مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الدكتور مجدي إبراهيم (2): التصوف في وعي الغرب
خاص بالمثقف: الحلقة الثانية من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما في المثقف:
التصوف في وعي الغرب
س5: أ. مراد غريبي: هناك اهتمام بالتصوف لدى الغرب، قد يعود ذلك لأنماط التدين المنغلقة لدى المهاجرين المسلمين ممّا عطل سبل الحوار والتعايش والاندماج وما هنالك، هل فعلاً التصوف أجمل شكل من أشكال التدين الإسلامي لدى الآخر؟
ج5: د. مجدي إبراهيم: قبل سنوات، عندما كنا نقرأ عن التصوف والصوفيّة كلمات ناقدة مستفزة، كان الحماس يدفعنا بلا تردد للرد عليها فوراً. واليوم لم نجد في أنفسنا حماسة لمجرد دفع اللغط المنفّر الذي يسوقه الجهل أو المرض. وقد تبيّن لنا إذْ ذاك أنها مجرد آراء صادرة عن أناس لا يتعمقون الرؤية أو ينساقون وراء معتقداتهم النظرية أو توجهاتهم العقلانيّة أو يندفعون بدوافع مرضية أو بواعث غير علمية تصرفهم عن التتبع والنظر العلمي الدقيق لظاهرة التصوف في الوجدان البشري كونها ظاهرة حضارية.
ما من أمة من الأمم العالمية إلا ووجد في قمتها التصوف، أقول في قمتها لا في قاعها، لكنه يستند إلى مضمون العقيدة التي يدين لها بالولاء؛ ففي أمم الشرق القديم، مصر وفارس والهند والصين تصوف، وفي حضارة اليونان تصوف، وفي الأديان الكتابية وغير الكتابية تصوف، وفي اليهودية فِرَقٌ صوفية، وفي المسيحية تصوف، وفي الإسلام تصوف؛ لأن التصوف لاشك عمل روحي متصل بالروح الإنساني على التعميم لا يخلو منه دين ولا معتقد. لكن أمثال هؤلاء الذين يسبّون التصوف ويسيئون إليه ويعتبرونه سذاجة ودروشة وسبباً مباشراً لتخلف المسلمين، هم لا يعرفون عن الإنسان إلّا كتلته المادية وأشياؤه المحسوسة، ويتحركون في إطار ما ينظرون ويحسّون ويلمسون، هم مفلسون في القيم الدينية، الإيمانية والروحيّة على التحقيق.
كثير من الفلاسفة وعلماء النفس، عدوا التصوف هو العبقرية الدينية فعلاً، بلا تحيز؛ إذ كانوا ليسوا بصوفية حقيقيين؛ بل فلاسفة نظريين وعلماء تجريبين ركزوا دارستهم على الحالات الصوفيّة كونها فوق طور الوعي العادي. والوعي العالي لا يُقارن بالوعي العادي مطلقاً، لا في اللغة ولا في الإشارة ولا في العبارة ولا في الفكرة ولا في التوجه. ولسنا بحاجة إلى ذكر أسماء أكثر من الإشارة إلى كتابات هنري برجسون ووليم جيمس وإريك فروم، أو كتابات ليوبا، وباستيد، وأندرهيل، وثولس، وغيرهم من علماء النفس الديني للوقوف على تلك العبقرية الدينية في أعمال المتصوفة وإشاراتهم الرمزية.
النصوص الصوفية الممتازة لا تصدر عن وعي عادي مطلقاً، وهل كانت نصوص النّفري وابن عربي والصدر القونوي وابن سبعين أو حتى نصوص ابن عطاء الله السكندري والنوري والجنيد من قبله، صادرة عن وعي عادي؟ من يقول بهذا يجهل التصوف كما يجهل الكتابة عنه، وبالتالي لا يستمرئ تذوق أشارت الصوفية، فيخبط فيها خبط عشواء؛ فيجيء كلامه من ثمَّ لا يستحق عناء الرد عليه؛ لأنه كلام فارغ من المعنى مضيعة للوقت والجهد. من أجل هذا عزفنا عن الرد، وفقدنا الحماسة حتى في قراءة النقد.
يا سيدي! التصوف بالفعل أفضل شكل من أشكال التدين لدى الآخر، بل الآخر نفسه يفضل التصوف، وربما يسلك سبيله دون أن يدرى حتى إذا كان السؤال هكذا: ما الذي جذب الغرب إلى التصوف؟ وما الذي جذب المستشرقون إلى البحث في التصوف عامة والتصوف الإسلامي على وجه الخصوص؟
جاء هذا السؤال هو عندي من الأهمية بمكان؛ فإنّ أكمل ميدان فيه مطالب الروح الإنساني موحدة ومحققة بالفعل على السعة والشمول والكمال والتوافق والإنسانية وسمو المقاصد ورفعتها هو ميدان التصوف؛ فلا يوجد إنسان على البسيطة إلا وفيه وجود روحي مقدّم على كل وجود سواه حتى ولو كانت اهتماماته مادية؛ فالوجود الشاخص جزء ضئيل من عمل الوجود الروحي الأكبر. والظاهر أن العالم الإنساني يكترث شديد الاكتراث لهذا الوجود الشاخص، ولا يلتفت قيد أنملة إلى الوجود الروحي، لذا أصبح ملموساً تقدّم الإنسان مادياً في الوسائل والكشوفات العلميّة والتطورات المعرفية والإنجازات التكنولوجية في حين أخفق كثيراً في اكتشاف حقيقته الأصلية الإنسانية، أخفق أكثر في علم الإنسان بالإنسان نفسه، ناهيك عن الانحطاط الخلقي والتردي الذوقي والعبث بمسائل المصير الإنساني.
على هذا يمكن القول؛ إنّ الذي جذب الغرب والمستشرقين للتصوف شعورهم بتلك المنازع الروحيّة المشتركة على التعميم، فكلام ابن عربي، ومن قبله الحلاج، يمس قلوب وأفئدة علماء الغرب بمقدار ما يمس قلوب الشرقيين وربما أعلى وأكثر. والمنازع الإنسانية التي تبدو في عباراتهم سواء في وحدة الأديان أو في وحدة الوجود عند ابن عربي خاصّة، فكرةٌ جديرةٌ بجذب كل عقل يفكر تفكيراً فوق الحدود السطحية. على أن تلك المنازع الإنسانية والروحيّة التي لا تعرف الفوارق بين غربي وشرقي، والتي توجد في التصوف وربما لا توجد في سواه هى أولى عندنا بالرعاية والاهتمام من غيرها.
صحيح قد تتأسس هذه المنازع على القوانين الوضعية أو على المصالح والأطماع في أغلب الحالات، ولكنها إذا هى خلت من تلك الوحدة الروحيّة، لم تعد تجدي نفعاً، وستفقد في مستقبل الأيام الصلة المشتركة للإنسانية كونها ارتقاءً بالمطالب الأسمى.
أعود فأؤكد لك أن التصوف شكل راقي من أشكال التدين؛ بل هو أرقاها على الإطلاق: ليس التّصوّف قراءة نظرية يفني فيها المتصوف عمره بين قيل وقال، وإنْ كانت فاعلية القراءة عملاً ذهنياً لا يُسْتَغْنَى عنه، ولكنها في الوقت نفسه ليست هى المطلوبة في ذاتها حتى ولو كانت مُوجّهة إلى كتب الصوفيّة أنفسهم؛ فلن تكون من أهل القرب والوصال وأنت تكتفي بالقراء في كتب الصوفية صباح مساء، لكنك بمجرّد أن يتحوَّل فيك المقروء إلى عمل حقيقي مستمر، هنالك يصح أن تكون جديراً بلقب صوفي. وفي المقابل أيضاً ليس بصوفي من يستغني عن المعارف النظريّة أو يستغني عن التوجه المعرفي الذي يمنع الجهالة ويدحر الركود إلى البلادة العقلية؛ لأن الصوفي من هذه الجهة طالب علم فوق كونه طالب تصفية؛ ولأن التصفية تحتاج إلى استبصار لإزالة غشاوة الباطن، فلا بدّ من بصيرة تهيؤ المطلوب؛ كونه غاية سامية تنال بالعلم أولاً ثم العمل على الموافقة والتبصرة.
إنه؛ إذا كان المطلوب هو الله تعالى، وكانت المشقة على قدر الغاية، فليس أصعب؛ إنْ في التصور وإنْ في العمل؛ من أهبّة الاستعداد للوصول إليه. تقتضي أهبة الاستعداد للوصول إليه تعالى أن يتكرر القول بأن التصوف ليس قراءة ولا كتابة بمقدار ما هو علاقة يُحسن فيها العبد مسيرة الوصول وفق منهج الذوق والشعور والاستبصار، ويرتقي خلال المسيرة إلى حيث الغاية من الطريق، ثم يسقطها؛ ليكون مع الله دوماً بلا علاقة. إلى مثل هذا كانت إشارة الإمام الجنيد إلى التصوف أن يكون العبد فيه قائماً بلا علاقة. الصوفي الحصيف يؤمن بأن الله هو الفاعل الحقيقي لكل فعل، فلا يجعل ثقته بما قدّم من صالحات؛ بل ولا يريد أن يجازى عليها، لأن فضل الله عليه فوق كل تقدير يقدّره، ومن هنا تكون ثقته بالله أعظم من ثقته بنفسه سواء كانت تلك الثقة في العمل أو في العلم.
العمل باطل زائف إنْ ظنه المرء ابتداعاً من عند نفسه. تأتي معرفة الله بالإشراق والانكشاف والإلهام. الصوفي يقول:"انظر قلبك؛ لأن ملكوت السموات والأرض فيك". والنظر إلى القلب يدعو باستمرار إلى الجهاد الباطن؛ أي يدعو إلى إزالة غشاوة القلب ممّا ران عليه من مكتسبات الشرور والآفات؛ فمن عرف نفسه حق المعرفة عرف ربّه؛ لأن القلب مرآة تنعكس عليها كل صفة ربانيّة؛ فكما تفتقد المرآة قدرتها على عكس المرئيات حين يتغشاها الصدأ، فكذلك الحاسّة الروحية الباطنة التي يسميها الصوفية "عين البصيرة" لا تغشى عن رؤية العظمة العليّة إلا حين يزول حجاب الذاتية المظلم؛ الأنا الحاجبة، بكل ما في هذا الحجاب من نقائص حسيّة، زوالاً تاماً، لكنما الصفاء الخالص لا يتمّ إلا بفضل الله على أن يتطلب من جانب العبد جهاداً باطناً.
يوم أن تنجلي غشاوة البصيرة، يصبح التوحيد حقيقة ملموسة بالنسبة للصوفي من طريق المجاهدات، وهى دعامة مركزية ومرتكز أساسيّ، يصبح حيرة؛ فإذا تناهت عقول العقلاء إليه تناهت إلى الحيرة، لكن هذه الحيرة هى حيرة معرفة لا حيرة جهالة.
وعليه؛ تصبح حقيقة التوحيد هى باطن المعرفة، وهو (أي التوحيد)، كما قال الجنيد، سَبْقَ المعروف إلى مَنْ بِه تَعَرَّف، بصفة مخصوصة، بحبيب مُقَرَّب مخصوص. بيد أن هذه المعرفة ليست للكافة، بل "مخصوصة" بعبيد الاختصاص، ولا يتسع معرفة ذلك الكافة، ومن وراء ذلك سرّ؛ وإفشاء سّر الربوبية، كما قالوا، كفر.
إذا تساءلنا عن منهج الوصول إلى هذه المعرفة، تكون الإجابة كافية شافية بتنظيف القلب والسّر إلى حيث الوصول بهما على ضوء المنهج الذي يحكم صاحبه، وهو منهج الذوق والشعور والوجدان، إلى رضوان الله. هنالك يكون الأنس بالله والقربة منه مدداً علوياً مباركاً يعيشه قلب العارف، وتعيشه لطيفته الجوانيّة حياةً ينقطع معها النظير.
يروى أنّ ذا النون المصري، وهو في سياحاته، كان سمع برجل صالح يعيش في جبل المقطم، فلما بلغه خبره ذهب إليه ليزوره، فأقام معه مُدّة، ولما أراد الانصراف سأل ذو النون ذلك العبد الصالح أن يدعو له بدعوة فقال له: "آنسك الله بقربه". فلم يكتف ذو النون بدعوة الرجل الصالح تلك، فطلب الزيادة. فرد الرجل الصالح بقوله: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعاً بغير أربع: علماً بغير طلب. وغنى بغير مال. وعزاً بغير عشيرة. وأنساً بغير جماعة. ثم سأل: ألا يكفيك هذا؟ فبكى ذو النون وقال: بلى والله تكفي، وتزيد.
من أجل مدد القلب بنور من الله، جاهد المجاهدون من أصحاب العزائم كيما ينالوا هذا الأنس، وكيما يعيشوا في ظلال التقريب، وهذا هو لب لباب العمل الديني، وهو الغاية منه قصداً على التحقيق.
ومن صفة العارف التي تقوم على الإيمان، ويقوم الإيمان أساساً عليها، يلزم لهذه الصفة، عند التّحقق، أن تأسس على المكابدات والمجاهدات؛ فمكارم العارف على التحقيق موصولة بمكارهه، ومكارهه في معاناته.
في إشارة للإمام محمد عبده تقول: "إنما الأعمال الدينيّة تصدر عن الملكات والعزائم الروحيّة؛ لأن الروح لها السلطان القاهر على البدن حقيقة". ومعنى هذا: أن العمل الديني إذا هو صَدَرَ عن عادة الجسد لا يمس الروح في شئ، ولهذا تجيء العبادات شكلاً ينقصها التحقق الروحي الذي يفرضه المضمون الديني وتتطلبه الغاية منه؛ فلا عمل أرجى للقبول من عمل تتولاه الروح وتسعد به، وهنا تكون أعمال القلوب أولى من أعمال الجوارح، وأقدر على الاستمرار من تلك الأعمال التي هى مجرَّد عادات لا تعطي ثمرات التحقق من الوصول إلى المقامات العليا.
السرية والباطنية
س6: أ. مراد غريبي: لعلّ الاستفهامات الأساسية حول التصوف هي السرية والباطنية التي تكتنف حركة مدارسها عبر التاريخ، ممّا جعل البعض يربط بين تياراته والجمعيات السرية في العالم، لماذا يتم النظر للتصوف على هذا النحو وكيف واجه شيوخ الصوفية ذلك؟
ج6: د. مجدي إبراهيم: لو إنَّا رسمنا دائرة التصوف الإسلامي بين سُنّي وفلسفي، لوجدنا كلمة "السر" تحتل المركز منها، وتتصدَّر نقطة الانطلاق لهذا العلم على التحقيق، بل إن كلمة (Mysticism) الإنجليزية التي تطلق على التصوف، تترجم إلى السّريَّة على معنى التكتم والخفاء؛ لأن التصوف في مجموعه حسب تعريف سيد الطائفة أبي القاسم الجنيد واصفاً إيّاه إنْ هو إلا:"لحُوق السّر بالحق، ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب لقوة الروح والقيام مع الحق"، وهو بذلك يضع التصوف في موضع المراقبة "للوقت" بمقدار ما يضعه في مواجهة السّر. مع أن كلمة ((Islamic mysticism
إذا نحن أطلقناها على التصوف الإسلامي فهي ترجمة غير صحيحة؛ لأن النحل السرية كما توجد في التصوف توجد كذلك في سائر أنواع التصوف الأخرى؛ بل وفي الفلسفات القديمة أيضاً توجد نحل سرية فهو اصطلاح غير دقيق للتعبير عن التصوف الإسلامي، ولكن الكلمة الصحيحة للتعبير عن التصوف الإسلامي هي (Sufism).
إنَّا لنُقَدّر كل التقدير وجوب التشابه في الأفكار والاطلاع على المصادر الخارجية عند الصوفية الفلاسفة، والإلمام بكل ما هو فلسفي والإحاطة به لديهم. هذا شيء ضروري وواضح كذلك، لكن أن ينسب التصوف في الإسلام إلى مصادر غير مصدره الداخلي فيما يكشفه المضمون الجُوَّانيِّ فضلاً عن ضعف في التخريج، ولا يستند مع وجود تلك النسبة إلى تذوق ولا إلى بصيرة كاشفة، فهو كذلك جور في البحث واعتساف.
أولاً: لا بد من التأكيد على أن هنالك خصائص تجعل التصوف بعلومه وموضوعاته ورياضاته وأسراره وإشاراته، علماً مستقلاً عن أي مؤثر آخر، ينفرد بين سائر العلوم بخصائصه المعروفة تميزه عن سواه ولا تلحقه إنْ في الشكل وإنْ في المضمون بعلم آخر أو بفن سواه، حتى ولو تشابهت في الظاهر بعض ألفاظ وكلمات من هنا أو من هناك يستخدمها أقطابه؛ بألفاظ وكلمات يستعملها سواهم ممَّن دونهم ولكن لا ينتمون إلى ميدانهم لا من قريب أو من بعيد.
ومن تلك النقطة أقول: يفترق الرمز مثلاً في اللغة الصوفية عن الرمز في اللغة العادية، يفترق ويتباين ويختلف؛ فلغة الإشارة ليست كلغة العبارة. الإشارة، كما قلنا فيما تقدَّم، ألطفُ من العبارة؛ لأنها إيماءٌ إلى السِّر وتلويح إليه لا تصريح، وهى التي يستعملها أهل الطريق، رضى الله عنهم، فيما بينهم عند ذكرهم لما يفتح الله به عليهم من الأسرار التوحيدية، والعلوم اللَّدُنيَّة، والمواجيد والأذواق.
ثانياً: نذكر ولا ننسى مطلقاً خصوصية اللغة الصوفية نفسها؛ إذ لم تكن اللغة الصوفية وفق خطابها إلا اللغة المرتهنة برمزيتها. ومع هذا؛ فقد نجد باحثاً ممتازاً كــ (ولتر ستيس W.T.stace) يرفض اعتبار اللغة الصوفية رمزية، بمعنى أنها "تجاوز الفهم"، أو "تعلو على العقل"، وذلك في فصل كان عقده عن "التصوف واللغة" من كتابه "التصوف والفلسفة"، ويجادل من أجل نفي هذه النظرية؛ ليقدّم نظرية جديدة مقترحة، لكن جدله الفلسفي إزاء رمزية اللغة الصوفية لا ينفي بالفعل: أن إدراك المتصوفة جميعاً للواحد لا يشارك في طبيعة الفهم أو الفكر المُجَرَّد، على نحو ما تفعل معرفة الموضوعات العقلية البحتة، كما يقول أفلوطين.
غير أن صعوبة فهم كلام الصوفية أو إدراك مراميهم، راجع إلى أن التصوف حالات وجدانية خاصة يصعب التعبير عنها بألفاظ اللغة العادية، وليست هى بالشيء المشترك بين الناس.
ولم يخطئ عالم النفس الأمريكي وليم جيمس (James. (w. في كتابه صنوف من التجربة الدينيةthe varieties of religious experience)، حين حاول أن يُحدِّد الخصائص العامة المشتركة بين أنواع التصوف المختلفة؛ فوصف إحدى هذه الخصائص، بأنها "أحوال لا يمكن وصفها أو التعبير عنها (ineffability)، وذلك لأن هذه الأحوال أحوال وجدانية (states of feeling)، وهو ممَّا يصعب نقل مضمونه للغير في صورة لفظية دقيقة.
فلغة الإشارة من ثمَّ ليست كلغة العبارة، وليس من يؤسس لغته على الحب والذوق والتجربة والتحقيق؛ كمن يؤسسها (استشرافاً لا تحققاً) على النقل والنظر والقراءة والتقليد.
فإذا كانت لغة الإشارة تقوم على مواريث القلوب ومواجيد الأحوال كما علمنا فيما تقدَّم، فرمز العبارة العادية قد يتعمَّد فيه صاحبه التعمية والتضليل لمجرد التعمية أو التضليل، ثم يزعم لنا على الغفلة أن وراءها أسراراً بكراً لا تفض.
أو يُراد به الرمز الأدبي الذي يتأتى من كثرة الصور والأخيلة وهو الذي كان يستخدمه أفلاطون. والنوع الأول من الرمز (رَمْز التعمية والتغريب) يُراد من ورائه التُّقية والتَّخفي كما هو الحال عند الشيعة. وقد ظهر هذا النوع من الرمز عندما اختلطت الفلسفة بالشعوذة، واستخدمه الشيعة، وخاصَّة في العصر العباسي حين ضُيِّق عليهم الخناق.
ومن هنا؛ فقد نجد كثيراً كلمة "سر" أو "أسرار" يستخدمونها في تعبيراتهم ومؤلفاتهم قصداً، ولم يكن مقصدها عندهم هو نفس المقصد الذي يستخدمه الصوفية مع أن هنالك جوانب عامة عديدة مشتركة بين التصوف والتشيع.
فالسّرُ عند الصوفية ما هو إلا الحال المستور عن الأغيار: حَالُ العبد مع الله وكفى. وكفى بحال العبد مع الله فيما لو كان على الحقيقة في معيته أن يكون سراً محفوظاً مُصَاناً في منأى عن الأغيار. فليس في التصوف إمام معصوم يقوم بالهداية ويعلم من أسرار الدين ما لا يعلمه أحد من خاصّة العلماء أو من عامة المقلدين؛ لأن هؤلاء جميعاً إنما يعلمون ما ظهر من نصوص الكتاب ولا علم لهم بما بطن منه، وهو عندهم معنى الحديث الذي يقول:"إن القرآن نزل على سبعة أحرف"؛ فلا يهتدي إليها على حقائقها غير الإمام الذي اختصه الله بأمانة الإلهام؛ ومن ثم وجبت المبايعة له جهراً، وسراً إذا اقتضت "التقية" إخفاء أمره إلى حين.
وليس في التصوف مَنْ يتلقى من علم الغيب أسراراً يَدَّعيهَا نزلت عليه عن طريق القرآن وما فيه من رموز لكل ما هو كائن، ولا في التصوف إنكار لظاهر الآيات القرآنية لتفسيرها تفسيراً باطنياً لا يؤديه ظاهرها ويزعمون أنها أسرار القرآن؛ كما نجد الأمر في التشيع. وقد ذهب أحدهم (إسحق بن سليمان بن وهب (ت 272 هـ) صاحب كتاب "البرهان في وجوه البيان"؛ وهو كاتب شيعي، ظاهر التشيع، صنف كتباً عدّة في الفقه وعلوم الدين) يُعَرّف الرمز تعريفاً تتفق أطرافه مع هذا التفسير الباطني فيقول:"إن أصله الصوتُ الخَفيُ الذي لا يكاد يُفْهَمْ، وإنما يسْتعمل المتكلم الرمز في كلامه فيما يريد طَيِّه عن كافة الناس، فيجعل للكلمة أو الحرف اسماً من أسماء الطير أو الوحش أو سائر الأجناس أو حرفاً من حروف المعجم، ويطلع على ذلك الموضع من يريد إفهامه؛ فيكون ذلك قولاً مفهوماً بينهما مرموزاً عن غيرهما". ثم يروح فيقول:" وقد أتى في كتب المتقدمين من الحكماء والمتفلسفين من الرموز شيء كثير. وقد كان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون، وفي القرآن من الرموز أشياء عظيمة القدر جليلة الخطر وقد تضمن علم ما يكون ... وهذه الرموز هى أسرار آل محمد".
فالرمز في التصوف غير الرمز عند الشيعة، تماماً كما أن السّر في التشيع غير السر في التصوف؛ وإنْ ظهرت بوادي مشتركة فيما بينهما. وما كانت علوم الصوفية ولن تكون أبداً مستقاة من إمام معصوم، يتلقى من علم الغيب أسراره ومعارفه؛ لأن علومهم نَفْثٌ في الرَّوْع يُصْدِرها الحال في لحظة تجرد خالصة، وليست هى بالصادرة عن إمام معصوم. وهذا هو الفرق الفارق عندي بين باطنية الشيعة من جهة، وبين الحياة الباطنة عند الصوفية من جهة أخرى. قال الغزالي:" لما سُئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو؟ أجاب:" هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه بشراً ولا ملكاً". وحديث الغزالي هنا عن "العلم اللَّدُنّي" أو "العلم الباطن" الذي يقصده الصوفية (أي الأخذ عن الله بالمباشرة) يجيء بعد صفاء القلب وتزكية النفس وخلوص السريرة لله، وإليه إشارة الجنيد بقوله:" لو أن العلم الذي أتكلم به من عندي لفَنَىَ، ولكنه من حق بدا وإلى الحق يعود".
فكل ما يأتيه الصوفي الحق من علوم ومعارف وأسرار يطويها تحت غشاوة الرمز ولمح الإشارة، إنما يأتيه من هذا "الحق" وحده، يُبديها لقلبه بعد تزكيته وتطهيره من العلائق والأوْشَاب؛ فهي من أجل هذا علوم إلهام ونفث في الرُّوْع، من الحق بدت وإليه تعود، ليست تتلقى أولاً عن إمام معصوم كما هو الحال في التشيع، وليست تتأتى ثانياً بحيل العقل ولا كدِّ الذهن ولا عنت التحصيل في المقروء والمكتوب. علومُ إلهام لا علوم أقوال؛ إنما الرمز في التصوف يستند على إشارة روحية تحمل سراً يدل من الوهلة الأولى على حال الصوفي ولا يزيد: حاله مع الله، فأقوالهم وإشاراتهم ما هى إلا أسرى أحوالهم كما تَقَدَّم. ثم أنهم من جانب آخر أرادوا أن يحفظوا الوعي الصوفي كما قلنا مُصَاناً عن عطب المفسدين؛ لكأنما الإشارة هى التي تصونه وهى هى التي تحميه. ثم من ناحية أخرى إنك لترى هذا العلم (علم الإشارة) ذوقاً كله معجوناً بخميرة الذوق حياة وتجربة، ثم معاناة فيها رفضٌ للأغيار، من الخبرة الروحية يستمد مدده لا من سواها ومن شواهد الروح في عالمها الأعلى يستقي روافده. فإذا كان الخلق قد أشاروا إلى الله تعالى؛ فإن الصوفي وحد هو المشير عن الله عز وجل". على معنى أن إشارة الخلق إلى الله بعيدة؛ لأنهم لا يعرفونه وإذا عرفوه لم يتحققوا به، ولم تسكن قلوبهم حقيقة المعرفة به. أما الصوفي العارف فهو الدليل على الله حقيقةً؛ لأنه كان أخَذَ علمه عن الله بالمباشرة كما قال أبو يزيد البسطامي مخاطباً من أشاروا إلى الله من الخلق:" أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
وليس للعقل فيه من حظ سوى حظ التنظيم الذي يمنع الاضطراب، بل إذا أراد أحد أن يعمل فيه عقله أفسده من فوره، ومن حيث يظن به الوصول فيه إلى رأي سديد؛ لأن هذا العلم ليس علم رأي ولا وجهة نظر، ولا هو بعلم رواية أو دراية، ولا يتأتى بالمطلق من حلية الدليل، ولكنه علم نَفْث في الرَّوْع: محض وَهْب يتأسس على الأذكار والأوراد، وعلى فيض التجربة وعطاءاتها مع الله.
فإذا كانت علوم النظر يعطيها العقل، وعلوم الجدل ومحاجة الخصم يعطيها الدليل أو البرهان؛ فإن علوم الذوق يعطيها "الحال"؛ وتُفاض على صاحبها من طريق الوَهْب خاصَّة فيضاً من عند الله، بمقدار ما يعطيها الذكر المقرون بالفكرة العلوية لا الذكر الذي يصدر عن لسان يشهد صاحبه حُجُب الأغيار؛ فيذكرها مع من يذكر غافلاً غير حاضر، وزاعماً أن له ذكراً ينقله من حال إلى حال.
ومع ذلك كله، تجدر الملاحظة أن الإشارة في ذاتها ليست هى المطلوبة، وأن العارف لا يتعمد الإشارة تعمداً يُلغز فيها ويأتي بالغريب العجيب على صحوة العقل وذكاء التمييز، بل الله هو الذي يجريها على لسانه فيما لو كان متحققاً بحال الفناء، غير شاهدٍ هو لما يأتي فيها من غرائب أو عجائب. ليس بعارف ذلك الذي يَتَعَمَّد أن يجري الإشارة بنفسه؛ لأن العارف الحق مَنْ لا إشارة له كونه في حال الفناء منطوياً في شهوده.
يفنى العارف عن نفسه فلا يرى في هذا العالم وجوداً على الحقيقة غير وجود الله، فهو على الدوام غائبٌ عن وجوده المحدود شاهدٌ لوجود الله اللامحدود، غائبٌ عن المتناهي مشاهد للامتناهي، غائبٌ عن المرئي مشاهد للامرئي؛ ومن غيبته عن نفسه وعن وجوده ومن انطوائه في شهوده، لم تبقْ له إشارة على الحقيقة؛ لأن العارف حقيقة هو من غاب عن الإشارة والمشير والمشار إليه؛ فإذا وقعت منه إشارة لا يشهدها ولا يشعر بها لكون المشير والمشار إليه هنا هو الله تعالى، فليس يبقى مشير ولا إشارة. ولكَوْن العارف إذْ ذَاَكَ مجموعاً في مقام الجمع، لا يرى لنفسه إشارة ولا غير إشارة، وَمَنْ كان كذلك فهو غائب عن رؤية نفسه.
إن ابن عطاء الله السَّكندري ليُلخِّص في حكمة بالغة هذا المعنى حيث يقول:" ما العارفُ مَنْ إذا أشارَ وَجَدَ الحقَّ أقرب إليه مِنْ إشارته، بل العارفُ من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده".
وإشارة ابن عطاء الله السَّكندري تتجه مباشرة بالعارف إلى حال الفناء الصوفي: خصوصية العرفان الخاصة بالعارف والروضة الباهرة المبهرة من تجليات الله عليه، وذلك لأنه الحالُ المرادف للتجربة الحقيقية مع الله تعالى: الفناء عمَّا سواه والبقاء به عمَّن دونه، هو الذي يعطي التصوف في الإسلام خصوصيته، يعطيه أعلى ما فيه، وأذكى ما فيه، وأبدع ما فيه، فمن وقف عليه فقد وقف على حقيقة الحقائق وذاق من التصوف أعلى ما يعطيه.
مَا العَارف مَنْ إذا أشار إلى شيء من أسرار الحق وَجَدَ الحق أقرب إليه من إشارته. يعني أنه كان حاضراً معه لم يغب عنه، بل هو مُلاحِظُه في حال إشارته وأقرب إليه منها .. لا .. فهذا ليس بعارف على الحقيقة لبقائه مع نفسه؛ ولأنه إذْ ذَاَكَ ملاحظٌ أن هناك مشيراً ومشاراً إليه ومشاراً به، ومادام يتعقل أنه مشير والحق مشارٌ إليه، وأن ما صدر عنه هو إشارة؛ فهو حتى الآن لم يَفْنَ عن نفسه، ولم يخرج عن دائرة حسه. ولهذا فقد وَصَفَهُ ابن عطاء الله السَّكندري أنه ليس بعارف.
ولكن ما معنى أن يصبح العارف في حال الفناء؟ معناه: أن تبدو العظمة والجلال عليه فتنسيه الدنيا والآخرة والدرجات والأحوال والمقامات والأذكار، وتفنيه عن كل شيء: عن عقله، وعن نفسه، وعن إرادته، وعن فنائه عن الأشياء، وعن فنائه عن الفناء؛ فيغرق في بحار التعظيم. تلك هى عندي خصوصية التصوف في الإسلام، وخصوصية علومه، تأتيه من التجربة المباشرة وتذوق علوم الحال. إذا نحن وضعنا هذه الفوارق كلها في الاعتبار لم يعد مسموحاً باقتحام ربط التصوف بالنحل السرية الأخرى أو بالجمعيات والحركات السرية في العالم؛ لأنها بالطبع فوارق جوهرية.
التصوف والسلطة
س7: أ. مراد غريبي: هناك من يرى أن بين الصوفية ورجالاتها من جهة والسلطة من جهة أخرى عبر التاريخ الإسلامي علاقات في أغلبها معتدلة، ممّا شكل رأياً تعسفياً حول نهج التصوف عموماً، ماهي قراءتكم لفن التعامل الصوفي مع السلطات الحاكمة عبر التاريخ؟
ج7: د. مجدي إبراهيم: من قال إن العلاقة كانت معتدلة بين السلطات ورجال التصوف، بل بالعكس لا توجد سلطة إلا وكان التصوف ضدها. دور التصوف الحقيقي يكمن في تحدى السلطات: سلطة العقل والنظر المحدود، وسلطة المفهوم من ورائه، وسلطة الضمير الغُفْل من تنقية الباطن، وسلطة المجتمع المحكوم بِقَوانينه، وسلطة المنافع والمصالح أو ما شئت في الحقيقة أن تضيف من سلطات ..!
يَتَحدىَ هذه السلطات جميعاً لتكون السلطة التي يعمل لها ألف حساب وحساب هى سلطة الله الأحد الذي ليس سواه في الوجود على الحقيقة موجود، فليس هناك من فاعل إلا الله، وليس هناك من موجود إلا الله، ولا حساب لديه على الإطلاق لسلطات يصنعها أو يَتَوَهَّمها الإنسان.
كان عَمَلُ التصوف على الدوام ولا يزال هو تحرير الإنسان من وَهْمٍ تَعَشْعَش في أعماقه: أن يحسب للأغيار حسابات السلطة مهما كانت أو كائنة ما كانت، ليجري وراء ما تَتَوَهَّمَهُ لنفسها من سطوات، لتُخِيفه في أعماقه الباطنة أو لتشل حركة المجموع شللاً فتخضعه لما عَسَاهُ يزعم أنها ذات سلطة في نفسها، وهى في الحق، وفي الواقع كذلك، خَاوية فارغة من كل سلطة حقيقية: تحريره من الزيف، تحريره من سلطة العقل وسلطة الضمير الغُفْل، وسلطة المجتمع المحكوم بقوانينه، وسلطة المصالح والمنافع لتكون سلطته الحقيقية هى السلطة الإلهية، وليكون الدِّينُ، من بعَدُ، ليس قشرة سطحية بَرَّانِيةً بل هو الجوهر الباطن يظهر في الفعل خالصاً لله.
هذه هى دعوة التصوف: أن يَبْلغَ الدينُ نقاوته في الوجدان الإنساني، ويبلغ التحدي فيه على مستوى الفرد كل أنماط مخلوقة تضر بإنسانية الإنسان أكثر ممّا تنفعه بعد أن تسلبه حيويته الروحية وحماسته الدينية؛ ليكون خاضعاً ذليلاً أو عبداً كسيراً لمخلوق مثله يعبده، ويتذلل له بالعبادة، وينسىَ أنه عَبْدٌ لله. وتاريخ المتصوفة يمثل ذلك ويعبر عنه خير تعبير، وإلا لو كانوا بالفعل أهل غفلة وخنوع واستسلام لما كان تَعَرَّضَ لهم ذوي الأخلاق الوَبِيئَةِ من السَّفَلة والمنحطين للوقيعة والمكيدة، فَشُرِّدُوا وطردوا من مواطنهم، وذُبِّحوا ونُكِّل بهم بغير ذنب ولا حَق، واتهموا بتأليب العامة، وتغيير موالاتهم للسلطات السياسية أو الاجتماعية يومذاك، مَنْ ذَا الذي يقول إنِّ الحلاجَ لم يكن له دَوْرُ اجتماعيُّ؟ وَمَنْ ذَا الذي يسلب عن المتصوفة ميولهم الإصلاحية ونزعتهم الخُلقية وتَفَرُّدهم بالتَّوَجُّه الروحي فيما من شأنه لو طبق أن ينعكس على المجتمع بالإيجاب؛ بالخير كله، ومَنْ ذَا الذي يسلبهم طِباعهم السمحة المستقيمة، أو شجاعتهم النادرة في الحق، ومن أجل الحق، ووقوفهم دوماً أمام الظلمة والمفسدين، وفي وجه الأمراء والحكام، وللنصيحة للبر والفاجر، وعلى مدى تاريخهم الروحي الطويل؟
المدهش أن هنالك وثيقة تاريخية نادرة، ذكرتها في بعض كتبي، جاءت شاهدة على ما لاقَاهُ الصوفية من أذى، كان نقلها الشعراني عن السيوطي، في كتابيه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر، والطبقات الكبرى. وإنها لوثيقة تاريخية تنطق بمقدار ما عاناه الصوفية من ضروب الاضطهاد الديني بما لا تكاد الإنسانية تشهد مثله من قبل؛ ومِمَّنْ؟
من مسلمين أمثالهم في العقيدة والدين .. أليس هذا دَاعياً للدهشة والعجب؟
وَقَفَ ذو النون المصري في وجه الخليفة المتوكل، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولاً مقيداً بعد أن جاءت تهمته الزندقة، فلما كلم الخليفة بعبارات القوم قال في دهشة المُسْتريب: "إنْ كان هذا زنديقاً فما عَلَىَ وجه الأرض من مسلم".
وكانت لهَارُوُنِ الرشيد مَقابلات خَاصَّة مع متصوفة عصره يندى لسَماعها جبين الصادقين. وكانت لابن قِسيِّ (546هـ) وزملائه من أولياء المغرب دعوات إصلاحية، تبحث في كل ما مِنْ شأنه أن يرضي الله من خدمة المجموع فتفعله، ولا تنطلق في طريقها قائمة فاعلة إلا وهى هادفة إلى الإصلاح الذي يلزم سعي الصوفي بالقصد إلى الله؛ لكنه قتل بعد أن لفِّقَتْ له التُّهم، كما لفقت للحلاج من قبله، تماماً كما قتلوا أبا الحكم بن برَّجان سنة (536هـ) والخوالي والمرجاني مع كونهم أئمة يُقْتَدىَ بهم.
ثم من أجل الإصلاح وكلمة الحق الصادقة المخلصة، ومن أجل العمل لإعلاء دين الله وتحقيق كلمات الله في النفس والضمير أقول مرة ثانية: لاقى شيوخ الصوفية من الأذى، ما لم يشهده تاريخ الاضطهاد الديني، بغير مبالغة، في ثقافات العالم مجتمعة.
أمَرَ الخليفة بضرب عُنق سمنون المُحِبِّ بعد أن أدَّعت عليه امرأة كانت تهواه، راوَدَتُه عن نفسها وهو يأبى أن يأتيها في الحرام ثم حَرَّضوا العامة ضده فطردوه هو وجماعته، وشهدوا عليهم بالكفر والزندقة، فمنهم مَنْ هَرَبَ ومنهم من توارى سنينَ متخفياً عن عيون الحانقين والمتربصين حتى كفَّ الله محنتهم.
ونفوا أبا يزيد البسطامي من بلده سبع مرات؛ لأنه كان يتكلم على الكشف بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء والأولياء، فأنكر عليه رجلٌ يُدْعىَ الحسين ابن عيسى البسطامي إمام ناحيته، وأمر أهل البلدة أن يخرجوه منها، فأخرجوه ولم يعد إليها إلا بعد موت الحسين هذا !
ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بتكفيره لألفاظ وجدوها في كتبه. وشهدوا على ذي النون المصري بالكفر بعد أن تَعَصَّبَ عليه فقهاء إخميم. وأخرجوا سَهْل بن عبد الله التُّسْتَريِّ من بلده إلى البصرة، وَنَسَبُوه إلى قبائح موبقة، وكفروه مع علمه ومعرفته واجتهاده، ولم يزل بالبصرة حتى مات.
وشهدوا على الجنيد، مع فضله وعلمه وجلالته ورقي أحواله وريادته في الطريق، بالكفر حين كان يتكلم في إشارات التوحيد، واضطهدوه ثم إنّه تَسَتَّرَ بالفقه وبظاهر العلم الظاهر، واختفى عنهم، فراح يقرّر علم التوحيد في عُقْرِ دَارِه.
واخرجوا محمد ابن الفضيل البلخي بسبب المذهب؛ لأن مذهبه كان مذهب أصحاب الحديث، فقالوا له لا يجوز لك أن تسكن في بلدنا ولا تتخذ منها وطناً يأْوِيك! فتحداهم تحدي من سقطت من عينه مطلقاً رؤية الأغيار حتى لكأنه لم يَعُدْ يَشْهَد لهم عيناً ولا أثراً. فقال لهم في لهجة التحدي: لا أخرج حتى تجعلوا في عنقي حبلاً وتمروا بي على أسواق المدينة وتقولوا: هذا مُبْتَدِع نُريدُ أن نخرجه من ديارنا! ففعلوا به كذلك، وأخرجوه وألتفت إليهم وقال: "نَزَعَ اللهُ مِن قُلوبكم معرفته"، فلم يخرج من بَلْخ بعد دعائه هذا صوفيُّ مع كونها كانت أكثر بلاد الله صوفية. واخرجوا الحكيم الترمذي من بَلْخ حين صَنَّفَ كتاب "علل الشريعة"، وكتاب "ختم الأولياء"، وأنكروا عليه بسبب هذين الكتابين، وأغلظوا الإنكار، وكانت التهمة جاهزة بطبيعة الحال، إذْ قالوا: فضَّلت الأولياء عَلَىَ الأنبياء ..!
وَرَمُوا يوسف بن الحسين الرازي بالعَظَائم وتكلموا في حقه بالكلام الخارج، وَشَهَدَ عليه زهاد الرَّاز وصوفيتها بالإنكار؛ فلم يعبأ بهم، ولم يبال. واخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي من المغرب مع فضله وعلمه وزهده واستقامة طريقه، وتَصَدُّره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحملوه من المغرب مقيداً إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان، وَلمْ يَرجِعْ عن قوله، فأخذوه وسلخوه وهو حي فصار يقرأ القرآن وهو مَنْكُوس مَسْلُوخ، فكاد أن يفتن به الناس فرفع الأمر إلى السلطان فقال: أقتلوه ثم أسلخوه!
واخرجوا أبا الحسن البوشنجي، وأنكروا عليه، وطردوه إلى نيسابور فلم يزل بها حتى مَات. واخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع مجاهداته وتمام علمه وحاله، وطاف به العلوية على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه ومنكبيه، فأقام ببغداد، ولم يزل بها حتى مات. وَشَهَدُوا على السِّبْكي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وإتباعه السُّنَّة إلى حين وفاته، وأدخلوه البيمارستان (المستشفى) حتى أنَّ مَنْ كان يحبه شهد عليه بالجنون طريقاً لخلاصه ونجاته، وقال فيه أبو الحسن الخوارزمي أحد مشايخ بغداد المعروفين يومها: "إنْ لم يكن لله جهنم، فإنه يخلق جَهَنماً بسبب السِّبْكي"؛ أي يخلقها الله للذين آذوه وأنكروا عليه وكفروه بالباطل.
وأفتوا في بلاد المغرب بتكفير الغزالي وأحرقوا كتابه "الإحياء". وطعنوا على الجنيد، وعلى رُوَيِّم، وسمنون المحب، وابن عطاء، ومشايخ العراق، وكان المدعو أبو دنيال إذا سمع أحدهم يذكرهم بخير تَغَيَّظ وتَغَيَّر وكادَ يأكل نفسه من الحسد.
واخرجوا أبا الحسن الشاذلي من بلاد المغرب، وفي صحبته أبي العباس المرسي وجماعته وشهدوا عليهم بالزندقة. ورموا الشيخ أحمد ابن الرفاعي، بالزور والكذب والبهتان، بالزندقة والإلحاد وتحليل المحرمات.
وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلساً في كلمة قالها في العقائد، وحرَّضوا السلطان عليه، إلى أن تداركته ألطاف الله. وأنكروا على ابن عربي وابن الفارض وجماعتهما إنكاراً عظيماً، وتطاولوا في الإنكار، وشهدوا عليهم بالكفر، ولا يزال جهلة الناس يكفرونهم حتى يومنا هذا. وذبحوا الحلاج وَالسَّهْرَوَرْدِي بعد الحكم عليهما بالتكفير والمروق عن الدين. ثم ماذا؟ إنْ لم يكن الصوفية أهل إصلاح لنفوس معوجة، وأهل تغيير لواقع فاسد، وأهل جهاد في سبيل حياة كريمة من أجل الله، لمَا تَعَرَّض لهم سفلة الناس وتصدُّوا لهم عند الأمراء والحكام بالوقيعة والتعذيب والتنكيل والطرد والتكفير، وبكل دسائس الشر ووسائل الاضطهاد التي تصطدم مع أبسط حقوق المرء في التعبير عن فكره. ونحن من ثمَّ نعجب من تمسك الصوفية تمسكاً غريباً بملاقاة الأذى وتحمله من سفهاء الآدميين، ولكننا حتى إذا ما عَرَفنا السبب بطل لدينا العجب. والسبب فيما نرى هو أن الداعي إلى الله على ديدن الصدق وشريعة الإخلاص لا يكون له حظ من ميراث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ما لم يُلاقْ الأذى من جرَّاء دعوته إلى الله، ويتحمل في سبيلها بصبر الأقوياء العاملين كل ألوان الاضطهاد الذي يلقاه الشرفاء في عالم منكود. لعَلَّ هذا السبب هو المقياس الذي يُقاس به معدن الإخلاص في ذات الإنسان المخلص: أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتحمل تبعة دعوته فيواجه الأذى كما واجهه الأنبياءُ والمرسلون والأولياءُ والعارفون وأهل العزم من أولي الصدق والإحسان ممَّن ورثوا ميراث النبوة.
***
حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف
6 - 11 - 2022م