مرايا فكرية
مراد غريبي يحاور الباحث الفلسفي الأستاذ علي محمد اليوسف في مرايا فكرية (4)
خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:
المحور الرابع: فلسفة اللغة
س60: أ. مراد غريبي: ما هو رأي سارتر في فلسفة اللغة باعتبارها تحولا تصحيحيا في تاريخ الفلسفة؟ وماذا تقول انت بما قطعته فلسفة اللغة على طريق تصحيح مسار الفلسفة الخاطئ؟
ج60: أ. علي محمد اليوسف: ابدأ معك من رأي سارتر وهو راي مبتسر حيث كان في أواخر أيامه مصابا بالعمى. رفض سارتر تفسير تاريخ الفلسفة المليء بالأخطاء والمطبّات حسب فلاسفة البنيوية أن تكون بدايته التصحيحية تبدأ من وسيلة مراجعة وتصحيح معنى الدلالة اللغوية الخاطئة في قصور معنى حمولة الافصاح غير المسكوت عنه، ودعا الى أن كل فلسفة تطغى عليها فلسفة اللغة بالتعالق العضوي معها الناشئ من أحشائها هي وليد تابع من رحم تاريخ الفلسفة الام التي لا تقود فلسفة اللغة الفلسفات الاخرى أو تكون بديلا عنها.
قائلا ما معناه يمكن استنباط فلسفة لغوية خاصة من فلسفة الوجودية مثلا وهكذا مع باقي الفلسفات الاخرى. بمعنى أنه يمكن إستيلاد فلسفة لغة من كل فلسفة أم لها لا تحل محلها. ورأي سارتر يحتمل القول فلسفة اللغة هي وسيلة التفكير الفلسفي في التعبير عن رؤاها خارج معنى اللغة الطبيعي المحكوم بقواعد ونحو ومجاز واستعارة وبلاغة وغيره التي حاولت تدخل كل فلسفة في محاولة نسفها وتفجيرها تشظيّا من الداخل وهو ما لا ينكره دريدا مثلا ولا ينكره البرتو ايكو ولا عديدين من فلاسفة أمريكان استسهلوا لعبة اللغة في التفكير الفلسفي استبطانيا مغلقا على نفسه جاعلين من الفلسفة هامشا يدور في فلك اللغة حصرا...
في إجابة سارتر عن سؤال من ضمن اسئلة المقابلة المشار لها "هل خطر ببالكم وضع فلسفة للغة؟ فكانت إجابته " لا ينبغي على اللغة أن تدرس بداخل فلسفة ما – يقصد أن لكل فلسفة لغتها هي اداتها وصنيعتها اللغوية اذ الفلسفة تصنع لغتها ولا يمكن للغة خلق فلسفتها المتفردة مع أو بمعزل عن الفلسفة الام كما حاول بعض الفلاسفة وأخفقوا في مسعاهم – لا يمكن أن تشكل اساسا لفلسفة ما. أعتقد – والكلام لسارتر – أنه يمكننا استخلاص فلسفة لغة من فلسفتي الوجودية مثلا، ولا يمكن وجود فلسفة لغة يمكن فرضها عليها."
واعود الان الى وجهة نظري حول امكانية فلسفة اللغة حل معضلات تاريخ الفلسفة.
في البدء الذي لا يمكن الالتفاف عليه ومغادرته هو عدم قابلية اللغة فرض نفسها على قيادة فلسفة ما حسب تعبير سارتر، وكي نضع هذا الرأي الفلسفي لسارتر بموقعه الطبيعي الصحيح " انه لطالما كانت اللغة – وليس فلسفة اللغة – محط اهتمام الفلاسفة – منذ افلاطون - غير انها لم تصبح موضوعا مركزيا في الفلسفة الا في القرن العشرين، حيث كان الاتفاق كبيرا على أن الوسيلة الفضلى لحل مشاكل مختلف فروع الفلسفة إنما يكون ويتم عبر فحص معنى الدلالة اللغوية السليمة التي صيغت بها هذه المشاكل. هذا الاهتمام الذي أبداه الفلاسفة المعاصرين باللغة وازدياد الاعتماد على تحليلها اصطلح على تسميته بالتحول اللغوي.".
أولا: أرى وجوب التفريق بين اللغة وسيلة التعبير عن الأفكار في الادراك والتواصل كما في عصور الماضي التي سادت وبين فلسفة اللغة على انها نسق لغوي قائم بنظام داخلي منفرد من جهة اخرى كما ارادها لها فلاسفة اللغة في التحول اللغوي ومصطلح القراءة الجديدة الذي إعتمدته البنيوية لدى أقطاب فلاسفتها مثل فوكو و إلتوسير ودي سوسير في مراجعة قضايا الفلسفة التي إغتالت اللغة معنى دلالة قصدية الفكر فيها حسب دعاتها، بمعنى كان انبثاق التحول اللغوي وفلسفة اللغة بداية القرن العشرين هو وسيلة تصحيح اخطاء اللغة لغاية وقصدية مراجعة تصحيح تاريخ قضايا الفلسفة الزائف وهو ما لم يتحقق ولا تم بسبب تشظي فلاسفة اللغة وتوزعهم في مناحي وتيارات فلسفية بعيدة عن الهدف الذي نادى به فلاسفة التحول اللغوي في تصحيح مراوغة اللغة دفنها فائض المعنى المحظور التعبير عنه لسبب وآخر..
ثانيا: بعدما اصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة المعاصرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين بعد إنصراف إهتمام فلاسفة البنيوية بمباحث ما بعد الحداثة تاركين فلسفة اللغة بعد أن أخذت مديات من التخوم الفلسفية المتطرفة التي جعلت منها هامشا في شكل مرتكز خال من محتواه... بعبارة اخرى فتحت البنيوية باب فلسفة اللغة ولم يعد بإمكانها السيطرة عليه ما جعلها تتجه نحو معالجة قضايا لا تشكل فلسفة اللغة بؤرة مركزية فيها مثل تاريخ الجنسانية واسقاط السرديات الايديلوجية كالماركسية في استهدافهم كتاب راس المال كما فعل شتراوس والتوسير ومن قبلهما سارتر. كما نقدوا بضراوة العقل وعلم النفس والانسان ذاته كمرتكز محوري استنفد من تاريخ الفلسفة العصور الطويلة.
ثالثا: ثمة التباس حصل في خلط اللغة كهوية انسانية بيولوجية تحكمها قواعد النشأة والتطور الانثروبولوجي وصولا الاستقرار الذي يحكمها في قواعد وضوابط نحوية خاصة تمّيز بنية وهيكلية كل لغة عن غيرها، وبين فلسفة اللغة كمعنى مفهومي تفلسفي يتداخل مع النسق البنيوي الخاص باللغة يتطفل على الفلسفة ويستخدمها أداة لنسفها داخليا عندما يكون الاهتمام باللغة تجريدا هو إغتيال مبرمج يجري تحت عنوان إنقاذ اللغة من إزدواجية المعنى في تضليلها الفلسفة.
س61: أ. مراد غريبي: ماهو برأيكم الخطأ الذي جعل فلسفة اللغة واقفة على رأسها بدلا من قدميها كما وصف ماركس إدانته لفلسفة هيجل المثالية في الديالكتيك؟
ج61: أ. علي محمد اليوسف: من الملاحظ أن عديدا لا يستهان به من الفلاسفة لم يعطوا أو ينتبهوا إعطائهم أهمية إستثنائية للغة كجنس هوياتي انثروبولوجي قبل تحوله الى تجنيس ادبي – ثقافي هووي في مباحث تاريخ الفلسفة، حاول ذلك سارتر وبرجسون الحائزين على جائزة نوبل بالأدب حين رفضها سارتر وقبلها برجسون وكلاهما وضع بعض قضاياه الفلسفية ضمن قوالب التجنيس الادبي وبخاصة سارتر في نصوصه المسرحية والروائية...
كما لم يعتبر عددا من الفلاسفة مفتاح حل المعضلات الفلسفية يقوم على تصحيح معنى اللغة القاصر في التعبير عن الافكار الفلسفية عبر تاريخها. والسبب نراه في إعتمادهم تفكير العقل المجرد كفيل بإيجاد لغته التعبيرية الخاصة به في إيصال المعنى الفلسفي. بمعنى فلاسفة ما قبل النصف الثاني من القرن العشرين لم يكونوا يبحثون تصحيح أخطاء تاريخ الفلسفة من خلال تقصّيهم أخطاء وسيلة التعبير اللغوية بل كانوا يتعاملون بالفكر المجرد السابق الاهمية على اللغة. فوجدوا حقيقة القصور في تفكير الفلاسفة وليس في لغتهم التعبيرية عن أفكارهم.
ولم يتم إبطال هذا الرأي الفلسفي الا بعد أن تحولت اللغة الى فلسفة قائمة بذاتها تمتلك مقومات ذاتية خاصة بها ونظام تعبير نسقي يلغي المقولة الكلاسيكية أن اللغة اداة التعبير عن الفكر. فهذه المقولة اصبحت غير مقبولة بعد أن أصبحت اللغة لها فلسفتها الخاصة بها بمعزل عن إنقيادها للفكر وهو بداية الثورة على الفلسفة من قبل البنيوية تحديدا.
صحيح اللغة هي غير الفكر في ناحيتي توليد المعنى وناحية التعبير عنه. ومقولة دي سوسير اللغة وعاء الفكر لا يلغي التمايز الانفصالي الواضح بينهما حتى مع الاخذ بتعبير اللغة والفكر وجهين لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، لكن هذا لا يلغي حقيقة الفكر هو ليس وجه اللغة الآخر فقط. وانما هما الفكر واللغة يتمايزان في فرق بنية هيكلية اللغة التصويرية عن بنية هيكلية الفكر كتجريد سردي لا يخضع لأحكام نظام وقواعد اللغة المستقلة. علما أن حقيقة الفكر هو تعبير اللغة عنها يبقى ثابتا.
رغم أن تفكير العقل هو تفكير صوري يتخذ شكل تعبيرات اللغة في كل تحولاتها من لغة صوت الى لغة منطوقة الى لغة كلام وحوار واخيرا الى لغة تعبير معرفي بالكتابة الابجدية والرموز والاشارات والمعادلات الرياضية وحتى على صعيد لغة الموسيقى في وضع النوتة الخاصة باللحن الموسيقي التي هي لغة تعبير صوتي رمزي إشاري صرف. وهنا بهذه الخاصيّة لا تكون اللغة هي الاصوات التي تشير عليها ابجديتها المرسومة كتابة. اللغة تفكير عقلي يتخذ قولبة محتوى التفكير في شكل.
طالما أن تفكير العقل هو تصور تمّثلي في تعبير اللغة سواء الصامت منها أو المفصح عنه بالصوت اللغوي الشكلي المكتوب أو الصوت التعبيري الخارج عن مصدره الحنجرة واللسان، لذا يكون تمايز الفكر عن اللغة ليس في إختلاف مصدرهما الواحد الصادران عنه العقل في سذاجة قولنا الفكر تفكير عقلي مجرد، واللغة إفصاح صوتي تعبيري هو من وظيفة اللسان والحنجرة. اللغة ليست هي الصوت الذي يتقدم الفكر بل هي المحتوى والشكل المعبّر عنهما في جميع الحالات..
بل في تداخلهما التعبيري الموحد فالفكر هو تصور لغوي صامت وهو ما يتم إستبطانيا داخليا، وتكون أسبقية اللغة على الفكر في تلازمهما التعبير عن موجودات العالم الخارجي وهنا تكون اللغة صوتية غير صامتة. وتكون نتيجة تفكير العقل أن اللغة أصوات لغوية إشارية تعبيرية لمدلولات في حين تكون حقيقة الفكر أنه وعي إدراكي لغوي صامت.
س62: أ. مراد غريبي: فهمت من إجابتك عن السؤال السابق أنكم تميلون إلى تحميل فكر الفلاسفة تاريخ الفلسفة المليء بالأخطاء، أي هم يتحملون وزر أخطائها وليست اللغة في مراوغتها التعبير الصادق عن الفكر الفلسفي؟
ج62: أ. علي محمد اليوسف: عندما نقول فلسفة اللغة هي مفهوم البحث عن المعنى، هنا يتراجع الفكر أمام أسبقية اللغة عليه حيث يصبح مهمة اللغة (قولبة) الفكر قبل التعبير الافصاحي اللغوي عنه. كما أن إبطال مقولة لم تعد اللغة وسيلة التعبير عن الفكر تعطي ضمنيا توكيد ما تريد نفيه في حقيقة لا وجود لفكر بلا معنى لغوي.
وإذا ما إعتبرنا صحة مقولة "لم تعد اللغة وسيلة تعبير الفكر عن نفسه وهو نتاج عقلي"، فدحض هذا الافتراض الوهمي هو أن العقل لا يفكر بتجريد فكري لا يداخله تصورا لغويا في التعبير عن معنى. الفكر لغة العقل الصورة فيها تستبق لغة الصوت. فتفكير العقل هو ليس فكرا لوحده ولا لغة تصورية عن الأشياء لوحدها بل هو في تداخل الاثنين معا. التفكير هو صورة لغوية تتمثّل التعبير عن الأفكار. الفكر من غير إفصاح تعبير اللغة عنه هو صمت انعدمت فيه لغة النطق الصوتية وليست لغة الفكر الصامتة. الصمت الصوتي للغة لا يميت التفكير العقلي لغويا داخليا.
كما أن اعتبار اللغة هي سلوك من نوع خاص مميز هو الأكثر تعقيدا حسب التعبير الفلسفي الذي مررنا عليه، مقولة خاطئة لا يقل خطأها الاشتباكي المتداخل عن خطأ إسقاط التداخل الإشكالي الذي يجمع الفكر باللغة على أن هذه الأخيرة ليست أداة ووسيلة التعبير عن الفكر فقط. من المهم توضيح أن السلوك لا تحدده اللغة، وإنما يحدده الوعي القصدي الذي يعبر تفكير اللغة النابع ايضا من فعالية العقل الادراكية.
كان يتردد في بداية القرن العشرين سؤالا فلسفيا جداليا هل بالإمكان فصل اللغة عن الفكر؟ جدال نقاشي تم حسمه في أدبيات الفلسفة البنيوية بخاصة عند دي سوسير بتعبيره اللغة هي وعاء الفكر. بمعنى أن فصل تداخل شكل اللغة مع محتواها المضموني محال إدراكه عقليا. وفصل الإدراك عن اللغة محال معرفيا.
الإدراك من دون لغة تلازمه عبث لا يمكن تحققه في معنى دلالي في ألإفصاح التعبيري عن شيء أو موضوع، وتجريد اللغة عن تعبيرها التجريدي للأشياء هو محال أيضا فاللغة وجود يلازم كل موجود يدركه العقل في التعبير عنه. والعقل لا يدرك الأشياء والعالم وموجودات الطبيعة بغير وسيلة تعبير تلازم الفكر واللغة معا في دلالة لمعنى شيئي واحد.
إن وظيفة العقل التفكير بالمجردات الذهنية أرقى درجة منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية شيئية ويدركها ظاهراتيا أو ماهويا.
فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته أصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والاشياء في الطبيعة، لكيلا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد أصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي الموضوع المفكّر به من موضوعات مادية أو مجردة إستحقاقها الوعوي الادراكي كما لا تعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها.
يقول سارتر: (ان مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم) وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بايولوجية فيزيائية، أن اللغة لا تفارق جسم الانسان العاقل الناطق بإعتبارها خاصية انسانية يتمايز بها الانسان ويحتازها لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة. وفي نفس المقاربة التعبيرية يقول ميرلوبونتي (الكلمة ايماءة حقيقية لانها تتضمن معناها، وليست عشوائية او طبيعية).
بمعنى حسب اجتهادنا التعقيبي الكلمة وعي قصدي قبل أن تكون دلالة لغوية. والانسان في جنبة محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو أنه وجود عقلي لغوي ناطق. فالإنسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهو صامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده أو مع مجموع أو منفردا منعزلا. وفي كل حالات الصمت التفكيرية يحتاج الانسان التعبير اللغوي التفكيري الصامت او الكلامي الصوتي الناطق عن بعض الاشياء والموضوعات، ويكتم أو يستعصي عليه التعبير عن بعضها لغويا، أو يتعذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الاخر.
كما اعتبر فينجشتاين " الفلسفة كلها عبارة عن نقد معنى اللغة " وهذا التعبير لا يقصد به فينجشتاين نقد اللغة لا على صعيد النقد الادبي ولا على صعيد النقد النحوي الصرف او النقد الثقافي بل كان يقصد نقد اللغة بما هي حمولة (معنى) يحتويه النص كفائض قيمة يلاحقها المتلقي القارئ. وشن ميرلوبونتي هجوما قويا على سارتر في تبنيه معنى اللغة هي تعبير عن الافكار.
س63: أ. مراد غريبي: هل الفكر أم اللغة هو وسيلة التعبير عن النظرة المادية أو النظرة المثالية للوجود؟ أم ليس هنالك فرق بين الفكر واللغة في التعبير عن الموجودات الواقعية والمثالية أو الخيالية على السواء؟ كما تذهب له علوم اللغة واللسانيات المعاصرة في الفلسفة.
ج63: أ. علي محمد اليوسف: لو سمحت لي أستاذ مراد يبدو لي التساؤل خال من تناقض فلسفي.. ولكن لنرى لماذا؟ لأن الفكر واللغة افصاحان متلازمان في التعبير عن وجود الأشياء المادية أو في التعبير عن وجودها الفكري التجريدي المثالي بواسطة التعبير اللغوي أو غير اللغوي..... كيف؟ فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل قبل الإفصاح عنه وجودا ماديا أو مثاليا بواسطة اللغة في العالم الخارجي.
الفكر المادي أو المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه في تعبير الفكر عنهما باللغة المجردة، فالوجود المستقل في الواقع لا تحدده اللغة كونه ماديا أو مثاليا أو اي شيء آخر بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته التعبير عنها. يعبر ميرلوبونتي (ان الانسان كائن مفكر، والحقيقة ان الذي يغير مسار الانسانية انما هو الفكر.) واضح أن التأكيد هنا على فاعلية الفكر كمحتوى وليس فاعلية اللغة بمعنى شكل التعبير بل بمعنى محتوى اللغة هو حمولة فكرية قبل أن تكون شكلا لغويا.
وهنا يكون الفكر يمثل جوهر الوجود وماهيته، بينما يكون تعبير اللغة عنه اصواتا شفاهية او مكتوبة أو لغة اشارية غير منظورة في التعبير عن الجمال مثلا لا تمنح الوجود ماديته او مثاليته بل تكسبه صفاته الظاهراتية، أما الذي يمنح الوجود المادي جوهره هو الفكر، والوجود المثالي صوره الفكرية، في تمييز العقل بينهما إنما هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية والتخليق في العقل في إدراك الوجود واضفاء ماهيته وصفاته عليه قبل إعادته لعالم وجود الاشياء كردود أفعال إدراكية..
ولا يتم تفريق الفكر المادي أو المثالي بمقايسته بالوجود الطبيعي للأشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في استقلاليته في عالم الأشياء، هو غير الوجود الذي تم تخليقه وتصنيعه في تناول العقل له واعادته ثانية بتخليق فكري جديد الى واقع الاشياء. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرز عنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي الا بعد الادراك العقلي لموضوع التفكير اولا، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا. فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المتبادل المتخارج معه، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو أي الفكر بالوجود هويته وصفاته.
والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء واعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود مجرّد، وانما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الادراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.
وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وادراكهما للوجود. وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم القول (ان فعل المعرفة لا يقوم في عملية إدراك الموضوع، بل في فعل خلق الموضوع، وان الوجود لا يوجد في ذاته، انما الفكر هو الذي ينشؤه). فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الادراكية العقلية التناوبية للموضوع؟ وفي تعبيرهما عن وجوده المادي في اختلافه عن التفسير المثالي على مستوى افصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين مختلفين المادي والمثالي؟
اننا في هذه الحالة نفهم ان الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الادراك الوجودي للأشياء في الواقع عقليا (صمتا) من دون الافصاح عنه باللغة. بمعنى ان تخليق واعادة انتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته له الحواس، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكير، وتنقلب المعادلة في الاسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبإدراكه المتعيّن الجديد.
وان بدت (اللغة والفكر) كليهما متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها ادراكا، كما من المتعذّر إعطاء أسبقية لإحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا ام مثاليا.
فاللغة قرينة الفكر في عدم امكانية التفريق بينهما في تعبيرهما على الاشياء الموجودة في العالم الخارجي. والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وادراكها. واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا اهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّر عنه. فاللغة لا تعبّر عن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري المدرك عقليا.
عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق اللغة المجردة او المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل في اعتباره الجدل او الديالكتيك المثالي يتم بالفكر المجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع او الوجود الحقيقي المادي للأشياء.
س64: أ. مراد غريبي: هل تجد في فاعلية الإدراك العقلي أسبقية على تعبير الفكر واللغة عن أشياء العالم الخارجي وموضوعات الخيال الذاكراتي؟
ج64: أ. علي محمد اليوسف: أرى العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكر المتعالق معه ان يكون ماديا ام مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي او المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة وكلاهما مستمدان من تفكير العقل أي تفكير ردود الافعال الصادرة عن المخ عبر منظومة الجهاز العصبي الموجودة في خلايا قشرة الدماغ الادراكية. وبهذا يكون التمييز بين مادية الفكر أو مثاليته هو في علاقة الفكر كوعي نوعي عقلي يتم في الدماغ اولا في ادراكه وفهمه الوجود او الموضوع، يليه تعبير فكري لغوي نوعي مختلف يحدد علاقته بالوجود الواقعي للأشياء والظواهر المختلفة في الطبيعة ثانيا ان تكون مادية أم مثالية.
س65: أ. مراد غريبي: على ضوء ما ذكرتموه كيف يكون توضيحكم لاختلاف الفكر المادي عن الفكر المثالي حسب التفسير التقليدي الذي يرى أن الاختلاف يتم بنوعية الوعي في أسبقية المادة أو الوعي في أسبقية الفكر؟
ج65: أ. علي محمد اليوسف: الفهم المادي يذهب الى أن الفكر انعكاس لوجود الاشياء في ديناميكية متخارجة بين وجودها والفكر المدرك لها عقليا، بينما يرى الفكر المثالي ان لا وجود مستقل للأشياء سابق على الوعي بها صوريا في الذهن فقط. وان إدراك وجود الأشياء يتم في صورها التي يستلمها العقل عبر المدركات الحسية لها، ولا دور للغة أكثر من تحقيقها دلالة المعنى الفكري الصادر عن العقل المراد توصيله من غير ما نتصور ونعتقد خطأ أن اللغة هي التي تحدد الوجود المادي باختلافه عن المثالي او بالعكس. اللغة توصيف لفينوميلوجيا الفكر أي ظاهرياته كشكل ومحتوى في ايعاز من العقل، والفكر يمثّل جوهر الاشياء المعبّر عنها لغويا.
فوجود الأشياء الطبيعي المستقل خارج الادراك هو الذي يسبق نوعية الافكار المفسّرة له بوسيلة التعبير اللغوي. وان اللغة والفكر متلازمان اثناء ممارسة العقل او الدماغ فعاليته الحيوية التخليقية جوّانيا في معالجة أيّا من المواضيع التي تنقلها الحواس له ماديا او صوريا، وكذلك يقوم العقل بنفس الفعالية العقلية في تأمله تخييليا موضوعا ما لا وجود له في عالم الوقائع المادية والاشياء وانما في عالم الخيال الذي ابتدعته ذاكرة العقل نفسها.
وعن كليهما (التفكير المادي والتفكير المثالي) يعطي العقل نوعا من التفسير المتعّلق بتمايز فهم شخص عن غيره، في حال تنفيذ الفكر واللغة نوعية الفكرة العقلية المختلفة عن الشيء في تنوّع واختلاف تفسير العقل لها من شخص لآخر ان كان تفسيره وفهمه ماديا أم مثاليا حسب المنهج الذي هو في تفكيره مسبقا قبل معالجته مدركاته.
من المهم التأكيد الى ان اللغة والفكر هما وسيلة العقل في الافصاح عن تخليقه وجود الاشياء في العالم الخارجي من جديد. وليس للفكر او اللغة اي افصاح متداخل عما يقوم به العقل في ادراكه الوجود والاشياء في تفكيره الصامت. اننا لا نستطيع الحكم على ان خلايا الدماغ تفكر تجريديا صوريا ما لم نرى تعبير اللغة عن الاشياء. الصمت تفكير ربما لا يكون لغويا صوريا تجريديا الا بعدما نجد العقل يعبر عن مدركاته بصور يتمثلها تجريديا مصدرها الواقع أو الخيال. خير تدليل على هذا عندما يفصح المجنون عن صمته لغويا لا نفهم باي لغة صوتية كان يفكر وهو صامت.
س66: أ. مراد غريبي: هل برأيكم تكون ردود أفعال التفكير العقلي بمدركاته، يتم بتعبير اللغة والفكر، أم تجدون هناك لغة خاصة موحية تقترن بالتعبير اللغوي بحركات الجسد؟
ج66: أ. علي محمد اليوسف: ان اللغة والفكر فعاليتهما الحقيقية في التعبير عن الموجودات والاشياء في الواقع المادي خارج العقل بعد تخليقها بالذهن وإعطاء تفسيره في وجودها المستقل في العالم الخارجي.
ان تفكير العقل بموضوع مادي موجود في العالم الخارجي، او بموضوع خيالي يبتدعه الخيال مادة لتفكير العقل داخليا، هما فعالية واحدة يقوم بها العقل وتحديدا الدماغ بمعزل عن تدخل اللغة والفكر الافصاحي لما يقوم به العقل من تخليق للفكر في دراسة موضوعه وعملية تخليقه من جديد.
ويبدو هنا ايضا اننا وقعنا في اشكال وتعقيد أعمق علينا توضيحه عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته للاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس وللفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير داخليا (صمتا) على شكل حوار فكري داخل العقل، او افصاحا عنه في التعبير اللغوي في وجود الاشياء المادي في الواقع او المتخيّل كناتج عقلي قبل كل شيء.
والوجود المادي والوجود التخيّلي لا يختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبير عن كليهما، فالوجود المادي الواقعي في عالم الاشياء تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في الوجود المادي فقط، بل في غيرها من وسائل التواصل ربما كانت لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي في الفنون والجمال او غيرها من وسائل إكساب الموضوع المتخيّل حضوره الوجودي المدرك دونما الحاجة الى اللغة الصوتية الشفاهية او المكتوبة. وانما بلغة الابداع الخيالي الذي تكون فيه اللغة والفكر وجود مضمر في اللوحة او التشكيل الجمالي. فالتعبير الجمالي لا يحتاج اللغة التعبيرية الفكرية في التعبير عن وجوده المادي.
وإلا أصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها؟ تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وإدراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية العقل توظيفه الفكر – اللغة في إدراك وجود الاشياء خارج التفكير العقلي وليس بداخله. تعبير لغة الجسد بالحركات الايحائية الصامتة سواء كانت حركات ايروسية او حركات تعبيرية راقصة وحتى دينية مثل اليوغا او رقص الباليه او حركات تمثيلي لمشهد مسرحي موحي صامت هي لغة من نوع يخضع لتفكير العقل بالتوصيل ويعدم اللغة الصوتية في التواصل حين تصبح حركة عضو من الجسم كفيلة بايصال لغة ايمائية ايحائية.
س67: أ. مراد غريبي: كيف تفسر لنا تخارج العقل الجدلي مع الفكر واللغة؟
ج67: أ. علي محمد اليوسف: لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل في تخليق الافكار بالصمت التفكيري داخل العقل، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل لإدراك الاشياء خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي التعبير عن وجودها الفكري – اللغوي بعد تخليق العقل لها من جديد كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس. فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجته الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل. هنا قولنا مجازيا داخل وخارج العقل لا يوجد غير لغة تعبير واحدة لكن اين الاختلاف؟
الاختلاف بمعنى داخل العقل يكون التفكير حوارا صامتا في تعطيل اللغة المنطوقة أو المكتوبة، وفي خارجه يكون وجود الاشياء المستقل في العالم الخارجي دونما وصاية العقل عليها، وتكون الموجودات من حصة ووصاية اللغة والفكر المعبّر عنها. وهذا يستلزم منا تبيان ما الفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وتفكيره تعبيرا لغويا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود؟
س68: أ. مراد غريبي: كيف يفكر العقل داخليا وما هو موضوع ادراكه، وكيف يفكر العقل خارجيا وما هو موضوع ادراكه؟
ج68: أ. علي محمد اليوسف: للإجابة عن هذا التساؤل كيف يفكّر العقل داخليا، وكيف يفكّر خارجيا؟ اجد كي تكون فكرة الاجابة واضحة علينا التفريق مبدئيا بين امرين، الاول المثيرات التي تصدرها موجودات العالم الخارجي في استثارة الحواس نقلها ( الاحساسات) الصادرة منها على شكل (انطباعات) مخزنة مؤقتة بالذهن. هي تمثل اولى درجات تفكير العقل خارجيا في ادراكه العالم الخارجي.
الثاني ام المثيرات التي تصدر عن اجهزة الجسم الداخلية بايولوجيا مثل الاحساس بالألم او بالجوع او بالعطش وغيرها نسميها (الاحاسيس) الداخلية، وكذلك عندما تصدر مثل هذه الاحاسيس عن حاجة الجسم اشباعه حاجات غريزية مثل غريزة الحب ، ممارسة الجنس، الضمير، الوجدانات، العواطف بأنواعها، هنا يكون تفكير العقل داخليا استبطانيا وموضوعه الادراكي اشباع رغبات و غرائز الجسم الجوانية.
ثمة من يقول كيف يكون تفكير العقل بالنسبة للخيال في ابداعه موضوعات لا هي موجودات انطولوجية خارجية ولا هي اشباع غرائز وحاجات بيولوجية داخلية. فاين نضع هنا تفكير العقل لا خارجيا ولا داخليا؟؟ هنا يكون تفكير العقل مزيجا بين الشعور واللاشعور أي بين مزج الخيالات بالواقع في انتاج الابداعات الفنية والجمالية والرسومات والمنحوتات والاجناس الادبية مثل الشعر والقصة والرواية وغير ذلك. بالحقيقة أن العقل في كلا التفكيرين يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا عدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.
تفكير العقل داخليا يتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس ادراكيا للعقل، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني لا علاقة له بالمادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع في الخيال ولا وجود واقعي مادي لها.
ولا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا للتفكير. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عنه بعد تخليقه الجديد له، او بغير تعبير اللغة عن موضوع التفكير الخيالي وكذلك عن التفكير الواقعي.
اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وقلنا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به. وان العقل من قدراته الذاتية انه يفكر خياليا بموضوع لم تقم الحواس او احداها بنقله له.
س69: أ. مراد غريبي: هل يوجد منطق فلسفي غير علمي يوضح لنا كيف تتم آلية تفكير العقل أو المخ في التعبير عن مدركاته الخارجية ومواضيعه الداخلية؟
ج69: أ. علي محمد اليوسف: هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الأشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما ويعقل موضوعاته أيضا، وفق أية الية يتم الادراك العقلي فهو غير معلوم علميا أكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي في الذهاب الى تخصيص مناطق ارسال الخلايا العصبية الذبذبات الكهربائية التي بضوئها تتحدد وظائف المناطق العصبية المسؤولة عن معرفة عمل الجهاز العصبي.
فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.
اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه. اي بمعنى ان التفكير العقلي لا يدرك الانسان الآخر ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون تموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.
فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. وإذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكر من نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التأثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية التخليقية التي يقوم بها العقل.
فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالإخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به عقليا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء. متمثلا في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي. الوجود الادراكي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.
س70: أ. مراد غريبي: التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي التفريق بين الفكر واللغة. إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟
ج70: أ. علي محمد اليوسف: هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبير ليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لأنه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل. في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.
ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.
جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال إدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود.
في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) اصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالأحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.
حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا. وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر. اي ان العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع) المدرك في زمن واحد. وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي. ان إدراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية، لا يعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية لها بعشوائية من دون تراتبية يعتمدها العقل.
ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل.
نذّكر ان علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور و فنجشتين ودي سوسير و جومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة. باعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين إدراكاته للموجودات والاشياء الخارجية.
س71: أ. مراد غريبي: كل هذا التداخل الذي ذكرتموه بين تداخل الفكر واللغة والعقل، الا اننا نجد هناك من الفلاسفة من يجيز فصل اللغة عن الفكر او فصلها عن خاصية العقل الادراكية ما تعليقكم على ذلك؟
ج71: أ. علي محمد اليوسف: كي أكون واضحا معك استاذ مراد اقول اننا نجازف بالمباشر قولنا انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لأنه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. لكن هذا الراي مغرق بخطئه من حيث يتجاوز بديهة ادراكية ان الفكر هو تصور لغوي، أي لا يوجد فكر مجردا عن شكل لغة التعبير عنه. حتى العقل حينما يفكر يعتمد تجريد صور اللغة في التعبير عن الفكر.
للتوضيح أكثر، التفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة الصوتية او ابجدية كتابية فهو الهام تخييلي في انتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي في لوحة او منظر طبيعي، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام او لغة الكتابة. لكنما تبقى الحقيقة الماثلة المتعذر تجاوزها انه حتى اللون باللوحة هو لغة غير ابجدية.
س72: أ. مراد غريبي: بعد كل الذي ذكرتموه هل تجدون امكانية فصل الفكر عن اللغة على صعيد الفلسفة ام لا؟
ج72: أ. علي محمد اليوسف: انا مع محال فصل الفكر عن اللغة حتى على صعيد الايهام الفلسفي في تمرير بعض القضايا المتعالقة. ما نحاول المراوغة بتمريره دائما ما تصدمنا حقيقة عدم امكانية فصل الفكر عن اللغة لانهما دلالة معنى واحد.
نأتي الآن الى معالجة أصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها.
يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط بموضوع الفكر الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.
وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج الدماغ او العقل في وجود الأشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.
وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها بالمخ، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.
بمعنى توضيحي ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.
وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن العقل، وايضا من الفكر واللغة.
لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس وصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.
ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه إفصاحيا لكنه يلزم حضور التفكير. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل.
فقد نادى سارتر اننا يتوجب علينا مغادرة (انا أفكر)، وطلب هوسرل بقصدية كموضوع مفكر به، واخيرا هيدجر الذي نادى بان لا وجود لذات من غير ديناميكية فاعلة تمتاز بها. بل واضاف بأكثر وضوحا انه لا وجود لذات بلا عالم، والانا لا تحقق وجودها منعزلة لانها اولا واخيرا هي وجود – في – عالم.
س73: أ. مراد غريبي: كيف تفسر إعجاز الدماغ بالتفكير؟
ج73: أ. علي محمد اليوسف: كنت ذكرت في مقالات منشورة لي ، ان عمل الدماغ في فهم الوجود وتخليقه ثانية له، لا يتم وفق عشوائية اعتباطية، ولتوضيح ذلك في هذه الاسطر من الإجابة بتلخيص شديد: من البديهيات العلمية في علم الفسلجة (علم دراسة الوظائف العضوية لدى الكائن الحي، الانسان على وجه التحديد في الطب البشري)، هو استحالة تفكير الانسان في صورتي حدثين اثنين في وقت واحد، في لحظة واحدة، في ومضة واحدة، يمكن لأي انسان اجراء التجربة على نفسه سيجد انه يفشل حتما.
مجموع الافكار الادراكية الصورية او الحسّية او الحدسّية الواصلة الى الدماغ عن طريق الحواس الخمسة في الجهاز العصبي والراجعة منه الصادرة عنه كردود افعال انعكاسية، لا يتعامل الدماغ معها بعشوائية غير منظّمة ولا من غير تراتيبية في الاسبقية. بل يعمل الدماغ والجهاز العصبي مع الافكار الواردة له من الحواس في انتقائية وفي تراتيبية معقدة النظام، هي خاصية الانسان الذكي في تعالق وظيفتي المحسوسات او المدركات مع وظائف الشبكة العنكبوتية للأعصاب الناقلة للإحساسات بالأشياء، في الاستقبال الوارد له، والراجعة الصادرة منه الى الواقع في وجود الاشياء والفكر المعّبر عنها في ظاهرياتها وفي جواهرها.
الاستجابة الادراكية الحسية التي هي رد فعل الجهاز العصبي الارادي او غير الارادي المستقبل منه او الراجع المتصل بالدماغ بما تنقله اليه الحواس الخمسة، ويمكننا اضافة حاسة سادسة هي حاسة الحدس او التنبؤ والتخاطر.
فالذي يرد الدماغ عن طريق الحواس من مدركات ينقلها الجهاز العصبي في تيار فائق السرعة غير المنظورة ولا المتوقعة من المحسوسات في العالم الخارجي الى العقلي المدرك في سطح القشرة الدماغية التي تحتوي على ملايين الخلايا العصبية، لترسل بعدها بعض هذه الخلايا العصبية في الدماغ والجهاز العصبي ردود الافعال المناسبة لما يتوجب على الانسان معرفته او القيام به، وتكون ردود الافعال كاستجابة لإيعازات الدماغ في ومضة زمنية لا يتعدى الجزء الالف من الثانية. (أجهل تحديد زمن الومضة الانتقالية من الدماغ بواسطة الجهاز العصبي علميا بضوء معرفتي سرعة انتقال الضوء المقدّرة علميا افتراضيا هي ثلاثمائة ألف كيلو متر /ثانية).
ماهو مهم عدم استطاعة الدماغ إعطاء ردود الافعال الانعكاسية سواءا منها الإرادية او اللاإرادية لحدثين اثنين في ومضة كهرومغناطيسية او ومضة واحدة في جزء جزء جزء من الثانية الواحدة يستلمها الدماغ بواسطة الجهاز العصبي وينقلها الى احساسات الانسان ثانية، ومن الثابت علميا وطبيا ان جميع الاستجابات الانعكاسية الصادرة عن الدماغ تجاه الحواس لا تنطلق من (فص) مخّي واحد موجود في قشرة الدماغ الامامية. الذي يحتوي ملايين الخلايا العصبية المسؤولة عما يرده ويصله عن طريق الحواس. مع هذا ليس بمقدور (المخ) ان يرسل ايعازين اثنين في لحظة واحدة او ومضة واحدة، بمعنى ان الدماغ وتحديدا المخ والجهاز العصبي المرتبط به ينشغل بالاستجابة لردود افعال الحواس تباعا تراتيبيا تجاه المحسوسات ووجود الاشياء التي سبق للدماغ وان أدركها عن طريق نقل الحواس الموصلة للمدركات الحسّية الى الدماغ واعادة ردود الافعال الصادرة عنه بشأنها.
مثال ذلك حين يجرّب احدنا وضع يده في ماء مغلي حار جدا ، ويستخدم في نفس اللحظة اليد الاخرى في وضع شيء ما بفمه ليتذوقه نجد ان الدماغ يعجز عن اعطاء استجابتين كردين فعلين انعكاسيين للاثنين معاً في ومضة واحدة بل يجب ان يكون لاحدهما في رد الفعل الانعكاسي الصادر عن الدماغ والجهاز العصبي أسبقية تراتيبية زمنية على رد فعل الدماغ بالنسبة لرد الفعل على الآخر الثانوي المدرك حتى لو كان الفارق بين الاستجابتين لا يتجاوز جزءاً من الف من الثانية، وحتى لو كانت ردود الافعال الصادرة عن الدماغ من نوع ردود الافعال الانعكاسية اللاإرادية.
ومثال آخر حين تسمع اغنية من المسجّل بجانبك وانت تقرأ في صحيفة او كتاب عندها يستحيل على الفكر الذهني المتلقي في الدماغ فهم مفردات الاغنية واستيعاب معانيها في نفس لحظة تصفّحك الصحيفة ومحاولتك فهم ما تقرأ.
الشيء المعجز ليس فقط ان هذه العمليات العصبية التي تجري ما بين الحواس والجهاز العصبي الناقل ادراكات الاشياء استرجاعيا تناوبيا الى الدماغ مع فعل الادراك للشيء او تصوره في الذهن، انها تجري هذه العملية في اقل من جزء جزء جزء من الثانية، وربما بأسرع من سرعة الضوء. وانما (الاعجاز) الاهم هو في اختيار الدماغ لأسبقية ردود الافعال الواردة اليه عن طريق الحواس في النوعية والاهمية التي تقي الانسان من المخاطر واعادتها للإنسان المدرك في حدثين وضع اليد بالماء المغلي والاخرى وضع شيء بالفم لتذوقه. وهكذا في تعامل الحواس والمخ مع آلاف الادراكات الحسية الواردة له، وايعازات الدماغ الاجابة الدقيقة المطلوبة منه عليها.
ولو اننا عدنا للمثل الذي اوردناه في ايّهما أفضل في اسبقية الاستجابة الدماغية في الرد الانعكاسي عليه!؟ سحب اليد من الماء المغلي ام فحص حاسة التذوق للشيء الذي وضع بالفم!؟ نجد ان إيعاز الدماغ بضرورة سحب اليد من الماء المغلي يسبق إيعاز الدماغ في إعطاء الاستجابة لنوعية تذوق الشيء باللسان.
في هذا المثال التجريبي نلاحظ تأكيد الدماغ على نوعية وأهمية الاستجابة الانعكاسية اللاإرادية لعدد من المدركات الحسية المنقولة له بواسطة الجهاز العصبي عن مصدر الحواس وترتيب الدماغ لنوعيتها وأهميتها.
في أسبقية الاستجابة يكمن فيها لغز تفضيلي إعجازي في وقاية الإنسان من المخاطر وتجنبّها، ليس سهلا على العلم الطبي تفسيره وعلم دراسة فسلجة الدماغ والجملة العصبية تحديدا الإجابة عليه على قدر فهمي اذ ربما العلم وصل إلى تعليل كل هذه الأمور التي أتحدث عنها كإعجازات للعقل والجهاز العصبي المرتبط به وهي كذلك برأيي في مقدرة علم الدماغ وفسلجة وظائف الجهاز العصبي تفسيرها أم لا!!.
الإعجاز التفضيلي في الاستجابات الانعكاسية للإيعازات الصادرة عن الدماغ الإرادية منها أو غير الإرادية تتوخى وقاية الإنسان وسلامته من الخطر الذي قد يسببه وضع اليد في الماء المغلي وتأخر سحبها، مع إرجاء بقية ردود الأفعال الانعكاسية الثانوية التأثير على سلامة الإنسان ووقايته من الخطر إذا ما تلازم حضورها مترافقا مع الأفعال المحدّقة الخطر بالإنسان .
س74: أ. مراد غريبي: نريد الحديث عن موقف فلاسفة التحليلية المنطقية من فلسفة اللغة. وكيف حصلت الاختلافات بينهم؟
ج74: أ. علي محمد اليوسف: في الوقت الذي ذهب فيه فينجشتين في الوضعية المنطقية مجموعة فييّنا، التي جرى تعديلها لاحقا فلسفيا إلى التحليلية المنطقية الانجليزية بزعامة بيرتراند راسل، وجورج مور، وايتهيد، فلاسفة جامعة اكسفورد والتي انضم لها كل من كارناب، فينجشتين الذي كان أستاذا للفلسفة في جامعة كامبريدج.
كان لفينجشتين رأيه الخاص في اعتباره اللغة منطق قوانينه قبلية مستقلة عن التجربة لكنها أيضا تحصيل حاصل أنها لا تعني شيئا. ولا تدل على شيء في التجربة. فما قوانين المنطق إلا قواعد نحوية تنّظم تنظيما ميّسرا بفضاءات التجربة الحسّية. وأضاف أن المنطق يتكوّن من قواعد تركيبية أي تنّظم تركيبا وهذه القواعد تستخرج من مبادئ تم اختيارها بطريقة تحكميّة. ورأيي الشخصي ألخصه بالتالي:
كل ما هو قبلي معرفي تجريدي مستقل عن التجربة الإدراكية لا معنى له ولا يعبّر عن مدرك حقيقي مادي ولا عن موضوع خيالي.
أصحاب الوضعية المنطقية الجدد وجدوا إمكانية التحدّث عن اللغة بوسيلة إستخدام لغة ثانية أطلقوا عليها "لغة اللغة" والتفلسف ما هو إلا شرح معنى لغوي بمعنى لغوي آخر. لغة شارحة بعدية للغة قبلية سابقة عليها في ملاحقة فائض المعنى.
اللغة هي إحساس نسقي منّظم لا علاقة له بالإدراك الشيئي حسب فلسفة اللغة ونظرية المعنى، وإحساس اللغة يكون إحساسا زائفا حينما لا يكون تعبيرا لمعنى واضح الدلالة حسب المناطقة.
بحسب المناطقة الجدد لا فرق بين زيف الإحساسات حينما تكون تعبيرا لغويا لا معنى له. ولا يمكن التحقق من صدقيته، لذا يبقى الإحساس موضع شك.
العديد من المباحث المفاهيمية لا ينطبق عليها المنهج التجريبي النقدي الذي تنادي به الوضعية الجديدة. فكل شيء بمفهوم العلم هو موضع شك، يتطلب تبيان جوانب الإدانة فيه وتصويب أخطائه.
س75: أ. مراد غريبي: كيف أراد كارناب في انشقاقه عن المنطقية التحليلية الانجليزية ربط فلسفة اللغة بالعلم. وهل أخفقت التحليلية الانجليزية في تحقيق أهدافها؟
ج75: أ. علي محمد اليوسف: يميز رودولف كارناب (1891-1970) بين عدة وظائف للغة إما أن تدل على معنى أو تعبّر عن رغبات وعواطف، ومن واجب الفلسفة حسب المنطقية الوضعية أن تحصر نفسها في تحليل لغة العلم باستخدام المناهج المنطقية التي أساسها الرياضيات، وما عدا هذه المهام فاللغة تبقى مبحثا ميتافيزيقيا لا معنى له، وخارج ميدان مباحث الطبيعة. وأدان كارناب فلاسفة اللغة الذين يضعون قيودا على الإستعمالات اللغوية، بدل الاهتمام بتجديد الشروط التي تطابق اللغة معناها.
هذه المهام للغة التي لخصّها كارناب لا تقول جديدا ما عدا يجب أن تقوم الفلسفة على تحليل لغة العلم بمنطق الرياضيات كما أسس له فريجة وتبّناه بيرتراند راسل ومن قبله دي سوسير، فليس سهلا أن تكون الفلسفة تابعة للعلم بمجرد أنها تمتلك منطقا منهجيا تحليليا للعلم. وهذا لا ينفي بل يؤكد حقيقة تاريخ الفلسفة لم تكن تابعة للعلم تقتفي آثاره بل كانت توازيه على الدوام وتتداخل معه في نطاق ضّيق.
العلوم الطبيعية قاطبة وليس فقط العلوم الانسانية تقوم على مبدأ إستقلالية منطق تجريدي إشاري علاماتي من المعادلات الرياضية لا يخضع الى نقد لغوي عادي سردي كما يجري في لغة نقد سرديات الأدب والايدولوجيا وعلم الاجتماع والأديان التي أطلقت عليها ما بعد الحداثة السرديات الكبرى..
وأدان ريشنباغ وهو من فلاسفة الوضعية توّجه كارناب وأشياعه قائلا: أنهم يخطئون حين يحاولون البحث عن يقين مطلق، حيث ليس هناك من بديل، وإنما مجرد احتمال. ومّيز ريشنباغ بين التحقق التكنولوجي في عصر ما، والتحقق الفيزيائي الذي لا يتعارض مع قوانين الطبيعة.
انتهى كارناب في أخريات تطوره الفلسفي الفكري الى أنه يجب التوّصل الى تعريفات دقيقة للمفاهيم الأساسية التي يستخدمها العلم في إطار لغة صورية تماما.
كما انتهى جورج مور على العكس من لغة المنطق ضرورة العودة إلى لغة الناس العاديين الجارية المتحاورة معتبرا ذلك الشرط الأساسي للتحليل العلمي الصحيح. وربط التحليل الفلسفي بكل من الإدراك العام أو الإدراك الفطري.
يذهب بيركلي وهو من فلاسفة القرن الثامن عشر ولم يكن عضوا في حلقة اكسفورد التحليلية أنه يمكننا تحديد المقصود بوجود" دون اللجوء إلى أدوات لغوية، وجود الشيء هو وجود إدراكه الشيئي. كما اعتبر أفلاطون الوقائع المعنيّة هي أفكار أي هي كيانات مختلفة تماما عن كيانات العالم المحسوس. وعن أرسطو قوله: الإنسان لا يمكنه التحدث إلا إذا تحدّث عن شيء ما مسّبق بذهنه. وأضاف التعبير عن الوجود ليس فقط أن تقول ماهو موجود، وإنما أن تقول أي نوع من الوجود تقصده. وعن بارمنيدس مقولته الوجود موجود، وعدم الوجود غير موجود، فأنت لا يمكنك إدراك شيء أنت تخلق وجوده بتفكيرك وتدركه بإحساسك.
س76: أ. مراد غريبي: كيف ترون علاقة اللغة بالإدراك والخيال؟
ج76: أ. علي محمد اليوسف: الوجود المادي للأشياء والمخيال بموضوعات الذاكرة إستبطانيا تكون سابقة على إدراكها المادي خارجيا، وخياليا استبطانيا داخليا.. وسابقة على تعبير الفكر واللغة عنهما في كلا المنحيين. لا تفكير ولا لغة ولا إدراك خارج فاعلية العقل.
السؤال بماذا يختلف ما هو موجود مادي، عما هو غير موجود مادي بالنسبة للفكر واللغة؟ الفرق هو في تعبير اللغة فقط بين ماهو موجود مادي خارجي وبين ماهو خيالي تصوّري داخلي. إدراك الوجود لا يتم بغير دلالة عقلية له، لذا يكون الوجود مصدر إدراك العقل، ولا يكون إدراك العقل هو مصدر تحقق موجود مادي لن يتحقق الا بالذهن فقط في مرجعية العقل. لا يمكننا معرفة موجود بغير دلالة تعبيرية لغوية عنه. إدراك الشيء هو أن تتصوره بالفكر واللغة.
حتى الحواس لا تنقل الإحساسات عن الأشياء بغير تعالق ما تنقله في تصوّر وتمثّل لغوي. الموجود المادي هو موضوع لتعبير اللغة وتفكير العقل، عندما نقول الموجود المادي هو لغة تجريد انطولوجي لذلك الموجود. وحينما نقول الموجود المادي هو لغة متموضعة في الأشياء والمواضيع التي يدركها العقل، وإدراك الشيء المادي حسيّا هو إدراكه لغويا، كما وإدراك الموضوع الخيالي هو إدراك وتعبير لغوي مجرد ايضا.. جميعها فعاليات تجري داخل منظومة العقل الادراكية.
أمّا حين نقول مع أفلاطون الموجودات ومدركات العقل هي أفكار فهو صحيح تماما لا يحتاج أدنى نقاش، فاللغة والفكر المعبّران عن موجود متعّين أنطولوجيا، يكون دليل قاطع أن الموجودات سابقة على إدراك العقل لها وتعبير اللغة والفكر عنها. وهو تعبير منهجي مادي. أما الوجه الآخر المقابل في هذا الطرح فهو يقوم على أن الموجود هو لغة مستقلة في التعبير عن دلالة الموجود ماديا، فالتعبير لغويا عن شيء أو عن موضوع من الخيال لا وجود مادي له بالواقع، فتكون اللغة تفكير لغوي تجريدي صرف لا علاقة تربطه بالموضوع المعّبر عنه سوى جدل علاقة التأثير بالمؤثر على صعيد الفكر فقط.
جدل علاقة التأثير والمؤثر بين الموضوع في وجوده المادي وتفكير العقل وتعبير اللغة عنه، هو بالمحصلة يقود الى تطوير الفكر المتعالق مع موضوعه، وتسريع التطور المادي لموضوع الفكر بقدراته الذاتية وليس بقدرات التفكير الذهني به.. جدلية الفكر بالمادة تبقى جدلية غير حقيقية، وسبب ذلك هو إنعدام المجانسة النوعية بين الموجود المادي وتفكير العقل عنه. فالوجود مادي وتفكير العقل هو تجريد لغوي. جدل تناقض الاضداد لا تتم الا داخل مادة او موضوع يحمل المجانسة التكوينية الواحدة في داخله بين سالب وموجب تنبثق عنه الظاهرة المستحدثة الجديدة التي هي بدورها تحمل جدل تناقضها الداخلي ايضا.
س77: أ. مراد غريبي: نريد ختم هذه المحور بفهمكم الفلسفي للماهية أو الجوهر؟
ج77: أ. علي محمد اليوسف: يقول أحد تلامذة السفسطائي جورجياس والذي أصبح من تلامذة سقراط فيما بعد قوله " أنا لا يمكنني أن أحدد ماهية الشيء، وإنما يمكنني فقط أن أحدد بعض الخصائص التي يمتلكها هذا الشيء، وهناك ما هو أسوأ من ذلك فأنا لا يمكنني القول عن شيء محدد ما ليس هو عليه ولا حتى أن أقول عنه غير موجود."
ما يقصده تلميذ جورجياس لا يمكننا تحديد ماهيّة الشيء، إنما كان وضع بذلك بذرة فلسفية في حقل فلسفي نقاشي دام قرونا طويلة، وتناول كانط وهيجل وفلاسفة الماركسية وفلاسفة الوجودية جميعا تلك المقولة. وهؤلاء أكدّوا عدم إمكانية إدراك ماهية الشيء بل المتاح إدراكه هو الصفات الخارجية له فقط...
فلاسفة الماركسية لم يعيروا إهتماما كبيرا لهذه الاشكالية الفلسفية، بل إكتفوا بمعرفة صفات الشيء تغني عن معرفة ماهيته أو جوهره، بإستثناء سارتر قوله:
لا يشترط أن يكون لكل موجود أو شيء جوهرا علينا التفتيش عنه وملاحقته. فالماهية وعلاقتها بالصفات للشيء أو الموجود المادي الواحد، من غير الانسان كانت محط إختلاف ونقاش دائم.
ذهب سارتر في تفرّد عن فلاسفة الوجودية الذين ارادوا ترك القضّية معلقة لا حل لها. أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يمكننا تأكيد ماهيته. ماهيّة الانسان ليست موضوعا أو معطى مجّاني يتعالق مع الانسان في وجوده الطبيعي، بل الماهية عملية تصنيع ذاتي يقوم بها الانسان ذاته. جوهر أو ماهيّة الانسان عملية سيرورة دائمية من البناءات التراكمية والخبرات المكتسبة للإنسان.
إختلاف الوجود بإختلاف موجوداته التي يحتويها وتشّكل مضمونه. لذا تكون نوعية الوجود وإدراكه تتم بدلالة موجوداته. فالوجود مفهوم لا يحده غير موجوده الذي يحتويه. كل موجود يستمد معناه من محتواه النوعي.
عبارة انستيسين تلميذ جورجياس الملغمة قوله: "لا يمكنني القول عن شيء محدد هو ما ليس به ولا حتى أقول عنه غير موجود"، فهو أراد بذلك أن الحواس تخطيء الإدراك في الإحساسات، وتكون عاملا أوليا في تضليلها العقل.
الشيء الثاني أن تعبير اللغة هو الآخر قاصر عن الإحاطة في التعبير عن مدركاتها الموضوعية بتمامها. فهل تعبير اللغة عن إدراك الشيء هو تعبير حقيقي عنه أم هو مجرد صورة فوتغرافية خارجية فقط لما تلتقطه الحواس؟
انتهى ويتبع
حاوره: ا. مراد غريبي
المثقف – مرايا فكرية
2 – 11 – 2021م