مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (11)
خاص بالمثقف: الحلقة الحادية عشرة مع الدكتور سامي محمد عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:
***
القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (3)
س31: أ. مراد غريبي: في ظل موجات التقنيات المعاصرة وفلسفة الديجيتال وضمور هيمنة الوسيط الديني، هل قدم العالم الافتراضي أفكاراً فلسفيةً للفرد والمجتمع عربياً وإسلامياً، حتى يتغير جوهر الوعي والخطاب (الفكر) الدينيين نحو الأحسن إنسانياً؟
ج31: د. سامي عبد العال: لا يخْفى على أحدٍ أنَّ فلسفة الديجيتال اعطت فضاءً مفتوحاً للحريات. هناك "متنفس افتراضي" ليس محدُوداً بطبيعته، أقصد انفتاح طبيعة التقنيات الالكترونية، إذْ تخترق جميع الحواجز الممكنة. في وجود التكنولوجيا، يستحيل أنْ تنغلق الحدود حول عقولنا ومعارفنا. والقِدْرَ الفخّار (قِدْرَ الثقافة) الذي نظن أنه مُحكّم الاغلاق، إمَّا أنْ ينفجر أو يقتضي منفذاً للتنفيس والتهوية. وما أكثر (القُدُور الفخارية) التي نطهو خلالها أفكارنا على مواقد التقاليد والسلطة، معتقدين كامل اغلاقها بينما ستتحطم شئنا أم أبينا. وتلك المرحلة المفتوحة من العوالم الافتراضية أخطر مراحل وجودنا البشري أيّاً كان تاريخُه السابق. فهي المنافذ الضرورية لإنسان معاصرٍ باتَ غير قادر على الإنتظار.
تقول فلسفة الديجيتال: لم يعد الواقعُ واقعاً، بل غدا الواقع غير الواقع إلى حين اشعار آخر. غدا الواقع شاشات ومعلومات ونصوصاً وأسطح سمارت smart وصوراً ملموسة وأيقونات وعلامات متخيلة ولغات ايموجي Emoji (ابتسامات، لايكات، علامات غضب، اندهاش، مرح، دموع، امتعاض، ...). إنها رمزية مبتكرة، تعبر عن تطور مذهل في حركة الفكر والتواصل. لن يفلت منها خطابٌ في حياة المجتمعات الراهنة دون أن تترك داخله بصمات غائرة، إنْ لم تكن دافعةً لتشكيله من جديدٍ.
ما تركته الشاشات من آثار هو التحول العميق في تراث الرؤى والمعرفة والتصور. هو أيضاً أقصر تعبير بارز عن إنسانية الحياة. وإذا أردنا أن ترجع إلينا الإنسانية في شكل من الأشكال، فستكون في شكل العالم الافتراضي. عالم نحن صانعوه ونحن لاعبوه، نحن منتجوه ونحن مبدعوه، نحن الشاعرون بالامتلاء خلاله ونحن الذين نعطيه معانيه. لم يكن معهوداً أنْ تكون الصورة وسيطاً مكتملاً لرؤية الأشياء والعالم بهذا اللون الآدمي الحر. فما بالنا بكونها (أي الصورة) فاعلاً أصيلاً للواقع؟! اللقطة هي العمل، اللقطة هي المحرك، اللقطة هي الإنطباع، اللقطة هي المشاعر، اللقطة هي العلاقة التي تتداخل بيننا جميعاً، اللقطة هي الدعوة المفتوحة للقاء البشر.
دعوة تستحوذ على كامل وجودنا نحن البشر. لا توجد شاشات لامعة بعيدة عن الآخرين، هل الشاشة فردية المعنى؟ هل الشاشة ترفضُ خروجاً عن حيز الرؤية إلى شيء آخر؟ أليست الشاشة لحظة جمعية بالضرورة؟ أجل.. لقد سُميت بهذا الاسم (شاشة screen) لكونها مرئيةً، أي تحت كل العيون التي توجد في محيطها. وتحتمل أنْ تُوجد أمام الوجوه بأي زمان ومكان. وطبعاً ليست الشاشات مرئيةً من فرد خلال هذه اللحظة، لكنها أمام جميع العيون المحتملة إلى أقصى نقطة. لدينا شاشة إذن هناك راءٍ ومرئي، ناظر ومنظور، صور ومتصورات. ملايين، بل مليارات الانظار تتابع وتتوقف وتدقق وتعيد الرؤية مرات ومرات. هذا هو العالم التقني الخيالي الذي يجوب بنا الآفاق. ليس يُوجد غير ما يُرى بجميع تشكيلاته: هي التفاعلات عن كثب، وهي التوقعات التي لا تنتظر، وهي الأخيلة حين تكون دينامية وحين تُوضع الحقائق على أسنة العقول المتسائلة.
لو نتصور أننا دخلنا عالماً دون أدنى احتياج إلى شيء آخر، فهو عالم الديجيتال. دخول وتجوال بلا نهاية مختزلاً وجودنا كافةً. لقد تركنا كل المعاني هنالك، امتص آمالنا وجوهرنا وبتنا منه وهو منا. المَشاهد أنسجة حياتية متداخلة ومتشابكة. الالكترونيات هي نحن عاكسة جوهرنا. هل نتصور ما يحدث على صعيد كهذا؟ " أنت وأنا ونحن" ذاهبون من غير رغبة في الخروج ثانية، وتظل الصور عالقة بأذهاننا وقد شكلت الأفكار والحيوات التي نحياها.
استقبل الوضع العام للتقنيات الأديان بطريقة مغايرة. فالأديان اكتسبت سمات الوسائط الالكترونية. لا توجد وسيلة أخرى لأن تستقطب الأديان التكنولوجيا. والأخيرة دوماً عصية على الاحتواء، لأنها منشأ الثورات وتجاوز الحدود. أمام المعتقدات فقط أن تسكن عالم الافتراض، وبشروط هذا العالم ليس أكثر. تجربة جديدة بالفعل. الدين – أي دين- كان يتمتع بمركزيته الخاصة، ثم كانت لديه تراتبية معينة لرجاله وكانت عنده طقوسه وشعائره وكانت لديه بيوت عبادته المكللة بالمهابة والمحوطة بالمحظورات.
كل ذلك في العالم الافتراضي غدا شيئاً آخر بصدد أساليب الاعتقاد وطرق التداول الذي هو أكبر مساحة من الأديان. وهنا يمكننا أن نلامس ما سيقدمه العالم الافتراضي:
أولاُ: أصبحت ساحة الأديان غيرَ مقتصرةٍ على أصحابها. فبإمكان" المتابع الافتراضي" حضور الحوارات والنقاشات وحتى الصراعات الدينية الخاصة والعامة. وليس هذا فقط، بل سيكون حضورُه فاعلاً ومؤثراً على امتداد الخط. لم تعد الأديان مجموعةً من النحل المغلقة على أهلها. مثل العلوم المضنون بها على غير أهلها كما يقول المصطلح التراثي. هذا العصر انتهى تماماً، حيث اندثرت المعارف والاشياء المضنون بها. وقفت التقنيات ضد سياسات المضنون بها هذه. إن أفعال البخل المعرفي ليس لها مكان الآن. نحن في أزمنة الاعتقاد الزاخر بالمعاني تحت بصر الآخرين طوال الوقت.
ثانياً: أُضيف إلى الأديان التراكم المعلوماتي المذهل في الفضاء الديجيتال. فنتيجة الحوارات وتداول الرأسمال المعلوماتي informative capital، أصبحت قرارات البشر وتفاعلاتهم جزءاً من صورة الدين وهيكله. هي تضاف إلى انطولوجيا المعرفة الدينية شئنا أم أبينا. وهذه فكرة ربما تكون غير مستوعَبة للبعض، ولكنها مهمة لفهم تأثير الديجيتال على المعتقدات. لأن المتفاعلين لا يبدأن بتجارب شخصية، إنما بتجارب (بينية آخرية) إن صح التعبير. وكل ما هو بيني يظل قيد التداول وقابل للتصديق. وهذا جزء لا يتجزأ من رعاية الخطابات الدينية ورهان التفكير المشترك.
ثالثاً: تحول الدين من أدبيات وأصول إلى تدريب وأداء افتراضيين. وليس التدريب بمعنى القناعة التامة بما يؤمن البعض، لأن المناقشات والطقوس تأخذ شكل الأداء طوال الوقت، فالمنصات والمواقع تعطيك إمكانية المعاودة والتكرار والتخييل.. وهذا ما يجعل الاطلاع والتواجد لوناً من الأداء والجراء بجانب أن الدين أداء مثل إقامة الطقوس والشعائر.
رابعاً: انتقل الدين إلى مستوى مضاعف طقُوساً وفكراً وحركة. لأن الصورة ليست حاضرة لذاتها، هي حصاد عام لكل الممارسات والأفعال والمتابعات والتفاعلات الافتراضية. حتى أن اتباع الأديان يجدون هناك آثاراً على ما يعتقدون سلباً وايجاباً بفضل مرور العابرين، بفضل المتكلمين، بفضل المتجادلين، بفضل الممتعضين والغاضبين. المتابع أمسى جزءاً من انتاج الحقائق والآراء.
خامساً: المعرفة الدينية عمل انجازي، لأنّها صور وحوارات ومناقشات قيد التداول. الأفعال الافتراضية على بعد خطوةٍ من الانجاز وهو مصيرها المشترك. ليأتي المتابع مُرجحاً ما يعتقد ومطّلعاً بالوقت نفسه على كافة المعتقدات الأخرى. لا يبعده عن غيره من الناس أي شيء. كان الأفراد فيما مضى يستبعدون ما يكفرون به. ومن هنا جاء مصطلح الكفر: أن يغطي أحدهم ما يؤمن الآخر به، مثل الفلاح الذي يكفر البذرة في جوف التربة. ولكن مع العالم الافتراضي ليس هناك من وسيلة للكفر بمعناه المادي ولا بمعناه التقني. إن التربية الافتراضية التي تندس فيها المعتقدات المحجوبة " تربة إلكترونية " تفصح عما تضمر.
سادساً: غياب الوسيط الديني- كما تفضلتم أستاذ مراد غريبي- هو العلامة الفارقة. وهذا معناه أنَّ الأديان ستكون تجارب حرة، عائدة إلى اليمان الشخصي والاخلاص العميق للأفكار والمعتقدات. فالوسائط البشرية طوال تاريخ الأديان توظف الدين لقاء مصالح بعينها. وأن أعمالهم تدخل نطاق سياسات الاعتقاد بشكل أو آخر. أي يتم توظيف الجماهير خارج الايمان لصالح سلطة قائمة.
هذه المعطيات- وهنا اجابة السؤال- كانت مصدراً لأفكار فلسفية مهمة. ولكن قبل الاشارة إليها، علينا ذكر شيء جدير بالاعتبار أَلَاَ وهو أن الفلسفة ليست بالمعنى الأكاديمي ولا بالمعنى التجريدي. ولكنها فلسفة من نوع أكثر التحاماً بالوعي. الفلسفة الآن هي فلسفة وعي، وأن الأفكار التي تطرحها التقنيات الديجيتال في صميم المسألة الخاصة بحركة العقل وتحرره. وليس الوعي مثالياً ولا بيولوجياً، لكنه وعي كوني معرفي على قدر هائل من التساؤل والفهم والنقد..
كذلك تعدُّ الفلسفة لاعباً رئيساً – عبر العالم الافتراضي- لتحريك مضامين ثقافية واجتماعية راسبة في عقول الجماهير. وكلمة راسبة مقصودة بمعناها الاركيولوجي، لكونها نتاج تراكم من السنوات والعادات والتقاليد التي هيمنت على الوعي طوال عصور كثيرة.
إن أداء التقنيات هو أداء منتج ثقافياً من تلك الجهة، وبقدر ما يكون المتابع متفاعلاً، فقد اشتبك مع الأبعاد الثقافية المختلفة. الأداء الحادث هو أداء ثقافي يستهدف تغيير الخلفيات الثقافية التي تحاورت سلفاً مع الوعي. اللمسات الضوئية هي لمسات في أعماقنا قبل مداعبة الأسطح اللامعة المضيئة. لكون اللمسة تفيض بمزيد من الحركة وتطرح معلومات أكثر والأخطر أنها تلبي شغف الإنسان وتلهث أنامله وراء الأسئلة تلو الأسئلة.
الفكرة الأولى: كشف الحقائق: نحن نعرف أنَّ الحقيقة غاية التفلسف. فهي المحرك لمعرفة العالم والأشياء والإنسان. وهي كذلك وقود الإرادة الحرة للسعي نحو الحياة. وتباعاً هي الوازع الذي يقول للأحرار: ماذا أنتم فاعلون عند انغلاق الآفاق؟ وكيف تتجهون إلى الهدف إذا اظلمت اجواءُ الفكر؟ وبمجرد أن تصبح التقنيات الديجيتال باباً للمعرفة واتساع الآفاق، فقد أثارت حماسة المتابع وجوعه اللانهائي للمعرفة.
إنَّ الشجرة التي فقد آدم على إثرها النعيم كانت" شجرة المعرفة" كما وردَ في بعض الموروثات الدينية، ولكن شجرة التقنيات والحاسوب أعادته إلى جنة المعلومات مرة أخرى. هي قضمة التفاحة (آبل apple) التي جاءت رمزياً على منتجات أشهر الشركات الخاصة بإنتاج الأجهزة والوسائط والرقميات. ومازالت القضمة على الاجهزة الذكية تذكرنا إلى الآن بالموروثات الغائرة في وجود البشر. عصرنا عصر المعلومات الذي لم يعد عصراً لأنطولوجيا الماوراء، إن انطولوجيا المعلومات وتشكلها والقوانين التي انتجتها وكيفية تداولها... كلها أمور أكثر أهمية من ذي قبل. وإذا عرف الإنسانُ شيئاً، تطّلع إلى المزيد وتيقظ وعيّه وغدا أكثر قوةً. والفلسفة (كمهارة لفنون التساؤل والتفكير) تتخفى في أهاب المعرفة ككل. وإذا كان القارئ العربي يتحفظ إزاء الفلسفة، فستأتيه مع لمساته الضوئية. وهو شعوره بكونه باحثاً عن الحقيقة، رغم أنه لا يفعل شيئاً إلا ممارسة التصفح والاطلاع.
لقد عانى العرب مرضاً عضالاً ذات اعراض كثيرة (طوال تاريخهم القديم والحديث) هو: اخفاء الحقائق، عدم المساس بالحقائق، سياسات الحقائق، سلطة الحقائق، الانبطاح لانعدام الحقائق، الهروب من الحقائق، شعور العيب والخزي من الحقائق، الندم على قول الحقائق، الانكفاء على غياب الحقائق، التزام العزلة نتيجة كشف الحقائق، التنمر إزاء الحقائق، احساس العار من الحقائق، رهاب الحقائق، انتاج الحقائق، صناعة الحقائق، ضياع الحقائق، عدم أرشفة الحقائق، غياب متاحف الحقائق. كل ذلك أخذ اشكالا معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية ودوائر السلطة وأنظمة الحكم. أساسه أننا لا نرى، لا نسمع، لا نتكلم. شعوب بكماء وعمياء وطرشاء على قارعة الحياة. تحجرت الأقوال في العقول وخابت المساعي بين الضلوع وتنكست الآمال في القلوب وانكفأ الخيال على سطح الواقع التافه من الأشياء والأعمال.
وهو المرض العضال نفسه الذي تُبنى عليه سلطة رجال الدين لكونهم معتقدين أنهم وحدهم من يمتلك الحقائق ويتكلم بإسمها وهم من ينادى بها ويهوون على ظهور الناس بإسمها وأن الله قد اختصهم بالحقائق دون سواهم. إن فكرة الحقيقة التي تحررت عن طريق المعلوماتية والذكاء الاصطناعي فكرة حيوية في هذا السياق. أصبح وعي الناس مثل برميل البارود ينتظر الانفجار في أية لحظة. لأن أصحاب السلطة (دينيا أو غيرها) لا يدركون أن الشاشات المضيئة تكفيها لمسات الأنامل كي تبوح بكل شيء. وأن القراءة الحرة هي القانون الكوني الجديد.. لا الحجب ولا المنع. العالم الافتراضي يتيح الانكشاف، اللاتحجب )الأليثيا aletheia) بمصطلح مارتن هيدجر. حيث يتجلى الخفي مع التاريخ وإن تم نسيانه في منعطفات الاحداث والحياة.
تحتاج المجتمعات العربية إلى كشف الحقائق بمعاول الأسئلة، إلى نزع الحجب. ليس التجهيل كلاماً فارغاً، لكنه واقع بالفعل، هو الهواء الذي يملأ فراغ العقول من الحقائق، الأوهام التي تعربد في جنبات الحياة، الأكاذيب التي تنتفخ بها الأخبار المتداولة، المخاوف التي تتضخم كلما اقترب الناس من التأثير والحركة إزاء سلطات غاشمة، الخطابات الهوجاء التي تلتهم عقول الأفراد والجماعات. والكارثة أنه تم بناء سياسات وبرامج وأفكار على هذا الفراغ. وليس منتظراً إلاّ أن تنهار الأبنية فوق رؤوس أصحابها. وهذا ما يحدث بالفعل من حين لآخر من غير أية تساؤلات حول الحقائق ولا كيف يمكن البحث عنها.
كل خبث للواقع يتطلب أساليب مختلفة لكشف الحقيقة. ليس أكثر من إتاحة الفرص للجماهير أنْ تعرف وتدرك وتحاول وتطلع بنفسها. أي تعاين وتنقب من غير قُوى تحذف أو تُنتج الواقع. فلسفة الديجيتال ترسخ هذا العمل الدؤوب لإيقاظ الشعوب، لإزالة التراب عن الرؤى، إن سياسات الدفن (إكرام الميت دفنه) لم تعد تجدي في المجتمعات، بل إن اكرام الميت هو كشف حقيقته، إكرام الحقائق تحليل غموضها وتعرية وجودها المغيّب.
الفكرة الثانية: العقلانية الافتراضية أي القدرات والمهارات العقلية وأساليب الفهم والتثقيف التي توجد اتساقاً مع قدرات الذكاء الاصطناعي. وليس هذا فقط، بل أن تكون القدرات لديها إمكانية الابداع والتطور، لأنَّ الذكاء الاصطناعي محاكاة للعقل البشري، بينما عقلنا البشري ذاته لديه قدرات أخرى لم تُكتشف بعد.
تراهن الأنظمة الديكتاتورية على ضعف التفكير المنطقي لدى القطاع الأكبر من المجتمعات العربية، وتحرض على نشر "الفوضى الفكرية"، حتى باتت العشوائية طريقاً للفهم والتفكير. ومن ثمَّ، ظهرت أمثلة شعبية مثل: "اللي يفهم يدوخ"، " اللي يفكر يشيل الهم" كدلالة على المتاعب والمشكلات. لأن الحياة العمومية قائمة على التخبط. إذا وعت الجماهير ألاعيب الأنظمة، لكانت هناك حركات تحررية أو على الأقل لانتشر وعي ثوري تحت الرماد.
مع العالم الافتراضي، يمتلك الإنسان العربي أكبر عملية تلق لمنطق عقلاني ينتظم إجراءات وتفاعلات قائمة على كد الذهن والاستدلال وضبط الاجراءات والمشاركة. إنه المنطق العام الذي ينظم استعمال المنصات والمواقع ووسائل التواصل الالكترونية والتواجُد خلالها. ويدخل في الإطار أساليب الحوار المنطقي وطرح الحجج وتفنيد الآراء وقياس الأدلة وتحديد المعاني.
غدا الفرد صاحب مكانة مقدرة، لأنه يلتزم بمنطق أشبه بالعقد الفكري intellectual contract بين الذكاء الاصطناعي والمتابع. أي عليه أن يستعمل خطوات قائمة على التفكير الإجرائي وأن يبذل قصارى جهده ويشعل شغفه ويمارس حريته. ولم يكن ذلك متاحاً إلا مع التقنيات الديجيتال وأساليب عملها. ففي الواقع لا يفتقد الفرد أهميته، بل هو مجرد ترس في " آلة استهلاك" لا تنتهي دوراتُها ويشعر بالانسحاق التام. النزعة الفردية الحقيقية في عالمنا العربي مصيرها الفشل التام، لكونها ذاهبة إلى خانات التصنيف الثقافي المُعد سلفاً مثل: التمرد والخروج على التقاليد والجنون وشق عصا الطاعة. كل من يحاول أن يتفرد، أي يشعر بفرادته وهما (التفرد والفرادة) كجذرين للإبداع والتميز، سيجد تصنيفاً ممقوتا في انتظاره. لأن الفردية عقاب رمزي بموجب انعزاله عن القطيع، إذن لا بد من "سوط اجتماعي" يلهب ظهره طوال الوقت.
أما على صعيد التأثير في المجتمع، فالتقنيات طورت طرائق التواصل وسهلت الانجاز وكانت وسائط عملية بين الجماهير. وقللت من مركزية الهيمنة التي تمتعت بها الأنظمة السائدة. فالأنظمة تتحكم في التواصل والتفاعل بين شرائح المجتمع. وكانت مراقبة التواصل بين الناس من أدوات السيطرة. واحتكرت المجال العام وليس هناك من يستطع أن يقدم شيئاً ذا بال بخلاف القنوات المسماة بالرسمية.
تركت العقلانية الافتراضية أثراً في تفتح العقول وتثقيف الأفراد ورفعت الجوانب الجمالية والذوقية للمجتمعات. ولذلك تبدو التقنيات أشياء ضرورية في فهم الحياة والعالم من حولنا. لأن أجهزة الموبايل ليست أدوات محايدة، لكنها تنقل إلينا حيوات أخرى. والأخيرة لها قيمها وأفكارها الحيوية. ومعنى أن توجد الاجهزة في ثقافات أقل تطوراً أنها كذلك تمثل وسائط للتطوير والمقارنة وكشف المشكلات.
الفكرة الثالثة: الفعل الجمعي: قبل انتشار التقنيات الديجيتال، لم يكن متصوراً وجود أداة هي وسيط التواصل، وفوق ذلك تعد وسيطاً للقاء كوني يومي بل خلال كل ثانية. إن فكرة" On air " ليست فعل المباشرة فقط، لكنها الاشتراك والتلقي والتزامن والانتظار والاتفاق والتحقُق. إطلاق الآمال الحرة للاشتراك في الفعل ومحاولة انجازه. وليس أوقع على ذلك من تقنية zoom التي هي أيضاً فضاء اختصر الزمان والمكان وتغلب على يوميات الوباء أثناء الكوفيد 19، حيث تحولت الحياة إلى on line في كافة المجالات.
كانت الوسائط وعداً بالأفعال الجمعية. ولكن: منْ يعي ذلك على وجه الدقة؟ هم رجال السياسة خوفاً على مقاعدهم فوق أدمغة الشعوب. السياسيون يعرفون من أين يأتي الخطر الحقيقي، غريزة الافتراس موجودة في كافة تفاصيل وجودهم؟ وظهر ذلك (الفعل ورد الفعل) جلياً خلال أحداث الربيع. حتى أنه يمكننا تسمية الأحداث بأحداث العالم الافتراضي.
استناداً إلى الفعل، كان الوعد بالأفعال الثورية على أشده وبات متحققاً. كان المتابعون الافتراضيون هم الثوار والناشطين الديجيتال بالوقت نفسه. وبات الوسيط منعدماً، بات شفافاً وحمل الواقع ورسم صور الأحداث ومثل تواجداً مكثفاً لمعاني التغير. بل أكثر من هذا، حيث كان الإعداد والآفاق تتم عبر الشاشات المضيئة.
وإستناداً إلى النتائج (رد الفعل)، كانت الأحداث تُوجد بقدر امتدادها وقابليتها للمتابعة. ولذلك حاولت السلطات تحجيم ردود الأفعال ووجهت الاخبار إلى اتجاه آخر وباتت أرض الصراع هي تويتر وفيسبوك ومنصات التغطية والمعادلات بين القوى الاقليمية والدولية. وليس هذا وحسب، بل كان الفعل الجمعي فكرة محتفظة بصلاحيتها خلال أية مرحلة من المراحل. وبخاصة أننا نحن العرب لدينا خلل في الفعل العام، إذ يخاف الناس خوفاً لا حدود له من تلك الدائرة، نظراً للميراث الصعب الذي أثقل كاهل المتابعين. كما أنَّ الثقافة المتداولة تحرم الخروج على النظام بمعناه السياسي والاجتماعي وتثبت العادات أدمغة الأفراد. فالعقل دائماً يوجد في الرأس ليعرف الإنسان طريق خلاصه كما يُقال شعبياً (اللي عقله في راسه يعرف خلاصه).
الفكرة الرابعة: انتاج المعنى: يلتصق الانسان بالوسائط الالكترونية لأنه يستمد منها المعنى. الموضوعات والشخصيات والنصوص المرئية والمسموعة والأشكال المطلّع عليها هي موضوعات معنى، أي تركز على توافر الجوانب الرمزية والتأويلية.
ونظراً لأنَّ المشاهد والأفلام والفيديوهات تحمل صور الحياة، فالمتابع سيتأثر بها إزاء اختياراته الاجتماعية الخاصة. فلئن كان يريد شراء شيء، فستظل المقارنة فاعلة في الخلفية بين ما شاهده وما يريد الحصول عله. ويلعب المعنى هذا الدور، بل وستبدو المفارقات مفارقات معنى أيضاً. مما يشير إلى أن ما يمارسه المتابع الافتراضي من متابعات سيندمج في رؤى حياته ويشكل تصوراته نحو العالم.
لا تستطيع الاجيال الجديدة التخلي عن الاجهزة الالكترونية، بل وتستطيع هذه الاجيال متابعة الجديد باستمرار. ورغم وجود منْ يعلل ذلك بأنها أجيال في مقتبل العمر إلا أن وجود المعاني أمر مفهوم. ولاسيما مع الأحوال والظروف غير المواتية في مجتمعاتنا. كل موقع وكل وسيط تواصلي هو منبع للحصول على المعاني هنا أو هناك. إنها أشياء تُشبع رغبة الأفراد في التواجد على الأسطح اللامعة البراقة. وكذلك تطرح جوانب الواقع بشكل ضمني أمام أعينهم.
يتلقى الافراد في عالمنا العربي يومياً ملايين الرسائل الديجيتال (المضمرة أو الواضحة) بكون حياتنا جديرة بأن تكون أفضل. وهو أمر غيّر المفاهيم والقناعات والأفكار لديهم. أقل متابع - في جوف القرى والأرياف - بإمكانه أن يقرأ نصاً أو يرى فيديو أو يتابع نقاشاً وهو على أهبة الاستعداد للتفاعل واستنباط المضامين الإنسانية. وبإمكانه أن يتألم ويضحك ويكتئب ويدعم حقوق الإنسان أيا كان هذا الانسان. إن ما تفعله الوسائط يعد أسطورة تواصلية بملء الكلمة، إنها خطوة بارزة لم تدركها الإنسانية من قبل.
وهو ما سيترك مسئولية غير قليلة على مجتمعاتنا العربية بصدد فتح المجالات أمام الشعوب وتغيير نمط الوعي الغالب. هذا الوعي المتأخر سنوات عما يشهده العالم من تطورات وأحداث وتيارات فكرية. وبناء استراتيجية تعتمد على الوعي اليقظ والمنفتح لكل ما هو جديد.
الفكرة الخامسة: اختلاف الخطاب الفكري: أتصور أن الأثر البعيد للعالم الافتراضي أنه أسقط - بصورة غير معلنة- دعوات التجديد للخطابات الدينية وغيرها. كانت تلك الدعوات فيما مضى عبارة عن مناشدات وإلقاء لكلمات على نواصي الإعلام والأخبار المتداولة وكانت من قبيل الوجاهة الفكرية. وكان رد فعل المؤسسات الرسمية التمنع واشعارنا بالمهابة عبر الطقوس السياسية والمعرفية.
لكن الآن في مجتمعاتنا العربية، أصبح الفاعلون- شباباً أم غيرهم- على علم تام بالتطورات الفكرية والثقافية ولم يعد هناك شيءٌ خفي. أخذت الوسائط تنقل صور الجديد والاختلاف في بقاع العالم، فليس منطقياً أن نقف عند مناشدات كسولة لتحريك المياه الراكدة؟!
في هذا الإطار، فعلّت وسائط الديجيتال عدة نقاط لم تكن موجودة من قبل:
ألغت سلطة التجديد: لقد هدمت الوسائط هذا الجانب القريب. إذ اخبرتنا مع الاستعمال: أنّه لا توجد سلطة لتجديد الفكر أو لتجديد الخطاب الديني كما يُسمى. فكرة الانعزال التي تخلق تسلطاً غير موجودة. كان المجتمع ينتظر سنوات وسنوات إزاء ركود الأفكار كي تتحرك السلطة القائمة لتفعيل الأوضاع إلى حد ما. وكان الاغلب أن السلطة تهمش فكرة التجديد وتظل تماطل حتى الرمق الأخير. لأن تجديداً للخطاب الفكري سيجر معه تجديدات أخرى السلطة في غنى عنها!!
وغرست الوسائط أفكاراً جديدةً في صلب العقول على نطاقٍ ليس بالقليل. على سبيل التوضيح: عبارة " الفئة المستهدفة" التي طال تكرارها في أدبيات الاجتماع والدين والفكر، باتت غير ذات معنى. لأن المجتمع – كل المجتمع- هو المستهدف من التطوير، وهو المعنّي بالحوار والنقاش والجدال حول قضايا الدين والتنوع الفكري. في الوقت نفسه، لم تعد ثمة سلطة تمنع أو تسمح بكذا وكذا. هذه الممارسات السلطوية غدت بهلوانية وأقرب إلى أجواء السيرك منها إلى الواقع الافتراضي.
وسّعت القاعدة: لم تعد الأفكار الجديدة حكرّاً على أصحاب السلطة والأكاديميين ومنظري الأديان. ألغيت مراسم الكهنوت القابع في أضابير العقائد والأديان. وهذا معنى عميق لن يدركه إلاَّ من اكتوى بنار الكهنوت الذي غدا جزءاً من الثقافات المتداولة. لا شيء غير الكهنوت هنالك في المجتمعات التي لا تعي ما جوهر الإنسان.
أخطر كهنوت هو ذلك الذي يتقمص الناس العاديين، فإذا بهؤلاء العاديين ينصّبون من أنفسهم سلطةً بارزةً زاعمين ضرورة إرجاع الأمر إلى أهله. أي ارجاع أمر التجديد والأبعاد المبتكرة إلى أصحاب السلطة مرةً أخرى. وهذا في الحقيقة استمراء لوضع شاذ: أن الناس نتيجة ميراث القهر والتسلط اعتادوا الاستعباد والاستغفال، فلا يريدون مبارحة دور المقموع، دور المقهور. وقد تنازلوا عن حريتهم لصالح فئة متسلطة – في مجالات مختلفة- بدواعي عدم التخصص أو أن الموضوع ينفرد به آخرون هم أعلم وأحق بالتكلم فيه. إن أكبر خدعة هو فكرة التخصص، إذ باتت كورقة التوت التي لا تغطي شيئاً.
يشد العالم الافتراضي أوتار هذا الفضاء الرخو لصالح الحريات والتفاعل والمشاركة. إنه – كما أطلقت عليه في غير مقال- "العراء الافتراضي"1 الذي سيتعرض فيها الناس للوخز المستمر وللعواصف المزلزلة. وهو في المستقبل المنظور سيكون في خدمة المجتمعات بصدد هذه القضايا الشائكة كما حدث في مواقف كثيرة.
طرح المغاير والبدائل المبتكرة: ليست هناك أفكار تقليدية في العالم الافتراضي. ما يبقى هو الجديد والغريب والمدهش والجدير بالاستمرارية طالما يجيد التعبير عن نفسه. ببساطة لأنّ العالم الافتراضي هدم أصنام القطيع وخرق فكرة الاجماع وأفشل ثقافة السمع والطاعة.
وحتى القضايا التي تمس الايمان، فهي نتيجة القناعة والإخلاص الشخصي لا التماثل الجماعي دون وعي. لقد تغير الواقع بلا رجعة. ومشكلة كل كهنوت بعناوينه هنا أو هناك: أنه لا يعي ماذا حدث بالضبط؟ هو متجمد عند رسوم شكلية وآلية تفصله عن الحياة، بينما الأشياء تتغير وتواصل سيرورتها. ويحتاج الكهنوت إلى سنوات ضوئية، حتى يدرك أنه هو ذاته حاجز أمام الرؤية، إنه العماء بعينه.
تعميم النتائج: في اللحظة المتفاعل فيها الناس مع قضايا دينية أو سياسية تنتشر من فورها، تصل النتائج إلى مستحقيها. لم تعد هناك وسائل اعلام محتكرة عند سلطة ما. إن ما يقال حاليا عن وسائل اعلام جماهيري والاعلان عن نتائج السياسات والاقتصاد أمور تجاوزها الزمن، هي من نتاج الماضي ليست أكثر.
الأدق أيضاً أن التفكير والمشاركات وأُطر التجديد أشياء من نتاج المتفاعلين والمتابعين. هم الذين يصنعون المحتوى بلغة الوسائط التواصلية. فلو كان ثمة موضوع محل نقاش، فالمتفاعلين - بحسب ثقافتهم - يدلون فيه بدلوهم. وقد يطرح أحدهم فكراً مستنبيراً ويصبح أكثر نجاعة من المتخصص. ولاسيما أن توسيع القاعدة (على طريقة النقطة السابقة) محاولة مجدية في معالجة المشكلات وطرح الحلول.
النقد المتواصل: ألغت الوسائط التواصلية فكرة الثبات التي تتغنى بها الايديولوجيات والسياسات المتسلطة. لأنها ألغت ابتداء أحادية المصدر. هناك مصادر الكترونية لا تعد ولا تحصى لكل الموضوعات المطروحة.
وليس يوجد هناك أكثر من تجارب حرة تعتصر العقول بحثاً عن الأفضل. كما أن خبرات المتفاعلين نتيجة تنوع الاطلاع والرؤى قد أعطت مجالات التداول أبعاداً مدهشة. فالفكرة المطروحة اليوم – بل هذه اللحظة- قد تتغير إلى الأحسن وتنحاز إلى الإنسان طالما نجد فكرة أخرى أكثر إنسانية. وهكذا يعرفنا العالم الافتراضي أن الأولوية للتطور لا التوقف عن التفكير وأن دوام الحال من المحال.
الفكرة السادسة: الإنسانية الحرة: تصب العوالم الافتراضية في محاولة انشاء انسانية حرة مواكبةً لزمنها المتغير. وبالتأكيد نحن نشهد آفاقاً أخرى لم نعرف تبعاتها بعدُ، رغم كل ما قيل سلفاً من جوانب. الحرية لم تعد ترفاً، وأن انسانيتنا المشتركة ليست تافهة. فعلى أساسها، نحن نعيش وعلى منتهاها نحن سنموت. أنت هو كل ما تعنيه بالنسبة إلى نفسك من الجانب الإنساني. والآخر كذلك سيكون تجاهك هو ما يعنيك إنسانياً. والأديان والسياسة والاجتماع والفلسفات تشيّد هذه الجوانب الانسانية.
أقول ذلك صراحة عند نقطة المرور بين واقعنا العربي والعالم من حولنا. لقد خُلقت حواجز غير مرئية- ولكنها قوية- تجاه العالم. ومن أسف أنها ليست طارئة، بل حواجز معقدة وقائمة على أصول موروثة وعلى قناعات موثقة داخل بنية الأفكار والمجتمعات. ذلك أننا لم نتوصل إلى إنسانية حرة تشعر كل إنسان بقدرته على الحياة اللائقة. والانسانية الحرة أمل داخل البشر بما هم كذلك. وأن العدالة والكرامة والمساواة والحرية سمات جوهرية لا مجرد ظروف طارئة تنتظر الانجاز أو التأخير. منذ اليوم الأول لسكُنى آدم الأرض لم يكن أمامه إلا البحث عن الحياة الحرة. فليفعل ما يشاء، وليمارس ما يشاء، وليعمل ما يشاء، ولكنه في النهاية سيكون مسئولاً. والمسئولية لا تلغي الحرية، بل تحقق ما تريده بشكل إنساني (أو هكذا يُفترض).
ربما هذا هو سبب مخاوف الأنظمة الحاكمة: أنْ تعي الشعوب مستجدات الإنسانية وحقوقها الأساسية. ولذلك وُضعت وسائط التواصل تحت الارتياب والشكوك الدائمة. لأن منجزات الانسانية تسبب العدوى مثلها مثل الامراض. وعبارة " لماذا تخلفنا نحن المسلمون وتقدم غيرُنا " كما يقول شكيب أرسلان في العصر الحديث، عبارة ناتجة عن عدوى الحضارة. والوسائط الالكترونية هي الفضاءات التي خلقت "بيئة ثقافية " مناسبة جداً للعدوى الصحية. ومن ثم لا نريد- أي كلُّ المعنيين بقضايا التقنيات الديجيتال- تسميم الأجواء، حتى تكون عدوى سيئة، لعلّنا نشعر بأنين الانسان تحت قيود واكراهات لا تنتهي.
س32: أ. مراد غريبي: أستسمحكم هنا دكتور سامي، سؤال هام جداً، ماذا عن انطولوجيا التسامح – قبل الحب طبعاً- في أدبيات الكونتونات المذهبية الإسلامية؟
ج32: د. سامي عبد العال: هذا سؤال طريف من قبلكم صديقي الأستاذ مراد غريبي. لأنه يستعمل معنى مشتقاً من التسامح في طلب الاجابة (استسمحكم)، أي يعطي القارئ خيطاً ليبادر إلى الحضور والتفاعل مع الحوار. فكما نريد أنْ نحدد المعنى، من الأفضل أن يكون الكلام مؤدياً إلى هدفٍ. فكأنَّ السؤال يقول: ليكن لدينا سماحٌ بما نريد معرفته وأن نتتبع الاحتمال تجاه ما لا نعرفه. كما أنه استفهام يطلب الكشف عن وجود (التسامح)– كجانب انساني- في جيتوهات المذاهب الدينية. وهو تناقض في الحدود: المذهب يتسامح.. كيف ذلك؟!! هل ثمة مذاهب تتسامح حتى مع نفسها واتباعها؟! ولكنه تناقض ضروري يكشف كمْ أنَّ التسامح مهم في تحديد المواقف منه وتفهُم طبيعته.
إنَّ معنى الوجود بصدد قيمة التسامح هو انطولوجيا تتسع لموضوع السؤال. والانطولوجيا كلمة دقيقة في هذا السياق. وبحكم أنَّ التسامح أمرٌ مبذول بناءًا على جهد الانسان، فلا بد أنْ يتسع أو يضيق، ينحسر أو يفيض، أي يجسدُ عمليات من المد والجزر. فضلا عن خضوعه لمقولات القوة والضعف، الحقيقة والزيف، التجاوز والمقاومة. فالتسامح ذو طابع بشري بمقدار طاقة الإنسان وقدراته.
الملاحظات السابقة تُهيء مساحة الاجابة الممكنة من بين إجابات عديدة. فالأسئلة الحقيقية هي أحد أساليب التدرُب على القادم. وأن نسأل سؤالا حقيقياً يعني أنْ نبحث جدياً عما يهمنا. التسامح هو شغل الانسان الشاغل إزاء واقع لا يعبأ بوجوده. وهو فعل يوجد لدينا بأكثر من مستوى، حيث يتبلور كل تسامح محتمل. ولذلك فإن شرح المستويات التالية يستند إلى تعبير "انطولوجيا التسامح" الوارد بالسؤال. وهو ما سنعرفه حالاً.
مستوى الوجود: التسامح هو (تحمُل) الوجود الخاص بكائن ما، أي ضرب من الحضور معاً: الأنا – الآخر، الأنا - الشيء، الأنا- الكائنات. وترد كلمة الأنا هنا، لأن التسامح يأتي نتيجة حضور الإنسان مع أقرانه وعالمه. الأنا هو الذي يتخذ موقفاً حتى لو كان الآخر هناك بالنسبة لنا أو لغيرنا. إذن احتمال التسامح لا دخل كبير للإنسان فيه، إنما هو " كائن متسامح" بهذا الطرح تحت الحاجة. فلا مفر لوجوده مع وجود الآخرين. متى يمكن أنْ ينعزل الانسان عن وجود الآخرين تماماً؟! إن هذا المفهوم يتعين بين الناس بعضهم البعض. إذْ عن طريق الكينونة، يعد التسامحُ "وجُوداً مع..". وليضع القارئ بعد كلمة " مع " كافة الموجودات والكائنات بشراً وغير بشر. إن وجودك هو التسامح طالما تقدر على المجاورة وعلاقة التواجد.
مستوى كهذا هو أقل معاني التسامح. فهو مرتهن بالتواجد والتجاور ويعبر عن معانٍ زمانيةٍ ومكانية. انطولوجيا التسامح هاهنا متماهية مع دلالة الوجود الإنساني. وكل المجتمعات تمتلك انطولوجيا للتسامح قائمة على شبكة العلاقات والفعاليات بين أفرادها. ولكن قد لا يمتلكون وعياً كافياً لجعلها لحمة حية في حياتهم المشتركة. إن المجتمعات تواصل حياتها بقدر ما يوجد تسامح بين عناصرها.
ولذلك كانت " الكونتونات المذهبية الاسلامية" عاملة على استئصال هذا التسامح. فالمذهب لون من التمييز داخل الدين فما بالنا بموقفه من الآخر خارج الدين. وكل مذهب يؤكد الانعزال عن أصحاب المذاهب المغايرة. أي قطع الروابط الوجودية لأتباعها عن الناس جميعاً. هناك في الأدبيات المذهبية أن يتم تذكير أصحابها بالتقاليد والتعاليم المعمول بها تجاه الأغيار. وهذا معناه ببساطة أنْ ينغلق معتنقو المذهب على وجودهم الخاص تمايزاً واختلافاً. هو ما يُعرف بـ"النظرة الديموجرافية" للمذاهب، هناك في بعض المجتمعات (المتسمة بدرجات أدنى من الاندماج بين المواطنين ) فرز مذهبي. وهذا ما رأيناه ضمن دول عربية ليست بالقليلة. يسعى المذهب الغالب في البلاد إلى زحزحة أتباع المذاهب الأخرى على أطرافها.
وثمة صراعات غير معلنة بين المذهب الغالب والمذاهب الهامشية، واحيانا لا تأخذ المذاهب بصور التعايش في بلد واحد. وإذا كانت هناك حالات استثنائية، فسيعيش الناس نوعا من القلق فيما بينهم. وسيظل أصحاب المذاهب تحت نظر السلطة المذهبية القائمة طوال الوقت.
مستوى الاعتراف: يأخذ التسامح صيغة الاعتراف بالآخر والغير. وهو الخطوة الأولى التي يجب للإنسان اعلانها عن طريق التعايش والعلاقات الإنسانية مع الآخرين. وهي فكرة متقدمة في الفلسفة المعاصرة عند نانسي فريزر وأكسيل هونيث وسيلا بن حبيب. فكافة الانشطة الاجتماعية والسياسية مرتبطة بالإعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات. وصحيح أن المجتمعات المتماسكة لا تشوبها نزعة فردية ولا جماعاتية (من الجماعات)، غير أن الاعتراف يأخذ شكل الفضاء العمومي دون تفرقة.
تنص القوانين والدساتير والآليات السياسية في الدول على الاعتراف بجميع مكونات المجتمع، وأن هناك حقوقاً للجميع. والاعتراف من زاوية كهذه أحد الحقوق التي يتمتع بها الأفراد. حيث ممارسة طقوسهم وشعائرهم وعلاقاتهم العامة.
الإعتراف هو قوة التسامح حين يضع أطرافه في مستوى متواز، لا تباين ولا تناقض لطرف على حساب طرف آخر ولا هناك مركزية لجماعة بخلاف سواها. الكل تحت الإعتراف متساو بحكم أنهم كذلك تحت مظلة القانون. والقانون موضوعي ابتداءًا، ولا يصلح أي قانون لا يكون موضوعياً. بل سيفشل المجتمع لو كانت ثمة قوانين غير موضوعية. والقانون في دلالة التسامح هو طاقة احتمال الآخرين مهما كانوا مختلفين اعتقاداً واجتماعاً وسياسةً واقتصاداً.
بالقطع لم تصل المذاهب الاسلامية إلى تلك المرحلة من الاعتراف إلا تحت شروط. أي وضع المخالفين في الدين تحت أوضاع معينة (مثل الجزية وعلامات مميزة ومناطق سكنى معينة). وهذا كان حال بعض المسلمين عندما وضعوا أصحاب الأديان تحت علامة استفهام لا اعتراف. والاعتراف تم بناء على مركزية الثقافة الاسلامية. وأنا مدرك أن تلك كانت ممارسات ثقافية تستريب من المعتقدات المخالفة. ولكنها استمرت بعد أن تمكّن المسلمون من اقامة أنظمة اجتماعية سياسية. والمذاهب – بدرجات متفاوتة- ترجمة خاصة لهذه الفكرة.
كما أن المذهبية الدينية تناقض مبدأ الاعتراف. لأن الاعتراف قانوني بينما المذهب ديني سياسي. وليس سهلا اعتراف نظام بجميع اختلافات عناصره من غير أمر ملزم. والأمر الملزم في المذهب هو مبادئ ونصوص الدين القطعية. وهذه النصوص بدورها غير ملزمة لمخالفي الدين. ومن هنا يشعر أصحاب الدين أنهم غير ملزمين تجاه مخالفيهم. وهذا أحد أشكال التحلل من المسئولية بالتبادل: طالما أنتم (المخالفون دينيا) لا تلتزمون بمرجعيتنا (الدينية) فلا نلتزم بالاعتراف بكم.
مستوى الفكر: لا يسير التسامح في المجتمعات هكذا بلا فكر. كل تسامح يحتاج إلى محيط من الأفكار المنفتحة. يتطلب منا اليقظة العقلية حتى لا ينعكس إلى نقيضه بين يوم وليلة. يجب التعامل الحذر مع الآخرين الذين يريدون حياة إنسانية كريمة. لأن المواقف التسامحية تستند إلى مرونة عقلية ليست بالقليلة. فالتسامح برأي كانط أسوأ مصطلح، لكونه قائماً على العنف. لأننا لكي نتسامح، نفرض على الآخرين وجودنا غير المرغوب ونقول لهم نحن نتسامح معكم.
لا يكفي ترديد أن الأديان متسامحة، وأن المذاهب تأخذ بما هو موجود من روح إنسانية وأخلاقية عالية بين البشر. هذا كلام هُراء.. لابد للتسامح من فكر حر، فكر انساني. فالتسامح الذي يتم باسم المذاهب والأديان هو تسامح تحت التهديد، تحت التوقيف، تحت الطلب. باختصار لا يعد هذا اللون تسامحاً لكنه تجارب لإخضاع البشر انتظاراً لترويضهم وإطلاقهم في أقفاص الفضاء العام. كل تسامح داخل هذه الاقفاص لعبة سياسية ولو بمسميات أخرى. نوع من الفرجة التي تندهش من سلوكيات البشر حين يؤدون ألعاب حياتية على أنغام الاحتياج والرعب من أصحاب الهيمنة والكهنوت.
ولذلك ثمة وعد مرتبط بالتسامح حتى لا يكون قهراً وارغاماً على " ما أريده أنا ولكنه بواسطة إرادتك أنت".. الوعد هو انفتاح الفكر وتحرر البشر من سطوة السلطة بأنواعها. لا مجال للتسامح من غير فكر حر يطلق سراح الالسنة والافكار ويجعل الناس شاعرين بوجودهم والتمتع بالاستقلال وبكافة الحقوق غير منقوصة. ماذا يفيد لو أطلقت سراح عصفور في قفص؟ سيتقافز، وقد يطلق أصواته الجميلة، لكنه يخدع نفسه: إنه مازال في القفص!!
هكذا هو التسامح الديني أو المذهبي حين يتلون بألوان السياسة. والمذاهب الدينية هي سياسات الأديان، حتى ولو لم يكن ذلك أمراً ظاهراً. فقد فُصلت المذاهب على خريطة المجموعات البشرية التي تدين بدين معين. في محاولة لاسترداد إرادة البشر تحت غطاء الدين وأن تكون أفعالهم مقننة وفقاً لمعايير لا يمتلكونها ولا يستطيعون الوعي بها وعياً حراً. وهنا الخطورة الكبيرة: أن المذاهب غدت عبئاً على المجتمعات، بل على الدين نفسه. إن المذاهب المسيسة باتت فأساً في كثير من الاحيان لضرب الاسلام. ماذا حدث في العراق بالأمس القريب بين السنة والشيعة؟ ما مقدار الحساسيات بين طوائف المسلمين في الشام؟ ماذا جرى بين أتباع الدين الواحد في اليمن على خلفية الحوثية والنعرات الطائفية؟ ... وفي غيرها من المجتمعات العربية والاسلامية، هناك نار تتأجج تحت الرماد... أين الفكر الانساني الذي يلّين ويعقلن الصراعات إلى لون من التعايش والتسامح والحرية؟!
مستوى الاختلاف: التسامح قائم على الاختلاف لا على التماثل، على التناقض لا على التطابق، على التمايز لا على التوافق. ثمة فكرة خاطئة أن المتسامحين لابد أن يكونوا متوافقين في كل شيء. وقد يندفع القائم بالتسامح طالباً من المتسامح معهم التماثل والتطابق في المواقف والقناعات... وهذا خطأ قاتل لكل تسامح!!
التسامح هو أن تقدر وتبذل كل طاقتك لقبول الاختلافات الحدية أو غيرها مع (أو لدى) الآخرين. الفكرة قائمة على السماح لهؤلاء المختلفين بالتواجد والظهور بكل تناقضات وجودهم دون أن تبدي امتعاضاً أو كراهية وانعزالاً أو تجنباً. أي وجود حر لكل ما يتعلق بالآخرين مهما كان وضعهم دينياً وفكرياً ومعرفياً واجتماعياً. إن التسامح أكبر مفارقة إنسانية مفيدة في حياتنا المشتركة: أن لا تتفق مع الآخرين ومع ذلك تقبل بوجودهم عن كامل حرية. لا يجدي الكلام المعسول ولا ايراد نصوص مذهبيةً أو تأصيلية كحال الثقافة الدينية، لكن الموضوع برمته اختبار عملي حقيقي. أنك لا تقبل هذه الاختلافات وفوق هذا تطيق وجودها والسماح بها إلى أقصى درجة.
ليس مطلوبا بذل الحب و الكراهية، ولا التأرجح بين العطف والقسوة، بل كل المطلوب هو فكر منفتح ومنطق حر والشعور بأحقية الاخرين في التعبير عن وجودهم مثلما تتمتع أنت بوجودك دون زيادة ولا نقصان. وهذه المفارقة تقف على النقيض من المذهب. لأن اسم المذهب- أي مذهب- في حد ذاته ضد هذه المفارقة، المصطلح يحمل عدم التسامح وانتفاء الحرية للآخرين. وأن ما سيقوله مجرد تطمينات لأفراد مخالفين بلا ضمان.
مستوى الممارسة: التسامح هو الوجه العملي من احتمال الآخر وتناقضاته. إنه ينتمي بلغة كانط إلى مساحة العقل العملي، أي هو التسامح العملي practical tolérance المتحقق بين البشر. كل تبرير نظري سيربك المشهد وسيجعله محتدماً وفقاً لمهددات الصراع. والتسامح من تلك الجهة يقتضي احتراماً وتوقيراً انسانيين بشكل عملي لا حدود له. لأن الإنسان هو الانسان مهما اختلف عقائديا أو اجتماعيا وهو يستحق هذا الاحترام في أي وضع كان.
إنه لا يمتلك الإنسان تجاه الآخر إلا ذلك الاحترام والتقدير. ولكن ما الذي يقلب ذلك التقدير إلى نقيضه؟ هل ثمة مشاعر سلبية تحول دون ذلك؟ هل يوجد صراع لا يبقي ولا يذر؟ هل توجد ظروف اجتماعية تضع الأخرين في مواقف العداء والتحارب؟
مهما كانت الاجابات، فلا مبرر أمام الحد من ممارسات التسامح. فهو المستوى الموضوعي المكوِّن لتواجد البشر. هو مثل المناخ، مثل عوامل الجاذبية، مثل ظواهر الطبيعة، مثل الموجودات المادية، مثل الحركة، مثل السرعة، مثل المسافة... أشياء خارج كل انحياز، خارج كل اعتبار، خارج كل التواء، خارج كل إرادة أو خبث شيطاني بلغة رينيه ديكارت. هكذا هو التسامح مادة إنسانية حية قائمة على الاحترام الذي هو من جنسها الموضوعي ومن طبيعة البشر. إنَّ الله خلق البشر(الآدميين) وهم بما يفعلون أحراراً. كلٌّ منهم له مآرب شتى وله معتقدات مختلفة وله أفعال متباينة.. كبُرت أم صغُرت في الحياة.
وبحسب الأدبيات الدينية، هناك معرفة إلهية بما يقومون به، ولكن في الآن نفسه- رغم المآرب والصراعات واللا أخلاق- يوجد هؤلاء بوافر الحياة وفرص العيش ومتاح أمامهم إنكار الخالق من عدمه.. وليختاروا ما يشاءوون. لقد" سَمَحَ " الخالقُ لكل منهم في الحياة طرائق قدداً. لم يعاجلهم بنتائج الأفعال ولم يحرمهم من رغد العيش وازدهار الاحوال ولم يقل لهم تهديداً. فليسلُك الإنسان كما يحب وبالوسيلة التي يبتغيها. والسماح الإلهي هنا أمر دال، يعني أنَّ الإله قد احتمل المخلوقات وهو القادر على ألّا يفعل، قد بذل كل "الوسع والطاقة" وهو الذي لا يعجزه شيء.
هناك أيضاً مواقف في حياة الانبياء تظهر على أساس موضوعي تماماً لا على أساس وحي ولا على أساس ثقافي. فمقولة " أذهبوا فأنتم الطلقاء" التي قالها نبي الاسلام محمد بن عبد الله لأهل مكة عند عودته إليها بعد الهجرة لم تكن مقولةً على هامش" الغلبة والغنيمة"، ولا مقولة على هامش" القبيلة والعقيدة " التي أكلت تاريخ العرب والمسلمين بعد أن ظفروا برقاب أعدائهم. هي مقولة أكبر من استيعاب أي مذهب وأضخم من أي إطار في الثقافة العربية آنذاك. مع العلم أنها مقولة قيلت بعد تمكن النبي من طارديه خارج البلاد بلغة العصر. أي عقب أن جرى تحديد إقامته (تحت التوقيف والمراقبة)، ثمَّ إدراج كيانه وهويته على قوائم الأعداء (black list)، ليتم أخيراً اخراجه من مكة (بعيداً عن السيادة القبلية والسياسية والمجتمع القائم). ولكنه سرعان ما عاد قوياً مظفراً. عندئذ لن يكون التسامح مع هؤلاء مطلباً له، بل رغبة حياتية عاجلةً لهم. وكان النبي يدرك ذلك وهم يدركونها أكثر من أي وقت مضى.
ولكن لم يقبل نبي الاسلام أنْ يكون التسامح إزاء أهل مكة تسامحاً بناء على ضعف أو ذلة لهم أو بفضل منّة من جانبه عليهم. قالها بحرية إنسانية أخرى: إذهبوا ... فأنتم الطلقاء. انطلقوا بكل تحرر وعلى وجه السرعة دون إبطاء. ولتنسوا الماضي ولنتصالح على ما قد حدث من أمور دامية وغير إنسانيةٍ. إن التصالح مع الماضي هو أكبر عقبة فلسفية أمام محاولات التسامح. كيف نتسامح مع منْ لم يسامحنا يوما ما؟ بأي منطق نتجاوز عن اشياء غير قابلة للتسامح؟ هي لحظة توضّح أبعاداً انسانية حرة في شخصية النبي وفيما يؤمن به. أي فلتروحوا ولتغدوا يا أهل مكة في أي مكان وبصدد أي شأن كان ولكم ما تريدون كما أنتم وكما تقررون بالطريقة المناسبة دون قيود. إنه أخطر اعلان تسامحي يتجاوز كل المعاني الصراعية ويضع الممارسات على صعيد انساني.
وللأسف هذا عكس حال المسلمين فيما بعد، عندما سيطروا على أهل البلاد المفتوحة لتوها أمام الجيوش. فقد وضعوا علامات على أهل الذمة في بعض الامصار حتى يُعرفوا جيئة ورواحاً. أي تم وضع ختم مركزي سلطوي عليهم. وهو اعلان اذعان للسلطة القائمة اعترافاً بها ورجوعا إليها في غير حالة. وهو أيضا لون من تحديد الهوية والاقامة. وليس هذا فقط، بل أجبرهم رجال السلطة على أن يقوموا بإجراءات احترازية عندما يجتازون الطرقات والساحات العامة في المدن الاسلامية. مثل النزول من على الدواب وعدم الوقوف في وجه المسلمين والبعد عن لفت الانظار وألا يسلكون دروباً يسلكها عموم الناس.
***
حاوره: ا. مراد غريبي
............................
1-
https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/961482