مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (9)

خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (1)

س27: أ. مراد غريبي:  سؤال الدين في جزءٍ كبير منه ينصبُّ حول إشكاليات الوعي والتجديد من جهة وأيضا جدليات التراث والتاريخ والمعاصرة والحداثة … دكتور سامي: ماذا يعني الدين بالنسبة لك في علاقته بالفلسفة والرؤى التجديدية؟ وهل الدين نقيضٌ لكلِّ ما هو فلسفي في حين فلسفة الدين في الغرب شكلت تحولا جوهرياً في بزوغ عصر الأنوار، أم في عالمنا على العكس من ذلك؟

ج27: د. سامي عبد العال: تعبيرٌ دقيقٌ أستاذ مراد غريبي حين قلتم: سؤال الدين. لأنَّ هذا الاستفهام ينطلق من جانب الإنسان، وأيضاً مُوجَّه إلى الإنسان في المقام الأول. بكلمات واضحةٍ: أنَّ الدين سؤالٌ لا يذهب إلى الدين فقط كوحي دون أشياءٍ أخرى، إنما إمكانية الدين هي ذاتها إمكانية الأبعاد الإنسانية إجمالاً.  وليس ينتظر الدينُ من الإنسانية أكثر مما تنتظره هي من نفسها بما هي كذلك. إنّه سؤال يحرك معه قضايا كثيرة بفضل التواجُد في الحياة كافةً لا أقل. الدليل على هذا: أنَّ الأديان تحملُ في طياتها دلالة المظاهر البشرية وتُنظّم علاقات الأفراد وتبني المجتمعات وتؤسس لارتباط السماء والأرض وتكشف العوالم فيما يمس مضامين الوحي، بل وتحدد سيرة الموت والمصير. وذلك كله بقطع النظر عن اختلاف الأديان والموقف الفكري منها قُرباً أو بُعداً.

إذن يجب ألّا تنطلق "دعاوى التجديد" دون فهم التراث وتحليل وضع الدين إنسانياً بجميع محمولاته. التراث والتطور يدخلان ضمن هذه المواقف تجاه حياتنا البشرية. والإنسان كائن خطير على الأصالة، لا لشيءٍ إلاَّ بسبب أنَّ حياته (كجزء من التاريخ) تلخصُ (كل الحيوات الأخرى)، وهو كائن متوافر على امتلاء وجودي غريب وشبه تام.  ولو لم يكن ذلك مُتاحاً عملياً، فعلى الأقل يشعر به داخلياً ويضع نفسه في هذه المكانة. حيث يرى ذلك التصور ساعياً إليه إزاء جوانب العالم والموجودات. إنَّها فكرة طافحة بمعاني المركزية التي انتشرت خلال عصور البشر المتتابعة قديماً وحديثاً. أي الفكرة نفسها التي تسمح للإنسان بإدعاء الألوهية والتفكير في الخلود وبناء سلطته وممارسة الإطلاق في أفكاره وإيديولوجياته.

الغريب أنَّ البعض يتكلم عن الأديان كأنّها تنفي أسئلة التراث والتطور والتغيُر. فلولا تلك الأسئلة لما كانت الأديان أدياناً من الأساس. إنَّ الأخيرة (الأديان) تعي جيداً: ماذا سيكون وجودها في الغد، كما أنَّ سؤال التراث هو سؤال كل مُعتقد بحكم اشتغاله على الإيمان واليقين. وبخاصة أن الأديان لا تختفي بسهولة مع مرور الزمن، حتى ولو كانت أدياناً وثنية قُح، لأن جوهر المعتقدات كامن فيها بالنسبة لكفاية الإنسان بما يُؤمن شعوراً وفعلاً. حيث يتم تطلُع الإنسان نحو المقدس واشباع نزوعه الروحي وهدهدة مخاوفه الميتافيزيقية وإكمال صورته إزاء الناس والعالم. وليس سهلاً أن تتوافر هذه الأشياء في معتقدات ثم تتلاشى دون سابق إنذار!!

تصعُب التفرقة بين طرح" الدين كمعتقد" وهو يمس معاني الإله والوحي وحقائق الايمان من جهةٍ، وطرح "سؤال الدين كمشروعية إنسانيةٍ" من جهة أخرى. الدين بكونه إيماناً سيظل في باب المشروعية دائماً من زاوية عالم الإنسان. على سبيل التوضيح: لقد اختار الدين الإسلامي أنْ يضع نفسه في الوضع الحر القابل للنقاش قصداً. أي أنه يطرق أبواب الفهم والعقل والنظر والحث على النقد والتساؤل دون كلل، وذلك قبل أنْ يقول أي شيء آخر عن نفسه وعن أصحابه. لنتخيل أنَّ دينا جاء ليرسِّخ أصوله، فإذا به يشدد على مكانة التساؤل والمراجعة على ما يطرح من حيث المبدأ!!

حتى إذا ظن أتباعُه أنهم تمكنوا من ناصيته، فسرعان ما يعود إلى المشروعية الإنسانية مرةً أخرى. إن الإنسانية كوعاء تقبل أو ترفض الدين.. هذا حق مقدس في الاسلام. وقد يبقى الإسلام داخل تلك الدائرة لا يبرحها، وهي دائرة المبادأة والحوار والنقاش بين ذاته وأقرب الناس إليه. وتاريخياً، فإن الإسلام كحبة من عنقود الابراهيميات هو الذي وقف عند تلك المسألة طويلاً، وكأنه أراد أن يحرر ذاته من تبعات المعتقدات البشرية ناهيك عن تحرير اتباعه من فكرة الهيمنة التي استنزفت جُلَّ حياتهم. لأن اختبار الإنسان لا يتم إلاَّ بإزاحة القيود والأثقال التي يعتقد فيها ولو كان الإنسانُ نفسه هو مصدرها. إنه المعنى العميق بأن أفكاراً لا يتم الإقتناع بها إلاَّ إذا تحرر الفكر ابتداء... أي مناقشة المبادئ والأسس أولا ثم الفروع والنتائج ثانياً.

لقد وَضّح القرآن المسألة بنداء عاجل ومباشر، عندما قال: " من شَاءَ فليُؤمِن، ومَنْ شَاءَ فَليكْفُر". وهذا الإقرار شرط سارٍ على الاعتقاد (الدين ) وعلى المشروط ( الإنسان) جنباً إلى جنب. ويبدو أنه شرط على المرجعية أيضاً (الإله - الوحي) من قبل الخالق. وتلك ذروة العدالة والتحرر من قبل خالق الإنسان تجاه كل ما ينتمي إلى فكرة الإله. لأنَّ الخالق عادة لا يرضى بتحلُل المخلوق من وجوده، فما بالنا بكون الإله ذاته يقول: من أراد ألَّا يؤمن بما أقول، فليؤمن هو بما يشاء. المشيئة تسبق الإيمان كنوعٍ من قدرتنا نحن الكائنات الإنسانية على تحمُل المسئولية. والمشيئة تحمل مسئولية عدم الايمان بمعناه الاعتقادي مثلما تحمل أي شيء آخر.

ولكن إنسانياً يدخل الإثنان في إطار إرادة الإنسان والموقف من الدين. ولعل ربط الجانبين (الايمان واللا ايمان) بإرادة الإنسان هو معنى مقصود - من قبل القرآن- لأنّ هناك أسئلة وجودية ومعرفية وحياتية أخرى في خلفيات المشهد. الأسئلة التي تمثل (نتيجة ومقدمة) لفهم الدين وما يلاصقه من قضايا وموضوعات. مثل أسئلة الواقع وكيفية العيش والاختلاف والآخر والحقيقة والتنوع والاخلاقيات والقيم. وهذه بمثابة نوافذ لفتح كل المعتقدات والمجريات الفعلية لحياة الإنسان على خطوط الزمن، سواء أكانت تحديثاً أم سرديات أم أفكاراً.

لا مناص إذن من جدليات سؤال الدين والتراث والحداثة. وهو أمر وارد بالضرورة لعدة أسباب:

* يتطلب فهم الدين وجود رؤى للعالم والحياة والوجود. فالدين كأصل لا يستغني عن حياة الناس كفرع، وكل الأديان تستهدف وجُود مرات متكررة من الحيوات التابعة والمطبقة لها، وإلّا لما كانت أدياناً قيد الاعتقاد. ولن تكون تلك الرؤى جديرة بالاهتمام ما لم تأخذ التطورات الحداثية بعين الاعتبار. وليس شرطاً أن ترتهن كلمة الحداثة بمرجعياتها الغربية، حين نتحدث عن الدين الاسلامي أو المسيحي أو اليهودي.

* الوعي بالأديان يسبق تكملة مسيرة الإنسان نحو معتقداتها. لأنّ عمق الوعي ذو طابع قلق بطبيعته، وأنَّ ما يكون شرطاً لشيء، لابد أنْ يمتد حتى نهاية هذا الشيء. ولعل ذلك هو ما يجعل هناك دعاوى للتحديث والجدل حول سؤال الدين، سواء أكانت بصدد النشأة أم الثبات أم الإضمحلال أم عودة الأديان مرة أخرى في البيئات المعلمنة الرافعة لشعار نهاية المعتقدات اللاهوتية. إن هذا الوعي هو ما يدفعنا نحو النظر إلى الأمام، وهو نفسه ما يستدعي التطوير من وقت لآخر.

* الحياة متغيرة، والأديان ذاتها تتبنى إجابات عن سؤال الحياة وتبدد المخاوف نحوها. والاجابات ثابتة بحكم درجة اتساعها لا درجة تحديدها. وطالما أنَّ حياتنا كذلك، فإنّ موضوع التحديث أمر مهم، بل أكثر إلحاحاً. إن مقولة الحياة ليست مباشرة الطرح لمن يرددها ولا لمن يتلقاها، فهي تعبر عن ضرورة تحويل الدين من كلام عام ومطلق أحياناً إلى تجارب نوعيةٍ. وتلك هي الضرورة البشرية التي لا مفر منها. ولذلك تمثل الحياة محكّاً للاختبار المتواصل. لا تلوى على مرحلة هدوء وثبات، إنما تقلب الأشياء رأسا على عقب. وتضع الأديان في منعطفات ليست بالقليلة. ومن فعل التاريخ أن ظواهر الأديان تذوب في مرجل الثقافة حتى التماهي.

* قضية التحديث. وهي تؤشر نحو حقبة الحداثة (النهضة والتنوير) في الغرب الأوروبي وبخاصة قيم العقلانية والذاتية والآخر والتسامح والتعددية والإرادة العامة والمساواة والحرية والتنوير وبناء الدولة والقانون.

* قضية الحضارة وهي قضية يجب أن تتجه إلى حل مشكلات الواقع والاعداد لمستقبل أفضل. ولن يكون ثمة دين من غير أنْ يثير القضية سلباً أو ايجاباً. وليست عقول البشر تقف دائماً موقفاً جامداً من الحضارة، لأنَّ العقل ابن ما يعتقد، ابن ما يفكر ويكد فيه، رغم كونه يستطيع تغيير نظرة الإنسان. وفي العموم، تعتبر نشأة الأديان نفسها ألواناً من الحداثة، من الثورة على القديم، من الاختلاف الذي يجب أنْ يحدث.

* سؤال المستقبل، فالأديان تهتم بحكم الاعتقاد بما هو آتٍ. ولذلك تنشد رسم خريطة البشرية نحو المصير والزمن. وكل مستقبل هو هاجس البشر صوب الجديد. فلا يوجد مجتمع أيا كانت سماته العامة إلا وينشغل بالقادم. وصحيح قد لا يطرح المجتمع السؤال بشكل فلسفي، غير أنه يُثار مع التعليم والسياسات العامة والبرامج الاقتصادية ونمط العيش المُشترك.

اختصاراً.. إذا كان الدينُ لصيقاً بطبيعة الإعتقاد كأحد أشكاله، فالتحديث يظل لصيقاً بما يحياه الإنسان كحامل للمعتقدات. ولاثنان (الاعتقاد والتحديث) يخرجان من مساحة إنسانية واحدة، أي يشتغلان على رقعة الإيمان بالزمن والحياة والسيرورة والآتي والماضي والموروثات أيضاً. وليس هناك تنازع ثنائي متنافر حول تلك الرقعة، بل هو تنازع واحد برأسين مشتركين يستمران في الجدل والحوار. وعندما يتجدد نمط العيش، يبقى الاعتقاد والتحديث عاملين مؤثرين في بعضهما البعض. بدليل أن الحداثة تأخذ مظهر الاعتقاد أحياناً في بعض المجتمعات ضاربة جذورها في التقاليد والحضارة. وكذلك قد يكون شكل الحداثة متوافقاً مع الثقافة الجارية في مجتمعات أخرى مثل معتقداتها بالضبط.

الدول الأكثر علمانية مثل فرنسا ما فتئت تحافظ على النمط السائد والموروث من فنون العمارة وأشكال الشوارع وصور الحياة المختلفة وأساليب العلاقات بين الناس والسمات التاريخية للمجتمع الفرنسي. حتى نبرة العلمانية نتيجة تيمة التكرار بكون فرنسا جمهورية لائكية (فصل الدين عن شئون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشئون الدينية ) laïcité .. أقول حتى تلك النبرة تبقى طي المعتقدات. وهذا يعني أن بناء ما يفصل الدين عن الواقع هو ذاته هدم لما يفصله عن التحديث.

من هذه الزاوية، ليس الدين طارئاً في دائرة البشر، إنه (ظاهرة الظواهر) التي تستوعب وجودنا المشترك. وتدور حولها جوانب البشر واقعاً وخيالاً ومشاعر وأحداثاً. وهو يقصد المعنى الذي يرتبط بجذور وعينا ووجودنا يداً بيد. فالشعائر الدينية – على سبيل المثال- تُضفي لوناً من المعاني والتناغم والانسجام على العالم. ويصعب أن نتعامل مع الأشياء دون هذه الرؤى التي تتسرب إلينا. كما أنَّ الدين ليس وظيفة، أي ليس بُعداً استراتيجياً، لكونه أعمق رمزية وأكبر جهاز تواصل مع كافة الحيوات في وقت واحد. وهو نتاج الوحدة التي تربط اعتقاد وإيمان الإنسان بفكرة الخالق، وهي الفكرة المتصلة بكيفية ارتباط الإنسان وجودياً. ولا يمكن إزالتها بسهولة دون إزالة كيان البشر.

الدين بالتالي هو الدلالة العميقة لما يتصل بأسرارنا الوجودية، أسرار الحياة والكون والطبيعة. وعندما نتصل بتلك الأسرار، تعطينا قدرةً على التحرُر، لكونها أعمق من أية ألغاز أخرى وأكثر رحابة مما نتخيل. ولذلك سيكون لقاء الدين والفلسفة لقاءً غير عابر، لقاء بالضرورة حاصل منذ أن كانت الفلسفة بمثابة قدرتنا المبدئية على فنون العيش وفهم العالم. بلغة متجاوزة: غدت الفلسفة دين العقل والدين هو عقل الوجود وقلبه النابض. إن الدين يرى نظاماً معيناً لحياة الإنسان ويضفي عليها قيمة نابعة من جوهرنا. ويحرك ما بداخلنا شريطة الإيمان بما يقول. وهذا الأمر يحرك مجموعات متوالدة رياضياً- مثل متواليات الأعداد- من الرموز والمعاني المباشرة وغير المباشرة. بحيث قد يرى المُؤمن تلك المتواليات الرمزية والدلالية في علاقاته الخاصة والعامة وفيما يفعله طوال الوقت نوماً ويقظة.

الفلسفة تصقل رؤى البشر نحو العالم، نحو ذاته، نحو المجتمع، نحو الزمن. أي تؤسس لمجالات الوعي والحقائق. إنها عيش الصداقة مع الأشياء والتّسمُع لنداء الحقائق والتطلع للمجهول وبناء عوالم أكثر رحابة. التفلسف هو فنون اللقاء مع المجهول الذي لا ندرك ولا نعرف ماهيته. ولكننا نسعى إليه طوال الوقت، لعلّها تعيد توطينه داخلنا وداخل ما نريد تحقيقه.  المجهولات هي الرؤى التجديدية التي ننتظرها ونتدرب عليها. كل تجديد إمّا أنْ يكون على علاقة وثيقة بالفلسفة أو لا يستطيع أن يوجد. ولذلك فإن فشل مشروعات التجديد والنهضة في شرقنا العربي الاسلامي بسبب فشل الرؤى الفلسفية وضعف الفكر.

إنَّ الفلسفة تتوسط المجالات بين الأديان والرؤى التجديدية، لكونها أسبق عقلياً وحياتياً في الوعي من المعتقدات وأكثر عمقاً من التجديد. الفلسفة تشتغل على أسئلة الوعي واللاوعي وعلى الجذور الإنسانية البعيدة لوجودنا الحُر. وليس سهلا معرفة أبعاد الحرية إلاّ بقدر ما يعيش الإنسان مفارقة امتلاكها وفقدانها في الآن نفسه. بعبارة أخرى أن الفيلسوف يعرف ماهية الحرية وكيف تنقلب إلى قيود ومسئولية فارغة من محتواها. الفيلسوف يعي ذلك تماماً، بخلاف أصحاب الأديان وأصحاب الرؤى التجديدية معاً. ففي الأديان قد يظن الناس أنهم يمسكون (جمرة الحرية) بكل ما أوتوا من قوة طالما يدخلون حظيرة الإيمان، وأصحاب الرؤى التجديدية يتصورون كونهم يدركوا مستقبل الحياة وقد استبقوا إلى التجديد.

بينما لا يدرك الاثنان أنهما يحولان الحرية إلى عبء ميتافيزيقي ضاغط. ولن تكون ثمة حرية من غير المخاطرة المتواصلة بفقدانها والحرص على توسيع نطاقها باستمرار. لا توجد حرية من غير المجازفة باتساعها. ومن حيث إمكانية فقدانها، تستطيع كل حرية العودة والمحافظة على تطورها وتحمل تبعات وجودها.

الطرفان (أصحاب الأديان وأصحاب الرؤى التجديدية) لا يسألان سؤال الخارج عنهما (خارج الدين وخارج التجديد)، لأنهما مأخوذان بالانغماس في الآني. ولذلك يظل أصحاب الدين في حاجة إلى (رؤى أخرى) على الدوام ويقتضي الواقع من أصحاب التجديد أن ينظروا فيما يقولون دون توقف. إنَّ الفلسفة هي من تُؤشر إلى ذلك، واقفة عند الحدود القصوى للأشياء والأفكار. ولكن الأديان تتشبث بمقولة المعنى، وقد أفرغت شحناتها التاريخية من بعض المظاهر والأحداث. وهو الشأن الذي يجعل الفلسفة متطلعة إلى المختلف والمغاير من أحوال الناس نحو الأكثر حرية. لا يهم الأديان سوى التمكُّن من امتلاء مساحة الايمان والاعتقاد، بينما تسعى الفلسفة إلى شحن طاقة البشر على الاختلاف والوعي المضاعف بالحقائق والأفعال.

ليست الفلسفة ديناً ولا تنافس الدين ولا تصارع المعتقدات رغم اتساع الأخيرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولا يريد الفيلسوف أن يكون كاهناً ولا يستطيع. ولكن الفلسفة بإمكانها أن تقول للأديان: كيف ينتمي الإنسان إليها؟ وكيف يتلقى معناها وبأية أطر يستطيع أن يعتقد دينياً؟ كان كانط يتساءل من حين لآخر: ماذا بإمكاني أن أفعل؟ وماذا يمكنني أنْ آمل؟ إنهما سؤلان يتجاوزان الأديان والتجديد، ويعرّفان الكائن الإنساني: إلى أي مدى ينبغي النظر إليهما. فالأديان تقول: إليكم أيها البشر هذه الأفعال لا غير، فلتؤمنوا ولتعبدوا الإله ولتقيموا الشعائر كما جاء بها مصدر الدين دون سواه، وكذلك التجديد يضع خطوطاً يراها مهمة لكل حياة ممكنة في الغد.

ولكن سنجد أن ما يليق بالإنسان هو شأن فلسفي على الأصالة. ومن ثمَّ، كان على الفلسفة الاسهام في الرؤى التجديدية تجاه أوضاع الأديان، موروثات ومكانةً وثقافة وأحداث الأديان. لأن الدين في ذاته لا يوجد منافس له، وهو غير قابل للتفكيك ولا التلاشي. فالميتافيزيقا لا يحيط بها شيء مما ليس ميتافيزيقيا. وتاريخياً خضعت أوضاع الأديان الكبرى دون استثناء لعمليات من النقد والغربلة وإعادة البناء والاصلاح.

اليهودية امتد إليها النقد الفلسفي من جانب ثقافتها وتاريخها والأيديولوجيات المحيطة بها. لم تترك الفلسفةُ شاردة ولا واردة في هذا السياق دون فحصها الدقيق. من يقرأ فلسفة الألماني مارتن بوبر سيرى: كم كان دأبه الفلسفي لمعرفة الاعماق الفكرية لليهودية. ناقش مسألة الآخر والاغيار في تاريخ اليهود وناقش تجلي الرب ومسائل تواصلية وثقافية كثيرة. وصحيح تم تصنيف بوبر كفيلسوف يهوديJewish philosopher ، بيد أنه كان فيلسوفاً مستنيراً وانتقد الصهيونية انتقاداً شديداً. وكذا حنّا أرندت وهي فيلسوفة يهودية رأت أنَّ اليهودية ليست ديانةً كالأديان العادية، بل اعتبرتها محاطة بالأيديولوجيا من كل جانب، وأن الشعب اليهودي لم يكن ضحية شعوب أخرى، بل كان ضحية نفسه. وعندما تتحول اليهودية إلى جهاز أيديولوجي لن تكون إلا ّمسرحا للعنف. ولذلك وجهت أرندت نقداً لاذعاً إلى الصهيونية واليهودية التاريخية (شعب الله المختار ومركزية الموروث اليهودي). ورأت في اسرائيل نموذجاً متجسداً لما آلت إليه اليهودية من عنف وانعزال.

انتقد سبينوزا - قبل مارتن بوبر وحنا أرندت- التوراة نقداً نصياً توثيقياً، معتبراً أن الكتب المقدسة المنسوبة لليهودية لم تكن دقيقة من الجهة التاريخية وأخذ في دراسة النصوص المقدسة كما لو كان يدرس ظواهر الطبيعة بمنهج رياضي هندسي من الجهة المعرفية. اعتبر سبينوزا ذلك النقد لوناً من محاولة التيقن من صحة النصوص وصحة الايمان بها في الوقت عينه. لأن صحة النصوص والكتب المقدسة يعقبها صحة الايمان من عدمه، وما إذا كان الأخير منحرفاً أم لا؟! كما انتقد سبينوزا خلطاً سحرياً بين سلطة اللاهوت والسياسة، حيث يمثل الخلطُ باباً لظهور الأساطير والخرافات، حيث ظل هذا الخلط فاعلاً للهيمنة على عقول العامة وتعطيل عمل الفكر وتدنيس الأخلاق.

وبالمثل ثمة اتجاهات نقديةٌ كثيرةٌ ظهرت مع المسيحية، بدءاً من نقد النصوص المقدسة كالإنجيل والقصص والروايات وأعمال الرسل ومروراً بالفكر الوسيط، فكر آباء المسيحية الأوائل ثم انتهاءً بنقد اللاهوت المسيحي الذي أسس للميتافيزيقا الغربية، وتم على أثره فتح آفاق جديدة للتنوير وهدم سلطة الكهانة السياسية. وليس خافياً أنَّ معركة التنوير الأساسية كانت ضد خرافات العصور الوسطى المسيحية. وكانت المجتمعات الغربية التي تعملقت فيها الأصولية المسيحية سياقاً للنقد وشكلّت جوانبها السياسية ورشة تفكيك مفتوحة حتى الآن.

أمَّا في الثقافة الإسلامية، لم يكن الدين الاسلامي هدفاً للنقد إلاَّ بمقدار ما يُزج به في أتون الخلافات وصناعة السرديات الخادمة لسلطة الهيمنة. وكانت دول العرب تصطنع لنفسها سلاحاً دينياً كنوع من الغلبة والغنيمة. وهو أمر شهير في التراث العربي الاسلامي نتيجة ثقافة القبلية، بل ظل سارياً وأخذ صور الحداثة المختلفة. وهو تحويل الدين من معنى إلى أداة، من بناء يرتفع بنا إلى هاوية يسقط فيها الناس وتفريغ قدرتنا الإنسانية من الانتماء الحر والبعد الكوني الرحب والايمان المفتوح إلى أيديولوجيات ضيقة تعبئ بعض الناس ضد آخرين وتتخذ من لحمنا الحي وقوداً لحروب دينية لم نفقد أوارها حتى اللحظة.

لنلاحظ أن الدين يتحول بعد مرور مجتمعاتنا برياح الحداثة إلى سلاح أيضاً. وذلك أمر غريب في عصرنا الحاضر. فالدول العربية الراهنة تصر على إدخال الدين بصور معدلة إلى ساحات الصراع مع الجماعات الدينية وكذلك مع شعوبها. في أغلب الدول العربية الاسلامية، هناك دور لرجل الدين مع امساك الناس بملقاط الخطاب الديني. وخلال جميع المناسبات الرسمية تجد رجل الدين بجوار رجل السياسة بجوار أعلى القيادات الرسمية... ما معنى ذلك؟! معناه أن المشهد مرسوم بعناية وأن عناصر القوة واحدة لا تتجزأ. ولا يخفى على المتابع أنَّ أحداث الواقع تُحسب على هذا المتصل الثقافي والرسمي. فالسياسات تشترك فيها تلك الأطراف إن لم تكن بالفعل، فعلى وجه التضمين، أي يَستقر في لاوعي المتابع أن رجل الدين لا يقل أهمية عن رجل السياسة. وأن ما فعله رجل السياسة بأدواته وكلماته المعسولة سيفعله رجال الدين بخطاباته الهادئة وتلاوته لمقولات السلف والخلف.

ليس الدين حاضراً هنا من قبيل القضاء والقدر، بل بفضل الاعداد والترتيب لهذا اللقاء على شرف وعقول الجماهير. وبخاصة أن تجربة الايمان تمتد إلى نفوس الناس، وأنها جزء لا يتجزأ من أسئلتهم الوجودية والحياتية. إن الفلسفة تكشف كم التوظيف الذي يخضع له الدين رمزاً ومعنى وفكراً وثقافة. لأن التفلسف يحفر عميقاً حول المعطيات والتجليات الراهنة. ومن ثم، ليس ما هو ديني مضاد لما هو فلسفي إلا حينما يشتد صراع الاستيلاء على (أدمغة الناس) باسم السلطة.

إنَّ فلسفة الدين رؤى فكرية حُرة تبتغي كشف أصول التجارب الدينية وجذور المعتقدات وكيف يتم إخضاع الناس لها. وراهناً تحاول فك وتفسير الشفرات والدلالات التي تربط المعتقدات بصور الحياة المختلفة وتوضح الأبنية الفكرية التي تبطن جوانب الأديان وتفاعلها مع الواقع. هنا ليست الفلسفة معنية بإيمان الناس ولا تنصب من نفسها معياراً لقبول الآراء، فليؤمن هؤلاء أو أولئك كيفما شاءوا وبالطريقة التي يريدونها، غير أن الفلسفة تتدخل عندما ترى الإيمان صراعاً أو سلاحاً مدمراً لقدرات المجتمعات البشرية، وعندما تصبح الأديان خرائط للبحث عن النفوذ ضد قيم العقلانية والتنوع والتسامح والحوار بين الناس. وليست فلسفة الدين الراهنة مذاهب تجريدية لتحليل الأفكار الدينية وكشف بناءها الاعتقادي، لكنها تأويل وخطاب نقاش لفتح تجارب الحيوات الدينية في شتى الأديان... وكيف يوجد الدين في التاريخ والثقافة وبأية أساليب يبقى رمزياً، رغم الوجوه العلمانية والمادية لحياتنا المعقدة.

وبناءً عليه، بإمكان فلسفة الدين أن تقدم رُؤى تجديدية وتطورية للأوضاع الدينية لا الدين بمعناه العقدي أو الشعائري. ولا أؤيد الفصل بين ما يسمى علم الكلام الجديد وقضاياه (لمجرد كونه مرتبطاً بجذور تاريخية بعلم الكلام القديم) وفلسفة الدين. لأنّ فلسفة الدين أكثر اتساعاً وبإمكانها الافادة من المعارف الإنسانية المختلفة وتبني رؤى حضارية وفلسفية متنوعة بخلاف علم الكلام الذي يقف داخل محراب الدين وقد لا يبرحه. كما أن فلسفة الدين تتبنى منظورات إنسانية أكثر حرية تجاه قضايا التنوع والتعايش والاختلافات بين الأديان، وبإمكانها أن تقدم تأويلات ثقافية ورمزية للتجارب الدينية، وأن ترى التقاطعات بين النصوص المؤسسة والواقع المعيش لا مجرد إصدار أغلفة جديدة لبضائع قديمة.

س28: أ. مراد غريبي: صار الحديث في الموروث أو التراث حديثاً في الدين، والتفكير الديني والعلوم الشرعية تنتمي في جزء كبير منها إلى التاريخ الثقافي للمجتمع، هل هناك تناقض ما في وعي الدين لدينا بالنظر لفوضى المعرفة الدينية وتهافت الجماهير في الوعظ والفقه والدعوة والجدال والإفتاء والتكفير وما هنالك؟ ألا يقتضي الراهن العربي والإسلامي اليومي أكثر من أي وقت مضى، نوعاً من إعادة نظم الوعي والخطاب بين ماهو فكري وماهو ديني في حياة الناس؟

ج28: د. سامي عبد العال: ظاهرةٌ جديرة بالاهتمام: أنَّ هناك حديثاً راهناً حول الموروثات والأديان. وقد أخذت في التوسع مع التواجد المستمر على صفحات الواقع الافتراضي والتداخل الكوني بين الثقافات والتراشق الثري بالحوارات والنقاش. ولاسيما أن مجتمعاتنا العربية تعيش حالة من المراجعة والتفكير فيما هو حادث على أغلب المستويات. وقد يرى البعض أنَّ تلك مبالغة واضحة، نظراً لكون الأمور رتيبة على صعيد السياسة والاجتماع. ولكنها رؤية يعوزها الدقة. لأن الأحداث والتحولات العالمية -وبخاصة مع صعود الجماعات الإسلامية واضمحلالها- قد وجّهت صدمة للفكر العام. هل هؤلاء من يعبر عن حال مجتمعاتنا العربية ومعتقداتها الدينية؟ أليس هؤلاء نتاج الموروثات التي ظللنا نلوكها طوال الوقت؟ هل هؤلاء أناس أتوا بنموذج ديني لطالما تحدثنا عنه؟! ما معنى أن يكون المورث مثالياً في خيال أصحابه، بينما نسخته العملية مشوهة وضد مبادئ الإنسانية؟!

من جانب آخر، على الرغم من كون ثقافتنا تعيش بعض ماضيها الآن، إلاَّ أنها تجربة لن تخلوا من إيجابيات. لأن ذلك يضع الموروثات في مواجهة عملية مع التطورات الراهنة. لقد أخفقت مجتمعاتنا الراهنة في ولادة مفكرين وفلاسفة كبار، ومع ذلك لن تحول دون مواجهة الواقع الذي أصبح كونياً. أحياناً بعض الجوانب التعويضية تكفي لكشف الحقائق. ومن مكر التاريخ أنه قد يضعك على اعتاب مرحلة جديدة ليتم اختبار المراحل السابقة ويعيد الكّرة بشكل مختلف. ثم يقول لك: أنت لم تكن مقصوداً لذاتك، بينما هو يقصدك ويقصد غيرك في إطار أوسع من الأحداث. فليس التاريخ جزئياً، إنه يُلخص وجودنا العام كثافةً وزخماً. فإذا لم تكُن الموروثات حاضرة بنفسها، لأنها بنت الماضي، فأنْ نعيشها مرة ثانية سيجعلها موضوعاً لنقاش وتأويل جديدٍ.

والناس لا يدركون كون الموروثات عالقة حتى النخاع بالجوانب الثقافية وسياقات المعرفة التي انتجتها. الموروثات لا تخلو من ظروف وأفعال مهما كانت موجودة في الماضي. وأخطر ما تفعله مجتمعاتنا أن تنتزع حيوات الأسلاف كي تعيش في جلبابهم الشفاف. ونحن ندرك أن الأسلاف لم يكونوا على قدر من التطور المنشود، حتى في زمانهم بالمعايير المطروحة آنذاك لا بمعايير الزمن الحاضر. ذلك بحكم أن تطورات الحياة والواقع لا تكتمل عادة في عصرها أو في عصر آخر.  ومعنى أن نستحضر حيواتهم: أننا عاجزون عن العيش بمفردنا، وأننا لا نستطيع مواجهة الصعوبات. ففي تاريخ الأديان ما يجيب عن سؤال: كيف يمكننا أن نعيش عصرنا مدركين ما يتخفى في الأديان من ثقافة ماضوية؟!

إن العقائد والأحكام والتشريعات لم تسر في حياة العرب هكذا، بل ما كان لها إلاَّ أن تتفاعل مع الثقافة السائدة. فبعض التشريعات الخاصة بالزواج وملك اليمين واختيار الإمام وممارسات أهل الحل والعقد إنما هي مسائل تتجاوب مع التقاليد المعمول بها. ويستحيل تحليلها أو تبريرها دون النظر طويلاً في تلك التقاليد. والأديان تجري حواراً خفياً بين قوانين الواقع والثقافة وبين ما تريد قوله. وسواء أكانت التشريعات والأحكام اتفاقاً أم رفضاً لبعض التقاليد، فيجب أن نعي التفاعل والجدل بين الأديان والسياقات المختلفة.

ولذلك لن نفهم الأديان إلاَّ بمجموعة من الأفكار:

أولاً: الأديان تتكلم عن الأصول (أصول الشعائر والأحكام والتشريعات)، بينما يصعب فهمها واستيعابها بعيداً عن الثقافة. لأنَّ هناك أكثر من نسخة وأكثر من معنى تسمح للبشرية بترتيب الأوضاع عليها، رغم أن التشريع واحد، وقد يكون النص واحداً كذلك. أي أن فهم الأصول يقتضي معرفة وفهم الثقافة لها، وما إذا كانت هناك آثار لهذا التأصيل أم لا؟!

ثانياً: تعيش الثقافةُ التي تحيط بالأديان تجارب مختلفة معها. فالأديان -ضمن تاريخها الممتد- ترسم نظاماً آخر للحياة والإنسان والمجتمع... ولكن هذا بعد رسوخ الثقافة أمرٌ صعب التحقق. والتاريخ يقول إن الأديان تحقق أهدافها في ضوء ممكنات الواقع، وليست ثمة نقطة صفرية يتسنى الانطلاق منها. إن الثقافة سابقة ولاحقة وكذلك تطلق المحاولات تلو المحاولات لاستعادة نظامها لو تمَّ اختراقه.

ثالثاً: البشر هم العنصر الأهم في تلك العلاقة، لأنهم الوسيط والهدف بالتوازي. ورغم كون الإنسان غائباً من جانب مركزية الدين، إلاّ أنه الفاعل الرئيس الذي يعبر عن آليات الثقافة وقدرة الأديان على الحوار معها.

رابعاً: على المدى القريب أو البعيد، يستحيل نزع الأصداء الثقافية عن تعاليم الأديان. حتى لو حرصت الأديان من جانبها على ذلك، فلن تصمت الثقافة. فالثقافة تتمتع بنفس طويل في الحضور والتداخل والالتواء وإعادة التشكيل. كما أن الأفراد (وهم موضع رهان الأديان)، لن يفهموا الأديان خارج الثقافة بما هي كذلك.

ليس من شأن الأديان نصب معركة تجاه ما سنكون عليه، فالمستقبل لا ينتظر أحداً. فجأة ستجد الزمن أمامك بكل تعقيداته، وعليك أن تفك شفراته طوال الوقت. لكن شأن الأديان تاريخ واقع بحكم وجود البشر. والتاريخ فيزياء زمنية تشكل كل ما ينتمي إليها من معتقدات. وليست ثمة مبارحة بين مجريات التاريخ وأحداثه، بين جسم وحركة وتفاعل الأفكار والأديان. الأصداء مشتركة والمعاني متداخلة والأحداث تتردد داخل بعضها البعض. وليس بعيداً أن تطلق (الإمبراطورية العباسية) و(الإمبراطورية الأموية ) في باحة الخيال العربي سرديات لتعضيد ملكهما. سرديات من التفسير ورواية الأحاديث وقصص الاسلام المبكر والمواقف الدينية المسيّسة والخطب المنبرية وكتابة السير والمغازي التي شكلت العقل الجمعي. وكل ذلك يجعل القارئ الحصيف الذي يقرأ تاريخ الاسلام حذراً وفاهماً لجوانب الثقافة. ليس من باب التشكيك كما قد يلتقط البعض طرف الخيط، ولكنه من باب الفهم الأوسع لحركة الموروثات وإنشاء بنية تساؤلية توقظ الوعي.

كانت لعبة السياسة طوال مسيرة التاريخ: كيف سيتم استثمار القوة الرمزية الكامنة في الأديان؟ لا يهم ماهية الدين ولا ما إذا قال الدين ذلك أم لا؟ المهم هو بأية طريقة سيكون الدين متمكناً من كيان أصحابه. لا وصولاً إلى الحرية، إنما بالوصل إلى السيطرة على إرادة الناس بدلاً من شرودهم. وهذا الوضع في المجتمعات العربية أخذ أطواراً من التحول، حيث تأسس على القبيلة والعصبية، وتأسس على سلطة الإمام ورجال القوم، ثم على قوة الدولة العابرة للقوميات مثل الدولة العباسية والأموية ثم مع ظهور الحداثة العربية تراجعت الدولة لتقبض على الدين بالمعاني القديمة ذاتها في شكل الحاكم والبرلمانات والمؤسسات السياسية. ولكنها لم تنس كون الأديان أكبر مؤسسة توجد في عقول وقلوب أصحابها، وأنها منبع كل هيمنة منتظرة عليهم اليوم وغداً.

الفارق بين الدولة العربية القديمة والدولة العربية الحديثة: أن الأخيرة لم تقل ذلك ولم تعلن صراحة إمساك الدين والاعتقاد بين أظافرها، فقط أدخلت مواطنيها في خضم شعائر رسمية تضاهي المناسبات الدينية. إنه دين السياسات الجديدة وهو أشبه بلاهوت مسيس يخلط بين الاعتقاد والمراسم والتراتب السلطوي. ولذلك تركت الدولة الاعتقاد مساحة مشاعاً بين الناس والجماعات والأفراد اتساقاً مع الحداثة العابرة، وكذلك حتى لا تبدو مهيمنةً بقبضة من حديد. ولاسيما أن الأديان تجارب تخص أصحابها وتستوطن قلوبهم قبل أي شيء آخر. وكذلك لم يعد العالم متوارياً فيما وراء تضاريس السياسة، بل أصبحت قواه الكبرى حاضرة في تفاصيل الأحداث والاقتصاد والصراعات والمنظمات الدولية.

هذا هو سبب حدوث الفوضي في الآراء والفتاوى والخطابات والجماعات الدينية. وهو أمر أُجزم بكونه مقصوداً بالسياسة لا بالإرادة، بترتيب الشأن العام لا بتنظيم المجتمع. وظهرت الجماعات الدينية لتقتنص الفرصة، كي تملأ فراغاً كهذا. ونظراً لأن الدين يجب أن يتشخص اتصالاً بمخيلة الموروثات، فكان لابد من بروز أشباح جماعية من حين للآخر. أي هذا التناسل بين الجماعات الدينية وانبثاقها وانشقاقها بشكل متوالٍ. لأن الصورة العامة لم يستطع أحد تحديدها واشباع هويتها المفقودة. فالمؤمنون بالأديان يحاولون أنْ يملأوا خيالاً وايماناً متعطشين إلى وجود الدين بشكل كامل.

ارتبط ذلك بانطواء الأديان على شيء مهم ألا وهو أن آلية الوعظ تشحن لسان وذهنية المؤمنين. بحيث يخرج أحدهم من فوره واعظاً لا يوقفه أحد. إذ يمارس دور الوعظ أمام الآخرين.. في الساحات العامة والمدارس والجامعات والمنتديات. وتعاضدت السمة المذكورة مع قدرات الأفراد على ذلك ومع مشاعية الإعتقاد الديني الذي تركته الدولة استراتيجياً. والمشاعية نتيجة جملة أشياء:

1. عدم التحديد وعدم التجديد، وكأن أفق الدين لا صاحب له. أي أن الدول العربية الحديثة تركت الدين تحت غطاء الحريات، ثم سمحت ضمناً بأن يدخل ساحته أي أحد قادر على ذلك شريطة ألا يقترب من هيبة السلطة وقدراتها.

2. عدم المساس بكيان الدولة، لأنَّ الدين يسعي إلى التشخُص( التعيُن) كما أشرت. إذن على اتباع الأديان أن يتركوا الدولة وشأنها طالما تركت الأديان وشأنها. ورغم أن المعادلة شبه رسمية، إلا أنها خادعة، ففي أوقات اللزوم تضرب الدولة بيد من حديد وتستعيد مكانتها مرة أخرى.

3. نظراً لكون الأديان تجارب خاصة ترتبط بالحقوق، فكانت الدول العربية تتحسب من تلك الحقوق. لأن فتح باب الحقوق الدينية بما يلاصق وعي المؤمنين من أفكار، سيجر حقوقاً سياسية أخرى مسكوتاً عنها. إذن من الأفضل – هكذا تقول سلطة الدولة- أن تقايض مشاعية الأديان بمشاعية الصمت.

4. إثارة غبار الجدال والفتاوى في منعطفات مهمة سياسياً. وهو أمر مطلوب لحجب الرؤية بوضوح وكذلك لتمرير السياسات وقتما يريد أصحابها. لكن ذلك نصب مسرحاً لفوضوية الجماعات الدينية ووعاظ الشوارع وخطباء المنابر.

5.  انجرفت صور الدين إلى الجدال والنقاشات التافهة مثل مراسم العبادات والتدين الشكلي وألوان وسطح الحياة اليومية. بينما توارت، بل دُفنت حية، قضايا الحضارة والثقافة والتسابق نحو التواجد المنتج بين جنبات العالم.

كل ذلك لو نلاحظ قد افرز واقعاً مُسطّحاً على حساب الفكر الأصيل. لأن الفكر لا يستطيع الإنبات في أجواء من الغبار والثقافات التافهة والعابرة للحقائق. إن العرضي والثانوي إذا نشبا مخالبهما في واقع ما يصعب أنْ تنزعها مرة أخرى دون الاضرار بكل ما يمت للواقع بصلةٍ. ويستحيل لمجتمعات أدمنت التسطيح والإيهام أن تنخرط في موجات حقيقية من الفعل والتطور. إن الفلسفة بقرع طبول الأسئلة ربما تتمكن يوماً ما في إيقاظ الناس للمبيت في العراء، عراء الواقع ومشاعية الفكر الذي ظل قيد النسيان. إن الفكر في تلك الأجواء قد تم مصادرته وتأميمه هو الآخر. لأنه أصبح بضاعةَ من لا بضاعة له، كما أنه غدا فوضوياً من غير معايير. ويستطيع كل من هب ودب أن يغدوا مفكراً ألمعياً دون فكر بين يوم وليله.

المفترض أن يكون الفكر أصيلا ومبدعاً، ولكن نظراً لرسوخ ثقافة التهميش وترك المجال بلا تطور، غدا الفكر الديني لوناً من التراجع للتمسك بالقديم والشروح دون إضافة. والفكر بالتحديد ما لم يسقَ بحركة الحياة تطوراتها سيذبل ويتحول إلى صخرة هلامية عملاقة في طريق المجتمعات. وهذا ما حدث نتيجة صناعة الفراغ الديني والفكري، إذ تخلقت كيانات وهمية سواء أكانت أشخاصاً أم مؤسسات، وقد باتت عقبة كأداء أمام الجديد. رغم أنها تزعم رفع لواء التحديث والتجديد.

ولا ننسى أن الفلسفة هي فن بناء العقول القادرة على التحرُر والتساؤل. ونتيجة اهالة التراب عليها هي الأخرى، فقد فقدت الجماهير قدرتها الذاتية على أصالة التفكير. وفقدت مناعتها العقلية إزاء تصديق الأوهام والألاعيب. ليس هذا فقط، بل إنّ عقولاً فارغة من الأسئلة الحيوية يسهل أنْ تكون عقولاً تافهة. إنها قطعان من الأدمغة المتشابهة التي لا تلوي على شيء. وقد تراهم ألوفاً ومئات الألوف في مسرح كبير لممارسة التفاهة والأنشطة غير الضرورية، وقد تراهم عقولاً رسمية مغطاة بكم مهول من الألقاب الذهبية وهي محض قشور لا أصل لها.

يمكن تصحيح الصورة ببعض المعالم التي يجب أن تتحقق:

* إعادة الاعتبار للأفكار الأصيلة التي لا تقل خطورة عن الصناعات الثقيلة في المجتمعات الناهضة. وأنَّ ما يعطي المجال للتافه هو من يصنع تسطيحاً للعقول ويدمر قدرات الأجيال على الابداع.

* مقاومة الاستبداد بجميع أشكاله، لأن نمو الفكر الحقيقي يحدث في ساحات الحرية لا بين جدران القمع. لو كانت الفكرة مهيئة للتطور والانبات، يمكن أنْ تقتلها فكرة مستبدة إذا رأت فيها خطراً. وأم المشكلات العربية هو الاستبداد بجميع مقدماته وتبعاته وأساليبه الملتوية والمراوغة.

* الأديان مجال إرادة وتغيير لا مجال وعظ وإرشاد وعنف. ولم يحدث التكتل باسم الأديان في تاريخ العرب إلاَّ عندما انتشر الوعظ دون واقع وغلبت السلطة منطقَ الحياة.

* فتح المجال العام أمام التنوع والاختلاف، طالما هناك ثقافة داعمة ووافرة القدرات. لأن غلق المجال أو ضرب حوله سياجاً من الصمت لن يفيد المجتمعات العربية. الصمت لن يجدي إلاّ من يترقب الفرائس في سكون الغابة وبين الاحراش. لكن في واقع المجتمعات، هناك النقاشات الجادة وتعديل المسارات والاشتغال على الأولويات وبناء العقول.

* الفلسفة نمط حياة وأساس فكر لا دراسة ولا مستوى تعليم. لكونّها درجة من درجات الوعي الحُر. وبإمكان الإنسان البسيط أنْ يتمتع بيقظة فلسفية أكثر من دارسي الفلسفة. لأنه يتدرب يومياً على طرح الأسئلة والتقاط الشارد والغائب من الأفكار. وتلك كانت أحوال الفلسفة في منبتها الثقافي، إذ كانت تصقل العقل وتهيئ أساليب الفهم وتقوِّم إرادة التغيير.

* ضرورة الانفتاح على العالم، لأن الإنسانية الكونية تطرح حلولاً لأغلب مشاكل المجتمعات المتعثرة. إن التجارب الحرة مثلها مثل تجارب التخلف تبث العدوى وقد تكون مجدية إلى أقصى درجة. فتجارب الحياة الأخرى حاضرة في تفاصيل الحضارة المعاصرة.

تحتاج مجتمعاتنا العربية إلى لون آخر من الفكر، هو الفكر الحر الذي يُدرك ذاته قبل أن ينتقد غيره. لأنَّ المشروعات الفكرية تبدأ بآمال عريضة، ثم سرعان ما تتصلب معتبرة نفسها موطن اليقين. وهو ما يسمح بتحويل الأفكار إلى مستنقع يجذب هوام السياسة وفوضى الحياة العامة. وبخاصة مع تداخل المصالح وعدم القدرة على طرح البدائل. هناك مجتمعات عربية تدفع الثمن مرتين: مرة من أفكار ومعتقدات مسيّسة تحتل مشاهد الصدارة وتترتب عليها خطط وبرامج وأعمال في جوانب المجتمع. ومرة أخرى عندما تريد تذويب هذا الركام الذي ثبت فشله واقعياً. وفي الحالين لا يمكن التخلص من تلك النفايات بسهولة.

الفلسفة - في أحد وجوهها غير المُكتشفة - هي الآلية الفذة التي تستطيع التخلص من ركام الأشياء والأفكار والمخاوف. الفلسفة دودة الفكر أو دودة العقول اليقظة التي تُفلتر وتعيد تدوير مخلفات الثقافة. تماماً مثل الديدان التي تسبب تحللا للجثث، وتساعد على تنظيف الطبيعة وإعادة الالتحام بموادها الأولية. فكما أنَّ الأشياء الطبيعية تحتاج إلى ما يُقوي عناصرها، فكذلك العقول تتطلب ما يعيد إليها قوة الفكر وثراء الأفكار ولو عكسياً بعد فوات الآوان. وهذه التجربة لابد أنْ تخوضها المجتمعات العربية بواسطة الفلسفة إذا أرادت أنْ تتطور. لأنَّ من أحضر العفريت محدقاً به.. كان عليه أنْ يتعلم: كيف يصرفه أولاً.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - صحيفة المثقف

4/9/2024م

في المثقف اليوم