مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (8)

خاص بالمثقف: الحلقة الثامنة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

 ***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (5)

س25- أ. مراد غريبي: ماذا عن "فلسفة الثقافة" في الدرس الفلسفي عربياً؟

ج25- سامي عبد العال: على وجه التقريب لم تنل " الثقافة " تحليلاً فلسفياً إلاَّ مؤخراً. وأقصد وضع كلمة الثقافة بين علامتي اقتباس، لكونها مهمة وكذلك نتيجة بداهتها الدالة في حياة الإنسان من غير العناية بها. بمعنى أننا كنا في انتظار مرور قرون من الإهمال، حتى تُدرج الثقافة ضمن عناية الفلاسفة. إن الثقافة فضاء متجاوز لكافة التخصصات، حتى ولو كانت الأخيرة مترامية الأطراف. والحقيقة أن الثقافة موضوع حاضر وغائب على مائدة الفلاسفة والمفكرين بشكل رئيس. وتلك هي المفارقة التي ظلت سارية المفعول طوال تاريخ الفكر الإنساني. حيث تقف الثقافة وراء مشروعية الفلسفة وكذلك وراء عطب الفكر الفلسفي واعاقة تمرد الأفكار إجمالاً، كما هو حادث في بعض الثقافات الشرقية والغربية.

لم يكن ذلك عفوَ الحال طوال الوقت، بل كانت الثقافة فضاءً مجهولاً من قبل التفلسف، لأن الفلسفة لا تتعامل إلاَّ مع الكيانات الكبرى. وهي كيانات رمزية أو مادية تهتم بحياة الإنسان مثل الأخلاق أو الميتافيزيقات أو اللاهوت أو الوجود. ثم جاءت السلطة التي ترفض وضع نفسها تحت مشرط التحليل وتتخفى بأزياء الثقافة متماهيةٍ مع كل ما هو لصيق بالفكر والوعي العام.

الفلسفة على مستواها التجريدي تنظر إلى ما يدعم إنسانية الإنسان أو تعطيه سردية أخرى لا تقل أهمية عن وجوده. ومن ثمَّ، لم تكن الثقافة مرئيةً بالنسبة لعمل الفلاسفة من أول وهلة. والأبرز أن الثقافة لم تسمَ باسمها الواضح وجها لوجه في دائرة الحوار وسوق النقاش (أجوراً agora باليونانية). فالعادات والتقاليد تأخذ عنوان الأخلاقيات، والعقائد تتقمص شكل اللاهوت، والأفكار المتداولة تعملقت في أغلفة براقة هي الآراء الشائعة ... وهكذا كانت تتراجع الثقافة كـ"توصيف فلسفي" لصالح مكونات أخرى.

وإذا كان هناك شيءٌ تنطبق عليه الفكرة الآنفة، فهو الثقافة العربية. الثقافة العربية لم تلتفت كثيراً إلى ذاتها مع تحولات التاريخ. والدليل هو إقصاء المفكرين الذين يساءلون العقائد والسلطات القائمة من عصر لآخر وتهميش أصحاب الآراء الثاقبة التي يُشتم منها المس بالأنظمة المهيمنة. وكل ثقافة حين لا ترى ذاتها بوضوح ستفقد قوتها التي لا تُرى. وهنا التحدي الكبير الذي تواجهه الثقافة: أنَّها في الوقت الذي تُراجع خلاله مسيرتها، ستكون على أعتاب مرحلة مختلفةٍ من التواجد والتحول. أي أن العلاقة بين مراجعة الثقافة لذاتها وتحقيق وجودها علاقة مطردة مع التغير المنتظر منها، لأنها ستشير إلى السلبيات والايجابيات وستتيح فرصة الغربلة والتساؤل حول كل ما يحدث.

ومن ثمَّ، كلما انخرطت الثقافة في تيارات الوعي إزاء ذاتها حضرت الفلسفة  في قلب ساحتها. وهذا قانون تاريخي بالنسبة لأية ثقافة من الثقافات ولأية علاقة ستربط الأخيرة بالتفلسف. وهذا الأمر يتوقف على عدة جوانب:

1- انفتاح الثقافة، وهو عملية التحرر التي تجعل متون الثقافة قابلةً للإضافة والحوار والاختلاف والتضّاد.

2- التنوع الثقافي، أي بروز المكونات التي ترسو إلى قاع أية ثقافة .. غربية أم شرقية. بحيث تعبر عن نسيجها التاريخي، وتحدد كيفية تواجدها بصورة حية وشاملة ورد الاعتبار إلى معالمها الممتدة.

3- الاختلاف الثقافي، وهو ما يظهر إمكانية حضور المختلف بقدر ما يكون المتشابه موجوداً. وهنا يظهر الجدل لا بالمعنى الهيغلي (القضية ونقيضها والمركب منهما)، إنما بمعنى جدل الابداع والانتاج الذي يحطم كل مُركب ينتظر الاستحواذ على التغيُر في المستقبل.

هذه الأبعاد رغم نأيها عن المألوف إلاَّ أنها ستكشف إجابة السؤال: ماذا عن وجود فلسفة الثقافة في الدرس الفلسفي عربياً؟ إذْ أنني لست من أنصار تحديد المتخصصين: من الأول ومن الأخر؟ ومن ذا الذي فعل كذا وكذا في مقابل سواه؟ لأنَّ سؤالكم (أستاذ مراد غريبي) رغم شكله العادي إلاَّ أنه عميق عمقاً لا حدود له. وهو فيما يبدو لي يمثل سؤال الثقافة إلى ذاتها، وما إذا كانت قادرةً على التطور والاختلاف أم لا؟!

لقد كانت فلسفة الثقافة ضيفاً غير مرحب به بين أروقة الأكاديميات العربية، لأنَّها تثير القلاقل المعرفية. والأغرب أنها ظهرت خارج جدران الفلسفة بمعناها التقليدي لدينا نحن العرب. بدت فلسفة الثقافة كغصن غريب في شجرة عتيدة وارفة الأبعاد وسحيقة الجذور. وكأن الفلسفة في مجتمعاتنا عندما تشعر بالاختناق الفكري، تأتي منافذ التهوية من خارج التقاليد المعروفة أكاديمياً. وهذا اتساقاً حال الثقافة العربية بالمثل حين تنغلق حدودها عبر عصور التراجع الحضاري تأتيها الثقافات الحدودية لتنعش أطرافها. لقد كانت فلسفة الثقافة متنفساً آخر، كي يرى أصحاب الثقافة أنفسهم على خريطة الفكر والحياة. وكانت هذه الفلسفة تباعاً قدرة معرفية آتية من أي اتجاه كان، وبخاصة أنَّ كلمة الثقافة هنا واردة بمعناها العام، فترتب على ذلك أن جاءت فلسفتها ذات طابع إجمالي بالمثل.

إن فلسفة الثقافة موقف فلسفي جذري من محددات الفكر والفعل. وقد وضعت أطروحاتها بشكل نقدي وبأسئلة أساسية حول الإنسان والحياة والسلطة واستغلال الآخر واطلاق الحريات ومناكفة الاكراهات والقيود. ولذلك ريثما نجيب عن السؤال الأساس، يجب الالتفات إلى غير المتخصص،  ولكنه يقع في مناطق من جنس الثقافة. على سبيل المثال: بزغت فلسفة الثقافة من كتابات الرحالة وناقدي الفكر الديني والأدباء والشعراء وعلماء الاجتماع والانثربولوجيا والمؤرخين. وهم ليسوا معنيين بالاهتمامات الفلسفية في المقام الأول، بيد أن الفلسفة بحكم وجودها عند الدرجة الصفر للتفكير في أي مجال ، فقد ظهرت بقوةٍ في الهوامش وأخذت تسري عبر سراديب الأفكار هنا أو هناك. من لا يقول إن عبدالله القصيمي فيلسوف ثقافة؟ من ينكر أن مالك بن نبي فيلسوف ثقافة كذلك؟ وهما الاثنان يقفان على ضفتي الطريق بشكل متقابل!!

هكذا تبدو فلسفة الثقافة مُلحة بدرجة مدهشة، متى كانت أسئلة الإنسان جوهرية حول ما يفكر فيه ويحياه. وبالأصالة ذاتها المميزة للأسئلة، كشف بعض الإبداع اسهام الأدباء والشعراء في هذا المجال. قام شعر محمد الماغوط على فلسفة الثقافة ويقع كذلك بمسافة قريبة من أشعار محمود درويش ونزار قباني والجواهري وأحمد مطر رغم اختلاف الماء الشعري وأصالته. إن هؤلاء أصحاب رؤى ثقافية فلسفية عميقة لا تخطئ سهامها جذور الثقافة العربية.

وتتميز الاسهامات الآتية من خارج الفلسفة بما يلي:

أولاً: نوعية الابداع وفرادته، فالأشعار تتسمع لأصول الأشياء والأحداث والمجتمعات والتواريخ. وحدها الأشعار لا تقول الصدق، بل هي الصدق ذاته ولو كان كذباً، لأن الكذب صورة للتعبير عن الحقيقة التي تستحضر معالم الثقافة. ويمثل أحد مفردات الثقافة حين يعوزها التنوع والتعبير عن وجودها.

ثانياً: شمول الرؤية الشعرية، الشعر ليس تجزيئياً ولن يكون. هو يشترك مع الفلسفة في البعد الإنساني الكلي. ليس هناك إنسان لا يتلقى الشعر الأصيل إلاَّ كما لو كان يخاطبه تحديداً. والفلسفة أصلها هو الطابع الشعري الذي بلور نمط الفكر الشائع. في أغلب الحضارات، كانت الأشعار والأساطير والموسيقى والرموز شيئاً واحداً، وليست بينها وبين الحياة وسائط فارقة، لأنَّ المعنى يأتيها تلقائياً.

ثالثا: الثراء الشعري، الأشعار بصمات متفردة إلى درجة الاختلاف والتمايز. ولذلك كل شاعر يقف على باب رئيس من أبواب الثقافة، إنه يكشف الجوانب البعيدة ويحدد الآفاق الثرية ويطبع طرائق التفكير والمشاعر بما يقول. وهذا التنوع الابداعي يجري لصالح الثقافة، إذْ يخترق الشعر الكثافة الثقافية البادية للعيان من العادات والتقاليد قابضاً على ما هو جوهرى.

رابعاً: النفاذ والنقد. ليس هناك من شاعر أصيل إلاّ ويقول ما يصعب قوله. الشعر وُجد ليقول المستحيل لا الممكن.  الممكن يُقال على قارعة الطرقات والحياة ونواصي الحوارات والجدال، ولكن الشعر لا يقف على الطرقات، إنما يتوغل باستمرار داخل الأزقة والدروب المهجورة. وهذه السمة بصدد الثقافة تُعري وجودها، تبدد الحجب الغليظة التي تواري الحقائق. الشاعر له (عيون ميتافيزيقية) لرؤية العوالم المختبئة في دهاليز الثقافة. وليس النقد هنا نقداً أكاديمياً ولا تقليدياً، ولكن الشعر يقدم رؤى فذة ويخترق الأنساق الصامتة صمت القبور، ولا يقبل الارتكان إلى المباشر والفوري.

بجانب ذلك لا ننسى أن فروع الأدب الأخرى منطوية على ألوان من فلسفة الثقافة. وهذا مجال واسع جداً بما لا يضيق على جنس أدبي دون آخر. فالرواية زاخرة برؤى ثقافية عميقة. ولم تكن الرؤى واردة اعتباطاً، بل الروائي يظل يشتغل على الأنساق الثقافية التي تتنفس منها الشخصيات أفكارها وأساليب الكراهية والبغض والحب والتسامح والحرية وأنماط العلاقات المشتركة. إن كل شخصية – بحسب مساحة الرواية – تجسد فضاء من الثقافة التي تؤثر في مساراته من البداية حتى النهاية. إنَّ سردية الثقافة تسبق سردية القصة، يصعب للأخيرة أنْ تُحرك معانيها وأغراضها دون الأولى. إن الثقافة هي الآثار الأولى لحياة الإنسان ولا يجري شيء في أفعاله وأفكاره من غير هذه الآثار.

هنا فقط يمكن أنْ نصل إلى فلسفة الثقافة في الدرس الفلسفي العربي، لندرك إلى أي مدى أن هذا الدرس مازال لم يتقدم بصدد هذه المسألة. أي لم يواكب الدرس الفلسفي حركة الأدب والشعر، فالأدب يقفز قفزات بعيدة بينما الجانب الأكاديمي مدرسي يحتاج إلى نظريات ومفاهيم نمطية. فالدرس مهتم بكم من الاستراتيجيات التعليمية المعتمدة على التكرار لا الابداع. جاء مقرر " فلسفة الثقافة " مجرد مقرر إما على تلاميذ الجامعات أو على باحثي الدراسات العليا. وطبعاً تنتشر تلك المقررات بإسم التعليم الجامعي الذي فقد مسارات الإبداع. لأن الابداع متسارع وعاصف ويحتاج إلى قدرات خاصة. كما أنَّ البيئات العربية باختلافها لا تقبل بسهولة أفكار العلوم الإنسانية، فما بالنا بطروحات فلسفة الثقافة. فتلك الفلسفة تخاطب الإنسان الآخر فينا، تخاطب المقموع، تخاطب المقصي، تخاطب المتطلعين إلى الحرية، تخاطب العقول المستنيرة، تخاطب الوعي المغاير، تخاطب قدرتنا على النقد الذاتي، تخاطب آمال الإنسانية، تخاطب شعورنا بالقيود التي تحكم أساليب التفكير والتعقل.

وحتى على صعيد المجتمع العلمي بين التخصصات المختلفة أو بين المكونات الاجتماعية، ليست فلسفة الثقافة إلاَّ فرعاً فلسفياً يستمد أفكاره من علوم الاجتماع والأخلاق والأنثروبولوجيا والتاريخ. وتتطرق إلى آراء الفلاسفة من باب سرد المقولات وجرد الأفكار. وهذه أكبر حيلة لتحجيم طاقة الفلسفات على التغيير وافهام الناس معنى إنسانيتهم الحرة. والدرس الفلسفي وقع في الفخ ذاته من جهة وضعه في قوالب زمانية وفنية وسلطوية، بعيداً عن ممارسته بأساليب العصف الذهني وحرية النقد وتحليل الواقع والمناقشات المطروحة.

الملاحظ أنَّه قد ثار جدال حول فلسفة الثقافة، ما إذا كانت الأخيرة تخصصاً طفيلياً أم لا احتكاماً إلى صلب الفلسفة؟ وكأن الفلسفة عندما تعالج موضوعاً ما، فإنها تعطيه ختماً سلطوياً بإنضمامه إلى حزمة الموضوعات الفلسفية!! جرة قلم واحدة تحدد مصير الأفكار والموضوعات.. يا لها من فكرة ساخرة تحتاج إلى نسف من الأساس. ولذلك ليس مستغرباً أنْ تبدأ دروس فلسفة الثقافة بسؤال حول الثقافة كموضوع مُلّح أم لا في مجال الفلسفة ومدى صلاحيتها الفكرية.

علينا البحث عن " فلسفة الثقافة " الحقيقية خارج الأطر التعليمية، خارج القوالب الجاهزة، خارج قاعات الدرس. لأنَّ السلطة في ثقافتنا العربية واحدةٌ لا تتجزأ. وهي تستدرج الفلسفة كي تكون هجينة بمعالم البيئات المحلية دون النظرة الكونية التي تحرر المحدود وتنتقد ما توارثناه حتماً لا إبداعاً. كلُ فلسفة كي تكون لائقة بمسماها، ستحتاج إلى ثقافة منفتحة لا إلى حاضنات منعزلة. وهذا الشرط - فيما يبدو - يقع على نحو كلي بقدر ما هو جزئي بالمثل، لكون الفلسفة ضرباً من تحرر العقل والفكر كلاً لا جزءاً. والفلسفة لا تمل من الطرق بكل ما اوتيت من قوة على أبواب المجهول كي تعبر عنه وكي تدربنا عليه. سواء أستطاعت أن تحيل المألوف والمعتاد إلى مجهول تحت منظوراتها الثاقبة أم تمكنت من التمهيد لمجهول مغاير يستحق التواجد والعمل في متن ما نعرف.

س26- أ. مراد غريبي: ممتاز د.سامي، دعنا نقترب أكثر لو سمحتم، المثاقفة وليدة الثقافة، التثاقف دينامية ذلك كله، سؤالي كالآتي: كيف تقيمون رهانات التساؤلية الفلسفية والثقافية عربياً بخصوص مدارات الاستلاب واكراهات الاغتراب؟

ج26- سامي عبد العال: التساؤلية هي قدرتنا الحيوية على طرح أسئلة جذرية، أي طاقة الإنسان على أن يرسم خريطة للاستفهامات الجديدة وأن يُفسح فرص التفكير المختلف. أخطر شيء أن يكون الإنسان شبيها لإنسان آخر، وأن يفكر بالطريقة نفسها التي يفكر بها غيره. أي عندما يصبحان نسخة متطابقة من بعضهما البعض. وأكثر الأمراض الثقافية تأتي من التشابه لا الاختلاف. وطبعاً يواكب هذا كله صور من المعاني والتحليلات التي تقتضي فهم المواقف والأفكار والموروثات والأحداث والظواهر.

جميع ذلك يستند إلى حركة السؤال كي يعبر عن وجوده. ولذلك لا تُوجد تساؤلية questionism   تحت التوقيف ولا في حالة هدوء، لأنها تحرك المياه الراكدة وتدهشنا بالأسئلة الحرة تلو الأسئلة. إن كل مجتمع لا يخلو من أسئلة مسكوت عنها لم يتطرق إليها فاعلوه. ودوما كل سلطة لا تريد منك: أن تتساءل، أن تستفهم، أن تبحث عن المختلف، فقط عليك أن تتقبل الاجابات طوال الوقت من غير رفض!!

تظل الأسئلة أبقى من الإجابات مهما طال الوقت، فالسؤال لا يخبو بتاتاً ولا يتوارى من مرات طرحه، لكونه ابن الطرح، ابن تجربة الفكر الحي مباشرة. وحده السؤال من بين الاستراتيجيات الفكرية الذي يحمل إدهاشه وطزاجته وألمعيته وقدرته على الاختراق. وكلما استطاعت الثقافة افساح المجال للأسئلة (أو تستوعب وجودها) كانت ثقافة حية قادرة على الحياة.

من هنا تبقى مفاهيم المثاقفة والتثاقف والتثقيف مفاهيم معبرة عن جوهر الأسئلة، لأن الأسئلة تعبر عن عملية دينامية ممارسة وفكراً. وهذا نتيجة الاختلافات الكامنة في أية ثقافة. إن الثقافة بطبيعتها تنحو نحو الكلي المنظم والمتواتر، ولكنها مع ذلك عبارة عن أنطولوجيا الإختلاف بحكم وجود الثقافات والموروثات والأنسجة الفرعية التي تكونها.

ولا يحدث تثاقف إلاَّ بهذه العملية، لأننا عندما نعي جوهر الثقافة وتصبح عقولنا مدركة لوجودها، فلا يحدث ذلك إلاَّ بتغير النظر إلى الثقافة من داخلها لا من الخارج. وهذا هو قانون الانفتاح على الآتي أو القادم. أن تتسع الثقافة إلى كل التداعيات الحرة داخلها أيا كانت. فالتثقيف كلمة آتية من: الحذق والتهذيب والتبرية والصقل والتمهيد والاعداد والدربة والسن والشحذ. مثل إعداد الأرض وسن الرمح وشحذ الآلة وتبرية الأقلام والدربة على الأعمال وتجريب المهارات... وجميعها عمليات وممارسات دالة على التطلع إلى شيء مغاير.

تلك السمات الموجودة في جذر الكلمة هي سمات تساؤلية بالدرجة الأولى. وأحد جوانب الأسئلة كونها فناً لطرح المختلف وإثارة الوعي وكد العقل، لأن السؤال الفلسفي جذري واستراتيجي بالوقت عينه. جذري لكنه استفهاماً أصيلاً وكلياً واستراتيجي باعتبارها لا يقبل إجابة واحدة داعياً إلى طرح رؤى مختلفة. وليس ثمة شيء أدق من القول إننا في حاجة إلى تطعيم الثقافة بنزعات تساؤلية لا تتوقف عند المعتاد والمكرر، بل تطرح مزيداً من الجوانب المبتكرة وتطور من آليات الوعي بالثقافة. وذلك حتى لا تتوقف ثقافتنا على ما هو معروف ولا تمارس دور الرقيب المهيمن على فكر الإنسان.

هذا معناه عدة أشياء جديرة بالتوضيح:

1- تلتقي التساؤلية مع جذر الثقافة والتثاقف. فبالإمكان أنْ يلتقيا على مساحة واسعة من العمل والنشاط الخلاق في حياة المجتمعات العربية.

2- التساؤلية تفتح نوافذ للإفضاء والتداعي ثقافياً. لأنَّ الثقافة قد لا تدرك من ذاتها كيفية عمل ذلك. والتساؤلية فلسفياً تتبنى هذا المعنى بل تشق دروباً إلى هذا الهدف.

3- التساؤلية الثقافية هو الوصول بحالة الثقافة إلى أن تتبنى الأسئلة لا أن تكون طاردة لها. وهذا أمر حيوي على كافة المستويات رغم العواقب التي قد تأتي من ورائه.

4- التساؤلية تعيد صناعة الثقافة إلى الإنسان، لا تشعره بكونه كائناً مسلوب الإرادة. فلئن كانت الثقافة نتاج تراكم تاريخي وعملية معقدة من آليات وأفكار وفنون ترسبت في وجدان الناس وعقولهم، فالإنسان تساؤلياً بإمكانه أن يعيد لذاته المكانة المفقودة. وأنه بالتساؤل يستطيع إعادة الكرة مرة أخرى بين يديه، وأن يبدع ثقافياً مثلما أبدع أسلافه باعتباره كائنا ثقافياً.

أجل الإنسان كائن ثقافي في المقام الأول، ولا يضاهيه كائن سواه من مملكة الحيوان. ويعني ذلك أن الثقافة التي يوجد فيها هو يصنعها وليس منطقياً أن يتوقف عند أحد صورها النمطية. وبخاصة أن الصور الثقافية النمطية هي التي تستجلب (الاغتراب- الاستلاب alienation) عن طريق اتجاهين.

الاتجاه الأول: أن تسقط الثقافة في فخ الجمود. وهو مدار ضخم بإمكاننا أن ندور خلاله طوال أزمنة عربية لم تنته بعد. وليس لنا كبير عناء إذا أردنا تحليل هذا الاتجاه داخل الثقافة العربية، من جهة الجوانب التي يتم تقديسها سواء في الثقافة الدينية أم الثقافة الاجتماعية أم الثقافات الفرعية الغالبة على أصحابها.

حيث يتم سلب حرية الإنسان وقدراته الحية على الانتاج والتفكير. وهذا أمر غير مشعور به عادة. لأن الثقافة تعطي فاعليها انطباعاً بالامتلاء باستمرار وله كافة المبررات التي يريدها. فيكفي الإنسان العربي أن يمارس الحياة كما مارسها السلف من باب كون شكل العيش مرتبط بالتدين وإقامة الشعائر والعادات والتقاليد. وعلى امتداد الخط، يكمل الإنسان بطبيعته التي ترتكن إلى المألوف جوانب الحياة. ومن ثم تصبح إمكاناته مأخوذة أو بالأحرى مسلوبة لصالح أزمنة وعصور سالفة.

إنه "الاغتراب الناعم soft alienation" .. ذلك الذي يقع فيه الأفراد تحت الشعور بالاطمئنان واليقين بكونهم يعملون ما ينبغي أن يكون. والمفارقة هنا أن جوهر الفعل ودلالته لا تكتسب إلاَّ بالعودة إلى الماضي في الوقت نفسه يعبر عن المستقبل، لأن كل فعل يأمل أن يؤثر فيما آت دون العودة إلى الخلف. كما أن مبررات الفعل السلفي ستكون للأمام بالتبعية مع أنها تستمد درجة قبولها من الماضي.

وهذا الاغتراب أخطر أنواع الاغتراب، فهو يجري بصورة عفوية ويتميز بالعمومية حتى يصبح نزوعاً يصعب العيش دونه. ومع الوقت يصبح جزءاً لا يتجزأ من وجود الإنسان، مع أنه كائن حر وقادر على التجاوز والاختلاف.

ومن ثم توجد أمام هذا الاتجاه عدة رهانات تساؤلية:

1- رهان الوعي التساؤلي: لماذا ينحو الإنسان نحو سلب وجوده بنفسه؟ ولماذا يعيش حالة اغتراب من غير الوعي بها؟

2-  رهان الحقيقة: والحقيقة قيد التساؤل لا بعيدة عنه. فالذي ينخرط في عملية اغتراب ناعم لا يشعر بالحقيقة، فهو لا يرى الأشياء والعالم من حوله.

3- رهان المسئولية. السؤال قريب المعنى من المسئولية. فأنْ تتساءل أي أنك تتحمل مسئولية الاستفهام، ما سينجم عنه من آثار. وكل مسئولية تأخذ جزءاً من المكانة التي يجب أن يتمتع بها الإنسان. وهي التي تكفل له أن يضع ذاته فيما ينبغي أن يكون.

4-  رهان الذات – الآخر: بدلا من ذوبان الأنا في الآخر التاريخي الموروث، ستكون التساؤلية زناد إطلاق النار على هذه الفكرة. لعل دوي الصوت يحدث استفاقة من الغيبوبة التي تجعل أناسا فاقدي القدرة على الحياة بشكل كامل.

5-  رهان المعنى: كل تساؤل ينتج معنى لا إجابة فقط. ولذلك كثيراً ما يفقد المغترب معنى حياته إذا لم يكن كائناً متسائلاً على الأصالة.

الاتجاه الثاني: هو مدار الاغتراب نتيجة الارتماء في ثقافة الآخر بشكل مطلق. وفي الثقافة العربية هناك "اغتراب خشن hard alienation  "، وهو أن يعيش الناس بأجسادهم في العالم العربي بينما نمط العيش والتصورات لا تنتمي إلى البيئة ذاتها وتختلف عن الثقافة العربية. وجه الخشونة أن هذا النمط من الاغتراب مرتهن بالسياسات العالمية وتيارات العولمة والمظاهر الاقتصادية التي لا يمتلك العرب قدرة على الاسهام فيها. ولكنهم دوماً مستهلكين، دوماً زبائن على بضائع الغرب بدءاً من الأشياء المادية وانتهاءاً بالنظريات والرموز والموضات الفكرية والإعلامية.

تدريجياً، يُسحب البساط من تحت أقدام الأفراد ويصبحون – على أهمية الثقافات الكونية- بضائع في أسواق العولمة والحضارة الراهنة وحطباً لوقود الحروب والصراعات. وهذا ما حدث بالنسبة لبعض جوانب الثقافة العربية التي تغذت على السمات المادية الناجمة عن الاحتكاك بالموجات الحضارية الغربية، من غير أن يحدث تطور حقيقي في مجتمعات العرب.

وهذا الاغتراب تواجهه التساؤلية بعدة رهانات مهمة:

1- رهان المغايرة: إذْ لابد للمجتمعات أن تدرك كونها مغايرة لا متطابقة مع مجتمعات أخرى، وأن العيش في عصر الحضارة السائدة لا يعني الذوبان أو استيراد كل شيء من المادة إلى العقل والتكنولوجيا.

2- رهان التقدم وبناء عالمنا الإنساني: ليس الأفراد في حالة العيش المستعار غير أدوات لا كائنات إنسانية مميزة. والفهم الحقيقي الذي تبذله التساؤلية أنها تعيد الفكرة إلى الإنسان. فكل سؤال أصيل يمس وتر التقدم ويطرح الزمن ضمن حركة الفعل والواقع. وأن العيش المستعار ليس إلا تزييفاً لواقع عربي لا يحتمل المزيد.

3- رهان الإبداع: وهو أساس أنْ يقول المجتمع العربي ها أنا ذا أقف وسط تيارات العالم وموجاته الحضارية ويجب أن يبدع الأفراد وجودهم وأن يضيفوا ثقافياً. لأن التقليد يتساوى في جناحيه مؤدياً إلى النتيجة ذاتها، سواء أكان تقليداً للسلف أم للمختلف.

4- رهان الحرية: وهو أكبر رهان يمكن أنْ يصادفه الإنسان. فالتساؤلية معنية بفك قيود الفعل والفكر، وأن يتساءل الإنسان إزاء ما يطوق عقله مانعاً إياه عن الانطلاق والاستنارة. والتساؤل هو بداية الحرية ويقظة المارد الذي يسكن الإنسان.

لا يوجد اغتراب مع الحرية، فهما نقيضان لا يجتمعان. وبالتساؤلية إزاء الاتجاهين السابقين تتغير استفاقة الإنسان كي يحقق ذاته وعالمه. إذ ليست الاستفاقة في فراغ، ولكنها عملية متواصلة لا تكف عن الاستمرارية الحضارية، ولا يجب أنْ تخضع لأيديولوجيا أو ثقافة غالبة. ولعل التساؤلية بذلك تمثل طفرة فلسفية قادرة على التأثير في حياتنا العربية، وبخاصة أنها (ثقافة وفكر) بالوقت نفسه، وهو ما ينقصنا نحن العرب في أجواء الحياة العامة.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

25/8/2024م

في المثقف اليوم