوعي القصدي الناتج عن رغبة الاشباع المعرفي التي تفترض سلفا تحقق الوجود الانطولوجي لمواضيع العالم الخارجي للاشياء كمجال أدراكي واقعي، وأغفل أمكانية قيام الادراك على غير متعيّن مادي يحضر كموضوع كما ألمحنا له سابقا، فالعقل يقوم بفعل الادراك القصدي في معالجته مواضيع إدراكية غير مادية مستمدة من الذاكرة التخييلية الى جانب أدراكه مواضيع الواقع المادي، ولا وجود في حالة الادراك القصدي التخييلي شرطا لموضوع يكون جزءا من شيء مادي كما في رغبة سيرل في عبارته السابقة.. ليس شرطا أن يكون الوعي الادراكي بموضوع يمّثل جزءا من واقع مادي حصرا، فالخيال الادراكي يستطيع التعامل مع موضوعات لا وجود لعلاقة أنطولوجية لها تربطها بحواس الإدراك..

ينقل جون سيرل عن الفيلسوف الامريكي (ألفانوي) في مقال لهذا الاخير بعنوان (تجربة من دون رأس) الى أن الوعي الادراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ، موضحا قوله (أن تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ - والجسم - والبيئة)

الوعي القصدي عند سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله واقعة بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية.. نلاحظ للمرة الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الادراك القصدي هو المتعّين أنطولوجيا في عالم الاشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة من هذه الورقة البحثية في المحاورة.. لكن مقولة ألفانوي ممكن حدوث وعي خارج الدماغ تحتاج حجة إثبات قوية باعتقادي.

س112: ا. مراد غريبي: ما علاقة الوعي القصدي باللغة؟ وهل لك تعقيبا اضافيا حول هذا المبحث عند جون سيرل. باعتباره فيلسوف العقل واللغة.؟

ج112: ا. علي محمد اليوسف: أبرز فيلسوف معاصر اهتم بالعلاقة الثلاثية التي تربط العقل والوعي واللغة في توليفة فلسفية واحدة هو جون سيرل بلا منازع. وسعى سيرل الى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان الى أدراك الاشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع إستحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا، ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الاسبقية للعقل أم للغة؟ ويجيب على تساؤله عن الاسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الاساسي القائم وراء تناولي لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل.. وهي نظرية صادقة تحمل حقيقتها المقنعة تماما.

ويطلق سيرل على أن الهلوسة الادراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان، وتعقيبنا أن هلاوس الادراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد أنها (واعية) في امتلاكها مضمونا ولا هي تمتلك موضوعا، ويتعّذّر التفكير في وعي أدراكي لا يحمل موضوعه المتعيّن كمادة أدراكه الملازمة له، ولا يشترط في موضوع الادراك أن يكون متعينا أنطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية، وبخلاف الهلاوس غير المنتجة تكون أدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها في ملازمة تخليق الادراكات المجردة في الذهن..

وحالة الادراكات الهلاوسية تكون حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغير موضوع واحد محدد، وتجارب الهلوسات الادراكية التي لا تحمل موضوعها الادراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي.. وإلا كيف لنا تعليل سلسلة الادراكات التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام بأكثر من موضوع تخييلي كما نجده في معظم الابداعات الفنية والادبية وبالتحديد في الشعر؟؟

ففي مثالنا هذا لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الادراكية هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي تفتقد موضوعها.. بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة وإستحقاق.

س113: ا. مراد غريبي: خصصنا هذا المحور حول موضوعة الوعي القصدي هل تتوفرون على تلخيص شامل لمبحث الوعي بضوء فلسفة جون سيرل؟

ج113: ا. علي محمد اليوسف: تعودت كما اخبرتك في محاور سابقة أني اتبع منهجا نقديا لا احيد عنه، وهو المنهج المادي لا اسميه الجدلي في المعرفة، ورغم صرامة وانضباطية طرح جون سيرل الفلسفي حول اشكالية فلسفية مزمنة تجنب الخوض بها غالبية الفلاسفة الا إني أجد في طرح سيرل ثغرات سأتناولها بالتعقيب النقدي الموضوعي ارجو التوفيق به.

يذهب سيرل أن الوعي الادراكي القصدي ظاهرة بيولوجية، أي أنه وعي شخصاني نوعي أنطولوجي وهو جزء من مجال وعي كلي شامل. هنا بضوء هذا التعريف يجب التفريق بين موضوع الادراك المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون إشباعا بيولوجيا كما في مثال الاشباع الغريزي الجنسي والجوع والعطش وغيرها، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال المعرفة والسعي لاكتسابها.. الذي يكون أدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الانسان كركن أساس تحديدا في إكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهو إدراك بيولوجي على مستوى الشخص المدرك للاشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع أدراكه.. ومواضيع الادراك القصدي نوعين موضوع أدراك معرفي، وموضوع أدراك غريزي فطري.. وكلاهما يشكلان هدفين متمايزين لتجربة الادراك في إشباعهما...

1- ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينامينالوجية في الادراك، تقوم على مرتكز محوري أن موضوع الادراك هو المتعيّن أنطولوجيا في عالم الاشياء المادية فقط، ويهمل الادراكات الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها الخيالية، ولا يناقشها في صفحات كتابه الموسوم (رؤية الاشياء كما هي) كفعالية إدراكية لا يمكن إهمالها.. وعنوان كتابه رؤية الاشياء.. أنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع فقط.. علما أن مدركات مواضيع الادراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الابداع في الادب والفكر والثقافة والفنون وجميعها أدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..

2-  يحدد سيرل أن محددات أي أدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه، أي موضوع الادراك، وثالثا حاسّة الابصار العين، التي تكون البداية منها في استقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه، أي ضوء الموضوع المنبعث منه في تجربة الادراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الادراكات الناجمة عن بقية الحواس عند الانسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر مصادر الاحساسات الاولية في عمليات الادراكات لم يعرها سيرل اهتمامه.. كما لم يعر انتباها الى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في إتمام عمليات الادراكات.. ركّز كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الادراكي المادي.. وعنونة الكتاب هو (رؤية) بمعنى الابصار في العين وعلاقتها بالوعي الادراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب كاملا...

3- ورد على لسان سيرل أن علاقة الادراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الادراك الحقيقي السليم، كون أدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وإن امتلكت (وعيا) إدراكيا في مضمون متعيّن أدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي في أدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم امتلاكه موضوعات إدراكية لا يشترط أن تكون مستمدة انطولوجيا من واقع الاشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الادراك الهلاوسي منطلقها تداعيات الفكر الصادر عن الذاكرة والمخيلة اللاشعورية غير المنظمّة لغويا...والوعي هو وعي بموضوع يتألف من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي ملازما له.. لكي يقوم سيرل في تأكيد رغبته أن أدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا) وقد تمتلك (مضمونا)، الى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الادراك الحقيقية والسيئة أي بين تجربة الادراك السليم وتجربة الهلوسة، وهذا التفريق لا يلغي ولا يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الاشكالية المفتعلة قوله (في التجربتين – يقصد الحقيقية و الهلاوسية - يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الاخرى). لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وانعدامها في تجربة الهلوسة حتى وإن امتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي باشتراك التجربتين في إدراكهما موضوعا واحدا.... كما لا يمكن استساغة التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربة الادراك الخطأ الذي زرعته الفينامينالوجيا في تكريسها ثنائية أدراك الظاهراتية هذا واستحالة إدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينامينالوجيا إدراك الاشياء في ظاهرياتها البائنة عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهياتها التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل.. في العودة الى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى استحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن أدراكه منفصلا غير متعالق بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل.. وإدراك موضوع كشكل أنطولوجي لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر.. ولا يمكننا تصور إدراك مضمون بلا شكل وموضوع يؤطرهما.. ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة شكلا ومحتوى والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..

4- يطرح سيرل تساؤلا إشكاليا صعبا، يذهب الى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا أدراكه هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع، فهل يمكننا تعميم حقيقة مدركاتنا على الجانب الأخر(مجموع الاخرين).. لن نأخذ بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة إشكالية قوامها مرتكز حاسة البصر (العين) في التجربة الادراكية عنده فقط أي لا يفند سيرل رأي فلاسفة التجريبية المنطقية المثالية بمنطق فلسفي في حين نجد هناك أجماعا على حقيقة ثابتة لا يمكننا العبور من فوقها هي لا تتمكن الحواس من أدراك الاشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة، وتبقى على الدوام إدراكاتنا ناقصة في معرفة العالم وهو ما ينطبق على حاسة البصر العين.. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره الى مضمار التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فينجشتين، وهذا ما لا يعتمده فلاسفة الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس إنتهاءا بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج مور وبراتراند راسل، وايتهيد، كارناب من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسر لا بالإدراك ولا بتعبير اللغة... كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة الفردية كما تنسحب على تعبير الادراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف بخيانة اللغة...التجربة الحقيقية في الادراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض استنتاجاتها، من حيث أن مواضيع الادراك في غالبيتها تكون متعّينات إدراكية ثابتة أنطولوجيا تقريبا، بينما يكون الادراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الادراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك فالإدراك الفردي لا يتوّصل الى حقائق علمية قاطعة بل الادراك قسمة مشاعة أمام الجميع في ممارستها ضمن الامكانيات المتعددة في تنوع الإدراكات الشخصانية في الاشباع القصدي، عليه تكون نتائج الاستدلال الادراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى.. يوجد تفاوت أدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد تفاوت في أدراكنا حقيقة الوجود يسبق إدراكاتنا الفكرية عنه.. مما يجعل أمكانية الخطأ الجمعي متراجعا في إدراك الموضوع الواحد.2916 علي اليوسف ومراد غريبي

س114: ا. مراد غريبي: نشكركم أستاذ اليوسف على صبركم معنا وتجشمكم عناء ومشقة هذا الحوار الفلسفي التفصيلي الخلاق في ستة محاور. ونرغب الختام ماذا ترون بمستقبل الفلسفة؟

ج114: ا. علي محمد اليوسف: اود توجيه كل الثناء والتثمين لجهودكم استذ مراد معي وحرصك الثقافي كباحث فلسفي متمكن متمنيا ان تكون الحلقات الحوارية الست نالت اعجاب القاريء العربي، واود اشكرببالغ العرفان الجميل الاستاذ الفاضل المفكر الكبير ماجد الغرباوي في رعايته بكل معاني نبل الخلق الثقافي والتعامل النظيف لمؤسسة المثقف على توفير هذه المساحة للكلمة العربية في حملها رسالتها الثقافية المميزة على منابر منصات الفكر والثقافة والفنون.

هل للفلسفة مستقبل؟:

الفلسفة ضرب من ضروب المعرفة البشرية، او منهج في التفكير، مايطلق عليه الانساق الفلسفية والمنظومة الفكرية التي عنت بالوجود الانساني كوجود في الطبيعة وعلاقته بها وبالكوني والآخر والمجهول والميتافيزيقيا.

وافهمها انا كتعريف انها منهج تجريدي منطقي يحاول فهم الحياة وتغييرها حسب ماركس، او فهم الحياة فقط وعدم رغبة تغييرها حسب رغبة ورؤية براتراند رسل.

هذا على الاقل السائد في تأكيد ان الفلسفة لم تكن (علما طبيعيا) يوما ما وليس بمقدورها مستقبلا، حتى وان اعتبرها بعض الباحثين(أم العلوم)، وانما هي تبقى نسق لغوي منطقي متعال نخبوي.

وقد تداخلت الفلسفة من جهتها، والعلم الانساني غير التجريبي الطبيعي من جهته في تعالقهما مع كل ضروب وانساق المعرفة البشرية والعلوم الاخرى، فأخذنا ندرس علم الانثروبولوجيا، وفلسفة الانثروبولوجيا، ومثل ذلك علم الدين وفلسفة الدين وفلسفة وعلم التاريخ وكذا مع فلسفة وعلم الاجتماع والنفس وهكذا بما لايحضرنا حصره.علما ان صفة العلم الملتصقة بهذه الضروب المعرفية والانساق الفكرية والمنظومات الثقافية هي غيرها علوم التجريب المختبرية والرياضية الطبيعية، العلوم الطبيعية التي تحكمها رياضيات التفكير والمعادلات التي تنسحب على التجربة العلمية في اثبات واقعية وعقلانية صحة الافكار او النظريات من عدمها اوضحالتها وعدم الاخذ بها.امثلة ذلك ان المعادلات الرمزية التجريدية في الرياضيات و الفلك والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة وغيرها في العلوم الطبيعية كافة ليست فلسفة.ويرى براتراند رسل ان الفلسفة تمثل وسطا موضوعيا بين اللاهوت من جهة كونها تأملات غير تجريبية، وهي كالعلم من جهة استنادها الى العقل.

ثمة جملة مواصفات طبعت التفكير الفلسفي الانساني منذ عصور ما قبل التاريخ الميلادي اليوناني القديم، وصولا الى مجيء سقراط وافلاطون وارسطو و فلاسفة عديدين غيرهم يتمايزون بالاهمية في تاريخ الفلسفة.

اهم تلك الصفات ان النص الفلسفي(بنية)انشائية (ذاتية)تأملية تجريدية وليست موضوعا مستقلا، بمعنى انها خاصية انسانية فكرية وجهد ابداعي منفرد لمؤلف منشيء، وان الفلسفة بهذا المعنى تلتقي كثيرا مع فكرة انها شكل من اشكال التعبير الثقافي او حتى الادبي - الفني. وذاتية المعرفة الفلسفية تلتقي بضروب الفكرالابداعي اللغوي الاخرى، وتتشابه معها من حيث مصدر الخلق والمنشأ والمتلقي، كما هي في النص الاسطوري او الميثولوجي او القصص الديني اوالسرد التاريخي او الادبي والفني.فهذه جميعها انتاجية ابداعية (ذاتية) تنتسب لمؤلفها او منشئها، وبهذا المعنى يكون النص الفلسفي بنية معرفية فكرية انسانية، مولّدة للافكار الشارحة والناقدة والمضيفة. شأنها شأن اي نص ابداعي كتب ويكتب في مجالات السرد المعرفي والجمالي والثقافي الخاضع لسلطة التناول النقدي بالشرح والتفسير والتأويل والقراءات المتعددة له. من هنا تكون البنية الفلسفية الانشائية تمتلك ذاتيتها(الآنية) في تناولها وتداولها الحاضروالماضي. بمعنى ان جميع المحاولات والمعالجات الفلسفية حاضرا لم ولن يكن بمقدورها اوبمستطاعها دفع الفعالية الفلسفية ان تشكل لها حضورا مستقبليا دائميا كحقائق فكرية لا يمكن دحضها وتفنيدها. او حقائق تمتلك حيوية التواجد عبر العصوركفعالية دائمة التأثير حاضرا وفي المستقبل. مؤلفات فلسفية هامة شغلت التفكير الفلسفي طويلا على مدى قرون لم يعد لها اي حضور او اهتمام في الوقت الحاضر. ومن الطبيعي جدا ان تتجه الفلسفة المعاصرة دوما في محاولتها سحب التفلسف الماضوي الى رقعة الحاضر والاعتياش على تفسيره بنوع من التكرار والاجترار والاعادة باكثر مما يحتمل(النص)، الذي يحكمه منحيين، :

المنحى الاول: منحى احتفاظ النص الفلسفي بحيوية الماضي و نقد الحاضرله وغياب حضور المستقبل فيه، وان ما تسحبه الفلسفة اليوم وتناقشه على انه مفاهيم فلسفية من الماضي هو في حقيقة الامر يمثل (مستقبلا) للنص الفلسفي نتداوله حاضرا فقط.

المنحى الثاني: ان النص الفلسفي متعين مكتف (بذاتيته ) ولا يصلح ان يكون تفسيرا دائميا لعالم متغير بوتيرة عالية سريعة جدا، يقودها العلم بجدارة واستحقاق لا ينازعه احد تلك السلطة، تلكم هي تطورات العلوم الطبيعية في كل مجالات الحياة الطب والذرة والتكنولوجيا والفيزياء والبيئة والهندسة الوراثية والفلك وهكذا.بعبارة موجزة لا يمكننا تخليص الفلسفة من ذاتيتها، لان الفلسفة لا تمتلك موضوعا من غير ذات.

نخبوية التفلسف:

هل ننساق مع الآراء التي تذهب ان التفلسف بنية و قيمة منظومية مفارقة، وان الفلسفة انفصلت منذ نشأتها عن الحياة الواقعية التي تسير الامور بها (علميا) في غير ما حاجة الى الفلسفة والانسانيات، وان الفلسفة لم يعد لها ذلك التأثير والاهتمام في حياة اليوم وتشكيل ملامح العصر؟! وان ما قيل في الفلسفة عن الانسان والوجود والماهية والجوهروالموت والميتافيزيقيا، .والظواهر الطبيعية المؤثرة والفاعلة في ذلك الوجود استنفدت نفسها ولا مجال في مكابرتها ومزاحمتها العلم الطبيعي التجريبي، وان ما استهلكته الفلسفة مفهوميا عن الوجود والماهية والحياة والموت والانسان لم يعد يشكل اهتماما في عالم المعاصرة والحداثة وما بعد الحداثة الفكرية والمعرفية وفي عصر العولمة، مقارنة و قياسا مع اي منجز علمي نقل البشرية طفرات نوعية مطردة ونامية متطورة على الدوام متجددة بالافعال وليس بالافكار المجردة في تفسيرها الواقع كما فعلت كلاسيكيات الفلسفة في الميتافيزيقا على امتداد عصور طويلة.

اذا توخينا الدقّة اكثرفأن الفلسفة كضرب معرفي نخبوي، لم يعد يلق اهتماما سوى في المنتديات و الصالونات والمؤسسات الثقافية التخصصية الجامعية ومراكز البحوث والمجلات محدودة التداول المنعزلة في غالبيتها تماما عن مؤثرات المسار الحيوي الحضاري العصري وانعدام قدرة الفلسفة الاسهام بصنعه وتشكيله. ونخبوية البحوث الفلسفية تلتقي مع الانسانيات البحثية والسردية التي لم تعد لها اهمية اكثر من اهتمامات صالونات مغلقة ومؤسسات جامعية تمنح وتصدّر شهادات واطاريح دراسية اكاديمية لا تغني ولا تسمن من جوع واكثرها قيمة دالة لها هي في اضفاء المكانة التدريسية للاستاذ.واغلب تلك الاطاريح والدراسات لا قيمة لها في دراسة هذا الفيلسوف او ذاك، في جنبة او اكثرلا مجال الاضافة لها، استنفدت نفسها، وكذا الحال في الدراسات الادبية والتاريخية والتراثية واللغوية والانسانية في تراكمها الكمي الذي تختزنه المكتبات والارشيفات والمتاحف، ولا يمتلك قيمة علمية تطبيقية في حياة المجتمعات اليوم، او اية اسهامة في تغييره.ويجري تمويله من المؤسسات الجامعية ومراكز البحوث وكذلك مؤسسات حكومية وغير حكومية متخصصة.

نخبوية التفلسف والمفاهيم الفلسفية خلال ما يزيد على الفي عام واكثر، بقيت السمة الذاتية تحسب للفلسفة على انها افكار متعالية على الفهم والاستيعاب الجمعي، لكن المفارقة اليوم هي ان تلك النخبوية المتعالية اصبحت مثلبة في تعطيلها الاستيعاب الجمعي والتوظيف العملاني في تقدم الحياة.

بخلاف ماتنجزه العلوم الطبيعية في تقدم الانسان المعاصر والتقليل من معاناته وتذليل صعوبات الحياة امامه.

وبالمعنى المشار له يذهب ليفيناز 1925 – 1995 انه ينبغي ان نشجب مستقبل الفلسفة فقط لانه ليس مستقبلا بالقدر الكافي، فالفلسفة التي تقوم على الاعتراف والاقرار بما هو غير قابل للامساك به او البديل المطلق او الاخرين سوف تظل هي الفلسفة.

من الملاحظ جيدا ان جميع ضروب المعارف الانسانية او مايطلق عليها للتفخيم العلوم الإنسانية وسرديات التاريخ، بضمنها الفلسفة وانساق الفكرالمعرفي التجريدية وغير التجريدية الاخرى، تلجأ الى نوع من التعاضد الانتشالي المسعف احدهما للآخر، سواء بالتبعية او بالانضمام اوبالتمازج بين بعضها البعض في الاشتراك بمعالجة قضية او اكثر.

فاخذت الفلسفة تزاحم ما يطلق عليه(علوم) الانسانيات والمنهجيات، في دراسة التاريخ او الاجتماع اوالسياسة بما يسمي اليوم الفلسفة السياسية، او فلسفة او علم الاقتصاد او فلسفة او علم التاريخ (لاحظ التداخل المتعالق بين كلمة فلسفة وكلمة علم)، وهكذا مع الهوية الثقافية، وفلسفة وعلوم الاديان الى آخر القائمة من امثلة التداخل التوظيفي والدراسي على صعيد المنجز الاكاديمي المعرفي الصرف. فلسفة اوعلم كمنهج في اعادة دراسة ضرب معرفي او اكثر.

هذا التداخل التوظيفي بين الفلسفة وعلوم الانسانيات، هو بخلاف ما تحضره العلوم الطبيعية على نفسها وترفضه، كفيل بافقاد الفلسفة اية قدرة على النزوع المستقبلي وفي ادامة حياتها المعاصرة، بفاعلية التأثيرفي ان تكون لها فعالية فلسفية مستقبلية مكتسبة تشير الى حضورها الحيوي الدائم في مصنع الحيوية البشرية التي يتسيّدها ويقودها العلم التطبيقي التجريبي الطبيعي منفردا ومتقدما كل ضروب المعرفة الاخرى واهتماماتها.

بهذا الفهم الذي المحنا له، هل يحق لنا الجزم ان مفاهيم الفلسفة العظيمة، انتهت مكتفية بذاتها على ايدي عظام الفلاسفة هيراقليطس، سقراط، افلاطون، ارسطو، ديكارت، كانط، نيتشة، هيدجر، وسارتر، وآخرين؟! في تناولهم الوجود الانساني فلسفيا من كافة جوانبه واشكالياته التي استولدت شروحات واضافات تراكمية ونوعية على مدار عصور طويلة من التناول والتداول الفلسفي المعرفي.وحتى مفاهيم الميتافيزيقيا المرتبطة بالفلسفة تم السخرية منها والهزء بها في وجوب مجاوزتها ومغادرتها لانها اصبحت شغل من لا شيء عملي يشغله في الحياة.

يقول جاك دريدا ان اي تجاوز للفلسفة لا يعني طوي صفحتها، بل ذلك يستلزم قراءة الفلاسفة بطرق اخرى غير مسبوقة، وقريبا منه في تأكيد حضور وحيوية بقاء الفلسفة، يشير براتراندرسل ان الفلسفة منهج لفهم الحياة وليس لتغييرها، وبذلك يدين مفهوم ماركس الذي يذهب الى ان مهمة الفلسفة ليس تفسير الحياة وانما تغييرها.

هل بامكان الفلسفة ان تصبح علما طبيعيا من غير ان تفقد كل امتيازاتها عبر العصور؟

ان انتفاضة عصري النهضة والتنوير في القرن الثامن عشر الميلادي، وعلمنة الحياة في اوربا، لم يكن بتأثير( فلاسفة )عصر التنوير وجهودهم (وحدهم)، وانما كانت الانتقالة الحقيقية الواقعية بفضل (علماء) عصر التنويروالنهضة امثال كوبرنيكوس و نيوتن وغاليلو وبرونو وكبلر ومن على شاكلتهم من علماء الطبيعة والفلك والرياضيات وصولا الى داروين وفرويد وليس انتهاءا بانشتاين وهوكنج.وبجهود هؤلاء العلماء الصفوة كان الفضل الاكبر في التقدم وفي السبق وتحقيق التقدم العلمي والحضاري لعموم البشرية وليس اوربا وحدها.ان عظمة هؤلاء العلماء غير الفلاسفة ليس فقط انهم قلبوا مفاهيم علوم الفلك والفيزياء والرياضيات والانثربولوجيا والطب والنفس وغيرها التي كانت سائدة، بل عظمتهم في وضعهم حدا لوصاية اللاهوت الكنسي الديني على واقع الحياة كل الحياة وتحريرها اجتماعيا واقتصاديا وفكريا وخلاصها بحرية الاجتهاد والابداع.

وعبرة تخلفنا في الماضي وعجزنا والى يومنا هذا ان فلاسفتنا العرب المسلمين اخفقوا قديما في تحقيق ما استطاع قدامى الاوربيين تحقيقه، حيث كانت ولا تزال وصاية الفكر الديني السياسي عندنا، وسيلة الحاكم الغاشمة في القمع والهيمنة الوحشية، على حملة افكار التنوير والتقدم، ورميهم بتهمة الزندقة والكفر الجاهزة في وجه من يجرؤ تشخيص العلّة والداء.بما يشبه محاكم التفتيش التي سادت اوربا القرون الوسطى وربما اقسى..

مفارقة هذه الحقيقة التاريخية نجدها عندنا ولدى غيرنا من الشعوب التي ظهر فيها فلاسفة عقلانيون كبار لكنهم اخفقوا من تحقيق نهضة حضارية لشعوبهم او لغيرهم من امم وشعوب الارض.

ظهر عندنا نحن العرب المسلمون فلاسفة تنوير عظام بدءا من الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وجابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم نتنّطع اليوم بانهم كانوا(عقلانيين) مؤثرين وسطاء نقلوا الفلسفة اليونانية والرومانية وكانوا سببا في نهضة اوربا، لكنهم اخفقوا تحقيق نهضة امتهم. متناسين في مكابرة عقيمة اننا لم نكن نمتلك علماء امثال كوبرنيكوس او نيوتن او غاليلو او برونواوكبلروامثالهم الى جانب هؤلاء الفلاسفة التنويريين.

الفرق الذي حصل في اوربا ان عمل الفيلسوف اكمله عمل العالم، في حين لم يستطع فلاسفتنا تحقيق نهضة تنويرية تقدمية عندنا متكاملة عمادها مزاوجة الفلسفة و العلم.لان كل جهود الفلاسفة العرب المسلمين كانت منصّبة على ايجاد توافق تلفيقي افتعالي بين الفلسفة والدين وتزكية هيمنة الدين على الفلسفة وقيادته لها، وليس الربط بين الفلسفة والعلم في تكامل تنويري نهضوي يشاكل ما حققته اوربا في ترابط العلم والفلسفة.

ثم اذا كان تقاطع الفلسفة والعلم مازال قائما في المجتمعات الغربية منذ ديكارت وبيكون في القرن السابع عشر، فان اشكاليتنا مع الفلسفة المعاصرة هو في تقاطعها مع التفكير الديني السياسي الذي يحاول اما ربط الفلسفة بالتفكير الديني بافتعال مبتذل، او بالاقرار باستحالة الربط بينهما، ويلخص المفكر الكبير الجابري هذه الاشكالية بالعودة الى جذور المشكلة قائلا:(ان الفلسفة العربية بدأت بداية جديدة في المغرب والاندلس مع مشروع بن باجة الفلسفي، وكانت الفلسفة العربية الاسلامية في المشرق العربي لاهوتية المعرفة، بسبب استغراقها التوفيق بين الدين والفلسفة، اما الفلسفة في المغرب والاندلس ومع بن باجة فكانت علمانية الاتجاه وعقلانية بفعل تحررها من تلك الاشكالية، اشكالية الدين مع الفلسفة.)

المهم ان اوربا اليوم لا تحتفي بالفلسفة احتفائها بالعلم في معترك الحياة، وتراجعت المفاهيم الفلسفية القديمة لنستلم نحن الراية في المعارف والعلوم الانسانية فقط من غير العلوم الطبيعية التطبيقية، في الاطاريح والمنتديات والجامعات والبحوث، بما غادرته ليس اوربا وحسب ولكن اليونان المعاصرة مبتدأ ومنتهى الفلسفة القديمة ومستودع الارث الفلسفي العالمي، التي تستجدي العالم اليوم في ضائقتها المعيشية والمالية والاقتصادية ولا يشفع لها كل ارث الفلسفة الذي امتلكته وتمتلكه. ..من المؤكد الواضح اني لا ادين الفلسفة كمنهج في التفكيرالمعرفي ان يفقد معناه وحاجة الانسان له، ولكن تحّفظي اننا ربما نعتمد المفاهيم الفلسفية والانسانيات عوضا عن ميادين العلم التطبيقي في نشدان وتحقيق نهضتنا المرجوة وفي ذلك عقم المسعى والهدف، في تصورنا القاصر ان بحوث الانسانيات كفيلة بتحقيق نهضة حضارية وهو مالم تشهده البشرية في اي بقعة او عصر ولا في اوربا لا قديمها ولا حاضرها.

امام عجز الفلسفة الكلاسيكية القديمة ان تضيف جديدا متطورا للحياة، لجأت المفاهيم الفلسفية الحديثة والمعاصرة تنحى منحى الاعتياش التكاملي مع اللغة والالسنيات، والحفرالمعرفي الاركيولوجي، وانثروبولوجيا الحضارات والاديان وغيرها.ولجأت الفلسفة الحديثة الى مغادرة الاهتمامات الفلسفية الكلاسيكية القديمة التي اصبح اجترارها مؤونة الاطاريح والبحوث الجامعية والدراسات في تناولها مواضيع لم يكن في وارد عناية واهتمام الفلسفة الكلاسيكية القديمة بها كالجنس والهوية والتواصل والمهمّشين بالحياة كالمجانين والمصّحات.و من مواضيع اهتمامات الفلسفة اليوم مفهوم حقوق الانسان، صدام الحضارات وحرب الثقافات، ظاهرة الارهاب، نهاية التاريخ التواصل بين المجتمعات، الحاسوب والانترنيت، والفضاء العمومي للنقاش(هابرماس)، نظرية العدالة والدول المارقة (جون راولز)، البيئة المعاصرة والعدالة المناخية وغيرها. كل هذه المواضيع وغيرها العديد التي تشغل الفلسفة المعاصرة لا يربطها مع كلاسيكيات الفلسفة القديمة اي رابط يعتد الاخذ به، وغريبة جدا على اهتمامات الفلسفة القديمة بشكل قاطع.

قبل مغادرتنا هذه الجزئية من البحث نشير الى ان بيكون شن حملة شعواء على الفلسفة باسم وجوب افشاء قيم العقل والعلم، ويعتبر بيكون رائد الفلسفة التحليلية الإنكليزية التي تطورت على ايدي ديفيد هيوم وجورج موروجون لوك وأخيرا برتراندرسل، كما ان الفيلسوف كلود برنار هو الاخر اراد انشاء فلسفة تطبيقية جديدة لا نظرية، وامكن له استبعاد الميتافيزيقيا عن العلم.

في الختام يمكننا القول ان الفلسفة من ارقى المظاهر الحضارية الانسانية ومستقبلها سيدوم مادام الانسان تسكنه تساؤلات لم يتمكن الى اليوم اعطاء اجوبة شافية عنها.

(إنتهى)

 

حاوره: ا. مراد غريبي

المثقف – مرايا فكرية

14 – 11 – 2021م

.................

1- جون روجرز سيرل: فيلسوف أمريكي ولد عام 1932 ويشغل الآن درجة أستاذ فخري في فلسفة العقل واللغة، وأستاذ طلبة الدراسات العليا في جامعة بيركلي – كالفورنيا، معروف على نطاق واسع في مساهماته في فلسفة اللغة والعقل والفلسفة الاجتماعية، بدأ التدريس في جامعة بيركلي عام 1959..

 

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما في المثقف:

بين الفلسفة والتصوف

س8: أ. مراد غريبي: أليست الظاهرة الصوفية في وقتنا المعاصر بحاجة لدراسات أنثروبولوجية نقديّة معمقة تقف على الأحكام المغلوطة وتميز بين الأصلي والدخيل على الحقيقة الصوفية كما حددها أقطابها؟

ج8: د. مجدي إبراهيم: نعم ! ما دمت جعلتها ظاهرة صوفية لا حقيقة وجودية، وهذا رأى؛ فلمن شاء إذا هو شاء أن يدرس كما يحلو له الدرس والاستقصاء. فكما كانت هنالك مقاربات شتى من جهة علم النفس للظاهرة الصوفية، وتمت دراستها من الوجهة النفسية مثلما تمت دراستها كذلك من الوجهة الاجتماعية والسياسية؛ فليس ما يمنع تشعب الدراسات إزاء تلك الظاهرة شريطة أن تستبعد المناهج المادية التي تفسد طبيعة النصوص الصوفية مع قناعتي الشخصية التامة بأن التصوف لا يمكن درسه ولا فهمه حق الدراسة وصواب الفهم إلا بالمنهج الذي أستنه عارفوه. وإذن؛ فالدراسة لا شك مشروطة. وشرطها أن تكون في إطار هذا المنهج وعلى ضوئه. إمّا إذا نحن أسقطنا المنهج واستبدلناه بمنهج آخر مغاير؛ فبيننا وبين مسّ أذواقهم وفهم أحوالهم ومعرفة أسرارهم هوة سحيقة واسعة وبون شاسع عميق غائر لا يمكننا الوصول إليه. أمّا الدراسة النقدية أيضاً فهي كذلك مشروطة عندي، وسأعطيك مثالاً على ذلك فقد ذكرت لك من قبل "أدلجة النص الصوفي"، أي قراءته قراءة عقلية وتخريجه من ثمّ تخريجاً لا يعمق النظرة الجوانية الباطنة، ولكنه يقتصر فقط على الظاهر البرَّاني، وهو فساد قلَّ أن يعالج؛ إذ النّص الصوفي لا يؤدلج. النّصُّ الصوفي يتذوق، ولسنا بحاجة شديدة إلى كثير عناء بكشف استخدامه لدى من يدرسون ويكتبون؛ فهو عندي من الأهمية بمكان؛ لأن الفارق أوضح بكثير بين أدلجة النَّص الصوفي من جهة وكشف ممكنات هذا النص في إطار فضاءاته الذوقية المتنوعة. ومهمة الباحث في التصوف على وجه العموم فيما أتصوَّر أن يضفي من ذوقه الخاص وفكرته المستقلة تخريجاً لإشارات العارفين على هذا الذي أمامه ممَّا يقرأ أو ينظر أو يستسيغ أو يرفض بشرط أن تتوافر لديه إمكانيات التذوق للمقروء، ولا عليه في أن يجئ أمره من بعدُ رافضاً أو موافقاً.

وعندي أن هذا المنهج الذوقي خاصّة لهو المنهج المناسب إنْ لم يكن الوحيد في تقديري لمعالجة موضوعات التصوف بعرفان يلائمها ويتناسب مع استبصارها الذوقي بالترقي إلى إدراك مواجيد أصحابها كلما ترقى المستخدم له في نفسه أولاً وقبل كل شئ. أمّا أدلجة النَّص الصوفي وتحويله إلى نص عقلي يجوز عليه ما يجوز على النصوص الفلسفيّة والعقليّة من نقد أو تخريج، فهذا خبط عشواء لاختلاط مناهج العقل بمناهج الذوق والاستبصار.

إذا أردنا أن نكون نَقَدَة على الأصالة في هذا المجال فلا مناص لنا من أن يجيء نقدنا من الباطن نتمثل الوعي الصوفي ونتفهمه ذوقاً ومعرفة ومعايشة من الداخل، نحسّه ونستشعره ولا نخبط إزاءَه خبط عشواء كيما نقدّم رؤيتنا كليّة جامعة؛ لتكون أقرب إلى الوصف والتصوير والتحليل والمقارنة منها إلى عشوائيّة النقض الهدام الذي يفسد النص الصوفي فلا يُبقي ولا يذر؛ لأنه لم يفهم منه دلالة ولا عبارة، فضلاً عن غيبة وعيه بالإشارة أصلاً، أو بالاصطلاح الصوفي الدقيق: أن نتعَرَّف، قبل أن نتوقَّح، على مذهب أهل التصوف تماماً كما سَن الكلاباذي كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف" بتواضعه الشديد؛ ليكون نموذجاً يُحتذى حقيقةً إزاء علوم القوم ومعارفهم لأن التَّعرف الصحيح للتصوف أسلم للباحث من الإنكار العقيم، يستند عليه معول الهدم النقدي، وهو في الحق ليس نقداً بمقدار ما هو "توقح" يسفر عن ظلمة روحيّة وكدورة عقلية، ويكشف عن لوثة معرفيّة إزاء علوم الصوفية ومعارفهم.

هكذا أتصوّر حين يعمل النقد الفلسفي عمله السّلبي إزاء النّص الصوفي، فيفسده بغير تفرقة فيه بين غث وسمين. فالنقد في ميدان التصوف ذاتي جُوَّانيَّ من الداخل، ليس كالنقد في مجال الفلسفة يتسلط على كل فكرة ما بالهدم والتخريب، بغير تفرقة فيها بين نقد ونقض؛ فمَن حَرَمَ الذوق في حقل التصوف أنىَ له أن يمضي على بصيرة من إدراك لإشارات العارفين؟ وما يُقال في مجال الفلسفة نقداً لا يقال بنفس الكيفية في مجال التصوف.

وإذا كان التصوف تجربة ليس هو بالفلسفة، ولا هو بالنظرية؛ فمن المؤكد، رغم اتفاق المشرب الواحد والمنهج الواحد بين جميع الصوفيّة بغير استثناء، أن لكل متصوف خصوصيته، يضيف من خلال تجربته ما ليس موجوداً في تجارب سواه؛ حتى لو كان هذا السِّوى شيخه في التربية والترقية برغم وجود وحدة الروح التَّصوفيّة في الإسلام. ومن هذه النقطة الجوهريّة يجيء التأثير في مجال الفلسفة ليس هو التأثير القائم في حقل التصوف، ولن يكون، فيما لو عَوّلنا التعويل كله بدايةً على التجربة الصوفية واختلافها بالكلية عن الفكرة الفلسفيّة؛ فمن السهولة بمكان تحديد مصادر الفيلسوف ومعارفه التي أستقى منها فلسفته، وكذلك الأمر يُقال في المتكلم، في حين يصعب قوله في المتصوف؛ إذْ ذَاَكَ يصعب تحديد مصادره من خلال أقواله. إنما التأثير في مجال التصوف انتقال سرّ إلى سرّ ووراثة حال عن حال وليس هو بتبني فكرة نظرية ووراثة مقال عقلي .. ولماذا؟ لأن الصوفي يعطي من ذاته، ويجود من تجربته الخاصَّة، ويفيض من تلك التجربة فيما عَسَاهُ يتصور ويرتأى من مقبول الآراء. الصوفي يأخذ علمه عن الله مباشرة لا عن ميت؛ بل عن الحي الذي لا يموت كما جاء في إشارة أبي يزيد البسطامي طيّب الله ثراه.

الصوفي ابن وقته، ومعنى كونه ابن وقته، يعني ابن حاله، وابن تجربته، وابن معاناته الخاصَّة، فكرته هى نفسه، ورأيه هو ذاته، وإشاراته ومعارفه وشذراته من أنفاسه خاصّة. يلزم لهذا كله من أجل ذلك كله، أن يكون منهج البحث في حقل التصوف مستمداً من طبيعة هذا العلم يوافقه ويوائمه وينهج في معالجة قضاياه نهج من يتعرف أولاً لكي لا يتوقح حتى إذا أقدَم على النقد وهو مشروط عندي بهذا الشرط، كان نقده ذاتياً نابعاً من الداخل في إطار ما يعلم وفي ضوء ما يفهم لا في إطار يخلو من الذوق ومن العلم ومن التّعرُّف، ولا في ضوء ما من شأنه أن يسقط الفهم حين يقدّم النقد عن المقروء والمكتوب.

أضف إلى ذلك وهو المهم أن الصوفية نقدة على الأصالة، هم أول من نقدوا أنفسهم بأنفسهم وظهرت ملامح النقد الذاتي في آثارهم كثيراً. والأمثلة التي تبين النقد الذاتي في التصوف: شخصيات ومذاهب لا حَصْرَ لها سواء في التصوف السُّني أو في التصوف الفلسفي وعلى مدى القرون الماضية جيلاً وراء جيل: فعل ذلك كبار المتصوفة كالحارث المحاسبي (ت 243هـ) وأبي طالب المكي (ت 386هـ) والحكيم الترمذي (ت 285هـ) ومن تلاهم من صوفية القرن الثالث والرابع، ثم القشيري (ت 465هـ) والغزالي (ت 505هـ) من صوفية القرن الخامس، والسَّهْرَوَرْدي المقتول سنة 587هـ، وابن عربي (ت 638هـ) وابن سبعين (ت 669هـ) من صوفية القرن السادس والسابع، ومن عاصرهم أو تلاهم ممَّن نهج منهاج التصوف السُّني خاصَّة من رَوَّاد المدرسة الشاذلية: أبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ) وأبو العباس المرسي (ت 686هـ) وابن عطاء الله السكندري (ت 707هـ) وابن عَبَّاد الرندي (ت 790هـ) شارح الحكم العطائية، والشاطبي في كتابه الاعتصام، ثم لما تَفرَّعَت المدرسة الشاذلية من بعدُ وانتشرت في المشرق والمغرب وانتسبت إليها الطرُق الفرعية ظهر روَّادُ دانوا بالولاء إليها وأسسوا فروعاً لها كان من بينهم من أتخذ من النقد تطهيراَ للساحة الصوفية مما يُعَكر صفائها؛ فظهر على سبيل المثال الشيخ زَوُّرق (ت 899هـ) في عُدَّة المريد الصادق وقواعد التصوف، والشيخ أحمد بن عروس مؤسس الطريقة العروسية في تونس وليبيا، وعبد الواحد الدُّكالي في ليبيا، وهو رفيق الشيخ زَرُّوق، ثم ظهر الشيخ عبد السلام الأسمر مُجدد الطريقة العروسية الشاذلية في رسائله ووصيته الكبرى، ثم جاء من بعدهم في المغرب ابن عجيبة الحسيني، في كتابيه "التَّشَوّف إلى معراج التصوف"، وفى "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"، وغيرهم، غيرهم، ممَّا يصعب حصره في هذا المقام. ومن هنا وجدنا النقد بالنسبة إليهم جميعاً إصلاحاً للسلوك الديني وتخلقاً بالخُلق الصالح ليس نقداً من أجل النقد فقط، بل من أجل غاية أسمى من مجرد "النقد" أو (النقض = الهدم) هى بلا شك التربية ثم التغيير والإصلاح باعتبارهما تبْعَة دينية مفروضة فرضاً على القادرين عليها تمهيداً للدخول في مراحل التحقق.

 س9: أ. مراد غريبي: استسمحكم دكتور مجدي، هل هناك تقاطع وتعارض بين التصوف والفلسفة؟ اذا كان كذلك تؤيدونه أم العكس من ذلك؟

ج9: د. مجدي إبراهيم: الذي يتتبع الحوار سيجدني قد أجبتُ على هذا السؤال ضمنياً فيما سبق، ولكي لا يكون هناك تكرار في الإجابة نكتفى بالإشارة إلى الفرق الفارق بين (الفكرة) و(التجربة) وفي ظلال هذا الفرق تتبين الإجابة.

بداية نعرف أن تجربة الصوفي في حد ذاتها سابقة على الفكرة. وحيث أقول "الفكرة" فإنما يتوجه القصد مباشرة إلى الفكرة الفلسفية، فلا يفكر الصوفي أولاً ثم يُجرب، ولكنه يجرب أولاً ثم يأتي الفكر شارحاً لتجربته. ولا يكون العكس صحيحاً بوجه من الوجوه. وهذا في تقديري هو ما يميز العرفان (Gnosis) عن الفلسفة؛ إذْ العقل في مجال الفلسفة أسبق من التجربة في مجال التصوف. والمتصوف أقدر على فلسفة تجربته العرفانية من الفيلسوف الذي لم يذق فتوح التجارب الصوفية؛ فأفلوطين مثلاً كان أخضع تجربته لعقله ولم يخضع عقله لتجربته. وقد صحّ عنه أنه قال لم يذق في هذه التجربة شهود الوصال (الجذب Ecstasy) مع الواحد إلا أربع مرات في حياته كلها. ومعنى هذا أنه لم يبلغ حالة التسامي الفنائي (ecastitic trance) التي بلغها أصحاب التجارب العليا من صوفية المسلمين .. ربما لافتقاره إلى الوحي (Revelation) من جهة.

ومن جهة أخرى؛ لأن الفكر سبق لديه التجربة؛ فكل ما عرفه عن الواحد كان نتيجة تأمل عقلي وتفكير نظري، ولا يحدث هذا في بطن التجربة الصوفية؛ ليتم بفضلها الشهود المباشر؛ لأنها تكون هى السابقة المُقدّمة على كل ما يثمره العقل أو يشكله بمقولاته تشكيلاً أوليّاً سابق على التجربة.

مقولات العقل وإطاراته الذهنية في مجال الفلسفة مُقدّمة على التجربة الصوفية مستقلة عن الاحتكاك بها، حتى إذا ما جاءت التجربة بعد ذلك جاءت ضعيفة بالقياس إلى إعمال العقل قبل ذلك؛ إذْ القوالب العقلية المفروضة تسيطر على الحالة الروحية وتحد من طلاقتها؛ فتأخذ الحالة الشكل الذي فرضته عليها تلك القوالب الجامدة، فتفقد جذبتها إلى الملأ الأعلى بمقدار ما تفقد خصوصيتها وتفرُّدها وامتيازها.

حقاً ! ربما تصبح تجربة عقلية فلسفية بامتياز، ولكنها ليست حالاً ولا سراً يشهد الملأ الأعلى شهوداً بالمباشرة.

والعقل بلا شك له زاويته التي لا ينفك يرى بها الأشياء التي تزخر بها طبيعتها بعد أن يكون قد أختار منها ما شاء وأسقط منها ما شاء، بحسب نظرته الذاتية الخاصّة بمحض ما تفرض عليه مقولاته لا غير، فلا يدع من ثمّ التجربة أن تستكمل طريقها في مسارها الروحي؛ لكأنما يستعجل هذا المسار: يعوقه بفروضه ويقطعه بتحليلاته ويسلط عليه أنظاره من غير أن يُتمم للتجربة مسارها.

على العكس من ذلك كله يحدث في مجال التجربة الصوفية؛ إذ هى التي تفرض على العقل فيما لو كانت هى المقدَّمَة، وحين يعجز عن الانصياع لها والتقيد بأوامرها يتوقف عن الإدراك؛ فيحيل إلى مدراك أعلى منه وأرفع، هى بلا شك مدراك البصيرة. والبصيرة لازمة بالضرورة للتجربة، هي الأداة الإدراكية العليا لصنوف التجربة الصوفية باصطلاح وليم جميس كما ذكرت من قبل.

أمّا العقل؛ فلا .. إذا سلّم العقل للبصيرة أمره، نجح الإنسان في إتمام مراقي الشهود. وإذا ناطح العقل البصيرة، خذلته الرؤية فما أتمّ الشهود. ولكن هذه الشروط والضوابط ليست حَديّة فاصلة، وإنما تأتي كما لو كانت صياغات تقريبية لفهم عمل التجربة الصوفية في ميدانها. ويبقى بعد ذلك دورٌ غير منكور للعقل لا يتخطاه، وهو أنه أحال أولاً على البصيرة. وهو ثانياً يظل شارحاً للتجربة ينظمها ويسترشد في التخريج بمعطياتها ويأخذ منها ولا يأخذ من نفسه. وبمقدار ما يتصالح معها ويحاول فهم أسرارها يُخضع قوالبه لها ويكيف مقولاته في إطار التعاطف معها من حيث لا يخضع المرء تجربته، كما يحدث في مجال الفلسفة، لقوالب عقله ومقولاته.

لكن سؤلاً يثيره الذهن المترقب في هذه الفروق: وهل يدخل الصوفي تجربته وهو مُجرّد بلا علم ولا فكر ولا معرفة؟ وأي تجربة هذه التي يخوض غمارها وهو جاهل، والجهل لا يُعوّل عليه؟

تحقيقاً؛ لا نأخذ بما كان أخذ به "جان فال" حين أراد أن يصف هذه الحالة من طريق المجاز بالاستنارة مع أنها جهالة؛ فسمّاها في "طريق الفيلسوف" "بالجهل المستنير"، وهى عبارة تحمل مفارقة إنْ دلت على التجربة الصوفية ومعطياتها مفارقات، لا تدل على حقيقتها الكامنة فيها من حيث إنها عمل لا يعرف الجهل، وعلم يقارب المعرفة ويرتفع عنها إلى مقام الشهود.

غير أنه سؤال يبدر من الوهلة الأولى نقضاً لدعائم التجربة الصوفية: علام تستند؟ وهو سؤال وجيه، لكنه قاصر في نفس الوقت؛ إذْ الصوفي أولاً يعلم من الشرع أصوله، ومن العلم مبادئه ثم من بعدٌ لا يُشغل نفسه بكثرة الأقوال، ولكن يزج بها في بحار الأنوار؛ فالعلوم التي تعلمها والشرائع التي حصّلها تستدعي إعمال العقل وتتطلب جهد التفكير المُضنى الذي يصرف المرء عن غاياته ويشتت مقاصده ويقدح في خلوصه من جهة. ثم من جهة أخرى؛ فإنّ بعض قدماء الأولياء من المسلمين كانوا يعدّون الإغراق في العلم يبعث على الزهو والخيلاء. والعلماء ذوي الإيمان الضعيف يراكمون العلم ويأخذون بناصيته إلا أنهم لا يطبقونه في حياتهم العملية ثم يبيعون العلم لقاء المال. ومن صحة الرأي عندهم أن العالم يكون متكبراً، دنيوياً، مسيئاً، " إذا كثر بقباقبه وانتشرت كتبه وغضب أن يرد عليه شئ من قوله" كما يقول أبو نعيم في حلية الأولياء.

وهكذا لم تتغير على مدى السنين الطوال صفات المتكبرين من العلماء؛ لأنها صفات نفوس ملوثة، يأكل العجب فيها كما السوس إلى حيث يقضي عليها وعلى ما تعلمت في غير تعليم. إنما الصوفي الذي يخوض غمار التجربة في المقابل، ليس مطلوباً منه أن يستغرق عمره في شتى صنوف المجادلات النظرية بل يقتصر على الفروض والرواتب، ويأخذ في العلم ويشتغل بدوام الذكر.

وهنا نقطة تبدو لي في غاية الأهمية ينبغي التنبُّه إليها، وهى أن هذه المرحلة ليست دائمة؛ بل هي مرحلة موقوته بزمانها ومكانها: (خلوات) على فترات متباعدة للتصفية والتنقية، يعول عليها عمل الباطن؛ لأن الصوفي لا يمكث طوال حياته متبتلاً منقطعاً دون أن يمارس أعماله في حياته اليومية عبادة في مواعيدها المناسبة واستخلاصاً لما يمليه عليه واجبه تجاه نفسه ومجتمعه على أن هذه المرحلة الموقوتة، الفترة الزمنية التي يخوض فيها التجربة، تستغرقه بالكلية وتملك عليه أقطاره، وهى مع ذلك تجربة مُمَنهجة لا تقوم فيه جزافاً بلا هدف ولا غاية، يتغذى فيها الباطن بالأذكار لا بالأفكار، أو على حد قول "ابن خلدون" يتغذى فيها الروح العاقل بالذكر. وأكثر من تحدّث في فترة التجربة هم أقربهم إليها، هم من مارسوها. وكان الغزالي في ميزان العمل قد منهج خطواتها على مراحل، واستفاض ابن عربي من بعده في رسالة (الأنوار) شارحاً كيفية ممارستها على أصول منهجية وضعها. هذا المنهج دالٌ من الوهلة الأولى على أسبقية التجربة الصوفية على الفكرة النظرية؛ فمجرد التفكير في شئ من أشياء الدنيا، قل أو كثر، عائق عملي أمام فاعلية التجربة داعياً إلى تعطيل مسارها، فضلاً عن انغماس الفكر في التفصيلات النظرية، فهو أيضاً عائق معرفي بكل تأكيد؛ لأن ما يتلقاه المرء بعد سقوط الاختيار علوم ليست من جنس علوم الأفكار النظريّة، ولا هى من تصرفات العقل الفلسفي النظري فيها، ولكنها علوم تنقش نقشاً على رقائق القلب، ويعز التعبير عنها بالمباشرة بلغة العبارة العادية، لأنها صادرة عن وعي عالي، هو الوعي الصوفي (Mystical Consciousness)، والوعي العالي لا يُكيف مباشرة باللفظ المعتاد ولا بالعبارة العادية؛ لذلك كان الرمز هو المناسب للإشارة المُلغزة، وللومضة البارقة، وللذوق الفياض بثمار الأذكار.

غير أن هذا لا يحدث في حقل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف إذا سلط عقله على شيء يستغرقه بالكلية، ناهيك عما يتضمّنه محض التفكير من جوانب ذاتية متصلة بكل ما للمرء من عبادة الأنا واستشعار الذات واستبقاء الآنيّة التي لا تتلاشى أبداً من باطن الفيلسوف في حين لا تقوم للعارف قائمة وهي فيه قائمة.

ما تعطيه التجربة ويُفاض عليه من علوم مُمدّة بفعل الهمة تكون عطايا الفهم الجديد لا الشّرع الجديد؛ لكنه يكون إذْ ذَاَكَ فهم على غير مثال مسبوق، فهم ممزوج بالمعاناة مخلوط بتعب الانتظار والترقب.

مثله، ينقطع الفيلسوف إلى شواغله النظرية ويخوض تجربته مع المقروء والمكتوب في إطار التأملات العقلية، ولا يخرج بالعقل ليُعَبِّر عن الحقيقة إلا كما يخرج غربال من بئر بتعبير الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، طيّب الله ثراه،: ضع الغربال في بئر ماء فهل تخرج بشيء سوى قاذورات ونفايات تلقي بها بعيداً غير آسف؟ وكذلك العقل الذي يدعي كشف الحقائق الإلهية بلا وعى البصائر والأنوار والتجليات، يحكمها وعى محدود بحدود ما تفكر فيه على شرطها، وعلى شرط مقولاتها لا على شرط القصد المُوجّه من وعى الإلهام والاستبصار، وهو أعلى وعي يمكن تحصيله من ذوق مقامات الإحسان.

الفاعل الأكبر في (الحقيقة) التي هي باطن الشرع هو هذا الوعى، وليس من فاعل غيره على التحقيق بكل تأكيد. ولهذا؛ ومن أجل هذا؛ يكون للوليّ خاصية الفهم الجديد لأجل تجربته الفياضة بعلوم الأذكار؛ وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهى فيوضات التقريب (Emanation) أو تجليات (Manifestation) النور الإلهي في قلب الولي أو (Revelation) أو هي الحقيقة المطلقة التي تكشف عن نفسها فيما لا يتناهى من الصور والأشكال كما يسميها المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي في دراسته عن ابن عربي (The Mystical philosophy of Myhyid Din Ibn Arabi، Cambridge، 1939، p.62)).

ولأجل معيته الدائمة مع ألطاف الله، يتعلم الولي من فيوضات الحق وتجليات أنواره على قلبه ما لا يتعلمه الفيلسوف من معارفه التأملية العقلية وهو يعلم من شرع الله ما لا يعلمه الفقيه المحدود بحدود العلوم الظاهرة.

ومحالٌ مرة أخرى؛ على مستوى التجربة أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء. ليس الوليّ يجاوز الشرع بتجليات علوم الحقائق على قلبه، لا ولكنه يتحقق من باطن الشرع، من النبع الصافي الذي يكرع منه شراب الأنس ووصلة الوصال.

الأولياء نجوم مضيئة في سماء الولاية يتجسد فيها قمر الحقيقة الساطع، وهو باطن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخالفون شرعه وهم قطع من نوره المشرق على التحقيق، كل واحد منهم قبس من شمس الحقيقة؟

إنما الذي يقدح في الأولياء طمع الأغبياء ممّن غرقوا في وحل الوقائع الظاهرة والأحداث اليومية الجارية؛ فاستغرقتهم وطمعوا في إقبال الدنيا عليهم؛ فحجبتهم عن نور الحق وأضواء الحقيقة.

س10: أ. مراد غريبي: من طنجة الى جاكرتا هناك صور متعددة للتصوف بأسلوبكم التقريبي المميز في تعريف التصوف، إذا امكن ابراز مدارس التصوف؟ وما هي معالمها ومرتكزاتها التي تميزها عن بعضها؟

ج10: د. مجدي إبراهيم: هذا سؤال واسع جداً لا يمكن الإجابة عنه هنا تفصيلاً بل هو عنوان كتاب (الفرق الصوفية في الإسلام) لسبنسر ترمنجهام، ولذا أحيل القارئ إلى هذا الكتاب لأهميته. ولكن أشهر المدارس الصوفية الكبرى الباقية حتى يوم الناس هذا، هما الجيلانية والشاذلية، وتكاد تكون مبادئ كل منها واحدة: وحدة الاتجاه بين الشاذلي والجيلانى ممثلاً في إسقاط التدبير ورفض دعوى الإرادة؛ ووحدة المشرب الروحي الواحد، ووحدة القصد من وراء التأثر بذوق الطريق، لا بل تأثر ذَوْق الطريق نفسه بهما، وانتهاج هذا الذوق ليكون معبراً عن جانب عظيم في الإسلام، واقتفاء هذا الأثر على طول الخط؛ محافظةً على التصوف السني الخالص، واستخلاص أثره الباقي في الحياة الروحية في الإسلام. وكان الإمام عبد القادر الجيلاني، طيَّبَ الله ثراه، (ت651 هـ) من الصوفية الأقطاب البارزين في أحكام الطريق، وهو صاحب كتاب "الغُنية لطلَّاب طريق الحق"، كتب كتابه "فتوح الغيب" مقالات جاوزت السابعة والسبعون، عبارة عن إشارات ومعاني ترشد إلى قيم السلوك الصوفي، كلمات ظهرت لمولانا من فتوح الغيب، فَحَلَّتْ كما قال في جنانه فأشعلت المكان فأنتجها وأبرزها صدق الحال، فتولى لإبرازها لطف المنان ورحمة ربِّ الأنام في قالب صواب المقال، لمريدي الحق والطلاب. وهو شيخ أبي مدين الغوث دفين تلمسان؛ بالمباشرة . وأبو مدين الغوث تنسب إليه الشاذلية المبكرة قبل نسبتها إلى الإمام أبي الحسن الشاذلي.

س11: أ. مراد غريبي: ممّا يجهله العديد من رواد الثقافة الإسلامية هو الدور الثقافي والحضاري لمدارس التصوف عبر التاريخ الإسلامي كله ودورهم النضالي ضد الاستعمار في العالم العربي على سبيل المثال لا الحصر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر الجزائري والمجاهد عمر المختار الليبي وغيرهم كثير، ما محل إعراب التصوف من الحضارة الإسلامية؟

ج11: د. مجدي إبراهيم: بالإضافة إلى ما تفضلت بذكره وهو الدور النضالي لمدارس التصوف عبر التاريخ الإسلامي كما للأمير عبد القادر والمجاهد الليبي عمر المختار، كان للشيخ السنوسي دور بطولي بالغ الأهمية؛ مولود في قرية الوساطة قرب مدينة مستغانم في الغرب الجزائري في الثاني والعشرين من كانون الأول سنة 1787، وينتسب إلى الحسين بن على، نشر الطريقة السنوسية في الشمال الأفريقي وفي غرب الجزيرة العربية والتي تأثرت بالطرق الصوفية المنتشرة في شمال أفريقيا مثل الشاذلية والقادرية والناصرية، واستمر في العمل الدعوي والجهادي حتى توفى في السابع من أيلول عام 1859؛ ذاع صيته في جميع أقطار المغرب العربي وكان يعلم مريديه أسس القتال؛ ومن كبار مريديه الشيخ البطل السنوسي الليبي عمر المختار الشهيد الذي قارع الاحتلال الإيطالي لفترة طويلة حتى ظفروا به وأعدموه بعد محكمة قصيرة سَمُّوها محكمة الطيارة عام 1931م. كانت السنوسية رأس الحربة في مقاومة الإيطاليين الذين احتلوا ليبيا حيث شَنَّتْ غارتها المتتالية على مواقع وتجمعات الإيطاليين عام 1911م، واستمرت مقامتها في قوة وثبات حتى أندحر الإيطاليين عن ليبيا، وكان لها نفس الدور البطولي في تشاد بالفترة الواقعة بين سنة 1899 إلى 1911م مع الفرنسيين. ولما مات الشيخ محمد السنوسي خَلَفَهُ ابنه المهدي فأكمل مسيرة والده في الدعوة والجهاد. ثم إن هنالك نقطة أخرى متصلة بهذا كله وهى نقطة نظر الغربي إلى تراث الشرق الروحي، وإلى القصد من الروحانيات عموماً وعليه يمكن القول:

لم يكن التصوف كذلك تقليداً للنزعات الغربية؛ بل ولا يفهم التصوف الإسلامي خاصّة كما فهم هو من مجمل آراء بعض المستشرقين، ولا من جهود علماء الغرب ومنظريه ممّن حسبوا الروحانية ضد الحياة الإنسانية التقدُّمية وضد الكفاح والجهاد في شئون الحياة؛ فكان لديهم مجرد سرحات وهم سابح في اللامعقول، تتخذ ركيزتها من الإيمان بالخوارق التي تورث التواكل وتشعر على الدوام بالانهزامية وتنزع إلى الكسل وتضرب العمل في مقتل وتفرض على نفسها الاعتقاد في الخرافات والأباطيل. وإنه لكي تتقدّم الأمم لا محالة تأخذ بأسباب الحضارة الغربية والتقدّم العلمي والثقة الدائمة بالعقل البشري لفهم أسرار الطبيعة وفك طلاسمها وكشف مجاهلها على أقل تقدير.

هذه الأسطوانة المشروحة التي خرقت الآذان من كثرة سماعها، ولم تسفر في النهاية إلا عن ضياع شبابنا وكهولنا، وتغييب الهوية العربية والإسلامية، مع أن الخلط ظاهر جداً بين مجال ومجال: مجال التصوف لا يتجاوز العلاقة الجوانيّة الباطنة بين الإنسان وربّه. ولم تكن هذه العلاقة مع الله بالتي تتعارض مع العلم والأخذ بأسباب التقدّم العلمي؛ لأنها علاقة باطنة كامنة في الضمير والوجدان. وكل ما يَمَسُّ العمل العلمي كسب جوارح وسعي في الأرض إنْ بالخير وإنْ بالشر؛ فلئن كان الضمير فاسداً والوجدان يحمل قيماً ساقطة فماذا عساك تنتظر إلا التخلف والخراب كما هو حاصل الآن؟ وكيف يأتي العمران والبناء، والضمير فينا مفقود مسلوب لا يتنزّه عن اللوثات الساقطة والانحراف العقدي والخُلقي؟

وعليه؛ فتقليد الأفكار والنزعات تقليد القرود شيء يقدح في روح الآدمي نفسه ويجرّده عن قيمه ومبادئه وعن التفاعل الحركي مع وجوده الروحي. على أن الغربيين حين يذكرون روحيّة الإسلام؛ بل روحية الشرق كله من أقصاه إلى أدناه لا يذكرونها إلا بالسلب، ويسبقهم وصفها بالطابع الروحي. والروحية عندهم تخلف وجهالة لا اتصال بالله ولا معرفة به؛ فلا يزالُ أبناء الشرق كله، لا الإسلام فحسب، ينزعون في تفكيرهم تلك النزعة الروحيّة التي جعلتهم نياماً يرفلون في غطيط الجهالة ولا ينزعون في تصوّرهم للحياة النزعة العقلية القائمة على الإيمان بموجبات البحث العلمي والتقدّم التكنولوجي؛ إذ لا زالت حياتهم كلها خميرة جهل وتخلف تدور حول سرحات الوهم العابث والإيمان بالسحر والخرافة وقراءة الغيب والاعتقاد الساذج في قصص الخوارق والمعجزات.

وظل المتقدّمون والمتأخرون والمحدثون والمعاصرون يقلدون هذه النزعة تقليد القرود، ويردّدون من ورائهم هذه النغمة الخرساء، ولا أحد يتنبّه أن في مثل هذا الترديد نفسه ضرباً لا شك فيه من التقليد الأعمى والتفكير البالي والخوزقة الثقافية وطفولة الرأي والفكر على التعميم.

لم يعد التصوف مطية هجوم كاسح مدمر؛ لأن أكثر ما جذب الغربيين فيه إنسانيته العليا وتسامح رجاله إزاء العقائد والديانات الأخرى، وموضوعاته التي تشترك فيها مطالب الإنسان على وجه العموم. وأكثر الذين تخصصوا في كشف النقاب عن بدائع الحضارة الإسلامية من المستشرقين بدئوا من التصوف وانتهوا إليه، وقارب النوابه منهم كما فعل "ماسينيون" و"كروبان" وبعض دراسات نيكلسون وترمنجهام إلى أن يجعلوه كاشفاً لخصوصية الثقافة الإسلامية، وعلامة عليها قبل غيره من مجالات الفلسفة والثقافة والفكر الديني في الإسلام.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الخامسة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الخامس: الزمن والفلسفة

س78: أ. مراد غريبي: كيف ترون فهم افلاطون للزمان وبماذا يختلف عنه أرسطو، وايهما أقرب الى التصور الفلسفي المقبول حاليا في تاريخ الفلسفة؟

ج78: أ. علي محمد اليوسف: باعتقادي فهم افلاطون للزمن هو فهم التحقيب الارضي التاريخي الذي يخضع فيه افلاطون إدراكنا الزمن بدلالة وقائع التاريخ ولم يكن مخطئا بفهمه الفلسفي هذا، لكنه أهمل استحالة إدراك الزمن تجريديا من غير دلالة تعالقه بالمكان (الطبيعة) لذا هو ابتعد بحديثه عن الزمان الكوني الفضائي (space) الذي هو فيه الزمن ليس تحقيبا ينقسم الى ماض وحاضر ومستقبل ارضي. ميزة الزمان الكوني الذي لم يكن يدركه افلاطون أنه مطلق ازلي تجريدي ليس موضوعا يدركه العقل منفردا تجريديا، وهو ما ندركه بتعالقه مع قوانين فيزياء الكون. الزمن وسيلة إدراك وليس موضوعا للإدراك في كل الاحوال سواء أكان زمانا تحقيبيا ارضيا أو كان زمانا كونيا.

ارسطو أدرك الزمان الكوني الذي أهمله افلاطون لكنه هو الاخر اي ارسطو ادخلت مفاهيمه الفلسفية عن الزمن أوروبا في القرون الوسطى عندما اعتبر مركز الكون هو الارض وهي ثابتة لا تتحرك ما جعل كلا من كوبرنيكوس 1543م في ورطة تعارضه مع الكنيسة عندما قال الارض ليست مركزا للكون وانما الارض جرم كروي غير ثابت يتبع في حركته الدائرية ثبات الشمس ما جرّ الويلات على كل من جوردان برونو وغاليليو ونيوتن من بعده.

لذا أختصر رغم الاخطاء الفيزيائية التي أثبتها العلم على افكار ارسطو الفلسفية لاحقا نعتبر فهم ارسطو للزمن هو فهم أنضج من الفهم الافلاطوني في اعتبار ارسطو الزمن الارضي تحقيب يعرف بدلالة وقائع التاريخ، والفضاء الكوني مطلق ازلي لا يدركه العقل ماهويا لا تجريديا ولا بدلالة تعالقه مع قوانين الطبيعة الكونية التي أثبتها علماء الفيزياء من انشتاين ونزولا الى علماء الذرة. الزمان حقيقة كونية مطلقة نفهمه وسيلة دلالة لكنه لا يكون موضوعا يدركه العقل.

س79: أ. مراد غريبي: ذكرتم في كتاباتكم الفلسفية عن الدوائر الزمنية التطورية، وذكرتم ان القفزات النوعية في التاريخ لا تجاريها القفزات او الطفرات النوعية بالزمن، وهل تحقيب الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل هو تعبير مجازي للزمن ام تعبير حقيقي له؟

ج79: أ. علي محمد اليوسف: سؤال مهم جدا، قبل بدء الاجابة عن السؤال اود التأكيد ان مفهوم القفزة النوعية او الطفرة النوعية في الزمن غير موجودة على الاطلاق كون الزمن مطلق كوني واحد لا يتقبل القسمة ولا التحقيب الا فقط كما في الزمن الارضي الذي هو تحقيب تاريخي بدلالة زمنية تلازمه . والزمن التحقيبي الارضي لا يفقد صفته الخصائصية الفريدة انه مطلق ازلي يحمل خواصا ارضية وكونية واحدة. ولا يدركه العقل تجريديا لذا نجد تعريف سقراط كان في غاية الذكاء حين سئل ما هو الزمن قال: الزمن هو مقدار حركة جسم ما في الزمن، والزمن دلالة حركية للاشياء لكن الزمن ليس حركة ولا يخضع لإدراك عقلي كموضوع.

أما مسار التاريخ الذي يقوم على جدل دائري حلزوني صاعد هو مسار خطّي كونه محكوم بإلزام النقلات النوعية، التاريخ حسب التحليل المادي يسير خطيّا أفقيا في دوائر تعاقب ديالكتيكية لكن ليس بأسلوب إنعدام الطفرات النوعية فيه. وهذا هو الفرق الجوهري بين مفهوم تعاقب الدوائر في إعادة نفسها على أساس أن ما حدث سيحدث لاحقا في العود الابدي, وبين ديالكتيك الدائرة التي تتخللها الطفرات النوعية الكيفية المتقدمة دوما في ملاحقة التجديد الذي يندثر القديم خلفه. ليستحدث نفسه ثانية في الظاهرة الجديدة التي يحكمها الديالكتيك بقانون نفي النفي لها ايضا.

س80: أ. مراد غريبي: ما حقيقة الحاضر الوهمي للزمان؟

ج80: أ. علي محمد اليوسف: أفلاطون يفهم الزمان على أنه عود أبدي في التكرار الذي يخلو من التنوع الكيفي في طفرات نوعية، وميزة عبقرية افلاطون رغم إعتماده تعاقب الدوائر زمانيا إلا أنه لم يفهم الزمان مسارا أفقيا خطيّا جرى تقسيمه التحقيبي الى ماض وحاضر ومستقبل من أجل تيسير فهم الزمان كيف يعمل في تعالقه بنظام الطبيعة والاشياء وحركة القمر والارض والكواكب الاخرى. بإرتباطها فيزيائيا بحركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر، وفي تعاقب الليل والنهار والفصول الاربعة والسنة والشهور وغيرها من أمور.

افلاطون يوضّح فهمه للتحقيب الزماني أن الحاضر هو إفتراض وهمي خارج سلسلة التعاقب الزمني من الماضي الى المستقبل، والحاضر تحقيب مؤقت بضوء ماض متشّكل وجودا لا نفهمه إدراكيا بغير الحاضر، وبين مستقبل يندغم به الحاضر   حتميا إلزاميا زمانيا في بناء ملامح مستقبلي يسعى الانسان حضوره وتحققه. بمعنى كل ما يقوم به الانسان من إنجازات في حاضره هي بناء لمستقبل يرغب تحققه الحضوري. والحاضر الزمني لا يمكننا إدراكه كونه تغيير حركي مؤقت لا يتّسم بالثبات المقارن مع ثبات الماضي ولا يمتلك كينونة زمنية إستقلالية تفصله عن المستقبل. لذا إعتبر فلاسفة اليونان الحاضر نقطة ليست زمانية ينتقل عبرها تجسير الماضي الى المستقبل في تجاوز الحاضر كقطوعة زمنية لا نمتلك إدراكها.

من الخطأ بضوء هذا المعنى أن نفهم الحاضر حلقة وصل بين ماض انتهى وبين مستقبل يتشّكل منهما سوية أي يتشكل من ترابط الماضي مع الحاضر. الحاضر هو زمن وقتي منحل نحو ماض يجتذبه ومستقبل يجيرّه.

وبتعبير افلاطون (من الخطأ أن نستعمل الحاضر وصورة ما هو كائن، لما هو متغيّر متحّول من الماضي الى المستقبل)، فهو يعتبر الحاضر لحظة قصيرة جدا عابرة لذا لا يجب معاملتنا لحظة الحاضر المؤقتة كزمان تجسيري يربط الماضي بالمستقبل وهذه حقيقة لا غبار عليها من جنبة فهمنا الحاضر زمانا وليس تاريخا يلازمه الزمان..

والسبب في غمط الحاضر حضوره المستقل كتحقيب زماني غير مدرك زمانا رغم حقيقة كونه مدرك موضوعيا فيزيائيا لا يكون بدلالة إدراكه الحسّي المباشر كزمن بل بدلالة تحقيبه تجسير ربط الماضي كتاريخ بالمستقبل كسيرورة متشكلة تجديدا على الدوام بدلالة منجز الحاضر. الحقيقة التي سبق لي تكرارها في أكثر من مقال لي أن الزمان في تحقيبه الارضي كزمان مجرد عن تاريخانيته الى ماض وحاضر ومستقبل هو حدس يدرك بدلالة غيره من حركة أجسام يحتويها ويتمايز عنها بالمواصفات والكيفية. فنحن ندرك الزمن الماضي بدلالة وقائع ما يحتويه من تاريخ، وندرك المستقبل بدلالة سيرورته التاريخية ألمتشّكلة على الدوام وليس في زمانية مجردة نطلق عليها لفظة مستقبل زمني لا مضمون يحتويه.

هنا في تداخل بسيط نناقش به، افلاطون يعتبر ألحاضر وهما غير موجود زمانا من حيث أن ما يفعله الانسان في كل حركة من حركاته هي بنية مستقبل غير منظور وليس حاضرا غير منظور لا يمتلك زمانية سكونية كافيّة لبقائه كي يدركه العقل. وكذلك يصبح ماضيا حين يجري إندغامه كحاضر بالماضي لإستعادتنا إستذكاره. فاللغة مثلا التي يتكلمها الانسان هي لغة مستقبل زمانيّا وليست لغة حاضر غادر زمانيته وأصبحت تعبيرا عن ماض إنتهى لحظة الانتهاء من تعبير الجملة. لذا نجد افلاطون يعبّر عن هذا المعنى (الحاضر لحظة غير معقولة لأنها تفترض البقاء ولو أقصر مدة فيما ليس هي بكائن على الاطلاق) بمعنى الحاضر ليس بكائن يدرك زمانا على الإطلاق حسب تعبير افلاطون نصّا. وهنا لا يمكن تخطئة افلاطون بتعبيره هذا كونه يتعامل مع زمان حاضر تجريدي على صعيد التصور لا يحتوي تاريخ وقائعي.

الحاضر الزماني حسب تفسير افلاطون هو لحظة لا يعقلها العقل لتعّذر إدراكها، فهي بقاء مؤقت زائل لذا لا يكون الحاضر كائنا مدركا كمفهوم زماني. ولو أننا تماهينا مع افلاطون مع هذا التصور الزماني الميتافيزيقي الذي يبدو لنا صحيحا منطقيا، سوف نسقط في نفس الاستحالة الإدراكية في فهمنا للماضي، على ضوء فرضية أن الحاضر وهمي غير معقول وكذا نفس الحال مع المستقبل ما يجعل من تحقيب الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا محض افتراضية عشوائية لا معنى لها سوى في أذهاننا فقط ولا تحمل مدلولاتها الادراكية العقلية القائمة خارج تحقيب زمني لها..

وهذا التحقيب العشوائي الزماني كقطوعات تحقيبية هي موضع شك لا يمكننا البرهنة المنطقية العقلية عليه. كون هذه السلسلة من التعاقبات الماضي والحاضر والمستقبل جميعها ترجع الى أصل المشكلة أن الزمان ليس موضوعا مدركا للعقل لا بالصفات الانفرادية ولا بالماهية...كما أن الزمان وحدة زمنية واحدة في عدم إدراكنا ماهية الزمن كموضوع مدرك فهو سرمدي أزلي لانهائي.. قطوعات الماضي والحاضر والمستقبل تعبيرات مجازية لزمن مجرد يستحيل إدراكه تجريدا منفردا دونما دلالة مكانية سواء من التاريخ أو الطبيعة.، لكن ألمدرك الحقيقي لنا أننا ندرك هذه القطوعات الثلاث ليست زمنية بل قطوعات تاريخية فقط  نعيشها في ماضيها وفي حاضرها وفي سيرورة مستقبلها.

س81: أ. مراد غريبي: ما علاقة النفس بالزمن؟ وهل هي ذاتها علاقة العقل بالزمن؟ وفي ايهما تجد الانحياز العلمي؟

ج81: أ. علي محمد اليوسف: أود الاشارة الى أن علاقة النفس بالزمن علاقة طبيعية لا يمكن الفصل بينهما، وطبيعة النفس متغير غير ثابت امام مطلق زمني ثابت لا يتغير، هذا ليس نجده على مستوى علم النفس في الادراك الشعوري واللاشعوري الدارج للزمن، وهو تعبير خاطئ صحيحه هو الشعور واللاشعور يكون في النفس وليس بالزمن. حقيقة الارباك الذي اثاره الفيلسوف العقلاني العلمي جاستون باشلار حول رومانسية المكان على أنها زمن استرجاعي إنما هو بالحقيقة تعبير مجازي عن الزمان فقد كان يقصد استرجاعات تذكر الامكنة وتاثيرها النفسي. الزمن تجريد دلالة فقط وعند استذكار الماضي انما نحن نستذكر انطباعات نفسية وليس انتقالات زمانية.

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟ لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالإسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.

وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا. فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي, ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضويا بدلالة تحقيب نفسي لازماني حقيقي لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التام عن النفس.

وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للإنسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن خارج التجريد. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست زمن التاريخ الاستذكاري له ونحن نعيش الحاضركمخيال للماضي.

في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته. الزمان والطبيعة جوهران متلازمان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه. ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا أي مدركا زمانا خارج العقل، ولا يكون الزمن ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة. هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن ما يدركه الانسان زمانيا هو إدراك متزامن مع مكان حتما، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراك المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.

س82: أ. مراد غريبي: نفهم مما ذكرتموه أن الزمان تجريد منفصل عن كل شيء مدرك سواء النفس او المادة او التحقيب الارضي او حتى الزمان الكوني وذلك بسبب الزمان لا يدرك العقل ماهيته اليس كذلك؟

ج82: أ. علي محمد اليوسف: بالضبط ما ذكرته. حين عبّرت في أسطر سابقة الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه إنما أردت تأكيد حقيقة أنه لا يوجد هناك إدراك زمكاني بدون إدراك العقل لمكان. ملازمة إدراك العقل زمكانيا هي خاصيّة عقلية لا يمتلكها الزمان منفردا كما لا يمتلكها المكان منفردا والأهم أنهما لا يمكن إدراكهما المتزامن زمكانيا بينهما إلا تحت سطوة العقل الادراكي فقط في تعالقهما المشترك.

أهم خاصية يمتلكها العقل ليس ماهية التفكير المجرد المنعزل ذاتيا كما ذهب له ديكارت، وإنما العقل يمتلك خاصّية الإدراك السابقة على خاصيّة توليد الافكار. لا ألادراك العقلي يتم بلا إدراك أولي شيئي أو موضوعي واقعي أو خيالي، ولا التفكير العقلي بمدركه كموضوع يتم من غير وجود مادة أو موضوع يكون هدفا قصديا للإدراك العقلي والتفكير فيه.

لكن تبقى المحصلة الزمن هو الزمن بخصائصه المنفردة التي لا يدركها العقل تجريديا كمطلق لا ماهية عقلية له يدركها العقل منفردة. والنفس هي النفس بخصائصها النوعية المتضادة كليّا مع الخاصية المطلقة للزمن. لا يمكن تحقيق محدودية الإدراك الشيئي بدلالة مطلق الزمان كخاصية نوعية. بل يمكن ذلك في إدراك ماهو محدود مكانا بدلالة ماهو ملازم له محدود زمانا ايضا. محدودية الزمان بدلالة محدودية مكانية ممكنة في تبادل الادوار من غير ما تداخل ماهوي جوهري بينهما، ولا علاقة جدلية تربطهما بل ارتباطهما هو من نوع التكامل الادراكي المعرفي للعقل فقط.2980 علي محمد اليوسف

س83: أ. مراد غريبي: يثير باشلار إشكالية أخرى "هل سينقذ المتواصل الزمني بتجريد الزمن كشكل قبلي؟ هل هذا المنهج والقول لباشلار يعني أننا على نحو ما نجوهر الزمن من تحت في فراغه وخلوّه خلافا للمنهج البرجسوني الذي يجوهر الزمان مع مرور الوقت من فوق في إمتلائه"؟

ج83: أ. علي محمد اليوسف: الزمان مطلق جوهري مجرد لا يدركه العقل لا بالصفات ولا بالماهية. وعبارة باشلار الزمن تجريد (قبلي) هي عبارة صحيحة تماما. جوهر الزمان كتجريد ماهوي سابق على جوهر الوجود كثبات مادي ومتغير بنفس الوقت. الزمان متغيّر ناتج عن حركة مكان او موجود او شيء سابق عليه. لكنه أي الزمان ليس حركة يمكن إدراكها مجردة عن المكان والاجسام والاشياء ولا يتغير وتغيراته التي نحدسها عقليا وندركها هي تغيرات مكانية يحتويها زمن ثابت لا يتغير...

الزمان جوهر ممتلئ لا ندرك إمتلائه ولا خلوّه. الزمان لا يكون خلوّا فارغا لا على صعيد التحقيب الزماني الارضي في إدراكنا موجودات الطبيعة بدلالة الزمان، ولا يكون الزمان فارغا خلوّا وهو يحتوي الكون اللانهائي ولا يحتويه الكون المادي في لانهائية الكون والمجرات، ولا يوجد قانون فيزيائي أرضي أو قانون فيزيائي على الصعيد الكوني لا يدخل فيه الزمان دلالة رمزية في معادلة علمية لا قيمة لها في إلغاء تجريد الزمان منها.

الزمان جوهر ثابت مخلوق لا يتعالق إمتلائه الافتراضي ولا خلوه بدلالة جوهرة غيره من الاشياء. لا يوجد هناك حتى على المستوى الميتافيزيقي إمتلاء زمني تحتاني يختلف أو يتكامل مع إختلاف إمتلاء زمني فوقاني. فيزيائية الزمان لا تقبل التجزئة على صعيد ماهيته الجوهرية الطلقة اللانهائية ازليا, لكنه يقبل التجزئة الافتراضية على صعيد تحقيبنا الزمان ارضيا لتوفير إمكانية ادراكنا ومعرفتنا تغيّرات الطبيعة ورصد حركة سيرورة الاشياء في العالم الارضي المحيط بنا في معرفتنا الوقت وضبط تغيرات المناخ.

الحقيقة التي تحكمنا هي أننا ندرك الموجودات مكانا بدلالة زمانيتها، في نفس وقت أننا ندرك محدودية الزمان كتحقيب وليس كمطلق بدلالة إدراكنا المكان وموجودات الطبيعة والوجود زمكانيا مشتركا متداخلا..

س84: أ. مراد غريبي: تناولت في احدى مقالاتك الفلسفية علاقة الزمن بالعدم، ما صحة هذه العلاقة وكيف يمكنك توضيحها؟

ج84: أ. علي محمد اليوسف: بضوء ما ذكرناه ربما يبرز تساؤل ما الفرق بين الزمن والعدم في حالتي الفراغ وفي حالة الامتلاء التي قال بها باشلار؟ إجابتنا تتحدد بالتالي:

الزمان يلتقي العدم في واحدية الامتلاء كليهما، فلا زمن بلا إمتلاء وجودي يحتويه ولا عدم بلا إمتلاء وجودي يفنى فيه. الزمان يحتوي الوجود كاملا، والعدم يزامن الوجود لإفنائه وليس ليحتويه فقط كما هو واقع الحال بالزمن فهو يحتوي الوجود ولكنه لا يفنيه وهذا هو الفرق الجوهري بين الزمان والعدم في تعالقهما بانطولوجيا الوجود.

الزمان يحتوي الوجود ادراكا لمعرفته، والعدم يلازم الوجود لإفنائه بالموت. لذا من أفدح الأخطاء على صعيد الفلسفة أن نعتبر الزمن مكافئا (العدم) بعلاقتهما المتباينة بالوجود، فعلاقة الزمن بالوجود هي علاقة إدراك توكيدي للوجود، بينما تكون علاقة العدم بالجود إفنائيا له. لا شيء يمكننا الدلالة على أنه يمتلك استقلالية موجودية خارج ملازمته الوجود لإفنائه وليس لتوكيده الادراكي كوجود. ومن الاخطاء الاكثر فداحة فلسفية ايضا هي إعتبارنا إمتلاء الزمان يشابه ويكافئ إمتلاء العدم. العدم لا يكون ممتلئا أبدا في جميع الحالات. فالعدم ليس فراغا احتوائيا ليمتلئ. العدم مصطلح فلسفي غير وجودي يدرك بدلالة إفنائه الاشياء والكائنات الحيّة.

الزمان والعدم كلاهما يلتقيان بخاصية أنهما لا يدركان كجوهرين متمايزين مختلفين بمعيارية الفراغ والامتلاء، ولا يمكن إدراكنا زمانا تحقيبيا ارضيا ولا كونيا فارغا بمعنى الزمان لا يتوسط إمتلائين، ونفس الشيء ينطبق على العدم في إستحالة توسيطه كفراغ لوجودين أحدهما سابق عليه والآخر لاحق عليه.

س85: أ. مراد غريبي: هل الزمان قبلي كما يشير له باشلار "ارتقاب مجرى الزمان مكتوب في الذاكرة وقبلية الزمان لا تظهر إلا لاحقا كضرورة منطقية "؟

ج85: أ. علي محمد اليوسف: قبل الدخول في مناقشة باشلار اود تثبيت ما يلي:

- الزمان جوهر كيفي ثابت لا يمكن التلاعب في ماهيته غير المدركة للإنسان. بمعنى الزمان جوهر غير متعالق مع رغبة الانسان النفسية مطلقا، ولا يوجد هناك قدرة انسانية يمكنها التحكم بالزمان في أي شكل من الاشكال بسبب إنعدام المجانسة الماهوية بين الزمان وبين كل شيء موجود يتعالق مع الزمان إدراكيا بدلالته فقط.

- الزمان جوهر غير ديالكتيكي وهذه حقيقته الانفصالية المطلقة عن الاشياء خارج علاقته إدراك الاشياء وليس التداخل الجدلي الديالكتيكي معها. الزمن تجريد يلازم مدركاتنا لكنه لا يكون جزءا تكوينيا منها.

- الزمان وحدة كليّة وجوهر ماهوي مطلق تجريديا لا يمكن تجزئة الزمان ولا تحديده ويقول ارسطو في عبارة رائعة (لا يمكننا حد الزمان بزمان) فأنت عندما تريد محدودية زمانية يتوجب عليك أن يتوفر لديك زمان آخر يمتلك ماهية زمانية مغايرة أخرى تحّد بها زمانا لا يشاركه المجانسة الماهوية النوعية وهو محال فالزمن جوهر واحد في مجانسة ماهوية واحدة. وما يحكم العالم والانسان والطبيعة والكون زمان واحد يمتلك كيفية ماهوية واحدة لا تنقسم على نفسها ولا تتجزأ ولا يمكن حدها بحدود.

س86: أ. مراد غريبي: قلت وردت في عبارة ارسطو (الرائعة) ان الزمان لا يحده زمان, فهل ترى إمكانية حد الزمان بالمادة؟

ج86: أ. علي محمد اليوسف: السؤال هل من الممكن حد الزمان بالمادة؟

كتحقيب أرضي وليس كمطلق ازلي زماني؟ ايضا هنا الجواب في منتهى الإحراج. الزمان يدرك بحسب مقدار حركة الاجسام داخله على الارض. لذا فالزمان من خواصه أنه يتمدد ويتقلص وهو ما ذهب له انشتاين في النسبية العامة 1915. كما هي خاصيّة المادة لكن من غير فقدانه لماهيته الزمانية المطلقة الكلية الواحدة التي لا يمكننا ادراكها بغير دلالة حركة جسم يحتويه الزمان. فالزمان الفضائي الكوني ندركه بدلالة جسم منطلق لنفترض صاروخا، بكتلة وحجم معينين وبسرعة الانطلاق وكذلك كوابح الاحتكاك بالفضاء.

إننا نستطيع تحديد الزمان بحركة الاجسام داخله في توازن ماهوي جوهري لهما متصلان في دلالة أحدهما ندرك الآخر، ولكنهما منفصلان بالخصائص الذاتية المختلفة بين الزمان والاجسام التي يحتويها. لا الجسم يفقد خصائصه في حركته داخل الزمان ولا الزمان يفقد خصائصه الماهوية كزمن لا يمكن إدراكه إلا بدلالة حركة غيره ماديا.

الزمان قبلي على الإدراك بعدي على الوجود، علما أن الوحدة الزمانية لماهيّة الزمان لا تتغير في الحالتين. كون الزمان جوهر لا يقبل التجزئة والانقسام لا على نفسه ولا بعلاقته بموجود مدرك بحركته داخل الزمن.

المشكلة الميتافيزيقية التي أثارها سبينوزا هي في إعتباره الطبيعة مخلوق قبلي على بعدية الزمان، فالوجود والطبيعة أولا والزمان ثانيا. سبينوزا من المدهش حقا إنطلاقه تحت تأثير لاهوتي أن الخالق خلق المكان والمقصود بها الطبيعة بنظام ثابت في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه، والطبيعة بنظامها هذا هي التي أسبغت على عشوائية الزمان نظامه. لذا إعتبر سبينوزا إدراكنا الوجود والزمان إنما يتم بدلالة ازلية الجوهر الاعجازي بنظامه الذي هو الله.

لما كان الانسان يدرك ويحّس الزمان بخلاف الحيوان الذي لا يدرك ذاته ولا يدرك نظام الطبيعة والأهم أنه لا يدرك الزمان. لذا نجد الحيوان متكيّفا إنقياديا سلبيا ذاتيا مع الطبيعة في إدامة حياته يعيش ليأكل، في حين العلاقة التكيّفية عند الانسان مع الطبيعة لا تقوم على الانقياد لها من دون وعي منها. فالطبيعة لا تعقل نفسها من جهة ولا تعقل وجود الانسان من جهة أخرى. بخلاف العقل يدرك ذاته والطبيعة معا.

س87: أ. مراد غريبي: يعبر برجسون قائلا " أن امتلاء المادة للزمان هو الاكثر كثافة من إمتلاء المادة للمكان، وما تزال المادة تملأ الزمان بشكل مؤكد أكثر مما تملأ المادة المكان".

ج87: أ. علي محمد اليوسف: من المعروف جيدا أن كل إمتلاء مكاني هو في نفس اللحظة من الحين والوقت يكون إمتلاءا زمانيا، وإدراك الإمتلاء لا يخضع لتعاقب تسلسلي في الأسبقية لتعذر إمكانية معرفة فصل إمتلاء المكان بمعزل عن إمتلاء الزمان. إدراك أي شيء لا يتم وفق تراتيبية أسبقية بين إدراك المكان عن إدراك الزمان. وعندما يفصل برجسون الادراك في الإمتلاء بين المكان والزمان كلا على انفراد حسب مرجعية الإمتلاء، فهذا الفصل ميتافيزيقي وهمي تصعب البرهنة على حدوثه وإمكانية تحققه سوى في تصور فلسفي ميتافيزيقي غير علمي.

ومن البديهيات التي لا تحتاج نقاشا هي حضور المادة زمانيا في إحتواء الزمان الطبيعة أكثر كثافة من محدودية المكان في إحتوائه الامتلائي للاشياء. ولا ينتج عن كل هذه المداخلة البينية ما يستوجب الايهام أن برجسون وباشلار يناقشان قضية عالقة من مباحث الفلسفة جديرة بأهمية الامتلاء الزماني بالمقارنة مع الإمتلاء المكاني. فهما يتناقشان ميتافيزيقيا.

هل من المتاح تصور أن كلا من الزمان والمكان حيّزان فارغان لإستيعابهما إمتلاء المادة لهما.؟ المادة وجود زمكاني مدرك مستقلا ولا يحتاج إمتلاء فراغات زمانية أكثر منها إمتلاء فراغات مكانية. ما هو أبسط تعريف للمادة هي كل شيء يشغل حيّزا من الفراغ، والمقصود بالفراغ هنا الحيّز المحدود الذي يناسب موضعة المادة أو الشيء فيه بشكل ادراكي انطولوجي معيّن، لذا الفراغ المكاني لا يسبق المادة في موضعتها المكانية، وكذا المادة موجود مكاني يسبق إدراك الزمن له. لا يوجد وعائين فارغين زماني - مكاني لاستيعاب إمتلاء المادة بهما الا في تفكير باشلار الميتافيزيقي فيلسوف النزعة العقلانية العلمية.

س88: أ. مراد غريبي: كيف تفسرون لنا مقولة جاستون باشلار في محاججته النقاشية المتماهية مع برجسون حول اقتران فكرة التواصل الزمني بفكرة التعاقب؟

ج88: أ. علي محمد اليوسف: يؤكد باشلار في معرض محاججته النقاشية المتماهية مع برجسون إقتران فكرة (التواصل) بفكرة (التعاقب) وبنظري هو إقتران مجاني لا برهان عليه. يتجاوز دائما وفي كل مجال الاختبار الطبيعي والنفساني على حد سواء.

في كل أشكال الوعي الادراكي يكون الفكر تواصل تعاقبي مجاني طبيعي، بمعنى التواصل هو الطبيعي البدهي الذي لا يحتاج البرهنة على صدقيته الخاصية في التتابع. الوعي كما المحنا له سابقا هو سيرورة الفكر نحو هدف قصدي يرسمه الوعي والفكر في ملازمة من التواصل التعاقبي مع العالم.

الفكر هو مضمون الوعي الذي يأخذ شكل تعبير اللغة عن نفسه. ولا يمكن إعتبار الوعي الذاتي هو محطة إستراحة، يكون الفكر الملازم لها سيرورة فكرية قائمة لوحدها. السيرورة الفكرية هي مزامنة لكل أشكال الوعي. وليس من الممكن فرز تزامني في هذه السيرورة المتعالقة بينهما. زمن الفكر هو زمن الوعي الذي هو زمن إدراكي لكل موجود. وفي غياب الموجودية المادية للاشياء لا يبقى هناك وعيا فكريا يحققه تجريد الزمن.

ويثير باشلار إشكالية أخرى " هل سينقذ المتواصل الزمني بتجريد الزمن كشكل قبلي؟ أن هذا المنهج والقول لباشلار يعني أننا على نحو ما نجوهر الزمن من تحت في فراغه وخلوّه خلافا للمنهج البرجسوني الذي يجوهر الزمان مع مرور الوقت من فوق في إمتلائه".

الزمان مطلق جوهري مجرد لا يدركه العقل لا بالصفات ولا بالماهية. وعبارة باشلار الزمن تجريد (قبلي) هي عبارة صحيحة تماما. جوهر الزمان كتجريد ماهوي سابق على جوهر الوجود كثبات مادي. ولو ان فيلسوفا مثل اسبينوزا ينكر اسبقية الجوهر والزمان على الطبيعة.

الزمان جوهر ممتلئ لا ندرك إمتلائه ولانتأكد خلوّه. الزمان لا يكون خلوّا فارغا لا على صعيد التحقيب الزماني الارضي في إدراكنا موجودات الطبيعة بدلالة الزمان، ولا يكون الزمان فارغا خلوّا وهو يحتوي الكون اللانهائي ولا يحتويه الكون المادي، ولا يوجد قانون فيزيائي أرضي أو قانون فيزيائي على الصعيد الكوني لا يدخل فيه الزمان كمعادلة علمية فيزيائية لا قيمة لها في إلغاء تجريد الزمان منها.

الزمان جوهر ثابت مخلوق لا يتعالق إمتلائه الافتراضي ولا خلوه بدلالة جوهرة غيره من الاشياء. لا يوجد هناك حتى على المستوى الميتافيزيقي إمتلاء زمني تحتاني يختلف أو يتكامل مع إختلاف إمتلاء زمني فوقاني. فيزيائية الزمان لا تقبل التجزئة على صعيد ماهيته الجوهرية لكنه يقبل التجزئة الافتراضية على صعيد تحقيبنا الزمان ارضيا لتوفير إمكانية ادراكنا ومعرفتنا تغيّرات الطبيعة ورصد حركة سيرورة الاشياء في العالم الارضي المحيط بنا في معرفتنا الوقت وضبط تغيرات المناخ وتعاقب الوقت بدءا من الثانية وصولا للفصول الاربعة.

الحقيقة التي تحكمنا هي أننا ندرك الموجودات مكانا بدلالة زمانيتها، في نفس وقت أننا ندرك محدودية الزمان كتحقيب وليس كمطلق بدلالة إدراكنا المكان وموجودات الطبيعة والوجود زمكانيا مشتركا متداخلا..

س89: أ. مراد غريبي: هل الزمان قبلي على المكان (الطبيعة) ام هو بعدي عليها؟

ج89: أ. علي محمد اليوسف: الزمان جوهر كيفي ثابت لا يمكن التلاعب في ماهيته غير المدركة للإنسان. بمعنى الزمان جوهر غير متعالق مع رغبة الانسان كيف يريد أن يكون الزمان مطلقا، ولا يوجد هناك قدرة انسانية يمكنها التحكم بالزمان في أي شكل من الاشكال لسبب إنعدام المجانسة الماهوية بين الزمان وبين كل شيء موجود يتعالق مع الزمان إدراكيا فقط. الزمان جوهر لمطلق ازلي لا يدرك العقل ماهيته الحقيقية.

والزمان جوهر محايد في ملازمته الموجودات غير ديالكتيكي وهذه حقيقته الانفصالية المطلقة عن الاشياء خارج علاقته إدراك الاشياء وليس التداخل الجدلي الديالكتيكي معها.

الزمان وحدة كليّة وجوهر ماهوي مطلق تجريديا لا يمكن تجزئة الزمان ولا تحديده واكرر مقولة ارسطو في عبارة رائعة (لا يمكننا حد الزمان بزمان) فأنت عندما تريد محدودية زمانية يتوجب عليك أن يتوفر لديك زمان آخر يمتلك ماهية زمانية مغايرة أخرى تحّد بها زمانا لا يشاركه المجانسة الماهوية النوعية وهو محال فالزمن جوهر واحد في مجانسة ماهوية واحدة. وما يحكم العالم والانسان والطبيعة والكون زمان واحد يمتلك كيفية ماهوية واحدة لا تنقسم على نفسها ولا تتجزأ ولا يمكن حدها.

إننا نستطيع تحديد الزمان بحركة الاجسام داخله في توازن ماهوي جوهري لهما متصلان في دلالة أحدهما إدراك الآخر، ومنفصلان بالخصائص الذاتية المختلفة بين الزمان والاجسام التي يحتويها. لا الجسم يفقد خصائصه في حركته داخل الزمان ولا الزمان يفقد خصائصه الماهوية كزمن لا يمكن إدراكه إلا بدلالة حركة غيره ماديا. ارسطو ايضا كان رائعا في مقولته الاخرى الزمان هو مقدار (حركة) جسم لكنه ليس (حركة).

الزمان قبلي على الإدراك بعدي على الوجود، علما أن الوحدة الزمانية لماهيّة الزمان لا تتغير في الحالتين. كون الزمان جوهرا لا يقبل التجزئة والانقسام لا على نفسه ولا بعلاقته بموجود مدرك بحركته داخل الزمن.

المشكلة الميتافيزيقية التي أثارها سبينوزا هي في إعتباره الطبيعة مخلوق قبلي منظم على بعدية عشوائية الزمان غير المنظم، فالوجود أولا والزمان ثانيا وهذا مبدأ جوهر الوجودية.. سبينوزا من المدهش حقا إنطلاقه تحت تأثير لاهوتي أن الخالق خلق المكان والمقصود بها الطبيعة بنظام ثابت في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه، والطبيعة بنظامها هذا هي التي أسبغت على عشوائية الزمان نظامه. لذا إعتبر سبينوزا إدراكنا الوجود والزمان إنما يتم بدلالة ازلية الجوهر الذي هو الله. اسبينوزا اعتبر الجوهر وحدة كلية مطلقة لا يمكن ادراكه كما هو الزمان مطلق وحدة كلية ازلية لا يمكن ادراكه.

لما كان الانسان يدرك ويحّس الزمان بخلاف الحيوان الذي لا يدرك ذاته ولا يدرك نظام الطبيعة والأهم أنه لا يدرك الزمان. لذا نجد الحيوان متكيّفا إنقياديا سلبيا ذاتيا مع الطبيعة في إدامة حياته يعيش ليأكل، في حين العلاقة التكيّفية عند الانسان مع الطبيعة لا تقوم على الانقياد لها من دون وعي منها. فالطبيعة لا تعقل نفسها من جهة ولا تعقل وجود الانسان من جهة أخرى.2916 علي اليوسف ومراد غريبي

س90: أ. مراد غريبي: جاستون باشلار فيلسوف توفيقي على صعيد تفكيره الفلسفي المتأخر المختلف عن بداياته الفلسفية العلمية في مؤلفاته الأولى، يسعى باشلار في مؤلفه (جدلية الزمن) الوصول الى دمج (الذات، النفس، الزمان) بتوليفة منطقية فلسفية يحاول فيها تطويع كل ما يمكننا تصوره واستذكاره نفسيا يكون صالحا لإدراك العقل له بما يلغي الحدود الفاصلة بين الذات والنفس والزمان أنطولوجيا - ميتافيزيقيا. ما تعليقكم على ذلك؟

ج90: أ. علي محمد اليوسف: حين يصبح الزمان عند باشلار موضعة ادراكية للذات معّبر عن تجلياتها النفسية الرومانسية المحدودة بحدود مواضيعها يكون حينها الزمان أصبح خارج مطلقه الميتافيزيقي ليكون مدركا محدودا يتمثّله العقل، وقتها ايضا لا نجد أدنى غرابة في إعتبار باشلار تأملات النفس حول ما يطلق عليه حتمية إندثار الانسان بالموت، التي عادة ما تنفر النفس من مواجهة هذه الحقيقة البايولوجية المرعبة من هول الصدمة عليها، كما ينفر الجواد من رؤيته جثة حصان فارق الحياة مطروحا ارضا على حد توصيف باشلار.

باشلار يتقبّل فكرة أن ينفصل الانسان عن ذاته خارج وعيه لذاته وموضوعه معا، لكنه من غير المتاح أمامه تقبله تصّور أن الزمن يقوده نحو حتمية الإندثار العدمي بإفنائه البايولوجي كاملا جسدا ونفسا وعقلا. الزمن لا يفني الانسان بل يلازمه طيلة حياته. الذي يفني الانسان هو الموت وليس الزمان.

عبارة باشلار بالسؤال تحمل الكثير من الملابسات في إمكانية الانسان الانفصال عن ذاته، حيث لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة إلا في حال توفر أكثر من إشتراطين لا يتوفران إلا في حال جعل وعي الذات وعيا ميتافيزيقيا لا تحده انطولوجيا الوجود الادراكي وهو محال للاستحالات الادراكية التالية:

- أن يتوقف العقل عن وعيه لذاته.

- أن يتوقف العقل عن التفكير التجريدي بموضوع مادي أو خيالي.

- أن يتوقف العقل عبر منظومته الحسيّة الادراكية عن وعي الوجود من حوله..

إن محاولة باشلار نقل الانسان من حتمية زمانية إندثاره بالموت الى واقعية التعامل مع الزمان كمحتوى تذكاري لمخزون رومانسي بالذاكرة إبتهاجي بالحياة التي لا نجدها في حاضرنا ولا في مستقبلنا بل في ماضينا فقط.

س91: أ. مراد غريبي: هل تجدون باشلار في كتابه (زمن الجدل) يؤمن بجدل يجمع مفردات النفس والمكان والزمان والوجود والعدم في توليفة واحدة قابلة للتحقق؟

ج91: أ. علي محمد اليوسف: ارى قضايا الفلسفة فضاء وافق غير محدود لكن تبقى العبرة في تحقق المحدودات منها. باشلار فيلسوف اراد تطويع الفلسفة وعلم النفس في تحققه جمالية المكان المؤثر بالفكر الاستذكاري الذي يرى روعة الماضي في رومانسية حلم اليقظة بالحاضر الذي يجده كئيبا.

حتى جمالية المكان القديم التي نتذوق استذكاراتها نفسيا بكل نشوة وغبطة وانتعاش رومانسي لذيذ إنما السبب في ذلك هو العودة للماضي كتاريخ بدلالة زمنه الماضي المتموضع فيه وليس العودة الى زمن ماض جديد نتعرف عليه لأول مرة تخلقه الرغبة النفسية في الاستذكار لحوادث الماضي. عبر إستذكارات المخيّلة في عبورها حاجز الحاضر المقلق المرعب نحو الماضي البهيج المفرح.

هنا ربما أستبق الامور القول أن العودة الاستذكارية نحو الماضي هي عودة (تاريخية) استذكارية وليست عودة (زمانية). لاحقا أوضّح هذه الاشكالية الفلسفية. الانسان أمام هذه الحالة في جعل ماهو مادي يتداخل مع ماهو ميتافيزيقي يدركهما العقل معا في تداخلهما إنما يكون دافعها هو إرادة الهروب الى أمام في محاولة خروج الانسان على حتمية مسار الزمان الانحداري الهابط به نحو الاندثار النهائي بالموت، في لجوئه إبتداع زمانا إستذكاريا تجريديا ليس مطلقا في وحدته الوجودية التي تختلط فيها الالام والاحزان في تذويبها بمصهر التفاؤل والامل بالسعادة الخادعة نفسيا. لذا يطلق باشلار على هذه الحالة النفسية التي تحاول النفس تطويع مسار التاريخ المتّعثر الى ما اسماه "سلسلة من القطوعات الزمانية" حسب تعبيره.

وفي حقيقتها هي قطوعات استذكارية نفسية لا علاقة إرتجاعية لها في ملازمة الزمان الحاضر لها نحو إستذكار زمن ماض وقع بحوادثه ووقائعه وليس رغبة إكتشاف الزمان الماضي كزمن خالص. هو غير الزمان الماضي الذي يحتوي تاريخية وقائع وأحداث جرت فيه فأصبحت جزءا من تاريخ ماض ثابت مدوّن زمانيا..

فالزمان لا يعود الى الوراء في مطلق التجريد كماهية غير مدركة بل يعود الى الوراء (الماضي) كتحقيب تاريخي غير تابع لزمن يقوده بل لزمن يسترشد به كتاريخ.

حين نغادر الزمن كمفهوم ميتافيزيقي مطلق ازلي لا يدرك مجردا إلا بدلالة حركة مكانية لأجسام يحتويها عندها يمكننا التسليم أن الزمان تسوده قطوعات هي في منطق علم الفيزياء عارية عن الصحة تماما. فالزمان التجريدي عن موضوعاته المكانية الادراكية لن يكون لمحدودية العقل قابلية إدراكه زمنا مجردا عن ملازمة أشيائه والتعريف بها. الزمن يجهله العقل ماهويا كما ولا يمكن للعقل جعل الزمن موضوعا تجريديا لإدراكه.

الشيء الأهم أن الزمان على الارض وفي الكون يمتلك خاصيّة ماهوية واحدة هي أنه وحدة من جوهر أزلي يحكمنا نحن والطبيعة ولا نقوى على إدراكه ومعرفته الا بدلالة غيره من حركة أجسام أو مواد تداخله في انفصالية ماهوية.

س92: أ. مراد غريبي: ما هو تأثير علاقة النفس والذات بالزمن؟ وما هو توضيحكم لقطوعات الزمن؟ هل هي قطوعات نفسية أم زمنية؟

ج92: أ. علي محمد اليوسف: من البديهيات التي نتمنى القفز من فوقها عبثا هي أن الارادة الانسانية ورغائب النفس لا تتأثر بمسار الزمن في مطلقيته الحتمية الحركية المتجهة دوما نحو الامام المستقبلي الذي هو إقتراب لا إرادي نسلكه في السير نحو الفناء وليس الحصول على التجديد في الحياة السعيدة بوفرة المتعة واللذة التي تزودنا بها المخيلة في إستذكار حوادث الماضي ونحن نتجه الى المستقبل..

الادراك النفسي العقلي يتوقف تماما أمام استحالة معرفة ماهية الزمن وكيفية إدراكها مجردة عن الحركة المادية للاشياء حتى لو تيّسر لنا ذلك على مستوى الصفات للزمان فقط. فصفات الزمان تعرف بدلالة غيره في مقدار حركة الاجسام فيه. والزمن وحدة قياس حركة الاجسام المادية داخله لكن الزمن ليس حركة مجرّدة نستطيع إدراكها لوحدها...

لذا فالزمان الذي تنتابه القطوعات المتعاقبة وحتى القفزات النوعية فيه إنما هي في حقيقتها تمّثل إنعكاسات نتائجية هي حاصل تفاعل جدلية وجودنا مع مدركاتنا المادية في الطبيعة والعالم الخارجي التي نتعايش معها وليست حصيلة فاعلية إرادة إنسانية أو رغبة نفسية ينفذّها الزمان إستجابة لنا. الزمان جوهر محايد مهمته الدلالة الادراكية العقلية لموجودات العالم فقط.

س93: أ. مراد غريبي: ذكرتم أن الزمن محايد، مهمته الدلالة الادراكية فهل يدخل الزمن بعلاقة جدلية مع مدركات العقل انطولوجيا؟

ج93: أ. علي محمد اليوسف: الزمان جوهر ماهوي محايد لا يحكمه الجدل الديالكتيكي بعلاقته بمدركاتنا الموجودية في عالمنا الطبيعي المادي. الزمان جوهر تكاملي معرفي مع المدرك المكاني وليس جدلا ديالكتيكيا معه. وحين نعتبر الزمان في تعسف خاطئ أنه جدلي ديالكتيكي في تداخله الإدراكي مع الاشياء والنفس والذات وغيرها فهو بالمحصلة هراء لا قيمة له، هذا الخطأ يعني أننا نجعل من الزمان مدركا متموضعا بالذات مجردا يعيه العقل تجريدا حتى من غير تعالقه بالمكان وهو كما مر بنا توضيحه محال التحقق.

إدراكنا المكان لا يكون مجردا عن زمانيته الإدراكية كما نتوهم، لذا إعتبر كانط ما ندركه مكانا هو ما ندركه زمانا بنفس الوقت، ولا إنفكاك يحكم الإدراكين المكاني والزماني. وهو الشيء الصحيح فلا وجود لإدراك مكاني مجردا عن زمانيته، كما لا وجود لإدراك زماني مجردا عن مكانيته في الموجودات والطبيعة من حولنا. ولا اسبقية تفرق بينهما.

الزمان في مساره الذي يبدو لنا مسارا مجرّدا من ماديته هو مسار متّعثر بمحتواه الوجودي المدرك ذاتيا، ما يجعله مستقلا متّحكما بنا لا نتحكم نحن به، رغم إعترافنا المسبق أن الزمان يتعامل مع المادة إدراكا محايدا وليس تداخلا تموضعيا تكوينيا ماديا أو مادي جدلي معها وكذا مع العديد من مسارات الحياة. علاقة الزمن بادراك الاشياء هي علاقة ابستمولوجية.

ولتوضيح هذه النقطة نقول مثلما يكون تموضع إدراك الذات للاشياء لا يفقدها إستقلاليتها عن مدركاتها، كذلك يكون معنا نفس الشيء حينما يتموضع الزمان إدراكيا في العديد من الامكنة فهو أي الزمان يبقى محتفظا بإنفصالية مستقلة عن مدركاته ولا يخسر في موضعته شيئا من تلك الخصائص التي يمتاز بها وحده. التموضع الزماني في الاشياء هو إدراك لها وليس تداخل إندماجي عضوي بها. ولا تداخل معرفي او جدلي معها.

لذا تكون إنعكاسات النفس الواعية تماما هي التي تضفي على إستقلالية الزمان المحايدة الكثير من الأحكام التي تشرعنها النفس هي وتحاول فرضها زمنيا. فمثلا الملل من طول وقت إنتظارنا لمجيء شخص ما في وقت محدد، ليست هي خاصّية زمانية سببية بل هي خاصية نفسية نستشعرها لا علاقة للزمان بها. تعبيرات النفس ليس سببها الزمن الذي تمر به ولا علاقة تربطها بالزمن خارج اولوية ارتباطها بالذات.

س94: أ. مراد غريبي: كيف تعامل فلاسفة اليونان القدماء مع التحقيب الزمني ماض وحاضر ومستقبل؟ ولماذا اعتبروا الزمن الحاضر وهما زائفا غير حقيقي كما سبق لك وذكرته؟

ج94: أ. علي محمد اليوسف: يذهب معظم فلاسفة اليونان القدماء منهم الرواقيين يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس انهم يعتبرون الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل.

هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده افلاطون وارسطو أذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر - هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين، - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وإدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي غير منظور في حاضر متحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية - لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان.

بداية طالما كانت الحركة والتغيير هما سمتا وصفتا كل موجود بالعالم منذ هيراقليطس، فأن حركة الحاضر غير المتعينة كقطوعة زمنية لا ادراكية، إنما تنسحب على كل شيء يحكمه التغيير وعدم السكون وفي المقدمة يكون دلالة الماضي بمقايسته بالحاضر الذي لا وجود زماني له فهو بفهم بارمنيدس الماضي حركة لازمنية يحكمها زمان متحرك وليست سكونا زمانيا مدركا، لأن حركة الماضي تعاكس المستقبل الذي يحاول تذويت الحاضر به.

وطالما النقلة الحركية لا تبدأ من حركة كما في تعبير بارمنيدس، فهذا يلزم عنه أن يكون الحاضر هو سكون يمكن ادراكه وهو إستنتاج لا يقبله العقل قبل الفلسفة بدلالة الزمان مفهوم كلّي لامتناهي ليس له صفات ادراكية مستقلة ثابتة ونسبية به وليس له ماهية يمكن ادراكها. والآنية الحاضرة إدراك زماني بدلالة حركة الاجسام والموجودات في الطبيعة وليس زمانا في معيار الادراك المادي المكاني الساكن لها..

لأن الحاضر قطوعة زمنية تحقيبية من زمن مطلق لانهائي لا تحده حدود ولا يتقبل التحقيب المحال زمانا في تحديده كمدرك لانهائي سرمدي ازلي. وهذا المعيار لا يستثني الماضي كزمان وليس انثروبولوجية تاريخية في الماضي ولا يستثني المستقبل بدلالة كونهما قطوعات زمنية وتحقيب تاريخي متحرك ايضا لا يمكن ادراكه كونه يتسم بالحركة التي لا يمكن رصدها وتعيينها بغير دلالة حركة جسم مادي يتحرك في الحاضر. هنا يتوجب علينا الانتباه في التفريق بين قولنا الماضي كتاريخ انثروبولوجي عاشه الانسان كزمن انتهى أصبح ثابتا فهو يتسم بالسكون أكثر من الحركة، بخلاف فهم أن يكون التاريخ زمانيا حركة لها تأثير مباشر في كل من الحاضر والمستقبل.

الماضي كزمن هو دلالة فهمنا الحاضر وفهمنا الماضي هو بدلالة الحاضر له. التحقيب الزماني ماض وحاضر ومستقبل هو دلالة إدراك الزمن الارضي وليس الزمان الكوني. الزمان الارضي المرتبط بحركة الاجسام وحركة الارض والقمر، يختلف عن الزمان الكوني باعتباره لا مدرك ازلي سرمدي ولا يقبل التجزئة والتحقيب كما هو الزمان الارضي.

وفي حال ذهبنا مع بارمنيدس اعتباره الحاضر الزماني لحظة تتوسط الحركة والسكون للماضي والمستقبل ولكنه أي الحاضر لا يمتلك حركة ولا سكونا ويتعذر رصده ادراكا زمانيا لذا فهو نقلة وهمية، فهذا يعني أن الحاضر وجود وهمي كلحظة تحقيب زماني زائلة، وأهم ميزة لقطوعات تحقيب الزمان هو أن الزمان كلية ازلية سرمدية جوهرية تحكم كل شيء بالوجود وهو غير مدرك لا بالصفات ولا بالماهية. أي أن زمان الماضي وزمان الحاضر وزمان المستقبل ثلاثتها تعبيرات عن قطوعات زمنية تحقيبية ارضية لا يمكن ادراكها كمفاهيم ولا كمواضيع مستقلة بدلالة عدم امكانية ادراكنا الزمان كمطلق ازلي ليس له حدود ولانهائي. باستثناء اننا ندرك هذه القطوعات الزمانية الارضية واختلافاتها بدلالة حركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر والكواكب الاخرى وقبل كل هذا حركة الاجسام والمدركات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها التي بدلالتها جميعا ندرك الزمان في تحقيبه الزماني لا في تحقيبه الوقائعي تاريخيا كحوادث يلازمها زمن حدوثها الذي يجعل من حضورها الآني ماضيا ... الحقيقة التي تجعل الفلاسفة يعتبرون الحاضر وهم زماني غي موجود هو لأنه ماض ومستقبل ولا يمثل نفسه زمانا حاضرا يدرك لوحده. حركة التاريخ ماض لا يدرك بغير دلالة زمانية، في حين يكون الزمان يدرك من غير دلالة تاريخية تؤطره والسبب ان الزمان مفهوم مطلق والتاريخ مصطلح يدرك بوجوده التحقيبي زمانيا على الارض.

س95: أ. مراد غريبي: كيف ترون علاقة الذاكرة بالخيال والزمان؟

ج95: أ. علي محمد اليوسف: للإجابة على هذا التساؤل لا بد لنا من فك الاشتباك بين الذاكرة مع الخيال وعلاقة الاثنين مع الزمان:

1- الذاكرة هي مستودع ما تختزنه الذات من تجارب الحياة على شكل تراكم خبرة يصيبها النسيان.

2- الخيال ليس مصدره الذاكرة بل مصدره المخيلة التي تبتدع الخيال بلغة التعبير عنه تجريديا بالفكر واللغة.

الزمان في علاقته بكل من الذاكرة ومن الخيال أوضحه بالتالي:

الذاكرة هي وسيلة التعامل مع الزمن الماضي كإستذكارات لحقائق تاريخية حدثت فيه، واخذت صفة الثبات كوقائع تاريخية وليست زمنية، رغم استحالة الذاكرة استذكار وقائع التاريخ من دون ملازمة زمنية ادراكية محايدة لها. هناك فرق كبير بين زمن الذاكرة الذي هو استمرار تداعيات التذكر لأحداث الماضي, وبين الزمان التاريخي الذي حدثت فيه وقائع ذلك التاريخ الذي تحاول الذاكرة استحضاره من ماضيه التاريخي الى زمانيتها في الحاضر الذي تعيشه الذاكرة.

اذا تساءلنا لماذا يكون استذكار الذاكرة لتاريخ الماضي ناقصا ولا يتطابق تماما مع تداعيات الذاكرة؟ الجواب هو ان الذاكرة مخزن تراكم خبرة زمنية تتآكل يطالها النسيان. لذا ليس كافيا الاعتماد على الذاكرة في دراسة وقائع التاريخ زمانيا من غير الاعتماد على الكشوفات الاثرية والتنقيبات الحفرية ومقاربة معرفة زمن حدوث تلك الوقائع تماما. ومنذ زمن ليس بعيدا وجد المؤرخين (علما) في دراسة التاريخ و(علما) في دراسة الاديان وهكذا، أي أن النظريات تصنع التاريخ واللاهوت يصنع الاديان اصبحت منهجا منتهي زمن صلاحيته.

اما عن الخيال فهو زمانية مرتبطة بالمخيلة في استحضاره ولا علاقة موجودة بينه وبين الذاكرة. المخيلة متحررة تماما من سطوة الزمن عليها في تسييرها فعلاقة الزمن بالخيال علاقة محايدة. ومتى ما تموضعت الخيالات في فكر تعبيري تفصح عنه اللغة، تكون فاعلية الزمن عليه محكمة تماما. فالخيال هو تصورات يمتزج احيانا فيها الشعور باللاشعور في انتاجية يرغبها تفكير العقل. وفي تعبير دقيق لفرويد قوله: " اللاشعور لا يحتاج الزمن" لأن خاصية افكار اللاشعور لا يحدها الزمان العقلي. الذي ترتبط به المخيلة لكن ليس على حساب تحررها من سطوة الزمان العقلي عليها في حدّها وتعيين مسارها في تعبير اللغة عن الخيال. ربما تبدو العبارة غير محكمة حين نقول الخيال لا زماني لكن الحقيقة تؤكد ذلك.

س96: أ. مراد غريبي: ما صحة عبارة ارسطو أن الزمان ليس حركة، وما هو توضيحكم لعبارة ارسطو (الزمان لا يحده زمانا)؟

ج96: أ. علي محمد اليوسف: أعتقد استاذ مراد سبق لنا توضيح هذه المسالة ولأهميتها الاستثنائية التي اكدها سؤالك اعود لمراجعة التوضيح الذي يستحقه السؤال.

المعتقد الذي لم يفارق ارسطو هو في اعتباره الزمان هو مقدار حركة الشيء وليس الزمان حركة. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحد بالزمان)، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب الى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية مقدار تلك الحركة، بقوله إن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم او الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير، بينما يكون الجسم او الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا تعاقبية رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم أن الزمن ليس ما يدركه العقل مستقلا بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها كون الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها داخل الزمن.

بعبارة ثانية أوضح: اراد ارسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للاشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم. ما يبدو لنا أن الزمن متحرك غير ثابت سببه ملازمة الزمن حركة الاجسام المتغيرة على الدوام.

وفي تعبير المفكر عبد الرحمن بدوي لشرح ما أورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى أصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله. ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.

يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا)، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمة نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عد تجريدي بالفكر.

نتساءل هنا بدورنا:

هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار " كمي" أم بمقدار عددي؟ ارسطو نقل عنه بدوي ذهابه نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟

هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه؟

واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا، لكن هذا التمايز، ما اوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه بدوي؟ كيف يتم ربط العدد كفكرة او كموضوع بالآنية الزمانية؟ الاجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.

س97: أ. مراد غريبي: هل الآن (الحاضر) بين التوسيط وعدم الانقسام الزماني، هو حاضر وهمي ام حقيقي لا يقبل القسمة؟

ج97: أ. علي محمد اليوسف: بحسب ارسطو الذي يذهب الى تحديد الآن او الحاضر بالمحددات التالية:

الآن ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات. الآن لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم. الآن لا يوجد فيه حركة ولا سكون.

الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الآن جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل. صحيح جدا أن الآنية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الازلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا الى آنات لا نهائية. مقولة ارسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان) مقولة النقص بها انها تتعامل مع الزمان الكوزمولوتي بمعنى تتعامل مع الزمان كمطلق كوني ازلي وفضاء سرمدي غير قابل للإدراك العقلي بمقياس ادراكنا الزمن الارضي بدلالة تاريخية. وليس كتحقيب ارضي ينقسم الى ماض وحاضر ومستقبل. وليس تعاملها مع الزمان الارضي المختلف عن الزمان الكوني. فالزمان السرمدي الكوني الازلي لا يقبل التجزئة لا بالدلالة ولا بالإدراك، فهو كلي لا يمكن الاستدلال بدلالة الجزء عليه في وقت لا يمكن تجزئة اي جزء منه. أما ان الزمان الارضي وهو ما لم يكن يقصده ارسطو فهو يقبل دلالة حدوده بتجزئته كتحقيب زماني ارضي وليس كوزمولوتي كوني. والتحقيب الزماني الارضي يبدأ بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والليل والنهار والفصول الاربعة وهكذا.

من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا ماهويا متجانسا مع زمان كلي سرمدي ازلي، مما يترتب على عدم المجانسة أنها ليست زمانا وأن تكون ماهية ليست زمانية وزجّها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما أن الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية المطلقة للزمان. الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير ارسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان) هو توكيد ارسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق سرمدي وازلي لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف الية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز ارسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الارضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الاجسام فيه وبدلالة حركة كواكب المجموعة الشمسية..

اما تعبير ارسطو نقلا عن بدوي بأن الان لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم, فهو يحمل تساؤل مررنا به اكثر من مرة هو اذا كانت الانية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بان الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا, في نفس وقت تجاهل ارسطو ومن بعده بدوي ان الآنية فيزيائيا كتحقيب زمني شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الارض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكال عدم مجانسة الانية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الارضي باختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.

ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا مباشرة، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان منها باستقلالية عنه. قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه او في عدم ادراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الآن ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفيا، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.

انتهى ويتبع

 

حاوره: ا. مراد غريبي

المثقف – مرايا فكرية

7 – 11 – 2021م

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الرابع: فلسفة اللغة

س60: أ. مراد غريبي: ما هو رأي سارتر في فلسفة اللغة باعتبارها تحولا تصحيحيا في تاريخ الفلسفة؟ وماذا تقول انت بما قطعته فلسفة اللغة على طريق تصحيح مسار الفلسفة الخاطئ؟

ج60: أ. علي محمد اليوسف: ابدأ معك من رأي سارتر وهو راي مبتسر حيث كان في أواخر أيامه مصابا بالعمى. رفض سارتر تفسير تاريخ الفلسفة المليء بالأخطاء والمطبّات حسب فلاسفة البنيوية أن تكون بدايته التصحيحية تبدأ من وسيلة مراجعة وتصحيح معنى الدلالة اللغوية الخاطئة في قصور معنى حمولة الافصاح غير المسكوت عنه، ودعا الى أن كل فلسفة تطغى عليها فلسفة اللغة بالتعالق العضوي معها الناشئ من أحشائها هي وليد تابع من رحم تاريخ الفلسفة الام التي لا تقود فلسفة اللغة الفلسفات الاخرى أو تكون بديلا عنها.

قائلا ما معناه يمكن استنباط فلسفة لغوية خاصة من فلسفة الوجودية مثلا وهكذا مع باقي الفلسفات الاخرى. بمعنى أنه يمكن إستيلاد فلسفة لغة من كل فلسفة أم لها لا تحل محلها. ورأي سارتر يحتمل القول فلسفة اللغة هي وسيلة التفكير الفلسفي في التعبير عن رؤاها خارج معنى اللغة الطبيعي المحكوم بقواعد ونحو ومجاز واستعارة وبلاغة وغيره التي حاولت تدخل كل فلسفة في محاولة نسفها وتفجيرها تشظيّا من الداخل وهو ما لا ينكره دريدا مثلا ولا ينكره البرتو ايكو ولا عديدين من فلاسفة أمريكان استسهلوا لعبة اللغة في التفكير الفلسفي استبطانيا مغلقا على نفسه جاعلين من الفلسفة هامشا يدور في فلك اللغة حصرا...

في إجابة سارتر عن سؤال من ضمن اسئلة المقابلة المشار لها "هل خطر ببالكم وضع فلسفة للغة؟ فكانت إجابته " لا ينبغي على اللغة أن تدرس بداخل فلسفة ما – يقصد أن لكل فلسفة لغتها هي اداتها وصنيعتها اللغوية اذ الفلسفة تصنع لغتها ولا يمكن للغة خلق فلسفتها المتفردة مع أو بمعزل عن الفلسفة الام كما حاول بعض الفلاسفة وأخفقوا في مسعاهم – لا يمكن أن تشكل اساسا لفلسفة ما. أعتقد – والكلام لسارتر – أنه يمكننا استخلاص فلسفة لغة من فلسفتي الوجودية مثلا، ولا يمكن وجود فلسفة لغة يمكن فرضها عليها."

واعود الان الى وجهة نظري حول امكانية فلسفة اللغة حل معضلات تاريخ الفلسفة.

في البدء الذي لا يمكن الالتفاف عليه ومغادرته هو عدم قابلية اللغة فرض نفسها على قيادة فلسفة ما حسب تعبير سارتر، وكي نضع هذا الرأي الفلسفي لسارتر بموقعه الطبيعي الصحيح " انه لطالما كانت اللغة – وليس فلسفة اللغة – محط اهتمام الفلاسفة – منذ افلاطون - غير انها لم تصبح موضوعا مركزيا في الفلسفة الا في القرن العشرين، حيث كان الاتفاق كبيرا على أن الوسيلة الفضلى لحل مشاكل مختلف فروع الفلسفة إنما يكون ويتم عبر فحص معنى الدلالة اللغوية السليمة التي صيغت بها هذه المشاكل. هذا الاهتمام الذي أبداه الفلاسفة المعاصرين باللغة وازدياد الاعتماد على تحليلها اصطلح على تسميته بالتحول اللغوي.".

أولا: أرى وجوب التفريق بين اللغة وسيلة التعبير عن الأفكار في الادراك والتواصل كما في عصور الماضي التي سادت وبين فلسفة اللغة على انها نسق لغوي قائم بنظام داخلي منفرد من جهة اخرى كما ارادها لها فلاسفة اللغة في التحول اللغوي ومصطلح القراءة الجديدة الذي إعتمدته البنيوية لدى أقطاب فلاسفتها مثل فوكو و إلتوسير ودي سوسير في مراجعة قضايا الفلسفة التي إغتالت اللغة معنى دلالة قصدية الفكر فيها حسب دعاتها، بمعنى كان انبثاق التحول اللغوي وفلسفة اللغة بداية القرن العشرين هو وسيلة تصحيح اخطاء اللغة لغاية وقصدية مراجعة تصحيح تاريخ قضايا الفلسفة الزائف وهو ما لم يتحقق ولا تم بسبب تشظي فلاسفة اللغة وتوزعهم في مناحي وتيارات فلسفية بعيدة عن الهدف الذي نادى به فلاسفة التحول اللغوي في تصحيح مراوغة اللغة دفنها فائض المعنى المحظور التعبير عنه لسبب وآخر..

ثانيا: بعدما اصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة المعاصرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين بعد إنصراف إهتمام فلاسفة البنيوية بمباحث ما بعد الحداثة تاركين فلسفة اللغة بعد أن أخذت مديات من التخوم الفلسفية المتطرفة التي جعلت منها هامشا في شكل مرتكز خال من محتواه... بعبارة اخرى فتحت البنيوية باب فلسفة اللغة ولم يعد بإمكانها السيطرة عليه ما جعلها تتجه نحو معالجة قضايا لا تشكل فلسفة اللغة بؤرة مركزية فيها مثل تاريخ الجنسانية واسقاط السرديات الايديلوجية كالماركسية في استهدافهم كتاب راس المال كما فعل شتراوس والتوسير ومن قبلهما سارتر. كما نقدوا بضراوة العقل وعلم النفس والانسان ذاته كمرتكز محوري استنفد من تاريخ الفلسفة العصور الطويلة.

ثالثا: ثمة التباس حصل في خلط اللغة كهوية انسانية بيولوجية تحكمها قواعد النشأة والتطور الانثروبولوجي وصولا الاستقرار الذي يحكمها في قواعد وضوابط نحوية خاصة تمّيز بنية وهيكلية كل لغة عن غيرها، وبين فلسفة اللغة كمعنى مفهومي تفلسفي يتداخل مع النسق البنيوي الخاص باللغة يتطفل على الفلسفة ويستخدمها أداة لنسفها داخليا عندما يكون الاهتمام باللغة تجريدا هو إغتيال مبرمج يجري تحت عنوان إنقاذ اللغة من إزدواجية المعنى في تضليلها الفلسفة.

س61: أ. مراد غريبي: ماهو برأيكم الخطأ الذي جعل فلسفة اللغة واقفة على رأسها بدلا من قدميها كما وصف ماركس إدانته لفلسفة هيجل المثالية في الديالكتيك؟

ج61: أ. علي محمد اليوسف: من الملاحظ أن عديدا لا يستهان به من الفلاسفة لم يعطوا أو ينتبهوا إعطائهم أهمية إستثنائية للغة كجنس هوياتي انثروبولوجي قبل تحوله الى تجنيس ادبي – ثقافي هووي في مباحث تاريخ الفلسفة، حاول ذلك سارتر وبرجسون الحائزين على جائزة نوبل بالأدب حين رفضها سارتر وقبلها برجسون وكلاهما وضع بعض قضاياه الفلسفية ضمن قوالب التجنيس الادبي وبخاصة سارتر في نصوصه المسرحية والروائية...

كما لم يعتبر عددا من الفلاسفة مفتاح حل المعضلات الفلسفية يقوم على تصحيح معنى اللغة القاصر في التعبير عن الافكار الفلسفية عبر تاريخها. والسبب نراه في إعتمادهم تفكير العقل المجرد كفيل بإيجاد لغته التعبيرية الخاصة به في إيصال المعنى الفلسفي. بمعنى فلاسفة ما قبل النصف الثاني من القرن العشرين لم يكونوا يبحثون تصحيح أخطاء تاريخ الفلسفة من خلال تقصّيهم أخطاء وسيلة التعبير اللغوية بل كانوا يتعاملون بالفكر المجرد السابق الاهمية على اللغة. فوجدوا حقيقة القصور في تفكير الفلاسفة وليس في لغتهم التعبيرية عن أفكارهم.

ولم يتم إبطال هذا الرأي الفلسفي الا بعد أن تحولت اللغة الى فلسفة قائمة بذاتها تمتلك مقومات ذاتية خاصة بها ونظام تعبير نسقي يلغي المقولة الكلاسيكية أن اللغة اداة التعبير عن الفكر. فهذه المقولة اصبحت غير مقبولة بعد أن أصبحت اللغة لها فلسفتها الخاصة بها بمعزل عن إنقيادها للفكر وهو بداية الثورة على الفلسفة من قبل البنيوية تحديدا.

صحيح اللغة هي غير الفكر في ناحيتي توليد المعنى وناحية التعبير عنه. ومقولة دي سوسير اللغة وعاء الفكر لا يلغي التمايز الانفصالي الواضح بينهما حتى مع الاخذ بتعبير اللغة والفكر وجهين لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، لكن هذا لا يلغي حقيقة الفكر هو ليس وجه اللغة الآخر فقط. وانما هما الفكر واللغة يتمايزان في فرق بنية هيكلية اللغة التصويرية عن بنية هيكلية الفكر كتجريد سردي لا يخضع لأحكام نظام وقواعد اللغة المستقلة. علما أن حقيقة الفكر هو تعبير اللغة عنها يبقى ثابتا.

رغم أن تفكير العقل هو تفكير صوري يتخذ شكل تعبيرات اللغة في كل تحولاتها من لغة صوت الى لغة منطوقة الى لغة كلام وحوار واخيرا الى لغة تعبير معرفي بالكتابة الابجدية والرموز والاشارات والمعادلات الرياضية وحتى على صعيد لغة الموسيقى في وضع النوتة الخاصة باللحن الموسيقي التي هي لغة تعبير صوتي رمزي إشاري صرف. وهنا بهذه الخاصيّة لا تكون اللغة هي الاصوات التي تشير عليها ابجديتها المرسومة كتابة. اللغة تفكير عقلي يتخذ قولبة محتوى التفكير في شكل.

طالما أن تفكير العقل هو تصور تمّثلي في تعبير اللغة سواء الصامت منها أو المفصح عنه بالصوت اللغوي الشكلي المكتوب أو الصوت التعبيري الخارج عن مصدره الحنجرة واللسان، لذا يكون تمايز الفكر عن اللغة ليس في إختلاف مصدرهما الواحد الصادران عنه العقل في سذاجة قولنا الفكر تفكير عقلي مجرد، واللغة إفصاح صوتي تعبيري هو من وظيفة اللسان والحنجرة. اللغة ليست هي الصوت الذي يتقدم الفكر بل هي المحتوى والشكل المعبّر عنهما في جميع الحالات..

 بل في تداخلهما التعبيري الموحد فالفكر هو تصور لغوي صامت وهو ما يتم إستبطانيا داخليا، وتكون أسبقية اللغة على الفكر في تلازمهما التعبير عن موجودات العالم الخارجي وهنا تكون اللغة صوتية غير صامتة. وتكون نتيجة تفكير العقل أن اللغة أصوات لغوية إشارية تعبيرية لمدلولات في حين تكون حقيقة الفكر أنه وعي إدراكي لغوي صامت.

س62: أ. مراد غريبي: فهمت من إجابتك عن السؤال السابق أنكم تميلون إلى تحميل فكر الفلاسفة تاريخ الفلسفة المليء بالأخطاء، أي هم يتحملون وزر أخطائها وليست اللغة في مراوغتها التعبير الصادق عن الفكر الفلسفي؟

ج62: أ. علي محمد اليوسف: عندما نقول فلسفة اللغة هي مفهوم البحث عن المعنى، هنا يتراجع الفكر أمام أسبقية اللغة عليه حيث يصبح مهمة اللغة (قولبة) الفكر قبل التعبير الافصاحي اللغوي عنه. كما أن إبطال مقولة لم تعد اللغة وسيلة التعبير عن الفكر تعطي ضمنيا توكيد ما تريد نفيه في حقيقة لا وجود لفكر بلا معنى لغوي.

وإذا ما إعتبرنا صحة مقولة "لم تعد اللغة وسيلة تعبير الفكر عن نفسه وهو نتاج عقلي"، فدحض هذا الافتراض الوهمي هو أن العقل لا يفكر بتجريد فكري لا يداخله تصورا لغويا في التعبير عن معنى. الفكر لغة العقل الصورة فيها تستبق لغة الصوت. فتفكير العقل هو ليس فكرا لوحده ولا لغة تصورية عن الأشياء لوحدها بل هو في تداخل الاثنين معا. التفكير هو صورة لغوية تتمثّل التعبير عن الأفكار. الفكر من غير إفصاح تعبير اللغة عنه هو صمت انعدمت فيه لغة النطق الصوتية وليست لغة الفكر الصامتة. الصمت الصوتي للغة لا يميت التفكير العقلي لغويا داخليا.

كما أن اعتبار اللغة هي سلوك من نوع خاص مميز هو الأكثر تعقيدا حسب التعبير الفلسفي الذي مررنا عليه، مقولة خاطئة لا يقل خطأها الاشتباكي المتداخل عن خطأ إسقاط التداخل الإشكالي الذي يجمع الفكر باللغة على أن هذه الأخيرة ليست أداة ووسيلة التعبير عن الفكر فقط. من المهم توضيح أن السلوك لا تحدده اللغة، وإنما يحدده الوعي القصدي الذي يعبر تفكير اللغة النابع ايضا من فعالية العقل الادراكية.

كان يتردد في بداية القرن العشرين سؤالا فلسفيا جداليا هل بالإمكان فصل اللغة عن الفكر؟ جدال نقاشي تم حسمه في أدبيات الفلسفة البنيوية بخاصة عند دي سوسير بتعبيره اللغة هي وعاء الفكر. بمعنى أن فصل تداخل شكل اللغة مع محتواها المضموني محال إدراكه عقليا. وفصل الإدراك عن اللغة محال معرفيا.

الإدراك من دون لغة تلازمه عبث لا يمكن تحققه في معنى دلالي في ألإفصاح التعبيري عن شيء أو موضوع، وتجريد اللغة عن تعبيرها التجريدي للأشياء هو محال أيضا فاللغة وجود يلازم كل موجود يدركه العقل في التعبير عنه. والعقل لا يدرك الأشياء والعالم وموجودات الطبيعة بغير وسيلة تعبير تلازم الفكر واللغة معا في دلالة لمعنى شيئي واحد.

إن وظيفة العقل التفكير بالمجردات الذهنية أرقى درجة منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية شيئية ويدركها ظاهراتيا أو ماهويا.

فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته أصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والاشياء في الطبيعة، لكيلا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد أصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي الموضوع المفكّر به من موضوعات مادية أو مجردة إستحقاقها الوعوي الادراكي كما لا تعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها.

يقول سارتر: (ان مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم) وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بايولوجية فيزيائية، أن اللغة لا تفارق جسم الانسان العاقل الناطق بإعتبارها خاصية انسانية يتمايز بها الانسان ويحتازها لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة. وفي نفس المقاربة التعبيرية يقول ميرلوبونتي (الكلمة ايماءة حقيقية لانها تتضمن معناها، وليست عشوائية او طبيعية).

بمعنى حسب اجتهادنا التعقيبي الكلمة وعي قصدي قبل أن تكون دلالة لغوية. والانسان في جنبة محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو أنه وجود عقلي لغوي ناطق. فالإنسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهو صامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده أو مع مجموع أو منفردا منعزلا. وفي كل حالات الصمت التفكيرية يحتاج الانسان التعبير اللغوي التفكيري الصامت او الكلامي الصوتي الناطق عن بعض الاشياء والموضوعات، ويكتم أو يستعصي عليه التعبير عن بعضها لغويا، أو يتعذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الاخر.

كما اعتبر فينجشتاين " الفلسفة كلها عبارة عن نقد معنى اللغة " وهذا التعبير لا يقصد به فينجشتاين نقد اللغة لا على صعيد النقد الادبي ولا على صعيد النقد النحوي الصرف او النقد الثقافي بل كان يقصد نقد اللغة بما هي حمولة (معنى) يحتويه النص كفائض قيمة يلاحقها المتلقي القارئ. وشن ميرلوبونتي هجوما قويا على سارتر في تبنيه معنى اللغة هي تعبير عن الافكار.2951 عل محمد اليوسف

س63: أ. مراد غريبي: هل الفكر أم اللغة هو وسيلة التعبير عن النظرة المادية أو النظرة المثالية للوجود؟ أم ليس هنالك فرق بين الفكر واللغة في التعبير عن الموجودات الواقعية والمثالية أو الخيالية على السواء؟ كما تذهب له علوم اللغة واللسانيات المعاصرة في الفلسفة.

ج63: أ. علي محمد اليوسف: لو سمحت لي أستاذ مراد يبدو لي التساؤل خال من تناقض فلسفي.. ولكن لنرى لماذا؟ لأن الفكر واللغة افصاحان متلازمان في التعبير عن وجود الأشياء المادية أو في التعبير عن وجودها الفكري التجريدي المثالي بواسطة التعبير اللغوي أو غير اللغوي..... كيف؟ فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل قبل الإفصاح عنه وجودا ماديا أو مثاليا بواسطة اللغة في العالم الخارجي.

الفكر المادي أو المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه في تعبير الفكر عنهما باللغة المجردة، فالوجود المستقل في الواقع لا تحدده اللغة كونه ماديا أو مثاليا أو اي شيء آخر بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته التعبير عنها. يعبر ميرلوبونتي (ان الانسان كائن مفكر، والحقيقة ان الذي يغير مسار الانسانية انما هو الفكر.) واضح أن التأكيد هنا على فاعلية الفكر كمحتوى وليس فاعلية اللغة بمعنى شكل التعبير بل بمعنى محتوى اللغة هو حمولة فكرية قبل أن تكون شكلا لغويا.

وهنا يكون الفكر يمثل جوهر الوجود وماهيته، بينما يكون تعبير اللغة عنه اصواتا شفاهية او مكتوبة أو لغة اشارية غير منظورة في التعبير عن الجمال مثلا لا تمنح الوجود ماديته او مثاليته بل تكسبه صفاته الظاهراتية، أما الذي يمنح الوجود المادي جوهره هو الفكر، والوجود المثالي صوره الفكرية، في تمييز العقل بينهما إنما هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية والتخليق في العقل في إدراك الوجود واضفاء ماهيته وصفاته عليه قبل إعادته لعالم وجود الاشياء كردود أفعال إدراكية..

ولا يتم تفريق الفكر المادي أو المثالي بمقايسته بالوجود الطبيعي للأشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في استقلاليته في عالم الأشياء، هو غير الوجود الذي تم تخليقه وتصنيعه في تناول العقل له واعادته ثانية بتخليق فكري جديد الى واقع الاشياء. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرز عنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي الا بعد الادراك العقلي لموضوع التفكير اولا، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا. فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المتبادل المتخارج معه، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو أي الفكر بالوجود هويته وصفاته.

والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء واعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود مجرّد، وانما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الادراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.

وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وادراكهما للوجود. وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم القول (ان فعل المعرفة لا يقوم في عملية إدراك الموضوع، بل في فعل خلق الموضوع، وان الوجود لا يوجد في ذاته، انما الفكر هو الذي ينشؤه). فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الادراكية العقلية التناوبية للموضوع؟ وفي تعبيرهما عن وجوده المادي في اختلافه عن التفسير المثالي على مستوى افصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين مختلفين المادي والمثالي؟

اننا في هذه الحالة نفهم ان الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الادراك الوجودي للأشياء في الواقع عقليا (صمتا) من دون الافصاح عنه باللغة. بمعنى ان تخليق واعادة انتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته له الحواس، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكير، وتنقلب المعادلة في الاسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبإدراكه المتعيّن الجديد.

وان بدت (اللغة والفكر) كليهما متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها ادراكا، كما من المتعذّر إعطاء أسبقية لإحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا ام مثاليا.

فاللغة قرينة الفكر في عدم امكانية التفريق بينهما في تعبيرهما على الاشياء الموجودة في العالم الخارجي. والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وادراكها. واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا اهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّر عنه. فاللغة لا تعبّر عن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري المدرك عقليا.

عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق اللغة المجردة او المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل في اعتباره الجدل او الديالكتيك المثالي يتم بالفكر المجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع او الوجود الحقيقي المادي للأشياء.

س64: أ. مراد غريبي: هل تجد في فاعلية الإدراك العقلي أسبقية على تعبير الفكر واللغة عن أشياء العالم الخارجي وموضوعات الخيال الذاكراتي؟

ج64: أ. علي محمد اليوسف: أرى العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكر المتعالق معه ان يكون ماديا ام مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي او المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة وكلاهما مستمدان من تفكير العقل أي تفكير ردود الافعال الصادرة عن المخ عبر منظومة الجهاز العصبي الموجودة في خلايا قشرة الدماغ الادراكية. وبهذا يكون التمييز بين مادية الفكر أو مثاليته هو في علاقة الفكر كوعي نوعي عقلي يتم في الدماغ اولا في ادراكه وفهمه الوجود او الموضوع، يليه تعبير فكري لغوي نوعي مختلف يحدد علاقته بالوجود الواقعي للأشياء والظواهر المختلفة في الطبيعة ثانيا ان تكون مادية أم مثالية.

س65: أ. مراد غريبي: على ضوء ما ذكرتموه كيف يكون توضيحكم لاختلاف الفكر المادي عن الفكر المثالي حسب التفسير التقليدي الذي يرى أن الاختلاف يتم بنوعية الوعي في أسبقية المادة أو الوعي في أسبقية الفكر؟

ج65: أ. علي محمد اليوسف: الفهم المادي يذهب الى أن الفكر انعكاس لوجود الاشياء في ديناميكية متخارجة بين وجودها والفكر المدرك لها عقليا، بينما يرى الفكر المثالي ان لا وجود مستقل للأشياء سابق على الوعي بها صوريا في الذهن فقط. وان إدراك وجود الأشياء يتم في صورها التي يستلمها العقل عبر المدركات الحسية لها، ولا دور للغة أكثر من تحقيقها دلالة المعنى الفكري الصادر عن العقل المراد توصيله من غير ما نتصور ونعتقد خطأ أن اللغة هي التي تحدد الوجود المادي باختلافه عن المثالي او بالعكس. اللغة توصيف لفينوميلوجيا الفكر أي ظاهرياته كشكل ومحتوى في ايعاز من العقل، والفكر يمثّل جوهر الاشياء المعبّر عنها لغويا.

فوجود الأشياء الطبيعي المستقل خارج الادراك هو الذي يسبق نوعية الافكار المفسّرة له بوسيلة التعبير اللغوي. وان اللغة والفكر متلازمان اثناء ممارسة العقل او الدماغ فعاليته الحيوية التخليقية جوّانيا في معالجة أيّا من المواضيع التي تنقلها الحواس له ماديا او صوريا، وكذلك يقوم العقل بنفس الفعالية العقلية في تأمله تخييليا موضوعا ما لا وجود له في عالم الوقائع المادية والاشياء وانما في عالم الخيال الذي ابتدعته ذاكرة العقل نفسها.

وعن كليهما (التفكير المادي والتفكير المثالي) يعطي العقل نوعا من التفسير المتعّلق بتمايز فهم شخص عن غيره، في حال تنفيذ الفكر واللغة نوعية الفكرة العقلية المختلفة عن الشيء في تنوّع واختلاف تفسير العقل لها من شخص لآخر ان كان تفسيره وفهمه ماديا أم مثاليا حسب المنهج الذي هو في تفكيره مسبقا قبل معالجته مدركاته.

من المهم التأكيد الى ان اللغة والفكر هما وسيلة العقل في الافصاح عن تخليقه وجود الاشياء في العالم الخارجي من جديد. وليس للفكر او اللغة اي افصاح متداخل عما يقوم به العقل في ادراكه الوجود والاشياء في تفكيره الصامت. اننا لا نستطيع الحكم على ان خلايا الدماغ تفكر تجريديا صوريا ما لم نرى تعبير اللغة عن الاشياء. الصمت تفكير ربما لا يكون لغويا صوريا تجريديا الا بعدما نجد العقل يعبر عن مدركاته بصور يتمثلها تجريديا مصدرها الواقع أو الخيال. خير تدليل على هذا عندما يفصح المجنون عن صمته لغويا لا نفهم باي لغة صوتية كان يفكر وهو صامت.2916 علي اليوسف ومراد غريبي

س66: أ. مراد غريبي: هل برأيكم تكون ردود أفعال التفكير العقلي بمدركاته، يتم بتعبير اللغة والفكر، أم تجدون هناك لغة خاصة موحية تقترن بالتعبير اللغوي بحركات الجسد؟

ج66: أ. علي محمد اليوسف: ان اللغة والفكر فعاليتهما الحقيقية في التعبير عن الموجودات والاشياء في الواقع المادي خارج العقل بعد تخليقها بالذهن وإعطاء تفسيره في وجودها المستقل في العالم الخارجي.

ان تفكير العقل بموضوع مادي موجود في العالم الخارجي، او بموضوع خيالي يبتدعه الخيال مادة لتفكير العقل داخليا، هما فعالية واحدة يقوم بها العقل وتحديدا الدماغ بمعزل عن تدخل اللغة والفكر الافصاحي لما يقوم به العقل من تخليق للفكر في دراسة موضوعه وعملية تخليقه من جديد.

ويبدو هنا ايضا اننا وقعنا في اشكال وتعقيد أعمق علينا توضيحه عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته للاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس وللفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير داخليا (صمتا) على شكل حوار فكري داخل العقل، او افصاحا عنه في التعبير اللغوي في وجود الاشياء المادي في الواقع او المتخيّل كناتج عقلي قبل كل شيء.

والوجود المادي والوجود التخيّلي لا يختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبير عن كليهما، فالوجود المادي الواقعي في عالم الاشياء تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في الوجود المادي فقط، بل في غيرها من وسائل التواصل ربما كانت لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي في الفنون والجمال او غيرها من وسائل إكساب الموضوع المتخيّل حضوره الوجودي المدرك دونما الحاجة الى اللغة الصوتية الشفاهية او المكتوبة. وانما بلغة الابداع الخيالي الذي تكون فيه اللغة والفكر وجود مضمر في اللوحة او التشكيل الجمالي. فالتعبير الجمالي لا يحتاج اللغة التعبيرية الفكرية في التعبير عن وجوده المادي.

وإلا أصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها؟ تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وإدراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية العقل توظيفه الفكر – اللغة في إدراك وجود الاشياء خارج التفكير العقلي وليس بداخله. تعبير لغة الجسد بالحركات الايحائية الصامتة سواء كانت حركات ايروسية او حركات تعبيرية راقصة وحتى دينية مثل اليوغا او رقص الباليه او حركات تمثيلي لمشهد مسرحي موحي صامت هي لغة من نوع يخضع لتفكير العقل بالتوصيل ويعدم اللغة الصوتية في التواصل حين تصبح حركة عضو من الجسم كفيلة بايصال لغة ايمائية ايحائية.

س67: أ. مراد غريبي: كيف تفسر لنا تخارج العقل الجدلي مع الفكر واللغة؟

ج67: أ. علي محمد اليوسف: لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل في تخليق الافكار بالصمت التفكيري داخل العقل، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل لإدراك الاشياء خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي التعبير عن وجودها الفكري – اللغوي بعد تخليق العقل لها من جديد كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس. فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجته الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل. هنا قولنا مجازيا داخل وخارج العقل لا يوجد غير لغة تعبير واحدة لكن اين الاختلاف؟

 الاختلاف بمعنى داخل العقل يكون التفكير حوارا صامتا في تعطيل اللغة المنطوقة أو المكتوبة، وفي خارجه يكون وجود الاشياء المستقل في العالم الخارجي دونما وصاية العقل عليها، وتكون الموجودات من حصة ووصاية اللغة والفكر المعبّر عنها. وهذا يستلزم منا تبيان ما الفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وتفكيره تعبيرا لغويا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود؟

س68: أ. مراد غريبي: كيف يفكر العقل داخليا وما هو موضوع ادراكه، وكيف يفكر العقل خارجيا وما هو موضوع ادراكه؟

ج68: أ. علي محمد اليوسف: للإجابة عن هذا التساؤل كيف يفكّر العقل داخليا، وكيف يفكّر خارجيا؟ اجد كي تكون فكرة الاجابة واضحة علينا التفريق مبدئيا بين امرين، الاول المثيرات التي تصدرها موجودات العالم الخارجي في استثارة الحواس نقلها ( الاحساسات) الصادرة منها على شكل (انطباعات) مخزنة مؤقتة بالذهن. هي تمثل اولى درجات تفكير العقل خارجيا في ادراكه العالم الخارجي.

الثاني ام المثيرات التي تصدر عن اجهزة الجسم الداخلية بايولوجيا مثل الاحساس بالألم او بالجوع او بالعطش وغيرها نسميها (الاحاسيس) الداخلية، وكذلك عندما تصدر مثل هذه الاحاسيس عن حاجة الجسم اشباعه حاجات غريزية مثل غريزة الحب ، ممارسة الجنس، الضمير، الوجدانات، العواطف بأنواعها، هنا يكون تفكير العقل داخليا استبطانيا وموضوعه الادراكي اشباع رغبات و غرائز الجسم الجوانية.

ثمة من يقول كيف يكون تفكير العقل بالنسبة للخيال في ابداعه موضوعات لا هي موجودات انطولوجية خارجية ولا هي اشباع غرائز وحاجات بيولوجية داخلية. فاين نضع هنا تفكير العقل لا خارجيا ولا داخليا؟؟ هنا يكون تفكير العقل مزيجا بين الشعور واللاشعور أي بين مزج الخيالات بالواقع في انتاج الابداعات الفنية والجمالية والرسومات والمنحوتات والاجناس الادبية مثل الشعر والقصة والرواية وغير ذلك. بالحقيقة أن العقل في كلا التفكيرين يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا عدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

تفكير العقل داخليا يتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس ادراكيا للعقل، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني لا علاقة له بالمادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع في الخيال ولا وجود واقعي مادي لها.

ولا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا للتفكير. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عنه بعد تخليقه الجديد له، او بغير تعبير اللغة عن موضوع التفكير الخيالي وكذلك عن التفكير الواقعي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وقلنا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به. وان العقل من قدراته الذاتية انه يفكر خياليا بموضوع لم تقم الحواس او احداها بنقله له.

س69: أ. مراد غريبي: هل يوجد منطق فلسفي غير علمي يوضح لنا كيف تتم آلية تفكير العقل أو المخ في التعبير عن مدركاته الخارجية ومواضيعه الداخلية؟

ج69: أ. علي محمد اليوسف: هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الأشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما ويعقل موضوعاته أيضا، وفق أية الية يتم الادراك العقلي فهو غير معلوم علميا أكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي في الذهاب الى تخصيص مناطق ارسال الخلايا العصبية الذبذبات الكهربائية التي بضوئها تتحدد وظائف المناطق العصبية المسؤولة عن معرفة عمل الجهاز العصبي.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه. اي بمعنى ان التفكير العقلي لا يدرك الانسان الآخر ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون تموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. وإذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكر من نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التأثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية التخليقية التي يقوم بها العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالإخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به عقليا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء. متمثلا في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي. الوجود الادراكي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

س70: أ. مراد غريبي: التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي التفريق بين الفكر واللغة. إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟

ج70: أ. علي محمد اليوسف: هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبير ليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لأنه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل. في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال إدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) اصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالأحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا. وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر. اي ان العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع) المدرك في زمن واحد. وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي. ان إدراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية، لا يعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية لها بعشوائية من دون تراتبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل.

نذّكر ان علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور و فنجشتين ودي سوسير و جومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة. باعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين إدراكاته للموجودات والاشياء الخارجية.

س71: أ. مراد غريبي: كل هذا التداخل الذي ذكرتموه بين تداخل الفكر واللغة والعقل، الا اننا نجد هناك من الفلاسفة من يجيز فصل اللغة عن الفكر او فصلها عن خاصية العقل الادراكية ما تعليقكم على ذلك؟

ج71: أ. علي محمد اليوسف: كي أكون واضحا معك استاذ مراد اقول اننا نجازف بالمباشر قولنا انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لأنه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. لكن هذا الراي مغرق بخطئه من حيث يتجاوز بديهة ادراكية ان الفكر هو تصور لغوي، أي لا يوجد فكر مجردا عن شكل لغة التعبير عنه. حتى العقل حينما يفكر يعتمد تجريد صور اللغة في التعبير عن الفكر.

للتوضيح أكثر، التفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة الصوتية او ابجدية كتابية فهو الهام تخييلي في انتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي في لوحة او منظر طبيعي، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام او لغة الكتابة. لكنما تبقى الحقيقة الماثلة المتعذر تجاوزها انه حتى اللون باللوحة هو لغة غير ابجدية.2952 عل محمد اليوسف

س72: أ. مراد غريبي: بعد كل الذي ذكرتموه هل تجدون امكانية فصل الفكر عن اللغة على صعيد الفلسفة ام لا؟

ج72: أ. علي محمد اليوسف: انا مع محال فصل الفكر عن اللغة حتى على صعيد الايهام الفلسفي في تمرير بعض القضايا المتعالقة. ما نحاول المراوغة بتمريره دائما ما تصدمنا حقيقة عدم امكانية فصل الفكر عن اللغة لانهما دلالة معنى واحد.

نأتي الآن الى معالجة أصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها.

يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط بموضوع الفكر الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج الدماغ او العقل في وجود الأشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.

وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها بالمخ، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

بمعنى توضيحي ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن العقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس وصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه إفصاحيا لكنه يلزم حضور التفكير. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل.

فقد نادى سارتر اننا يتوجب علينا مغادرة (انا أفكر)، وطلب هوسرل بقصدية كموضوع مفكر به، واخيرا هيدجر الذي نادى بان لا وجود لذات من غير ديناميكية فاعلة تمتاز بها. بل واضاف بأكثر وضوحا انه لا وجود لذات بلا عالم، والانا لا تحقق وجودها منعزلة لانها اولا واخيرا هي وجود – في – عالم.

س73: أ. مراد غريبي: كيف تفسر إعجاز الدماغ بالتفكير؟

ج73: أ. علي محمد اليوسف: كنت ذكرت في مقالات منشورة لي ، ان عمل الدماغ في فهم الوجود وتخليقه ثانية له، لا يتم وفق عشوائية اعتباطية، ولتوضيح ذلك في هذه الاسطر من الإجابة بتلخيص شديد: من البديهيات العلمية في علم الفسلجة (علم دراسة الوظائف العضوية لدى الكائن الحي، الانسان على وجه التحديد في الطب البشري)، هو استحالة تفكير الانسان في صورتي حدثين اثنين في وقت واحد، في لحظة واحدة، في ومضة واحدة، يمكن لأي انسان اجراء التجربة على نفسه سيجد انه يفشل حتما.

مجموع الافكار الادراكية الصورية او الحسّية او الحدسّية الواصلة الى الدماغ عن طريق الحواس الخمسة في الجهاز العصبي والراجعة منه الصادرة عنه كردود افعال انعكاسية، لا يتعامل الدماغ معها بعشوائية غير منظّمة ولا من غير تراتيبية في الاسبقية. بل يعمل الدماغ والجهاز العصبي مع الافكار الواردة له من الحواس في انتقائية وفي تراتيبية معقدة النظام، هي خاصية الانسان الذكي في تعالق وظيفتي المحسوسات او المدركات مع وظائف الشبكة العنكبوتية للأعصاب الناقلة للإحساسات بالأشياء، في الاستقبال الوارد له، والراجعة الصادرة منه الى الواقع في وجود الاشياء والفكر المعّبر عنها في ظاهرياتها وفي جواهرها.

الاستجابة الادراكية الحسية التي هي رد فعل الجهاز العصبي الارادي او غير الارادي المستقبل منه او الراجع المتصل بالدماغ بما تنقله اليه الحواس الخمسة، ويمكننا اضافة حاسة سادسة هي حاسة الحدس او التنبؤ والتخاطر.

فالذي يرد الدماغ عن طريق الحواس من مدركات ينقلها الجهاز العصبي في تيار فائق السرعة غير المنظورة ولا المتوقعة من المحسوسات في العالم الخارجي الى العقلي المدرك في سطح القشرة الدماغية التي تحتوي على ملايين الخلايا العصبية، لترسل بعدها بعض هذه الخلايا العصبية في الدماغ والجهاز العصبي ردود الافعال المناسبة لما يتوجب على الانسان معرفته او القيام به، وتكون ردود الافعال كاستجابة لإيعازات الدماغ في ومضة زمنية لا يتعدى الجزء الالف من الثانية. (أجهل تحديد زمن الومضة الانتقالية من الدماغ بواسطة الجهاز العصبي علميا بضوء معرفتي سرعة انتقال الضوء المقدّرة علميا افتراضيا هي ثلاثمائة ألف كيلو متر /ثانية).

ماهو مهم عدم استطاعة الدماغ إعطاء ردود الافعال الانعكاسية سواءا منها الإرادية او اللاإرادية لحدثين اثنين في ومضة كهرومغناطيسية او ومضة واحدة في جزء جزء جزء من الثانية الواحدة يستلمها الدماغ بواسطة الجهاز العصبي وينقلها الى احساسات الانسان ثانية، ومن الثابت علميا وطبيا ان جميع الاستجابات الانعكاسية الصادرة عن الدماغ تجاه الحواس لا تنطلق من (فص) مخّي واحد موجود في قشرة الدماغ الامامية. الذي يحتوي ملايين الخلايا العصبية المسؤولة عما يرده ويصله عن طريق الحواس. مع هذا ليس بمقدور (المخ) ان يرسل ايعازين اثنين في لحظة واحدة او ومضة واحدة، بمعنى ان الدماغ وتحديدا المخ والجهاز العصبي المرتبط به ينشغل بالاستجابة لردود افعال الحواس تباعا تراتيبيا تجاه المحسوسات ووجود الاشياء التي سبق للدماغ وان أدركها عن طريق نقل الحواس الموصلة للمدركات الحسّية الى الدماغ واعادة ردود الافعال الصادرة عنه بشأنها.

مثال ذلك حين يجرّب احدنا وضع يده في ماء مغلي حار جدا ، ويستخدم في نفس اللحظة اليد الاخرى في وضع شيء ما بفمه ليتذوقه نجد ان الدماغ يعجز عن اعطاء استجابتين كردين فعلين انعكاسيين للاثنين معاً في ومضة واحدة بل يجب ان يكون لاحدهما في رد الفعل الانعكاسي الصادر عن الدماغ والجهاز العصبي أسبقية تراتيبية زمنية على رد فعل الدماغ بالنسبة لرد الفعل على الآخر الثانوي المدرك حتى لو كان الفارق بين الاستجابتين لا يتجاوز جزءاً من الف من الثانية، وحتى لو كانت ردود الافعال الصادرة عن الدماغ من نوع ردود الافعال الانعكاسية اللاإرادية.

ومثال آخر حين تسمع اغنية من المسجّل بجانبك وانت تقرأ في صحيفة او كتاب عندها يستحيل على الفكر الذهني المتلقي في الدماغ فهم مفردات الاغنية واستيعاب معانيها في نفس لحظة تصفّحك الصحيفة ومحاولتك فهم ما تقرأ.

الشيء المعجز ليس فقط ان هذه العمليات العصبية التي تجري ما بين الحواس والجهاز العصبي الناقل ادراكات الاشياء استرجاعيا تناوبيا الى الدماغ مع فعل الادراك للشيء او تصوره في الذهن، انها تجري هذه العملية في اقل من جزء جزء جزء من الثانية، وربما بأسرع من سرعة الضوء. وانما (الاعجاز) الاهم هو في اختيار الدماغ لأسبقية ردود الافعال الواردة اليه عن طريق الحواس في النوعية والاهمية التي تقي الانسان من المخاطر واعادتها للإنسان المدرك في حدثين وضع اليد بالماء المغلي والاخرى وضع شيء بالفم لتذوقه. وهكذا في تعامل الحواس والمخ مع آلاف الادراكات الحسية الواردة له، وايعازات الدماغ الاجابة الدقيقة المطلوبة منه عليها.

ولو اننا عدنا للمثل الذي اوردناه في ايّهما أفضل في اسبقية الاستجابة الدماغية في الرد الانعكاسي عليه!؟ سحب اليد من الماء المغلي ام فحص حاسة التذوق للشيء الذي وضع بالفم!؟ نجد ان إيعاز الدماغ بضرورة سحب اليد من الماء المغلي يسبق إيعاز الدماغ في إعطاء الاستجابة لنوعية تذوق الشيء باللسان.

في هذا المثال التجريبي نلاحظ تأكيد الدماغ على نوعية وأهمية الاستجابة الانعكاسية اللاإرادية لعدد من المدركات الحسية المنقولة له بواسطة الجهاز العصبي عن مصدر الحواس وترتيب الدماغ لنوعيتها وأهميتها.

في أسبقية الاستجابة يكمن فيها لغز تفضيلي إعجازي في وقاية الإنسان من المخاطر وتجنبّها، ليس سهلا على العلم الطبي تفسيره وعلم دراسة فسلجة الدماغ والجملة العصبية تحديدا الإجابة عليه على قدر فهمي اذ ربما العلم وصل إلى تعليل كل هذه الأمور التي أتحدث عنها كإعجازات للعقل والجهاز العصبي المرتبط به وهي كذلك برأيي في مقدرة علم الدماغ وفسلجة وظائف الجهاز العصبي تفسيرها أم لا!!.

الإعجاز التفضيلي في الاستجابات الانعكاسية للإيعازات الصادرة عن الدماغ الإرادية منها أو غير الإرادية تتوخى وقاية الإنسان وسلامته من الخطر الذي قد يسببه وضع اليد في الماء المغلي وتأخر سحبها، مع إرجاء بقية ردود الأفعال الانعكاسية الثانوية التأثير على سلامة الإنسان ووقايته من الخطر إذا ما تلازم حضورها مترافقا مع الأفعال المحدّقة الخطر بالإنسان .

س74: أ. مراد غريبي: نريد الحديث عن موقف فلاسفة التحليلية المنطقية من فلسفة اللغة. وكيف حصلت الاختلافات بينهم؟

ج74: أ. علي محمد اليوسف: في الوقت الذي ذهب فيه فينجشتين في الوضعية المنطقية مجموعة فييّنا، التي جرى تعديلها لاحقا فلسفيا إلى التحليلية المنطقية الانجليزية بزعامة بيرتراند راسل، وجورج مور، وايتهيد، فلاسفة جامعة اكسفورد والتي انضم لها كل من كارناب، فينجشتين الذي كان أستاذا للفلسفة في جامعة كامبريدج.

كان لفينجشتين رأيه الخاص في اعتباره اللغة منطق قوانينه قبلية مستقلة عن التجربة لكنها أيضا تحصيل حاصل أنها لا تعني شيئا. ولا تدل على شيء في التجربة. فما قوانين المنطق إلا قواعد نحوية تنّظم تنظيما ميّسرا بفضاءات التجربة الحسّية. وأضاف أن المنطق يتكوّن من قواعد تركيبية أي تنّظم تركيبا وهذه القواعد تستخرج من مبادئ تم اختيارها بطريقة تحكميّة. ورأيي الشخصي ألخصه بالتالي:

كل ما هو قبلي معرفي تجريدي مستقل عن التجربة الإدراكية لا معنى له ولا يعبّر عن مدرك حقيقي مادي ولا عن موضوع خيالي.

أصحاب الوضعية المنطقية الجدد وجدوا إمكانية التحدّث عن اللغة بوسيلة إستخدام لغة ثانية أطلقوا عليها "لغة اللغة" والتفلسف ما هو إلا شرح معنى لغوي بمعنى لغوي آخر. لغة شارحة بعدية للغة قبلية سابقة عليها في ملاحقة فائض المعنى.

اللغة هي إحساس نسقي منّظم لا علاقة له بالإدراك الشيئي حسب فلسفة اللغة ونظرية المعنى، وإحساس اللغة يكون إحساسا زائفا حينما لا يكون تعبيرا لمعنى واضح الدلالة حسب المناطقة.

 بحسب المناطقة الجدد لا فرق بين زيف الإحساسات حينما تكون تعبيرا لغويا لا معنى له. ولا يمكن التحقق من صدقيته، لذا يبقى الإحساس موضع شك.

العديد من المباحث المفاهيمية لا ينطبق عليها المنهج التجريبي النقدي الذي تنادي به الوضعية الجديدة. فكل شيء بمفهوم العلم هو موضع شك، يتطلب تبيان جوانب الإدانة فيه وتصويب أخطائه.

س75: أ. مراد غريبي: كيف أراد كارناب في انشقاقه عن المنطقية التحليلية الانجليزية ربط فلسفة اللغة بالعلم. وهل أخفقت التحليلية الانجليزية في تحقيق أهدافها؟

ج75: أ. علي محمد اليوسف: يميز رودولف كارناب (1891-1970) بين عدة وظائف للغة إما أن تدل على معنى أو تعبّر عن رغبات وعواطف، ومن واجب الفلسفة حسب المنطقية الوضعية أن تحصر نفسها في تحليل لغة العلم باستخدام المناهج المنطقية التي أساسها الرياضيات، وما عدا هذه المهام فاللغة تبقى مبحثا ميتافيزيقيا لا معنى له، وخارج ميدان مباحث الطبيعة. وأدان كارناب فلاسفة اللغة الذين يضعون قيودا على الإستعمالات اللغوية، بدل الاهتمام بتجديد الشروط التي تطابق اللغة معناها.

هذه المهام للغة التي لخصّها كارناب لا تقول جديدا ما عدا يجب أن تقوم الفلسفة على تحليل لغة العلم بمنطق الرياضيات كما أسس له فريجة وتبّناه بيرتراند راسل ومن قبله دي سوسير، فليس سهلا أن تكون الفلسفة تابعة للعلم بمجرد أنها تمتلك منطقا منهجيا تحليليا للعلم. وهذا لا ينفي بل يؤكد حقيقة تاريخ الفلسفة لم تكن تابعة للعلم تقتفي آثاره بل كانت توازيه على الدوام وتتداخل معه في نطاق ضّيق.

العلوم الطبيعية قاطبة وليس فقط العلوم الانسانية تقوم على مبدأ إستقلالية منطق تجريدي إشاري علاماتي من المعادلات الرياضية لا يخضع الى نقد لغوي عادي سردي كما يجري في لغة نقد سرديات الأدب والايدولوجيا وعلم الاجتماع والأديان التي أطلقت عليها ما بعد الحداثة السرديات الكبرى..     

وأدان ريشنباغ وهو من فلاسفة الوضعية توّجه كارناب وأشياعه قائلا: أنهم يخطئون حين يحاولون البحث عن يقين مطلق، حيث ليس هناك من بديل، وإنما مجرد احتمال. ومّيز ريشنباغ بين التحقق التكنولوجي في عصر ما، والتحقق الفيزيائي الذي لا يتعارض مع قوانين الطبيعة.

انتهى كارناب في أخريات تطوره الفلسفي الفكري الى أنه يجب التوّصل الى تعريفات دقيقة للمفاهيم الأساسية التي يستخدمها العلم في إطار لغة صورية تماما.

كما انتهى جورج مور على العكس من لغة المنطق ضرورة العودة إلى لغة الناس العاديين الجارية المتحاورة معتبرا ذلك الشرط الأساسي للتحليل العلمي الصحيح. وربط التحليل الفلسفي بكل من الإدراك العام أو الإدراك الفطري.

يذهب بيركلي وهو من فلاسفة القرن الثامن عشر ولم يكن عضوا في حلقة اكسفورد التحليلية أنه يمكننا تحديد المقصود بوجود" دون اللجوء إلى أدوات لغوية، وجود الشيء هو وجود إدراكه الشيئي. كما اعتبر أفلاطون الوقائع المعنيّة هي أفكار أي هي كيانات مختلفة تماما عن كيانات العالم المحسوس. وعن أرسطو قوله: الإنسان لا يمكنه التحدث إلا إذا تحدّث عن شيء ما مسّبق بذهنه. وأضاف التعبير عن الوجود ليس فقط أن تقول ماهو موجود، وإنما أن تقول أي نوع من الوجود تقصده. وعن بارمنيدس مقولته الوجود موجود، وعدم الوجود غير موجود، فأنت لا يمكنك إدراك شيء أنت تخلق وجوده بتفكيرك وتدركه بإحساسك.

س76: أ. مراد غريبي: كيف ترون علاقة اللغة بالإدراك والخيال؟

ج76: أ. علي محمد اليوسف: الوجود المادي للأشياء والمخيال بموضوعات الذاكرة إستبطانيا تكون سابقة على إدراكها المادي خارجيا، وخياليا استبطانيا داخليا.. وسابقة على تعبير الفكر واللغة عنهما في كلا المنحيين. لا تفكير ولا لغة ولا إدراك خارج فاعلية العقل.

السؤال بماذا يختلف ما هو موجود مادي، عما هو غير موجود مادي بالنسبة للفكر واللغة؟ الفرق هو في تعبير اللغة فقط بين ماهو موجود مادي خارجي وبين ماهو خيالي تصوّري داخلي. إدراك الوجود لا يتم بغير دلالة عقلية له، لذا يكون الوجود مصدر إدراك العقل، ولا يكون إدراك العقل هو مصدر تحقق موجود مادي لن يتحقق الا بالذهن فقط في مرجعية العقل. لا يمكننا معرفة موجود بغير دلالة تعبيرية لغوية عنه. إدراك الشيء هو أن تتصوره بالفكر واللغة.

حتى الحواس لا تنقل الإحساسات عن الأشياء بغير تعالق ما تنقله في تصوّر وتمثّل لغوي. الموجود المادي هو موضوع لتعبير اللغة وتفكير العقل، عندما نقول الموجود المادي هو لغة تجريد انطولوجي لذلك الموجود. وحينما نقول الموجود المادي هو لغة متموضعة في الأشياء والمواضيع التي يدركها العقل، وإدراك الشيء المادي حسيّا هو إدراكه لغويا، كما وإدراك الموضوع الخيالي هو إدراك وتعبير لغوي مجرد ايضا.. جميعها فعاليات تجري داخل منظومة العقل الادراكية.

أمّا حين نقول مع أفلاطون الموجودات ومدركات العقل هي أفكار فهو صحيح تماما لا يحتاج أدنى نقاش، فاللغة والفكر المعبّران عن موجود متعّين أنطولوجيا، يكون دليل قاطع أن الموجودات سابقة على إدراك العقل لها وتعبير اللغة والفكر عنها. وهو تعبير منهجي مادي. أما الوجه الآخر المقابل في هذا الطرح فهو يقوم على أن الموجود هو لغة مستقلة في التعبير عن دلالة الموجود ماديا، فالتعبير لغويا عن شيء أو عن موضوع من الخيال لا وجود مادي له بالواقع، فتكون اللغة تفكير لغوي تجريدي صرف لا علاقة تربطه بالموضوع المعّبر عنه سوى جدل علاقة التأثير بالمؤثر على صعيد الفكر فقط.

جدل علاقة التأثير والمؤثر بين الموضوع في وجوده المادي وتفكير العقل وتعبير اللغة عنه، هو بالمحصلة يقود الى تطوير الفكر المتعالق مع موضوعه، وتسريع التطور المادي لموضوع الفكر بقدراته الذاتية وليس بقدرات التفكير الذهني به.. جدلية الفكر بالمادة تبقى جدلية غير حقيقية، وسبب ذلك هو إنعدام المجانسة النوعية بين الموجود المادي وتفكير العقل عنه. فالوجود مادي وتفكير العقل هو تجريد لغوي. جدل تناقض الاضداد لا تتم الا داخل مادة او موضوع يحمل المجانسة التكوينية الواحدة في داخله بين سالب وموجب تنبثق عنه الظاهرة المستحدثة الجديدة التي هي بدورها تحمل جدل تناقضها الداخلي ايضا.

س77: أ. مراد غريبي: نريد ختم هذه المحور بفهمكم الفلسفي للماهية أو الجوهر؟

ج77: أ. علي محمد اليوسف: يقول أحد تلامذة السفسطائي جورجياس والذي أصبح من تلامذة سقراط فيما بعد قوله " أنا لا يمكنني أن أحدد ماهية الشيء، وإنما يمكنني فقط أن أحدد بعض الخصائص التي يمتلكها هذا الشيء، وهناك ما هو أسوأ من ذلك فأنا لا يمكنني القول عن شيء محدد ما ليس هو عليه ولا حتى أن أقول عنه غير موجود."

ما يقصده تلميذ جورجياس لا يمكننا تحديد ماهيّة الشيء، إنما كان وضع بذلك بذرة فلسفية في حقل فلسفي نقاشي دام قرونا طويلة، وتناول كانط وهيجل وفلاسفة الماركسية وفلاسفة الوجودية جميعا تلك المقولة. وهؤلاء أكدّوا عدم إمكانية إدراك ماهية الشيء بل المتاح إدراكه هو الصفات الخارجية له فقط...

فلاسفة الماركسية لم يعيروا إهتماما كبيرا لهذه الاشكالية الفلسفية، بل إكتفوا بمعرفة صفات الشيء تغني عن معرفة ماهيته أو جوهره، بإستثناء سارتر قوله:

لا يشترط أن يكون لكل موجود أو شيء جوهرا علينا التفتيش عنه وملاحقته. فالماهية وعلاقتها بالصفات للشيء أو الموجود المادي الواحد، من غير الانسان كانت محط إختلاف ونقاش دائم.

ذهب سارتر في تفرّد عن فلاسفة الوجودية الذين ارادوا ترك القضّية معلقة لا حل لها. أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يمكننا تأكيد ماهيته. ماهيّة الانسان ليست موضوعا أو معطى مجّاني يتعالق مع الانسان في وجوده الطبيعي، بل الماهية عملية تصنيع ذاتي يقوم بها الانسان ذاته. جوهر أو ماهيّة الانسان عملية سيرورة دائمية من البناءات التراكمية والخبرات المكتسبة للإنسان.

إختلاف الوجود بإختلاف موجوداته التي يحتويها وتشّكل مضمونه. لذا تكون نوعية الوجود وإدراكه تتم بدلالة موجوداته. فالوجود مفهوم لا يحده غير موجوده الذي يحتويه. كل موجود يستمد معناه من محتواه النوعي.

عبارة انستيسين تلميذ جورجياس الملغمة قوله: "لا يمكنني القول عن شيء محدد هو ما ليس به ولا حتى أقول عنه غير موجود"، فهو أراد بذلك أن الحواس تخطيء الإدراك في الإحساسات، وتكون عاملا أوليا في تضليلها العقل.

 الشيء الثاني أن تعبير اللغة هو الآخر قاصر عن الإحاطة في التعبير عن مدركاتها الموضوعية بتمامها. فهل تعبير اللغة عن إدراك الشيء هو تعبير حقيقي عنه أم هو مجرد صورة فوتغرافية خارجية فقط لما تلتقطه الحواس؟

انتهى ويتبع

 

حاوره: ا. مراد غريبي

المثقف – مرايا فكرية

2 – 11 – 2021م

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الثالث: الفلسفة، العقل واللغة والجدل

س43: أ. مراد غريبي: تذهب بعض التيارات الفلسفية المثالية نحو مقولة (مالا يدركه العقل غير موجود) ما تعليقكم على ذلك؟

ج43: أ. علي محمد اليوسف: طبعا العقل هو إدراك الوجود الانطولوجي خارجيا، وإدراك المواضيع الناتجة عن المخيلة الذاكراتية، اي بتوضيح أكثر فان العقل لا يدرك الاشياء المتعينة ماديا وحسب انما هو يدرك الموضوعات الفكرية المجردة ايضا. وكل إدراك عقلي هو تصور لغوي تجريدي للأشياء والموضوعات. العقل في ادراكاته يذهب نحو مدركاته بوعي قصدي، بمعنى العقل لا يدرك ما لا معنى ولا ضرورة له، الشيء الثاني ان العقل يدرك الاشياء لحاجة ادراكية تلازمه لا تتوقف عند مرحلة الادراك بل تتعداها الى مرحلة معرفة لماذا يدرك العقل الاشياء؟ وليس المهم معرفتنا كيف يدركها؟ أما حول مالا يدركه العقل غير موجود فهي مقولة ساذجة في نكرانها عدة امور هي ان الموجودات تكون مستقلة الوجود سواء أدركها عقل شخص او عدة اشخاص ام لم يدركوها، الشيء الثاني إدراك الشيء لا يعني معرفته، فالإدراك معرفة بدئية من مراحل المعرفة. فالوجود موجود فما لا تدركه انت يدركه غيرك.

س44: أ. مراد غريبي: هل برأيكم اضاف تجريد التفكيكية وتأويلية بول ريكور والبنيوية الى حد ما عجز عنه تجريد الفلسفة؟ وهل استطاعت فلسفة اللغة اضافة آفاق جديدة لمراجع تصحيح اخطاء اللغة في تاريخ الفلسفة؟

ج44: أ. علي محمد اليوسف: ربما اكون احادي النظرة في اعطاء تعقيب فلسفي لكني ارى في فلسفة اللغة التفكيكية تجريدا فارغ المحتوى ومبحث فلسفي خال من أية مسألة جديرة بالبحث، لأنها تقوم على تقويض النص والمعنى في عملية تشتيت ذهني وتفكيك نص وخطاب اللغة بلا جدوى وانه لا شيء خارج النص من حيث هو تفكيك تجريدي لغوي مقطوع الصلة نهائيا عن الانسان والحياة في حالة دائمية من الهدم والتقويض اللانهائي لخطاب اللغة.

كما أن الفلسفة البنيوية حسب جياني فاتيمو فيلسوف العدمية تضع في أسبقية اهتماماتها بنية اللغة (النص) فقط بما هو نص مكتوب مدوّن، ولا أهمية عندها للمتلقي ولا تعير اهتماما للمستقبل الانساني.

وأمام هذا الافلاس الفلسفي في التفكيكية وفي البنيوية الى حد ما يذهب جورج مور قائلا: (أن التحليل الفلسفي للغة ليس هدفا في ذاته، بقدر ما هو وسيلة لتوضيح افكارنا وتصوراتنا وقضايانا، والنظرية الفلسفية تقاس قيمتها بقدر اتساقها مع معتقدات الرجل العادي، فاذا جاءت النظرية متنافرة مع هذه المعتقدات حكمنا عليها بالإفلاس.) نقلا عن ابراهيم طلبة سلكها.

وفي نفس المنحى ذهب فنجشتين انه (يتوجب على الفلاسفة العودة الى اللغة العادية والاستخدام المألوف لها). بعيدا عن تفكيك نحوي وبلاغي في اللغة كمبحث لغوي نصّي تجريدي يخص قضايا الادب بما هو تجنيس ادبي وليس بماهو مبحث منتج في إثراء مباحث الفلسفة.

رغم الاهمية الفلسفية الكبيرة لآراء بول ريكور الا أن منهجه اللغوي في التأويلية (الهورمنوطيقا) رسخ قناعة خاطئة مفادها ان النسق النظامي الذي يحكم اللغة داخليا يتيح لنا اريحية القول ان لا علاقة تربط البنية النسقية للغة مع نظم الانساق التي تحكم الحياة خارج نسق منظومة اللغة الداخلية. وان اللغة لم تعد تتوقف الحاجة لها عند وسيلة التداول او التعبير عن الوجود في موجوداته وعلاقتها ببعضها. وان النسق اللغوي في نظام اللغة يوازي ولا يتقاطع مع الانساق التي تحكم الواقع والحياة وهذا برأيي تطرف في منحى فلسفة اللغة ليس في محله.

س45: أ. مراد غريبي: كيف تفسر لنا الادراك الزمكاني للوجود؟

ج45: أ. علي محمد اليوسف: ثبات الاشياء وموجودات الطبيعة نسبي مكانا وزمانا على الدوام وليس كما ذهب له كانط أن ثبات الأشياء هو السمة اليقينية المستمدة من ادراكنا لها بثبات كل من الزمان والمكان في اسبقيتهما على الوجود، وبخلاف كانط أن ثبات الزمان في أدراكه ثبات الاشياء في وجودها الظاهري الحسّي أنما هو أي الزمان يدخل في علاقة جدلية في تغييره الاشياء دون أن يتغير، كما أنه يساعد العقل على الادراك من دون أن يدرك الزمان بذاته، بل كل ما نعرفه عن الزمان انه حدس نتلمسه في ظواهر نتائجه في الاستدلال على وجود الاشياء بعد تخليق العقل لها وليس في اختراع وجودها.

ان إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي مكانيا – زمانيا، أنما هو في حقيقته ادراك زماني واحد فقط، فلا يمكننا أدراك الشيء مكانا من غير زمن ولا نستطيع ادراك الاشياء زمانا من غير وجود مكاني متعيّن لها انطولوجيا، لكننا ندرك الاشياء زمنيا في تفكيرنا الخيالي الذهني لموضوعات تستحدثها الذاكرة مادة لتفكير العقل، وهي أي موضوعات الخيال ليست محددة وجودا مكانا في العالم الخارجي لكننا ندركها من خلال تناول التفكير بها زمانيا تجريدا بمعزل عن تحققها انطولوجيا بالواقع وهذا يسري على جميع الاجناس الادبية التي تجعل من المخيلة ذاكرة واقعية.

2938 علي محمد اليوسفس46: أ. مراد غريبي: هل الديالكتيك الماركسي كان افتعالا تبريريا في إرغام التاريخ على أن يسير وفق حتمية تطورية لا يحيد عنها؟

ج46: أ. علي محمد اليوسف: الديالكتيك في المادية التاريخية قانون يحكم المادة والتاريخ والطبيعة، لكنه ليس حتمية غائية في تحديد المراحل التاريخية التي يصلها ماركسيا بالضرورة. فالديالكتيك الذي يحكم المادة والوجود والتاريخ يشتغل على مسارات تحكم المادة وكل ظواهر الحياة بما لا حصر له،والتاريخ ومساره التطوري أحداها، فالديالكتيك قانون يعمل في الطبيعة مستقلا عن الانسان ورغائبه، وليس قانونا وضعيا من أجل الفلسفة او تفسير تطور التاريخ ماديا مراحليا كما ذهبت له الماركسية عندما اجرت التحقيب التاريخي من عصر المشاعية فعصر الصيد والالتقاط وعصر الزراعة وهكذا وصولا الى المرحلة الامبريالية التي هي قمة الراسمالية.، فقد يعمل الديالكتيك في بلورة معطيات جديدة في الوجود والحياة ليس التاريخ من ضمنها كمرتكز محوري كما تعدمه المادية التاريخية، وأخيرا الديالكتيك ليس قانونا وضعيا أوجده واخترعوه فلاسفة مثل هيجل وفيورباخ وماركس وانما هو قانون يعمل في مجال الطبيعة بمجملها قبل وبعد اكتشافه فلسفيا.

بالحقيقة كان لدي وجهة نظر اشرت لها في احدى مقالاتي ان قانون وحدة وصراع الاضداد في الديالكتيك لا يتم خارج ما أطلقت عليه (المجانسة النوعية) بمعنى لكي يحصل الجدل الافتراضي بين قطبي تناقض لا يحكمه تضاد السلب مع الايجاب في انتاجية واستحداث الظاهرة الجديدة فقط، وانما يحكم قطبي التضاد المجانسة النوعية الواحدة، فمثلا نجد من المحال ان تفترض جدلا يقوم بين زيت وماء. والسبب هو عدم وجود المجانسة النوعية بينهما التي هي تشابه الجوهر والصفات بينهما، فالماء من حيث الماهية والصفات تختلف عن الصفات والماهية للزيت، لذا انعدام المجانسة النوعية ماهويا بينهما لا يمنحهما جدلا ديالكتيكيا ينتج عنه ظاهرة مستحدثة جديدة.

من جانب آخر طالما أن قوانين الجدل تقوم على تناقض لا يلازمه تجربة تطبيقية ملموسة فهو يبقى احتمال افتراضي من الجائز جدا عدم محكومية تطور المادة والتاريخ لتلك القوانين الافتراضية على صعيد الايديولوجيا السياسية والفلسفة معا. افتعال هيجل للجدل على مستوى الفكر كان خاطئا ليس بسبب انه لم يأخذ بالمنهج المادي بل لأنه اساس الخطأ الذي اورثه للماركسية في افتراض وهمي غير خاضع لتجربة التحقق من حصوله. بمعنى لم يكن هيجل يتصور أن ديالكتيك الفكر هو ناتج ديالكتيك حاصل في الواقع. وبرر ذلك قوله طبيعة العقل جدلية بمعنى لا يقاطع جدل الواقع في حال حصول تحققه.

س47: أ. مراد غريبي: كيف توضح آلية منظومة مدركات العقل للأشياء والعالم الخارجي؟

ج47: أ. علي محمد اليوسف: الحواس تدرك وجود الاشياء في العالم الخارجي صوريا بالفكر، وليس صوريا باللغة قبل الفكر، وإدراك الشيء بالفكر لا يشبه تعبير اللغة خارجيا عنه، واللغة في تعبيرها عن وجود الاشياء تكون أولويتها سابقة على الفكر، فإدراك الاشياء بالفكر ذهنيا هو أدراك صامت لغويا، والصمت لغة حوارية كامنة بالذهن غير مفصح عنها بالكلام او الكتابة، في حين يكون تعبير اللغة عن الاشياء في وجودها الخارجي (صاءتا) صوتيا سواء أكان ذلك كلاما شفاهيا او تعبيرا لغويا مكتوبا. انا هنا لا ارغب مجاوزة حقيقة علمية أن الفكر جوهره لغة. بمعنى الفكر في صمته هو تفكير لغوي صوري ايضا.

ويسبق الفكر الصامت في الذهن ادراكنا الاشياء والتعبير اللغوي عنها داخل العقل وليس خارج العقل، وأولوية التفكير العقلي في الذهن يسبق تعبير اللغة عن الموجودات خارجيا، على العكس من أن اللغة تسبق الفكر في التفكير خارج العقل فقط وليس داخله، اللغة تعبير والفكر محتوى وكلاهما متلازمان، وجود الاشياء في العالم الخارجي تكون فيه الاولوية للتعبير عنه باللغة التي تعبر عن الاشياء كناتج تخليق عقلي فكري لها.

صمت الفكر في ادراكه العقلي لوجود الاشياء وأن كان يلتقي مع صمت اللغة في حالتي الادراك العقلي ذهنيا، وفي التقائهما في الافصاح اللغوي – الفكري التعبيري عن وجود الاشياء، لكنما يبقى أدراك الفكر للشيء لا يطابق ولا يشابه تعبير اللغة عنه. وبذا لا يستطيع الفكر الذي هو نتاج عقلي كما هي اللغة أيضا، أن يتطابق مع اللغة في الافصاح عن المعنى، ويبقى الفكر متخلفا عن اللغة في عجزه أيجاد حقيقته الوجودية في منافسة اللغة له في التعبير عن الموجودات والاشياء. وتبقى عبقرية اللغة سابقة على تخليق الفكر العقلي في محاولته التعبير عن الوجود بملازمته اللغة او بمفارقته لها كما في حال انشغال الفكر في حدسه وتنظيمه إدراك ما تفرضه الذاكرة التخييلية من موضوعات مستمدة خياليا من الذاكرة ولا علاقة للحواس في أي دور بنقل مواضيع الخيال الى العقل، فالمدركات الحسّية وظيفتها هي فقط نقل معطيات وجود الاشياء في ظواهرها بالعالم الخارجي وليس مواضيع الخيال التي مصدرها العقلي الادراكي لها هو الذاكرة فقط.

وبهذه الحالة تتراجع اللغة المنطوقة او المكتوبة الى مراتب متأخرة امام فاعلية العقل والفكر معالجتهما مواضيع الخيال في الذاكرة والذهن. وتكتسب اللغة أهميتها المتمايزة عن الفكر في التعبير عن تخليق العقل لمواضيع الخيال أمّا في محتوى وشكل لغة ادبية او فنية او جمالية حال خروج اللغة عن وصاية العقل عليها داخل الذهن المفكّر، وتنتهي وصاية العقل على الفكر واللغة بعد تعبيرهما عن الاشياء في العالم الخارجي. لأن اللغة والفكر يصبحان جزءا متداخلا مع وجود الاشياء في التعبير عنها خارجيا، بعد ان كانا (الفكر واللغة) جزءا من التفكير داخل العقل. خلق عوالم ادبية أو فنية يتراجع فيها الادراك الشعوري على حساب تفعيل اللاشعور الخيالي.

س48: أ. مراد غريبي: هل انت مع كانط في نظريته الفلسفية على ان الانسان مزود بالفطرة بقالبي الزمان والمكان في تمكين العقل من الادراك؟

ج48: أ. علي محمد اليوسف: تضمن كتاب كانط (نقد العقل المحض) الزمان والمكان معطيان قبليان في العقل سابقان على وجود الاشياء وهما وسيلتا أدراك تلك الاشياء، ومن دون هذا الافتراض لا يمكن للعقل والذات أدراك الاشياء في وجودها الخارجي، وجواهر وظواهر الاشياء لا تدرك من غير ثباتها في تجانسها مع ثبات الزمان والمكان في الذهن، كما أن ثبات الاشياء يتناسب طرديا توافقيا ادراكيا مع الزمان في ثباته، وبهذا يكون كانط أعفى العقل من مهمة اثباته ماهيات وجواهر الاشياء في وجودها بذاتها أو حتى في ظاهرياتها المتغيرة كصفات على الدوام وباستمرار، واعطى الثبات المكاني والادراك الزماني المجانس لثبات الاشياء مكانيا اولوية على العقل. وفي هذا التناقض يصبح عدم اعتراف الفلسفات المثالية بالعقل والوجود خارج إدراك الفكر مقبولا دوغمائيا في المثالية، علما أن الفكر هو نتاج عقلي وليس نتاجا مكتسبا في أدراكه وتفسيره للأشياء وفي هذا مأزق الفلسفة المثالية انكارها وجود العقل في تأكيدها على اسبقية الفكر على المادة الذي هو نتاج لصيق بالعقل. ونجد من المهم التنبيه أن العقل لا يفرز الأفكار وظائفيا، لكنه هو منتج الافكار في عملية تخارج التفكير العقلي مع وجود الاشياء إدراكا معرفيا تخارجيا وليس هناك من فكر لا يسبقه وجود او موضوع.

رغم وجودية كيركارد التي اصبحت مادية لاحقا على أيدي هايدجر وسارتر، الا أنه يذهب نحو مثالية لا تختلف عن المثالية التي يذهب فلاسفتها جميعا أنه لا وجود للأشياء ولا العالم الخارجي الا في الوجود الصوري الادراكي لها في الفكر فقط لا غير، وأن النسق الفلسفي يحتوي ويقرر ماهيات الاشياء والوجود من خلال الفكر المنطقي المجرد المنعزل عن العالم المادي، وذهب كريكارد نحو وجود غير مادي وغير ميتافيزيقي أيضا بالتبشير بعالم الوجدانات والاخلاق والعواطف الايمانية، معتبرا أن الوجود الانساني تابعا للنسق الفلسفي لا خالقا لوجوده من خلاله. وفي هذا يخرج كريكارد عن وجوديته المادية واستبدالها بوجودية إيمانية دينية صوفية مثالية.

س49: أ. مراد غريبي: ما حقيقة التطاحن الفلسفي في الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية التي أدت بها نحو الانشقاقات واودت بها الى الانحلال والتفكك التام دونما تحقيقها لأهدافها المعلنة عنها؟

ج49: أ. علي محمد اليوسف: أعتقد السؤال يقصد حلقة اكسفورد الانجليزية. ذهب تطرف برتراند رسل ومعه جورج مور وايتهيد نوعا ما، فيما أطلقوا عليه الواقعية التحليلية المنطقية الجديدة الانجليزية حصرا، في إعلائهم من شأن معطيات ومدركات الحواس أهمية كبيرة وصلت براسل اعتباره تلك المعطيات الحسية هي العقل بمعناه التجريبي العلمي، وليس اللوغوس بمعناه الفلسفي الذي هو نتاج المعرفة بمختلف مباحثها وتنوعاتها. واعتبر راسل تكوين العقل العلمي يقوم على أولوية معطيات الحواس بخلاف أن المعرفة الفلسفية لا تنتج لنا سوى مناهج ونظريات في التفكير الذي لا يقود الوصول الى عقل تجريبي علمي. إنه من الواضح أن راسل اراد أن تكون الفلسفة علما تجريبيا يقودها العلم ولا تقوده هي. ومبحث فلسفة اللغة كان حاضرا في تيار الفلسفة التحليلية بشرط اعتمادها الرياضيات والمنطق تحديدا.

 راسل وايتهيد كلاهما عالمان رياضيان، وأرادا عمل توليفة فلسفية تحليلية منطقية قوامها الرياضيات والمنطق وتحليل معنى اللغة. ووصل الحد براسل أن اوصى فينجشتين في جعل رسالته التي أشرف عليها راسل تقوم على تأصيل المنحى اللغوي بمنطق الرياضيات كما سبق اوصى فريجة بذلك. وحين عجزت وصاية راسل تحقيق مبتغاها فما كان من اعضاء حلقة اكسفورد الا الانفضاض عن راسل وايتهيد اللذين بقيا متمسكين بأهمية جعل منطق اللغة يجاري منطق الرياضيات. فانشق جورج مور ومعه فينجشتين في تغليبهما منطق تحليل اللغة التجريبية يبتعد عن تعقيدات منطق الرياضيات وطالبا بالعودة الى ضرورة توظيف لغة الحياة اليومية التي تعيشها الناس أن تكون لغة فلسفة المستقبل وبخلافه تسير الفلسفة نحو حتفها.

س50: أ. مراد غريبي: ما حقيقة الخلاف بين ديفيد هيوم وراسل؟

ج50: أ. علي محمد اليوسف: ديفيد هيوم ذهب نحو علم النفس معتبرا أن ليس هناك معرفة مباشرة (للأنا)، بالمعنى الفلسفي الذي نفهمه أنه وعي الذات، وإنما الموجود هو النفس البشرية وليس الذات التي يشكك هيوم بوجودها، معتبرا النفس هي (حزمة من الافكار) المستمدة من معطيات الحواس، وقام بتطوير فكرته هذه في كتابه (تحليل العقل) الذي لم يكتف به نكرانه الذات الانسانية بل ذهب أبعد من ذلك قوله (لا يوجد شيء اسمه المادة كما ولا يوجد شيء اسمه العقل). وبتعبير فلسفي يعتبر هيوم (أن ما يمّيز ماهو نفسي هو ذاتيته، وهذه الذاتية تعني ماديا تجميع معطيات الحواس وتركزّها في مكان واحد هو الدماغ).

لكن من المهم أن راسل ينكر على هيوم (وجود نفسي على هيئة جوهر قائم بذاته) ومع ذلك فهو يقر لهيوم (ان الظواهر النفسية أكثر حقيقية من المادة لأننا لا نتوصل للمادة بادراك مباشر لها مطلقا). وانما على شكل انطباعات حسية وهو ما يدعو له هيوم. ولإجراء مقارنة توضيحية بين هيوم وراسل:

1- من وجهة نظر هيوم وراسل أنه لا يسبق الوجود الانساني ولا الوجود الطبيعي قاطبة الافكار المستمدة من معطيات الادراك الحسي للأشياء في وجودها المادي المستقل الذي ينكران ادراكنا له بغير احساسات الحواس فقط، كما لا يوجد هناك عقل مستقبل لمجموع معطيات الحواس بما أطلقا عليه حزمة الافكار وتنظيمها عقليا، وإنما الموجود هو حزمة الافكار ليست المستمدة عن وجود الاشياء السابق عليها في العالم الخارجي بل حزمة الافكار في الدماغ التي بضوئها نستدل على وجود الاشياء من عدمه. ضاربين عرض الحائط حقيقة أنه لا وجود لفكر لا يتقدم عليه ويسبقه وجود.

2- من وجهة أخرى نجد أن هيوم وراسل اللذين يدعوان اعتماد العقل الفلسفي تجريبيا كما في العلوم الطبيعية والرياضيات، يتوسلان اللوغوس فلسفيا في تدعيم دعوتهم الى جعله مبحثا عقليا تحليليا علميا خارج مختبرات العلوم، وليس العكس المطلوب في اعتماد معطيات العلوم الطبيعية في الوصول الى قناعات فلسفية تأخذ من العلم تجريبيته التحليلية بما ينتشل مباحث الفلسفة من الدوران في فلك معرفة الوجود بوسائل تجريدية تستبعد العلم التحليلي والتجريبي. باختصار العبارة الموجزة أن محاولة جعل مباحث الفلسفة (علما) لا يتم الا بمنطق العلم الذي لا يلغي قدرات العقل العلمي البرهنة عليه فلسفيا. أما محاولة ان تكون الفلسفة علما يقود غيره من العلوم الطبيعية فمسألة ليس سهلا تمريرها.

س51: أ. مراد غريبي: ماذا يعني لك الحلول الصوفي بالذات الالهية؟

ج51: أ. علي محمد اليوسف: الانسان كينونة وجودية تمتلك وجودها الظاهراتي والعقلي وماهيتها التي هي مجموع صفاتها وكيفياتها كإنسان، تجعل منه هوية جوهرية ماهوية مستقلة. وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من أجل ذاته، أي بين الخالق الالهي والمخلوق الانساني كما تدّعيه الصوفية في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها الانسان هي الخالق، والاخرى مادية تتمايز ذاتيا مع غيرها بقوانين الطبيعة زمكانيا وهي الانسان، ولا تلتقي كيفية الانسان المادية الا مع كيفيات مادية تتجانس معها في كل او بعض الصفات والماهيات. أما الحلول الصوفي على مستوى من(النورانية) الالهية التي لا يستطيع العقل إدراكها فهي من المحالات في التحقق، إعدام الشعور في التجربة الصوفية لدى الانسان لا يمنحه انتقالة نورانية خارج واقعيته المادية. لا يجب تكافؤ محدودية عقل الانسان بلا نهائية الذات الالهية التي لا يمكن الالتقاء بها.

س52: أ. مراد غريبي: هل تجد فضاءا مشتركا يجمع الفلسفة بالشعر وما علاقة الخيال بتعبير اللغة؟

ج52: أ. علي محمد اليوسف: لغة الخيال هي قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر، باختلاف ان لغة الفلسفة تخضع لسطوة العقل المنطقي في لجم الخيال ان يكون تهويميا، بينما الشعر يعيش ويخضع لمرجعية تنظيم اللغة وتنظيم خيال اللاشعور جماليا فنيا أيضا بعد برودة عاطفة الشعر وبرودة تهويم اللاشعور العقلي في تدوين النص مسموعا او مكتوبا او جماليا ممثلا في نص شعري او في لوحة فنية وفي جميع انواع التشكيل الفني التي تكون اللغة فيها في حالة كمون يستنطقها المتلقي المشاهد.

عبقرية اللغة في الشعر أو في الرسم سابقة على عبقرية الفكر الذي تعبّر عنه، رغم أن انتاجية العقل للفكر سابق على انتاجية الذات للغة، وكلاهما حوار غير معلن لشيء واحد، ويفترقان (اللغة والفكر) عن الخيال العقلي، والتمايز الدلالي بينها أيضا، متى ما اصبحت الفكرة واقعا ماديا معبرا عنه لغويا يدركه الاخرون في عالم الاشياء. الانسان ذات وموضوع يتبادلان الادراك بالتناوب. فالإنسان يدرك الموضوع في وعيه العقلي او الخيالي. والانسان يدرك ذاته بذاته عقليا ايضا. والموضوع لا يشترط ان يدرك ذاته الا بشرط علاقته بمن يدركه وهو الانسان، إذا كان وعي الذات ووعي الموضوع من نفس النوع. بمعنى أن يدرك الانسان ذات غيره من البشر لا ذات غيره من الكائنات في الطبيعة والعالم الخارجي. فهنا لا يكون الادراك بين الذات والموضوع متبادلا، بمعنى أن الانسان في هذه الحالة يدرك موضوعه، لكن موضوعه لا يدرك الانسان ولا وعيه به كموضوع. بمختصر العبارة ماهية أو جوهر الانسان موضوعا ذاتيا يدركه صاحبه فقط، ولا يدرك انسان ماهية او جوهر انسان آخر من نوعه.2939 علي محمد اليوسف

س53: أ. مراد غريبي: فلسفة العقل بدأها ديكارت إشكالية وتناولها كلا من فيلسوف العقل الأسكتلندي ديفيد هيوم لتستقر بين الامريكي ريتشارد رورتي وجلبرت رايل الانجليزي هل لك توضيح بعض جوانب هذه الاشكالية؟

ج53: أ. علي محمد اليوسف: أبدأ بعبارة غريبة متشددة كان بدأها ديفيد هيوم قوله لا وجود لشيء يدعى عقل، ليتلقفها بعده الفيلسوف جلبرت رايل في مقولته لا وجود لما يسمى عقلا ابدا. بحسب الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي 1931- 2007 يختلف ما هو عقلي عما هو فيزيائي، وهذا الاختلاف كان بدأه ديكارت في تقسيمه العقل نفسه الى فيزيائي مرة والى غير فيزيائي تارة أخرى، فالعقلي ويقصد به الانسان هو ما يعقل ذاته ويعقل موجودات العالم الخارجي، ولا يشترط أن يكون الفيزيائي (المادي) يمتلك هذه الصفة الاعجازية الادراكية التي يمتلكها العقل في ماهية انه جوهر مفكر فقط.. إذا جاز لنا التوضيح أكثر فالعقل بمعنى المخ مسؤول عن جسم الانسان، اما العقل غير العضوي بايولوجيا فهو تجريد لغوي ماهيته التفكير في ادراكه العالم الخارجي.

الطبيعة بكل موجوداتها وتكويناتها لا تمتلك ميزات العقل الانساني في وعيها لذاتها ولا وعيها بعض تكويناتها المتعايشة معها ولا وعيها بعض القوانين الفيزيائية التي تحكمها، فالطبيعة تدرك بموجوداتها عقليا بالإنسان كوعي والموجودات الاخرى من الكائنات التي تمتلك عقلا كالحيوانات التي يكون ادراكها الطبيعة محدودا جدا بالقياس لإدراك عقل الانسان الذكي في وعيه المستقبل.

وبعض كائنات الطبيعة كالحيوانات تمتلك عقلا لكنه يختلف عن عقل الانسان بصفات عديدة وهي تتجاوز ملكة العقل الانساني في وعي ذاته وموجودات الطبيعة من غير نوعه، وعقل الانسان عقل ذكي على مستوى إحساسه بالزمن، وكذلك عقل الانسان يمتلك ابتكارا واختراعا هو لغة تجمع النوع الواحد من جنسه. وجميع هذه الصفات وغيرها هي عقل الانسان في جوهره المادي. وليس في جوهره اللافيزيائي الذي حدده ديكارت العقل جوهر خالد بعد فناء الجسم ماهيته التفكير فقط في التعبير عن الوجود واكتساب المعرفة.

ولم يكن ديكارت يشغله أكثر من أن يكون العقل كتكوين فيزيائي بيولوجي أو غير فيزيائي لا بيولوجي منفصل عن الجسم، بحسب حاجته التعبير عما يحققه العقل من اهداف يضعها ديكارت قبل وجودها الواقعي ورغبة الادراك العقلي لها.

وبقدر اهتمامه الذي كان يحاول فيه التوفيق التلفيقي بين وظيفة العقل المنفصلة عن الجسم كجوهر ماهيته توليد الافكار لطرح وجهة نظره التي يقرن بها العقل مع النفس كجوهرين غير فيزيائيين خالدين في انعزالهما عن الجسم، وأراد ديكارت بذلك المراوغة في تحييد العقل عن التداخل المتقاطع مع لاهوت الدين بنفس أهميته ألا يتقاطع العقل كفلسفة مع العلم.

 لم يكن ديكارت الفيلسوف الوحيد الذي لا يميز بين العقل العضوي الفيزيائي الذي هو المخ بتكويناته، وبين العقل لوغوس ماهيته التفكير الذي اسماه غير فيزيائي لأنه لا يدرك بغير دلالة غيره من موضوعات، وهنا العقل المقصود غير الفيزيائي اللامادي هو نوس nose   تقتصر ماهيته على التفكير وتوليد الافكار المجردة التي لا وصاية للجسم عليها لكن وصاية العقل العضوي يبقى ساري المفعول عليها.. كون تجريد خلق الافكار الذهنية لا تأخذ مصداقية معناها من غير وصاية العقل العضوي عليها.

صحيح أن التفكير واللغة هما موضوعان تجريديان لكنهما عاجزان عن التفكير واختراع اللغة في التعبير عن الاشياء من دون وصاية دماغ الانسان العقلي عليهما. وبغير هذا الترابط لا يبقى هناك معنى لتفكير ولا يبقى هناك معنى للغة من دون وصاية العقل عليهما. فمصدر التفكير ليس اللغة وإنما هو العقل. فالتفكير توسيط بين العقل واللغة.

نفهم من التفريق الذي طرحه ريتشارد رورتي بين الفيزيائي والعقلي أنه أراد أسقاط هيمنة مبحث الابستمولوجيا المعرفة كأولوية اهتمام العقل بها باعتبارها الفلسفة الاولى التي اشغلت فلاسفة القرن السابع عشر معتبرين مهمة الفلسفة تفسير كيف يمكننا الحصول على المعرفة، وخلاف ديكارت ليس في عدم نكرانه وبإصرار عنيد ان مهمة العقل والفلسفة تزويدنا بالمعارف لكنه  أراد تحييد العقل من المساس بما يراه الدين صحيحا حتى لو عارضه العقل برؤاه... العقل في تمسكه بالأبستمولوجيا كهدف ومبحث فلسفي سابق على كل ما يشغل اهتمامات الفلاسفة في عصره وما قبله.

ولم يكن ديكارت يجرؤ البوح العلني أن وسيلة تحقيق وتحصيل المعرفة في عصره لا يكون بغير توسيط العقل ليس كتجريد لغوي غير فيزيائي وإنما كجوهر فيزيائي يتعالق بموجود تكوين بايولوجيا جسم الانسان بالحياة والفناء.

والسبب في الفرق بين ديكارت ورورتي هو المدة الزمنية التي تقارب ثلاثة قرون تفصل بينهما في اختلاف فلسفتيهما في مراكمة مفاهيم فلسفية جديدة.. في مقدمتها التحول اللغوي وفلسفة اللغة.

فديكارت الذي قال إن مهمة الفلسفة المركزية الاولى هي تحصيل المعرفة أبستمولوجيا، جاء رورتي معتبرا فلسفة العقل واللغة هي ما يتوجب العناية والاهتمام بهما في القرن العشرين والعقدين اللذين تلاه. ولم يبق تلك الاهمية لخدعة ديكارت حين أضل الفلسفة بمفهوم الابستمولوجيا الفلسفة الاولى منذ القرن السابع عشر بحسب إدانة فلاسفة اللغة لديكارت.

فكلاهما ديكارت ورورتي لا يختلفان بأن ماهو فيزيائي هو الذي تنطبق عليه قوانين الادراكات المادية، والعقلي هو الذي يدرك كل ماهو فيزيائي بالفكر المجرد الذي لا يسعى تحقيق وجوده الفيزيائي المادي على حساب التفريط بأهمية تحولات فلسفة العقل من فلسفة تعنى بمركزية تحصيل المعرفة، الى فلسفة عقلية تقوم على تفسير العالم بفلسفة اللغة وليس بقوانين تأتي من خارج نظامها اللغوي الخاص المستقل بها كبنية نسقية لا ترتبط بالعالم الخارجي.

ما فعله رورتي فلسفيا على مستوى كبير من الأهمية التي كانت آراؤه التأويلية نسخة كاربونية محسنة لما قام به بول ريكور والتي انا ادينها وهي:

1) إلغائه مركزية العقل كمصدر للمعرفة،

2) اعتباره نظام فلسفة اللغة هو نظام التوازي مع الواقع لا يقاطعه ولا يحاول التداخل التفسيري معه.

3) اللغة نظام لا تحكمه القوانين التي تحكم العالم الخارجي، فاللغة نظام مستقل داخل منظومة قواعده في النحو والاستعارة والمجاز وفائض المعنى في معرفته تفسير العالم بسلطة اللغة ذاتها وليس بسلطة قوانين الطبيعة الثابتة منها والوضعية ايضا التي اخترعها الانسان معرفيا علميا.. وبهذا غادرت اللغة خاصية التعبير التجريدي عن الاشياء الى خاصية امتلاكها نسقا بنيويا مستقلا بها وحدها.

في التحول اللغوي الذي أرسى فلاسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى مفاهيمه الفلسفية بالقرن العشرين لم تبق هناك حاجة بعد استنفاد العقل لمزاياه الموروثة التي أسقطتها عنه فلسفة ما بعد الحداثة بتنوعاتها الفلسفية بدءا من البنيوية والتفكيكية والتأويلية والعدمية والعبثية، الى وجوب الابتعاد عن قياس فاعلية العقل بعلاقته التواشجية الجدلية عبر القرون مع الواقع المادي... حينما كان الفرد هو مركز استقطاب دوران الفلسفة هو الانسان كذات وكينونة وماهية وصفات في العصور التي حكمت الفلسفة منذ ما قبل سقراط والى نهاية القرن السابع عشر عصر فلسفة ديكارت العلمية.. التي لم تفارق قدسية الذات الانسانية لكنها أي الديكارتية فتحت أبواب الفلسفة على العلم بتكامل مع فرانسيس بيكون.

س54: أ. مراد غريبي: يوجد عبارة تنسب لديكارت من فزعه الشديد من رجال الدين (يسلم من يعش بالظل) وهرب الى هولندا متخفيا حتى أواخر أيام حياته، ما حقيقة الموقف التلفيقي الذي ابتغاه ديكارت في محاولته زواج اللاهوت بالدين زواجا كاثوليكيا؟

ج54: أ. علي محمد اليوسف: في عصر ديكارت حاولت الفلسفة الاهتمام بالمعرفة (الابستمولوجيا) في تقريبها الشديد من دعم العلم وتحصيل المعرفة الإبستمولوجية باشتراط مهادنة رجال الدين وتحييد اللاهوت والكنيسة لأقصى درجات التحفظ من الاصطدام المباشر بهم.

أي أراد ديكارت تلفيق جمع متضادين هما العلم واللاهوت الكنسي اللذين لا تربطهما علاقة جدلية معرفية، ولا تربطهما علاقة عقلية سوسيولوجية هي بمصطلح اليوم (علمانية) تفصل شؤون الحياة ومنجزات العلم من سطوة رجال الدين الذين استفحل امرهم جدا في عصر ديكارت. ولم يجرؤ ديكارت التصريح بوجوب فصل شؤون الحياة وتجارب العلم عن وصاية رجال الدين واللاهوت ليس لأن مصطلح العلمانية لم يكن معروفا عصر ذاك وإنما من ثبات الاتهام بالزندقة والهرطقة وملاحقة ما يسمى لجان التفتيش سيئة الصيت التي تطال كل من يجرؤ التطاول على وصاية لاهوت الدين وما يقوله رجال الدين على تجاوز حرمة فصل العلم عن وصاية تعاليم رجال الكنيسة ولم يكن دقة المصطلح (العلمانية) واردا الذي كان تبلوره النهائي تم في عام 1905 في فرنسا كتشريع قانوني ملزم بعد رسوخ مفاهيم الثورة الفرنسية 1789...

هذا التضاد بين العلم والدين اراد ديكارت حسمه بالتلفيق والدوران حول المشكلة دونما المساس بتغيير أي شيء بين القطبين المتنافسين أكثر من انحيازه نحو العلم بمهادنة رجال اللاهوت الديني، وقلبت الكنيسة المعادلة في تغليب أهمية مركزية الدين كفلسفة اولى بدلا من العلم والمعرفة مبحث (الابستمولوجيا) الذي ساد الفلسفة طيلة مدة القرون الوسطي الاوربية، الى وقت مجيء عصر الانوار الذي سبقته النهضة والاصلاح الديني في وجوب إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، بمعنى فصل الدين عن العلم وحياة الانسان وحريته الاعتقادية بما يجده ملائما له بحياته. وهكذا بقي المتضادان لا نقل متعايشان بل بقيا في استقلالية أحدهما بعيدا عن التدخل بشؤون الاخر واستقر هذا الاتفاق المعلن الى يومنا هذا بالتوافق بين الطرفين.. مع دخول عصر الحرية والمساواة والانتخابات وحقوق الانسان في مغادرة جحيم القرون الوسطى الاوربية وسلطة لجان التفتيش بوحشيتها المروّعة.

س55: أ. مراد غريبي: ماذا بقي من العقل الفلسفي اليوم بعد ثورة المعلوماتية التي تسيدها العلم التجريبي من جهة، وهيمنة فلسفة اللغة على مباحث الفلسفة جميعها بلا استثناء؟

ج55: أ. علي محمد اليوسف: أصبح العقل اليوم لا يستمد مقوماته المادية بمعيارية المقايسة التداخلية مع الواقع المادي ولا مع الانسان كعالم مستقل بذاته كهوية ماهوية كان قائما وأنهار كقيمة عليا بتقادم تراجع هيمنة المعرفة عن ملازمتها له، لذا أصبح في فلسفة العقل واللغة اليوم الانسان والابستمولوجيا والعقل من مخلفات الميتافيزيقا التي خرجت عليها فلسفة ما بعد الحداثة، أكثرها تطرفا فلسفة دريدا التفكيكية بضراوة شديدة غير معهودة سابقا على معاداة العقل والذات والابستمولوجيا ليس في سبق يحسب لها بل في موروث مقتبس افادت منه جاءت به فلسفة اللغة التي تبلورت بشكل تنظيري فلسفي على ايادي اقطاب البنيوية فريجة ودي سوسير و شتراوس ومن بعدهما حلقتي فيّنا واكسفورد في التحليلية والمنطقية الوضعية وصولا تشعبات فلسفة اللغة الى تيارات متنوعة لا يمكن حصر فلاسفتها ورؤاهم المستمدة جميعا من الفلسفة الأم الاولى فلسفة اللغة والمعنى التي هيمنت كفلسفة اولى بلا منازع منذ منتصف القرن العشرين.

 وأصبح يراد المطلوب من فلسفة اللغة اليوم التحرر من تداخلها مع فلسفة العقل الخالصة في تمجيدها وتبنيها النزعة العلمية التي بدأها بيكون وديكارت في تكريسهما لها على وجوب أن تكون المعرفة هي جوهر تلاقي العقل مع العلم الطبيعي. وذهب ديكارت الى نوع من الموائمة التي تجعل العقل في تكامله المعرفي مع العلم والدين تلفيقية ساذجة. على العكس تماما مع ما حصل في فلسفة العقل واللغة اليوم في ابتعادها عن تعالقها مع العلم وكل من الابستمولوجيا والدين. واشتغلوا على فلسفة العقل التي لا توازي فقط المعرفة بل التقاطع معها كما في اقطاب فلاسفة التأويلية، في تحقيق مهادنة التوافق مع اللغة في تياراتها المتعددة التي يحتويها التحول اللغوي وفي نظرية فائض المعنى الذي تدخّره اللغة على الدوام في تعدد القراءات الجديدة وتأويل النص في البحث عما وراء الكلمات في غير المباح عنه. كما اعتمدها رولان بارت، فوكو، وسوسير في البنيوية وعمق هذا التوجه بعدهما بول ريكور في التأويلية (الهورمنطيقا)، لتجد فلسفة اللغة كبنية تجريدية لا علاقة لها بالعقل والانسان اوج الاهتمام بها في تفكيكية جاك دريدا.

العقل في فلسفة اللغة اليوم تراجع الى ضرورة الاكتفاء الذاتي القائم على ترابطه الفيزيائي بالجسم، ولم يعد تنطبق عليه مقولة ديكارت التي فقدت بريقها العقل جوهر لا فيزيائي ماهيته التفكير وحتميته الخلود في ملازمته خلود النفس. هذا التفريق الذي كان تطرق له ديكارت بتردد خجول بين أن يكون العقل لا فيزيائي أكثر منه فيزيائيا ما ترتب عليه انتشار مقولة ديكارت أن وسيلتنا الوحيدة في معرفة أنفسنا والعالم والطبيعة من حولنا هو العقل الذي لا يقاطع ولا يتداخل مع ما هو ديني. وكان الفارق الزمني بينه وبين التقائه بفلسفة فرانسيس بيكون لا يتجاوز بضعة عقود في توجههما تتويج العقل أثمن قيمة في معرفتنا العالم وتحقيق تقدمنا العلمي فيه. ودام هذا الاعتقاد الفلسفي راسخا قرونا طويلة الى أن كنسته تماما فلسفة العقل ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى في الفضاء الرحب الذي فتحته ما بعد الحداثة أن من حقك أن تقول كل شيء ولكن ليس من حقك مصادرة أي شيء لغيرك هو حر في امتلاكه أو الايمان به يخالفك الرأي فيه ...

هذه الارضية مهدت لريتشارد رورتي وعديدين من فلاسفة أمريكان مثل جومسكي، سيرل، كواين، وسيلارز، وسانتيانا وغيرهم من اقطاب فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي الى تنحيتهم العقل مصدرا للمعرفة، بدلا من المعرفة التائهة التي باتت تبحث عن وسيلة التعبير عن ذاتيتها في تغييب سندها الصلب العقل الذي أسقطته ما بعد الحداثة معتبرة إياه ميتافيزيقا تجاوزها الزمن من منزلة الاحتكام والمرجعية التي يقاس الصواب والحقيقي بمعيارها..

س56: أ. مراد غريبي: أين مكانة فلسفة اللغة من العقل؟

ج56: أ. علي محمد اليوسف: من المثير للاستغراب اننا إذا ما تماشينا مع نظرية إعدام العقل وسيلة معرفية يمكن الوثوق بها، فإننا بقصد نعيه ندركه أو بقصد لا نعيه ولا ندركه نضع (العلم) في قفص الاتهام بتهمة تضليله العقل، أو تضليل العقل للعلم لا فرق... وبهذا نجد أقصر السبل في مصادرة العقل واستهدافه في استبعاده وانفكاكه عن الابستمولوجيا التي أخلت موقعها كفلسفة أولى لازمت العقل قرونا طويلة، وكذلك استبعاد العقل عن تعالقه بكل ما هو واقعي في تعطيلهما معا وظيفة كل منهما الاخر.

لم تكن فلسفة العقل واللغة تقوم على مكنة وقدرة العقل فهم العالم الذي وصل قبل نهايته الى طريق مسدود في ما بعد الحداثة، لذا نجد فلسفة اللغة اعتمدت العقل بما لا يفقده آخر معاقله في التجريد في وقت لا يكون العقل ينتزع من اللغة طوباويتها التي تدور حول مركزية تأويل النص اللغوي في تعدد القراءات التي يتمحور دورانها حول خاصية اللغة في ملاحقة فائض المعنى الذي تدّخره اللغة بما هي لغة قبل انهمامها أن تكون اللغة وسيلة العقل في فهم العالم وتفسيره والتعبير عنه. وهذه الميزة اللغوية النظامية تفتقدها صرامة العقل الذي يرى الواقع بعيدا جدا عن اهتمامات الفلسفة اللغوية المعاصرة.. وبقي تجريد اللغة في فلسفة اللغة هو عملية التفكير اللاعقلي في تنحية واستبعاد الواقع عن تعبيرات اللغة عنه بما هو معرفة وليس بما هو وجود. بمعنى على خلاف أن تجريد اللغة هو تعبير العقل عن الواقع نجد فلسفة اللغة رأت في تجريد اللغة الاهتمام بنظام نسقي خاص بها بعيدا عن أي التزام آخر، ولو استطاعت فلسفة اللغة الغاء التوظيف التواصلي كخاصية سوسيولوجية لغوية لما قصّرت المطالبة به في القفز من فوقه في إعدامها تعالق اللغة بالواقع الاجتماعي على الخصوص. وعديد من فلاسفة اللغة ذهبوا بهذا المعنى في استهجانهم أن تكون اللغة توسيط فهم الواقع التواصلي والتداخل به. على حساب بحث اللغة تأسيس نظام لغوي خاص بها بعيدا عن الواقع الاجتماعي والطبيعي. ولعل بول ريكور وفلاسفة المنهج التأويلي بعده ومن عاصروه ذهبوا هذا المذهب المتطرف.

س57: أ. مراد غريبي: قرأت أنكم لا تؤمنون بوجود جدل تاريخي يحكم المادية التاريخية لا ماركسيا ولا هيجليا، كيف توضح لنا هذه الانتقالة الفكرية لديكم؟

ج57: أ. علي محمد اليوسف: نعم في الفترة الاخيرة كان لي رأيا مفاده كلا المنهجين الجدل المثالي والجدل الماركسي لا يمتلكان التحققات العلمية التجريبية الحادث حصولها على صعيدي المادة والتاريخ أو التحققات غير الفلسفية من عدم حدوثها. فالحتمية الضرورة هي تصورات نظرية فلسفية وأحكام تلزم التاريخ بها كقانون وهي ليست من حركة التاريخ بشيء. ليس مهما بنظري البحث عن هل التطور الذي يحكم الحياة البشرية موزّعة على تطور الظواهر المادية وتطور مسار التاريخ تتم في منهج مثالي إعتمده هيجل أو منهج مادي إعتمده ماركس بقدر أهمية الجواب على التساؤل: هل الجدل حقيقة قائمة تاريخيا حصلت وتحصل أم هي أوهام نظرية ابتدعتها ايديولوجيا اليسار والفلسفتين المثالية والمادية على السواء؟

من المسائل العديدة الواجب الوقوف عندها هي كيف نجزم حصول الجدل بقوانينه الديالكتيكية الثابتة التي قادت التطور التاريخي عبر العصور، خير مثال يعزز أن قوانين الجدل تبقى تقديرات نظرية تتطلب منهج التحقق الحصولي المادي لها هو أن الرأسمالية تطورت ووصلت مرحلة العولمة في نهاية التاريخ ولم تعتبر الجدل سوى منهج غير واقعي وهمي يهم المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي القديم.

وليس معنى هذا النفي الاختلافي المتضاد أن النظام الرأسمالي يمتلك نظرية منهجية للتاريخ قادت الى مراحل الديمقراطية الليبرالية وتحسين ظروف العمل حيث كانت تنبؤات هربرت ماركوزا وغيره من فلاسفة أنه لم يعد هناك تنازع مصالح طبقات بالنظم الرأسمالية تتصارع بين مصالح الطبقة العمالية وطبقة الرأسماليين بعد تحديد الاجور وساعات العمل وتامين الضمان الصحي والتقاعد للعمال والشغيلة وغيرها من مكاسب وامتيازات اذابت جبل الجليد الفاصل بين الطبقات الكادحة المحرومة من الحياة الكريمة والطبقات الرأسمالية التي تمتلك كل رفاهية الحياة وتوريثها لأبنائها من بعدها.

س58: أ. مراد غريبي: كيف ترى التطور التاريخي خارج مفهوم الجدل المثالي والجدل المادي؟ هل التناقض الجدلي وهم حقيقة فلسفية فقط كما عبرت عن ذلك؟

ج58: أ. علي محمد اليوسف: ما ارغب تأكيده هنا أن التاريخ مجموعة من المتلاحقات العشوائية القائمة على الفعل ورد الفعل وأن التاريخ لا يتقبل منهجا يستوعبه في توالي الصدف الطارئة غير المتوقعة التي تحرف مساره بما لا يستطيع المنهج إحتوائه ومعالجته. وقبل طرح تفاصيل وجهة نظري أن التاريخ غير غائي ولا يستوعبه منهج ولا تحكمه ضرورة نظرية أمهّد قليلا بالتالي بعد أسطر.

يرى هيجل أن الواقع في حقيقته الوجودية (جدليا) لأن العقل نفسه الذي يدركه ذو طبيعة جدلية – هنا يقصد هيجل بالعقل هو الفكر - بخلافه ارجع ماركس جدلية الفكر الى جدلية الواقع الذي نعيش فيه.. هذا الخطأ الذي وقع به هيجل إعتباره جدل الواقع قائم لأن العقل ذاته ذو طبيعة جدلية فهو أخذ بسببية هيوم على صعيد جدل الفكر في تجريديته غير الانفصالية عن جدل الواقع. الشيء الاكثر اهمية في خطأ هيجل أن جدل الواقع لا يداخل جدل الفكر. وهذا ما شكل ركيزة غاية بالأهمية إعتمدها ماركس إعتباره الجدل يتم بموضوعية واقعية مستقلة لا علاقة لها برغائب الانسان ولا قدرة لجدل الفكر تسيير جدل الواقع ولا جدل التاريخ.

بمعنى في حال تسليمنا أن الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن وعي الانسان به وعن إدراكه تطبيقيا وليس تنظيرا ايديولوجيا – فلسفيا.

لتوضيح هذا الاختلاف الذي تم وصفه بالاختلاف المنهجي المثالي بالضد من المنهج المادي حول الجدل أو الديالكتيك يرى هيجل فيه أن الوجود الواقعي – الاجتماعي إنما يستمد (وجوده) من الذات المدركة له الذات العارفة. هذا منتهى التطرف المثالي ليس في إنكاره الوجود خارج إدراك العقل وانما إنكاره لأي نوع من ديالكتيك جدلي يحصل خارج تفكير الانسان لا في المادة ولا في مسار التاريخ.

خطأ هيجل في هذا التعبير هو في خلطه بين إدراك الشيء في موجوديته الطبيعية المستقلة عن إدراك موجوديته الجدلية مع الذات التي تدركه وبغير ذلك أي بغير وجود الذات المدركة لا يكون هناك للأشياء وجودا مستقلا سواء أدركته الذات أم لم تدركه حسب مثالية هيجل ومن بعده. الوجود الشيئي بالواقع لا يحدده الادراك العقلي له.

الذات لا تدخل جدلا ديالكتيكيا مع الواقع بسبب انتفاء المجانسة النوعية بينهما، وحتى لو قلنا أن الفكر يدخل بجدل ديالكتيكي مع المادة فهذا لا يغّير من حقيقة الامر شيئا في إنعدام المجانسة النوعية مع المادة في وحدة الماهية والصفات بينهما. أي ماهية وصفات الفكر لا تلتقي في مجانسة نوعية ماهية وصفات المادة وهذا بحد ذاته سببا كافيا أن الفكر لا يدخل في جدل ديالكتيكي لينتج لنا ظاهرة مستحدثة جديدة تسمى المركب الثالث. الحقيقة أن علاقة الفكر بالمادة علاقة تكامل معرفي تخارجي يتوسطهما التأثير المتبادل بينهما. الفكر يؤثر بتطور المادة، والمادة تؤثر بتطور الفكر ايضا. وليس هناك علاقة جدلية تربطهما ببعض.

من هذا الخطأ الفلسفي الذي إعتبره ماركس مثاليا لا حقيقة له في الواقع الذي يراه ماركس وجودا موضوعيا مستقلا ولا يستمد موجوديته من ادراكية الذات له. وإذا ما ترجمت هذه المقولة اسقاطيا على حركة التطور التاريخي، نجد ماركس محقا قوله "وعي الانسان لا يخلق الواقع، بل الواقع يصنع الوعي".

ويعتبر بعض الفلاسفة والمفكرين ان مقولة ماركس تلك كانت ثورة لا تقل اهمية وتأثيرا عن ثورات كل من سقراط، بيكون، هيجل. ومن السخرية أن نجد المثاليين ينكرون هذه الحقيقة قولهم لا وجود مادي خارجي لا يدركه العقل. الملاحظة التي برأيي تم غفلها أن ماركس لم يقل وعي الانسان يخلق جدل الواقع. فالجدل في حال التحقق من حدوثه على صعيدي المادة والتاريخ فهو جدل وقانون طبيعي يعمل بمعزل عن وعي الانسان له وبمعزل عن تلبية رغائبه. كما أن عبارة هيجل الجدل الديالكتيكي حاصل لأن طبيعة العقل جدلية، فهي عبارة لا معنى لها أكبر من خطأ الفكر يصنع الواقع ويوجده.

س59: أ. مراد غريبي: في ختام هذا المحور، ماهو مجمل رأيكم فيما تطرقتم له بالإجابة عن الاسئلة السابقة حول مفهومكم ان الجدل ليس قانونا طبيعيا يحكم المادة والتاريخ ويعمل بمعزل عن ارادة الانسان كما تذهب له الماركسية؟

ج59: أ. علي محمد اليوسف: أجمل رأيي بالتالي:

أصبح اليوم مراجعة دراسة كيف تطور التاريخ ليس مهما، اسبقية المادة على الفكر أو بالعكس؟ بل الاهم مراجعتنا هل جدل المادية التاريخية هو التفسير العلمي الوحيد الذي نادت به الماركسية صحيحا؟ لا توجد براهين ثبوتية لا على صعيد المادة ولا على صعيد التطور التاريخي تثبت لنا أن قوانين المادية التاريخية الكلاسيكية الثلاث التي وضعها ماركس وانجلز (قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول الكم الى كيفيات، والثالث قانون نفي النفي) هي قوانين جدل اكتسب علميته بالتجربة الميدانية الحقيقية اجتماعيا تاريخيا وعلى ارض الواقع بالحياة التي نعيشها وعاشها آخرون من قبلنا على مر العصور. ربما تكون حقيقة تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي صحيحا لكنه لا يكون ولا يمتلك بمفرده إحداث جدل على مستوى التاريخ يمكن التحقق منه، انما تصح هذه التحولات من كمية الى كيفية أن تكون واحدة من قوانين الطبيعة التي يدركها الانسان بمفهوم السبب والنتيجة وحدوثها يحصل ليس في توليد جدلي بل في توليد (سببي).

الجدل المثالي او المادي على السواء الذي بحسب المنادين به والادعياء له والذي بضوئه نعرف تطورات المادة وتطورات التاريخ لا يقوم على اساس من تناقض نوعي تجانسي في الماهية والصفات يجمعهما داخل الظاهرة الواحدة. فانت لكي تجد جدلا ديالكتيكيا يجمع بين الفكر والمادة في تعالقهما التخارجي لا بد من اشتراكهما في مجانسة نوعية واحدة تشمل وحدة الماهية مع وحدة الصفات لكليهما في تعالق جدلي يجمع نقيضين متضادين ينتج عنهما استحداث الظاهرة الجديدة أو ما يسمى المركب الثالث.

فالواقع بكل موجوداته وتنوعاته الذي يشكل مصدرا للوعي يمتلك مجانسة نوعية في كل ظاهرة فيه تختلف عن غيرها بعيدا عن مدركات الفكر لهذا التناقض الداخلي في وحدة المجانسة النوعية. وهذه المجانسة النوعية المشتركة بين متضادين تجمعهما ظاهرة واحدة يصبح حصول جدل داخلي فيها مستقل عن وعي الانسان له وادراكه واردا حتى في حال عدم إدراك الحصول الميداني جدليا من قبل الانسان.

بمعنى كل ظاهرة لكي يحصل جدلا داخلها منفردة لوحدها لا بد أن تمتلك النقيضين المتضادين فيها مجانسة نوعية واحدة التي هي الماهية والصفات التي تجمعهما في وحدة كليّة، وعندما لا يمتلك الواقع بظواهره المجانسة النوعية في داخل ظواهره لا يحصل جدلا داخلها بمعزل عن الفكر أو بتداخل تخارجي للفكر معه.

الشيء الذي أراه مهما ألا نقع في خطأ إعتبار الجدل في المادة مرادفا لا فرق بينه وبين إعتبار علاقة الفكر بالمادة علاقة (معرفية) تكاملية وليست جدلا ديالكتيكيا يقود بالحتم استحداث ظاهرة جديدة أو مركب ثالث.

ليس مهما صحة أو عدم صحة مقولة هيجل أن الوجود ذاتي يستمد موجوديته من الذات المدركة أو العارفة. التي رغم وصمها بالمثالية الفكرية الا انها تشير الى منهج (مادي) في حقيقتها. وبغير هذه العلاقة التي اشار لها هيجل لا يبقى معنى للواقع أن يكون مؤثرا بالوعي، ولا معنى للوعي أن يكون نتاجا للواقع حسب ماركس. هنا نجد هيجل يؤكد على أن الوجود هو إدراك ذاتي لذات عارفة وهو منطق فلسفي سليم لا علاقة ترابطية له مع الجدل الواقعي الموضوعي الذي يجري كقانون طبيعي خارج إدراك الذات لحصوله.. علاقة الذات مع مدركاتها المادية علاقة تخارجية تكاملية معرفية بينهما وليست علاقة جدلية.

عندما يرى ماركس العكس من ذلك أن الوعي هو ناتج إدراك الواقع المادي الذي نعيشه في اسبقيته على تفكيرنا، فهذا ليس معناه ضرورة ربط المادة بالفكر على مستوى تناقض جدلي يجمعهما يقود لناتج حصول متغيرات جديدة وإنما هنا الاختلاف بين هيجل وماركس على مستوى (وعي) و(معرفي) للواقع وليس على مستوى الجدل بينهما.

الجدل المزعوم بين الواقع والفكر هو وهم غير قائم للأسباب الآتية:

الواقع والفكر ليسا قطبي تناقض تجمعهما مجانسة نوعية ماهوية واحدة تدخلهما في تناقض جدلي بمعزل عن ارادة الانسان. فالجدل في حال اثباته قانونا طبيعيا ثابتا كمثل قوانين الطبيعة الاخرى فهو يعمل باستقلالية تامة عن ارادة الانسان وإدراك الذات. وحضور العوامل الموضوعية كعامل مساعد في عملية جدل ديالكتيكي هي الاخرى تكون فاعليتها ليست مستمدة من رغبة انسانية سابقة عليها بل من حاجة جدلية تتطلبها.

قوانين الجدل في حال جرت البرهنة عليها على صعيدي المادة والتاريخ. عندها تصبح وقائعا يتم الجدل فيها خارج ارادة الانسان، ولا معنى لتخارج الوعي المعرفي مع الواقع في خلق الجدل. حينما يعبر هيجل " الجدل وعي ذاتي " فهو كان يرغب خلق جدل فكري غير متأكد من إمكانية حصوله ماديا أو تاريخيا. لتوضيح سبب رجحان مثالية تفكير هيجل أن الجدل يحصل بالفكر فهو ربما كان يدرك أو لا يدرك هيجل أن الفكر لا يجانس المادة بالماهية والصفات كي يرتبطان بعلاقة جدلية وليس بعلاقة تخارج تكاملية معرفية.

الجدل يتسم بحقيقتين اثنتين هما أنه يحصل خارج الادراك الذاتي له، وأنه لا يحتاج الذات الانسانية في استكماله عملية الجدل في داخله لإنتاج مركب ثالث أو ظاهرة جديدة.

لذا إدانة هيجل أن الفكر أو الوعي ليس بمقدوره تغيير الحقائق المادية على الارض هي في حقيقتها صحيحة تمثل قمة المادية وليس المثالية. وهي لا تعطي الجدل جواز مرور حينما لا تعتبره أي الجدل قائما حينما يكون هناك للذات إمكانية إدراك الاشياء والموجودات في العالم الخارجي.

لا يوجد مؤشر برهاني حقيقي تجريبي واقعي مدّعم برهانيا أن هناك جدلا يجري داخل ظواهر وقائع العالم الخارجي بغية وجوب تطورها، كما وليس هناك ما يدلل تجريبيا قاطعا، أن يكون هناك جدلا طبقيا يحكم التاريخ، وليس هناك علاقة جدلية تربط الفكر بالمادة أو بالتاريخ طالما الجدل قانونا طبيعيا موضوعيا يجري بمعزل عن الارادة الانسانية، وأن الجدل هو أحد القوانين العلمية والتاريخية المكتشفة بالطبيعة وليست المخترعة تنظيرا فلسفيا. والاهم انها لا يمكن إدراك حصولها فلم يعد كافيا القول ان تناقض مصالح طبقة العمال والشغيلة تدخل في صراع جدلي تناقضي مع طبقة المالكين الرأسماليين تنتج عنه ظاهرة ثالثة جديدة مستحدثة متطورة.

كما المحت سابقا مقولة هيجل التي مررنا عليها " الجدل وعي ذاتي" يمنحنا برهانا حقيقيا أن الجدل هو وهم افتراضي يحكمه التنظير الفلسفي، وهو ليس قانونا طبيعيا مثل بقية قوانين الطبيعة التي اكتشفها الانسان وبنى علها ثوابت علمية بعد تأكده من حصولها في الطبيعة وفي الكوني، وهذا مالا ينطبق على الجدل الذي بني عليه ماركس وانجلز تطورات التاريخ البشري بشكل إعتسافي لأنه كانت التنظيرات الفلسفية سابقة على قانون الجدل الموجود على صعيد الفكر فقط  كما قال هيجل وليس على صعيد تطور التاريخ الانثروبولوجي المادي كما اراد ماركس.

-يتبع-   

 

حاوره: ا. مراد غريبي

المثقف – مرايا فكرية

26 – 10 – 2021م

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل  أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


المحور الثاني: الفلسفة والدين

س17: ا. مراد غريبي: ما هو رأيكم في اهم بوادر الاهتمامات الفلسفية بنشوء الأديان، وانت تناولت أفكار فيورباخ حول هذا الموضوع، نود تلخيصها لنا. وهل لا زالت الاسبقية الراجحة في الايمان الديني للفلسفة أم للاهوت؟ وهل كان للطبيعة دور ديني قامت به؟

ج17: ا. علي محمد اليوسف: بداية أود التنبيه هنا الى أن افكار فيورباخ في كتابه أصل الدين هي قراءة فلسفية تعتمد الطبيعة والذات في منهج تصوفي تأملي، وما هو مستجد حديثا ظهور علم متخصص في نشأة وتطور الاديان يدعى (علم الأديان) وهو علم لا يأخذ:

- باجتهادات التفلسف في نشأة الاديان،

- ولا بمدونات اللاهوت الذي لا تسعف ادعاءاته اكتشافات آثارية واركيولوجيا التاريخ،

- ولا الايمان بالمعجزات الدينية.

 لكن مع هذا تبقى آراء فيورباخ الفلسفية حول نشوء الاديان تمتلك من الاثارة الشيء الكثير الذي لا يتوفر عليه علم الاديان باعتباره علما لا يقوم على نظريات تجريدية غير تجريبية ولا على فلسفات أو تنظيرات غير مدعمة بإسنادات اركيولوجية وتنقيبات حفرية.

الفلسفة تقول ما تعجز عنه بقية الاجناس الفكرية قوله أو التعبير عنه لكنها ليست علما طبيعيا خاضعا للتجربة..                     

س18: ا. مراد غريبي: إذن ماذا عن الطبيعة ونزعة التدّين البدائي؟

ج18: ا. علي محمد اليوسف: يقول أحد الفلاسفة المعاصرين في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس (إن الانسان البدائي والذي بدا له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته). وفي تعبير ظريف ليوربيدوس: أنه يتوجب على الارض أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء اكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا.

هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا فيما وراء ظواهر الطبيعة المادية.

يقول فيورباخ (ان مصير الانسان هو ارادته وتفكيره، وبمجرد ان يتخطى المرحلة البدائية، ويصبح كائنا يقرر مصيره على اسس وقوانين تتسم بالحكمة والعقل، عندئذ تظهر له الطبيعة والعالم كشيء يعتمد على فكره وارادته وتأثره بهما). وبحسب فيورباخ: حين يرتقي الانسان بفكره وإرادته فوق الطبيعة، فانه يصبح خارقا للطبيعة، ويصبح الاله ايضا خارقا للطبيعة. هنا يتوجب التنبيه ان لا الخالق الغيبي في السماء، ولا الاله الانساني مجسدا بالإنسان نفسه في محاولته تسيّد الطبيعة، يستطيع خرق قوانين الطبيعة لتلبية رغائب الانسان، ماعدا ما جاء كمعجزات منسوبة للأنبياء لتدعيم ايمان الناس بهم. اما الانسان العادي الذي لا يمتلك معجزة او معجزات فانه سيكون محكوما بقوانين الطبيعة في الزمان والمكان ولا يقوى على خرقها منذ بدء الخليقة والى اليوم.

وليس بمقدور الطبيعة خرق قوانينها ايضا من أجل تلبية حاجات الانسان أبضا، فهي من جهة لا تعي ذاتها ومن جهة اخرى لا تعي وجود الانسان المتمايز عنها، لكن بمقدور الانسان منفردا خرق قوانين الطبيعة من اجل رغائبه واشباع حاجاته وملذاته، إذا ما توفرت له صفات الالوهية كما خلعها عليه فيورباخ من خلال علوّه واعلائه الانسان على الطبيعة وتنصيبه الها عليها. وهذا لا يتم الا في وعي الانسان لذاته كائنا مميّزا عن كائنات الطبيعة الاخرى من حوله، وكونه جزءا من الطبيعة متمايز عنها متعاليا عليها لا أن ينقاد لها بل هو يقودها.

 إن انتقال الانسان من الحالة الحيوانية الانقيادية للطبيعة، هو انتقال نوعي مفارق عن علاقة تكيّف وانقياد الحيوان لها، فحين يعلو الانسان فوق الطبيعة، فبماذا؟ وكيف؟ فهو يعلو عليها بخاصيتي الذكاء النوعي والتخيّل اللتين لا يمتلكهما الحيوان في علاقته المتكيّفة مع الطبيعة المهادنة لها. وبهذا يتسيّد الانسان الطبيعة، ويكون تعامله معها غير متكيّف سلبيا انقياديا لها كما عند الحيوان، لذا نجد الانسان في علاقة رأسية احتدامية متصارعة مع الطبيعة.

وبهذا النوع من العلاقة نجد الانسان يعلو على الطبيعة ولا تعلو هي عليه، رغم ضآلة وجوده الكياني وقدراته المحدودة امام لا محدودية الطبيعة في متخيّله الارضي لها وفي امتلاكها من موجودات حياتية منوعة لا حصر لها مذهلة في نسقها المنظم.

س19: ا. مراد غريبي: أي أنه بعد مراحل تاريخية، اخترع الإنسان اللغة أو حقق تميزه النهائي على الطبيعة؟

ج19: ا. علي محمد اليوسف: أكيد، بل لمن المهم ان الانسان في مراحل تاريخية متقدمة في وجوده الانثروبولوجي تمكن من اختراع اللغة في اعتلائه ظهر الطبيعة. فأصبح الانسان متمايزا عن الطبيعة في كونه يعي ذاته ويعي الموجودات في الطبيعة من حوله، وكونه كائنا مفكرا لا تجاريه الطبيعة به أيضا، وكونه اي الانسان متمايزا عن الطبيعة بالخيال الذي تفتقده الطبيعة والكائنات الاخرى من حيوان ونبات وجماد، والصفة المتمايزة الاخيرة للانسان والتي لا تمتلكها الطبيعة وكل موجوداتها انه كائن ناطق يتواصل مع غيره باللغة واحساسه بالزمن كتجريد لا يفهمه المعدوم لدى الحيوان الذي يستطيع إدراك الزمن المتحكم بتغيرات الطبيعة.

وأكثر مما ذكرناه فان فيورباخ يصف الآلهة والتوحيد الديني قائلا ما معناه، أن التأليه أو التوحيد لإنسانية الطبيعة الالهية بمعنى انتساب الطبيعة للإنسان، وليس انتسابه هو وتبعيته لها. انما ينبعان فقط من ربط الانسان الطبيعة بذاته، لأن الطبيعة تخضع نفسها للانسان دون ارادة ولا وعي منها، بعكس الحيوان الذي ينقاد للطبيعة من دون وعيه بها أو هي تعيه، كما أن الطبيعة غير ملزمة، ولا تعي أهمية تنفيذها لرغائب الانسان وتلبية احتياجاته منها، كما وليس  بمقدور الطبيعة خرق قوانينها التي تحكم الوجود الطبيعي رغما عنها أودون دراية منها، وفي استقلالية عن الانسان، من اجل تحقيق ما يحتاجه الانسان منها كما اشرنا سابقا، لسبب يجهله الانسان كما تجهله  الطبيعة أيضا، الانسان يعيش الطبيعة من اجل تلبية غذائه وادامة بقائه دونما وعي منها، وكذا الحال مع الحيوان في علاقته بالطبيعة.

 ان الانسان البدائي القديم لم يدرك أن الطبيعة تختلف عنه جوهريا في انها لا تعي ذاتها ولا تعي وجود وظواهر الاشياء من حولها بخلاف الانسان عن الطبيعة في وعي الانسان ذاته ووعيه المحيط والموجودات من حوله في تساؤل سببي ودهشة.

ومن منطلق تجاهل الجدل الحاصل في أن الطبيعة خالقة لنفسها وقوانينها على وفق الانتخاب الطبيعي الدارويني والتطور البيولوجي والأنثروبولوجي للانسان والطبيعة، أو اعتمدنا المنحى الايماني الديني أن الله هو خالق الطبيعة ومنظّم قوانينها بإحكام لا تدركه الطبيعة ذاتها ولا الانسان أيضا، فالطبيعة تبقى (أم) الانسان في رضاعته منها، وكذلك ام الحيوان والكائنات الاخرى في تامين بقائها وتوفيرها الغذاء والبيئة في ادامتها بقاء الانسان والكائنات الاخرى وحمايتها لهم من الانقراض.

نجد من المهم التذكير بان الطبيعة التي تنتج وتسود قوانينها التي تحكمها هي والانسان معا، لكن الطبيعة لا تصنع تلك القوانين في إدراك اهميتها للانسان واشباع رغائبه واحتياجاته، أي أن قوانين الطبيعة التي تعمل بمعزل عن ارادة الانسان في توفيرها وسائل بقائه وتلبية احتياجاته المعيشية له وللحيوانات معه كافة، هي ايضا لا دخل لعدم وعي الطبيعة بها أو بصنعها ووجودها، تلك القوانين الثابتة التي تحكم الانسان والطبيعة وحتى الكوني ايضا.

وفي الوقت الذي يندهش الانسان بالطبيعة، في تساؤله من اوجدها وكيف؟ فالطبيعة لا تمتلك جوابها لانها لا تعي كيف وجدت ومن اوجدها. كما ان الانسان لا يقوى حل لغز حياته هو في وجوده الارضي في تعايشه مع الطبيعة والكائنات الاخرى منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا.

س20: ا. مراد غريبي: الدكتور علي اليوسف، هناك مقولة لفيورباخ (فإن الآلهة قادرة على فعل ما يرغب الانسان، بمعنى انها تطيع وتلبّي قوانين (قلب) الانسان وليس عقله، فعلاقة الانسان بروحه، تعادل علاقة الآلهة بالعالم المحسوس).ماذا يقصد بلحاظ النزعة الدينية لدى الإنسان؟

ج20: ا. علي محمد اليوسف: هذه العبارة مشبّعة برؤى ميتافيزيقية ولا تقول أكثر من ان الانسان مبتدأ ومنتهى الدين، فكلتا العلاقتين علاقة الانسان بروحه، وعلاقة الانسان بالآلهة هي علاقة افتراضية خيالية معدومة التحقق ولا فارق بين العلاقتين لان مصدر خلقهما هو الانسان فقط في وعيه ذاته والطبيعة من حوله. وبالتالي هي علاقة الانسان مع نفسه فقط ولا وجود لآلهة تعلو الانسان الا تلك التي وضعها الانسان في موقع الاله المقدس المعبود في علاقة خياله بالطبيعة حسب فلسفة فيورباخ.

وتأكيدا لما ذهبنا له من جهة ثانية فعلاقة الانسان بروحه علاقة وجدانية ذاتية نفسية لا وجود حسّي او ادراكي مادي عقلي لها، لذا هي تعادل علاقة الآلهة الافتراضية بالمحسوسات والماديات والطبيعة والعالم التي ايضا هي غير موجودة سوى في مخيّلة وتفكير الانسان فقط. فالانسان يعبد ما يتخيّله هو فقط حسب حاجته الروحية او المادية، ويؤمن بمعبوده بروحه المجردة وليس بعقله في كل ما يصنعه له خياله.

إذا ما علمنا أن فيورباخ فيلسوف وشاعر أيضا، أدركنا مدى قدرته الفكرية وقابليته الساحرة على تطويع لغة الفلسفة بألفاظ تعبيرية شفافة موحية تتوارى خلفها المعاني. فقد وضع فيورباخ نزعة التدين عند الانسان مستودعها (القلب) وليس العقل ولا تزال هذه الحقيقة النظرية مسّلم بها دينيا في جميع لاهوت وثيولوجيا الاديان والاساطير والفلسفة.،

فالعقل بمدلولاته الادراكية والحسّية والخيالية الذهنية، لا يتوسّله الانسان في محاولة الاستدلال المنطقي ولا الحسي التجريبي في اشباعه نزعة التدّين عنده، وانما يستعمل عقله في التساؤل التأملي التجريدي الخيالي في ترسيخ ايمانه الغيبي فقط، ولا زالت هذه الفرضية تغلب على تديّن أكثر الموحدين لله، ان الايمان الديني مصدره القلب وعجز العقل في الاستدلال على تثبيت الايمان الروحاني ببراهين عقلية او سببية عليّة.

فالانسان يعمل عقله حسّيا وخياليا بعكس الحيوان الذي يدرك الطبيعة عقليا محدودة جدا، وحسّيا مباشرا في تامين الطبيعة ما يحتاجه في غذائه فقط، ولا يمتلك الحيوان قابلية ولا قدرة إعمال العقل خياليا تجريديا حتى في واقع حال تعطيل اللغة عنده..

لذا الانسان يمتاز عن الحيوان بانه كائن ديني او متديّن كونه كائن عقلي مفكر وكائن خيالي في وقت واحد. اي هنا الانسان يدرك مفهوم الزمن والمكان من خلال اعمال مخيلته في التفكير الخيالي في استقرائه بعض ملامح مستقبله.

لنمعن النظر جيدا في العبارة التالية لفيورباخ: (إن الانسان يفعل من خلال الله، ما يفعله الله حقيقة بنفسه) ص96 من كتاب اصل الدين لفيورباخ، هذه العبارة المكتنزة فلسفيا لا تحمل اكثر من تأويل اوحد وحيد يمثل معنى، كان بدأه فيورباخ في بداية كتابه اصل الدين، من أن الآلهة مصنّعة خياليا من قبل الانسان، وليس هناك من وجود الهي من غير تأمل الانسان وإعمال عقله الخيالي في ما وراء الطبيعة، وايمانه بتخليق ما كان قد ابتدعه خياله انطولوجيا، في تحميل معبوده جميع الصفات الذاتية التي يخلعها الانسان عليه، على إلهه المصنوع خيالا ميتافيزيقيا من قبله.

ان عبارة فيورباخ هذه في تأويلها بمنهجية علوم اللغة في المسكوت عنه الذي يتخّفى فائض المعنى فيها دائما خلف المفردات اللغوية، تلخيصها يكون بأن الاله والانسان هما وجود انطولوجي واحد هو الانسان فقط في معايشة خياله في علاقته بكل من الطبيعة والميتافيزيقيا. ولا يختلفان الا بأهمية الخيال الانساني في البحث عن الامان الروحي في الدين في حين لا تحتاج الآلهة ذلك.

إن جميع المصادر البحثية في نشأة الدين تذهب الى بداياته حتى مراحل الوثنية قبل الاديان السماوية تشير الى الشرق العراق السومري والبابلي ومصر الفرعونية والهند والصين وفلسطين، ثم انتقلت الاديان الوثنية والميثولوجية والاسطورية والسحرية الى بلاد اليونان والرومان والقرطاجيون والفينيقيين الى ما قبل ظهور اليهودية والمسيحية عن طريق فتوحات الاسكندر المقدوني للشرق حوالي 320 قبل الميلاد.

فعلى لسان هيرودوتس يذكر فيورباخ في كتابه أصل الدين (انه في الشرق يقلل الانسان من قيمة نفسه الى مستوى الحيوان كي يثبت ولاءه الديني، ما عند الاغريق والرومان فأن تأكيد الانسان لكرامته تضعه في مصاف الآلهة). ص100 من كتاب أصل الدين.

طبعا في هذا مغالطة آرية عنصرية عرقية، اذ الى وقت ليس ببعيد تاريخيا فأن الاغريق كانوا يضّحون بالأطفال قرابين للآلهة زيوس او جوبتير كما كان يفعل (آخيل) او غيره من وثنيي الارباب ولم تكن تحسب تلك حيوانية دينية، بعدها بزمن ايضا ليس ببعيد كانت قبائل الفايكينغ تضحي بالقرابين الآدمية ارضاءا للإله ايتش. وأخلاقهم اليوم من أرقى وفي مقدمة دول العالم حضاريا الذين هم شعوب الدول الاسكندنافية الذي يعتبر نموذج الحياة الإنسانية عندهم ارقى نموذج حضاري وصله الانسان على امتداد تاريخه.

س21: ا. مراد غريبي: لماذا رفضت الماركسية طروحات فيورباخ حول الصوفية التأملية في الدين وعارضتها بشدة رغم انها فلسفة تمتلك نزعة مادية تتجاوب مع الماركسية في جدل الديالكتيك؟

ج21: ا. علي محمد اليوسف: لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد.،. إلخ، كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.

طبعا من المتوقع جدا أن يكون فيورباخ المادي المنشق عن هيجل، وينحى نحو اشكالية علاقة الدين بالإنسان وان كانت علاقة ميتافيزيقية وليست مادية فهي كانت من صنع الانسان وحده. حاربت الماركسية ممثلة بماركس وانجلز صوفية فيورباخ التأملية الدينية نتيجة الفهم الخاطئ الذي تحمل فيورباخ وزره عندما نسبت الماركسية له اعتبار انثروبولوجيا التطور الانساني في مراحل تاريخية ماضية سحيقة كان مبعثه اهمية الدين في تطور تاريخية الوجود الانساني وليس كما تريد الماركسية اثباته ان الاساس المادي لأنثروبولوجيا الانسان هو صراع التفاوت الطبقي الاقتصادي والاجتماعي الذي حكم التاريخ في مختلف العصور والازمان بما أطلقت عليه الماركسية المادية التاريخية.

س22: ا. مراد غريبي: كتبتم عدة مقالات عن مذهب وحدة الوجود في الصوفية والفلسفة لدى اسبينوزا بالذات هل يمكن توضيح علاقة هذا المبدأ بكل من الدين والفلسفة؟ ومن يحدد فهم الانسان الايماني الجوهر أم معجزات اللاهوت الديني؟ وما هو الفرق بين مذهب وحدة الوجود عند هيجل وسبينوزا؟

ج22: ا. علي محمد اليوسف: مذهب وحدة الوجود لا تنحصر مداولته فلسفيا فقط بعيدا عن الأديان حيث لا يخلو دين من الاديان في العالم قديما وحديثا من مذهب وحدة الوجود والفرق الصوفية التي تدين به. ومذهب وحدة الوجود مبحثا إشكاليا على صعيدي الاديان والفلسفة على السواء. وتختلف معالجته في تداخله بين الدين والفلسفة، ونتطرق بهذه الاجابة الى مفهوم وحدة الوجود في فلسفتي اسبينوزا المثالية وهيجل ألتأملية المادية. مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل.. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند الهنود المايا، ويقرّ هيجل على أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهر إلهي كما هو في فلسفة اسبينوزا. لذا نجد هيجل يؤكد، وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا...

وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد. أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج الإيمان بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي مادي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية مثالية ليست ميتافيزيقية.

اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه فهو خالق غير مخلوق، دلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح لا يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.

مفهوم الجوهر يختلف تماما بين الفيلسوفين، فنجد هيجل متناقضا مهزوزا في فهمه الجوهر الذي يقصده اسبينوزا ولا يؤمن به، حيث يقول هيجل: اسبينوزا على حق في إعتباره المطلق هو جوهر لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهر في الوجود الى الفكرة المطلقة التي يطال فيها العقل كل شيء. هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة وهي الكيف وهي الماهية وهي الطبيعة والفكرة الشاملة.

هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، هو خلاف صميمي بالإجهاز على فكرة اسبينوزا وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته. حينما نعامل الجوهر) ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقل، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهرا وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها أحدهم اسبينوزا. بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهيتها وجوهرها ايضا. وهو ما اؤكد صحته بقناعتي.

إعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر المطلق (ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة. والجوهر عند اسبينوزا هو سبب الموجودات وليس نتائج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة موجوداته بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

اسبينوزا يعتبر الجوهر الانساني سابقا على الوجود الشيئي بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالإنسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات فقط خالية من إحتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للانسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل شيء تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا.

نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة الكشف عن شك يفقد برهان الوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم اسبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. لكنه يبقى ماديا.  ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل على إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة.

س23: ا. مراد غريبي: وماذا عن عبارة سارتر "جوهر الإنسان الحقيقي بلا جوهر"؟

ج23: ا. علي محمد اليوسف: جميل جدا، هذه العبارة لسارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) وقفت عندها متأملا من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر، أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسه. وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا جوهره ومتى يكون مالكا له؟

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فيكون يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركائز:

* الأولى: أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم،

* الثانية: يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب.

* الجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

عبارة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) هي تعارض وجهة نظره ان الانسان يصنع ماهيته وجوهره بقواه الذاتي المستمدة من خبراته التراكمية المكتسبة من الحياة طيلة سني عمره من الولادة وحتى الممات. لكن كيف لنا تمرير هذا التناقض ان الانسان لا يمتلك جوهرا حقيقيا، سبق لي في مقالة منشورة لا يحضرني عنوانها عللت العبارة صحيحة إذا ما اخذت ضمن اشتراطين اثنين، الاول ان الجوهر حسب فلسفة سارتر تصنيع ذاتي يلازم الانسان سني عمره إذن الجوهر هو ليس معطى يمكن الاستدلال عليه بل هو سيرورة من الانتقالات والتحولات في حياة الانسان الاستبطانية الداخلية لذا لا يمكننا الحكم على جوهر لا يتسم بالثبات معرفيا. السبب الثاني وايضا بدلالة فلسفة سارتر الانسان نزوة طارئة لم يكن هناك حاجة لوجودها لذا فالإنسان في كلتا الحالتين بجوهر وبلا جوهر هو وجود لا معنى له.

س24: ا. مراد غريبي: هذا أستاذ علي، يحتاج إلى توضيح أكثر، إذا ممكن تقديم أمثلة؟

ج24: ا. علي محمد اليوسف: بالرحب والسعة أستاذ مراد... الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا خفي، فالإنسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد. يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية.

الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايز عنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط، إمتلاكه لغة تواصلية معرفية، شعوره بالزمن، والخيال، إدراكه أن الطبيعة تحكمها قوانين طبيعية عامة ثابتة، كما أن الانسان يعي حاجته للطبيعة ولا تعي الطبيعة حاجتها للانسان. وغير ذلك مما تفتقده الطبيعة ويمتلكه الانسان مثل الوعي، المخيّلة، العواطف، الضمير، الأخلاق، الأحاسيس، والمشاعر الخ. أصبحت لدينا مقولة سارتر أن" جوهر الانسان الحقيقي بلا جوهر" صحيحة، تحمل إمكانية تخطئتها كما مر بنا توضيحه.

مثال: هل الحيوان يمتلك جوهرا؟ أم لا يمتلك جوهرا وكيف؟ الحيوان لا يمتلك جوهرا متمايزا عن صفاته الخارجية لا في داخله ولا في سلوكه خارج صفاته، والقول في منطق وحدة الوجود حسب فلسفة اسبينوزا أن جميع الكائنات في الطبيعة من ضمنها الانسان تمتلك جواهر مستمدة من جوهر مطلق خالق لها غير مخلوق وهو فوق إدراك العقل، جواهر يستطيع الانسان إدراكها في مخلوقاته ولا يستطيع إدراكها في خالقها الجوهر الكلي المهيمن عليها، هي نوع من المنهج الذي يصادر برهان تحققه. بمعنى النظام الطبيعي الإعجازي في قوانين الطبيعة الثابتة، يمتلك من القدرة والإمكانية ما هو فوق عقلي، وهذا النظام الإعجازي بالطبيعة لا يعني إمتلاك مكوناته لجوهر دفين موزّعا عليها يشير لوجود خالق عظيم ولا يشير لإثبات وجود موجودات لوجودها في الطبيعة كمظهر وجوهر متكاملين.. هذا التكامل من قبيل الحدس الايماني لا أكثر، إذ هل من المتاح لإدراك عقل الانسان إدراك جواهر الاشياء خارج صفاتها في موجوداتها؟

 الجواب: لا يمكن ذلك لأن تلك الموجودات والكائنات عدا الانسان بلا جواهر خارج صفاتها.

للتوضيح أكثر، الحيوان الذي هو أعلى مرتبة بيولوجية من النباتات والجمادات، فهو موجود بلا جوهر ولا ماهية. لماذا وكيف؟

الحيوان لا يعي ذاته ولا يدرك الطبيعة ويفتقد اللغة وشعوره بالزمن من حوله إلا على نطاق ضيق جدا يتحدد في إشباعه لغرائزه الاكل والتكاثر ودفع الاخطار المحدقة عنه وعن نوعه. الطبيعة هي التي تعطي الحيوان صفاته الخارجية التي هي مجموع كينونته المنفردة كحيوان.

الحيوان لا يمتلك ميزات إنفرادية نوعية كما هي عند الانسان مثل الذكاء العقلي، الوعي الذاتي، إمتلاك اللغة، الإحساس بالزمن وغيرها من صفات.

الحيوان يكتسب صفاته الخارجية من خلال إذعانه المتكيّف بما تمليه عليه الطبيعة من غير إرادتها ولا وعي منها. عدم وعي العلاقة الحيوانية – الطبيعية من كليهما المشّكلين لها هو سبب إمتلاك الحيوان قدرات التكيّف الطبيعي البيئي كي يبقى حيا. وأنثروبولوجيا تاريخ الحيوان تؤشر لنا إنقراض العديد من السلالات البشرية والحيوانية على السواء لفقدانها قدرة التكيّف مع ظواهر طبيعية شديدة القسوة مثل الانهيارات الجليدية والفيضانات، والزلازل، البراكين، وقلة الغذاء وهكذا. التكيّف الطبيعي يمتلكه الانسان والحيوان على السواء لكن بإختلافات جوهرية هامة. إذن علاقة التكّيف الحيواني بالطبيعة يجري بين قطبين هما الطبيعة والحيوان وكلاهما لا يتبادلان الوعي الادراكي بهذه العلاقة بينهما. فالطبيعة لا تدرك معنى تكّيف الحيوان في استمرار بقائه، ولا الحيوان يدرك أن تكيّفه مع الطبيعة لا تعيه الطبيعة ولا تدركه.2916 علي اليوسف ومراد غريبي

س25: ا. مراد غريبي: هل ينطبق ما ذكرته عن الجوهر على النبات والجماد؟

ج25: ا. علي محمد اليوسف: نعم كذا نفس الحال يتكرر مع النباتات في علاقتها بالطبيعة فكلاهما لا يتبادلان الادراك المشترك بينهما. وليس مهما تفتيش الانسان عن جوهر يمتلكه النبات أكثر من إعتبار الانسان للنبات وسيلة الطبيعة في توفير إحتياجاته من الغذاء.

أما الجمّاد الطبيعي غير المصنوع وجوده في الطبيعة من قبل الانسان فلا جوهر له خارج صفاته. وتختلف عن الجمادات التي يصنعها الانسان فهي لسد رغبته بالحاجة لها في تأمين خدمته. فالقلم يحمل ماهية إستخدامه من قبل الانسان قبل تحقق وجوده المادي كقلم، وكذا مع جهاز التلفاز أو مع أي شيء آخر مادي يصنعه الانسان لسد حاجته له، فهو يمتلك ماهية وجوهر وجوده بذهن الانسان صانعه قبل إمتلاك وجوده المادي حينما يكون فكرة صناعية في تفكير الانسان حاجته لها أن يقوم بصنعها فهو يعرف ماهيتها الإستعمالية قبل وجودها المصنوع.

س26: ا. مراد غريبي: نجد أنفسنا أستاذ علي، أمام مفترق طرق بخصوص الجوهر بين تجريد عن المادية من جهة ومادية عقلية من جهة أخرى، وهذا في العمق جدل بين الدين والفلسفة حول ماهية الجوهر، أليس كذلك؟ 

ج26: ا. علي محمد اليوسف: ممتاز، يمكننا إستخلاص أن مفهوم الجوهر في وحدة الوجود الذي يفهمه اسبينوزا وسيلة ميتافيزيقية لتدعيم إيمان ديني بوجود الخالق، ويفهمه هيجل مطلق متعيّن في هيمنة العقل على كل شيء يمكن إدراكه لا وجود له انطولوجيا هو فوق متعال عقلي يدركه العقل ولا يدرك هو العقل؟ فكرة المطلق عند هيجل إدراك عقلي، وفكرة الجوهر لا إدراك عقلي يطاله.  كلا المفهومين فكرة المطلق الذي لا يفهم بدلالة الجوهر، ولا الجوهر يقبل الاستدلال العاجز التعريف به. يصبح معنا كلا المفهومين الفكرة المطلقة والجوهر تجريدان فلسفيان عاجزان عن الوصول للمادة واحتوائها كوجود.

هل يمكننا التساؤل أن خلع توصيف المادية العقلية على مطلق الفكرة الادراكية عند هيجل ينفي الجوهر كتجريد اسبينوزي غير موجود ولا يمكن البرهنة على إثبات هذا الوجود؟ كونه بالمعيار الهيجلي مطلق خارج ذاته، لذا وجدنا مطالبة هيجل معاملة الجوهر كذات أو ذاتيا أي بمعنى الجوهر الإلهي في تذويته بخلاف اسبينوزا يصبح قابلا للإدراك العقلي. ويعود هيجل رد الاعتبار الذي أجهز عليه اسبينوزا الى الرجوع للمقولة التي كانت متداولة فلسفيا لعصور طويلة أن الجوهر يعرف بدلالة الوجود المادي، وليس كما عكس اسبينوزا المعادلة أن الوجود يعرف ويدرك بدلالة الجوهر الذي لا يمكن إدراكه خارج التسليم الايماني الغيبي الاسبينوزي في وجود الطبيعة قبل السماء. لازال الفلاسفة يتغاضون عن التفسير الاسبينوزي حول أن الجوهر مطلق كوني يحتوي كل شيء في الكون، كون هذا التفسير الاسبينوزي يستند الى مرجعية دينية ميتافيزيقية لا تأخذ بها الفلسفة. فالفلسفة ترغب معرفة الجوهر ليس وسيلة إثبات برهاني حدسي ديني، بل بوصفه مبحثا فلسفيا معرفيا قائما بضرورة حسم الجدل النقاشي له.. يذكر بعض المعنيين بتاريخ الفلسفة الى أن هيجل كان يردد دائما مقولة اسبينوزا (كل تحديد هو سلب) بمعنى كل تحديد لمواصفات شيء مدرك شيئيا يسلبه صفاته الايجابية الأخرى، فالتحديد الشيئي هو مدرك متعيّن الصفات، ولا يمكن للفكر المجرد إضافة مواصفات انتزعها التحديد له. تحديد الشيء بمواصفات معينة يعني غلق الإمكانات التجديدية له وجعله كينونة مقفلة.

من الغريب أن نجد كلما أوغل اسبينوزا وشيلنغ في تأكيدهما المطلق هو إدراك عقلي مجرد، بمعنى هوية بلا مضمون في حين يصر هيجل أن المطلق أكثر الاشياء عقلانية إذ يعتبر المطلق محتوى أدراكيا عقليا وليس وسيلة إدراك معرفي بدلالته. يفهم هيجل المطلق أنه يستوعب مدركاته، في تكوينه العضوي الاحتوائي بلا تفريق بين ما هو مادي عما هو تجريدي غير مادي.

المطلق عند كل من اسبينوزا وشيلينغ هو جوهر كلي مجرد عن ماديته، فالجوهر عندهما محض هوية مجردة لا تحتوي المادة، وتعرف كل الاشياء المادية بدلالة هذا الجوهر الكلي الالهي غير المدرك.  وينكر هيجل المطلق هو دلالة بلا مضمون بل هو عيني يحتوي الواقع بكل شيء، ولا يحتويه شيء، وأنكر مقولة شيلنغ "المرء لا يمكن أن يكون أكثر من موجود " أي موجود لا يمتلك جوهرا. وهذه نظرة تجريدية تنزع من الانسان جوهر انسانيته التي تميزه عن باقي مكونات ومخلوقات الطبيعة التي هي فعلا موجودات لا جوهر لها في بقاء الانسان كينونة وجوهر.

س27: ا. مراد غريبي: كيف نفهم رابطة وعي الذات في التجربة الصوفية؟

ج27: ا. علي محمد اليوسف: بداية لابد من طرح التساؤل التالي:

- هل يختلف الادراك الحسي الطبيعي للاشياء عن الادراك الصوفي النفسي لها؟ وللإجابة عليه نرى وجوب التفريق بين المدخلات التالية:

- الطبيعة في صوفية الاديان التوحيدية تأتي في مرحلة متأخرة لاحقة ثانوية على مركزية التقرب من الخالق (الله) فيما يسمى الحلول أو التواصل الصوفي. بخلافه نجد الطبيعة تحتل مركزا محوريا في المذاهب الصوفية الوثنية بخاصة صوفية الزن البوذية التي لا تتطلع نحو السماء بل دائما يكون نظرها على الطبيعة الروحانية في الاشياء وليست الطبيعة بمفهومها المادي.

- فمرتكز الحلول الصوفي في الاديان التوحيدية هو تسامي الذاتية في إعتلائها العالم الخارجي بالانفصال عنه ومحاولة البحث عبر مدارج العرفان والاحوال عن خالق هذا العالم والاقتراب الذاتي منه. وفي طموح لاحق أكثر تسعى تحقيق ما يسمى الحلول الصوفي الاتحادي بالذات الالهية.

بينما مرتكز الحلول في الصوفية البوذية هو الطبيعة بما تمتلكه من كائنات وموجودات كل منها يمتلك خصائص تكاملية مع إدراك البوذي الصوفي الذاتي لها. من خلال التقمّص الصوفي بها ومن خلالها فلكي تعرف حقيقة تأثير الزهرة على النفس وعلاقتك بها عليك أن تكون أنت الزهرة كذات وتمارس من خلالها الدور الصوفي في الطبيعة معا في تبادل متداخل لاشعوري حسّيا مع موضوع الطبيعة المختار..

الادراك الطبيعي للاشياء هو في إنتظام إلانطباعات التي مصدرها الاحساسات الناقلة لاستشعارات الحواس الى الذهن ومن ثم الى الدماغ. هنا الادراك الاحادي الجانب الذي تمتلكه الذات الانسانية والذي لا تمتلكه الخواص الخارجية للاشياء يكون إدراكا (خارجيا) في العلاقة بينهما. بمعنى إدراك الذات الانسانية لمدركاتها خارجيا لا يموضع الذات في موضوع إدراكها حتى لو كان على صعيد تجريد اللغة التصوري الادراكي للاشياء.

إدراك الشيء حسيّا وليس صوفيا لا تعني معرفته ولا تعني الموضعة التكوينية فيه، في مذهب الزن الصوفي البوذي أن تدرك الشيء يعني أن تكونه أنت هو.

والذات خارج التصوف البوذي تدرك حقيقتها في عدم المجانسة النوعية مع موضوعها في الجوهر والماهية. بما يبقي العلاقة الذاتية الصوفية وغير الصوفية بالأشياء علاقة انفصالية ويختلفان في عدم المجانسة النوعية بينهما. (نقصد في عدم المجانسة النوعية بين الذات والموضوع هو الاختلاف بالماهية أو الجوهر وأحيانا الصفات).

بخلاف صوفية الزن التي ترى معرفة الذات الحقيقية تتم في التموضع بالموجودات في العالم الخارجي وفي كائنات الطبيعة في تداخل تكاملي معها وليس في إدراك مادي خارجي يكون فيه كلا الجانبين الصوفي والشيء لا يلتقيان في مجانسة نوعية ماهوية كيفية واحدة.. هنا التقمّص الصوفي البوذي بالأشياء والطبيعة هو تموضع تكويني مع مدركاته.

وهذا النوع من التموضع يبقى مختلفا تجريديا في علاقة الادراك الانساني لموجودات الطبيعية التي يمارسها الشخص العادي لمعرفة عالمه الخارجي. أي يبقى تموضع الادراك الخارجي للأشياء محتفظا بذاتيته الانسانية المنفصلة عن موضوع ادراكها.

هل هذا يقودنا الى إستنتاج خاطئ أن مذهب وحدة الوجود في الصوفية يتطابق تماما مع الحلول الزن الصوفي التقمصّي في الكائنات والاشياء؟

 مذهب وحدة الوجود يرى حقيقة المعبود في الاعجاز الطبيعي بالأشياء، أنها تتمركز حول (الجوهر) المستمد من جوهر الخالق وكلاهما جوهر الذات الالهية الازلية وجوهر الذات المتموضعة في الاشياء كلاهما مدلولان لا يدركان عقليا لا في إتحادهما المزعوم ولا في انفصالهما القائم إفتراضا، ونقول انفصالا إفتراضيا عندما نصطدم بحقيقة تساؤل أين برهان إثبات موجودية جواهر الاشياء فيها بدلالة الجوهر الازلي الخالق لها في توزيعها على موجودات ومخلوقات الطبيعة؟ لا يمكن الجزم القاطع أن وراء كل صفات خارجية لشيء هناك جوهر يحتجب وراءها لا نتمكن من إدراكه. كما أن علاقة صوفية مبدأ وحدة الوجود بالطبيعة هو علاقة الذات انفصاليا خارجيا عنها. وهو ما لا تأخذ به صوفية الزن في حلول الذات في ابسط الاشياء الموجودة بالطبيعة وتقمص التعبير في إدراك الذات لمدركها بحيث يغدو الموضوع هو الذات ولا تفريق بينهما.

س28: ا. مراد غريبي: بناءا على ما تقدم اذن، جاز لنا تمرير الذات هو الموضوع في الصوفية ولا فرق بينهما، وعليه: ما الفرق بين الذات والموضوع ادراكيا طبيعيا وليس حلولا صوفيا؟

ج28: ا. علي محمد اليوسف: الفرق يكون في لغة التعبير فقط في إختلاف الحالتين فلغة التعبير الصوفي الذاتي عن الموضوع ليس هو نفسه تعبير اللغة التجريدية المنفصلة عن موضوعها والمنفصلة عن التعبير عنه.

وتبقى مسافة الانفصال بين الموجودات بدلالة جوهرها بعيدا جدا عن الفهم الصوفي في الزن الذي يرى إدراك حقيقة الاشياء في الطبيعة هو إدراك حقيقة الذات المدركة لها من خلال التموضع في تقمصها الوجودي في صفات الاشياء الطبيعية الخارجية. بمعنى هنا ذات الانسان الصوفي البوذي تصبح هي ذات الشيء الموجود في الطبيعة الذي يتقمصه الصوفي. أن تريد معرفة شيء بالطبيعة صوفيا كما في الزن عليك أن تكون ذلك الشيء هو وتتكلم عنه كهوية تمثلك لا هوية تمثّل موضوع الحلول الصوفي..

اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود – وقد اشرت لذلك في أكثر من مقال لي - يناقض جميع الفلسفات السابقة عليه واللاحقة عليه أن الجوهر يسبق الوجود والكينونة وبدلالة أسبقية الجوهر نفهم ثانوية الوجود. هذا الفهم ينسف الوجودية من جذورها في إيمانها بأن الوجود أو الكينونة تسبق الجوهر فيها لدى الانسان، والجوهر أو الماهية هو ليس معطى يكافئ الوجود بل الجوهر لاحق على اسبقية الوجود وبدلالة الوجود نفهم وجود الجوهر.

علما أنه منذ كانط في كتابه نقد العقل المحض وفلسفة الفينامينالوجيا (الظاهراتية) عند هوسرل وتبعتهما الوجودية خاصة عند سارتر وحتى الماركسية كفلسفة وليس ايديولوجيا اقتصاد سياسي ماركسي لم يحسموا مسألة أن تكون الموجودات بذاتها تحمل جوهرا يختلف عن الصفات الخارجية لها. باستثناء سارتر الذي قال الانسان يمتلك صفاتا خارجية هي غير جوهره الذي لا يمكننا إدراكه. ولي تفصيلات شرحت توضيحي لذلك في مقالات لي منشورة عن الماهية والجوهر. ولعل عبارة سارتر (حقيقة جوهر الانسان أنه بلا جوهر) التي مررنا بتوضيحها جعلت من مفهوم سارتر لجوهر الانسان مثل بندول الساعة الذي يؤشر الوقت في الدلالة عليه لا في معرفته ما هو.

أما الإدراك في صوفية الزن البوذية هو إدراك تداخلي غير إنفصالي متموضع تكوينيا داخليا بالأشياء ولا يترابط معها خارجيا بإنفصال تجريدي عنها. بمعنى صوفية الزن لا تعتبر هناك حواجز انفصالية تجعل من ذات الانسان خارج موجودات الطبيعة وإنما تعتبر الذات الانسانية جزءا من الطبيعة يعرف بدلالتها الوعي الادراكي للاشياء في حقيقتها وليس في معرفة الصفات الخارجية لها..

الادراك التموضعي في الصوفية البوذية زن في موجودات الطبيعة تموضع احساس تبادلي في الشعور النفسي أن الشيء المدرك ذاتيا هو الذات الانسانية في تموضعها المادي فيه وليس موضوعها الذي تتحدث عنه. هنا الذات الصوفية لا تجد حضورها الحقيقي بمعزل عن تموضعها الطبيعي في شيء.

بمعنى إدراك الشيء هو أن تكون أنت ذلك الشيء المدرك. في حين نحن ندرك الاشياء والطبيعة بمنظومة الاحساسات التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ في نوع من التجريد التصوري الخارجي المنفصل ادراكيا عن موضوعات ادراكنا الاشياء في وجودها الانطولوجي المادي الخارجي المستقل. في الزن الصوفية الذات هي الموضوع وبالعكس ايضا في إنعدام خاصيتي الانفصال الاتحادي بينهما أولا، وفي إنعدام خاصية التفريق والاختلاف في لغة التعبير الصوفي بين الذات وموضوعها ثانيا..

س29: ا. مراد غريبي: الأستاذ علي اليوسف، بعدما تناولتم موضوع الإدراك لدى صوفية الزن البوذية، هناك سؤال مهم هل فعلا البوذية تعادي العلم؟!

ج29: ا. علي محمد اليوسف: صوفية الزن البوذية تذهب الى أن المعرفة الحقيقية للاشياء في وجودها الطبيعي ليس هو الحقيقة العلمية التي تحققها التجربة، بل الوجود الطبيعي يمنح الانسان طاقة صوفية فنية جمالية استيعابية في التلقي تجعل من المدركات المتحققة علميا طارئا على طبيعة تفكير الانسان الصافي النقي حيث تكون الآلة المصنوعة في العلم تفكيرا بديلا عن الانسان وعملا تطبيقيا يغني الانسان عن صرف طاقته الجسمانية ويعوّده الكسل والخمول والحركة الفاعلة بدل ما تقوم به الآلة وتعفيه من القيام بماهي تفعله له.. هنا تكون الآلة هي النموذج المصنوع للاستغناء عن الانسان كوجود فاعل يقود الآلة ولا تقوده هي.

البوذية تعلم جيدا معاداتها العلم خسارة ما بعدها خسارة أفدح منها لذا عّبرت عن رؤية فلسفية مغايرة تهادن جوهر العلم وتعاديه في تصنيعه الآلة التي سلبت الانسان مزاياه الحيوية في العمل والارادة والخلق الذاتي والطبيعية والنزوع الفطري في اهمية العواطف الوجدانات الروحية في الحياة وغيرها.

س30: ا. مراد غريبي: هل يمكننا القول أن العلاقة بين الإنسان و الطبيعة في صوفية الزن البوذية تتسم بالغموض المعرفي؟

ج30: ا. علي محمد اليوسف: اللاوعي في زن هو الغامض والمجهول بلا شك. ولذا فهو غير علمي أو قبل علمي، ولكن هذا لا يعني أنه بعيد عن متناول وعينا أو شيء لا علاقة لنا به.". اللاوعي حسب صوفية زن هو تداعيات اللاشعور الذي لا تتمكن الوسائل العلمية " تجارب علم النفس" وليس تجارب العلوم الطبيعية المختبرية. التمكن من تحديده فاللاوعي هو مرحلة (قبلية) علمية لكنه في حقيقته في متناول ادراكاتنا الطبيعة والاشياء بصورة سليمة طبيعية وليست صورة تداعيات لاشعورية غير منضبطة. لذا اللاوعي في الزن "هو التدريب تدريبا خاصا لمعرفة الوعي " مثال ذلك "الطبيعة تشق طريقها غير واعية بذاتها ثم يخرج الانسان الواعي منها". اللاوعي في زن هو الفطرة الطبيعية في دخول عالم المادة بوسائل الادراك الشعوري الذي يجعل من اللاوعي متراجعا أمام الوعي به. أما أن يكون اللاوعي هو قبل علمي كونه يصبح لدى الصوفي لا تحققه التجربة العلمية بل تحققه النفس الشعورية. وهذا الفهم لجميع حقائق علم النفس الفرويدي وتوابعه الاجتهادية لا يشير أبعد من تكرار تأكيد ما ذهبت الصوفية له، فاللاوعي تجريد لا يتحقق بوسائل علمية بالنسبة للصوفية لذا هو قبل علمي بمعنى استباق الفطرة الطبيعية فيه على علمية التجربة في معرفته. في جميع المذاهب الصوفية تقاس اهمية الانسان بمعرفته الطبيعية بالفطرية واللاشعورية وتبتعد جدا عن تحويل فهم الانسان للطبيعة يتحتم أن لا يتم بغير تصنيعها من قبله وحسب أهوائه وأمزجته.

والتصور العلمي الساذج هذا لمجرد إثبات حقيقة الانسان هو يقود الطبيعة ولا تقوده هي ولا سيطرة لها عليه. هذا التصور العلمي ساذج في تحديده علاقة الانسان بالطبيعة أنها لا زالت معركة انتصار الاقوى بينهما والحقيقة التي يتجاهلها الانسان العلمي الذي يؤمن بتصنيع الطبيعة كل الطبيعة من اجل خدمة الانسان انجزت لنا الاختلال البيئي والاحتباس الحراري ودرجة ارتفاع حرارة الارض. ان الانسان في جميع مراحل تطوره التاريخي الانثروبولوجي كان منقادا للطبيعة غير قائد لها لأن كل اشكال الحياة في الطبيعة هي علاقة التكيّف معها من أجل إدامة بقائه هو وليس من أجل بقاء الطبيعة على حساب وجوده الافضل.

س31: ا. مراد غريبي: إذن حسب ما تقدم نجد أنفسنا أمام قفزة صوفية، أليس كذلك؟

ج31: ا. علي محمد اليوسف: من المرجح أن أول من استخدم تعبير القفزة النوعية في المجهول الايماني الديني هو سورين كيركجورد حين إعتبر الانتقالة الايمانية الدينية بالخالق تبدأ بقفزة التخلص من صرامة العقل الواقعي المادي الى دخول معترك الايمان القلبي بما يحتويه من تكوينات مثل العاطفة، الضمير، حب الخير، والاخلاق وغيرها، ومن ثم تبلور مفهوم القفزة النوعية التطورية في تطبيقها على المسار التاريخي حيث أكد كيركارد أن المسار التاريخي بلا قفزات نوعية – اطلقت عليها الماركسية الطفرات النوعية – لا يمكنه التطور النوعي في الانتقال من حالة الى حالة اخرى متقدمة عليها ما لم تتخلل مساره التقليدي طفرات تنقله من حالة اعتيادية رتيبة الى حالة اخرى نوعية متقدمة تطوريا عليها. بالحقيقة اراد كيركجورد الرد على مثالية هيجل ومادية ماركس، في اعتبارهما الطفرة النوعية لا تتم الا وفق جدل ديالكتيكي تاريخي.

ما يحسب لهذا السبق لسورين كيركجورد أنه جاء متقدما على الفهم الهيجلي المثالي القريب منه جدا على صعيد التاريخ، ومتقدما ايضا على الفهم الماركسي الذي جعل ماركس من القفزة النوعية في مسار التاريخ تتم ماديا على ارض الواقع وليس على صعيد الايمان الديني القلبي المثالي الذي قال به سورين كيركجورد. ولقى صدى كبيرا لدى فيورباخ.

صوفية الزن البوذية تحاول تطبيق مفردة القفزة التطورية النوعية التي اورثتها للوجودية والماركسية في تفسيرهما التطور التاريخي. كان لسورين كيركارد قصب السبق ردا على هيجل والماركسية القول بالقفزة النوعية وبالتأكيد لم يستقيها كيركارد عن الصوفية البوذية وإن كانت المطابقة معها واردة تماما.

سورين كيركارد يعتبر رائد مخترع الجدل الديالكتيكي المثالي الديني بعد هيجل. وحينما اراد هيجل تطبيق الديالكتيك لم يأخذ بأهمية الطفرة النوعية التي تحكم المادة والتاريخ كما فعل ماركس ومعه انجلز بل أخذ ما أطلق عليه الفكرة المطلقة العقلية. بعدها أنضج ماركس مفهوم الطفرة النوعية في الجدل المادي والتاريخي، حيث جرى تخليصها من النزعة المثالية. أكد كل من ماركس وانجلز أن القفزة النوعية في المادة وفي التاريخ إنما تتم داخل جدل نسقي يجمع بين متضادين توحدهما المجانسة الماهوية الواحدة.

عندما ننظر مفهوم القفزة في اللاوعي الصوفي البوذي (زن) نجدها قفزة ضمن تجانس نوعي يرتبط بفهم الوعي على صعيد تفسير علم النفس المتحرر من ميتافيزيقا الاديان التوحيدية من جهة، والمتحرر من أحكام المنهج المادي الجدلي من جهة اخرى. فهو نوع من النقلة النفسية التي لا تربطها علاقة مع مفهوم القفزة النوعية لا عند سورين كريكارد، ولا النقلة المادية كما هي عند ماركس.

لو نحن حاولنا المقاربة بين مفهوم القفزة الايمانية لدى كيركارد ونقلة صوفية الزن نجدهما متطابقان تماما رغم الاختلاف الديني بينهما. وتجمعهما المجانسة النوعية الواحدة على صعيد الماهية التي هي ان صح التعبير القفزة من عالم اللادين الى عالم جوهر الدين في الايمان بالله. حتى وإن وجدنا القفزة النوعية تخرجها عن الانتظام النسقي الخاص بالدين.

س32: ا. مراد غريبي: ماذا عن ماهية الإنسان في صوفية زن البوذية؟

ج32: ا. علي محمد اليوسف: حسب مفهوم صوفية الزن فالإنسان موجود (فني) يدرك الطبيعة ويحتويها بطاقته الابداعية الفنية التي تتكامل مع اعجاز الطبيعة الفني الجمالي. الانسان ليس موجودا ملقى لا يعرف حقيقة نفسه ولا يعرف حقيقة مصيره، كما ولا يعرف كيف يعيش الحياة بدون ملازمة تأنيب هاجس التعاسة الذي يلازمه طيلة سني حياته. فالانسان مزودا بكل الطاقات والامكانات التي تمكنه من جعل حياته وعلاقته بالطبيعة لوحة فنية تنبض بالحياة والجمال والتفاؤل.

الوجود الفني بالحياة في مذهب صوفية الزن ليس معناه ان يكون كل انسان متخصصا في انتاجية نوع من الفنون التي ينجزها اصحاب المؤهلات الفنية من موسيقى ورقص وغناء ورسم ونحت وادب.. الزن ترى في الجمال والفن اسلوبا يعيش الانسان الحياة بعيدا عن التعاسة ولازمة منغصات الحياة له. ولا يتم ذلك الا بالعودة الى الطبيعة واستلهام المعاني الروحية منها وحدها.

س33: ا. مراد غريبي: نعود مرة اخرى لتأثير فيورباخ في تناوله الفلسفي نشأة الدين وكتابه أصل الدين يعتبر مرجعا مهما بهذا المجال، فما هي قراءتكم له؟ هل كان فيورباخ موفقا في فلسفته الدينية ام كانت مجرد هجوم فلسفي على اللاهوت الديني المسيحي؟

ج33: ا. علي محمد اليوسف: فويرباخ كما معلوم أبرز فيلسوف انشّق مع آخرين من تلامذة هيجل وأطلقوا على أنفسهم الشبان اليساريين الهيجليين، منهم ماركس وانجلز وباور وشتيرنر وشتراوس وغيرهم. وربما يكون أهم انجاز فلسفي تركه فويرباخ هو كتبه الثلاث (أصل الدين) و (جوهر الدين او المسيحية) و(جوهر الايمان) في محاولته تثبيت نزعته الدينية الالحادية وشرح فلسفته في نشأة الدين عن الطبيعة واغتراب الانسان.

الا ان هناك من يذهب الى أن فيورباخ لم يكن ملحدا مثل برديائيف وجون لويس اذ يقول عنه هذا الأخير: إن فيورباخ كان رجلا متديّنا الى أبعد الحدود، ومن ثم فان ماديته مختلفة تماما عن أية مادية سابقة عليه، فهو لا يحقّر الدين وانما يرى الله اسقاطا لحالة الانسان البائسة.

عمد فويرباخ أن يجعل من الطبيعة منشأ الدين، وينصّب الانسان (الها) بها ومن خلالها وعليها، فهو جعل الانسان يقدّس ويؤله الطبيعة بتأملاته الخيالية والميتافيزيقية المحدودة إدراكيا عقليا، وأن يعتبر (الانسان ) دون وعي منه، الطبيعة بكل ما تمتلكه من ظواهر وهيئات وتنوعات جغرافية وبيئية وتضاريس وانهار وجبال وحيوانات ما هي الا (الاله) الذي يحتاجه روحيا وماديا ايضا في تعليل اسباب وجوده او المساعدة في ايجاد حلول لجميع المشكلات التي تعترضه والظواهر والموجودات الاخرى في الطبيعة التي تجاوره وتحيط به ويتعايش معها من حيوان ونبات.

جعل فيورباخ من الطبيعة والانسان والله، إلها واحدا هو الانسان، ليس على وفق مشابهات فلاسفة وحدة الوجود الصوفية، إلها متسيّدا الطبيعة من جهة، وشبحا إلهيا لإله متعالي لا في ما وراء الطبيعة لا يدركه لكنه يحتاجه، ليقوده الى الاذعان بما يخلع عليه من ذاته، صفات يتمناها في احتياجاته وحياته، إله يقوم بالرضوخ له وتقديسه وعبادته والخوف من غضبه، ذلكم هو الاله المتخيّل إنسانيا وجوديا في الطبيعة وليس خارجها، يرتبط الانسان بآلهته بعلاقة روحية غير واعية ومدركة يجسّدها ارتباطه الروحي بالطبيعة وليس ارتباطه الروحي الى ما وراء الطبيعة، فهذه العلاقة الميتافيزيقية التعبدية لم يكن يبلغها الانسان آنذاك الا بعد مراحل تاريخية طويلة،انبثقت لاحقا في الديانة السحرية والطوطمية والميثولوجية والاسطورية ومن ثم في مراحل لاحقة الأديان الوثنية التي قادت البشرية الى الأديان التوحيدية.

وفي معرض دفاعه انه لم يكن يدعو الى أن الانسان هو (إله) من غير أسبقية الطبيعة عليه يقول فيورباخ:(ولكن الرأي عندي ان الكائن الذي هو شرط مسبّق للإنسان انما هو الطبيعة، وان كينونة الطبيعة بالنسبة لي، الكينونة الازلية التي لا أول لها، انها الكائن الاول في الزمان وليس في المرتبة، فهي الكائن الفيزيقي وليس الاخلاقي) نقلا عن كتابه أصل الدين.

ويؤكد فويرباخ (ان الطبيعة هي الموضوع الاصلي للدين، كما يبرهن على ذلك تاريخ كل الديانات والأمم، فالتأكيد بان الدين فطري بالنسبة للانسان زائف إذا تطابق مع الثيولوجي، ويكون صحيحا تماما إذا كان الدين هو الشعور – شعور الانسان – بالتبعية الذي يدرك فيه انه لا يستطيع الوجود بدون كائن اخر مختلف عنه في كيفياته وصفاته، وإذا فهمنا الدين هكذا، فان الطبيعة للانسان ضرورة النور للعين والهواء للرئتين، والطعام للمعدة، باختصار الانسان كائن يعتمد على الطبيعة) .

ان تعلق فيورباخ بالطبيعة والانسان يكاد يكون عصابا مرضيا عنده، ان لم يكن هو اعلى إفصاحات التدّين التصوفي العميق، وصفات النقاء الروحي التي لا يمكن ان يتصّف بها فيلسوف عرف عنه إلحاده، ففي رسالة ارسلها الى والده عام 1824 بعد هجره دراسة اللاهوت كتب فيها (لقد هجرت اللاهوت ليس عبثا، او استهتارا، او كرها، ولكن لأنه لا يشبعني ولا يعطيني ما أحتاج اليه ولا أستطيع الاستغناء عنه، أود أن أضم الطبيعة الى قلبي، تلك التي يرتد عن اعماقها رجال اللاهوت الجبناء).

الطبيعة الارضية الحسّية الحيّة التي وجد الانسان نفسه مقذوفا بها كوجود من غير ارادته مع باقي المخلوقات والمكونات الطبيعية والحياتية النباتية والحيوانية والجمادية، وسط اشكال وظاهرات متنوعة، اشجار ونباتات وجبال عملاقة وصخور وانهار وبيئة متنوعة وغير ذلك. وكان محتّما ومحكوما على الانسان ان يتكيّف ويتعايش مع هذه الطبيعة شاء أم أبى، ويتماشى مع مراحل تطورها التاريخي، محاولا فهم صفاتها وقوانينها وكيفية التعامل والتكيّف والتعايش معها.

كتب فويرباخ في كتابه جوهر الدين:( الاعتماد الحيواني على الطبيعة – يقصد اعتماد الانسان والحيوان على السواء – هو اعتماد غير واع – يقصد سطحي عفوي – لكن بارتفاعه الى الوعي التخييلي – يقصد عند الانسان فقط -وعند التفكير فيه والاعتراف به يصبح دينا) .

وبالعودة لمناقشة وتوضيح عبارة فيورباخ حول النزعة الاعتمادية الحيوانية على الطبيعة من قبل الانسان والحيوان، ان علاقة الرضوخ والاذعان الانساني للطبيعة وان التقت مع النزعة الاذعانية في صفتها (الحيوانية) كما هي عند الحيوان، الا انها تختلف عند الانسان في الكيف عن الحيوان اي في نوعيتها على مستوين نناقشهما اشار فيورباخ لاحدهما تلميحا فلسفيا ضمنيا، ما معناه ان كلا الاذعانين عند الانسان والحيوان للطبيعة غير ادراكي غير معقلن، لكن حين يتحوّل الى وعي ذاتي مفارق عند الانسان المتحرر من هيمنة الطبيعة، فان ذلك الوعي الخيالي يصبح(دينا) إنسانيا لا يعيه ولا يفتقد أهميته الحيوان.

ومن جهة ثانية من جانبنا نؤكد ان (حيوانية) الاذعان في علاقة اعتماد الانسان والحيوان على الطبيعة في تأمين احتياجاتهما للغذاء والبقاء والحياة، وان اختلفت الوسائل بين الانسان والحيوان، فهي علاقة انسانية مفارقة عن مثيلتها في اذعان الانسان للطبيعة، مقارنة بالحيوان، ففي الوقت الذي يكون الحيوان في اعتماده الطبيعة لتأمين احتياجاته، نجده يرتبط في علاقة تكيّف سلبي بالطبيعة انه يعيش ليأكل فقط، ويهادن الظواهر الطبيعية ولا يرغب من الطبيعة بأكثر من تأمين الطعام له وادامة حياته. بينما نجد تكيّف الانسان مع الطبيعة، ومؤانسته بها انها توّفر له احتياجات العيش والحياة كما هي توفرها للحيوان، لكن بفارق واختلاف جوهري كبير جدا، فرغبة الانسان تفارق الحيوان بما نطلق عليه التكيّف الايجابي غير المنقاد للطبيعة، بمعنى ان الانسان لا يكتفي من الطبيعة بتأمين حاجاته الاساسية لإدامة حياته وتامين الغذاء له وحسب، وانما يرغب السيطرة على الطبيعة وقيادته لها لا كما تقود هي الحيوان من دون وعي مدرك لكليهما اذ ان الوعي المتبادل بين الطبيعة والحيوان لا وجود له، فالطبيعة والحيوان لا يدركان عقليا ميزة يمتلكها الانسان وحده انه يعي ذاته ويعي الحيوان ويعي الطبيعة وجميع المخلوقات بوعي ذكي ومعقلن......عند هذا التمفصّل الجوهري المفارق الذي تجاوزه فيورباخ ضمنا أم عمدا، وعلاقته الارتباطية الوثيقة بنشأة الدين نأتي لتوضيحه اكثر أهمله فيورباخ.

في التمفصّل الذي ذكرناه ينتهي دور الطبيعة ان تكون كما اشار واعتمده فيورباخ، هي الملهمة للإنسان روحيا، ومصدر وحيد لنشأة الدين عند الانسان. وفي توضيح مقارن بسيط نجد الانسان يشترك مع الحيوان في امتلاك (العقل) في وعي ذاتيته الإنسانية كجنس باختلاف جوهري ونوعي كبير، هو ان عقل الحيوان يفتقد خاصيتين يحتاجهما ويتمايز بهما عقل الانسان من دون الحيوان، هما خاصيتي (الذكاء والخيال) مضافا لهما في مراحل متقدمة من وجوده قدرته على اختراع الانسان لغة التخاطب مع غيره من البشر كنوع مفارق لحياة الحيوان.

وطبعا نحن لا نقصد بالعقل هنا امتلاك الانسان ملكة الادراك والتفكير العقلاني التي ايضا لا يمتلكها الحيوان، وانما قصدنا العقل المحسوس العجينة الرمادية المتكوّنة من المخ والمخيخ والنخاع المستطيل، هذه الكتلة العجينية موجودة في جمجمتي كل من الانسان والحيوان لكن باختلافات جعلت من الانسان نوعا متفردا بخصائص لا يمتلكها أي كائن على الارض. وبهذه الخاصية الانسانية كان الانسان (دينيا) دون سائر المخلوقات كما هو اجتماعيا في العيش المشترك في استخدامه اللغة بأشكالها البسيطة.

معلوم بما لا يحتاج منا التوكيد أن عقل وتفكير الحيوان في تكيّفه السلبي مع الطبيعة التي يدركها(حسّيا) فقط، في وقت نجد وجود الانسان في الطبيعة على وفق علاقة اصطراعية احتدامية في سعي الانسان والى وقتنا الحاضر هاجسه الكبير هو كيفية تطويع الطبيعة والسيطرة عليها، ومؤخرا في عصور العلم والحضارة، اخذ الانسان يسعى لاكتشاف القوانين الطبيعية من اجل رفاهيته وراحته وسعادته. وبقي تكيّف الحيوان الطوعي مع الطبيعة، في بقائه حيوانا غير مفكّر ولا عقلانيّ ولا خيالّيّ ولا متأمل ولا ديني ولا ناطق.

أما كون الانسان متأملا عقلانيا ذكيا خياليا فهذا جعله كائنا دينيا متفرّدا، يمتلك الصفات التي تؤهله التفكير الخيالي خارج ابعاد الطبيعة، وهذا الوعي الخيالي يرتفع به مرتبة أعلى من الطبيعة، فهو غير متكيّف معها بما تمليه عليه، بل هو في علاقة احتدامية غير منقادة معها، في بحثه الدؤوب عن خالق يمتلك صفات الطبيعة جميعها، كائن يمتلك قدرات اعجازية غير منظورة تملي عليه وجوب الانقياد له، وليس للطبيعة ذات القدرات المحدودة العاجزة في منع الحوادث والاخطار والبراكين والزلازل والموت وغيرها، صفات يتمناها أن تكون غيره يمتلكها  لتجعل منه كائنا يتوّسله في حياته التي يرغبها اكثر أمانا واكثر طمأنينة بعيدة عن الخوف الذي يتهدد وجوده، حياة في أسمى معانيها وصفاتها.

س34: ا. مراد غريبي: هل هناك تأثير لفويرباخ على ماركس؟

ج34: ا. علي محمد اليوسف: لقّب فويرباخ بانه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، (البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له ) ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار انكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا، واقفا على رأسه بدلا من قدميه، علما ان جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية الفويرباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية، والجدل المادي التاريخي اللذين اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فويرباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.

المهم أن هذا ليس موضوعنا، لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد.. الخ

كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.

يقول ماركس في عبارته المتعالقة مع فويرباخ:(ان الدين باق معنا، في بقاء الاسباب التي أدّت الى نشوئه). لا نجانب الصواب حين نرد وننسب التقاء ماركس وفويرباخ في نشأة المسألة الدينية لديهما في اشتراكهما ليس في طبيعة (الحادهما) وحسب، وانما في طبيعة نسبة مصدر الدين ومنبع وسبب نشوئه الى الطبيعة ذاتها والانسان ذاته ايضا. معتبرين الدين من صنع الانسان وصنع الطبيعة معا. اذ يقول فيورباخ بهذا المعنى (ان عبادة الله تعتمد على عبادة الانسان لنفسه).

س35: ا. مراد غريبي: طيب، ماذا عن التدين لدى فويرباخ؟

ج35: ا. علي محمد اليوسف: حسب فويرباخ أخذ الانسان يخلع على الطبيعة، بعضا من خصائصه الذاتية، ليصل بعدها خطوة او مرحلة متقدمة في(تأليه) اغترابه عن الطبيعة، متصوّرا أن قدراتها وما تمتلكه الطبيعة من صفات لا يمتلكها هو تجعله بالضرورة يجعل منها كائنا يفوقه بالقدرة والمكانة، ويستوجب عليه تقديسه واعتباره(الها) له يعبده ويعمل بجميع الوسائل كسب مرضاته ووقايته من الحاق ضرره(العفوي) المقصود به في كل خوارق العواصف والزلازل والفيضانات وهكذا في كل ما يهدد حياته ووجوده. هنا بدأ الانسان يفهم ان الطبيعة الإله، تمتلك وتستطيع فعل كل ما يعجز عنه تفكيره ان يفعله ويعمله، في وجوده المادي الحسّي والروحي على السواء.

ان تفسير فويرباخ (ألوهية) الطبيعة المتخيّلة والمصنّعة انسانيا ذاتيا، هو ان (الانسان وضع اسمى خصائصه الانسانية، ماهيته، او جوهره في الطبيعة فقدسّها، ثم خلع عليها صفات وقدرات الالوهية في تجريدها من عينيتها اي واقعيتها المادية، ومن ثم رفعها الى السماء، وسماها(الله) بلغات مختلفة وكيفيات مختلفة ورموز مختلفة وخصائص مختلفة وهيئات مختلفة.)

واضح ان منشأ الدين لدى فويرباخ هو الطبيعة، ويعتبر الانسان الديني هنا، انما يتعامل مع (الطبيعة – الدين) من خلال ذاته، كذات عقلانية مدركة للطبيعة والمحيط وتعي اغترابها عنهما معا (اغتراب ذاتي واغتراب عن الطبيعة). وبالتالي فان (إله) الانسان لا يعكس سوى حالته فقط، ذاتيته، وجوهره المتفرد الخاص به وحده دون غيره من الكائنات.

تأسيسا على ما ذكرناه يعتبر فويرباخ الطبيعة المبتدأ الاول والمنتهى الاخير لفهم نشوء الدين، لذا تكون تبعية الانسان لحاجة التديّن، هي لا شعوره الدفين بتبعيته للطبيعة التي لا يستطيع تصوّر الحياة من دونها وما توفره له من اسباب العيش والبقاء.

من المعلوم جيدا ان جدل الانسان مع الطبيعة يقوم على جوهر ومرتكز (أنسنة) الانسان لها، ومحاولته السيطرة على بعض تجليّاتها وتسخيرها لمنفعته، أو محاولة اكتشاف بعض قوانينها الطبيعية التي تعمل بمعزل عن رغباته ووجوده ومحاولته الاستفادة منها في تمشية حياته والتكيّف مع الطبيعة.

 فالانسان الذي يصطدم بالقدرة الكلية للطبيعة، والاحتدام معها، يسقط على الطبيعة رغبة الانتصار عليها وتحقيق رغباته واحتياجاته منها، والانسان لا يتكيّف مع الطبيعة تكّيفا سلبيا معها كما يفعل الحيوان، بل يكون تكيّفه مع الطبيعة بمقدار استجابتها تحقيق ما يرغبه منها وتمنحه له وتديم بقاؤه في الحياة.

بالمقابل الجدلي المناقض للانسان نجده في سعي الطبيعة، تطبيع الانسان على التكيّف معها في مقابل محاولته هو أنسنتها، في افتراض واقعي علمي ان جدل التناقض في قطبيه الانسان والطبيعة لا يعيان ادراكيا تضادهما الجدلي ولا حتى النتائج المتولدة منه والمفصحة عنه. الجدل والتضاد بينهما في قانون الماركسية وحدة وصراع الاضداد الذي يحكم المادة والتاريخ والوجود عامة.

انه من المفهوم جيدا ان جدل الانسان في محاولته أنسنة الطبيعة يقوم على خاصيتين يمتلكهما الانسان وتفتقدهما الطبيعة وهما عاملي (الذكاء واللغة)، لذا بالإمكان ترجيح جدل التضاد بين الانسان والطبيعة في صالح الانسان وليس الطبيعة وهو ما ثبت انثروبولوجيا وعلميا في التطور التاريخي والحضاري للانسان. ثم اضيفت للانسان قدرات اضافية لا تجاريه فيها الطبيعة مثل انتصاب القامة واستعمال اليد بمساعدة إصبع الابهام الذي لا تمتلكه سائر الحيوانات، وفي مرحلة متقدمة جدا اخترع الانسان اللغة مع دخوله عصر الزراعة، عصر صنع الحضارة الانسانية. (عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد، وعصر اختراع الكتابة بحدود (2200 – 2300) ق. م.

نعود لنكمل مع فيورباخ (إذا كان الانسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية، وليست له صفات بشرية، فان ذلك الكائن ليس شيئا سوى الطبيعة في الحقيقة، وان كل الاسماء التي يمنحها هذا الانسان لكائن متخيّل ما هي في الاصل الا سمات الطبيعة ذاتها).

ويمضي قائلا في تأليهه الطبيعة (انه اذا كان الله بنظر اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فانه لا يوجد في الحقيقة كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الارض، الشمس، الماء خالدين الى الابد) كما يرى فويرباخ أن جوهر الدين هو جوهر الانسان، وماهية الدين هي ماهية الانسان نفسه، وبهذا المعنى فان فويرباخ بحسب الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي (لا يؤسس للإلحاد، بل يؤسس الدين برده الى اصله(الانسان) وعلة وسبب نشوء الدين هو اغتراب الانسان الذاتي واغترابه عن الطبيعة معا).

وبهذا الفهم الاغترابي الادماجي المركّب حسب فويرباخ يصبح كلا من الانسان والطبيعة والاله المصنّع خياليا ميتافيزيقيا (الها واحدا) متمثلا في محورية ومركزية الانسان وليس الطبيعة ولا إله ما وراء الطبيعة.

من الواضح ان فويرباخ جعل قدم واسبقية الوهية الطبيعة متقدمة على الوهية الانسان لئلا يقع في التفسير المثالي الذي تحاشاه وهو ان الطبيعة الالهية والاله الميتافيزيقي كلاهما من صنع الانسان، وبهذا المنطق المثالي الذي تحاشاه فويرباخ يكون أبقى الطبيعة وجودا ماديا بمعزل عن كل وجميع رغائب الانسان وذهب الى ان الطبيعة منشأ الدين وليس الدين من صنع وخلق الانسان المحض. متجاهلا ان حقيقة التفسير العقلي المنطقي بغض النظر عن ماديته او مثاليته يذهب الى ان الطبيعة وحدها لا تستطيع صنع دينها بنفسها لولا توّسل الانسان بها وقيادته هو للطبيعة وليس العكس. عندها يصبح التفسير المثالي او المادي في ان الدين لم تصنعه الطبيعة بقواها الذاتية لولا توّسل الانسان بها واعتماده لها مقبولا صحيحا، وبالتالي يبطل قول فويرباخ ان الطبيعة مصدر ومنشأ الدين. وفي تحاشي فويرباخ عدم الانزلاق بهذا الفخ لجأ الى القول ان الانسان خلق تدينه من الطبيعة ولم تفرض الطبيعة دينها ان صح التعبير هي عليه. اي ان فويرباخ وقع في مأزق المراوحة بين التفكير المادي الذي يتبناه ويحمله من جانب، وبين الفهم المثالي الذي لا يقر فويرباخ الاخذ به من جانب اخر.

فقد عمد الانسان تأليه الطبيعة التي يجهل خلقها ومن أوجدها، لذا فقد اعتبرت الطبيعة منذ تلك الحقب التاريخية السحيقة والى يومنا هذا ميراثا للانسان تخدم وجوده الارضي لا ينازعه بها أحد منذ انقراض الديناصورات والماموث وغيرها من الكائنات التي كانت تهدد وجوده بالانقراض.

وسواء ورث الانسان الارض هبة من الخالق ام كنزا وجده مصادفة هيأته له ارادة اخرى مجهولة خفيّة في التطور البيولوجي والكوسمولوجي، فهو وجد نفسه حاكما متحّكما في الكثير من امورها الغامضة او الواضحة ليكون سيّد الطبيعة.

وحسب فويرباخ فان الانسان خلع على الطبيعة من صفاته رغبة منه في حل الغاز وجوده، ونضيف تماشيا مع تصور فويرباخ انه لما كانت الطبيعة عاجزة عن حمل رسالة الالوهية بما يلبي رغبات الانسان ويبعث الطمأنينة بنفسه، فهي لا تجترح المعجزات ولا تجيب على اسئلة عقل الانسان المحيّرة ووجوده النوعي، فأن الانسان لم يمتلك سوى الارتداد الى ذاته في تصنيعه الطبيعة (الها)، الى مرحلة لم يكن يعيها جيدا انه بإمكانه ان يكون هو(الها) للطبيعة والمخلوقات الأخرى معه.

وهو ما نجده متحققا في مراحل تاريخية متطورة حضاريا من وجود البشرية في اعلان الانسان نفسه (الها) وحتى ليس نبيا، في الاساطير والميثولوجيا، وحتى الى عصور متقدمة معاصرة جدا في اعلان امبراطور الحبشة (اثيوبيا) هيلاسلاسي نفسه(الها) مخلصّا يعبد بحسب المعتقد الديني في (الراستفارية) عند بعض القبائل الاثيوبية غير المسيحية.

بالحقيقة لم يكن يدرك الانسان ان من خصائص الاله اجتراح المعجزات عصر ذاك، لذا كانت الوهية الانسان لا ارادية ولا عقلانية، سواء اكانت الطبيعة الها أم لم تكن، او اكان الانسان مخلوقا عبدا ام الها مرسلا ام غير مرسل.

ولأن الانسان بحسب فويرباخ (كائن غير ميتافيزيقي فان تفكيره الميتافيزيقي (نقض) بمعنى السلب النفي، لفن التفكير كأنه سلب مطلق، والطبيعة له ليست الا المقابل العقلي له)

(والكائن الذي يوجد في الفكر بالنسبة للمفكر، هو الجوهر الحقيقي، ومع هذا فانه يكون واضحا بذاته له، والكائن الذي لا يوجد في الفكر لا يمكن ان يكون جوهرا صحيحا)

كما ان الذي لا يعطيه لنا الفكر بفعل التفكير كناتج تفكيري وفهم الذي هو الموضوع المادي المدرك لذاته، أو الكائن المدرك وجوده خياليا (روحيا) عندها يكون المخيال إلغاءا افتراضيا مطلوبا لإدراك وجود الطبيعة ماديا. التي يرغب الانسان اعطاءها صفة المتعالي والمقدس والالوهية، على حساب الغاء فاعلية العقل الحسي في تحقق وجود الأشياء، على وفق قصدية روحانية دائمة التصادم والتضاد، في عجز الانسان والطبيعة معا اي الخالق الطبيعة والمخلوق الانسان العبد كليهما وجدا عجز اثبات ان الطبيعة تمتلك سمات الالوهية والمقدس في اجتراح المعجزات وتحقيق اماني العبد الانسان في درء الاخطار المحدقة به وحمايته. هذه السمات لم تكن الطبيعة تمتلكها أولا، ولا هي (الطبيعة) ارغمت الانسان خلعها عليها، وتصنيع الانسان إلهه منها وعبادته لها على وفق ما يطلبه ويتمناه لا وفق ما ترغبه الطبيعة، فهي لم تكن ولن تكون مستقبلا بحاجة الى انسان روحي يستمد تدينه من الطبيعة.

وفي مقولة هيجل (الدين هو أعلى صورة من صور التعبير عن الوعي الذاتي) نستطيع فهم ان ذاتية الانسان هي التي جعلت من الطبيعة الها افتراضيا هو من صنع خيال الذات الانسانية في ايجاد وسيلة تخلع عليها صفات الالوهية، ويعبدها الانسان فلا يجد غير الصفات التي تتفرد بها الطبيعة، أو الصفات المشتركة بينهما، ويصنع من الطبيعة الها ماهو الا ذاته هو، التي خلعها على الطبيعة. تم هذا بواقع تفسير خيالي افتراضي ان الطبيعة قادرة ان تعطي كل متطلبات معيشة الانسان، وبالتالي فهي تستحق التأليه الذي يحتاجه الانسان روحيا في فزعه من الموت والفناء.

س36: ا. مراد غريبي: كيف ترى مستقبل التديّن الاسلامي السياسي ومأزق العصر؟ هل تستطيع الفلسفة لعب دور الوسيط المقبول بين التدين الاسلامي والمعاصرة. خاصة ان التضاد بينهما هو على صعيد الايديولوجيا.

ج36: ا. علي محمد اليوسف: إن منهجية الدراسات الاصلاحية المعرفية والفلسفية، في نقد وتقويم الانحرافات الطارئة في الفكر الديني، من وجهة نظر معاصرة حداثية، وحاجة الانسان للتديّن، مداميك وأسس وضعت الظاهرة الدينية على محّك المراجعة النقدية المسؤولة، بعد أن أصبح خطر ايديولوجيا التديّن الاسلامي المتطرف تحديدا، المعتاشة على الدين وبه ومن خلاله، تهدد الوجود الحضاري في العالم العربي.

أصبحت المجتمعات العربية الاسلامية تجرّها منظومات التراث المتحفي - الماضوي التي فقدت غالبية مؤثراتها وبريقها بالمعيار الثقافي المعاصر، وفي تعطيلها الجوانب المشرقة التراثية أن تلعب دورها في التعايش والتلاقي مع الآخر ثقافيا، وتيار الجذب الثاني ممثلا بالمعاصرة التي يوجب حضورها سريان الحياة التمدينية، وتطورّها وتقدمها باستمرار، وهذه المعاصرة بدلا من تعطيلها سابقا جرى تغييبها اليوم قسرا وبالإكراه الايديولوجي الديني السياسي.

في جنبة أخرى نجد اليوم من يسعى الى تجذير الخلافات الدينية مذهبيا داخل البيت الاسلامي، في الرجوع الى إحياء وبعث جوانب من التراث الاسلامي، بكتابة تاريخ منازعات دينية طائفية مذهبية، في مسعى تصويب مسار تاريخي مذهبي على حساب مسار مذهبي آخر، بعيدا عن معالجة اشكالية الدين كإسلام في تقاطع غالبية مفرداته الفقهية والتشريعية مع العصر. نحن بحاجة اليوم الى معالجة قضايا الاسلام الديني، ليس كمذاهب طائفية متناحرة متطرّفة، بل في حل اشكالية فكر الفقه الدين الاسلامي وتقاطعه مع ثقافة وحضارة العالم اليوم.

ولم يعد مهمّا اليوم ما نكتبه سواء بمكابرة زائفة أم بقصدية مؤمنة، الا بمقدار ما تقربّنا تلك الكتابات الدينية من ردم هوّة السقوط والتراجع الثقافي والحضاري للمجتمعات العربية -  الاسلامية في عالم اليوم، وليس بمستطاع الطائفية أن تنقذ الاسلام من جموده وتعطيل حركته، بمحاصرته وتجييره للطائفة الغارقة بالتزّمت والتطرّف بعيدا عن الاسلام كدين شامل يضم طوائف واجتهادات وثقافات واقليات واثنيات منوّعة، الأولى ايجاد مشتركات التعايش فيما بينها بدءا، وتعايشها السلمي التنويري مع بقية الديانات التي تعايش الاسلام معها عبر التاريخ، كي يكون بمقدورنا محاورة ثقافة الحاضر عالميا من منطلق اسلام جامع، وليس اسلام طوائف متفرقة واحترابات دينية مع غير المسلمين . أن في إصلاح الطائفة والاثنية مقدّمة سليمة وصحيحة لإصلاح الفكر الديني الاسلامي.

هذه التوطئة وجدتها ضرورية قبل الدخول في بسط فقرات هذه الاجابة في معالجتها مجتزءات متعالقة مع الفكر الديني وليس مع الدين، كانت أغفلتها أو تناولتها بأكثر رصانة المناهج النقدية الشمولية في سعيها طرح معالجات إصلاح الفكر الوضعي الديني، وحاولت كتابة تاريخ ديني مغاير للمتوارث السائد المعطّل الوجود والفاعلية الحياتية، عندما يكون موروث الفكر الديني يعيش الماضي والحاضر والمستقبل على حساب هامشية الوجود العربي – الاسلامي في عالم اليوم.

حاولت في مقالات لي بسط اجتزاءات منها التديّن حاجة ملازمة للوجود الانساني، ومفردة اخرى العودة بالدين لتوكيد فردانيته التدينية العفوية الصادقة، وليس مجتمعيته التعبوية المنحرفة ايديولوجيا، كما وضعت مفردة عصرنة الدين بين الاستحالة والتحقق، كذلك مفردة خلق عوالم ويوتوبيات دينية ودنيوية، خيالية ومتحققة، كما وتطرّقت لآفة الفكر الديني في أدلجة الدين، جميعها مفردات بحاجة الى تناول مستفيض، لا يفيها حقها مثل هذا الحوار، لكن حسبي أني اضعها تحت نظر ويد التناول من غيري.

س37: ا. مراد غريبي: هل (التديّن) حاجة ازليّة مفطور عليها الانسان؟

ج37: ا. علي محمد اليوسف: المراحل الخرافية والسحرية والميثولوجية والاسطورية التي مرت على الانسان في ابتداعه واختراعه (التديّن)،أتت وجاءت متسّقة مع التفكير البدائي-البدئي العقلاني غير الساذج، في حاجة الانسان للتديّن، متجاوزا متطلباته البيولوجية الضرورية الأخرى بعد تطمينها وتأمينها، والانتقال الى تساؤله في معنى وجوده بين هذه الكائنات المحيطة به في الطبيعة.(ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الطاقة الروحية التي يمتلكها الانسان دون غيره من الكائنات،هي طاقة انسانية بالأساس، لكنها متأرجحة بين الشأن البشري الأرضي من جهة، وبين التوق الى المطلق من جهة أخرى، وخاصة الإلمام بعوالم ماورائية مفترضة.) كما يعبر الباحث نبيل بن عبد اللطيف.

جوهر تلك النزعة العقلانية في استحضار حاجة الانسان التاريخية للتدّين، لا تنخلع عليها السذاجة توصيفا، لأن عقلانيتها الايمانية الغيبية، تتطابق مع نفس الارتباطات والمنطلقات الدينية الايمانية في وقتنا الحاضر. من حيث الالتقاء على أهمية حضور آلهة، تعطي وتوهب، تجازي وتعاقب، تمنع وتثيب، تجترح المعجزات، غير محدودة القدرات، خارقة، تلغي حواجز الزمان والمكان. ذات القدرات الالهية الاسطورية نفسها التي قرأنا عنها، والى وقت ليس بعيدا جدا في عمر الشعوب كما هي عند الاغريق في اساطيرهم وقبلها في الديانات الوثنية في مصر وبلاد الرافدين.

قد لا يكون التصور الإلهي وقتذاك في تلك الحقب السحيقة، مشابها لما حصل لا حقا من تطور انساني في ابتداعه تنويعات أكثر اتساقا وقبولا في مسار تطور التديّن الايماني الغيبي. لكنما الجامع هو جوهر التدّين الإلهي في الاعتقاد بوجود الخالق.

س38: ا. مراد غريبي: لماذا لم يكن الدين ظاهرة مفارقة لوجود الانسان؟

ج38: ا. علي محمد اليوسف: بالعودة الى المنظومة الفرويدية كما يدعو الباحث نبيل بن عبد اللطيف (نجد الحاجة الى الاعتقاد، هي حاجة نفسية بالأساس تنبع من محاولة الانسان الاجابة عن سؤال مركزي، لطالما أرهق تفكيره، هو ما الهدف من الحياة؟).

وبحسب كانط (العقل الانساني فريد من نوعه، أنه يطرح في جانب من جوانب معارفه، أسئلة لا يمكنه الاجابة عنها البتّة، فهو يطرحها لأنها نابعة من طبيعته ذاتها لكنه يبقى عاجزا عن الالمام بها بسبب انها تتجاوز قدراته البشرية).

الانسان في عديد من ظواهر الحياة التي لا يجد لها تفسيرا منطقيا شافيا، يتنازعه مؤثران اثنان هما (الارادة والقدرة)، الارادة عند الانسان في تطلعه الميتافيزيقي، الذي هو رؤية استباقية استشرافية مصدرها الخيال غير المحدود بطموحات معرفية معينة دون غيرها. والعقل يقود الانسان الى سلسلة من التساؤلات معظمها محرج، وامتحان لقدرات الانسان المحدودة في فهم وتفسير الحقائق والظواهر الطبيعية وغير الطبيعية المحيطة به.

عليه يكون الدين في حياة الانسان حقيقة إيمانية ميتافيزيقية بما وراء الطبيعة، ملازمة غير مفارقة للوجود الانساني، طالما هناك توالد وتوليد مستمر لتساؤلات يتعّذر الاجابة عليها بالقدرات العقلية للانسان ويفرضها الايمان الغيبي كمسلمّات تريحه نفسيا.

كما اشرنا سابقا أن العديد من الظواهر الحياتية والطبيعية المحيطة بالإنسان، هي ظواهر وحقائق كانت وستبقى مستعصية الحل مع الانسان، تلازمه عبر الاجيال، ويصعب النفاذ الى جوهرها، واستكناه ماهيتها وتحليلها بوسائل العلم او المنطق الفكري والفلسفي، او حتى بأسلوب الاستدلال العرفاني التصوفي الذي يتخطاهما – اسلوبا العلم والمنطق – ورغم هذا التقدم العلمي الهائل الذي نعيشه ونشهده،في ضروب الحياة المعاصرة، كان تقدم العلم ولا يزال موازيا لبقاء الدين خارج حيّز اهتماماته واشتغالاته، وقطع العلم شأوا متقدما جدا في فك الكثير من مغاليق وشفرات الوجود وألغاز الحياة المحيّرة، فلا زالت قدرات الانسان العقلانية والمنهجية محدودة وقاصرة في مواجهة مشكلات وتعقيدات الوجود الميتافيزيقي للانسان، والسير ضمن نسبية الامكانات في سبر أغوار الظاهرة الدينية الملازمة للانسان، التي ترسبّت في اعماق الوجدان الثقافي والاجتماعي والسلوكي على مر الاجيال .

أن محاولة فتح مغاليق المطلق الديني هو (إرادة وعجز) هو ارادة طموحة بلا حدود عندما يجد الانسان نوعا من الراحة والسكينة النفسية، وتقاعس وعجز وتراجع في أشغال الذهن بتساؤلات صعبة عصّية على التفسير والاقتناع لكنها تتلبسّه لا يمكنه الفكاك منها كما لا يمكنه مجاوزتها.

فإرادة الانسان وأمنياته في تحقيق غير الذي بالإمكان تحقيقه والوصول اليه، يجده مجسّدا في قدرات وصفات الخالق والإيفاء بتحقيقه وتطمينه، والانسان يرتاح أنه يدفع بجميع متطلباته المحمّلة بالأمنيات والتي يفتقد حضورها الارضي، ويجدها متحققة في أماني اعتقادية انها ممكنة التحقيق في طي الغيب التعويضي المتخّيل لحياة ما بعد الموت. وفي هذه الحالة يتراجع عجز الانسان المتشكك الاقتناعي في عدم امكانية تحقيق الامل الأرضي، الى رضى نفسي تسليمي في دفع واحالة جميع حرماناته الارضية الى مطلق إلهي يضطلع تأمين تلك الحاجات.

س39: ا. مراد غريبي: ماذا عن النقد الديني أو لنقل الجدل حول نقد الدين؟

ج39: ا. علي محمد اليوسف: الدين في قدسيته وتعالي ثوابته، جعل من ارتباط النقد الدنيوي – الانسانوي له، استحالة تحريمية، وممارسة مقموعة لا معنى لها في حضور تابوهات تحريم قاطعة مستمّدة من صفات المقدّس، التي تجعل المساس بأي مفردة دينية هي المساس بصفات المطلق الالهي المعصومة العظيمة بلا حدود، في امتلاكها قدرة وارادة الحياة والافناء، ومحاسبة الفرد بالعذاب والثواب.

امام هذه المعضلة وغيرها نجد أن التديّن في تحريمه النقد عمد اخراج العلاقة الايمانية بين الخالق والمخلوق من فردانيتها السوّية الصحيحة المحكومة بالثنائية التعّبدية الايمانية، ومن شخصانيتها في أن الدين هو علاقة روحانية تربط الانسان بخالقه فقط، تخص الانسان (النوع) وليس الانسان المجتمعي الفاني، التي جرى اخراجها وحرفها الى/نحو العلاقة الايديولوجية السياسية والتعبدية التي تسوق المجموع المنقاد بإسم الدين. بمختصر العبارة أن التديّن الاسلامي السياسي بات اليوم أقصر الطرق للهروب من تساؤلات العقل في تغييب الحداثة المجتمعية والحضارة التاريخية.

 ان العلاقة الدينية الفردانية في انتظامها بالخالق روحيا، هي العلاقة التعبدّية الصحيحة والسليمة، قبل تحريفها ونقلها الى فضاء المجتمع المعبأ بأيديولوجيا ألدين السياسي، التي أخذت دور الوسيط والوصي على إيمان الفرد وعلاقته بالخالق. وبذلك تمت مصادرة وتغييب شكل او المعنى التعبّدي الديني الذي يخرج على وصاية ورقابة وسلطة ايديولوجيا الدين. وكذلك مصادرة أدنى حد وحق في النقد الديني. حين يراد فهم او توضيح او فك شفرات بعض الممارسات المصاحبة للطقوس الدينية، واجتهادات تفسيرات الفكر الديني، التي تجابه بالتحريم القاطع المقترن بإنزال العقاب الصارم، وفي الإحالة الى مرجعيات كهنوتية باسم المطلق الذي تنعدم امامها المساءلة النقدية او الانتقادية في أبسط صورها ومعانيها.

الايديولوجيا الوضعية السياسية الدينية الاسلامية تستمد مقوّمات حضورها الديني وتأثيرها وانتشارها، من الإحتماء بالمجتمعي المضّلل والمعبأ بأيديولوجيا التسليم الدوغمائي المطلق، وفي تكريس المهيمن الغيبي المسّطّح في قصور فهم الدين فهما صحيحا يجاري متطلبات وروح العصر.

إن في العقلانية النقدية -إن حق لنا التعبير- لبعض المظاهر والسلوكيات والممارسات الدينية المنحرفة، نصطدم بالمباشر بجدار المطلقات الدينية وحرمة وعصمة نقدها، كما نصطدم أيضا بالإحتمائية النفاقية الكاذبة مجتمعيا المساقة والمعبأة بهستيريا ايديولوجيا الدين السياسي. فتكون هذه الحماية الكاذبة المنافقة للدين جمعت ما بين حماية الدين التعبوي المؤدلج مجتمعيا، والاحتماء بعصمة الروحي المطلق في تجريم وتحريم أن يمسّه أي نقد او انتقاد، في ادانة سلوكيات منحرفة في الفكر الديني السياسي. لذلك نجد بقاء وتطاول البقاء لثوابت ومطلقات الفكر الديني راسخة ومتجّذّرة في حمّى التحريم وتحت جبروته القمعي، تسير بالتوازي مع سريان وتبدّل وتغيّر الحياة والعصور من حولنا، التي تضع الانسان في صلب التساؤل الدائمي بلا جدوى، وتملي عليه عقم المراجعة النقدية ولا معناها وانعدام جدواها.

س40: ا. مراد غريبي: تطرقتم في العديد من المقالات لاتجاه ما يعرف بــــ "عصرنة الدين"، ما المقصود بهذا وما مدى تحققه؟؟

ج40: ا. علي محمد اليوسف: اشكالية الديني المقّدس مع الارضي المدّنس، أصبحت اليوم هي اشكالية التقاطع أيّهما يقود الآخر، ولمن تكون الأرجحية في الاعتماد أو الانقياد؟!

إنها اشكالية التقاطع المفروض بقوة وسطوة الحياة المدنية والمتحضّرة، وإن المأزق الذي يتقاذف الانسان العربي المسلم يتمثل اليوم في مواجهته اشكالية الديني في الحياة، في تساؤل اصبح اكثر مشروعية، هو كيف يستطيع هذا الانسان أن يجد او يبتدع في الدين ( معاصرة ) لا تتقاطع مع ( ثوابت ) الديني السماوي والفكر الوضعي الديني معا ؟، وهذا الاخير الفكر الوضعي المؤدلج يمانع وبشّدة وبمختلف الطرق أن يخلي دوره في وصايته على الدين، أمام رغبة الانسان العربي المسلم سعيه جعل المعاصرة الدنيوية ( دينا ) آخر في الحياة، او مرادفا لدين المقدس المطلق يعيش معه ويوازيه .

إشكالية الروحاني الديني مع الارضي الدنيوي الذي تفرضه الحياة المعاصرة، في الانسان الذي يرغب فهم الدين عصريا هو بالضرورة الحتمية سيكون في مواجهة المتديّن المتطرف الذي يشهر سيفه على الدوام وفي كل الاحوال وبأبشع صور الهمجية والاجرام والتخلف، في محاسبة كل من يجرؤ على التساؤل او الاستدلال لمعاني معرفية تخص انحرافات الدين المسيّس. وأن كل ممارسة تحمل صبغة الاسلام الديني يجب أن تخرج من تحت عباءة وهيمنة النص الوضعي المتطرف لأيديولوجيا الدين السياسي، وفي الاجهاز على كل تطلع يروم جعل الدين خارج مجرى التقاطع مع مجرى الحياة المعاصرة.

وأقصر الطرق لجعل الدين ثوابت انتقامية جاهزة، تستمد منها وتتخلّق عنها ايديولوجيات سياسية متطرفة وغير متطرّفة، هو في ممارسة عصمة ما يراد أن يساق ويساس به المجتمع، على وفق مسّلمات خرافية متخلفة متقاطعة دينيا مع روحية العصر وتحديث المجتمعات العربية الاسلامية.

من هنا نجد استحالة الجمع بين الرغبة في عصرنة الفكر الديني الى جانب عصرنة الحياة، وأن هذا التقاطع سيستمر لاستحالة خروج روحية العصر وتوقفها عن مسارها الطبيعي في التقدم الى الأمام، امام استحالة اخرى تتوازى معها وتقاطعها ممثلة في ثبات وتخلف الفكر الديني الوضعي المؤدلج سياسيا.

س41: ا. مراد غريبي: لكن هناك أيضا عنوان التبشير الديني بعوالم فوق المعقول الارضي، كيف يمكن فهمه؟

ج41: ا. علي محمد اليوسف: إن التبشير الديني بجنّة وعالم سعادة وحياة ما بعد الموت، يلبّي جميع الاماني المكبوتة عند الانسان في حياته الأرضية، والتي حرم منها والاستمتاع بها، وفي إشهاره التعذيب الجسدي والنفسي على الذات في نبذه طموحات ورغبات النفس الامّارة بالسوء، التي جعلت من الانسان العربي المسلم، كينونة وجودية طارئة خالية من أية قيمة انسانية فاعلة بالحياة، سيجدها متحققة في نيله ثواب الآخرة، وان يكن تحقيق هذه الاماني المغيبّة تشي بتعويض نفسي مخاتل ومنفصم.

إن مصدر اختلاق يوتوبيات سماوية، وأخرى أرضية هو الانسان وحده لا غيره، وتأتي توصيفات الدين لأجواء وسعادة تلك العوالم اليوتوبية تعويضا عن بؤس وشقاء الانسان بالحياة، وتعميقا استلابيا لأي قيمة ارضية تعطي الحياة معنى ان تعاش أمام طموح الحصول على جنان الخلد في السماء الذي لا يمكن تحقيقها الا في إعدام حياة الارض. ولا يقتصر التبشير بعوالم السعادة في السماء لما بعد الحياة على الارض دينيا فقط، بل هناك تبشير خلق يوتوبيات سعادة ارضية مصدرها الانسان ايضا، كما سعت له المفاهيم والعقائد (الاشتراكية)، في محاولتها إنزال جنة السماء الى/فوق الارض. أو خلق عالم يوتوبي آخر على الارض بمنطلقات دينية ايضا، لا علاقة له بيوم القيامة ولا بحياة اخرى بعد الممات، كما تبشّر به الديانة البوذية والوثنيات وتسعى تحقيقه على الارض.

كما أشرنا سابقا أن العالمين الافتراضيين، جنة السماء ويوتوبيات الارض بدايتهما ونهايتهما هو طموح الانسان على الارض والتخلص من شقاء الحياة، وحيرته في الوجود والبحث عن معنى الحياة. لكن يبقى الفرق جوهريا بين جنّة الدين في السماء، ويوتوبيا الحياة على الارض، في تطمين حاجة الانسان للسعادة والراحة.

الأبدية، فأمام استحالة تحقيق الانسان حلم السماء على الأرض، بوسائل ايمانية معجزة، يصار الأمر في بحث امكانية تحقق جنّة الانسان على الارض بقدرات انسانية وجهود واضحة ليست غيبية، ولا خارج تصورات الأرضي، وتفكير وفعالية الانسان العقلية، وقدراته العملية. والعديد من يوتوبيات الارض التي اخترعها الانسان وسعى إليها، لا تخرج عن مديات الامكان في التحقق ولو جزئيا. فرق آخر يمكننا ذكره بين جنّة السماء ويوتوبيا الأرض، إن الايمان الغيبي في جنّة السماء بعد الممات، تشلّ القدرات الممكنة للانسان جسديا وروحيا وتقعده عن العمل المنتج الجاد في نيل الحياة السعيدة على الارض واعتبارها نعمة زائلة وخادعة تصرف الانسان عن طموحه في السعادة الابدية التي تنتظره في السماء.

س42: ا. مراد غريبي: في ذات النسق سؤالي من جديد ماذا عن أدلجة الدين؟

ج42: ا. علي محمد اليوسف: الدين في قدسيته المتعالية و ثوابته المستمدة من وحدانية الخالق وقدراته غير المحدودة، التي وردتنا عبر الرسل والانبياء وقصصهم واحاديثهم وتصرفاتهم وكتبهم السماوية المنزلة عليهم بالوحي او الإلهام، وما تحمله من تشويهات طارئة عليها، ومبالغ فيها، كل ذلك جعل من الافكار الدينية المتعالقة معها بشروحات واضافات وتفسيرات غائية، تكريسا لظاهرة دينية متناسلة الحضور الزائف عبر الاجيال.

هذا الموروث الديني الكبير له دعاته ومريدوه ومفسّروه وشارحوه، ويتنازع هذا الموروث تيّاران، احدهما اراد نقل جميع التفسيرات والاجتهادات الدينية بما يعمّق الايمان الغيبي،بأن الدين علاقة (فردانية) روحية تربط بين الخالق وعبده ولا تحتاج الى وسائط بينهما من مجتهدين ودعاة ورجال دين،وحكام اوصياء على الدين مستبدين طغاة،الا فيما يُشكِل ويلتبس على المتديّن في مسائل تحتاج الى فتوى وتشريع يسّهل أمر الناس في دنياهم كالزواج والميراث وقضايا الاحوال المدنية .هذا التيار ومنذ اعلان الخلافة الراشدية كان يروم تغليب الاجتهاد الديني في الحياة على (الدولتي)الحاكم - السلطة للحياة . يقابله بالضد منه من يجدون في الدين نظام حكم ينقاد الديني وراءه في الحياة، ويسخّره لمقتضيات وضرورات الحكم الانتفاعية، بمعنى ان الأولوية للحكم الذي يسحب وراءه الدين كتزكية وتعبئة له، الذي يستمد مشروعيته ومقبوليته من فكر الدين والاجتهاد في تفسيراته المتعددة حسب مقتضيات الحال وضرورات الحكم، بل حسب مقتضيات الحاكم المستبد الواحد فقط لا غيره، الذي يقطع رؤوس معارضيه بسيف الافتاء الديني في اباحة وتمرير كل عمل يريد تنفيذه الحاكم في رعيّته، وتحت شعار مانع قاطع انه لادين في معصية الحاكم.

هذا الشكل المنحرف من الحكم بإسم الدين جرى تداوله عبر عصور طويلة من ظهور الاسلام، الى ان استقر به المقام اليوم في انشاء احزاب سياسية دينية تحمل ايديولوجيا الدين الذي تستمد حضورها الحاكم من مصدر السياسة تقود الدين، ولا يقود الدين السياسة لا في الحكم ولا في الحياة.

أصبحت تلك القراءات المنحرفة للدين تكريسا لنوازع الانتفاع الدنيوي في تسويق نفسها كإيديولوجيات دينية تحتمي بإرهاب الدين، الذي تفهمه وتفسّره حسب مصالحها، لا حسب مصالح الناس في الدين والحياة، وبحسب رفاهيتها في تسويق وافشاء التخلف والفقر والحرمان للناس باسم الدين. لا بحسب حاجة الناس لدين الحق والعدل والمساواة.

كيف يكون الدين حاجة مجتمعية مؤدلجة في حين هو في جوهره حاجة فردانية ايمانية فطرية؟!

ذلك تم ويتم بنقل الدين من طقوس عبادية تربط المتعبّد بالخالق الى جعل الدين ايديولوجيا سياسية مجتمعية بضوئها وبها يصار الى تحديد مصير الانسان على الارض قبل السماء. ولكي يكون الدين عامل اسعاد ايماني للمجتمع في الحياة، يجب ان يصار إعادته الى فاعليته الفطرية الاولى، كونه تفسيرا للحياة وموقفا ايجابيا سلوكيا واخلاقيا منها، من قبل الفرد المتديّن وليس من قبل اجماع الجماعة المخدوعة والمضّللة بمقتضى ايديولوجيا الدين.

إن مجتمعية التعبئة الدينية في ايديولوجيا التديّن المسيّس التي انشأتها مرجعيات تمدّها بأسباب البقاء، عملت على تخريب العلاقة الصحيحة في معادلة ثنائية الخالق والمخلوق، وأخرجت الدين من فضاء الفطرة الايمانية الاصيلة الى مفاصل الحياة التي تجعل من الدين وسيلة حكم لحكام يمتهنون السياسة والافساد في الارض.

  يتبع

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي

المثقف - مرايا حوارية

 22 - 10 - 2021

 

 

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي

المثقف - مرايا حوارية

 22 - 10 - 2021

 

 

خاص بالمثقف: الحلقة الثانية من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما في المثقف:

التصوف في وعي الغرب

س5: أ. مراد غريبي: هناك اهتمام بالتصوف لدى الغرب، قد يعود ذلك لأنماط التدين المنغلقة لدى المهاجرين المسلمين ممّا عطل سبل الحوار والتعايش والاندماج وما هنالك، هل فعلاً التصوف أجمل شكل من أشكال التدين الإسلامي لدى الآخر؟

ج5: د. مجدي إبراهيم: قبل سنوات، عندما كنا نقرأ عن التصوف والصوفيّة كلمات ناقدة مستفزة، كان الحماس يدفعنا بلا تردد للرد عليها فوراً. واليوم لم نجد في أنفسنا حماسة لمجرد دفع اللغط المنفّر الذي يسوقه الجهل أو المرض. وقد تبيّن لنا إذْ ذاك أنها مجرد آراء صادرة عن أناس لا يتعمقون الرؤية أو ينساقون وراء معتقداتهم النظرية أو توجهاتهم العقلانيّة أو يندفعون بدوافع مرضية أو بواعث غير علمية تصرفهم عن التتبع والنظر العلمي الدقيق لظاهرة التصوف في الوجدان البشري كونها ظاهرة حضارية.

ما من أمة من الأمم العالمية إلا ووجد في قمتها التصوف، أقول في قمتها لا في قاعها، لكنه يستند إلى مضمون العقيدة التي يدين لها بالولاء؛ ففي أمم الشرق القديم، مصر وفارس والهند والصين تصوف، وفي حضارة اليونان تصوف، وفي الأديان الكتابية وغير الكتابية تصوف، وفي اليهودية فِرَقٌ صوفية، وفي المسيحية تصوف، وفي الإسلام تصوف؛ لأن التصوف لاشك عمل روحي متصل بالروح الإنساني على التعميم لا يخلو منه دين ولا معتقد. لكن أمثال هؤلاء الذين يسبّون التصوف ويسيئون إليه ويعتبرونه سذاجة ودروشة وسبباً مباشراً لتخلف المسلمين، هم لا يعرفون عن الإنسان إلّا كتلته المادية وأشياؤه المحسوسة، ويتحركون في إطار ما ينظرون ويحسّون ويلمسون، هم مفلسون في القيم الدينية، الإيمانية والروحيّة على التحقيق.

كثير من الفلاسفة وعلماء النفس، عدوا التصوف هو العبقرية الدينية فعلاً، بلا تحيز؛ إذ كانوا ليسوا بصوفية حقيقيين؛ بل فلاسفة نظريين وعلماء تجريبين ركزوا دارستهم على الحالات الصوفيّة كونها فوق طور الوعي العادي. والوعي العالي لا يُقارن بالوعي العادي مطلقاً، لا في اللغة ولا في الإشارة ولا في العبارة ولا في الفكرة ولا في التوجه. ولسنا بحاجة إلى ذكر أسماء أكثر من الإشارة إلى كتابات هنري برجسون ووليم جيمس وإريك فروم، أو كتابات ليوبا، وباستيد، وأندرهيل، وثولس، وغيرهم من علماء النفس الديني للوقوف على تلك العبقرية الدينية في أعمال المتصوفة وإشاراتهم الرمزية.

النصوص الصوفية الممتازة لا تصدر عن وعي عادي مطلقاً، وهل كانت نصوص النّفري وابن عربي والصدر القونوي وابن سبعين أو حتى نصوص ابن عطاء الله السكندري والنوري والجنيد من قبله، صادرة عن وعي عادي؟ من يقول بهذا يجهل التصوف كما يجهل الكتابة عنه، وبالتالي لا يستمرئ تذوق أشارت الصوفية، فيخبط فيها خبط عشواء؛ فيجيء كلامه من ثمَّ لا يستحق عناء الرد عليه؛ لأنه كلام فارغ من المعنى مضيعة للوقت والجهد. من أجل هذا عزفنا عن الرد، وفقدنا الحماسة حتى في قراءة النقد.

يا سيدي! التصوف بالفعل أفضل شكل من أشكال التدين لدى الآخر، بل الآخر نفسه يفضل التصوف، وربما يسلك سبيله دون أن يدرى حتى إذا كان السؤال هكذا: ما الذي جذب الغرب إلى التصوف؟ وما الذي جذب المستشرقون إلى البحث في التصوف عامة والتصوف الإسلامي على وجه الخصوص؟

جاء هذا السؤال هو عندي من الأهمية بمكان؛ فإنّ أكمل ميدان فيه مطالب الروح الإنساني موحدة ومحققة بالفعل على السعة والشمول والكمال والتوافق والإنسانية وسمو المقاصد ورفعتها هو ميدان التصوف؛ فلا يوجد إنسان على البسيطة إلا وفيه وجود روحي مقدّم على كل وجود سواه حتى ولو كانت اهتماماته مادية؛ فالوجود الشاخص جزء ضئيل من عمل الوجود الروحي الأكبر. والظاهر أن العالم الإنساني يكترث شديد الاكتراث لهذا الوجود الشاخص، ولا يلتفت قيد أنملة إلى الوجود الروحي، لذا أصبح ملموساً تقدّم الإنسان مادياً في الوسائل والكشوفات العلميّة والتطورات المعرفية والإنجازات التكنولوجية في حين أخفق كثيراً في اكتشاف حقيقته الأصلية الإنسانية، أخفق أكثر في علم الإنسان بالإنسان نفسه، ناهيك عن الانحطاط الخلقي والتردي الذوقي والعبث بمسائل المصير الإنساني.

على هذا يمكن القول؛ إنّ الذي جذب الغرب والمستشرقين للتصوف شعورهم بتلك المنازع الروحيّة المشتركة على التعميم، فكلام ابن عربي، ومن قبله الحلاج، يمس قلوب وأفئدة علماء الغرب بمقدار ما يمس قلوب الشرقيين وربما أعلى وأكثر. والمنازع الإنسانية التي تبدو في عباراتهم سواء في وحدة الأديان أو في وحدة الوجود عند ابن عربي خاصّة، فكرةٌ جديرةٌ بجذب كل عقل يفكر تفكيراً فوق الحدود السطحية. على أن تلك المنازع الإنسانية والروحيّة التي لا تعرف الفوارق بين غربي وشرقي، والتي توجد في التصوف وربما لا توجد في سواه هى أولى عندنا بالرعاية والاهتمام من غيرها.

صحيح قد تتأسس هذه المنازع على القوانين الوضعية أو على المصالح والأطماع في أغلب الحالات، ولكنها إذا هى خلت من تلك الوحدة الروحيّة، لم تعد تجدي نفعاً، وستفقد في مستقبل الأيام الصلة المشتركة للإنسانية كونها ارتقاءً بالمطالب الأسمى.

أعود فأؤكد لك أن التصوف شكل راقي من أشكال التدين؛ بل هو أرقاها على الإطلاق: ليس التّصوّف قراءة نظرية يفني فيها المتصوف عمره بين قيل وقال، وإنْ كانت فاعلية القراءة عملاً ذهنياً لا يُسْتَغْنَى عنه، ولكنها في الوقت نفسه ليست هى المطلوبة في ذاتها حتى ولو كانت مُوجّهة إلى كتب الصوفيّة أنفسهم؛ فلن تكون من أهل القرب والوصال وأنت تكتفي بالقراء في كتب الصوفية صباح مساء، لكنك بمجرّد أن يتحوَّل فيك المقروء إلى عمل حقيقي مستمر، هنالك يصح أن تكون جديراً بلقب صوفي. وفي المقابل أيضاً ليس بصوفي من يستغني عن المعارف النظريّة أو يستغني عن التوجه المعرفي الذي يمنع الجهالة ويدحر الركود إلى البلادة العقلية؛ لأن الصوفي من هذه الجهة طالب علم فوق كونه طالب تصفية؛ ولأن التصفية تحتاج إلى استبصار لإزالة غشاوة الباطن، فلا بدّ من بصيرة تهيؤ المطلوب؛ كونه غاية سامية تنال بالعلم أولاً ثم العمل على الموافقة والتبصرة.

إنه؛ إذا كان المطلوب هو الله تعالى، وكانت المشقة على قدر الغاية، فليس أصعب؛ إنْ في التصور وإنْ في العمل؛ من أهبّة الاستعداد للوصول إليه. تقتضي أهبة الاستعداد للوصول إليه تعالى أن يتكرر القول بأن التصوف ليس قراءة ولا كتابة بمقدار ما هو علاقة يُحسن فيها العبد مسيرة الوصول وفق منهج الذوق والشعور والاستبصار، ويرتقي خلال المسيرة إلى حيث الغاية من الطريق، ثم يسقطها؛ ليكون مع الله دوماً بلا علاقة. إلى مثل هذا كانت إشارة الإمام الجنيد إلى التصوف أن يكون العبد فيه قائماً بلا علاقة. الصوفي الحصيف يؤمن بأن الله هو الفاعل الحقيقي لكل فعل، فلا يجعل ثقته بما قدّم من صالحات؛ بل ولا يريد أن يجازى عليها، لأن فضل الله عليه فوق كل تقدير يقدّره، ومن هنا تكون ثقته بالله أعظم من ثقته بنفسه سواء كانت تلك الثقة في العمل أو في العلم.

العمل باطل زائف إنْ ظنه المرء ابتداعاً من عند نفسه. تأتي معرفة الله بالإشراق والانكشاف والإلهام. الصوفي يقول:"انظر قلبك؛ لأن ملكوت السموات والأرض فيك". والنظر إلى القلب يدعو باستمرار إلى الجهاد الباطن؛ أي يدعو إلى إزالة غشاوة القلب ممّا ران عليه من مكتسبات الشرور والآفات؛ فمن عرف نفسه حق المعرفة عرف ربّه؛ لأن القلب مرآة تنعكس عليها كل صفة ربانيّة؛ فكما تفتقد المرآة قدرتها على عكس المرئيات حين يتغشاها الصدأ، فكذلك الحاسّة الروحية الباطنة التي يسميها الصوفية "عين البصيرة" لا تغشى عن رؤية العظمة العليّة إلا حين يزول حجاب الذاتية المظلم؛ الأنا الحاجبة، بكل ما في هذا الحجاب من نقائص حسيّة، زوالاً تاماً، لكنما الصفاء الخالص لا يتمّ إلا بفضل الله على أن يتطلب من جانب العبد جهاداً باطناً.

يوم أن تنجلي غشاوة البصيرة، يصبح التوحيد حقيقة ملموسة بالنسبة للصوفي من طريق المجاهدات، وهى دعامة مركزية ومرتكز أساسيّ، يصبح حيرة؛ فإذا تناهت عقول العقلاء إليه تناهت إلى الحيرة، لكن هذه الحيرة هى حيرة معرفة لا حيرة جهالة.

وعليه؛ تصبح حقيقة التوحيد هى باطن المعرفة، وهو (أي التوحيد)، كما قال الجنيد، سَبْقَ المعروف إلى مَنْ بِه تَعَرَّف، بصفة مخصوصة، بحبيب مُقَرَّب مخصوص. بيد أن هذه المعرفة ليست للكافة، بل "مخصوصة" بعبيد الاختصاص، ولا يتسع معرفة ذلك الكافة، ومن وراء ذلك سرّ؛ وإفشاء سّر الربوبية، كما قالوا، كفر.

إذا تساءلنا عن منهج الوصول إلى هذه المعرفة، تكون الإجابة كافية شافية بتنظيف القلب والسّر إلى حيث الوصول بهما على ضوء المنهج الذي يحكم صاحبه، وهو منهج الذوق والشعور والوجدان، إلى رضوان الله. هنالك يكون الأنس بالله والقربة منه مدداً علوياً مباركاً يعيشه قلب العارف، وتعيشه لطيفته الجوانيّة حياةً ينقطع معها النظير.

يروى أنّ ذا النون المصري، وهو في سياحاته، كان سمع برجل صالح يعيش في جبل المقطم، فلما بلغه خبره ذهب إليه ليزوره، فأقام معه مُدّة، ولما أراد الانصراف سأل ذو النون ذلك العبد الصالح أن يدعو له بدعوة فقال له: "آنسك الله بقربه". فلم يكتف ذو النون بدعوة الرجل الصالح تلك، فطلب الزيادة. فرد الرجل الصالح بقوله: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعاً بغير أربع: علماً بغير طلب. وغنى بغير مال. وعزاً بغير عشيرة. وأنساً بغير جماعة. ثم سأل: ألا يكفيك هذا؟ فبكى ذو النون وقال: بلى والله تكفي، وتزيد.

من أجل مدد القلب بنور من الله، جاهد المجاهدون من أصحاب العزائم كيما ينالوا هذا الأنس، وكيما يعيشوا في ظلال التقريب، وهذا هو لب لباب العمل الديني، وهو الغاية منه قصداً على التحقيق.

ومن صفة العارف التي تقوم على الإيمان، ويقوم الإيمان أساساً عليها، يلزم لهذه الصفة، عند التّحقق، أن تأسس على المكابدات والمجاهدات؛ فمكارم العارف على التحقيق موصولة بمكارهه، ومكارهه في معاناته.

في إشارة للإمام محمد عبده تقول: "إنما الأعمال الدينيّة تصدر عن الملكات والعزائم الروحيّة؛ لأن الروح لها السلطان القاهر على البدن حقيقة". ومعنى هذا: أن العمل الديني إذا هو صَدَرَ عن عادة الجسد لا يمس الروح في شئ، ولهذا تجيء العبادات شكلاً ينقصها التحقق الروحي الذي يفرضه المضمون الديني وتتطلبه الغاية منه؛ فلا عمل أرجى للقبول من عمل تتولاه الروح وتسعد به، وهنا تكون أعمال القلوب أولى من أعمال الجوارح، وأقدر على الاستمرار من تلك الأعمال التي هى مجرَّد عادات لا تعطي ثمرات التحقق من الوصول إلى المقامات العليا.4465 مجدي ابراهيم ومراد غريبي

السرية والباطنية

س6: أ. مراد غريبي: لعلّ الاستفهامات الأساسية حول التصوف هي السرية والباطنية التي تكتنف حركة مدارسها عبر التاريخ، ممّا جعل البعض يربط بين تياراته والجمعيات السرية في العالم، لماذا يتم النظر للتصوف على هذا النحو وكيف واجه شيوخ الصوفية ذلك؟

ج6: د. مجدي إبراهيم: لو إنَّا رسمنا دائرة التصوف الإسلامي بين سُنّي وفلسفي، لوجدنا كلمة "السر" تحتل المركز منها، وتتصدَّر نقطة الانطلاق لهذا العلم على التحقيق، بل إن كلمة (Mysticism) الإنجليزية التي تطلق على التصوف، تترجم إلى السّريَّة على معنى التكتم والخفاء؛ لأن التصوف في مجموعه حسب تعريف سيد الطائفة أبي القاسم الجنيد واصفاً إيّاه إنْ هو إلا:"لحُوق السّر بالحق، ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب لقوة الروح والقيام مع الحق"، وهو بذلك يضع التصوف في موضع المراقبة "للوقت" بمقدار ما يضعه في مواجهة السّر. مع أن كلمة ((Islamic mysticism

إذا نحن أطلقناها على التصوف الإسلامي فهي ترجمة غير صحيحة؛ لأن النحل السرية كما توجد في التصوف توجد كذلك في سائر أنواع التصوف الأخرى؛ بل وفي الفلسفات القديمة أيضاً توجد نحل سرية فهو اصطلاح غير دقيق للتعبير عن التصوف الإسلامي، ولكن الكلمة الصحيحة للتعبير عن التصوف الإسلامي هي (Sufism).

إنَّا لنُقَدّر كل التقدير وجوب التشابه في الأفكار والاطلاع على المصادر الخارجية عند الصوفية الفلاسفة، والإلمام بكل ما هو فلسفي والإحاطة به لديهم. هذا شيء ضروري وواضح كذلك، لكن أن ينسب التصوف في الإسلام إلى مصادر غير مصدره الداخلي فيما يكشفه المضمون الجُوَّانيِّ فضلاً عن ضعف في التخريج، ولا يستند مع وجود تلك النسبة إلى تذوق ولا إلى بصيرة كاشفة، فهو كذلك جور في البحث واعتساف.

أولاً: لا بد من التأكيد على أن هنالك خصائص تجعل التصوف بعلومه وموضوعاته ورياضاته وأسراره وإشاراته، علماً مستقلاً عن أي مؤثر آخر، ينفرد بين سائر العلوم بخصائصه المعروفة تميزه عن سواه ولا تلحقه إنْ في الشكل وإنْ في المضمون بعلم آخر أو بفن سواه، حتى ولو تشابهت في الظاهر بعض ألفاظ وكلمات من هنا أو من هناك يستخدمها أقطابه؛ بألفاظ وكلمات يستعملها سواهم ممَّن دونهم ولكن لا ينتمون إلى ميدانهم لا من قريب أو من بعيد.

ومن تلك النقطة أقول: يفترق الرمز مثلاً في اللغة الصوفية عن الرمز في اللغة العادية، يفترق ويتباين ويختلف؛ فلغة الإشارة ليست كلغة العبارة. الإشارة، كما قلنا فيما تقدَّم، ألطفُ من العبارة؛ لأنها إيماءٌ إلى السِّر وتلويح إليه لا تصريح، وهى التي يستعملها أهل الطريق، رضى الله عنهم، فيما بينهم عند ذكرهم لما يفتح الله به عليهم من الأسرار التوحيدية، والعلوم اللَّدُنيَّة، والمواجيد والأذواق.

ثانياً: نذكر ولا ننسى مطلقاً خصوصية اللغة الصوفية نفسها؛ إذ لم تكن اللغة الصوفية وفق خطابها إلا اللغة المرتهنة برمزيتها. ومع هذا؛ فقد نجد باحثاً ممتازاً كــ (ولتر ستيس W.T.stace) يرفض اعتبار اللغة الصوفية رمزية، بمعنى أنها "تجاوز الفهم"، أو "تعلو على العقل"، وذلك في فصل كان عقده عن "التصوف واللغة" من كتابه "التصوف والفلسفة"، ويجادل من أجل نفي هذه النظرية؛ ليقدّم نظرية جديدة مقترحة، لكن جدله الفلسفي إزاء رمزية اللغة الصوفية لا ينفي بالفعل: أن إدراك المتصوفة جميعاً للواحد لا يشارك في طبيعة الفهم أو الفكر المُجَرَّد، على نحو ما تفعل معرفة الموضوعات العقلية البحتة، كما يقول أفلوطين.

غير أن صعوبة فهم كلام الصوفية أو إدراك مراميهم، راجع إلى أن التصوف حالات وجدانية خاصة يصعب التعبير عنها بألفاظ اللغة العادية، وليست هى بالشيء المشترك بين الناس.

ولم يخطئ عالم النفس الأمريكي وليم جيمس (James. (w. في كتابه صنوف من التجربة الدينيةthe varieties of religious experience)، حين حاول أن يُحدِّد الخصائص العامة المشتركة بين أنواع التصوف المختلفة؛ فوصف إحدى هذه الخصائص، بأنها "أحوال لا يمكن وصفها أو التعبير عنها (ineffability)، وذلك لأن هذه الأحوال أحوال وجدانية (states of feeling)، وهو ممَّا يصعب نقل مضمونه للغير في صورة لفظية دقيقة.

فلغة الإشارة من ثمَّ ليست كلغة العبارة، وليس من يؤسس لغته على الحب والذوق والتجربة والتحقيق؛ كمن يؤسسها (استشرافاً لا تحققاً) على النقل والنظر والقراءة والتقليد.

فإذا كانت لغة الإشارة تقوم على مواريث القلوب ومواجيد الأحوال كما علمنا فيما تقدَّم، فرمز العبارة العادية قد يتعمَّد فيه صاحبه التعمية والتضليل لمجرد التعمية أو التضليل، ثم يزعم لنا على الغفلة أن وراءها أسراراً بكراً لا تفض.

أو يُراد به الرمز الأدبي الذي يتأتى من كثرة الصور والأخيلة وهو الذي كان يستخدمه أفلاطون. والنوع الأول من الرمز (رَمْز التعمية والتغريب) يُراد من ورائه التُّقية والتَّخفي كما هو الحال عند الشيعة. وقد ظهر هذا النوع من الرمز عندما اختلطت الفلسفة بالشعوذة، واستخدمه الشيعة، وخاصَّة في العصر العباسي حين ضُيِّق عليهم الخناق.

ومن هنا؛ فقد نجد كثيراً كلمة "سر" أو "أسرار" يستخدمونها في تعبيراتهم ومؤلفاتهم قصداً، ولم يكن مقصدها عندهم هو نفس المقصد الذي يستخدمه الصوفية مع أن هنالك جوانب عامة عديدة مشتركة بين التصوف والتشيع.

فالسّرُ عند الصوفية ما هو إلا الحال المستور عن الأغيار: حَالُ العبد مع الله وكفى. وكفى بحال العبد مع الله فيما لو كان على الحقيقة في معيته أن يكون سراً محفوظاً مُصَاناً في منأى عن الأغيار. فليس في التصوف إمام معصوم يقوم بالهداية ويعلم من أسرار الدين ما لا يعلمه أحد من خاصّة العلماء أو من عامة المقلدين؛ لأن هؤلاء جميعاً إنما يعلمون ما ظهر من نصوص الكتاب ولا علم لهم بما بطن منه، وهو عندهم معنى الحديث الذي يقول:"إن القرآن نزل على سبعة أحرف"؛ فلا يهتدي إليها على حقائقها غير الإمام الذي اختصه الله بأمانة الإلهام؛ ومن ثم وجبت المبايعة له جهراً، وسراً إذا اقتضت "التقية" إخفاء أمره إلى حين.

وليس في التصوف مَنْ يتلقى من علم الغيب أسراراً يَدَّعيهَا نزلت عليه عن طريق القرآن وما فيه من رموز لكل ما هو كائن، ولا في التصوف إنكار لظاهر الآيات القرآنية لتفسيرها تفسيراً باطنياً لا يؤديه ظاهرها ويزعمون أنها أسرار القرآن؛ كما نجد الأمر في التشيع. وقد ذهب أحدهم (إسحق بن سليمان بن وهب (ت 272 هـ) صاحب كتاب "البرهان في وجوه البيان"؛ وهو كاتب شيعي، ظاهر التشيع، صنف كتباً عدّة في الفقه وعلوم الدين) يُعَرّف الرمز تعريفاً تتفق أطرافه مع هذا التفسير الباطني فيقول:"إن أصله الصوتُ الخَفيُ الذي لا يكاد يُفْهَمْ، وإنما يسْتعمل المتكلم الرمز في كلامه فيما يريد طَيِّه عن كافة الناس، فيجعل للكلمة أو الحرف اسماً من أسماء الطير أو الوحش أو سائر الأجناس أو حرفاً من حروف المعجم، ويطلع على ذلك الموضع من يريد إفهامه؛ فيكون ذلك قولاً مفهوماً بينهما مرموزاً عن غيرهما". ثم يروح فيقول:" وقد أتى في كتب المتقدمين من الحكماء والمتفلسفين من الرموز شيء كثير. وقد كان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون، وفي القرآن من الرموز أشياء عظيمة القدر جليلة الخطر وقد تضمن علم ما يكون ... وهذه الرموز هى أسرار آل محمد".

فالرمز في التصوف غير الرمز عند الشيعة، تماماً كما أن السّر في التشيع غير السر في التصوف؛ وإنْ ظهرت بوادي مشتركة فيما بينهما. وما كانت علوم الصوفية ولن تكون أبداً مستقاة من إمام معصوم، يتلقى من علم الغيب أسراره ومعارفه؛ لأن علومهم نَفْثٌ في الرَّوْع يُصْدِرها الحال في لحظة تجرد خالصة، وليست هى بالصادرة عن إمام معصوم. وهذا هو الفرق الفارق عندي بين باطنية الشيعة من جهة، وبين الحياة الباطنة عند الصوفية من جهة أخرى. قال الغزالي:" لما سُئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو؟ أجاب:" هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه بشراً ولا ملكاً". وحديث الغزالي هنا عن "العلم اللَّدُنّي" أو "العلم الباطن" الذي يقصده الصوفية (أي الأخذ عن الله بالمباشرة) يجيء بعد صفاء القلب وتزكية النفس وخلوص السريرة لله، وإليه إشارة الجنيد بقوله:" لو أن العلم الذي أتكلم به من عندي لفَنَىَ، ولكنه من حق بدا وإلى الحق يعود".

فكل ما يأتيه الصوفي الحق من علوم ومعارف وأسرار يطويها تحت غشاوة الرمز ولمح الإشارة، إنما يأتيه من هذا "الحق" وحده، يُبديها لقلبه بعد تزكيته وتطهيره من العلائق والأوْشَاب؛ فهي من أجل هذا علوم إلهام ونفث في الرُّوْع، من الحق بدت وإليه تعود، ليست تتلقى أولاً عن إمام معصوم كما هو الحال في التشيع، وليست تتأتى ثانياً بحيل العقل ولا كدِّ الذهن ولا عنت التحصيل في المقروء والمكتوب. علومُ إلهام لا علوم أقوال؛ إنما الرمز في التصوف يستند على إشارة روحية تحمل سراً يدل من الوهلة الأولى على حال الصوفي ولا يزيد: حاله مع الله، فأقوالهم وإشاراتهم ما هى إلا أسرى أحوالهم كما تَقَدَّم. ثم أنهم من جانب آخر أرادوا أن يحفظوا الوعي الصوفي كما قلنا مُصَاناً عن عطب المفسدين؛ لكأنما الإشارة هى التي تصونه وهى هى التي تحميه. ثم من ناحية أخرى إنك لترى هذا العلم (علم الإشارة) ذوقاً كله معجوناً بخميرة الذوق حياة وتجربة، ثم معاناة فيها رفضٌ للأغيار، من الخبرة الروحية يستمد مدده لا من سواها ومن شواهد الروح في عالمها الأعلى يستقي روافده. فإذا كان الخلق قد أشاروا إلى الله تعالى؛ فإن الصوفي وحد هو المشير عن الله عز وجل". على معنى أن إشارة الخلق إلى الله بعيدة؛ لأنهم لا يعرفونه وإذا عرفوه لم يتحققوا به، ولم تسكن قلوبهم حقيقة المعرفة به. أما الصوفي العارف فهو الدليل على الله حقيقةً؛ لأنه كان أخَذَ علمه عن الله بالمباشرة كما قال أبو يزيد البسطامي مخاطباً من أشاروا إلى الله من الخلق:" أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".

وليس للعقل فيه من حظ سوى حظ التنظيم الذي يمنع الاضطراب، بل إذا أراد أحد أن يعمل فيه عقله أفسده من فوره، ومن حيث يظن به الوصول فيه إلى رأي سديد؛ لأن هذا العلم ليس علم رأي ولا وجهة نظر، ولا هو بعلم رواية أو دراية، ولا يتأتى بالمطلق من حلية الدليل، ولكنه علم نَفْث في الرَّوْع: محض وَهْب يتأسس على الأذكار والأوراد، وعلى فيض التجربة وعطاءاتها مع الله.

فإذا كانت علوم النظر يعطيها العقل، وعلوم الجدل ومحاجة الخصم يعطيها الدليل أو البرهان؛ فإن علوم الذوق يعطيها "الحال"؛ وتُفاض على صاحبها من طريق الوَهْب خاصَّة فيضاً من عند الله، بمقدار ما يعطيها الذكر المقرون بالفكرة العلوية لا الذكر الذي يصدر عن لسان يشهد صاحبه حُجُب الأغيار؛ فيذكرها مع من يذكر غافلاً غير حاضر، وزاعماً أن له ذكراً ينقله من حال إلى حال.

ومع ذلك كله، تجدر الملاحظة أن الإشارة في ذاتها ليست هى المطلوبة، وأن العارف لا يتعمد الإشارة تعمداً يُلغز فيها ويأتي بالغريب العجيب على صحوة العقل وذكاء التمييز، بل الله هو الذي يجريها على لسانه فيما لو كان متحققاً بحال الفناء، غير شاهدٍ هو لما يأتي فيها من غرائب أو عجائب. ليس بعارف ذلك الذي يَتَعَمَّد أن يجري الإشارة بنفسه؛ لأن العارف الحق مَنْ لا إشارة له كونه في حال الفناء منطوياً في شهوده.

يفنى العارف عن نفسه فلا يرى في هذا العالم وجوداً على الحقيقة غير وجود الله، فهو على الدوام غائبٌ عن وجوده المحدود شاهدٌ لوجود الله اللامحدود، غائبٌ عن المتناهي مشاهد للامتناهي، غائبٌ عن المرئي مشاهد للامرئي؛ ومن غيبته عن نفسه وعن وجوده ومن انطوائه في شهوده، لم تبقْ له إشارة على الحقيقة؛ لأن العارف حقيقة هو من غاب عن الإشارة والمشير والمشار إليه؛ فإذا وقعت منه إشارة لا يشهدها ولا يشعر بها لكون المشير والمشار إليه هنا هو الله تعالى، فليس يبقى مشير ولا إشارة. ولكَوْن العارف إذْ ذَاَكَ مجموعاً في مقام الجمع، لا يرى لنفسه إشارة ولا غير إشارة، وَمَنْ كان كذلك فهو غائب عن رؤية نفسه.

إن ابن عطاء الله السَّكندري ليُلخِّص في حكمة بالغة هذا المعنى حيث يقول:" ما العارفُ مَنْ إذا أشارَ وَجَدَ الحقَّ أقرب إليه مِنْ إشارته، بل العارفُ من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده".

وإشارة ابن عطاء الله السَّكندري تتجه مباشرة بالعارف إلى حال الفناء الصوفي: خصوصية العرفان الخاصة بالعارف والروضة الباهرة المبهرة من تجليات الله عليه، وذلك لأنه الحالُ المرادف للتجربة الحقيقية مع الله تعالى: الفناء عمَّا سواه والبقاء به عمَّن دونه، هو الذي يعطي التصوف في الإسلام خصوصيته، يعطيه أعلى ما فيه، وأذكى ما فيه، وأبدع ما فيه، فمن وقف عليه فقد وقف على حقيقة الحقائق وذاق من التصوف أعلى ما يعطيه.

مَا العَارف مَنْ إذا أشار إلى شيء من أسرار الحق وَجَدَ الحق أقرب إليه من إشارته. يعني أنه كان حاضراً معه لم يغب عنه، بل هو مُلاحِظُه في حال إشارته وأقرب إليه منها .. لا .. فهذا ليس بعارف على الحقيقة لبقائه مع نفسه؛ ولأنه إذْ ذَاَكَ ملاحظٌ أن هناك مشيراً ومشاراً إليه ومشاراً به، ومادام يتعقل أنه مشير والحق مشارٌ إليه، وأن ما صدر عنه هو إشارة؛ فهو حتى الآن لم يَفْنَ عن نفسه، ولم يخرج عن دائرة حسه. ولهذا فقد وَصَفَهُ ابن عطاء الله السَّكندري أنه ليس بعارف.

ولكن ما معنى أن يصبح العارف في حال الفناء؟ معناه: أن تبدو العظمة والجلال عليه فتنسيه الدنيا والآخرة والدرجات والأحوال والمقامات والأذكار، وتفنيه عن كل شيء: عن عقله، وعن نفسه، وعن إرادته، وعن فنائه عن الأشياء، وعن فنائه عن الفناء؛ فيغرق في بحار التعظيم. تلك هى عندي خصوصية التصوف في الإسلام، وخصوصية علومه، تأتيه من التجربة المباشرة وتذوق علوم الحال. إذا نحن وضعنا هذه الفوارق كلها في الاعتبار لم يعد مسموحاً باقتحام ربط التصوف بالنحل السرية الأخرى أو بالجمعيات والحركات السرية في العالم؛ لأنها بالطبع فوارق جوهرية.4490 مجدي ابراهيم

التصوف والسلطة

س7: أ. مراد غريبي: هناك من يرى أن بين الصوفية ورجالاتها من جهة والسلطة من جهة أخرى عبر التاريخ الإسلامي علاقات في أغلبها معتدلة، ممّا شكل رأياً تعسفياً حول نهج التصوف عموماً، ماهي قراءتكم لفن التعامل الصوفي مع السلطات الحاكمة عبر التاريخ؟

ج7: د. مجدي إبراهيم: من قال إن العلاقة كانت معتدلة بين السلطات ورجال التصوف، بل بالعكس لا توجد سلطة إلا وكان التصوف ضدها. دور التصوف الحقيقي يكمن في تحدى السلطات: سلطة العقل والنظر المحدود، وسلطة المفهوم من ورائه، وسلطة الضمير الغُفْل من تنقية الباطن، وسلطة المجتمع المحكوم بِقَوانينه، وسلطة المنافع والمصالح أو ما شئت في الحقيقة أن تضيف من سلطات ..!

يَتَحدىَ هذه السلطات جميعاً لتكون السلطة التي يعمل لها ألف حساب وحساب هى سلطة الله الأحد الذي ليس سواه في الوجود على الحقيقة موجود، فليس هناك من فاعل إلا الله، وليس هناك من موجود إلا الله، ولا حساب لديه على الإطلاق لسلطات يصنعها أو يَتَوَهَّمها الإنسان.

كان عَمَلُ التصوف على الدوام ولا يزال هو تحرير الإنسان من وَهْمٍ تَعَشْعَش في أعماقه: أن يحسب للأغيار حسابات السلطة مهما كانت أو كائنة ما كانت، ليجري وراء ما تَتَوَهَّمَهُ لنفسها من سطوات، لتُخِيفه في أعماقه الباطنة أو لتشل حركة المجموع شللاً فتخضعه لما عَسَاهُ يزعم أنها ذات سلطة في نفسها، وهى في الحق، وفي الواقع كذلك، خَاوية فارغة من كل سلطة حقيقية: تحريره من الزيف، تحريره من سلطة العقل وسلطة الضمير الغُفْل، وسلطة المجتمع المحكوم بقوانينه، وسلطة المصالح والمنافع لتكون سلطته الحقيقية هى السلطة الإلهية، وليكون الدِّينُ، من بعَدُ، ليس قشرة سطحية بَرَّانِيةً بل هو الجوهر الباطن يظهر في الفعل خالصاً لله.

هذه هى دعوة التصوف: أن يَبْلغَ الدينُ نقاوته في الوجدان الإنساني، ويبلغ التحدي فيه على مستوى الفرد كل أنماط مخلوقة تضر بإنسانية الإنسان أكثر ممّا تنفعه بعد أن تسلبه حيويته الروحية وحماسته الدينية؛ ليكون خاضعاً ذليلاً أو عبداً كسيراً لمخلوق مثله يعبده، ويتذلل له بالعبادة، وينسىَ أنه عَبْدٌ لله. وتاريخ المتصوفة يمثل ذلك ويعبر عنه خير تعبير، وإلا لو كانوا بالفعل أهل غفلة وخنوع واستسلام لما كان تَعَرَّضَ لهم ذوي الأخلاق الوَبِيئَةِ من السَّفَلة والمنحطين للوقيعة والمكيدة، فَشُرِّدُوا وطردوا من مواطنهم، وذُبِّحوا ونُكِّل بهم بغير ذنب ولا حَق، واتهموا بتأليب العامة، وتغيير موالاتهم للسلطات السياسية أو الاجتماعية يومذاك، مَنْ ذَا الذي يقول إنِّ الحلاجَ لم يكن له دَوْرُ اجتماعيُّ؟ وَمَنْ ذَا الذي يسلب عن المتصوفة ميولهم الإصلاحية ونزعتهم الخُلقية وتَفَرُّدهم بالتَّوَجُّه الروحي فيما من شأنه لو طبق أن ينعكس على المجتمع بالإيجاب؛ بالخير كله، ومَنْ ذَا الذي يسلبهم طِباعهم السمحة المستقيمة، أو شجاعتهم النادرة في الحق، ومن أجل الحق، ووقوفهم دوماً أمام الظلمة والمفسدين، وفي وجه الأمراء والحكام، وللنصيحة للبر والفاجر، وعلى مدى تاريخهم الروحي الطويل؟

 المدهش أن هنالك وثيقة تاريخية نادرة، ذكرتها في بعض كتبي، جاءت شاهدة على ما لاقَاهُ الصوفية من أذى، كان نقلها الشعراني عن السيوطي، في كتابيه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر، والطبقات الكبرى. وإنها لوثيقة تاريخية تنطق بمقدار ما عاناه الصوفية من ضروب الاضطهاد الديني بما لا تكاد الإنسانية تشهد مثله من قبل؛ ومِمَّنْ؟

من مسلمين أمثالهم في العقيدة والدين .. أليس هذا دَاعياً للدهشة والعجب؟

وَقَفَ ذو النون المصري في وجه الخليفة المتوكل، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولاً مقيداً بعد أن جاءت تهمته الزندقة، فلما كلم الخليفة بعبارات القوم قال في دهشة المُسْتريب: "إنْ كان هذا زنديقاً فما عَلَىَ وجه الأرض من مسلم".

وكانت لهَارُوُنِ الرشيد مَقابلات خَاصَّة مع متصوفة عصره يندى لسَماعها جبين الصادقين. وكانت لابن قِسيِّ (546هـ) وزملائه من أولياء المغرب دعوات إصلاحية، تبحث في كل ما مِنْ شأنه أن يرضي الله من خدمة المجموع فتفعله، ولا تنطلق في طريقها قائمة فاعلة إلا وهى هادفة إلى الإصلاح الذي يلزم سعي الصوفي بالقصد إلى الله؛ لكنه قتل بعد أن لفِّقَتْ له التُّهم، كما لفقت للحلاج من قبله، تماماً كما قتلوا أبا الحكم بن برَّجان سنة (536هـ) والخوالي والمرجاني مع كونهم أئمة يُقْتَدىَ بهم.

ثم من أجل الإصلاح وكلمة الحق الصادقة المخلصة، ومن أجل العمل لإعلاء دين الله وتحقيق كلمات الله في النفس والضمير أقول مرة ثانية: لاقى شيوخ الصوفية من الأذى، ما لم يشهده تاريخ الاضطهاد الديني، بغير مبالغة، في ثقافات العالم مجتمعة.

أمَرَ الخليفة بضرب عُنق سمنون المُحِبِّ بعد أن أدَّعت عليه امرأة كانت تهواه، راوَدَتُه عن نفسها وهو يأبى أن يأتيها في الحرام ثم حَرَّضوا العامة ضده فطردوه هو وجماعته، وشهدوا عليهم بالكفر والزندقة، فمنهم مَنْ هَرَبَ ومنهم من توارى سنينَ متخفياً عن عيون الحانقين والمتربصين حتى كفَّ الله محنتهم.

ونفوا أبا يزيد البسطامي من بلده سبع مرات؛ لأنه كان يتكلم على الكشف بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء والأولياء، فأنكر عليه رجلٌ يُدْعىَ الحسين ابن عيسى البسطامي إمام ناحيته، وأمر أهل البلدة أن يخرجوه منها، فأخرجوه ولم يعد إليها إلا بعد موت الحسين هذا !

ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بتكفيره لألفاظ وجدوها في كتبه. وشهدوا على ذي النون المصري بالكفر بعد أن تَعَصَّبَ عليه فقهاء إخميم. وأخرجوا سَهْل بن عبد الله التُّسْتَريِّ من بلده إلى البصرة، وَنَسَبُوه إلى قبائح موبقة، وكفروه مع علمه ومعرفته واجتهاده، ولم يزل بالبصرة حتى مات.

وشهدوا على الجنيد، مع فضله وعلمه وجلالته ورقي أحواله وريادته في الطريق، بالكفر حين كان يتكلم في إشارات التوحيد، واضطهدوه ثم إنّه تَسَتَّرَ بالفقه وبظاهر العلم الظاهر، واختفى عنهم، فراح يقرّر علم التوحيد في عُقْرِ دَارِه.4491 مجدي ابراهيم

واخرجوا محمد ابن الفضيل البلخي بسبب المذهب؛ لأن مذهبه كان مذهب أصحاب الحديث، فقالوا له لا يجوز لك أن تسكن في بلدنا ولا تتخذ منها وطناً يأْوِيك! فتحداهم تحدي من سقطت من عينه مطلقاً رؤية الأغيار حتى لكأنه لم يَعُدْ يَشْهَد لهم عيناً ولا أثراً. فقال لهم في لهجة التحدي: لا أخرج حتى تجعلوا في عنقي حبلاً وتمروا بي على أسواق المدينة وتقولوا: هذا مُبْتَدِع نُريدُ أن نخرجه من ديارنا! ففعلوا به كذلك، وأخرجوه وألتفت إليهم وقال: "نَزَعَ اللهُ مِن قُلوبكم معرفته"، فلم يخرج من بَلْخ بعد دعائه هذا صوفيُّ مع كونها كانت أكثر بلاد الله صوفية. واخرجوا الحكيم الترمذي من بَلْخ حين صَنَّفَ كتاب "علل الشريعة"، وكتاب "ختم الأولياء"، وأنكروا عليه بسبب هذين الكتابين، وأغلظوا الإنكار، وكانت التهمة جاهزة بطبيعة الحال، إذْ قالوا: فضَّلت الأولياء عَلَىَ الأنبياء ..!

وَرَمُوا يوسف بن الحسين الرازي بالعَظَائم وتكلموا في حقه بالكلام الخارج، وَشَهَدَ عليه زهاد الرَّاز وصوفيتها بالإنكار؛ فلم يعبأ بهم، ولم يبال. واخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي من المغرب مع فضله وعلمه وزهده واستقامة طريقه، وتَصَدُّره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحملوه من المغرب مقيداً إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان، وَلمْ يَرجِعْ عن قوله، فأخذوه وسلخوه وهو حي فصار يقرأ القرآن وهو مَنْكُوس مَسْلُوخ، فكاد أن يفتن به الناس فرفع الأمر إلى السلطان فقال: أقتلوه ثم أسلخوه!

واخرجوا أبا الحسن البوشنجي، وأنكروا عليه، وطردوه إلى نيسابور فلم يزل بها حتى مَات. واخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع مجاهداته وتمام علمه وحاله، وطاف به العلوية على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه ومنكبيه، فأقام ببغداد، ولم يزل بها حتى مات. وَشَهَدُوا على السِّبْكي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وإتباعه السُّنَّة إلى حين وفاته، وأدخلوه البيمارستان (المستشفى) حتى أنَّ مَنْ كان يحبه شهد عليه بالجنون طريقاً لخلاصه ونجاته، وقال فيه أبو الحسن الخوارزمي أحد مشايخ بغداد المعروفين يومها: "إنْ لم يكن لله جهنم، فإنه يخلق جَهَنماً بسبب السِّبْكي"؛ أي يخلقها الله للذين آذوه وأنكروا عليه وكفروه بالباطل.

وأفتوا في بلاد المغرب بتكفير الغزالي وأحرقوا كتابه "الإحياء". وطعنوا على الجنيد، وعلى رُوَيِّم، وسمنون المحب، وابن عطاء، ومشايخ العراق، وكان المدعو أبو دنيال إذا سمع أحدهم يذكرهم بخير تَغَيَّظ وتَغَيَّر وكادَ يأكل نفسه من الحسد.

واخرجوا أبا الحسن الشاذلي من بلاد المغرب، وفي صحبته أبي العباس المرسي وجماعته وشهدوا عليهم بالزندقة. ورموا الشيخ أحمد ابن الرفاعي، بالزور والكذب والبهتان، بالزندقة والإلحاد وتحليل المحرمات.

وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلساً في كلمة قالها في العقائد، وحرَّضوا السلطان عليه، إلى أن تداركته ألطاف الله. وأنكروا على ابن عربي وابن الفارض وجماعتهما إنكاراً عظيماً، وتطاولوا في الإنكار، وشهدوا عليهم بالكفر، ولا يزال جهلة الناس يكفرونهم حتى يومنا هذا. وذبحوا الحلاج وَالسَّهْرَوَرْدِي بعد الحكم عليهما بالتكفير والمروق عن الدين. ثم ماذا؟ إنْ لم يكن الصوفية أهل إصلاح لنفوس معوجة، وأهل تغيير لواقع فاسد، وأهل جهاد في سبيل حياة كريمة من أجل الله، لمَا تَعَرَّض لهم سفلة الناس وتصدُّوا لهم عند الأمراء والحكام بالوقيعة والتعذيب والتنكيل والطرد والتكفير، وبكل دسائس الشر ووسائل الاضطهاد التي تصطدم مع أبسط حقوق المرء في التعبير عن فكره. ونحن من ثمَّ نعجب من تمسك الصوفية تمسكاً غريباً بملاقاة الأذى وتحمله من سفهاء الآدميين، ولكننا حتى إذا ما عَرَفنا السبب بطل لدينا العجب. والسبب فيما نرى هو أن الداعي إلى الله على ديدن الصدق وشريعة الإخلاص لا يكون له حظ من ميراث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ما لم يُلاقْ الأذى من جرَّاء دعوته إلى الله، ويتحمل في سبيلها بصبر الأقوياء العاملين كل ألوان الاضطهاد الذي يلقاه الشرفاء في عالم منكود. لعَلَّ هذا السبب هو المقياس الذي يُقاس به معدن الإخلاص في ذات الإنسان المخلص: أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتحمل تبعة دعوته فيواجه الأذى كما واجهه الأنبياءُ والمرسلون والأولياءُ والعارفون وأهل العزم من أولي الصدق والإحسان ممَّن ورثوا ميراث النبوة.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

6 - 11 - 2022م

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص: المثقف: تستضيف المثقف الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الأول: التفكر الفلسفي عند الدكتور اليوسف: التشكل، المعنى، الفكر واللغة

س1: ا. مراد غريبي: من يكون الدكتور علي محمد اليوسف؟ كيف كانت بداياتكم مع المعرفة عموما والفلسفة تحديدا؟ وما هو تعريفكم للفلسفة؟

ج: أ. علي محمد اليوسف: باحث ومؤلف فلسفي مواليد مدينة الموصل 1944..

* عضو المجمع الفلسفي العربي.

* عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين .

* عملت في السلك الدبلوماسي لمدة ثلاث سنوات معاون مستشار ثقافي بلندن 1986- 1990

* عملت في التعليم لمدة 31 عاما قبل التقاعد الوظيفي عام 1995

* نشرت عددا كبيرا من البحوث والدراسات والمقالات في معظم الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ عام 1972

* نشرت عددا من البحوث الفلسفية في مجلة دراسات فلسفية /بيت الحكمة بغداد ومجلة مدارك ومجلة فكر السعودية، ومجلات وصحف عربية أخرى كما نشرت سلسلة مقالات فلسفية في صحيفة الزمان بلندن وصحيفة الديار اللندنية.

* انشر حاليا على موقع المثقف العربي الالكتروني في سدني وموقع كوة الفلسفي في المغرب وموقع الحوار المتمدن وموقع فلسفة الجزائري .وموقع النور في السويد.وموقع فيلوبريس في المغرب، وموقع المجلة الثقافية الجزائرية. اضافة لتفرغي في الكتابة والتاليف الفلسفي.

حائز على:

* تكريم مؤسسة المثقف العربي في سدني بدرع الابداع للعام 2018 كافضل باحث فلسفي.

* تكريم موقع كوة المغربي عام 2020 عضو هيئة تحرير الموقع.

* لقب دكتوراه فخرية بالفلسفة من اكثر من موقع فلسفي الكتروني. .

نتاجي الفكري والفلسفي:

* مؤلفاتي الفلسفية تجاوزت 24 مؤلفا في الفكر والفلسفة صادرة في بغداد وعمان وبيروت.

* اعتبر نفسي مفكرا فلسفيا بالنظر إلى منجزي الفلسفي التحليلي والنقدي المتواضع

 مؤلفاتي:

* كتاب فلسفة الاغتراب في طبعتين الأولى عن دار الشؤون العامة ببغداد عام 2011، والثانية طبعة دار الموسوعات العربية في بيروت عام 2013. ويصدر قريبا طبعة ثالثة عن دار غيداء عمان الأردن .

* الحداثة إشكالية التوصيل والتلقي، دار الشؤون الثقافية ببغداد عام 2013 بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية ودار روافد ببيروت نفس العام.

* استقصاءات في الفكر العربي والفلسفة/ دار دجلة بعمان عام 2014.

* العولمة بضوء نهاية التاريخ وبروز ظاهرة الإرهاب/ دار دجلة بعمان 2015.

* جهات أربع: مقاربة في وحدة النص/دار دجلة بعمان 2010

* ميتافيزيقا الموت والوجود/ دار مؤسسة الانتشار العربي بيروت 2014.

* إشكالية الثقافي العربي/مغايرة التجاوز والتجديد/دار جرير بعمان 2015.

* مناظرات نقدية في الفلسفة والفكر دار غيداء 2016

* آراء ومفاهيم ممنوعة من الصرف، صدر عن دار غيداء 2017.

* الكلمات ومحمولات المعنى/ دار غيداء2019.

* افكار وشذرات فلسفية /دار غيداء/2019.

* نقد الفلسفة الغربية المعاصرة دار غيداء 2019

* العقل والوجود في الفكر واللغة. دار غيداء 2019

* قضايا فلسفية في المنهج المادي الجدلي دار غيداء 2019.

* مناظرات نقدية في الفلسفة والفكر دار غيداء 2020.

* قراءة نقدية في مباحث فلسفية غربية معاصرة عن دار غيداء 2020 يصدر قريبا عن دار غيداء بالاردن ايضا.

* مأزق التحول اللغوي في الفلسفة المعاصرة دار غيداء 2021

* تحت الطبع:الزمان والفلسفة /الدين والفلسفة /فلسفة الاغتراب طبعة ثالثة/ الفلسفة الغربية المعاصرة .. رؤية نقدية.

مارست النشر في الصحف العراقية والعربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتقالتي الثقافية النوعية كانت نحو الفلسفة تحديدا في عام 2004 حين اصدرت كتابي فلسفة الاغتراب طبعة محدودة على نطاق مدينة الموصل ونشر بعدها بطبعتين الاولى عام 2011، عن دار الشؤون الثقافية ببغداد والطبعة الثانية عن دار الموسوعات العربية في بيروت عام 2013، ويصدر طبعة ثالثة عن دار غيداء بالاردن قريبا.

حيث إنتقالاتي هذه، لم تأت حصيلة دراسة اكاديمية، بل جاءت نتيجة تراكم خبرة ثقافية متنوعة مارستها كتابة ونشر لما يزيد على اربعين عاما، اذ كتبت مجموعة شعرية بعنوان (توهج العشق .. احتضار الكلمات) وكتبت في متنوعات الاجناس الادبية في القصة القصيرة والنقد وفي الثقافة عموما فكانت الحصيلة صدور كتابي (جهات اربع .. مقاربة في وحدة النص) صدر عن دار دجلة في عمان عام 2010.

استطيع اختصر لماذا تحوّلت حصيلة مجهوداتي في النشر والتاليف الادبي والثقافي عموما لتستقر في الفلسفة:

- الاولى أصبح عندي نفسيا ميلا شديدا نحو الفلسفة يؤمن لي هاجسي المدفون في اعماق تجربتي الادبية والصحفية المتواضعة التي وجدتها لا تلبي ما يعتمل في دواخلي النفسية الفكرية من ميل كبير نحو الفلسفة. حيث نضجت تماما عندي في منشوراتي ومؤلفاتي الفلسفية بعد عام 2015 تحديدا.إذ كانت كتاباتي ومؤلفاتي مزيجا من الادب والفكر تتخللها مطارحات فلسفية.

- الثاني اني لم اكتب مقالا واحدا بالفلسفة متاثرا بالنمط التقليدي الاكاديمي والمترجم في نسخ اجتزاءات من تاريخ الفلسفة تعنى بفيلسوف معيّن بشكل حرفي اكاديمي استعراضي يعتمد مرجعية ومصدر تاريخ الفلسفة في متراكمه الاستنساخي الثابت المعاد والمكرر، كما وردنا في قناعة خاطئة على أن تاريخ الفلسفة لا يحتمل النقد النوعي في التصحيح أو الاضافة بل إعتماد النسخ الاستعراضي المشبع بالتمجيد المجاني.وكان السائد أن تاريخ الفلسفة هو من القدسية التي مرتكزها الثابت إعادات وتكرارات لسير ذاتية تخص حياة ومنجزات فلاسفة قدامى ومحدثين منسوخة اعمالهم في الترجمة الحرفية اشبعت تناولا فلسفيا عند عشرات من الاكاديمين العرب العاملين على ترجمة قضايا الفلسفة الغربية في غياب منهج النقد من جهة والشعور بعدم الندّية المتكافئة مع آراء اولئك الفلاسفة بالحوار الموضوعي فلسفيا.

- بخلاف هذا المعنى والتوجه مارست الكتابة الفلسفية (نقدا) منهجيا عن يقين ثابت لافكار كبار فلاسفة غربيين وجدت في ثنايا مقالاتهم وكتبهم الفلسفية ثغرات خاطئة لا يمكن التسليم والاخذ بها وتمريرها كمسلمات دون مراجعة نقدية صارمة لعيوبها المستترة خلف اسم وفخامة وسمعة الفيلسوف فقط في غض النظر على صعيد مناقشة افكاره. واترك مسالة التوفيق والنجاح في مسعاي النقدي الفلسفي في كتاباتي ومؤلفاتي للقراء والمتخصصين في الفلسفة.

- من الجدير الذي اود التنويه عنه اني كنت في مسعاي المنهج النقدي الفلسفي وهو مشروع بدئي عربي متواضع صائبا في تقديري سبقني به غيري، أن تاريخ الفلسفة الغربية قديمها وحديثها مليء بالمغالطات والاخطاء القاتلة وميتافيزيقا الافكار ومقولات فلسفية وهمية سفسطائية لا قيمة حقيقية لها تقوم على مرتكز مخادعة التفكير الفلسفي ذاته وليس مغالطة معنى اللغة في التعبير عنه.

- اذ كانت البداية الحقيقية في نظرية التحول اللغوي ومتابعة فائض المعنى اللغوي علي يد فيلسوف البنيوية دي سوسير عام 1905 ليعقبها بعد ذلك فينجشتين وفلاسفة البنيوية وعلماء اللغة تلتها الوضعية المنطقية حلقة فينا اعقبتها تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا ليستقر مقام فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة الحديث منتصف القرن العشرين بعد تنحية ابستمولوجية فلسفة ديكارت كفلسفة اولى جانبا والتي استمرت قرونا طويلة. وبعد استلام فلاسفة وعلماء اللغة الاميركان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين والالمان والانكليز حلقة اكسفورد في فلسسفة اللغة التحليلية الوضعية بزعامة براتراند رسل، جورج مور، كارناب. فينجشتين وغيرهم.

خلاصة كل هذا التطور في تاريخ الفلسفة كان هاجسه تاكيد حقيقة أن تاريخ الفلسفة معظمه كان افكارا وهمية سببها المباشر الاول عدم دقة فهم تعبير اللغة في تناول قضايا فلسفية مفتعلة لا قيمة حقيقية لها، ولم يتم التنبيه الى معالجة اخطائها الفادحة الا في وقت متاخر مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي في نظرية المعنى. ولي في عدة مقالات منشورة وموزعة في ثنايا مؤلفاتي رأيا توضيحيا في معنى التحول اللغوي وفلسفة اللغة والى ماذا اوصلت تاريخ الفلسفة ربما يتاح لي عرضه لاحقا.

 س2: ا. مراد غريبي: بحكم تبحركم في اغوار التراث الفلسفي ومديات الفلسفة الحديثة والمعاصرة هل لديكم تعريف خاص بكم للفلسفة؟

ج2: أ. علي محمد اليوسف: أقولها بأمانة وصراحة أني في كل كتاباتي المنشورة ومؤلفاتي لم اكن سوى طالب معرفة فلسفية لا زلت امارس رغبتي هذه من منطلق استزادة الاطلاع على مباحث فلسفية اجنبية غربية تحديدا، ولم أبلغ مستوى التبحر في أغوار التراث الفلسفي الذي لا يسعني استيعاب النزر اليسير منه بما يحتويه من متراكم خبراتي فلسفي تاريخي لا يمتلك رغم ضخامته تزكية الصواب المليء بالحشو الزائد.

أستطيع القول في نقاط:

* أن انتقالاتي في الكتابة الفلسفية التي لا تتمحور في غالبية مؤلفاتي في منحى فلسفي واحد تعطي إنطباعا لا أنكره على نفسي وبعض الاساتذة الباحثين في المجال الفلسفي اني استطعت تجاوز حاجز الكتابة التخصصية في موضوع فلسفي معين واحد.

* منهجي الفلسفي الذي إعتمدته بكتاباتي تحكمه الضوابط المنهجية التالية التي لم أحد أو أتراجع عنها:

- عدم التزامي المنهج الاكاديمي الذي يعتوره إستنزاف مجهود الباحث في تغطية سطحية التناول الإستعراضي (مرجعية ثبت هوامش المصادر والمراجع) باللغات الاجنبية في التناول الفلسفي الذي يعتمد الترجمة الحرفية وبتقديس مسرف لما يقوله الفلاسفة الغربيون على أنه يمّثل حقائق الامور. الفلسفة أكاديميا في التدريس والتلقي عند الطلبة في الجامعات العربية من أسوأ أخطائها أنها غيّبت الحس النقدي الممنهج على حساب ترسيخ إعتياد الحفظ والاستظهاراليقيني الساذج بعيدا عن الرؤية المنهجية النقدية.

- عمدت الابتعاد التام الكامل عن كتابة العروض الهامشية لافكار فلسفية وردتنا بهالة من المكابرة الفارغة التي أسبغناها عليها، في إهمالنا أهمية ممارسة النقد الفلسفي وبذر نواته لدى طلبة الفلسفة واساتذتها اننا لا يجب ان نتهيب اسم الفيلسوف في اعدام حقنا المكتسب ضرورة ممارسة منهجية النقد في دراساتنا الفلسفية. واستطيع القول بكل ثقة وامانة اني لم اكتب مقالة فلسفية واحدة لم امارس فيها منهج النقد الفلسفي في مقارعة الحجة بالحجة من منطلق التكافؤ الفكري لا من منطلق مشاعرالاحساس كما يروج له البعض ويمارسه من عتبة الادنى بالنسبة لفلاسفة غربيين. ولم أقرأ لفيلسوف غربي أجنبي لم يلازمني في افكاره هاجس النقد في بعضها رغم كل إعجابي به كفيلسوف صاحب نظرية فلسفية خاصة به..

س3: ا. مراد غريبي: سعادة الدكتور اليوسف استسمحكم: العديد من القراء لكم يطرحون سؤالا على جانب من الوجاهة:

- لماذا كانت كل كتاباتك ومؤلفاتك هي عن الفلسفة الغربية فقط، ولم تتناول الفلسفة العربية الاسلامية كما فعل العديد من المفكرين العرب الكبار بهذا المجال؟

ج3: أ. علي محمد اليوسف: أستطيع تثبيت وجهة نظري حول هذا التساؤل بالتالي:

1- لا أمتلك التخصص الاكاديمي الفلسفي في الفلسفة العربية والاسلامية التي تطغى عليها مركزية مراجعة التراث في تدوير منطقي لا يخرج الا نادرا قليلا في تناول قضايا فكرية فلسفية مالم تكن متوازية مع تطويعها لفقه الاجتهادات الدينية الاسلامية.

وهذا مؤشر جوهري أن الباحث في الفلسفة العربية الاسلامية لا يمتلك حرية النقد المنهجي الموضوعي الا وهو مغترب يعيش في بلاد المهجر. طبعا يوجد استثناءات معاصرة مارسها استثنائيا مفكري المغرب العربي في مرحلتي القرون الوسطى الاوربية وفي مرحلة الفلسفة المعاصرة التي تقوم على ثنائية اصطراع التراث والحداثة التي لم تنتج لنا مشروعا فلسفيا بل انتجت لنا صراعات فكرية على مستوى النخب الفكرية الفلسفية..

2- ما يطلق عليه فلسفة عربية اسلامية تمتلك هويتها المستقلة ومشروعها الفلسفي الخاص بها لا وجود لها لا قديما ولا حديثا ماعدا استثناءات وردت في التماعات فلسفية كانت ضمن عروض افكار الفلاسفة الغربيين. اذا كان المقصود بالفلسفة العربية الاسلامية هي الفلسفة التي سادت منذ القرن الحادي عشر الميلادي فهي ليست فلسفة معرفية وانما هي فلسفة كتابة هوامش وتوثيق تدويني قامت بمهمة الحفاظ على ماوردنا مترجما عن الفلسفة الغربية اليونانية القديمة وبعضا من فلاسفة فارس والصين والهند، وهي الفلسفة التي إخطت لها مسار الترجمة عربيا قديما منذ القرن الرابع الهجري وما تلاه في حكم الخلافة الاسلامية في العصر العباسي وتحديدا زمن خلافة المامون الذي فتح مغاليق الاحتجاب عن الفلسفات الاجنبية السائدة آنذاك في الصين وبلاد فارس واليونان في تاسيس بيت الحكمة وتشجيعه الترجمة العربية لانجازات اجنبية فلسفية وادبية وثقافية عموما..

أما أن نقصد بالفلسفة العربية الاسلامية التي أنتجت لنا ابو حيان التوحيدي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن خلدون وابن رشد..

أ. مراد غريي: استسمحكم الدكتور والغزالي كذلك

... فقد كانوا اصحاب مشروع فلسفي لم يكتمل وانتكس بسقوط غرناطة وانتهاء الوجود الاسلامي في الاندلس 2 يناير /كانون الثاني 1492 ميلادية الموافق 897 هجرية. وظهور بوادر خلاص اوربا من عصور تخلف القرون الوسطى وبداية اكتشاف القارة الامريكية. اضافة الى بروز خلاف مستحكم اشار له الفيلسوفين محمد عابد الجابري ومحمد اركون وبعض مفكري وفلاسفة المغرب العربي المعاصرين بين العقل المشرقي المستقيل الذي كان حجر عثرة في ترسيخ الجمود ومحاربة الاجتهاد الفكري الثقافي عموما الذي إمتاز به العقل المغربي العربي الخلاق القائم على موروث حضارة الاندلس اكثر من اعتماده الموروث الفلسفي المشرقي الذي غلبت عليه نزعة التصوف الديني والاشتغال الفقهي الاسلامي..

3- لعلي لا اكون متجنيا متنكرا لميراثنا التاريخي بمجمله هو اننا لم نجد على مدى عصورنا أن قام بعض مفكرينا وفلاسفتنا باكثر من محاولة تطويع الفكر الفلسفي اليوناني المترجم المنقول الى سجنه خلف قضبان المنع والتحريم وعدم التقاطع مع مفردة فقهية اسلامية واحدة باسم تغليب مفردة الفلسفة على فقه الدين. فكان ما نطلق عليها فلسفة عربية اسلامية لا تستطيع امتلاك حرية الاجتهاد الفلسفي من جهة كما ولا تمتلك امكانية الخروج على نوع من توفيقية مخاتلة تلفيقية مهادنة مع الدين تستطيع تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، فبقيت اسيرة شروحات غير خلاقة ولا مبدعة في مجال تحقيق هوية فلسفية عربية اسلامية خاصة. واذا سمحنا لانفسنا المقارنة بين الفلاسفة المسلمين المحافظين وبين فلاسفة الصوفية المنكوبين الذين تمت تصفيتهم ببشاعة رهيبة لادركنا جيدا لماذا تسّيد منطق الجمود وغلبته منطق وفلسفة التجديد والانفتاح عند الفلاسفة العرب الذين حاولوا التوفيقية التلفيقية بمداهنة سطوة الفقه الاسلامي مدعومة من الحاكم مع العروض الفلسفية. وغالبا ما كان الاجتهاد الفلسفي العربي الاسلامي يحتجب خلف مرويات من القص الذي تتسيده لغة الالغاز والايهام في إعتماد اللغة على لسان الحيوانات.2916 علي اليوسف ومراد غريبي

س4: ا. مراد غريبي: جميل جدا سعادة الدكتور اليوسف، وماذا عن تعريفكم الخاص للفلسفة؟

ج4: أ. علي محمد اليوسف: أود قبل تعريفي لها الاشارة الى عدم وجود تعريف يكون مصطلحا جامعا متفقا عليه. من حيث تعريفات الفلسفة هي من الكثرة بعدد تعريفات الفلاسفة الذين يعرّف كل واحد فيهم الفلسفة بضوء مرجعية تفلسفه هو لا مرجعية غيره في حب الحكمة منذ القرن السادس اليوناني قبل الميلاد. وكي لا اثقل واطيل على القاريء في ضرب العديد من الاستشهادات المختلفة بلا حدود حول تعريف الفلسفة اقول تعريف الفلسفة بالنسبة لي الذي أرجو ان اكون موفقا به: الفلسفة تعبير منطقي لغوي تجريدي يحاول فهم الحياة بشكل مغاير تماما عن فهم المجموع لها وليس من مهام الفلسفة تغيير حياة الناس، لأنها تجريد غير خاضع للتطبيق بالحياة كما ذهب له كلا من ماركس وراسل على السواء رغم مادية الاول ومثالية الثاني.

س5: ا. مراد غريبي: رائع جدا، طيب دكتورنا العزيز، أي المناهج الفلسفية استقطبتكم ولماذا؟

ج5: أ. علي محمد اليوسف: قبل الجواب المباشر عن التساؤل الذي ساورده لاحقا اود الاستطراد قليلا حول مفهوم المنهج الفلسفي.

- هل المنهج ضرورة معرفية تلازم الباحث بالتفكير ومعالجته لقضية أو مشكلة هي قيد الطرح والمناقشة والتجاذب التنظيري المختلف بشأنها؟

- ما المقصود بمنهج البحث؟

- هل منهج البحث في العلوم الانسانية هو نفسه منهج البحث العلمي الطبيعي؟ وهل كليهما يصلحان كمنهج فلسفي؟

- هل منهج التفكير يقي الباحث ويجنبه الانزلاق نحو/في التشتت التفكيري المليء بالاحتمالات ووجهات النظر المتباينة المختلفة التي تعتورها الاخطاء وتفتقد معيارية المرجع اليقين؟

حينها تكون المادة البحثية أو القضية التي يتم تناولها المعرفي والنقاشي تفتقد الرؤية التفكيرية الممنهجة في رغبة الوصول الى تثبيت حقائق مرسومة سلفا في ذهن الباحث ولا يحققها له غير منهج تناولها التفكيري. كي تخلص قراءة كل نقد لا منهجي من الضياع الفكري المشتت في ثنايا الموضوع المراد بلوغ حقائقه اليقينية.

من ناحية التعريف:

* كل منهج تفكيري هو وعي قصدي عقلي في الوصول لهدف مرسوم سلفا في الفكر قبل أعتماد وسيلية المنهج القائم على قواعد وضوابط وأحكام خارجية تحضر كقوالب أحتواء التفكير العقلي لا يحيد عنها التوزيع المعرفي الممنهج كما هو في قانون وحدة الاواني المستطرقة الفيزيائية...

بمعنى أحكام وقواعد التفكير لا يمكنها الخروج على ما هو معد سلفا لها من قوالب تحتويها في تطويعها لما يراد صبّه فيها من قضايا باسم المنهج الفلسفي كما اراد ذلك ديكارت.

تاريخيا:

منهج التفكير الفلسفي كان مطروحا ومارسه غالبية فلاسفة اليونان قبل سقراط وبعده وصلنا في أبرز قطبين كانت افكارهما تتسم بالمنهجية الاستقرائية والاستنباطية التي تقود الى قناعات لم تكن خارج تفكير الفيلسوف الوصول لها، كما هو حال إختلاف منهج افلاطون عن ارسطو من حيث الاطار العام وليس من حيث التفاصيل التي يكمن فيها الانزلاق الاختلافي نحو اللامنهج كقالب يمتلك محددات صارمة في الاحتواء.

فقد تكون الاطر العامة هي الغالبة في تحديد منهج التفكير ولا تمتلك التفاصيل غير الاجتهاد البحثي الانطباعي الفردي الذي ربما يكون لا ينسجم بالتبعية المنهجية مع الاطار العام للمنهج البحثي.

المنهج الذي يعتبره الباحثون الفلاسفة هو مجموعة القواعد والاحكام والاساليب التي تقود الوصول الى حقيقة الشيء هي محددات خارجية منهجية في اطارها العام لكنها لا نجدها تدخل تفاصيل المبحث قيد الدراسة المنهجية. لذا يكون المنهج اطارا عاما فقط وتغلب على معظم التفاصيل الداخلية الاجتهاد الفكري للباحث ورؤيته النقدية الانطباعية الخاصة به لا بموضوعية المنهج..

لا يوجد منهج يحكم الموضوع أو قضية البحث في مجمل اطارها العام مع تلازم محتواها.

ديكارت والمنهج:

أول من أثار أهمية المنهج في مبحث الفلسفة الحديثة على أساس يقوم على الشك الذي يقود الى الحقيقة الصائبة اليقين هو ديكارت في القرن السابع عشر في كتابه: (مقال في المنهج) الذي أصبح ايقونة فلسفية في عصره وفيما تلا عصره ايضا وفيه يجيب ديكارت على سؤال مالمقصود بالمنهج قوله:

"المنهج جملة قواعد مؤكدة، تعصم الالتزام بها ومراعاتها ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يرغب معرفته دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة ".

 ربما سبقه بهذا التوجه بيكون في كتابه الاورجانون عام 1600م، والفرق بين الاثنين هو أحدهما:

- ديكارت كان يبحث عن المنهج التفكيري الفلسفي العلمي على نطاق منطق الفكر التجريدي في المعرفة.

- وبيكون كان يضع عتبات المنهج التجريبي العلمي في فهم الحياة بواقعيتها.

رؤيتي حول المنهج:

بالنسبة لي أجد في المنهج أنه: أسلوب تفكير عقلي في فهم الحياة، وهذا المنظور قائما على أن قوانين العقل تعلو قوانين الطبيعة في ثباتها وتصنع قوانين الحياة في تطورها. لذا لا اجد هناك مثالية بالمنهج كما مارسه الفلاسفة المثاليين الذين يفهمون المنهج كما ارساه ديكارت بالفلسفة على انه وسيلتنا في اكتساب المعرفة المجردة. بمعزل عن مهمة تغيير الحياة التي نحياها. اعتمدت في كتاباتي المنهج المادي الجدلي بمفهومه الابستمولوجي وليس بمفهومه الايديولوجي العقائدي ممثلا بالماركسية. هذا الفرق كنت على دراية الفرز فيه عندما هجر ماركس الفلسفة حين نال شهادة الكتوراه بالفلسفة عام 1881 عندما وجد استحالة تحويل منهج التفكير الفلسفي تجريديا القيام مقام ما كان يسعى تحقيقه في البحث عن ايديولوجيا سياسية تتولى تغير واقع التفاوت الطبقي في الاقتصاد السائد مجتمعيا فهجر الفلسفة وكرس معظم حياته في كتابة رأس المال معتمدا مرجعية الاقتصاد السياسي وليس تجريد نظريات الفلسفة. بخلافه تماما كان بريتراندرسل مؤمنا ايمانا راسخا انه ليس من مهام الفلسفة تغيير الحياة ولا حتى الانتفاع منها حين وصف الفلسفة البراجماتية الذرائعية الامريكية انها فلسفة نذلة خسيسة تسعى تحقيق المنفعة.

وفي وصولي الى قناعة لا يمكن تغييرها في حقيقة الفلسفة تجريد منطقي متماسك مستقل في بناه الفكرية عن معالجة قضايا الحياة كما تفعل ايديولوجيا السياسة وتجارب العلوم الطبيعية التطبيقية اتخذت من المنهج المادي الجدلي وسيلة تفكير في فهم قضايا الفلسفة بما هي فلسفة وليست بما هو ليس منها ان تكون علما تجريبيا أو أيديولوجيا سياسية وهو ما يلمسه واضحا القاريء في بعض كتاباتي.

س6: ا. مراد غريبي: هل الفلسفة غايتها انتاج علوم الطبيعة والانسان والكون ام ماذا؟

ج6: أ. علي محمد اليوسف: يقول ويل ديورانت في كتابه المرجع قصة الفلسفة (أن العالم نظام لكنه ليس موجودا في العالم نفسه، بل الفكر الذي عرف العالم وأدركه هو المنّظم لهذا العالم، وأن قوانين الفكر هي قوانين الاشياء) ونجد أهمية مناقشة رأي ويل ديورانت بضوء أن هيجل يعتبر أيضا (قوانين الطبيعة هي قوانين العقل التنظيمية، وقوانين المنطق وقوانين الطبيعة شيء واحد).

ربما تبدو مصادرة فكرية متسرعة غير لائقة أن لا نعتبر فكر الانسان لم ينّظم عالم الطبيعة الا في قوانينها المكتشفة له علميا فقط، وأنه نظّم عالم الاشياء المدركة من حوله لكن تم ويتم ذلك في تأكيدنا حقيقتين أثنتين:

 الأولى: أن عالم الاشياء لم يكن قبل أدراك الانسان له غير موجود بأية صورة أو شكل من أشكال الوجود المنظّم سواء أكان ذلك الوجود السابق منظما بقوانين ثابتة كما هي الطبيعة أم تحكمه قوانين عشوائية متغيرة موضوعيا في تداخلها مع أدراكات الانسان لها وتعديل وجودها كما في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان له، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لإدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في فراغ تجريدي ذهني يلغي مؤثرات علمية ثابتة ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

فالفكر نتاج عقلي لا يعمل بغياب موضوع تفكيره، بل الفكر قوة مادية يكتسب ماديته من الجدل المتخارج مع موضوعه.. والفكر من غير موضوع مدرك له غير موجود في نظام العقل في وعيه الاشياء، أي لا يعي أدراك ومعرفة الموجودات،لأن غياب موضوع الادراك يعني غياب وجوده المادي أو المتخيّل الذي يعطي الافكار نظامها الادراكي المقبول المتسق بين موضوع الادراك وإدراكية الانسان العقلي له ..

 الثانية: في إشتراط توفرها في الفكر لكي يكون فاعلا منتجا، أنه لا وجود لشيء بظواهر وماهية أي متعيّن في شكل ومحتوى مادي يدركه الانسان في الطبيعة وعالم الاشياء انطولوجيا لا يتمتع بنوع من القوانين التي تحكم علاقته الذاتية الخاصة به كجوهر وصفات، مع العلاقة الادراكية بالانسان كفعالية فكرية تنظم وجود الاشياء وتعمل التعريف بها وإكسابها تخليقا وجوديا مستحدثا، وأن ما يخلعه الفكرالانساني من معارف في تعديله تلك القوانين في عالم الاشياء أنما هي قوانين إدراكية فكرية لم تكن موجودة قبل ملازمة الاشياء للفكرالانساني لها الذي يريد فهمها وتفسيرها وتنظيمها،.. وليست قابلية الفكر الانساني إنشاء قوانين تخليقية بغية إيجاده كائنا او شيئا آخر جديدا لم يكن موجودا كما يرّوج له فلاسفة المثالية...الفكر لا ينتج عوالم الاشياء ماديا في وجودها الطبيعي من لا شيء متعيّن يسبق وجوده تفكيرالانسان المنظّم به....وعالم الاشياء والموجودات في الطبيعة هو عالم مادي رغم أن وسيلة تخليقه وبنائه المعرفي تقوم بالفكر واللغة التعبيرية المجردة التي تعتبر بمثابة المنهج والدليل الذي يقود الانسان الاهتداء به كنظريات وقوانين في تغيير عوالم الاشياء وفي مدركات الطبيعة معا..

 إن نظام العالم الطبيعي الخام ونظام العالم الانساني المخترع المصنوع كيفيا متمايزا ومبتكرا في قوانينه في تلازمهما معا عرف بهما الانسان كيف ينظّم أفكار أدراكاته بما يفيده منها في عالم تفاعله الادراكي مع عوالم الاشياء من حوله، كما أن الانسان في تخليقه لعالمه الانساني المتطور علميا ومعرفيا وعلى مختلف الصعد والنواحي وفي كافة المجالات لم يستمد تقدمه الا بمفارقته (وهم) فرضية أن قوانين الفكر التي يبتكرها ويخترعها الانسان تسعى في حقيقتها المطابقة مع قوانين الاشياء بما يقعد تطور وتبديل وجود الاشياء المحكومة بقوانين ذاتية وموضوعية ثابتة قبل محاولة الانسان تغييرها من جهة، كما أن مطابقة الافكار لموجودات الاشياء والقوانين التي تحكمها ليس رغبة الاكتفاء بمعرفتها دون أرادة تغييرها وتبديلها،وبغير ذلك نجعل من الفكر مثاليا أبتذاليا ساكنا في علاقته بواقع الاشياء في وجودها المادي الساكن أيضا في الطبيعة، وبذلك لا يتم تبديل الواقع بالفكر، ولا تطوير الفكر بعلاقته الجدلية بتغيرات وتحولات الواقع....

الفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزتها في تعاليه عليها باستمرار...الحقيقة المادية أن الواقع يخلق تفكير الانسان لكن تغيير الواقع تقع على مسؤولية وعاتق الانسان وليس مسؤولية تجريد الفكر.

وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هو في أعتبار عملية أدراك الانسان الاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة مع قوانين الاشياء في وجودها قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل أن تداخل الاشياء المدركة مع الفكر في جدل ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وأستحداث رؤيته وقوانينه لها..

النتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من افكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضور الواقعي في حياتنا...

في عالم الاشياء التي جرى اختراع وسائل تغييرها وخلقها المتجدد من قبله...

عن جدلية العلاقة بين الفكر والواقع

لا يوجد علاقة جدلية بين الواقع المادي والفكر كما هو متداول في ادبيات النزعات المادية الفلسفية، بل علاقة الفكر مع الواقع هي علاقة تكامل تخارجي معرفي بينهما فقط.

كما لا تمتلك الاشياء قوانينها الخاصة التي تقود الفكر الانساني بها وتجرّه وراءها، بل العكس من ذلك الفكر في إدراكاته الاشياء وعالمه الانساني الواقعي هو الذي يقود تبديل وتغيير الاشياء وقوانين وجودها قبل تدّخل إرادة الانسان في وجوب تغييرها نحو الافضل بالنسبة له وليس بالنسبة للاشياء في محيطه الادراكي، الاشياء وموجودات العالم الخارجي لا قيمة حقيقية لها ولا وجود مؤثر من غير إمتلاك فكر الانسان لها وإيجادها متخلقّة ثانية في نمط متجدد من التخليق التطوري المستمر لها على الدوام من قبل الارادة الانسانية...

س7: ا. مراد غريبي عفوا، أستاذنا الفاضل دكتور علي اليوسف، ما علاقة الفكر بالواقع المادي للاشياء؟

ج7: أ. علي محمد اليوسف: وجود الاشياء في الطبيعة كان وسيبقى وجودا ناقصا ومبهما غير واضح يستهدي بما يخلعه عليه الفكر الانساني من تخليق لا يمثل أستجابة ورغبة العقل الانساني مطابقة نظام الاشياء في وجودها مع مبتكراته الفكرية في تخليقها وتنظيمها مجددا، بل في سعي الفكر الانساني تعديل وتغيير تلك القوانين بما يجعل الفكر الانساني يصنع قوانين عوالم الاشياء من جديد، ولا يسعى التطابق معها في معرفتها وتفسيرها فقط...

من المهم التأكيد أن الفكر الانساني هنا لا يتعامل مع قوانين الطبيعة وموجوداتها ومكوناتها غير المكتشفة والمدركة من قبله،وليس كل ما يعرفه الانسان من قوانين الطبيعة الثابتة المكتشفة يصار الى تغييرها لمجرد التغيير في إثبات قابلية الفكر الانساني التطورية والتغييرية...

فهناك قوانين مكتشفة في الطبيعة جاهزة في تنظيمها وإتقانها لتوضع في خدمة الانسان من غير الدخول في مهمة تخريبها بإسم تخليقها وتجديدها..

مثلا: ما أهمية أن يقوم الانسان بمحاولة يائسة بائسة في عجزه تغييره نظام الجاذبية؟؟

هنا لابد لنا من توضيح إلتباس قد يقع فيه البعض حول علاقة الفكر بالواقع المادي للاشياء... أننا نسلّم بحقيقة أن الفكر إنعكاس للوجود السابق عليه دوما، لكن الفكر لا يدخل مع أدراكه الموجودات بعلاقة ميكانيكية ساكنة تكون الغلبة فيها والارجحية لموجودات الاشياء الواقعية قيادتها هي للفكر في توجيهها له كما تذهب الفلسفات المثالية، بل الفكر في إدراكه الموجودات يدخل معها في جدل متبادل تخليقي تكون الكلمة النهائية فيها للفكر وليس للوجود الذي أصبح غيره الوجود بعدما جرى تخليقه فكريا،من هذا التوضيح نفهم أن الوجود لا يقود الفكر بل الفكر هو الذي يدرك الوجود ويقوده ويعمل على تخليقه في تجديد متطور على الدوام.. الوجود حافز مدرك لانتاجية الفكر، لكنه – الوجود - يعجز عن إنتاج قوانين جديدة غير ثابتة فيه بمعزل عن قيادة الفكرله..

 والفكر يخلق نظام الاشياء التي ليس لها قوانين منتظمة خاصة بها أو لا تمتلك تلك الموجودات حضورا وجوديا فاعلا قبل إدراك الفكر الانساني التخليقي لها، ومن دون إدراكات العقل وإبتكاره قوانين غيرموجودة وغير محدودة في تشكيل وبناء عوالمه لا يكون هناك قوانين للاشياء يجدها الانسان مطابقة ومتجاوزة في وقت واحد لما أصبح يمتلكه عنها ليس ليتطابق معها بل من أجل تغييرها....

لذا نجد أن إمتلاك الانسان لقوانينه الخاصة به لا يمكنها أن تكون من وحي نظام الاشياء فقط التي يسعى الفكر الانساني عدم المطابقة معها أو أن ما يمتلكه الانسان من قوانين مبتكرة هي مستمدة من محاولته السعي مطابقتها مع قوانين الاشياء في فهمها فقط دونما تطويرها وتغييرها....

إختراع الانسان لقوانينه الخاصة في تشكيل عوالمه في الحياة التي هي دوما مجاوزة مستمرة لما يحكم قوانين الاشياء من جمود وثبات قلق في وجودها يثير رغبة الانسان أنتشالها من حالة إهمال منسي في الطبيعة الى حالة وجود متطور يعيش وجوده الحقيقي في عالم الانسان ...

ومما ضروري الإشارة له:

 أن الفكر لا يعامل جميع مواضيعه الادراكية في عالم الطبيعة والاشياء في أهمية واحدة، بل يختار وينتقي منها ما هو ضروري له بارتباطه به في تسهيل بناء حياته ومستلزمات حاجته وبقائه..كما أشرنا سابقا الوجود مصدر يلهم الفكر قوانين تخليقه، لكن الوجود يعجز أن يخلق قوانين مستحدثة جديدة يجاري بها الفكر أو يقوده بها كما هي أمكانات العقل القيام بذلك ...

لا خلاف حول حقيقة أن نظام الطبيعة في قوانينها الثابتة التي تعمل باستقلالية عن الانسان هي حقيقة مسّلم بها، وإذا نحن اعتبرنا نظام العالم الانساني المتغير في علاقته بالطبيعة مستمّدا من نظام الطبيعة الثابت فقط نكون وقعنا في خطأ ساذج، فقوانين الطبيعة الجزئية جدا هي واحدة من نظام القوانين التي تحكم الفضاء الكوني الذي يجهله الانسان كجهله معرفة قوانين الطبيعة في ذاتها غير المكتشفة...

وقوانين الطبيعة الثابتة كجوهر ذاتي غير مدرك، هي قوانين تحكم نظام الطبيعة نفسها فقط ولا يلزم من ذلك تعميم ذلك الثبات الماهوي الذاتي الغامض في قوانين الطبيعة على تشكيل نظام العالم الانساني المتغير باستمرار بمعزل عن مؤثرات الطبيعة وقوانينها غير المكتشفة...

والعالم المصنوع إنسانيا ولم تساهم الطبيعة بصنعه مباشرة يكون متغيرا بمتواليات مستمرة من التبديل.. ويبقى نظام الطبيعة نظاما مستقلا الى حد ما عن النظام الكوني في علاقته بالانسان، فهو قريب من عوالم الانسان المصنوعة لأنه في تماس مباشر مع الانسان في تكوين عالمه الذي يعتبر الطبيعة جزء منه وهي أقرب في أنتمائها للانسان عنه في أنتمائها كوكبيا لمنظومة الفضاء الكوني الذي تضيع الطبيعة الارضية فيه ذرة رمل في صحراء..

س8: ا. مراد غريبي: اذا تقصدون دكتور اليوسف أن قيمة الطبيعة أو وجود الأشياء من قيمة وجود الإنسان، ماذا عن قوانين كل من الطبيعة وعالم الإنسان؟

ج8: أ. علي محمد اليوسف: أكيد حضور الطبيعة بهذه الاهمية الاستثنائية لوجود وحياة الانسان لم تكن شيئا من دون إهتمام الانسان بها أنها جزء من عالم كوني بعيد لا متناهي سديمي لا متلاشي لا قيمة حقيقية للطبيعة الارضية المأهولة فيه، لا كما هي في حيوية وأهمية إنتسابها للانسان وإنتسابه لها وتكاملهم تكامل الأم بوليدها التي رعته وأنشاته بفضلها عليه وتأمينها له مقومات أدامة حياته من الانقراض والفناء وحمايتها له من غير أرادة واعية مسّبقة منها في درء الاخطار التي كانت محدقة به ....

 ومن غير الصحيح التفكير في وجوب مطابقة قوانين التناوب المتطابق أو المنّظم بين عالم الطبيعة وعالم الانسان المصنوع تدريجيا، أن تكون هذه المطابقة الفرضية الخاطئة سبب فهمنا صنع العالم الانساني وعلاقته بالطبيعة...

ولا يمكن خلط قوانين الطبيعة في وجوب تطابقها مع قوانين العالم فلكل منهما قوانينه الخاصة به التي يمتاز بها عدا قوانين الطبيعة المكتشفة في تداخلها مع عالم الانسان المصنوع بفضل تكامله معها، أول هذه الاختلافات بينهما أن قوانين الطبيعة كما ذكرنا ثابتة غير عاقلة مكتفية بذاتها بمعزل عن تدخلات الانسان بها..

 أما قوانين العالم الانساني فهي متغيرة متطورة باستمرار، الطبيعة مخلوق ومعطى فطري لا يعقل ذاته ولا محيطه ولا الاشياء الداخلة في مكوّناته.. أما العالم الانساني فهو تشكيل من الافكارالتوليدية المصنّعة والبناءات المتجددة باستمرار بوسائل عقل الانسان في أبداعاته بلا حدود، قوانين الطبيعة ثابتة لا تعقل نفسها بينما قوانين العالم الانساني إدراكية تعقل ذاتها وتعرف أهمية السعي نحو تحقيق أهدافها المتغيرة المتجددة دوما..ومثلما لا يعي الانسان مدركات قوانين الطبيعة غير المكتشفة التي تعبر عن ماهيتها الذاتية كونها ثابتة وتحكم وجود الانسان بعاملي الزمان والمكان اللذان لا تدرك الطبيعة أنها تحكم الانسان بهما لا أراديا وتتسيده...

يقابل هذا أن جميع قوانين الانسان المصنوعة تتحكم بالكثير مما هو في الطبيعة وتتسيدها دونما وعي منها، وفي الوقت الذي يدرك الانسان أن قوانين الطبيعة تحكمه ولا يستطيع منعها، فإنها أي الطبيعة لا تدرك أن الانسان يتسّيدها بخلق قوانين عوالمه العلمية التكنولوجية المتطورة بمعزل عن الطبيعة كما هي تفعل معه وتحكمه بعاملي الزمان والمكان من غير وعي ولا أدراك له..

تطابق قوانين الاشياء المدركة مع قوانين المنطق والفكرالمجرد عنها هو تطابق إفتعالي خاطيء متخيّل غير حقيقي على صعيد الفكر..

عندما يستمد الانسان كل تجاربه المعرفية الساكنة غير المنتجة بما أصبح يعرفه عنها لا بما يجهله فيها، ونجد المفارقة بينهما أمام حقيقة أن الطبيعة في قوانينها وقوانين الاشياء المتعالقة معها، لا تكون المصدر الوحيد في تشكيل معارف الانسان الحديثة في وضع قوانينه الخاصة به.. الطبيعة توقفت عن إلهام الانسان صنع عوالمه الخاصة به في الحياة في موازاة معرفته الطبيعة التي تراجعت أهميتها عما كانت عليه في الماضي نتيجة التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزه الانسان ما جعله مغتربا عن الطبيعة متجاوزا لها في قوانينها المحدودة بالنسبة لما أصبح يمتلكه الانسان الحضاري اليوم من قوانين مخترعة علميا من قبله جعلت الطبيعة تفقد الكثير من وسائل تحجيم الوجود الانساني في أعتماده عليها كما في سابق عصور ما قبل التقدم العلمي والتكنولوجي..

كما أننا في الوقت الذي كنا نجد عجز العقل الانساني العبث في قوانين الطبيعة البشرية الثابتة غير المكتشفة له، لجأ اليوم الى استثناءه التلاعب العلمي في توجيه تركيزه على طبيعته البيولوجية الفيزيائية ذاتيا كمخلوق لا ينتسب للطبيعة كطفل رضيع بعدما شبّ في وصوله مرحلة النضج، متجّها بأنظاره نحو العلم فيما يخص فيزياء وكيمياء قوانين الوراثة وعلم الاجّنة في محاولة فك شفرات العلم للجينات والاستنساخ الخلوي للكائن الحي وغيرذلك في ميادين عديدة هائلة للعلوم في محاولة لا تشكل أهتماما مصيريا له كناتج عرضي لابحاثه العلمية في أن يتوصل معرفة أسرار وقوانين الطبيعة المحجوبة عنه معرفتها...ما عدا هذا والقليل الجزئي المحدود في مجالات أخرى، لا يمكن القول أن قوانين العقل التي تنشيء العالم بأستمرار هي على حساب خرق دائم لقوانين الطبيعة المستقلة في ثباتها وكفايتها الذاتية لنفسها في المفارقة عن قوانين العالم الانساني المصنّع علميا التي يجري أبتكارها وأختراعها المستمرين، وأمام تزايد أختراع الانسان لقوانينه العلمية المتطورة جدا أصبحت الطبيعة وقوانينها المحدودة أمامه لا تمثل هدفا يسعى الانسان لأختراقه اليوم في صرف أهتمامه عن نزعات تطويرأمكاناته العلمية في بناء عالمه الانساني الذي يشيدّه باستمرار...

الطبيعة منذ العصور البدائية الاولى لا تدرك ولا تفهم أو تعقل أنها وجدت من أجل خدمة وبقاء الانسان ولا يستطيع الانسان الجزم بذلك اليوم أيضا، ونستطيع القول أن هذه المرحلة البدائية في علاقة الانسان بالطبيعة تضاءلت وتجاوزها الانسان في تقدمه العلمي الصناعي الهائل الذي جعل أمكانات الطبيعة التي كان الانسان يقف أمامها مندهشا ومستلبا في تقزيم الطبيعة له، أصبحت اليوم محدودة ألتأثير لا تجلب ذلك الاهتمام الكارزمي الحيوي الباهر التي كانت تتمتع به الطبيعة في أستلابها دهشة الانسان بها في مراحل لم يكن تقدمه العلمي الحضاري يؤهله مثل ذلك الاستغناء عن أهمية الطبيعة غير المحدودة في حياة الانسان وأستمرارها، لكن الانسان لازال يدرك أنه جزء من الطبيعة في وجوده وأعتماده عليها في تأمين بقائه من الانقراض ليس في أعتماده الطبيعة مادة خام تمده بأسباب البقاء في توفير ما يحتاجه من غذاء وجمال وراحة بال ووجود وغيرها.. فقد نجح الانسان في تصنيع عالمه بمعزل تام عما تمتلكه الطبيعة من إمكانات جردها الانسان منها وأصبح تقزيمها الانسان متراجعا أكثر من حقيقة بائنة واضحة...

قوانين العالم التي يبتدعها الانسان في تخليقه عالمه وتشييده بأستمرار، هي قوانين مبتكرة متغيرة لا تطابق قوانين الطبيعة الثابتة المحدودة التي لا يدركها الانسان الى الوقت الحاضر فهي على ضآلتها تشكل جزءا من نظام كوني معقد مجهول، ولا تتداخل قوانين الانسان مع الطبيعة الا مع الظاهر المكتشف منها في حال الحاجة الضرورية لها والتكامل الانساني بما يمتلكه من وسائل علمية مبتكرة معها، والعقل الانساني قدرات غير محدودة في أبتداعه القوانين الخاصة به التي تجعله يسّخر ما بقي تمتلكه الطبيعة ولم يكتشفه ويسخّره الانسان بعد لمصالحه... ولا يؤمن هو للطبيعة ما يجده مساسا لانانيته وحب سيطرته الغريزي عليها في تخريبه جوانب مهمة فيها يجد أنه لم يمتلكها كاملا بعد في سعيه تجريد الطبيعة من كل ماتجعله تابعا لها بعد أن نزع منها زمام المبادأة في تقدمه العلمي الهائل...

س9: ا. مراد غريبي: إذن يمكننا القول المفارقة في العقل، ماذا عن العقل الإنساني؟

ج9: أ. علي محمد اليوسف: من غير صفة إن عقل الانسان في أفكاره الديناميكية المتطورة باستمرار وفي خلقه قوانين الاشياء في عالمه الخاص التكنولوجي العلمي الكبير، لا يكون بغير مفارقته الجوهرية قوانين الطبيعة في ثباتها وليس في السعي للتطابق معها لا في الثبات ولا في الحركة في حلقات غيرمكتشفة لا يشغل الانسان أهتمامه معرفتها..

 العقل البشري عقل منتج لا يكف عن الحركة والتجديد والتطور، لذا نجده ينتج قوانينه الخاصة به في مجالات العلم والمعرفة والفلسفة والرياضيات والطب والمعمار وغيرها بما لا يحصى من معارف كلها لا تتداخل في تطابق مسّبق مع قوانين الطبيعة ولا في تبعية معها، وإنما تتمايز عنها بإختلاف خلاق لا يقاطع الطبيعة في جفاء بل يتجاوزها بالمهادنة الناعمة بعد أن خدمته طويلا....

لم تعد الطبيعة اليوم ملهمة الانسان في كل شيء كما في سابق العصور، والانسان يخلق قوانينه الخاصة به في مختلف مجالات الحياة من غير تداخل مع الطبيعة ألا في النادر اليسير فقط...

العقل الانساني عقل مبدع يعلو قوانين الطبيعة التي كانت في الماضي تستعبده رغما عنه في حاجته الضرورية لها، وتصنيعه لمدركاته الطبيعية علميا وحضاريا تقوم على أبتكاره قوانين خاصة في تنظيمه الحياة والعالم وبما تفتقده الطبيعة في قوانينها الثابتة غير المتغيرة ذاتيا ولا موضوعيا بقدر الاخلال ببعض قوانينها من قبل الانسان بما يحسب عليه أنه تخريب الطبيعة وليس بناء الحياة في مشاركة بين الطبيعة والانسان...

السبب بذلك فيما نرى ان الانسان العلمي وتطوره التكنولوجي والصناعي الهائل، أفقد الطبيعة أن تكون ندّا مكافئا لوجود الانسان المنفصل عنها تقريبا في تأمين أحتياجاته.. الطبيعة التي بدأت تشيخ في إنحسار قدراتها العظيمة التي كان الانسان يقدسها ويعبدها في عصور بدائيته الحيوانية من وجوده في علاقته الوثيقة بها، لم تعد تمتلك الطبيعة اليوم ما يعجز الانسان أمامها سوى أنها مصدر الجمال الحقيقي في وجوده المقفر بالحياة، الذي بغير تمتع الانسان بهذا الاعجاز المنظم الذي يلازم الطبيعة، يعود الانسان الى بدائية مسطّحة لا ترى من العالم غير الوجود الآلي الصناعي المتطور الذي هو ورشة عمل مقفلة على أنسان تكنولوجي صناعي فقد أهتمامه المثمر الروحي والوجداني العاطفي الذي يستمده من الطبيعة في ميزات الحب والجمال المذهل والتنظيم العفوي الفطري المعجز فيها..

أهم ميزة مكتسبة لقوانين الانسان المخترعة في تنظيم عالمه اليوم، هو في تعاليها على قوانين الطبيعة..

 إن العقل الانساني يعي ويعقل ذاته في نفس وقت يعي الطبيعة وعالم الاشياء، وفي وقت كنا نجد فيه الطبيعة صماء عمياء لاتعي ذاتها ولا تدرك موضوعاتها ولا قوانينها التي تحكم الانسان بها،ولا الانسان كموجود يشاركها الوجود... أوصلتنا هذه العلاقة المتمايزة بين الانسان والطبيعة الى الحقيقة التي بدأ يدركها الانسان مؤخرا أن الطبيعة تركت الانسان بوعي تام منها وجوب تركه يبحث عن وسائل فنائه الحتمي بنفسه وبإرادة مسّبقة هستيرية منه....

 قد يساء الفهم أن الانسان في تخليقه عوالمه التصنيعية الخاصة بحياته التي أفقدته توازنه، ويفتقد بها الروح التنظيمية المسالمة التي تمتلكها الطبيعة في أعجاز وجودي لا يماثله شيء مخلوق من قبل الانسان..

مما يعمّق لديه الشعور الاغترابي بأنه يصنّع عوالمه الانتحارية في التسابق النووي،، وامتلاكه عوالم تخريبية في مثل تهديد الوجود الانساني بسبب زيادة حرارة الارض وخطرتصنيع الحروب التي لا يمكن الحفاظ والتكهن على أن لا تخرج عن السيطرة عليها وتكون كارثية في أفنائها الوجود الانساني على الارض، هذا ما يتلاعب به الانسان في موت تدريجي بطيء لكنه حتمي النتائج الكارثية بالتأكيد..

الانسان يستهلك ما ينتجه من وسائل سعادة وأرتياح وبهجة مؤقتة في الحياة، ليس على حساب الطبيعة التي لم تعد تمتلك ما تخسره عدا جمالها وتنظيمها الرائع في تقزيمها الانسان السوبر صناعي وحسب، وأنما على حساب أستهلاك الانسان أسباب إدامة تأمين بقائه في وجوده على الارض أمام الفناء الحتمي القادم في وجوده بالطبيعة التي يشكل أنتحار الانسان فناءه وأنفجارها معه أيضا....

س10: ا. مراد غريبي: عندما نتحدث عن الفلسفة نتفكر فهم الوجود والانسان والطبيعة والله ان صح التعبير. هل اشتغالكم على الفلسفة كان مؤطرا لتامين مستقبل في الثقافة والدين والتاريخ والعلوم؟

 ج10: أ. علي محمد اليوسف: في محكومية الفضاء الواسع للإجابة عن هذا التساؤل الشمولي اود تثبيت بعض النقاط على الطريق منها:

1- جزء من التساؤل وردت الاجابة عنه في السؤال السابق.

2- بالرغم من خاصية الشمولية الجامعة للفلسفة في مناقشة كل قضية تهم الانسان في وجوده وعلاقته بالطبيعة والكوني الا ان الفلسفة تجريد يتكلم عن كل شيء ولا يعطي حلا لأي شيء. الفلسفة في جوهرها هي خلق مفاهيم كما يصفها جيل ديلوز.كما من مهام الفلسفة خلق تساؤلات لم تتوفر عليها مباحث الفلسفة سابقا.

3- لا نتوقع من ملازمة تجريد الفلسفة لها إن كانت سابقا تتوفر على فتح آفاق شمولية في ميادين وتخصصات تخص قضايا الدين والسيسيولوجيا والعلوم التي تشعبت فيها الاختصاصات التي اصبحت الفلسفة تابعة تلاحق تداخلها مع تلك المفاهيم التي حققتها ميادين الحياة في وقت كانت الفلسفة عاجزة عن اختراع تلك الافاق المعرفية الجديدة. حاولت الفلسفة جعل مباحثها تأخذ منحى الرياضيات وفشلت او منحى التداخل مع التخصصات العلمي وكانت النتيجة التقاطع مع العلم في الاقرار باسبقيته قيادة وصنع الحياة قبل الفلسفة.

4- قضايا الفلسفة كانت تدور حول مركزية الانسان في علاقته بالله والطبيعة والتاريخ والثقافة. وكانت المهمة صعبة فلسفيا لدى ديكارت، ليتبعه بالاخفاق فيورباخ حينما اراد خلق توليفة متداخلة تجمع الاله والطبيعة والانسان في اعتماده مركزية الانسان لكنه خرج بنتيجة ان الانسان خلق معبوده في مرجعية الطبيعة. وبذلك اراد نسف اللاهوت الديني اليهودي والمسيحي فلقي معارضة شديدة ليس من رجال الدين فقط بل من ماركس وانجاز ايضا.

الفلسفة مرت بانعطافة جوهرية استمرت قرونا طويلة على يد ديكارت بان مهمة الفلسفة الاولى هو تزويدنا بالمعرفة رغم ان كوجيتو ديكارت كان اعطى الانسان مركزية لم يكن من السهل مجاوزتها هو ان الذات الانسانية ادراك لاهمية الانسان انه عقل مفكر بكل شيء تجريديا. بمعنى ديكارت كان ارسى الفهم الفلسفي المثالي رغم محاولته العقيمة في خلق توليفة تجمع بين الله والانسان والعلم والطبيعة فكانت تلك امنية اكبر من حجم فلسفة ديكارت. تجريبية ديكارت لا ترقى الى تجريبية بيكون وهولباخ في فهمهما ان التجربة العلمية وسيلة حل معضلة انفصام التجريد الفلسفي عن الحياة بواقعيتها. ورغم ادعاء جون لوك وديفيد هيوم وباركلي انهم اعتمدوا ما كان قال به بيكون قبلهما الا انهما غرقا في مستنقع المثالية الوضعية المنطقية التي رأت تغيير الحياة يتم بالتفكير العقلي القائم على الاستدلال بالحس فقط ووجود العالم الخارجي يحدده الاحساس العقلي الذهني الذي قوامه الفكر.

الانعطافة التاريخية الثانية في تاريخ الفلسفة كانت على يد فلاسفة البنيوية التي ركنت الانسان وانكرت العقل والمعرفة والتاريخ وتمردت على المنجزات العلمية تماهيا بما عرف في مرحلة ما بعد الحداثة.

هنا البنيوية فتحت بابا واسعا اطلقت عليه نظرية التحول اللغوي التي ارسى بدايتها كلا من فريجة ودي سوسير بتفاوت فلسفي كبير بينهما، فريجة أقر بوجوب جعل فلسفة اللغة تقوم على اساس مزاوجة المنطق والرياضيات وتبنى هذا الطرح بحماس شديد بيرتراندراسل في ريادته للفلسفة التحليلية المنطقية الانجليزية التي انضم لها كلا من جورج مور وفينجشتين وكارناب وعالم الرياضيات وايتهيد الذي كان اقربهم الى بيرتراند رسل.

الشيء الجدير الاشارة له انه بمقدار ما كانت فلسفة اللغة ونظرية فائض المعنى هي الفلسفة الاولى التي قادت جميع المدارس والتيارات الفلسفية منذ منتصف القرن العشرين الا انها اي فلسفة اللغة هي البؤرة المركزية الطاردة وراء كل الانشقاقات الفلسفية التي قادت في معظمها خلق فلسفات جديدة لها تاثيرها القوي في معالجتها اشكاليات فلسفية مستعصية موروثة من جهة، والدخول في طرق مواضيع لم تكن الفلسفة عبر تاريخها مهتمة بها. خاصة لدى فلاسفة البنيوية فوكو وشراوس والتوسير وجان لاكان ورولان بارت وغيرهم. اعقبهم بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية.

 س11: ا. مراد غريبي: هل لكم توضيح العلاقة الاشكالية التي تجمع المادة والادراك واللغة من الناحية الفلسفية التي يداخلها علم وظائف الدماغ احيانا؟

ج11: أ. علي محمد اليوسف: بعد تنحية الإبستمولوجيا كفلسفة اولى منذ عصر ديكارت في القرن السابع عشر تربعت فلسفة اللغة عرش الفلسفة الاولى منذ منتصف القرن العشرين ولا زالت فلسفة اللغة تثير اشكاليات فلسفية مثل علاقة فلسفة العقل بالادراك،الذهن،الذاكرة، الوعي، الماهية، وغيرها من امور متداخلة فلسفيا تصل حد الارباك في غالب الاحيان.

الادراك واللغة

(من الممكن الاستغناء عن اللغة للوصول الى الانطولوجيا) مقولة سفسطائية

خطأ هذا التعبيرالفلسفي السفسطائي يكمن في محاولة أستبدال وسيلة اللغة الادراكية التجريدية ب (الادراك ) المباشر الحسي الانطولوجي الاستبطاني المجرد من اللغة وهو محال أن نجد ادراكا مجردا عن لغته فالادراك هو تفكيرحسي لغوي تصوري وليس مجرد أحساسات لا تمتلك صوريتها اللغوية التجريدية... وهذا الاتجاه الفلسفي بمقدار ما يحمله من أدانة واضحة الا أن فلاسفة الوضعية المنطقية التجريبية حلقتي فيّنا وحلقة اكسفورد التحليلية أخذا كليهما بهذا الاحتمال.

ويحمل هذا التعويل الخاطيء مقدما على أن أدراك الاشياء في وجودها الانطولوجي حسيا داخليا يعني أن تلك الادراكات الحسية هي لغة تعبير تواصلي لا تعتمد وسيلية اللغة في أدراكها الاشياء، وهو خطأ لا يمكن تمريره فالادراك الحسي هو لغة تصورية تمثلية ايضا لا تختلف عن أصل أية لغة تواصل كان تعلمها الشخص الذي يحمل ادراكه الطبيعي، الادراك الانطولوجي لغة تصورية تجريدية لا تخرج على أبجدية اللغة التواصلية العادية. بعبارة توضيحية أكثر الادراك ليس بمقدرته أختراع لغة ادراك خاصة به تختلف في بنيتها التركيبية نحويا وبلاغيا وقواعد هي غير نمط وشكل لغة التعبير العادية التي يتحدث بها مجتمع معين أو أمة معينة..الادراك الحسي أو الادراك الخيالي هو لغة تصورية تمثل تفكير العقل بموضوع، وكذا الوعي هو تمثل ادراكي لغوي في تعبيره عن تفكير العقل.

وأدراك الحواس ماديا لا يمكن ترجمته الى أحساس مفهوم المعنى والدلالة من غير لغة تحتويه وتعبّر عنه... أذ لا يمكن تحقيق أدراكا حسّيا عن شيء لا يحمل لغة أدراكه التجريدية معه، كل أدراك حسّي عن شيء وكل أدراك غير حسي خيالي عن موضوع لا يمكننا فهمه من غير تلازم تعبير اللغة عنهما خارجيا أو استبطانيا صامتا.. حتى تموضع اللغة بالاشياء المادية هي تعبيرات تصورية حسية مجردة في التعبير عن تلك الاشياء صادرة عن العقل في معرفتها الاشياء كموجودات انطولوجية.

الادراك الحسي يبقى لغة صمت لا يستطيع الافصاح عن نفسه من غير توسيل تعبير اللغة التواصلية الاعتيادية.. بالمختصرالمفيد الادراك لغة خرساء صماء موجودة بالذهن ولا يمكن تحققها بالواقع كلاما وتعبيرا من غير وسيلية اللغة الافصاح عنها. لذا يكون من المشكوك به إمتلاك الادراكات الحسية مصداقية تعبيرية عن الانطولوجيا بمعزل عن اللغة التواصلية أكثر مما تستطيع التعبير عنه. وكلا التعبيرين لغة الادراك الصمت ولغة الافصاح الصوت هما لغة واحدة لا أنفكاك بينهما، من حيث ترابطهما الابجدي في تكوين الكلمات الصوتية والجمل.

التفكير الحسّي الملازم لادراكات الاشياء المادية في حال لا يمكنه ارسال أحساسات الحواس الى الذهن لغويا تصوريا فلا معنى يبقى للادراك كحلقة في منظومة العقل الفكرية التجريدية، لانعدام آلية التوصيل المنتظم داخل منظومة العقل الادراكية.

ولا معنى يستطيع الوعي ادراكه الاشياء من غير لغة ايضا، أي حينما لا تتمكن اللغة أن تستوعب الادراك الحسي والوعي بالاشياء فلا يبقى هناك أي وجود خارج الذهن لهما.. كما والاحساسات هي لغة تعبير العقل عن مدركاته في ردود الافعال الانعكاسية الصادرة عن الدماغ.

فاذا كانت فكرة الادراك عن شيء هي تعبير لغوي مجردا فكيف يكون الادراك بلا لغة تلازمه يمكننا الاستغناء عنها في أدراكنا المحسوسات الانطولوجية؟ وكيف يتشّكل الوعي بالاشياء بدون لغة تلازمه؟؟وكيف تنطبع المدركات الحسية بالذهن بغير تعبير لغوي يلازمها؟ الاحساسات والادراكات والوعي ثلاث حلقات في منظومة العقل الادراكية هي في حقيقتها لغة تعبيرتجريدي واحد ولا تحمل هذه الحلقات التجريدية أفصاحاتها عن مدركاتها لمواضيع العالمين الداخلي (الاحاسيس) والخارجي (الاحساسات) الا بتعبير اللغة التواصلي الدارجة مجتمعيا..الادراك بتعريف كواين له هو وجود الشيء المستقل انطولوجيا.. لكنه غير المنفصل عن الادراك به بوسيلة تعبير اللغة عليه يكون الادراك لغة التعبير عن الشيء.. استقلالية الادراك في وجود الشيء المستقل هو ادراك لغوي له عن طريق الحس.، وانطولوجيا الاشياء كموجودات في العالم الخارجي لا يمكن أدراكها حسيا عقليا بغير لغة تعبير تجريدي عنها. .

أننا لا نستطيع إغفال حقيقة أن الاحساس بشيء ليس لغة استبطان معرفية له فقط، وكل موجود يدرك حسّيا يصبح بالنتيجة الملازمة له لغويا هو لغة أدراكية تجريدية سليمة غير أعتباطية خالية من المعنى. فالموجود الشيئي والوعي به، وانطباعه الصوري بالذهن هو تجريد لغوي يقبل تمرير معناه ادراك العقل له، والفكرالمتعالق مع الوعي فيما يعنيه، جميعها تجليّات ادراكية تقوم على تصوير لغوي يتمثل مواضيع الادراك، ويشمل هذا حتى الادراك العقلي غير المريض الذي لا يتوّسل اللغة في التعبيرعن تلك المدركات بل في التعبيرغير الانفصامي الصامت عنها. الصمت غير المريض لغة تفكير لا تختلف عن لغة التواصل العادية سوى بفارق الصوت المفهوم في تعبير اللغة عنه.

كان يتردد في بداية القرن العشرين سؤالا فلسفيا جداليا هل بالامكان فصل اللغة عن الفكر؟ جدال نقاشي تم حسمه في ادبيات الفلسفة البنيوية بخاصة عند دي سوسير بتعبيره اللغة هي وعاء الفكر. بمعنى أن فصل تداخل شكل اللغة مع محتواها المضموني محال ادراكيا عقليا. وفصل الادراك عن اللغة محال معرفيا. الادراك من دون لغة تلازمه عبث لا يمكن تحققه في معنى دلالي في الافصاح التعبيري عن شيء أو موضوع، وتجريد اللغة عن تعبيرها التجريدي للاشياء هو محال ايضا فاللغة وجود يلازم كل موجود يدركه العقل. والعقل لا يدرك الاشياء والعالم وموجودات الطبيعة بغير وسيلة تعبير تلازم الفكر واللغة معا في دلالة لمعنى واحد.

وتجريد اللغة في تعبيرها عن المادة تصبح كيانا لا ماديا ايضا رغم تعالقها التجريدي الانفصالي في تعبيرها عن الاشياء المادية. لا نستطيع فهم الشيء من غير أدراك حسي لغوي له، كما لا يمكننا فهم لغة لا تعبر عن شيء يمكن أدراكه ومعرفته. لا يمكننا فهم العالم بصورة سليمة مقبولة عقليا من غير تعبير اللغة عن مدركاتنا لموجودات العالم من حولنا. العقل في ماهيته غير البيولوجية هو (لغة) تعبير عن المعنى فقط بتعبير قدامى فلاسفة اليونان (لوغوس)...ومحال أن نجد اللغة موجودا انطولوجيا ماديا خال من تعالق لغة تجريده معه التي هي ادراكه. اللغة اصوات دلالية منتظمة في التعبير عن المادي الادراكي بينما تكون الموجودات المادية ليست لغة تواصل صوتي بل لغة ادراك صمت تفكيري. تموضع اللغة في تكوين الاشياء المادية تبقى لغة تجريد ملازمة لوجود المادة.

أما قضية أمكانية فصل اللغة عن الادراك كما يذهب له السفسطائيون والمناطقة من بعدهم فهو وهم فلسفي لا يمكن البرهنة على تحققه، اذا ما علمنا أن الادراك أستبطانيا داخليا أو ادراكا حسّيا خارجيا للاشياء والموجودات هو (لغة) في الحالتين ولا يوجد أدراك من غير لغة تحتويه كفكر تجريدي. لكن في فرق جوهري أن لغة الادراك الجوّانية هي لغة صمت فكري أما لغة التعبير الحسي عن موجودات العالم الخارجي تكون من نوع اللغة التواصلية المجتمعية كلاما أو كتابة.

لا يمكن تعويض الادراك المجرد عن اللغة القيام بمهمة اللغة والاستغناء عنها. من حيث أن حقيقة الادراك الحسّي للاشياء في وجودها الانطولوجي هو (لغة) اولا واخيرا، ولا توجد آلية تحقيق ادراك انطولوجي مفهوم له معنى في الاستغناء عن تعبير اللغة الصوري التجريدي. ادراك الشيء هو لغة صامتة استبطانية تحمل معها الفكر، وبغير هذه الآلية لا يتوفر للعقل تحقيق ادراكات للاشياء ذات معنى.

وفي حال انتقالنا الى مرحلة متقدمة أن ادراك الاشياء خارجيا هو ادراك حسّي مصدره الحواس، فهل تستطيع الحواس مع الادراك ايصال الاحساسات الى الجهاز العصبي والمنظومة العقلية على وفق آلية الاستغناء عن اللغة في ادراك موجودات الانطولوجيا الموزعة على الاشياء؟ الجواب المباشر كلا من حيث الاحساسات هي ترجمة لغوية مستمدة من الحواس، والاحساسات التي تربط ما تدركه الحواس بالجهاز العصبي تكون هي ايضا لغة صورية تجريدية منتظمة وليست تداعيات من الاحساسات العشوائية التي تفتقد حمولتها النظامية في المعنى المطلوب الدال من غير نسق وبنية لغوية تنتظمها. جوهر العقل الاسمى ماهيته التفكير حسب ديكارت. وكل تفكير عقلي صامت داخليا أو معبرا عنه خارجيا هو لغة مجردة.

س12: ا. مراد غريبي: ما توضيحكم الفلسفي حول اشكالية علاقة الفكر واللغة؟

ج12: أ. علي محمد اليوسف: رغم أني عالجت مثل هذه العلاقة التي تربط الفكر باللغة في مرات عديدة توزعتها كتاباتي ومقالاتي العديدة ألا أنني أرتأيت تثبيت ومناقشة أقتباس جدير بالتوقف عنده مفاده كانط والمثالية الالمانية لا تهتم باللغة، وأنما بالفكر، وقد جاء هذا التعبير الكانطي في كتابه الشهير الموسوم (نقد العقل المحض) فهو يعتبر علاقة اللغة بالفكر علاقة أعتباطية وبالتالي لا يمكن الاستناد الى أستنتاج الشروط الضرورية التي يمكن أن يكون هناك للفكر موضوعا فيها."

امام هذه المقولة المنسوبة لكانط نضع التعقيبات التوضيحية التالية:

- لا يمكن الجزم القاطع أن علاقة الفكر باللغة علاقة أعتباطية غير منتظمة، فالفكر تفكير لغوي تجريدي بموضوع مادي أو خيالي، ولا يمكن تاكيد أعتباطية التفكير أنه بلا معنى لعدم امكانية اللغة التعبير خارج الخلاص من الفرضية التي تذهب الى أن علاقة ترابطية الفكر باللغة أعتباطية غير منتظمة لا يعول عليها في استنتاج شروط ضرورية يمكن من خلالها تاكيد أن هناك للفكر موضوعاته المستقلة عن اللغة حسب عبارة كانط.

- أن الفكر هو تفكير العقل المتقدم بالاسبقية على لغة التعبير، عليه لا يمتلك الفكر موضوعاته المجردة من تعبير اللغة عنها. واذا افترضنا أعتباطية الفكر حالة تلازم الادراك والتفكير العقلي، فأن اللغة لا تتأثر بهذه الصفة كون اللغة لا تعمل في فراغ أعتباطي غير منتظم ادراكيا لمواضيعها التي هي مواضيع تفكير العقل بها، كما لا تعمل اللغة خارج التعبير عن معنى متحقق بالفكر سلفا بمعزل عنها.

- اللغة لا يمكن أدراكها عندما لا تكون دلالة ادراكية مستمدة من شيء موجود واقعيا سابقا عليها. أو موضوعا أستنفد تفكير العقل به واعطى ردود الافعال الانعكاسية الاستجابية عنه. ويحتاج أفصاح اللغة التعبيرعنه خارجيا. الادراك لا يكتفي بالفكر المجرد عن لغته كون الادراك هو تفكير لغوي لا يمكن فصل الفكر عن اللغة فيه.

- الحقيقة التي لا يمكن مجاوزتها بسهولة هي أن الفكر هو أدراك متعيّن بدلالة لغوية عن معنى، وكذلك تعبير اللغة هي ادراك متعين بدلالة الفكر، ولا يمكننا التعبير عن فكر لا تلازمه بالضرورة لغة تعبير عنه.. نظام التفكير باللغة يطوّع لغة التعبيرالتداولية عنه..

- ليس من مهام اللغة التي ترتبط حسب عبارة كانط بعلاقة أعتباطية بالفكر أن تقوم هي تنظيم وتخليص الفكر من الاعتباطية التي تلازمه. بل تنظيم نسق الادراكات الواصلة الى الدماغ تصبح مهمة تنظيمها تقع على عاتق العقل وليس على عاتق اللغة. فالعقل مضمون تفكيري واللغة وسيلته في التعبير عن تلك المضامين.. اللغة تعبير أكتسب محتواه من مرجعية تفكير العقل ولا تمتلك اللغة أمكانية تنظيم مدركات العقل بمعزل عن العقل نفسه.

س13: ا. مراد غريبي: هل تعتبرون الفكر نتاج بيولوجي صادر عن الدماغ، أم صادرا عن الذهن كما هو متداول؟

ج13: أ. علي محمد اليوسف: يقسم بعض الفلاسفة الفكر بإعتباره خاصية انسانوية يتفرد بها الانسان الى عنصرين هما ميزتين تطبعان الفكر من ناحية خاصيته الانسانية، الاولى هي مضمون الفكر، والثانية هي نشاط الفكر نفسه. من الامور التي نفهم بها خاصية الفكر التعبيرية من خلال تعالقه البيولوجي بكل من العقل من جهة، وارتباطه بتعبير اللغة من جهة اخرى. رغم حقيقتهما أنهما علاقة واحدة لا يمكن الفصل بينهما. فالفكر كمضمون هو نتاج حصيلة تفكيرية يبتدعها العقل تفكيرا بموضوع، وهذا النوع من التفكير العقلي هو (ملكة) انفرادية يحوزها العقل البشري. والصفة الثانية الملازمة للفكر أنه نوع من الفعالية الحيوية الديناميكية، بمعنى الفكر هو خاصية تفكيرية قصدية ملزمة التعبير عن نفسها، يعني الفكر هو سلوك أجرائي معرفي بالحياة لا يتسم بالحيادية. يطرح بعض الفلاسفة سؤالا غريبا بضوء علاقة الفكر المزدوجة بين العقل بيولوجيا وبين لغة التعبير عنه تجريديا " هل من الممكن التفكير من دون لغة؟ أم نتقبل الحقيقة التي تقول أنه بدون الفكر لا توجد لغة؟ ومن خلال الفلسفة وعلم النفس تم التوصل الى فكرتين، الاولى تذهب الى أن الفكر الحقيقي غير لغوي وهذه المقولة تبناها هنري برجسون . والثانية أن الفكر هو لغة ليس الا "

للتعقيب حول هذه التساؤلات الالتباسية الجدالية:

- لا يمكن التفكير بدون لغة صورية، ليس فقط بتسليم الاستناد الى حقيقة الفكر هو لغة ادراكية تفكيرية صامتة، بل اذا جاز لنا فصل الفكر عن اللغة باعتباره ادراكا صامتا، فيكون معنا تفكير الادراك بمواضيعه لا يقوم على غير علائقية ترابطية بين الادراك الفكري باللغة، ولا يمكننا التفكير المنظم في معنى عن شيء من دون لغة تصّورية. الادراك الحسّي هو صمت لغوي من التفكير لا يخرج عن أستحالة تفكيره وأستيعابه أحساسات الاشياء والتعبير عنها كمدركات حسّية بغيرتعبيرات اللغة تجريديا عنها.

- الشيء الثاني في عدم أمكانية فصل اللغة عن الفكر لا بالتفكير الادراكي العقلي الصامت ولا بالتفكير اللغوي المنطوق أو المكتوب. يأتي من كون الادراك هو تفكير عقلي معبّرا عنه باللغة. بمعنى اللغة هي أفصاح وتعبير لادراك العقل.

- حين يعتبر برجسون أن الفكر الحقيقي هو غير لغوي نفهم منه هو لا يقصد آلية التفكير التي هي آلية لغوية بامتياز لا يمكن العبور من فوقها وتجاوزها، فالفكر حقيقته القصدية بالمعنى تؤخذ من لغة تعبيره عن الاشياء . والفكر من دون وعاء لغوي يستوعبه لا يتحقق من غير شكل اللغة التي تحتويه. أما كيف يكون الفكر اكثر مصداقية حقيقية من اللغة حسب عبارة برجسون، فتمريرها الحذرالمشكوك به أنما يأتي من أعتباره الادراك العقلي للاشياء يمتلك لغة تجانس الادراك الحقيقي في صمت التفكير وليس في تعبير اللغة الافصاحية الخارجية عن المعنى المضموني للادراك. لذا فالفكر هو لغة لا أكثر وما يتعالق بالفكر مثل الوعي والذهن والذاكرة جميعها تفكير لغوي موزع في اشكال من التجليات المتنوعة أدراكيا كتجريدات مصدرها العقل.

- كما أن الذين يرون للفكر طبيعة تختلف عن طبيعة المادة فهذا لا يغير من حقيقة الفكر ولا اللغة انهما تجريدان غير ماديان ولا حسيان، وطبيعتهما التجريدية تختلف عن طبيعة المادة كموجود متعين انطولوجيا أمر مفروغ منه ولا يتقبل التداخل بينهما، فالفكر الذي يعبر عن المادة لا يصبح في لغة التعبير عنها جزءا ماديا تكوينيا منها بل يبقى الفكر تجريدا لغويا تصوريا عن المادة...كما هو تجريد اللغة في تعبيرها عن الموجودات بالعالم الخارجي. وليس هناك من قيمة جادة يحملها تعبير برجسون( كل تعبير لغوي هو تشويه للفكر). هذا التعبير يناقض مقبولية القول أن اللغة قدرة أستيعابية محدودة لا تستطيع التعبير الكامل عن محتوى الفكر.والا تكون عبارة برجسون تقفل أمامنا حقيقة أن تكون طبيعة أفكارنا هي تحقق لغوي وبغير ذلك لا يبقى تشويها للفكر لا نجده في تعبير اللغة عنه.

س14: ا. مراد غريبي: عذرا دكتورنا الفاضل، سؤال ضمن السياق، هل اللغة مادة أم تجريد؟

ج14: أ. علي محمد اليوسف: ذهبنا في أسطر سابقة أن الفكر واللغة جوهران متلازمان يشتركان بصفة التجريد فكيف لنا تبرير هذا التناقض مع القول الذي يقول" اللغة على وجه الخصوص هي مادية (اصوات) يمكن التعرف عليها لذاتها من حيث أنها حقيقة مادية " .

مادية اللغة نفهمها بدلالة تعبيرها عن المادة ولا يمكن أدراكنا لغة التجريد كاصوات مادية مكتفية بذاتها مصدرها اللغة وليست منها مستقلة عنها، كونها خاصية مادية حسب العبارة. المادة كمحسوس متعين حسيا يدركه العقل لا يتحدد بالصوت اللغوي المعّبر عنه، بل تتحدد المادة بوجودها الانطولوجي كمتعين يدرك ويحس بصفاته الثلاث الطول والعرض والارتفاع، وأضاف انشتاين له البعد الرابع الزمن.

الصوت فيزيائيا لا يمكننا تحديده ماديا بصفات مادية معروفة ذكرناها، واللغة كصوت ذي دلالة تعبيرية عن معنى قصدي، هي تجريد في تعبيرها عن اشياء وليست مادة بذاتها، ولا تكون اللغة هنا جزءا من مادة مدركة حسّيا بل تكون جزءا من لغة تجريد ادراكي للمادة. وتجسيد اللغة للفكر في التعبير عن معناه المضموني لا يجعل من كليهما اللغة والفكر مادة باكتسابهما صفة تجريد الصوت مدركا بذاته وهو خطأ لعدم أمكانية أدراكنا الصوت مجردا عن دلالته المادية.

الفكر لا تحتويه المادة بمقدار ما تحتويه لغة التجريد في تعبيرها عن المادة. وفي حال تاكيد صوابية خطأ مقولة برجسون أن تكون اللغة خاصية مادية بالصوت المدرك لوحده فهذا يقودنا التسليم لخطأ أكبر منه تجاوزناه هو صحة أمكانية جواز التفكير من دون لغة. فالمادة لا تدرك مادة أخرى تجانسها الخواص التعريفية ماديا من غير تداخل تفكير اللغة التجريدي التوسيط بينهما. عليه اللغة كاصوات تعبيرية عن معنى مادي مقصود هي تجريد مادي وليست مادة مدركة لوحدها. تجريد اللغة عن تعبيرها عن موضوع مدرك عقليا يفقدها خاصية التعبير كاصوات وأبجدية مكتوبة تعبيرية. وتنتفي عنها حينذاك صفة اللغة التي هي خاصية تعبير فكري تجريدي عن المادة والاشياء.

التسليم بمقولة اللغة مادة بدلالة الصوت، عندها يصبح لا غرابة أن نجد اللغة كما يعبّرعنها أحد الفلاسفة "هي تعبير كلّي يقوم مقام الواقع بكامله.". تماشيا مع هذا التعبير الافتراضي الخاطيء لا يمكننا معرفة الواقع في حقيقته المادية عندما نحاول التعبيرعنه بمادة لغوية، وليس لغة مادية وهو ما يعني أمكانية أن تعي المادة غيرها من الماديات الاخرى ليس بدلالة تجريد اللغة بل بدلالة لغة المادة الموهومة التي أصبحت هي ميزة المادة ذاتها. وهذا أمر ليس محالا على صعيد الادراك العقلي وحسب وأنما محال على صعيد الغاء خاصية التجريد اللغوي عن مدركاته التعبيرية التي هي في حقيقتها مدركات عقلية.

لا يسعنا التعبير عن هذا المأزق أكثر من قولنا أننا يمكننا التعبير عن اللغة بلغة أخرى تجانسها الماهية والصفات النحوية، لكننا لا نستطيع فهم الواقع المادي الذي تموضعت اللغة فيه تكوينيا بتعبير لغة لم يعد يمتلكها العقل ولا يستطيع تصنيعها بل يمتلكها الواقع المادي في محاولته فهم العقل وليس العكس فهم العقل للواقع.

أن الحقيقة التي يراد العبور من فوقها أن اللغة تبقى تجريد تعبيري، والمادة تبقى واقعا لادراك هذا التجريد اللغوي، واللغة المتموضعة بالاشياء هي لغة تجريد يحتويها الموجود المادي انطولوجيا لكنه يبقى تجريد اللغة غريبا عن المادة كتجريد لغوي معبّراعن المادة لكنه لا يحمل خصائصها.

مشروع اللغة الكليّة المصنوعة آليا التي نادى بها العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين في القرن التاسع عشر أعتبرها دستوت تراسي من فظائع الاخطاء التي وقعت بها الفلسفة في محاولة بعضهم تربيع الدائرة أن يكون لها أربعة اضلاع.

س15: ا. مراد غريبي: هل تجدون دكتور، أن هناك خصائص مشتركة تجمع كلا من الفكر واللغة؟

ج: أ. علي محمد اليوسف: يذهب بعض الفلاسفة الى الدخول قسرا في افتراضات فلسفية لا معنى لها في صرف الجهود لمناقشتها مثل" اننا في حال اقرارنا اللغة هي الفكر، يصبح معنا امكانية الاستنتاج أن علاقة الفكر باللغة هي علاقة مادية تقوم على وجود فرق أختلاف بين طبيعة الفكر عن طبيعة اللغة "5 في سطور سابقة ناقشنا خطأ أعتبار اللغة مادة تدركها وتعبر عنها لغة اخرى، وهذا الامر محال فاذا نحن خلعنا صفة المادة على شيئ نكون أعطيناه امكانية ادراكه تجريديا بلغة، وهو ما لا ينطبق على ان تكون اللغة مادة ميزتها الاصوات ندركها بلغة أخرى ميزتها صوتية ايضا.

والآن نناقش الاختلاف بين طبيعتي الفكر واللغة، وأول ما يتبادر للتفكير هو مالمقصود تحديدا بأختلاف طبيعة الفكر عن طبيعة اللغة وبماذا؟ لم نعثرعلى أجابة على طرح مثل هذه الاشكالية الفلسفية.

اذا أقررنا حقيقة أن الفكر واللغة هما شكل ومحتوى كلاهما يتسمان بالتجريد أحدهما بدلالة الاخرفي أدراك العقل لهما، عندها لا يصبح واردا مناقشة أمتلاك الفكر طبيعة لا تجانسها طبيعة اللغة. كون العقل يدرك تنظيم الفكر بدلالة تجريد اللغة الصوري، ولا يدرك العقل اللغة بتجريد فكري.

لذا تكون طبيعة حمولة تفكير العقل هي طبيعة لغوية تجريدية. وأن يكون الفكر يمتلك طبيعة غير طبيعة اللغة هي محض تلاعب لغوي وهمي لا يقوم على منطق فلسفي مقبول..والادراك يتبع نفس الآلية التي تتبعها الحواس في أدراكها مواضيع الموجودات المادية في نقل الانطباعات عن موجودات العالم الخارجي الى الذهن.

عندما نقول للفكر خاصية مادية (مادة) بخلاف خاصية اللغة كتجريد لا مادي، معنى ذلك أصبح متاحا لنا أن نعي الفكر بلا لغة أصوات مسموعة أو مكتوبة. لكن كيف نثبت أمكانية فصل الفكرعن اللغة؟ ثم ماهي الآلية التي تجعلنا ندرك الفكربطبيعته المادية في حال امكانية انفصاله عن تعبير اللغة التجريدي عنه؟ أدراك اللغة للمادة هو أدراك تجريدي وأدراك مواضيع المخيلة المجردة ايضا يكون بنفس آلية أدراك اللغة التجريدية للمادة. الفكر انعكاس لوجود مادي محسوس، وهذه الخاصية لا يمتلكها الفكر كونه تجريد لغوي وليس وجودا انطولوجيا ماديا تدركه الحواس قبل اللغة.

س16: ا. مراد غريبي: ما تعليقكم دكتور علي، على الدعوات الفلسفية إلى إنابة لغة الذكاء الاصطناعي -الآلة- على لغة الانسان؟

ج16: أ. علي محمد اليوسف: الاطروحة الفلسفية التي عرضناها حول امتلاك كلا من الفكر واللغة طبيعة خاصة مختلفة احداها عن الاخرى، واعتبروا اللغة مادة لأنها باختصار هي أصوات. جعل بعض الفلاسفة يلجئون لحلم تصنيع آلة حاسوب تقوم مقام اللغة عند الانسان باعتبارها ملكة وخاصية لا يمكن استنساخها وتحاكي التواصل بين البشر،.

الا أن هذه الفرضية الطموحة المتفائلة لقيت معارضة قوية من فلاسفة بينوا عقم مثل هذا التوجه، واضعين بعض أعتراضاتهم الفلسفية بما يلي:

- الآلة التي تنوب عن لغة الانسان لا يمكنها التعبير الصحيح عن مجمل المسائل المتعلقة بالاخلاق والنفس والضمير والعواطف والاخلاص والالتزام بالوعود والاستقامة والنزاهة وغير ذلك عديد، وهذه لا يتوفر على تلبيتها الحاسوب المبرمج بتقنية عالية من استنساخ لغة الانسان.

- ورد منذ القرن السابع عشر على لسان ديكارت ما يدحض آلية تصنيع اللغة قوله "طيور العقعق والببغاء تستطيع التلفظ بكلمات وحتى عبارات مثلنا نحن البشر لكنها لا تستطيع ان تعي ما تقوله وتلفظه" .

- طرح ايضا بعض الفلاسفة تساؤلا" لماذا لا يستطيع الحاسوب ان يحاكي بالضبط السلوك الانساني عند البشر؟

 أجاب بعض الفلاسفة عن هذا التساؤل قولهم عجز الآلة، ممثلا في عدم أمتلاكها (وعيا قصديا) بهديه وعلى ضوئه يتمكن الانسان السيطرة على سلوكه الذي يرسمه له الوعي القصدي كملكة يتفرد بها الانسان، والوعي القصدي دعى له برينتانو ليعقبه هوسرل وهيدجر وليتسلم الراية منهم الفلاسفة الاميركان مثل سيلارز وجون سيرل وريتشارد رورتي وسانتيانا وغيرهم.

- أدان العديد من فلاسفة اللغة والعقل في مقدمتهم فلاسفة السلوكية اللغوية الاميريكية مقولة فيلسوف وعالم اللغات نعوم جومسكي حين أجاز في مصطلحه (الابداعية التوليدية) إمكانية توليد الجمل اللغوية الابتكارية عند الانسان بما لا يمكن حصره، لكنه التقى مع فلاسفة السلوكية الاميركان أن الآلة لا تنوب عن الانسان في قابلية الابتكار التوليدي اللغوي.

- " اقترح جومسكي منذ خمسينيات القرن الماضي في اعتماده اللغة تمتلك عنصرا بيولوجيا مركوزا في دماغ الانسان، وأننا ننطوي وراثيا على حاسة الكلام، وأننا مبرمجون وراثيا لنتكلم بدلا من التقليد من ثقافتنا وبيئتنا، وكلامنا يرتكز على مخطط وصفة أنطبعت فينا منذ الولادة"، هنا جومسكي ينهي أي أجتهاد فلسفي حول امكانية استنساخ وظيفة اللغة آليا في حاسوب متطور.

- من المسائل التي رفضها فلاسفة السلوكية استنساخ اللغة آليا بالحاسوب هو ما طرحه جون سيرل وهو فيلسوف العقل واللغة وأحد أبرز المتبنين للوعي القصدي، أن توليدية الابتكاراللغوي التي نسبها جومسكي لملكة الانسان الفطرية الوراثية، لا يمكن استنساخها في الحاسوب ابسطها عدم امكانية تحكم الحاسوب بالعبارات والجمل التي تكتفي بايصال المعنى المطلوب. وضرب لذلك مثلا أن الحواسيب يمكنها تركيب جملة (أنا أعدك) لكنها لا تفهم ما يترتب على العبارة من تنفيذ تطبيق هذا الكلام كمحاورة قصدية ذات معنى.

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي

المثقف - مرايا حوارية

 19 - 10 - 2021

 

 

 

 

 

 

2875 مراد وصادقخاص: المثقف: تستضيف الاستاذ الدكتور صادق السامرائي ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفكري والثقافي، فأهلا وسهلا بهما:


 مفتتح:

لا مناص أن أهم دور للثقافة والنقد ينعكس فيما يثيره من تفكير لدى الإنسان، وما يدفعه به لاكتشاف قدراته ومؤهلاته، ويمنحه الثقة بالذات، والطموح للإسهام والإنجاز والإبداع.

وحين نرى مثقفا يتجاوز همومه الذاتية، ويفكر في الشأن العام لوطنه وأمته والإنسانية، ويتصدى لقضايا المجتمع العربي، فإن ذلك ناتج عن مستوى راق بلغه من الوعي الثقافي والنباهة العلمية ميّزته عن غيره، ضيفنا في مرايا فكرية أنموذج مشرق لفئة من المثقفين والمفكرين المتميزين في مجتمعهم، هو استاذي العزيز المبجل وصديقي الفاضل الدكتور صادق السامرائي، فقد عرفته منذ إنطلاقة صحيفة المثقف، متابعا لكل كتاباته وقارئا مولعا بأفكاره الحية، يتوقد حماسًا وإخلاصًا لخدمة الإنسان والمجتمع العربيين، طاردا للأفكار الميتة والقاتلة والأوهام والأحلام العبثية التي جذبت معظم الكتاب التائهين عن تشخيص الداء ومنهج الدواء، متواضعا في كل تفاصيل حرفه وفكرته ونقده ومقارباته، علم من أعلام القلم التنويري في صحيفة المثقف يعكس روح المسؤولية وأفق الوعي والنشاط الثقافي،ينحت بإتقان لقارئه ماهية المعنى وخبرة التجديد وتجربة النقد في مسار العبور من النظر إلى المسؤوليات المهمة، والقيام بأدوار إنسان الحضارة.

اسأل الله أن ينفع حوارنا القادم مع سعادته، القراء الكرام، كما نفع بمقالاته وجهوده الثقافية، وأن يديمه ذخرا للأمة العربية والاسلامية وبخاصة الشباب منها ويوفقه للمزيد من الفكر المعتبر والرأي المستنير والنقد المختبرخدمة للإنسان والمجتمع في المجال العربي والإسلامي.

نص الحوار:

س1: ا. مراد غريبي: مَن يكون صادق السامرائي المفكر والناقد والأديب؟

ج1: د. صادق السامرائي: شكرا لدعوتكم للحوار ولصحيفة المثقف العزيزة، التي رافقتها منذ إنطلاقتها، وتحياتي للأخ الأستاذ ماجد الغرباوي الذي يبذل جهودا تنويرية متميزة، لتوعية أبناء الأمة وأخذهم إلى فضاءات العصر الرحيب.

صادق السامرائي طبيب مختص بالأمراض النفسية، حاصل على شهادتي البورد العراقي والبورد الأمريكي ، وأظنه الطبيب الوحيد الذي يحمل الشهادتين معا.

وقد كرمته الشبكة العربية للطب النفسي والعلوم النفسية سنة (2010)، التي تضم أطباء النفس العرب والتخصصات النفسية الأخرى، بلقب (الراسخون في العلم)، وهي شهادة تقديرية معنوية ذات قيمة، ونشرت له أكثر من عشرة كتب رقمية تتناول هموم الأمة .

س2: ا. مراد غريبي: من خلال الكتابات التي تنشرها، هناك نظرة مخصوصة للعلوم الإنسانية والإجتماعية ودورها في الإنطلاق الحضاري؟

ج2: د. صادق السامرائي: العلوم الإنسانية والإجتماعية ليست من إختصاصي، وما أكتبه يتناول ظواهر وملاحظات معوّقة لإرادة الأمة في التحقق والنماء، وعندما أسبر أغوارها، تتوارد الأسباب التي تشارك في مؤازرتها وترسيخها، ولهذا يكون الإقتراب من زوايا متنوعة، وفقا للمعارف المتواجدة في أرشيف ذاكرتي.

س3: ا. مراد غريبي: دراساتك تنطلق من المجتمع نحو الآفاق النفسية والسيسيولوجية والتأريخية؟

ج3: د. صادق السامرائي: المجتمع كينونة نفسية في وعاء بيئي فوق مواقد ذات ديناميكيات إجتماعية متوالدة، ومؤثرات تأريخية متوطنة فيه وفاعلة في برمجة العقل الجمعي، فلكي نكتب عنه، يتوجب الإحاطة بما يعتريه ويكون فيه من الآليات والتفاعلات السلوكية، وفقا لمعادلاتها وعناصرها الداخلة فيها.

س4: ا. مراد غريبي: ما علاقة علم النفس المعاصر بشتى أنساقه في شخصيتك كمفكر وأديب ومثقف حر؟

ج4: د. صادق السامرائي: أرجو أن تسمح بإغتنام الفرصة لتوضيح إشكالية شائعة تتلخص في الخلط بين الطب النفسي والعلوم النفسية، الطبيب النفسي يجب أن يكون طبيبا أولا وبعدها يتخصص بالأمراض النفسية، ومختص العلوم النفسية، يدرس علم النفس ونظرياته أكاديميا وتطبيقيا أحيانا للتعرف على السلوك والشخصية، وأقدِّر المختصين بالعلوم النفسية وأتمنى لهم المساهمة الأكبر في تنوير الأجيال.

ففريقي العلاجي – على سبيل المثال – يضم مختصا بالعلوم النفسية والإجتماعية والدوائية والعلاجية الأخرى .

وقد درستُ العلوم النفسية وتعرفتُ على نظرياتها البارزة والمؤثرة، كما قرأت في مرحلة الإعدادية وبإمعان ترجمات الأستاذ (جورج طرابيشي) الرائعة لكتابات فرويد، ولازلت أقرأ وبتواصل يومي مستجدات العلوم النفسية،  وربما يكون لها تأثير على رؤيتي وإقترابي من الظواهر التي أتناولها، لكني أفصل بين الإختصاص والكتابة، لأن نشاط الكتابة بدأ مبكرا ومارسته قبل الإختصاص بسنوات طويلة.

فشخصيتي كطبيب غيرها عندما أكتب، ومن الصعب الخلط بين الحالتين، الطب قد يرفد الكتابة بمعطيات إنسانية ويعمّق الوعي ودلالات الكلمة.

س5: ا. مراد غريبي:  هل ما نلاحظه في حضور العلوم الإنسانية والإجتماعية وفلسفة التأريخ والأدب والببلوغرافيا والفنون وتأريخ العلوم السياسية والقانون وسير العلماء والفلاسفة والأدباء هو صحيح أم يجب أن نعدله؟

ج5: د. صادق السامرائي: الحاضر يجب أن يكون فاعلا ومتفاعلا، فهل هي كذلك؟

هناك قاسم مشترك عجيب في ما ذكرته، خلاصته التخندق في "لماذا"، وقد كتبتُ عددا من المقالات بهذا الشأن، فالإنصفاد في "لماذا"، يمنح راحة البال والوهم بأنهم وضعوا الإصبع على الجرح، وكفى، فياليتهم يشخصون ولا يعالجون، لكنهم يزيدون الجرح نزيفا، وهذا حال الأمة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

هل أوجدوا حلا لمشكلة واحدة، أم أنهم عضّلوا مشاكلها من أولها إلى آخرها؟!!

فعلى سبيل المثال – درست الفلسفة مبكرا وأتواصل بقراءاتي الفلسفية، ويدهشني كثرة الفلاسفة العرب وغياب القدرة على صناعة الرؤية الحضارية المعاصرة، وأكثرهم ينتهي إلى تعليل الأشياء بأسباب نفسية، ولهذا إقترحت قبل وباء كورونا عقد مؤتمر يضم الفلاسفة وأطباء النفس والمختصون بالعلوم النفسية، لمد الجسور الفكرية والتفاعلية اللازمة لبناء رؤية صالحة للحاضر والمستقبل.

والقاسم المشترك الآخر، هو العجز عن التفاعل مع الواقع بديناميكيات معاصرة، تساهم في إنبثاق الطاقات الكامنة، وتأهيلها لصياغة الصيرورات اللائقة بجوهر الأمة، ومخزونها الإبداعي الحضاري الإنساني.

أما التعديل المطلوب فهو أن نستوعب إرادة "كيف"، فسؤال "كيف نتقدم" لايزال غائبا، ويخشى منه الذين تفضلت بذكرهم، ويتلذذون بالإجابة على سؤال: "لماذا تأخرنا"، فهذا هو شغلهم الشاغل، والجواب ضمير مستتر تقديره ما يشاؤونه من الإستنتاجات العبثية الخالية من إرادة الحياة!!

س6: ا. مراد غريبي: هل أن المثقف الحر هو الذي يفرض نمط التفكير والنقد والمساءلة أم أن النفساني هو مّن يحاول إسقاط نظريات العلم المعاصرة على إخفاقات الواقع وإنتكاسات التأريخ وهواجس المستقبل؟

ج6: د. صادق السامرائي: لابد من توضيح المسميات، لأن الأمة تعيش في محنة المصطلحات التي تشوش وعيها، وتزعزع كيانها.

ما هو المثقف الحر: هو الغير مرتبط بأية جهة مهما كان نوعها، ورسالته الحقيقة ، ولا يخشى فيها لومة لائم، أي أن يكون جريئا في إعمال عقله.

نمط التفكير: قالب التفكير وشكله، والنمطية متوارثة وفاعلة بسلبية مروعة في مجتمعاتنا.

النقد: أن تقيّم الحالة بعيون المنهجية الموضوعية والصدق بعيدا عن المديح والمجاملات ؟

المساءلة: مفردة أقرب للقانون منها للفكر والأدب، والمعنى هنا التساؤل أو طرح الأسئلة.

النفساني: المهتم بالعلوم النفسية.

فالمثقف الحر يتناول الحالة ويشرحها بأدواته التي يجيد إستعمالها، ويخلص إلى نتائج وفقا لما لديه من معلومات ومهارات، وعلى العقول الأخرى أن تستخلص منها ما تراه مناسبا، أو غير ذلك.

وبخصوص النقد فأنه روح الإبداع لكنه غائب أو جامد، وخامد في طيات اللامبالاة.

أما الإسقاط فيشير إلى حالتين، الأولى كآلية دفاعية أولية بدائية ترفع رايات "هوَّ"، والثانية كسلوك مهيمن على المفكرين وخصوصا الذين درسوا في الجامعات الأجنبية، فيأتون بنظريات الآخرين ويطبقونها على مجتمعاتنا، بغض النظر عن منابعها وحيثياتها، ويحسبونها صحيحة، وبموجبها يتناولون حالات ما وجدت لأجلها.

والأمثلة عديدة كما في علم الإجتماع وغيره، فتراهم يبررون السلوكيات بنظريات أجنبية، وما إستطاعوا إبتكار نظرية ذات قيمة ودور في ترميم خرائب الحياة الإجتماعية العربية.

بل يميلون إلى التفسير، ويحسبون ما هو قائم تحصيل حاصل، وكفى الله المؤمنين شر القتال، ويؤكدون على أن هذا واجبهم وحسب.

أما النفساني فهو الذي عليه أن يجتهد للتعبير عن " إعرف نفسك"، والمختصون في العلوم النفسية يحاولون ذلك، لكنهم لم يتوصلوا إلى رؤية ذات قيمة إستنهاضية وتنويرية، تصنع تيارا حضاريا متوافقا مع جوهر الأمة، وأظنهم سيمسكون ببوصلة الإشراق المعرفي الإدراكي مستقبلا، وسيشحذون طاقات الأمة بالهمم الواثقة بذاتها وموضوعها، وسينشرون علم النفس الإيجابي، فالوعي النفسي ضرورة ديمقراطية معاصرة.2875 مراد وصادق

س7: ا. مراد غريبي: هل أن الأنثروبولوجيا الثقافية في خياراتكم كطبيب نفسي السبب لتخصيصكم عدد غير قليل من المقالات المتعلقة أساسا بالظاهرة السلوكية للمجتمعات العربية؟

ج7: د. صادق السامرائي: الأنثروبولوجي: علم الإنسان.

قراءاتي متواصلة ومتنوعة وسريعة ومكثفة، أقرأ في كافة الموضوعات، وأحاول أن أستخلص منها فكرة ومعنى، وكتابي المفضل هو الإنسان، فكل إنسان يبدو ككتاب علي أن أعرف أبجدياته، وأجيد قراءة ما مكتوب فيه!!

وهذه الفكرة راودتني منذ كنت طالبا في الكلية الطبية، وتعمقت وتطورت بعد أن تخصصت بالطب النفسي، فتجدني أتصفح الكتب البشرية وأتمتع بتأمل صفحاتها، والإنتهال من معينها الحيوي الفياض.

وهذه الرؤية إنتقلت إلى المجتمع، فأخذت أقرأه ككتاب متجدد الطبعات أحاول أن أفك رموز ما فيه.

س8: ا. مراد غريبي:  من خلال إثرائكم للحقل الثقافي عبر ملاحقة إرهاصات الواقع . لماذا برأيكم، السياسي هو من يوجه المشاغل العلمية ، وليس الإشتغال المعرفي على الواقع بحرية وتثوير علمي؟

ج8: د. صادق السامرائي:  دوما يطاردني سؤال: هل عندنا سياسة، وهل لدينا ساسة؟!!

ولا أدري لماذا يكون الجواب بالنفي، فيلغي الكتابة عمّا غير موجود!!

وإذا إفترضنا العكس، فالسياسي الجاهل يريد عقلا عاطلا، والسياسي العالم يريد عقلا فاعلا، والمثل في تأريخنا الخليفة المأمون، كان عالما فإزدهرت في عصره العلوم وتنوَّرت العقول وفعلت وتفاعلت.

في مجتمعاتنا المرهونة بالكرسي القابض على مصير المواطنين، النشاط يجب أن يخدمه، وإلا سيمحقه!!

وكل ذي عقل منكوب، والمحابي الخانع التابع مرغوب ومطلوب، والجهل وسيلة للإستمرار بالحكم، وتأمين السلطة وإستلاب حقوق الآخرين.

أما العلم فمن أخطر ما يواجه أي سلطان مهما كانت درجته، ولهذا تجد الأمية تتعزز وتتطور، ولا يريد أي مهيمن على عدد من الناس أن يعلمهم ولو مبادئ القراءة والكتابة، ولن تجد في مراكز العبادة بأنواعها نشاط علمي ثقافي ينوّر العقول، لأنه من البدع المحرمات والمآثم والموبقات!!

والحقيقة مجتمعاتنا ليست جاهلة وإنما ترزخ تحت سنابك التجهيل والإستلاب.

وإذا رأينا أن السياسي هو الذي يوجه النشاطات العلمية عندما تخدمه، فلأنه يريد التفاعل مع المجتمع، أما النخب المعرفية فتعيش في صوامع رؤاها وتصوراتها المنقطعة عن الواقع، وتجيد الرهبنة المعرفية، ولا تنقل العلم إلى عمل، ولهذا كلما إزداد عدد العلماء يترنح المجتمع في قيعان الوجيع، فطاقات الأمة العلمية هائلة، وتبحث عن منافذ تؤهلها للتعبير عن إرادتها، ولا تجد مَن يستثمرها في مشاريع نافعة.

س9: ا. مراد غريبي: هناك كلمات متداولة في كتاباتكم المتنوعة وهي ذات مفاهيم مفصلية ؟

ج9: د. صادق السامرائي: الكلمة ذات قيمة ودلالة ومعنى، وتأثير في العقل والنفس والروح، ومن غير المعقول أن تتناول موضوعا، ولا تكون دقيقا في مفرداته لتدل على جوهره وفحواه.

لكل موضوع معجميته، كما لكل قصيدة معجميتها الخاصة بها، والمتصلة بالمعنى والفكرة.

ولكل فكرة دوائر مفردات، وأفلاك عبارات، وما ينقصنا فقدان قدرات التعبير عن الفكرة بالكلمات، لخواء المعجمية الذاتية والجمعية.

فالكلمات التي أستعملها أختارها بدقة، وأحاول أن أجعلها قادرة على حمل المعنى المقصود، وليس من السهل أن تتمكن من هذه المهارة التعبيرية، ولازلتُ أكدح لبلوغها.

ولابد من الإشارة إلى أن محنة النظرية والتطبيق، سببها فقدان قدرات التعبير عن النظرية بكلمات وافية يستوعبها المواطن، ولهذا فشلت نظريات الأحزاب برمتها، فما أن يتكلم قادتها حتى تكتشف خواء مفرداتهم وضعف عباراتهم، على النقيض من قادة الأمة القدماء الذين كانوا يجيدون فنون اللغة والخطابة.

س10: ا. مراد غريبي: ماذا عن فلسفة النص لديكم، ولمن الكتابة، وأيهما اصعب الكتابة أو القراءة في هذا الزمن الإفتراضي؟

ج10: د. صادق السامرائي: هذه أسئلة في سؤال!!

النص يجب أن يلتزم بتقنيات الكتابة، ويكون سهلا واضحا وممتعا فكريا ونفسيا، وليتساءل كاتبه قبل أن يبدأ الكتابة، لماذا يكتب، ولمن يكتب، وهل يستحق ما يكتبه القراءة؟

فالكتابة الإبداعية خدّاعة توهم الكاتب بأنه قدّم أصيلا وفريدا، فتنفخه بمشاعر وأحاسيس كاذبة، فتراه ينطلق بنصه غافلا هفواته، وإن أشرتَ إلى خطل ما تثور ثائرته ويحسبكَ عدواً لدوداً.

بينما المطلوب من المبدع أن يكون ناقدا لنصه، ومحاولا التعلم منه ليتطور ويأتي بما هو أفضل.

والكتابة للقارئ، فإذا عجز الكاتب عن ذلك فمن الأفضل أن لا يكتب، فنسبة مما يُنشر يبدو وكأن الكاتب قد كتب لنفسه!!

القراءة أصعب من الكتابة، لأنها تتصل بعوامل متعددة ومُبرمجة للعقول وفقا لأجندات معينة، فبعض الكتابات المسوَّقة ذات غايات مؤسفة، تحاول تعزيز الركائز السلوكية اللازمة لتحقيق مآرب ما.

وبشيوع المفاهيم الغابرة المدمرة للواقع البشري، أصيبَت القراءة بفاجعة حضارية مروعة.

والكتابة ربما صارت بلا شأن، فالكل يكتب ويرى أنه كاتب، قبل أشهر إتصلت بي طالبة في الثانوية تثني على كتاباتي، وتقول بأنها تكتب فشجعتها وقلت لها عليكِ بالقراءة وممارسة الكتابة اليومية حتى يتمرن قلمكِ ويتطور أسلوبكِ، وإذا بها لا تستحسن نصيحيتي، فهي كاتبة، وربما صدَقتْ وكنتُ من الجاهلين!!

لأننا نعيش فترة إنتقالية ما بين أجيال القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بين الورقي والرقمي، وفي عصر السرعة الذي يتطلب القراءة السريعة، وهنا يبرز التحدي الذي تغفله أجيال القرن الماضي، وهو كيف نكتب ما يُقرأ بسرعة؟!!

س11: ا. مراد غريبي:  أين القارئ في معادلة الكاتب والنص؟

ج11: د. صادق السامرائي: كقارئ أتصفح المواقع بين فترة وأخرى، لأقرأ مقالا أو نصا، وأجدني في محنة وحيرة، فلا أعثر إلا على نص واحد أو إثنين، تشدني للقراءة، فأكثرها تطردك من أول عبارة!!

وعندما أتساءل كيف بالقارئ الآخر الذي يريد أن يقرأ، ويحاول التمتع بالقراءة، أكتشف سبب العزوف عن القراءة، وفشل الأقلام في صناعة التيار الثقافي القادر على التغيير.

مَن ينشر قد لا يعنيه القارئ، بل أن النص الذي يكتبه ربما لا يدري ماذا وضع فيه، ما يعرفه أنه أطلق العنان لقلمه ليملأ السطور بالمنثور المهجور، ولأنه حشاها بالكلمات توهم بأنه كتب!!

وبهذه الأساليب يسعى مَن يكتب لإلغاء القارئ!!

س12: ا. مراد غريبي: على أي أسس تبلورت قصة الكتابة لديكم؟

ج12: د. صادق السامرائي:  لا تستغرب إذا قلت، أن الكتابة مَرض، أو سلوك إدماني، أحد الزملاء شكوتُ له هذا المرض فسماه "المرض النبيل"، فأسُسها مَرضية إدمانية بحتة!!

هذا المرض أصابني منذ كنت في الصف الرابع الإبتدائي، عندما طلب المعلم منا أن نكتب موضوعا إنشائيا في دفتر ذي عشرين ورقة، وجئت في درس الإنشاء وقد ملأتُ صفحات الدفتر بقصة طويلة، أي كتبت أربعين صفحة، قرأها، وأعطاني درجة كاملة وما علق بشيئ، إلا أنه أخذ يستدعيني أمام السبورة في حصة الإنشاء، ويطلب مني قراءة ما كتبت!!

وصرتُ أنشر في النشرات المدرسية ، ثم تطور النشاط في المرحلة المتوسطة والإعدادية، وأمضيت زمنا أكتب القصة القصيرة، وبعدها الرواية، ووجدتني مع الشعر الذي أتردد في نشره رغم دراستي المكثفة عنه، وقد أمضيت سنوات أكتبه ولا أنشره، أما الكتابة اليومية فأنها لازمتني منذ ذلك الوقت، ولعدم وجود التوجيه والرعاية، وهيمنة إرادة القهر والممنوع، أصابنا التيهان والضياع، وعندما أسأل نفسي لماذا لا أتوقف عن الكتابة، أتناول القلم وأكتب، كالمدمن على الخمر، وهو يردد وذات نفسه :  

 " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء...وداوني بالتي كانت هي الداء"!!

فما أنشره يساوي نسبة ضئيلة مما أكتبه، وتعريفي للكتابة وضع الأفكار في أوعية الكلمات، ولكي تكتب يجب أن تقرأ، وقد نصحني أحد المثقفين الكبار المعروفين منذ البداية بقوله : " إقرأ ثم إقرأ ثم إقرأ ...حتى تمتلئ لكي تكتب"!!

س13: ا. مراد غريبي: هناك مصطلحات وعبارات أساسية ومركزية في مقالات الدكتور صادق السامرائي، أحيانا بإيحاء وأخرى بصراحة، أقصد مسائل "الأهواء المعقلنة"، "الأدمغة الملوثة والمدرعة والمبرمجة"، "العقل المقتول"، " الرؤوس المبرمجة" و"النخبة الرهينة والخيبة " وما هنالك من معجم مصطلحي خاص بالدكتور السامرائي، والذي يعكس قراءات وتحليلات عبر عدة مستويات أساسية ؛ هي العلمي والثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والديني/ الروحي.

ونحسبها مترابطة عندكم، هل من توضيح ما المقصود بأنماط التفكير التي فككتموها في عدة مقالات؟

ج13: د. صادق السامرائي: التصدي للظواهر بأنواعها، ينجم عنه إكتشاف الآليات الفاعلة فيها، ولكل ظاهرة ديناميكية تكوِّنها وتدِيمها وتعززها، والتصدي لها يستوجب الإحاطة بعناصرها المؤدية لترسيخها، والهدف من سبر أغوارها وتقليب صفحاتها، الوصول إلى جوهرها الذي يستدعي التفاعل العلاجي القويم.

فالإبحار في أعماق الظاهرة المساهمة في صناعة الواقع المُعاش، يوصلنا إلى جمع المشتركات في وعاء، يشير إلى أسباب العلة ومستلزمات إستئصالها، فتكون الصورة واضحة، والإقتراب منها أنفع وأكثر إنتاجية، لتحقيق إعادة تركيب مناهج تفكيرنا، وعصرنتها.

ولهذا يكون عنوان المقالة مصطلح توضحه في فقراتها، وتلقي الأضواء على معانيه ومضامينه، وما يشير إليه ويدعو لإتخاذه، وآليات الإقتراب منه.

وكل مُسمى يقود المقالة المكتوبة يشير إلى شكل من أشكال التفكير الفاعلة في مجتمعاتنا، فما يدور ليس نمطا دماغيا واحدا، وإنما عدة أدمغة بلمساتها المستقلة عن غيرها، فطرق التفكير السريعة قليلة، والواقع يزدحم بطرق التفكير الفرعية، وفي هذا يكمن مربط فرس وجودنا، الغير قادر للوصول إلى طرق الدنيا السريعة المتسارعة المتجددة التقنيات، وعلينا أن نوجه طاقاتنا العقلية نحوها.

طرق التفكير السريعة: آليات التفكير الجامعة الواسعة الإستيعاب والكوكبية النظر.

طرق التفكير الفرعية: العمه في الأنفاق المظلمة والزوايا الحادة الخانقة.

س 14: ا. مراد غريبي: ما المقصود بمسألة جدلية الوعي والقوة الحضارية؟

ج14: د. صادق السامرائي: هذا سؤال فلسفي بحت، فدعني أفكك معاني مفرداته.

 الجدل: طريقة في المناقشة والإستدلال، تبادل الحجج بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة، أو تبادل وجهات نظر حول قضيتين، ومنه الديالكتيك وما يتصل بهذه المفاهيم من رؤى ومنطلقات تعتمدها الفلسفة.

الوعي: الفهم وسلامة الإدراك، شعور الكائن الحي بما في نفسه وما يحيط به، ونفسيا للوعي مستويات معروفة.

القوة: ضد الضعف، وتعني القدرة، ولها تعريفات فيزيائية، وهي طبيعية وحيوية وعقلية، ومبعث النشاط والحركة.

الحضارة: "الكل المركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات والقيم، والتقاليد والقوانين والمعلومات والفنون، وأي عادات أو سلوكيات أو إمكانات يمكن أن يحصل عليها فرد ما في مجتمع ما"، وبإختصار هي التمدن، عكس البداوة.

وعليه فالوعي درجات، وتفاعل درجاته المتباينة يساهم بولادة وعي جديد، يحقق تحولات متجددة في الواقع الذي يتأثر به.

ووفقا لذلك فأن الحوارات المتنوعة ضرورية، لتفعيل العقول وإعمالها، للإنتقال بآفاق الوعي الجماهيري إلى مستويات معاصرة ذات قيمة تواكبية أصيلة.

فالمجتمعات المتنافرة أضعف من المتحاورة، فالأخيرة تزداد قوة وإقتدارا، والأولى تتهاوى في معاقل الخسران والهوان.

س 15: ا. مراد غريبي: لديكم تجربة أدبية خاصة وفريدة، هل الشعر والنثر عندكم إبحار في متاهات المسرح الثقافي العربي؟؟

ج 15: د. صادق السامرائي: الكتابة بدأت نثرية وتبين أنها شعرية، فالمقالة قد تتحول إلى قصيدة والعكس صحيح، بل كنت أخلط بين المقالة والقصيدة، فكانت المقالات تمزج بين الشعر والنثر، وبعد أن حاولت المعالجة، وجدتني تحت تأثير هذا البحر أو ذاك دون غيره، وفي بعض النصوص تختلط البحور، وأحيانا أجدني أكتب على إيقاع لا وجود له في علم العروض.

لم أتعلم الشعر لأكتبه، بل إكتشفت صدفة أن ما أكتبه شعر!!

والفكرة هي التي تحدد طبيعة وأسلوب ومفردات المكتوب، فقد تبدو بمقال، قصة، رواية، حكاية، خاطرة، عبارة، أو بيت واحد أو أكثر.

يتملكني بين آونة وأخرى بحر من البحور، حتى أن كلامي مع الآخرين يأتي على أوزانه، بل وخطواتي ربما تتقيد بإيقاعاته، وإذا كتبت قلمي لا يتوقف فتتجاوز القصيدة المئة بيت، وتعلمت مع الزمن أن ألجم جماحه، وأوقفه عند حده، ولهذا معظم القصائد أحاول أن أمنعها من تجاوز الثلاثين بيتا.

أكتب يوميا، وأحيانا في كل يوم قصيدة، وعدد من المقالات، وما أنشره يساوي نسبة ضئيلة مما أكتبه، وهذا ما أعنيه بمرض الكتابة، ولدي أرشيف يزدحم باللامنشور.

والبلية الكبرى عندما تتحول الثقافة إلى عشق، ومتعة روحية وفكرية، ولذة عقلية ذات أحاسيس إشراقية، وإدراكات نورانية ساطعة خلابة في أروقة النفس، وفضاءات الأعماق العلوية.

وإذا سمحتَ لي أن أذكر شيئا عن الشعر، فما كل موزون بشعر، ولا كل منثور كشعر، النص يجب أن يكتسب مواصفات خاصة ترقى به إلى مقام الشعر، ولهذا فالنسبة العظمى مما في دواوين الشعراء، هو نظم، وقليلٌ فيه الشعر، فالنظم سهل، لكن الشعر صعب، ولهذا لا تجد رائعة شعرية ذات قيمة وأثر، إلا فيما ندر.

الشعر الحقيقي المنثور أصعب من الشعر العمودي، لأنه بحاجة لقدرة إدراكية موسوعية لشد أواصر الأفكارببعضها، ضمن إيقاع مؤثر في مشاعر وأحاسيس ومدارك القارئ.

ولكي تكتب شعرا حقيقيا يجب أن تتمكن من تذويب المشاعر والأفكار والمفردات في كيان متجانس بليغ.

س 16: ا. مراد غريبي: ناقشتم إشكالات ومشكلات وسلوكيات وتطلعات وإستشرافات عديدة تتعلق بالديمقراطية، كيف يقرأ الدكتور السامرائي مفهوم الديمقراطية في جل تمثلاته الإنشائية والتطبيقية والازماتية والسلوكية والأخلاقية: غربيا، عربيا - إسلاميا؟

ج 16: د. صادق السامرائي: نشرت على صفحات المثقف منذ بداية إنطلاقها، سلسلة حلقات عن الديمقراطية بعنوان "لسان الديمقراطية"، وعشرات المقالات التي تتناولها من كافة الزوايا، ولا زلت كلما برقت فكرة جديدة متصلة بها أكتبها.

الديمقراطية تتلخص بتوفير البيئة القادرة على إطلاق الطاقات الجماهيرية وإستثمارها لتأمين المصالح الوطنية، ومن ضروراتها الأساسية قوة القانون وهيبة الدستور، فإذا إنتفى الدستور الوطني الصالح للمجتمع، وغاب القانون فلا وجود لها.

وتعني إعلاء قيمة الإنسان وإحترام حقوقه، فعندما نعترف بوجود إنسان له حقوقه المصانة، يمكننا الكلام عن الديمقراطية.

البشرية لم تعرف التعبير العملي عن حكم الشعب إلا في التأريخ القريب، وحاولت أن ترتقي إلى جوهر الفكرة في القرن العشرين، فبذلت التضحيات الجسام، ولا تزال المسيرة الديمقراطية في الدنيا ليست على ما يرام.

وهي بحاجة إلى بنية تحتية، نفسية، سلوكية، فكرية، ثقافية، روحية، وطنية، زراعية، عمرانية، صناعية، صحية، وإبتكارية وغيرها، تؤهل المواطن للتعبير عن قدراته، وإحساسه بقيمته ودوره في بناء الحياة الحرة الكريمة.

س 17: ا. مراد غريبي: أكثر ظاهرة شدتني في تحليلكم لها كونها ترتبط بالإنسان والدين والثقافة والدولة والمقدس والمدنس، هي ظاهرة التطرف الإنساني والديني، كيف تتكون سكرة التطرف بنظركم؟

ج 17: الدكتور صادق السامرائي: التطرف سلوك مُصنّع في مختبرات البرمجة الدماغية، الهادفة لإتلاف الشعوب والمجتمعات وتفتيتها، فأي شخص يمكن تحويله إلى متطرف، بآليات بسيطة ومكررة ترسخ في دماغه ما يُراد له أن يؤديه، فتراه كالدمية المتحركة عن بعد أو قرب، يندفع نحو هدفه بطاقة إنفعالية متأججة، فد تقضي عليه وعلى مَن حوله، وهو في غفلة وسكرة إنفعالية هوجاء، لا تسمح لعقله باليقظة ولو للحظات.

والتطرف له علاقة بطبيعة الدماغ، هذا العضو الذي يمكن تصنيعه وبرمجته ليكون مستعبدا لصاحبه ومهيمنا على وجوده، ويأخذه إلى مبتغاه وهو مذعن خانع كالروبوت. ويمكن أن تستحدث فيه دوائر عُصيبية مترابطة ذات قدرات حركية فائقة، بإقران أي سلوك مرغوب بأجيج عاطفي مصطنع، وبتكراره تهيمن تلك الدائرة العُصيبة المُستحدثة، وتستحوذ على بقية أجزاء الدماغ وتسخره لمنطلقاتها، وما تمليه عليه.

وكل عقيدة أيا كان نوعها، لديها مهاراتها التطرفية، فأصحاب العقائد متطرفون بإنغلاقيتهم وتوهمهم بأنهم العارفون، والقابضون على الحقيقة المطلقة (التي لا يدرون ما هيتها لأنها تكون غيبية دوما)، وبتكاثر ما هو عقائدي يتنامى التطرف، خصوصا عندما يقرن بأحداث دامية وقاسية.

وتلعب الحركات المؤدينة دورها الفتاك في نشر التطرف والإستثمار فيه، لأنه أداتها الأقوى للتعبير عن مشاريع غنائمها، وتبرير ما تقوم به من آثام وخطايا، تحت خيمة المقهورية والمظلومية المسوّقة للنيل من جوهر الحياة.

وهذه الحركات تكون سهلة الإستخدام من قبل الطامعين بالبلدان والمجتمعات، ويمكن إيهامها بتعزيز إرادتها ومراميها.

ومن جانب آخر، فالتطرف ظاهرة قائمة في أي مكان وزمان، ووفقا لمنحنى الإنتشار الطبيعي، فإن نسبة (2.5%) من أي حالة تكون متطرفة بإتجاهين حميد وخبيث.

ولا يخلو مجتمع، حزب، مذهب، دين، أو ما شئت من الحالات البشرية من التطرف، وإذا أخذت (1000) شخص، ستجد (25) منهم متطرفا حميدا ( النوابغ من العقول المبدعة) ويتم ملاحقتهم لمحقهم في بعض المجتمعات المنكوبة، و(25) منهم متطرفا خبيثا (المجرمون وسفاكوا الدماء وأمثالهم)، يتحقق التركيز عليهم والإستثمار فيهم في تلك المجتمعات الخائبة، بتقويتهم وإمدادهم بالسلاح والعتاد، وتعزيز سيطرتهم على مقدرات الحياة.

الوجود في جوهره متطرف، والأرض كينونة متطرفة!!

المشكلة ليست في التطرف وإنما في الإستثمار فيه، فلكي تقضي على أي حالة عليك أن توظف عناصرها المتطرفة الخبيثة لتقوم بدورها الهدام فيها.

والمتطرفون دينيا يتناسب توظيفهم وإستثمارهم مع درجة حرمانهم، وعندما يتذوقون طعم الدنيا فأنهم سيتغيرون، ولا يخربونها للفوز بالآخرة، لأنهم سيكونون أشد حرصا على حياتهم!!

فأطعمهم عسل الدنيا وبعدها تكلم عن التطرف!!

س 18: ا. مراد غريبي: ماذا هناك بين سطوة التخلف والتيه الثقافي عند العرب والمسلمين في فهم الدين والحضارة ؟

ج 18: الدكتور صادق السامرائي: العرب متناحرون لا متخلفون، ويستنزفون طاقاتهم في نشاطات خسرانية وعبثية، ولا تستغرب إذا قلت لا يوجد فهم عربي واضح وجامع للدين، ولو كان الفهم موجودا، لما فعل المسلم العربي بالمسلم العربي ما فعل.

المفروض أن العرب أعرف المسلمين بالإسلام، لكن الواقع يشير إلى أنهم أجهل المسلمين بالإسلام!!

قد يبدو كلاما غريبا، لكن لو سألتَ أي عربي عن بعض معاني الكلمات في القرآن، لغضب وإتهمك بأنك تنتقص من شأنه، ولن يقر لك بعدم معرفته!!

ومصطلح (رجل الدين) لا وجود له في تأريخ الإسلام، إنه مسمى مصطنع لتضليل العامة بأن فلان يعرف بالدين.

ولا يوجد فرد عارف بالدين، لأنك لو دخلت مكتبة تراثية، لأصابك الذهول من كثرة الموسوعات والكتب التي تبحث في شؤون الدين، ولا يمكن لفرد مهما توهمنا أن يلم بمعرفة قليلة حقيقية عن الدين، ولهذا أكثرهم يميلون إلى القول الذي يتصورونه ويختلقونه، وبذلك يفترون على الدين، وبتكرار هذه السلوكيات يتغير معنى الدين.

وتجد يعض ذلك حتى في كتب التفاسير، فالدين صار بحاجة إلى جمهرة علماء تفاعل عقولها في أية مسألة لتستخرج أصوب ما يمكنها من الجواب عليها.

فلا يصح القول بالفرد العارف بالدين، فهذا الزمان قد إنتهى، ففي زمن الفيضان المعرفي والمعلوماتي، تصاغر دور الفرد العارف بكل شيئ، فالدماغ البشري لا يستوعب ذلك، فهو محدود القدرات، وكلما تقدمت المعارف تعددت التخصصات.

أما فيما يخص الحضارة العربية، فأن الشعور بالدونية والتبعية وفقدان القيمة والدور قد ترسخ في الوعي الجمعي، حتى صار العربي ضد ذاته وموضوعه، ومن ألد أعداء هويته.

وقد أسهمت النخب المعرفية في نشر المفردات السلبية والرؤى الإنهزامية، والتصورات الإنكسارية، والمناهج الإنتكاسية، التي أوهمت الأجيال بأنها عاجزة، وعليها أن تستلطف دور العالة على غيرها.

والتجهيل الحضاري يمضي بكثافة هجوميية غير مسبوقة، لإقتلاع جذور الأمة، وإطلاق أجيالها في متاهات اللاجدوى والإبهام.

فالمواطن في مجتمعاتنا لا يعرف مدينته ولا يدرك عمقها الإنساني، وفي أمية مروعة عن دور الأسلاف في وضع المنطلقات الحضارية للبشرية، ويعيش متوهما بأن الآخر هو الأقدر الذي لا يمكنه أن يكون مثله.

فنحن أجهل الأمم بتأريخنا الحقيقي، ويتملكنا التأريخ الوهمي الخيالي الذي لا يُعتبَر منه لأنه سراب رؤى!!

س 19: ا. مراد غريبي: للتاريخ مرويات تحتاج لمساءلة وتحرير من منطق الاستبداد والعاجية والطائفية، كيف يتحقق ذلك برأيكم؟

ج 19: الدكتور صادق السامرائي: فهم التأريخ يعتمد على كيف نقترب منه، بعلمية منهجية أم بحكمية مسبقة، وآراء راسخة تبحث عما يبررها، التأريخ حمّال أوجه، ومعظمه مكتوب في غير أوانه، ويمثل رؤى مَن دوّنه.

الكثير منه كان بضاعة يجني أصحابها منها مالا، بل يعتاشون عليها، فيكتبون بضاعة تُشترى، ولا يطرحون ما هو كاسد أو لا يُشترى.

فنسبة كبيرة من الذين كتبوا التأريخ، حشوه بالأكاذيب والتصورات الخالية من الأدلة، والأرصدة الواقعية، وتنافي الطبع البشري والقدرات الآدمية.

إنهم يخرجون الشخص المكتوب عنه من بشريته، ويرفعونه درجات فوق المخلوقات، ويوهمون الناس بأنه قريب من الإله أو سليله، مثلما فعل إنسان الحضارات القديمة، فلكي تفرض سلطتك على الآخرين لا بد أن تتميز عنهم بإنتسابك لما هو غيبي ومقدس!!

ولهذا فالحاجة ملحة إلى الجرأة في طرح الأسئلة وتقييم المدوَّن الوارد إلينا، وفقا للمنهج العلمي والتمحيص العقلي، فهناك قصص ومرويات لا يمكن قبولها عقليا، وأكثرها كالأساطير الخرافية، فتجدنا أمام شخص خائف مرعوب من المحيطين به، ومصيره مرهون بالآخرين، وقد قدموه على أنه صاحب القول الفصل في كل أمر، والملهم الذي تنحني له الرقاب، وما هو كذلك على الإطلاق، ومَن يطلع على ما وردنا في كتب التأريخ، يستغرب من قبول المنقول، وعدم تنقيته من الأضاليل والإفتراءات والتخيلات التجارية، شعرا ونثرا.

س 20: ا. مراد غريبي: قراءتكم لمفهوم الإسلام ذات عمق ابستيمي، بحيث لكم مقاربات من خلال ثنائيات مفاهيمية للإسلام، تعكس رؤية إنسانية مختلفة عن رؤى العديد من المفكرين، هل الإسلام رهينة فهم رجعي أو سطو فقهي أم مشكلة ثقافة؟؟؟

ج 20: الدكتور صادق السامرائي: ابستيمي: (المعرفة والعلم).

الإسلام دين ربما يكون مجهولا في بعض مجتمعاتنا، والسائد دين مصطنع ومستورد يُسمى جزافا إسلام!!

فما يشير إلى معنى الإسلام كسلوك أصبح نادرا؟!

لقد تم إختصار الدين بتأدية الفروض وحسب، أما الدين العمل والمعاملة، فأشبه بالخيال.

ولهذا تجد المسلم عدو المسلم في كثير من الأحيان، مما جعل الآخر يرى، لكي تقضي على المسلمين زوّدهم بالسلاح، فأنهم سيتنافسون على قتل بعضهم البعض!!

فالإسلام ما عاد دينا واحدا، بل أديانا متنافرة لها مسمياتها، وكل منها يدّعي أنه الإسلام الصحيح، وغيره زنديق وكافر وعدو الإسلام، وبقتله يتقرب القاتل إلى ربه ويدخل جنات نعيمه الغناء.

الدين بتفرعاته أضحى بضاعة تجارية لها تجارها ومسوقيها وأسواقها، ويزداد ترويج بضاعته بتنامي التجهيل، فتجار الدين يرون أنهم يعرفون، والذين حولهم من الجاهلين، فعليهم بالسمع والطاعة، وبهذا يصنعون مجتمعات التبعية والخنوع، ويصادرون العقل، ويمنعونه من العمل، فالسؤال حرام، والتفكير من الخطايا والآثام.

س21: ا. مراد غريبي: هناك البراغماتية والأخلاق، كانط يطرح فهم مثالي للأخلاق بعيدا عن المنفعة، هذا عند فيلسوف الأخلاق، ماذا عن نظرة الأديان حول الأخلاق وتحديدا الأخلاق بين الإسلام والمسلمين؟؟

ج21: الدكتور صادق السامرائي:

البراغماتية: (النفعية، المصلحية \ أو معيار الأفكار الناجحة بقيمة نتائجها العملية)

طرحتُ عدة مفاهيم بهذا الخصوص في مقالات منشورة ومنها الدين المصلحة، فالتأريخ يحدثنا عن المعنى الحقيقي للدين، الذي يترجمه سلوك البشر عبر الأجيال المتعاقبة.

والإرتقاء إلى مرتبة القيم والخلاق والوعي الروحي والفكري والإنساني، يحتاج إلى كدح ومكابدة على عدة مستويات، لا يتمكن منها إلا القليل من الناس، ويأتي في مقدمتهم الأنبياء والأولياء والصالحون، الذين يبرهنون بسلوكهم المتواصل عن جوهرهم المتحرر من جذب التراب، وإنتصارهم على أمّارة السوء التي فيهم.

ما يدور في واقعنا، أن الدين تحول إلى مطية لتأمين مصالح فردية وجماعية وفئوية وطائفية، فالسلوك لا يعبّر عن الدين، وإنما عن الغايات والمرامي المبرقعة بدين.

فأين الدين فيما يجري في بعض المجتمعات التي جثمت على صدرها أحزاب الدين؟

الدين إرادة نابعة من الذات الفردية، فالذي لا توجد عنده تلك الطاقة اللازمة للتفاعل الأكمل مع الدين، لن تقدر ان تفرض عليه الدين، ومن هنا جاءت " لا إكراه في الدين".

أما عندما تكون بوصلة المصلحة هي الفاعلة، فلا تتحدث عن الدين، بل عن فقه الجماعة المتمترسة في خنادق رؤاها وتصوراتها القاضية بإستعبادها للآخرين.

الأمة لا يمكنها أن تلتقي بجوهرها الحضاري، إذا بقيت مرهونة بالدين كمطية لتأمين مصالح الكراسي وفقهائها المضللين.

س22: ا. مراد غريبي: في سياق هذا الواقع العربي المهترئ، حيث تبدّلت المفاهيم والقيم، نختم بالتساؤل التالي: كيف نستعيد حيويتنا من جديد، أستاذي وصديقي المفكر د. صادق السامرائي ؟

ج 22: د. صادق السامرائي: الواقع العربي ليس مهترئا (باليا)، فهذه توصيفات سلبية يُراد لها أن تنتشر وتترسخ في الأذهان، وتتسيد على الوعي الجمعي.

الواقع العربي يمر بمرحلة وضعته عاريا أمام نفسه، وفيه أجيال وافدة صاعدة ذات مستويات معرفية وإدراكية معاصرة، أخذت تشق دروبها وتبني أسس إنطلاقها نحو غدٍ يليق بها.

ما يحصل في واقع الأمة، حصل في مجتمعات الدنيا قبلها، وأقرب مثل، دول أوربا، التي خاضت إنهيارات شاملة على جميع المستويات، وإنبثقت أقوى وأقدر.

وكذلك الأمة ستكون أقوى وذات إرادة حضارية معاصرة تدعو للإفتخار، وإن ذلك لقريب ولا يكلفها إلا جيلين أو أكثر.

فالأمة أكثر تقدما مما كانت عليه فبل بضعة عقود، وهذه العواصف ستزول بعد أن تلد الطاقات الكفيلة بصناعة إرادتها المعبرة عنها، فعلينا أن نتحرر من المفاهيم السلبية ونتمسك بالإيجابية.

فهل يجوز وصف دول أوربا - في النصف الأول من القرن العشرين - بالمهترئة؟!!

وعن إستعادة الأمة لحيويتها، فهي حية ونشطة، وأبناؤها في غير مواطنهم يشاركون الدنيا بمسيرتها الإبداعية على كافة الأصعدة.

والتحدي الأكبر أن الأمة تتحسس من العلم وتنكره، والعديد من القابضين على مصيرها بإسم الدين، يعتبرون العلم بدعة سيئة، لأنه يزعزع مكانتهم ويحرمهم من غنائمهم.

فيحسبون البشر أرقاما، وهم الأصفياء الصالحون الأنقياء المدّعون بدين.

والعجيب كلما زاد عددهم في المجتمع، تنامى الفساد وإنحطت القيم والأخلاق، ويبدو أن ذلك من مشاريعهم التي تريدها نوازعهم المطمورة الفاعلة في دنياهم الخفية.

وإلا كيف تفسر بزيادة أدعياء الدين يتنامى الفساد والخراب والدمار والأمية؟!

المنهج العلمي ما ينقصنا وغيابه يدمرنا.

الدول العربية تصرف نسبة كبيرة من عائدات النفط على السلاح والحركات التي ترفع رايات الدين وفقا لرؤاها، وتتردد في الإنفاق على البحث العلمي، وميزانياتها هي الأقل بين دول العالم، فماذا نتوقعها أن تجني من هذا السلوك الخائب المرير!!

ومعظم المفكرين العرب لا يركزون على البحث العلمي ومناهج العلم، ويمعنون بنبش الغابرات وتعليل الآتيات بالماضيات، ويتحركون في دائرة مفرغة لا منافذ فيها، ولا مخارج لحياة وأمل بمستقبل مجيد.

وختاما شكرا على هذا التفاعل المعرفي الجريئ المقدام، الذي علينا أن نكرره لنزعزع أركان الركود والجمود والخمول، القابض على أنفاس أمة ذات قدرات فياضة بالأصيل المعاصر الفريد.

فأمتنا حية، ومنها علينا أن نستمد إرادة الحياة، وطاقات الصيرورة والتكوّن الخلاّق، وستعيد ترتيب آليات وجودها، وستنتصر على أزماتها، وستخرح منها بعافية وصحة جيدة.

تحية لكم ولصحيفة المثقف التنويرية الغراء.

د-صادق السامرائي

إنتهى

 

 

 

2760 وطفة ومرادخاص بالمثقف: الحلقة الأخيرة من مرايا فكرية مع المفكر والأكاديمي الدكتور علي أسعد وطفة، وحوار شامل  أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التربية وعلوم الاجتماع، فأهلا وسهلا بهما:


 س12: ا. مراد غريبي: ماذا عن مفهوم الثقافة والجدليات المتنوعة حوله في مجال الغرب ولدى العرب والمسلمين خاصة؟

ج12: د. علي أسعد وطفة: عندما نتحدث عن الثقافة فنحن نتحدث عن الحياة الإنسانية في أوسع معانيها ودلالاتها ويشمل هذا المفهوم مختلف الصيغ الواعية والمحتملة لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعية والكون. وهذا يعني أن مفهوم الثقافة مفهوم كوني شامل يشتمل في ذاته على كل أنماط التفكير والسلوك والتفاعل بين بني الإنسان وبينهم وبين الكون الذي يحتضنهم. وما أريد قوله إن مفهوم الثقافة مفهوم شائك شديد التعقيد يمتلك تضاريس معقدة وهضاب متكسرة وأعماق سحيقة يصعب ضبطها والسيطرة عليها ذهنيا ومعرفيا.

وإذا كان مفهوم الثقافة يغطي مختلف مناشط الحياة والوجود فمن الصعب حقيقة أن نقدم تعريفا جامعا مانعا للثقافة. فالثقافة مضاف يرتهن بما يضاف إليه، كأن نقول: الثقافة الدينية، الثقافة السياسية، الثقافة التربوية، الثقافة الحضرية، ثقافة الريف، ثقافة المدينة، ثقافة العامة، ثقافة الخاص، الثقافة الأخلاقية، الثقافة البيئية... الخ. هذا وتبين الأعمال الواسعة في مجال الأنتروبولوجيا البنائية إلى أي درجة يتسم مفهوم الثقافة culture بالتنوع والتعقيد، فالمجتمعات الإنسانية تتنوع بتنوع ثقافاتها، ويعبر هذا التعدد الثقافي عن وجوه متعددة للحياة الإنسانية حيث يرتبط تعددها بتعدد اللغات والعقائد والأديان والأخلاق والقيم الإنسانية.

ويعد مفهوم الثقافة Culture من أكثر المفاهيم تداولاً وشيوعاً، ومن أكثرها غموضاً وتعقيداً. وهو المفهوم الذي أعيا جهود الباحثين الذين حاولوا تعريفه وتحديد ملامحه. لقد وقع كلكهون Kluckhon على مئة وستين تعريفاً للثقافة، وذلك منذ عدة عقود. ولفظة ثقافة Culture قديمة في اللغة الفرنسية؛ إذ ظهرت في القرن الثاني عشر، للدلالة على فعل العبادة، وبدأت تشير إلى فعل حراثة أرض وزراعتها في القرن السادس عشر.

ولكن هذه الكلمة بدأت تأخذ أبعاداً اجتماعية، وتكتسب مضامين ثقافية، منذ بداية القرن الثامن عشر. ويعد تعريف تايلور Tylor للثقافة، في كتابه الثقافة البدائية Culture primitive عام 1874، من أكثر تعاريف الثقافة شيوعاً وتواتراً في أدبيات الثقافة المعاصرة، وقوام ذلك التعريف أن الثقافة: " كل يشتمل على المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات والتقاليد والاتجاهات والاستعدادات التي يكتسبها الفرد بوصفه عضواً في الجماعة». ويجمع الباحثون على أن التعريف الذي قدمه تايلور يشتمل على عنصري البساطة والشمولية. وتظهر هذه البساطة وتلك الشمولية عند كيلباتريك Kilbatrik الذي يعرّف الثقافة بأنها: «كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومظاهر في البيئة الاجتماعية ".

ويشكل هذا المفهوم محورا للتناظر الأيديولوجي في الثقافة الغربية ويتمثل ذلك في نسق من التعريفات الأخلاقية والرمزية والأنثروبولوجية، وتعبر هذه التعريفات عن توجهات فكرية وفلسفية وأيديولوجية متنوعة بتنوع التيارات الفكرية التي نعرفها في الغرب. ودعنا نستعرض بعضا من التعريفات الكلاسيكية المهمة في الثقافة الغربية. ويمكن القول إن تعريف كانط يعدّ من أبرز التعريفات الإنسانية، حيث يعرفها: “أنها مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقاً من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة في نظر كانط أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه".

ولقد شكّلت نماذج التعريفات الشمولية الواسعة ينبوعاً للتعريفات التي تميل إلى الدقة والتخصص، وتنزع إلى التركيز على جوانب بنائية، أو وظيفية أو نفسية في مفهوم الثقافة الواسع. ومن هذه التعريفات يبرز تعريف كلكهون C. Klukhohn الذي يركز على الجانب السلوكي في الثقافة؛ إذ يعرفها بأنها: "طرق الحياة المختلفة التي توصل إليها الإنسان عبر تاريخه الطويل، والتي تشكّل وسائل إرشاد موجهة لسلوك الأفراد الإنسانيين في المجتمع".

وتبرز القيمة التخصصية لتعريف كلكهون في إبراز جوانب معقدة في تعريفه للثقافة، حيث يؤكد على الجوانب الصريحة أو الضمنية في الثقافة، وعلى أنها أسلوب حياة، كما يعطي أهمية للجانب التعليمي والإرشادي في بنية الثقافة.

ويتصدر تعريف لنتون Ralph Linton التعريفات المهمة للثقافة، وهو الذي يعرّف الثقافة بأنها «ذلك التشكيل أو الصيغة من السلوك المكتسب ونتائجه، حيث يتقاسم أفراد المجتمع عناصره المكونة ويتناقلونها في إطار مجتمع محدد «فالثقافة في تعريف لنتون ليست مجموعة من المعارف فحسب، بل تشتمل على القيم وطرق الحياة، والتفكير الخاص بأفراد المجتمع كافة.

وتؤكد بعض محاولات تعريف الثقافة على القيمة الرمزية للثقافة، ومن هذه التعريفات تعريف وسلزنك (1964) الذي يقول: إن الثقافة «هي كل شيء يتم إنتاجه عن طريق الخبرة الرمزية المشتركة وله القدرة على مساندتها» ويركز هذا التعريف، كما هو واضح، على أهمية الجانب الرمزي في الثقافة وخاصة اللغة وإشارات الرمزية، التي ينفرد بها الإنسان مقارنة بالكائنات الحية أخرى. ولا بد لنا من أجل تحديد مفهوم الثقافة أن نستطلع الحدود المتداخلة لهذا المفهوم مع بعض المفاهيم الأخرى كالحضارة، والطبيعة، والمجتمع.

ومما لا شك فيه أن مفهوم الثقافة يشكل مجالا حيويا للتداول الفكري والتناظر المستمر بين المفكرين منذ عهود طويلة حتى اليوم ، وفي كل مرحلة يأخذ مفهوم الثقافة تشكلات وصيغا جديدة حيث تدور المناظرات اليوم حول مفهوم الثقافة فيما بعد الحداثة وما بعد العولمة ، وهذا كله يؤكد أن مفهوم الثقافة مفهوم متحرك دينامي مستمر في النمو والتطور مع تطور المجتمعات الإنسانية . ولا يمكن  القبض على ناصيته هذا المفهوم إلا جزئيا ضمن أحد مربعاته اللامتناهية التي تتقاطع مع تقاطع الزمان والمكان والأحداث التاريخية. وباختصار أقول: إن الثقافة هي وضعية من التفاعل العميق بين الوعي الإنساني والسلوك وبعبارة أدق هي محاولة الإنسان في التكيف مع العالم الذي يوجد فيه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة له بوصفه فردا أو جماعة.

وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال المتمثل في جدل الثقافة عند العرب والمسلمين نقول: إن مفهوم الثقافة بصيغته الأنثروبولوجية مفهوم غربي وهو مفهوم غربي حديث كما أشرنا ولد في القرن الثاني عشر ثم اتخذ هيئته في القرن التاسع عشر. وضمن هذه الصيغة نقول بأنه إذا كان مفهوم الثقافة حديثا نسبيا في الفكر الغربي،  فإن هذا المفهوم حديث جدا في الحالة العربية الإسلامية. فالمفهوم الأنثروبولوجي لم يعرف أبدا في الفكر العربي الإسلامي. وهذا يعني أن مفهوم الثقافة في العربية هو ترجمة لكلمة الثقافة باللغة الفرنسية أو الإنكليزية.

وقد عرف العرب كلمة الثقافة كلفظة أصيلة عريقة في اللغة العربية وتعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وجاء في القاموس المحيط عن الثقافة: ثقف ثقفا وثقافة، صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا سواه، وهي تعني تثقيف الرمح، أي تسويته وتقويمه. واستعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. وأصل كلمة الثقافة في العربية مستمدة من الفعل الثلاثي( ثقف) بضم القاف وكسرها. وتأخذ معانٍ عديدة منها: الفطنة والذكاء والتهذيب وضبط العلم وسرعة التعلم، ويقال قديماً: غلام ثقف أي ذو فطنة، ثابت المعرفة فيما يحتاج إليه، وكانت تستخدم للدلالة عل اسم آلة الثقّافة التي كانت تستخدم لتسوية اعوجاج الرماح والسيوف قديماً. ويُقال ثقف الشَّيء إذا حذقه، ومنه يُقال هذا رجلٌ ثقف أو امرأةٌ ثقفة.

 فالثقافة في اللغة العربية أساسا هي الحذق والتمكن، وثقف الرمح أي قومّه وسواه، ويستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناَ من العلوم والفنون والآداب.

ويقال إن أول من استعمل مصطلح ثقافة ليقابل به لفظة culture في العصر الحديث هو سلامة موسى. وقد بدأ المفكرون العرب لاحقا يستخدمون هذا المفهوم بدلالته الأنتروبولوجية التي عرفناها عند تايلور وغيره من المفكرين الغربيين. وهذا يعني أن مفهوم الثقافة مفهوم غربي المنشأ والهوية وقد استخدم هذا المفهوم لاحقا في ثقافتنا العربية ووظف في تناول مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وأصبح فيما بعد مفهوما مركزيا من المفاهيم التي توظف في العلوم الإنسانية في المجتمعات الغربية والعربية أيضا.

وإذا كان سؤالكم يوحي بفكرة الطابع الإبداعي للفكر العربي في مجال الثقافة نقول بأن مفهوم الثقافة بقي ضمن أطره الغربية ولا نعرف حتى اليوم بوجود أي نظرية ثقافية عميقة مخصصة للظاهرة الثقافية بوصفها مفهوما في الثقافة العربية، ومما لا شك فيه أن المثقفين العرب قد أسهموا إسهاما كبيرا من خلال المفكرين التنويريين أمثال الجابري وأركون وصادق العظم ولطفي السيد وطه حسين وطيب تيزيني وغيرهم كثير في توظيف هذا المفهوم الغربي توظيفا إبداعيا. وما يمكن قوله أيضا أنه ليس من الضرورة التجديد أو اختراع نظرية جديدة في معانيه فالمفهوم قد استقر أنثروبولوجيا إلى حدّ كبير ولم تعد هناك برأينا ضرورة لتناول المفهوم ضمن مرمى التجديد. فالمفهوم أصبح مركزيا وأساسيا ومعتمدا كأداة للتحليل الثقافي في مختلف الاتجاهات والصيغ الأدبية والعلمية والسوسيولوجية. وقد استفاد المفكرون العرب ووظفوه أروع توظيف في تحليل المظاهر الثقافية للحياة العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

س13: ا. مراد غريبي: هل الثقافة بتنوعها بين الشعوب والأمم تعكس صراع هووي أم المأزق خارج مجال الثقافة؟

ج13: د. علي أسعد وطفة: دعنا نبسط الإجابة عن السؤال: الثقافة هي ترجمة لمعتقدات شعب وسلوكه. وبعبارة ابسط هي منظومة السلوك التي يتبناها في تكيفه مع العالم. فالثقافة تصورات وقيم وعادات ومفاهيم وطقوس تساعد الإنسان على التكيف مع ذاته وفي مجتمعه ومع الوسط الطبيعي الذي يعيش فيه. ومما لا شك فيه كما أشرنا في التعريف أن الثقافة ظاهرة متغيرة بتغير الزمان والمكان والأحداث. ولا يمكن التطابق بين ثقافة شخصين أبدا كما أنه لا يمكن التماثل المطلق بين جماعتين في داخل مجموعة بشرية واحدة. وهذا يعني أن الثقافة مبنية على أقصى درجة من التنوع بين الشعوب والبلدان والأمم. وهذا كله يعني أن هذا التنوع الثقافي ضروري وحيوي ومصيري ومستمر في بني الإنسان. وبناء على ذلك نقول بأن الصراع بين الأمم والشعوب ليس صراعا ناجما عن الاختلاف في الهوية بل على خلاف ذلك يمكن لهذا الاختلاف أن يكون مصدرا للتفاعل والتكامل بين الشعوب والأمم. وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالي:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّاخَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚإِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ".

وبناء على هذه الرؤية يمكن القول إن الاختلاف في الهوية لا يفسد للود قضية بين الشعوب. وإنما ما نحسبه صراعا "هوويا "(= الصفة للهوية) ناجم عن عوامل أخرى وهي عوامل أيديولوجية داخل بعض الثقافات التي تنمي اتجاهات عدوانية ضد الأمم والشعوب الأخرى مثل النزعات القومية والعرقية والشوفينية وهي إيديولوجيات مرفوضة اليوم ثقافيا والمجتمعات الإنسانية تتبني اليوم ثقافات تسامحية تواصلية إنسانية بصورة مستمرة ودائمة. وهناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية واستعمارية وتوسعية تسعى إلى تأجيج مثل هذا الصراع الذي يبدو صراعا "هوياتيا" في مظهره ولكنه صراع أبعد بكثير من أن يكون على الهوية. والسؤال ببساطة ما ضير الإنسان في الاختلاف بين الناس فالاختلاف قانون وسنة طبيعية وفي الأديان سنة إلهية. ولذا حري بنا أن نعزو هذا الصراع إلى عوامل أخرى غير الانتماء والهوية وأن نحيله إلى مصادر عدوانية تنشأ بفعل ميل بعض الأيديولوجيات الممتدة إلى الحضور التوسعي على حساب الشعوب الأخرى.

وكي نكون على درجة أعلى من الموضوعية، نقول إن الإنسان (مجتمعات وأفراد) ميّال بطبيعته إلى السيطرة نزّاع إلى الهيمنة الثقافية، وهذا الأمر نجده حاضرا ربما في كل الممارسات السياسية والاستعمارية حيث يحاول الغازي أن يفرض ثقافته وميوله وتوجهاته على ضحايا غزوه واستعماره. وعلى هذا المبدأ يشتد الصراع الثقافي بين الثقافات في مجال النزوع إلى الامتداد والتوسع والشمول بحثا عن القوة والسيطرة والهيمنة ،  ويتجلى ذلك  الأمر في مختلف مراحل التاريخ ولاسيما التاريخ الاستعماري للشرق والغرب.

 2760 وطفة ومراد

س14: ا. مراد غريبي: كيف يمكننا وعي التنوع الثقافي كمؤشر حضاري وماذا عن الأحاديات الفكرية وأمراء الحقيقة المطلقة؟

ج14: د. علي أسعد وطفة: دائما ما نردد في حياتنا الثقافية قولا مأثورا مفاده الإنسان عدو ما يجهل. وغالبا ما يكمن في طبيعة البشر الخوف من الغرباء. وتلك هي غريزة متأصلة في طبيعية البشر والكائنات الأخرى. فعلى نحو فطري تهرب الحيوانات عندما تشاهد إنسانا ما يمر بجانبها، والطفل الصغير غالبا ما يخشى الغرباء ويتخوف منهم، وغالبا ما نخاف من كل تكوين بشري أو حيواني آخر نجهله. ففيما نجهل قد يكمن الخطر ويسكن التهديد الذي يضع محك الحياة على الخطر. ويبدو أن هذه الغريزة تأخذ بعدا اجتماعيا وإنسانيا. فأغلب الشعوب كانت تتهيب الجماعات الغريبة التي لا تعرفها. وتقوم هذه الفرضية الاجتماعية على منطلق الأمن الاجتماعي القائم على القرابة والتجانس مثل الأقرباء بيولوجيا أو ثقافيا: الأم والأب، أفراد الأسرة والأخوة، الأعمام الأخوال، العائلة الممتدة، جماعة القبيلة، الجماعات الثقافية. فمثل هذه الجماعات يجد فيها الفرد أمنه لأنه ينتمي إليها وتشكل حدود الوطن الرحم الذي يعيش فيه. وعلى خلاف ذلك فإن الأباعد قد يشكلون خطرا لأنه لا توجد روابط أخلاقية ثقافية دموية مع هؤلاء.

 ومن هنا تنبع أهمية وعي التنوع وضرورته حضاريا وثقافيا، وهذا يعني انه عندما يتم التعارف الثقافي بين الشعوب والأمم فإن مثل هذا التعارف يؤدي إلى تقليص مشاعر الخوف والقلق ومن ثم سيؤدي تدرجيا إلى تنمية مشاعر المحبة والإخاء بين الشعوب. ومن هنا تكتسب عملية التفاعل الثقافي بين الأمم والشعوب دورا حضاريا في ترسيخ مشاعر المودة والسلام والتعاون والإخاء الإنساني.

 ومع الأسف فإن تنمية مشاعر الحقد والكراهية والتعصب تنبع من ثقافة التعصب والكراهية التي تنمو في نفوس الضعفاء الذين لا يستطيعون فهم هذا التنوع والتعدد. ومع الأسف هذه الجماعات المتطرفة تنمو اليوم تحت تأثير الثقافات العرقية والعنصرية المتطرفة التي نجد لها جذورا في التاريخ الثقافي للإنسانية. ومع الأسف تطل علينا هذه الجماعات المخيفة بأمراء التوحش الذي يستسيغون سفك الدماء والقضاء على الآخر تحت دواع فكرية منحرفة وضيقة. ومثال هذا التوجه الجماعات النازية والفاشية وجماعات التعصب العرقي والديني التي تقوم على مبدأ الكراهية والعنف ضد الآخر الإنساني. ومع الأسف الشديد تعرضت جماعات كثيرة عبر التاريخ للإبادة العرقية وبصورة مخيفة ومرعبة ومتوحشة كما حدث للهنود الحمر في الأمريكيتين، وهناك جماعات عرقية ودينية كثيرة تعرضت للإبادة من قبل الجماعات المتطرفة والمتوحشة.  ومما لا شك فيه أن هذا السلوك المتوحش يقوم على أفكار وحشية مخيفة تبرر السلوك الهمجي الإبادي للجماعات الأخرى. فعلى سبيل المثال غالبا ما يعتمد المتطرفون الإسلاميون والمسيحيون والهندوس واليهود على نصوص مقدمة تستبيح دماء الآخر وكيانه ووجوده. وما زال العالم الإسلامي عالقا بين أنياب هذه الجماعات التي تنتشر في سوريا والعراق وليبيا مثل داعش والقاعدة والنصرة وغيرها كثير.

ومما لاشك فيه أن أمراء الحقيقة المطلقة قوم يبحثون علن السلطة والقوة والثروة في عالمنا المتوحش وسبيلهم إلى ذلك الفكر المتطرف الهمجي الذي يقوم على الذبح والقتل والإبادة.. ومثل هؤلاء يحملون في رؤوسهم أطنانا من المتفجرات الثقافية قبل أن يقوموا بعمليات القتل والفتك والتطهير ضد الآخر الإنساني. ويحق لنا في هذا السياق أن نبحث في المنشأ الثقافي والفكري ولاسيما في الأرومات التربوية التي أسهمت في تشكيل هذه العقول الهمجية المتطرفة ونقول بالتأكيد إن البيئة الثقافية والتربوية التي احتضنتهم مسؤولة إلى حد كبير عن هذا التوحش والهمجية التي تأصلت في كيانهم وهويتهم الوجودية.

س15: ا. مراد غريبي: بالنسبة لمفهوم الثقافة عربيا وإسلاميا لايزال محل إشكال وغامض نوعا ما، رغم كل محاولات التعريف والضبط المفاهيمي إلا أن غالبيتها كانت ردود أفعال لمطارحات الغربية أو مقاربات لما عرف بتبيئة المفاهيم والمناهج، هل بنظركم مفهوم الثقافة عربيا وإسلاميا لصيق بالتراث الحضاري أو التاريخ الاستعماري؟

ج15: د. علي أسعد وطفة: ومما لا شك فيه أنني تعرضت لهذا الأمر في إجابتي على السؤال الأول إذ بينت بأن مفهوم الثقافة مفهوم غربي في جوهره، وهو مفهوم حديث حتى في الثقافة الغربية نفسها. وقد رأيت أيضا أن هذا المفهوم قد تم ضبطه وتعييره عربيا وأصبح أداة مفاهيمية أساسية وصميمية في الفكر العربي الإسلامي. وهو مفهوم مهم وخطير ولا يمكن الاستغناء عنه في تناول الظواهر الثقافية العربية. وإذا شئنا استخدام عبارة التبيئة الثقافية فمما لا شك فيه أن المفهوم قد فرض نفسه في مختلف العلوم الإنسانية عربيا وعالميا. ولا أعتقد أن المفكرين العرب مطالبين بالعمل على التنظير في المفهوم إلا بقدر ما يقتضيه واقع التطور وذلك في مجال البحث والاستقصاء الفكري في مجال الظواهر المجتمعية العربية. ومما لا شك فيه أن هذا المفهوم قد أصبح صميميا في مختلف العلوم الإنسانية العربية والأجنبية ولا يمكن اليوم بعد هذا التراكم الهائل في توظيفاته الفكرية في عالم الفكر والثقافة العربية أن يكون لها بديل أو نظير. ومن الملفت أيضا أن كلمة ثقافة أصبحت صميمية في نسيج الفكر الثقافي العربي، في صميم العقليات الثقافية العربية، وضمن هذه الرؤية فإن التساؤل عن مشروعية هذا المفهوم أصبح من الماضي.

وفي الشق الثاني من سؤالكم الكريم: هل بنظركم مفهوم الثقافة عربيا وإسلاميا لصيق بالتراث الحضاري أو التاريخ الاستعماري؟ لا نفضل استخدام مفهوم الالتصاق، بل نقول إن مفهوم الثقافة كما ذكرنا حضر فعليا في القرن الثامن عشر وتزامن مع الفترة الاستعمارية. ولكن انتشار المفهوم ربما يعود لعوامل التواصل الثقافي والترجمات عن العلوم الإنسانية. وباختصار نقول أيضا إن المفهوم " الثقافة" هو أداة لتحليل الظواهر الاجتماعية في مختلف التكوينات الاجتماعي بغض النظر عن مآلاته السياسية والاجتماعية وهو ليس أكثر من مفهوم وحاله حال مئات المفاهيم الأداتية التي تستخدم في تحليل الظواهر الاجتماعية والسلوكية في العالم. مفهوم الثقافة مفهوم يقابل السلوك الإنساني وهو مشروع في عملية الاستخدام. وهنا أيضا: أرى بأن إضافة سمات استعمارية أو غير ذلك على المفهوم ليس أمرا موضوعيا ومشروعا. ولكن من جهة أخرى أقول بأن توظيف الدراسات الثقافية في مآلاتها المختلفة قد يحمل دلالات أيديولوجية مختلفة. وهذا يعني بنظرنا أن مفهوم الثقافة ليس أكثر من أداة للفهم للتحليل للدراسة والبحث والتقصي. وهذا يعفينا من توليف منسوجات أيديولوجية حوله. فالخلاف الفكري بين الشرق والغرب قد يكون قائما ونشطا ضمن تيارات فكرية وثقافية متعددة تتمثل في التيارات الأيديولوجية الكبرى، ومهما يكن الأمر فإننا على الصعيد الفكري ما زلنا في حالة قصور ناجمة عن قصور الإبداع الفكري والحضاري وهذا يضعنا خارج سياق الصراع الفكري الندي مع الغرب الذي يبدع فكريا وإنسانيا وتكنولوجيا ونحن في الطرف الآخر من هذا الأمر نستهلك ونعيد الإنتاج ونجتر ونترجم ونصارع كالثور الهائج أحيانا لا يعرف أكثر من الشريط الأحمر الذي يحمله مصارع الثيران. فالصراع إذا كان بين شرق وغرب يجب أن يكون نديا وفي غياب الندية المطلوبة يتحول الصراع إلى تمرد وعصيان أو يتحول إلى تبعية وهيجان ثقافي.

س16: ا. مراد غريبي: هناك محاولات جادة في ربط التنمية بالثقافة وضمن مشروع التنمية الثقافية لكن أليس بمستوى أدق الأولى بحث التربية وعلاقتها بالثقافة، ثم التنمية تحصيل حاصل أم الأمر أعمق من ذلك مرتبط بمناهج الدراسات الإنسانية-الثقافية الفقيرة في عالمنا العربي والإسلامي؟

ج16: د. علي أسعد وطفة: هذا السؤال مركب جدا وينطوي في ذاته على أربعة أسئلة أساسية: وهي علاقة الثقافة بالتربية أولا، ومن ثم علاقة الثقافة بالتنمية ثانيا، ومن ثم علاقة التربية بالتنمية، ورابعا العلاقة الكلية التي تجمع بين التربية والثقافة والتنمية والعلوم الإنسانية. وخامسا وأخيرا يمكن أن ننظر بعد ذلك إلى علاقة الدراسات الإنسانية بالثقافة في منطقتنا العربية.

أولا - دعنا بداية نبحث في علاقة الثقافة بالتربية، ومن الواضح تماما أن العلاقة صميمية وجودية لا ينفصم عراها بينهما.  إذ يوجد بين التربية والثقافة وشائج علاقة فريدة في طبيعة العلاقة بين الظواهر والأشياء، وتأخذ هذه العلاقة طابعاً وجودياً؛ حيث لا تكون الثقافة من غير تربية، ولا تكون التربية من غير ثقافة. فالتربية بمناهجها ومضامينها وتجلياتها ظاهرة ثقافية بالضرورة، ومن ثمّ فإنّ الثقافة لا يمكن أن تكون خارج دائرة التربية من حيث الوظيفة والهوية، فوظيفة الثقافة وظيفة تربوية، كما أن وظيفة التربية وظيفة ثقافية بالدرجة الأولى. ومثل هذه العلاقة تعلن عن نفسها بوضوح في مختلف مداخل العلاقة بين الثقافة والتربية. فالتربية تنقل الثقافة وتحييها، ومن غير التربية تضمحل الثقافة وتتلاشى، وكذلك الحال في الثقافة التي لا تكون إلا بقدرتها على التأثير في الأفراد؛ حيث يأخذ التأثير فيهم طابعاً تربوياً بالطبيعة والضرورة.

وعلى الرغم من هذا التداخل البنيوي والحيوي بين الثقافة والتربية يمكن التمييز بينهما على صورة المؤسسات والتشكيلات؛ فالتربية تُعْرَف بمؤسساتها (أسرة، مدرسة، جامعة، وزارة، جماعة، أقران، وسيلة، إعلام)، والثقافة تُعْرف بتنظيمات القيم والمؤسسات التي تعمل على تنميتها مثل (المتاحف، المكتبات، الوزارات، الفنون، العلوم). ومع أهمية هذا التمايز فإنّ كلاً منهما يؤدي دور الآخر، ولا يستطيع أن ينفصل عنه.

وفي هذا السياق يمكن القول: إن الثقافة أكثر شمولاً من التربية؛ لأن الثقافة تمثل مادة التربية وجوهرها، ومن ثمّ فإنّ الثقافة تشكّل الإطار العام للتربية، حيث تحدد الثقافة العامة للمجتمع أبعادها ووظيفتها ومضمونها. وعلى هذا النحو يمكن القول: إن الثقافة تشكّل إحدى أهم ركائز العملية التربوية وأكثرها أهميةً، ومن ثم فإن النظام الثقافي للمجتمع كان وما يزال يشكّل أحد أبرز أصول العملية التربوية وأكثرها تأثيراً. ومن هنا تأتي أهمية التعريف بالثقافة ومناحيها واتجاهاتها ومضامينها بوصفها نسقاً أصولياً للتربية التي تغتذي من معين الثقافة، وتنهل من ينابيعها. ويترتب على هذه الضرورة الأصولية أن نتأمل في مختلف تجليات الثقافة ومفاهيمها ودلالاتها كي يستقيم لنا فهم الدور الحيوي الذي تؤديه الثقافة في التربية، ودور التربية في تأصيل الثقافة وتوطينها في العقول والنفوس والسلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع. ويتضح لنا في هذا السياق أن العلاقة بين الثقافة والتربية ليست علاقة ميكانيكية، بل هي علاقة وجودية تفاعليه قائمة على تبادل التأثير والفعل حيث يؤدي كل منهما دور المنتج الحيوي للآخر في نسق علاقات جدلية متنامية بصورة أزليةً.

ثانيا - وإذا كنا قد وفقنا في البحث عن وشائج العلاقة بين الثقافة والتربية في الشق الأول من السؤال، دعنا الآن ننتقل للشق الثاني وهو العلاقة بين التنمية والثقافة. ونقول هنا إذا كانت العلاقة بين الثقافة والتربية صميمية فإن العلاقة بين التنمية والثقافة علاقة وجودية وخطرة وهذا يؤكد وجود حلقة مفرغة من التأثير بين الثقافة والتنمية والتربية بمعنى التأثير الاندماجي الذي لا يقف عند حدّ ضمن لزوجة يتداخل فيه ما هو تربوي بما هو ثقافي وتنموي. وأيا كان مفهوم التنمية الذي تريده: التنمية البشرية أو التنمية الثقافية أو التنمية الإنسانية أو التنمية على الاستدامة، أو حتى التنمية الاقتصادية وهي مفاهيم متداخلة، ولكل منها حقل خاص به. ومهما يكن الأمر فإن الثقافة هي الفاعل الحقيقي في تحقيق التنمية. فالتنمية سلوك إنساني إزاء الإنسان والطبيعية أو بين الإنسان والوسط الذي يعيش فيه وهذا الوسط يتميز بجناحيه الاجتماعي والثقافي. والسلوك هو حصاد فعل ثقافي محدد. فالسلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما فالفرد في أيّ مجتمع مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه. ومما لا شك فيه أن هذه التصورات هي التي تحكم سلوكنا تجاه البيئة والطبيعية وهذا يعني أن جوهر التنمية الإنسانية والتنمية المستدامة يكمن في الثقافة ومن غير الثقافة التنموية لا يمكن أن نتحدث عن تنمية بدون ثقافة. وهناك اليوم فرع من الثقافة يدور حول الثقافة التنموية وفيها منظومة معقدة من المفاهيم والتصورات التي تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والتنمية. وباختصار الثقافة التنموية تمارس دورها في توعية الناس بالأوضاع البيئية التنموية والكيفيات التي يحافظ فيها الإنسان على مبدأ الاستدامة والتنمية الإنسانية.

ثالثا - وضحنا أن العلاقة بين التنمية والثقافة جوهرية وجودية حيوية، وهذا يقودنا من جديد إلى بحث العلاقة بين التربية والتنمية عبر الثقافة التنموية. فالثقافة التنموية لا تتشكل في الفراغ بل تتشكل وتنمو في منبتها التربوي، فالتربية بمؤسساتها المختلفة معنية بإنتاج الثقافة التنموية. ومن هنا فإنه يتوجب على التربية أن تقوم بإنتاج وعي ثقافي تنموي بصورة مستمرة في الأجيال. وقضية العلاقة بين التربية والتنمية مهمة جدا اليوم وتعتمد مختلف البلدان برامج تربوية تنموية مستمرة في المدرسة والمؤسسات التربوية لمواجهة التحديات التنموية المعاصرة.

رابعا – في إطار الرؤية الشمولية للعلاقة بين الثقافة والتنمية والتربية نقول بأن هذه العلاقة علاقة جدلية عميقة الأبعاد، وهي علاقة ديالكتيكية دائرية بين هذه المكونات الثلاثة إذ كل منها يؤثر في الآخر وينتجه. فالتنمية رهن التربية التنموية والثقافة التنموية نتاج للتربية، والتربية قد تكون نتاجا لثقافة تنموية وباختصار التربية يمكنها أن تكون أصلا في إنتاج ثقافة تنموية أو سلوك تنموي.

خامسا وفيما يتعلق بالشطر الأخير من السؤال نقول إن مناهج الدراسات الإنسانية-الثقافية تتميز بضحالتها في عالمنا العربي ولا أستطيع أن أقول في العالم الإسلامي فهناك دول في العالم ألإسلامي تحقق تقدما كبيرا في مجال الإنتاج الفكري الثقافي والتنموي.

أما نحن في العالم العربي فنعاني من حالة ضعف كبير في وتائر البحث العلمي بصورة عامة ونعاني من قصور كبير في مجال التنظير الفكري وهذه الحالة تعبر عن حالة التخلف الشاملة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية فنحن لا في العير ولا في النفير كما يقول العرب. فحالة التخلف شاملة عميقة علميا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ونحن فوق ذلك كله نعيش خارج ثقافة التنمية وتنمية الثقافة.

س17: ا. مراد غريبي: الحقل الثقافي يعتبر قطب الرحى في المشاريع التغييرية والحضارية للأمم لتأثيره العميق في مسارات وأنساق وآفاق قضايا الوعي والتجديد والإصلاح والتنمية المستدامة، وابسط قراءة أو مقاربة لراهن العرب والمسلمين توحي بحاجة ماسة لتصحيح الثقافة العربية والإسلامية وتنقية مصادرها وضبط مدياتها وتطوير أدواتها أو تجديدها، ترى ماذا عن راهن ثقافتنا ومن أين نبدأ في الإجابة عن إشكاليات الثقافة وحل مشكلاتها المتراكمة منذ قرون كما أقر ذلك المرحوم مالك بن نبي؟

ج17: د. علي أسعد وطفة: المشكلة يا سيدي أننا نعاني من التخلف الثقافي ضمن أنساق التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وهذا التخلف تقره جميع البحوث والدراسات الجارية في الميدان الثقافي العربي. ونحن أيضا نعاني من غياب مظفر لكل المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية. وكما أسلفنا في الشطر الأول من هذا الحوار نحن بلدان تعاني من مطلق الاستبداد والفساد والقهر والتسلط في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية. وغني عن البيان أن الثقافة العربية بمعناها الأنثروبولوجي تعيش حالة تخلف ظلامية فالعقل العربي منكوب بالغيبيات والمطلقات والأوهام والأساطير. وثقافتنا بصورة عامة تقع قبل التاريخ وخارجه. لاحظ القيم الطائفية والعنصرية والتسلطية والتعصبية والهستيرية التي تسيطر في مختلف نواحي الثقافة العربية وأقصد بها هنا تحديدا الذهنية العربية أو العقلية العربية.

 والأخطر من ذلك كله أن التخلف الثقافي يمتلك القدرة على الحضور والاستمرار، فهناك قوى سياسية واجتماعية جبارة تعمل وبصورة مستمرة على ترسيخ هذا التخلف من خلال الإعلام والمؤسسات الثقافة الفاعلة في المجتمع. ومما لا شك فيه أن الأنظمة السياسية العربية الحاكمة ترسخ هذا التخلف الثقافي وتسعى إليه لأنه يشكل الأساس الأيديولوجي لاستمرار هذه الأنظمة بالوجود والمحافظة على هيمنتها السياسية. فالوعي الثقافي يشكل قوة هائلة ضد التسلط والاستبداد وهذا ما تخشاه هذه الأنظمة التي تتحالف مع المؤسسات الدينية في إنتاج التخلف الثقافي والاجتماعي في مجتمعاتنا.

والسؤال كيف يتم تصحيح ثقافة التخلف سؤال مفارق للحقيقة! يجب استبداله بسؤال كيف يمكن القضاء على التخلف الثقافي الذي يمثل حالة أصيلة في مجتمعاتنا. ومما لا شك فيه أن التخلف الثقافي أمر موجود في كل المجتمعات والبلدان فهناك تخلف ثقافي في البلدان المتقدمة في بعض شرائح المجتمع. ولكن في الحالة العربية فنحن لا نعاني من التخلف الثقافي بل من ثقافة التخلف وشتان ما بين ثقافة التخلف وتخلف الثقافة. فالتخلف الثقافي يمكن ردمه وتطويره ويمكن هدمه. وهذا يستحيل في ثقافة التخلف لأنه تخلف صميمي وجودي أصيل في الثقافة القائمة، وثقافتنا السائدة في مجتمعاتنا هي مع الأسف ثقافة تخلف، وهنا تكمن المشكلة الكبرى في وضعيتنا الثقافية،  وهذا يعني أن الإصلاح الثقافي غير ممكن ولا يمكن أن يحقق أي تقدم. ولذا فإن ما نحتاجه هو ثورة ثقافية جذرية حاسمة تدمر كل البنى الثقافية القائمة على الوهم والأساطير من أجل ثقافة عقلانية خلاقة قادرة على النهوض بمجتمعاتنا وحضارتنا من جديد.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف السبيل إلى هذه الثورة وهل هي ممكنة؟ نقول إنها ليست مستحيلة وهي رهينة بأوضاع سياسية وتاريخية ممكنة كما حدث يوما في الصين (الثورة الثقافية) وكما حدث في كثير من البلدان التي خرجت من عمق التخلف ونهجت نهجا حضاريا مثل ماليزيا وسنغافورة والنمور الآسيوية. ومع ذلك نقول إنه حتى اليوم لا يوجد في الأفق ما يبشر بمثل هذه الثورة الثقافية المحتملة في أي من البلدان العربية. وما يؤسف له أن التخلف الثقافي والاجتماعي يزداد صلابة وتبلورا وحضورا وكثافة في معظم المجتمعات العربية المعاصرة.

س18: ا. مراد غريبي: بعد الثقافة، لابد من تفكيك ماهية المثقف ودوره ووظائفه، هل عربيا هناك صور للمثقف خاصة أو عضوية كما أراد البعض تبيئته وفق رؤية غرامشي أم لانزال نفتقد المثقف عربيا وإسلاميا؟

ج18: د. علي أسعد وطفة: إذا كنا نفتقر إلى الثقافة الحقيقية وإذا كانت ثقافتنا ثقافة التخلف، فمما لا شك فيه أن مثقفنا سيكون بالضرورة مثقف التخلف وليس المثقف المتخلف ثقافيا. وحال المثقف حال الثقافة،  فالمثقف الذي يعاني من قصور ثقافي يمكن له أن يطور نفسه ويتطور ويطور أدواته الثقافية. ولكن إذا كان المثقف متخلفا وجوديا في جوهره، بمعنى إذا كان التخلف صميميا في البنية الذهنية للمثقف فتلك كارثة. ومع الأسف معظم مثقفينا يعانون من إشكالية المثقف المتخلف بمعنى الحضور الصميمي للتخلف في تشكيله الثقافي.

 وتبين الوقائع والأحداث والسير الثقافية للمثقفين العرب بأن معظمهم يفتقر إلى جوهر الثقافة الحقيقية. وأن ما حصلوه من شهادات وما دبجوه من أعمال مضيئة لم يمكنهم من الخروج من الذات المتخلفة التي تحكم وجودهم وذهنياتهم. لقد برهنت الأحداث الجارية وأخص ما يسمى بالثورات الربيعية العربية أن أغلب المثقفين حتى اللامعين منهم قد انحدروا إلى الدرك الأسفل من العماء الثقافي فانتكسوا وارتدوا إلى الحالة الغريزية للثقافة الطائفية والعنصرية والإقليمية. ومعظم المفكرين الذي تألقوا ماركسيا وليبراليا سقطوا في مستنقع الطائفية والعنصرية في سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن. وهذا يدل على أن الجوهر الثقافي لهؤلاء المثقفين كان وما زال يعاني من عيب مسجل في الماهية الثقافية وفي الأرومة الفكرية، وكان أغلب ما كتبوه وما سجلوه لم يكن أكثر من تلميع فكري يسقط في أي زوبعة غبار تهب هنا أو هناك. وهنا يجوز القول بأن ليس كل ما يلمع ذهبا. فهناك عدد كبير من أساطين المفكرين العرب السوريين والعراقيين سقطوا واستمروا في السقوط في مستنقعات الوهم والتطرف والدونية والعنصرية والطائفية.

أقولها وأنا ربما على درجة كبيرة من اليقين بأن المثقف العضوي المفكر الحر المفكر الأصيل المرتبط بقضاياه الوطنية والمؤمن برسالته الثقافية غائب وغائب وغائب في ثقافتنا العربية. وأن المثقف العربي إذا جازت عليه تسمية المثقف لا يعدو أن يكون مثقفا هشا سطحيا طائفيا في أعماقه متعصبا في تكوينه بعيدا عن كل شكل من أشكال الأصالة الفكرية، محكوما بالظواهر الخرافية والطائفية والعنصرية والقبلية في أعمق أعماقه وفي أصلب تكويناته . وقد يبدو المثقفون العرب متألقين عندما يكتبون وينظرون ولكن هذا كله لا يمكنه أن يضعهم في خانة المفكرين العضويين وفقا لمفهوم غرامشي أو ماركس. ومما لا شك فيه أن هناك من يتلمس طريقه ويحاول أن يكون فاعلا في الثقافة منفعلا بها متأصلا فيها متأصلة فيه ولكنهم قلة قليلة لا تنفع في معركة الحضارة والتحضر.

والأخطر من ذلك كله هي الظاهرة الانتهازية السياسية لدى المثقف العربي الذي وظف نفسه في عملية تمجيد الأنظمة السياسية الاستبدادية. ففي كل بلد عربي هناك عشرات الألوف من المثقفين الصغار والكبار من إعلاميين ورجال دين وأساتذة جامعات الذين باعوا أنفسهم للشيطان فعقدوا تحالفا وحشيا مع الطغاة وشكلوا لهم حصنا ثقافيا منيعا ينافح عن وجودهم ضامنا استمرارهم واستمرار طغيانهم في الساحة الثقافية والسياسية في العالم العربي. فنحن في عصر المحن ضمن دورة زمنية تراجيدية يغيب فيها العقل وتنتفض فيها الغرائز. يغيب المنطق وتنطلق الانفعالات، فنحن نعيش اليوم في زمن يغيّب فيه العقل، وتدك الثقافة الحقيقية، وتنتشر الفوضى الأخلاقية في زمن أصبح أسفل الأشياء عاليها وأتفه الأمور في قمة التألق والحضور. عصر انطلقت فيه المذهبية المجنونة والطائفية الحمقاء، ولا أحد يستطيع أن يقف في وجه التيار، على خلاف ذلك تقف جموع كبيرة كثيرة من المثقفين المزيفين والمفكرين المزعومين ورجال الإعلام ورجال الثقافة والفكر الذين يؤججون النار ويقذفون كل القيم في جحيم الانحدار الطائفي والتصدع المذهبي.

س19: ا. مراد غريبي: هل بين المثقف والنقد ترابط وتلازم، بحيث كل ناقد مثقف أم لابد من التخصص في مجال النقد الثقافي؟

ج19: د. علي أسعد وطفة: للتعبير عن العلاقة الإيجابية بين "المثقف" وقضايا المجتمع ظهرت مصطلحات كثيرة جدا لكنها تدور جميعها في فلك واحد وحول جوهر واحد يتمثل في اهتمام "المثقف" بقضايا المجتمع ونضاله من أجل إحقاق الحق وتجسيد العدل الإنساني ومناشدة الخير والجمال. ومن هذه الكلمات نجد: "المثقف" العضوي، "المثقف" الملتزم، "المثقف" النقدي، "المثقف" الرسولي، "المثقف" الريادي، "المثقف" الطليعي، "المثقف" الناقد، "المثقف" المشاكس، "المثقف" الوطني، "المثقف" الإنساني. وجميع هذه الكلمات تدل في جوهر الأمر على معنى واحد يتمثل في دور "المثقف" ووظيفته في مواجهة مختلف التحديات والقضايا والمشكلات والأوضاع التي يواجهها المجتمع الذي يعيش فيه. ومن الواضح أن هذه الكلمات الدالة على المثقف النقدي تقف على نقيض الكلمات الدالة على المفكر التأملي أو المفكر العاجي أو المفكر الذي يعيش في عالمه الخاص بعيدا عن الحياة وهمومها ومشاكلها. فالمفكر كما يرى كثير من المفكرين يجب أن يمارس وظيفة اجتماعية في نقد مختلف التحديات والمشكلات التي يواجهها المجتمع. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن "المثقف" الذي يدير ظهره للمجتمع لن يكون جديرا بتسمية المثقف الحقيقي، وبالتالي فإن "المثقف" هو ذاك الذي لا يرضى أن يكون شاهدًا على الحدث بل فاعلاً إيجابيا متمرسا في قضاياه وأحداثه، ولا يكون فاعلا إلا عندما يكون أنموذجا للمثقف العضوي حسب توصيف غرامشي، أو أنموذجا للمثقف الشجاع حسب جوليان بندا Julien Benda، أو حتى نموذجا للمثقف الفطين التفكير الواضح الرؤية عند الجابري، والملتزم عن بورديو Pierre Bourdieu، أو مثالا للوعي الشقي حسب هيغل Hugle. وفي مقابل هذه الكلمات التي تعبر عن "المثقف الرسولي النقدي" ظهرت كلمات أخرى للإشارة إلى المثقفين السلبيين ومنهم: مثقف السلطة، وفقهاء السلطان، والمثقف الطائفي، والمثقف التقليدي، والمثقف الأيديولوجي، والمثقف السطحي.

عدد كبير جدا من المفكرين تناولوا قضايا "المثقف" وارتباطه العضوي الملتزم بقضايا المجتمع. ومن أجل الكشف عن طبيعة العلاقة بين "المثقف" والمجتمع أو ما يسمى بالعلاقة الصميمية سنستعرض بعض التيارات الأساسية التي تتمثل في منظور كل من سارتر، وغرامشي، وإدوارد سعيد، والجابري، آملين أن تتضح صوة "المثقف" العضوي الملتزم النقدي المشاكس في مرآة أعمالهم وتصوراتهم النقدية حول دور "المثقف" ووضعية الالتزام الثقافي بقضايا المجتمع وهمومه. وهنا أيضا يجب علينا ألا نغفل أهمية التيارات والاتجاهات الفكرية في هذا الميدان التي لا نستطيع المرور عليها جميعا فهناك محاولات فكرية كثيرة بذلها علماء ومفكرون لا يقلون أهمية، وقد استطاع بعضها أن ينفلت من مركزية الدوران في فلك غرامشي وسارتر وإدوار سعيد.

س20: ا. مراد غريبي: ماذا عن الدين والثقافة؟ وكيف يكون المثقف مزاحما للفقيه في مقاربة دور الدين في الحياة والعكس إسهام الفقيه في المجال الثقافي؟

ج20: د. علي أسعد وطفة: مما لا شك فيه أن العلاقة جوهرية بين الدين والثقافة ويشكل الدين تاريخيا أحد أبرز المعالم الثقافية في العالم القديم والعالم المعاصر. فالأديان تحمل إلى البشر منظومات من المعتقدات المقدسة التي تقدم صيغة وجودية للعلاقة بين الإنسان والميتافيزيقيا بين الإنسان والله وهي في نسق هذه العلاقة استطاعت أن ترسم حدود العلاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والكون الذي يعيش فيه. وهذا يعني أن الثقافة الدينية غالبا ما تكون ثقافة شمولية. وما يميز الثقافة الدينية عن الثقافة المدنية أن الثقافة الدينية تقوم على المطلقات والمقدسات وتقدم لنا الحقيقة كاملة لا انتقاص فيها وتقدم إجابات قطعية نهائية كلية مقدسة عن كل المسائل التي يمكن للإنسان أن يطرحها في مسألة الوجود والعدم، الحياة والموت وكل القضايا الدنيوية والسماوية. ومثل هذا الأمر يؤدي إلى عزلة فكرية للإنسان الذي لا يجد لعقله مكانا في الوجود فكل الأمور واضحة ولا يحتاج للتفكير أبدا في هذا الوجود بل يحتاج إلى العمل والاعتقاد بمقتضيات العقيدة الدينية.

ونلاحظ تاريخيا بأن تاريخ الحضارات القديمة كان محكوما بالثقافات الدينية ،البوذية في الهند، الكونفوشيوسية في الصين، الفرعونية في مصر، الآلهة المتعددة الوثنية في أثينا، المسيحية في أوروبا في العصر الوسيط، الثقافة الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية.

وهذه الأديان كانت تسود وتهيمين بصورة مطلقة حتى القرن الثامن عشر في أوروبا التي بدأت بثورتها على التقاليد الدينية الكنسية واستطاعت ثقافة التنوير والحداثة أن تنهض في أوروبا ضمن حركات فكرية جبارة، استطاعت فيما بعد أن تنتصر على التقاليد الكنسية وأن تؤسس لثقافة علمانية مدنية ينفصل فيها الدين عن السياسة وإلى تشكيل ثقافات عقلانية تعتمد على العقل وليس على المطلقات الدينية.

في مجتمعاتنا ما زالت الثقافة الدينية هي التي تهيمن وتسود بكل معطياتها التقليدية، وضمن هذه الوضعية يجد المثقف نفسه متحركا في أفلاك هذه الثقافة ومعطياتها، وهذا يعني أن الثقافة ثقافة دينية والمثقف مثقف ديني أو متدين وثقافته هي رديف للثقافة الدينية إلا فيما ندر. واعتقد أن مثقفنا لا يزاحم الفقهاء بل يدور في فلكهم في الغالب ويؤكد مزاعمهم. ونحن في الأغلب الأعم لا يوجد لدينا مثقفون علمانيون يتبنون الثقافة العقلانية. فأفضل ما يكون عليه المثقف أن يكون عقلانيا ضمن الثقافة الدينية، وهنا أحيانا يحدث الصراع. هناك مثقفون قلة يتخذون من خطوات ابن رشد وابن باجة وابن طفيل منهجا لهم في التفكير ولكن ضمن الخط الديني وضمن الولاء للمقدسات الدينية. ومع أهمية التيار العقلاني فإن أمثال هؤلاء المثقفين العقلانيين يعانون الأمرين في التعبير عن ذواتهم وحضورهم.

ومما لا شك فيه أن الفقيه هو الذي يسيطر بالمطلق على الساحة الثقافية في عالمنا العربي أما المثقف العقلاني فيجد نفسه في دائرة الإهمال والإقصاء والتهجير والتكفير في أحيان كثيرة عندما يطرح فكرا حرا عقلانيا. وهذا لا يعني أن الدين هو الذي يحارب هؤلاء المفكرين بل نمط التدين العقائدي والمذهبي الذي يرجح التعصب والتسلط. ومما لا شك فيه كما تعرفون أن تحالفا شيطانيا فاوستياً قد تمّ بين المؤسسات الدينية والأنظمة الديكتاتورية الحاكمة ولذا فإن الفقيه يوجد في عقد تحالف شرعي مع الطاغية وهنا تكمن المشكلة الكبرى إذ لا يمكن للمفكر العضوي أو المثقف العقلاني أن يجد أي مساحة للحركة والنشاط في دائرة هذا التحالف الفاوستي الخطير.

س21: ا. مراد غريبي: لماذا التركيز على انفجار الهويات داخل الثقافة الواحدة وكيف يمكن للتجديد الثقافي على أساس النقد العلمي لتحقيق تسامح وتعايش الهويات ضمن الثقافة الإنسانية أو الدينية الواحدة؟

ج21: د. علي أسعد وطفة: انفجار الهويات الصغرى الطائفية والعرقية والقومية والإقليمية ناجم عن غياب الثقافة العقلانية وغياب المثقف أيضا. فالثقافات الدينية المذهبية تغذي هذه الهويات المرضية وأيضا تقوم المؤسسات السياسية الحاكمة بعملية دعم ومساندة وتغذية لمثل هذه النعرات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية.

من الطبيعي أنه يصعب مقاومة هذا الانفجار لأنه يوظف في خدمة القوى السياسية والحزبية الحاكمة ويعزز فرص وجودها وهيمنتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ومن المؤكد أن إطفاء جمرة هذه الانفجارات "الهووية (= نسبة إلى الهوية) يحتاج إلى ثقافة تسامحية إلى ثقافة تربوية يتضافر فيها الإعلام والسياسة والمجتمع. وفي كل الأحوال نقول بأن المجتمعات العربية لن تنهض إلا على أساس مشروع اجتماعي كبير يبدا سياسيا ليتلاحم مع مختلف المشاريع النهضوية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكن لأي حلول جزئية أن تكون قادرة على إصلاح المجتمع أو تطوير الثقافة فيه على نحو عقلاني وإنساني. 

أشكرك صديقي المفدى المهندس مراد غريبي على هذه الأسئلة الجميلة وأحييكم وأشكركم، وأرجو أن تكون مداخلتي مفيدة ومناسبة لأسئلتكم الكريمة.

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي

مرايا فكرية – مؤسسة المثقف

 

 

الصفحة 1 من 2

في المثقف اليوم