مرايا فكرية
مراد غريبي يحاور الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي (3)
المثقف: الحلقة الثالثة من مرايا فكرية مع الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:
المحور الثالث: عن الإصلاح الديني في مصر (التاريخ، الأعلام، الآفاق)
س17: أ. مراد غريبي: بداية لابد من الضبط المفاهيمي: ماذا يعني الإصلاح الديني عربيا و إسلاميا، و هل هناك تداخل مفاهيمي بين الإصلاح و التجديد و التحرير و التنوير، و ماهي أوجه التمايز بينها، ثم أي مجال للإصلاح الفكر فقط أم على عدة مستويات في الحياة؟
ج17: د. محمود محمد علي: بالنسبة لسؤال ماذا يعني الإصلاح الديني عربيا وإسلاميا؟ .. أقول لا يوجد ما يسمي بالإصلاح الديني عربيا وإسلاميا، ففكرة الإصلاح الديني فكرة مسيحية بروتستانتية انبثقت كحركة داخل المسيحية الغربية في أوروبا في القرن السادس عشر حيث شكلت تحديًا دينيًا وسياسيًا للكنيسة الكاثوليكية الرومانية والسلطة البابوية بشكل خاص، ومن ثم ففكرة الإصلاح الديني جاءت نتيجة لوجود اعتقاد الأوربيين بوجود انحراف في الدين ويحتاج إلى إصلاح .. بينما لدينا نحن المسلمون الدين بالنسبة لنا ثابت الأركان ومن ثم لا يمكن تطبيق فكرة الإصلاح الديني، إلا من خلال تجديد ما يسمي بالخطاب الديني.
أما فيما يخص التمييز بين الإصلاح والتجديد والتحرير والتنوير فأقول بأن الإصلاح والتجديد مرتبطان معا، فالبعض يعتبرهما مترادفان فيستعملون كل واحد منهما مكان الآخر، ولكن في نظري هناك فرق بينهما، فالإصلاح يفترض نقصا ما في الواقع. وقد يصل هذا النقص إلى درجة الخلل وهذا يستلزم شيئا من الهدم وإعادة البناء، ولذلك فإن الإصلاح يقتضي أيضا عدم التسليم بالموروث واعتبار أن خطئا ما قد وقع عند السابقين فهما أو تطبيقا أو هما معا.. أما التجديد فيتمثل في عملية إضافة جديدة لا تنكر علي القديم بالهدم أو البطلان بل تُضيف الجديد الذي يحتاجه العصر وموقفها من القديم مبني علي فكرة القائم بواجب الوقت، وان السابقين قد قاموا بواجب وقتهم بناءا علي مقتضيات حياتهم وأزمانهم وأنهم حققوا نجاحات، وأن لكل عصر واجب يختلف عن واجب العصور السابقة، ولذلك فمع احترامنا للموروث إلا أننا لا نقف عنده ولا نقف ضده،بل نحترمه ونضيف إليه ونعيد صياغة مناهجه بصورة تتسق مع ما أضفناه من مناهج جديدة أيضا.. وأما التحرير والتنوير فهما مرتبطان معا، وإن كان هناك فرق واختلاف بينهما، فالتحرير فيعني التحرر من الأفكار الدوجماطيقية التي تعوق الإنسان نحو التفكير العلمي، والتحرير هنا مهامه نبذ التقليد والدعوة إلى الإبداع الفكري والعملي ..أما التنوير فهو مصطلح أوربي يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية في القرن الثامن عشر قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة.
وفيما يتعلق بسؤال أي مجال للإصلاح الفكر فقط أم على عدة مستويات في الحياة؟ .. فأقول فالإصلاح يكون على عدة مستويات وذلك لأن الإصلاح ينجب شامل ومرتبط بالثقافة السائدة على كافة المستويات: الفكرية والاقتصادية والاجتماعية .. الخ.. ومن ثم يكون الفكر شاملا ومعالجا لما هو كائن وليس ما ينبغي أن يكون.
س18: أ. مراد غريبي: تعتبر مصر مركز فكرة الإصلاح الديني الحديث في العالم العربي، هل كانت البداية بعد حملة نابليون على مصر أم قبل ذلك؟ و ما هي أهم الأسباب التي أنتجت فكرة الإصلاح الديني في مصر؟
ج18: د. محمود محمد علي: مصر بلا شك كانت كما قلتم هي مركز فكرة الإصلاح الديني الحديث في العالم العربي، والبداية لم تكن بعد حملة نابليون على مصر، فنابليون لم يكن تنويريا، بل كانت قبل ذلك عند حسن العطار والجبرتي، فلا أنسى مقولة العطار؛ التي يقول فيها:" إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم ..."، وقد أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه "رفاعة الطهطاوي"، الذي سافر بدوره إلي فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان .. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بدينهم، سواء بسواء .
وحول أهم الأسباب التي أنتجت فكرة الإصلاح الديني في مصر، هو المجتمع نفسه أو شعور الجمهور أو العقل التابع وحاجته إلى التغيير، حيث انتشر التخلف والشعوذة علاوة على الاستعمار الذي بدأ يعذوها..
س19: أ. مراد غريبي: ارتبط عنوان الإصلاح الديني في مصر بشخصية الإمام الشيخ محمد عبده، لماذا و ماهي أهم الشخصيات الإصلاحية التي عرفتها مصر منذ عصر الشيخ عبده و إلى زماننا هذا؟؟
ج19: د. محمود محمد علي: نعم لقد ارتبط عنوان الإصلاح الديني في مصر بشخصية الإمام الشيخ محمد عبده، وذلك لكونه على رأس المجددين للفكر الديني والتحديث وكأول رائد للإصلاح في مصر، حيث نقل فكرة الإصلاح إلى عقل وقلب المجتمع المصري في المقاهي والبيوت والأزقة والشوارع، وكأنه سقراط مصر الذي جاء ليوّلد هذا الإصلاح، ولذلك وجدنا دعوته الرئيسية بعد عودته من المنفى لمدة ست سنوات، بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، هي الإصلاح، إصلاح الأزهر ونظام التدريس فيه، إصلاح المحاكم الشرعية، الإفتاء، والأوقاف الإسلامية، وإنشاء مدرسة للقضاء الشرعي 1907..
وحول أهم الشخصيات التي عرفتها مصر منذ عصر الشيخ عبده و إلى زماننا هذا، نذكر مثلا الشيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمد حسن الباقوري، ومصطفي المراغي، ومحمد الغزالي، محمد البهي، ومحمد متولي الشعرواي، وزكي نجيب محمود، علاوة على رجال من أمثال: عبد المتعال الصعيدي، وأمين الخولي.. الخ.
س20: أ. مراد غريبي: هل عملية الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده فعلا هي امتداد لدعوات نجد بشبه الجزيرة العربية، كما يرى البعض؟
ج20: د. محمود محمد علي: لم تكن عملية الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده هي امتداد لدعوات نجد بشبه الجزيرة العربية، بل كانت ضدها حيث أن دعوة نجد تركز على الاكتفاء بالقديم، بينما دعوة محمد عبده هو أخذ القديم لغربلته وأخذ النفيس منه فقط والصالح للتطبيق في الزمان والمكان الذي أعيش فيه .. أما التجديد فلا يؤخذ على عواهنه ولكن نأخذه كي ننقيه من الشوائب وإدخاله ضمن الخطة العملية الإصلاحية الخاصة، وهذه تمثل عبقرية محمد عبده في الأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد...
س21: أ. مراد غريبي: هل هناك ترابط بين تطور الفكر النهضوي العلماني و فكر التجديد الديني في مصر؟ و ماهي أهم الإشتغالات المتناسقة بينهما إن وجدت؟
ج21: د. محمود محمد علي: نعم هناك ترابط بين تطور الفكر النهضوي العلماني و فكر التجديد الديني في مصر، حيث يوجد لدينا ما يسمي الفكر العلماني العربي وهو مختلف تماما عن الفكر العلماني الغربي، فالأول يطرد الدين وينحيه عن السياسة فقط في حين الثاني يطرد الدين عن كل أمور الحياة، ولذلك العلمانية في بلاد الغرب نتاج ظروف وتطورات ومعطيات دينية وتاريخية واجتماعية وفكرية وسياسية وموضوعية وخير مثال للفكر النهضوي العلماني العربي كتاب " الإسلام دين العلم والمدنية لمحمد عبده، حيث كلمة "مدنيك" التركية هي الموازية لكلمة العلمانية .
وحول أهم الإشتغالات المتناسقة بينهما إن وجدت فنجدها متمثلة في التفكير العلمي والتطبيق العملي حيث كان المنظرين هم المطبقين.
س22: أ. مراد غريبي: هل خطاب الإصلاح الديني المعاصر في مصر، لا يزال ينهج نفس مسلكيات السابقين في مقاربة مشروع الإصلاح الديني أم أنه فعلا جدد في الفهم و المنهج و التطلع؟
ج22: د. محمود محمد علي: والإجابة تكون بالنفي، حيث كان خطاب الإصلاح الديني المعاصر يمثل نقلة نوعية عن منهج السابقين بحيث تجعله يسهم بدور أكبر في مواجهة المشكلات الحياتية للمسلمين، واللجوء إلى الحلول العلمية للمشكلات؛ ذلك أن عالمنا المعاصر عالم مختلف اختلافاً جذرياً عن العوالم السابقة بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة العلمية والتكنولوجية، وذلك فضلاً عن تداعيات عصر العولمة في مختلف الاتجاهات.
ولا شك في أن خطاب الإصلاح الديني المعاصر قد جدد في الفهم من خلال الدعوة إلى دور دعاة الإسلام في قيادة عامة للناس إلى حب الحياة، والى العمل من أجل التعمير والبناء والتنمية، متسلحين بثقافة الأمل، حيث علمنا ديننا الإسلامي أن نعيش على الأمل، وأن نجتهد في إصلاح أحوالنا، كما دعا أيضا بأن يطور علماء ودعاة الإسلام في خطابهم الدعوي، بما يجعله أداة حقيقية للتغيير والإصلاح والنهضة التي ننشدها، بحيث يواجه العلماء والدعاة ما يبثه أعداء الأمة في نفوسنا من مشاعر إحباط ويأس وقنوط.
س23: أ. مراد غريبي: في أغلب محطاته الفكرية، كيف قارب الإصلاح الديني في مصر مسألة السلطات الدينية وصيغة المواطنة؟
ج23- د.محمود محمد علي: بالنسبة لمقاربة الإصلاح الديني في مصر لمسألة السلطات الدينية وصيغة المواطنة، فهذه المقاربة في اعتقادي قد تجسدت من خلال مواءمة الوعي العام للمصريين، مع متطلبات التنمية والإدراك الحي بمناخ العصر وتحدياته، وهذه المواءمة قد دعا إليها الإمام محمد عبده،عندما نادى في خطابه الإصلاحي بتوطين بعض المفاهيم المعاصرة في جسد الخطاب الديني؛ مثل مفهوم الدولة الوطنية والشرعية الدولية، ومفهوم المواطنة الذي تتساوى فيه الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق والطائفة والدين.. وعلى هذه الخلفية احتلت قضية المواطنة في مصرنا أولوية كبيرة فى بناء مواطنة مدنية ذات بعد كونى حداثى قادرة على أن تواصل مسيرة بناء مصر الجديدة والمحافظة على مكتسباتها. وهنا صارت المواطنة لها حق وهذا الحق لا يتحقق بالقوانين وحدها لكن لابد أن ترتكز الممارسات أيضاً على المساواة الكاملة بين جميع المصريين وعلى حكم القانون المطلق بينهم فحق المواطنة هو الرابط بين الدولة والمجتمع وغياب حق المواطنة يجعل من الدولة سلطة فوقية معزولة عن مجتمعها.
س24: أ. مراد غريبي: هناك جدل واسع حول ماهية الإصلاح الديني من خلال إشكاليات وعي العلمانية و الحداثة لدى العديد من دهاقنة الإسلام السياسي، بنظركم هل الإصلاح الديني في مصر بحاجة لعلمانية إسلامية للتحقق أم العكس هو من ينتج العلمانية الإسلامية؟
ج24: د. محمود محمد علي: في اعتقادي أن الإصلاح الديني في مصر ليس بحاجة لعلمانية إسلامية، لا سيما بعد أن تبين للمصريين بأنه دهاقنة الإسلام السياسي كان ظهورهم على الساحة السياسية نتيجة مؤامرة إمبريالية أتاحتها لهم ملابسات ثورة 25 يناير سواء الداخلية والخارجية، لتحقيق مشروعهم لأسلمة نظام الحكم في مصر، والإنطلاق لتفعيل مشروع إسلامي إقليمي، هو في الواقع في سياق مشروع دولي لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية برعاية أميركية، تقضي على آمال توحيد المنطقة.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد راهنت على رغبة شديدة في أن يتولى أقطاب الإسلام السياسي الحكم في مصر مع ضعف في الخبرة، وذلك مقابل محاربة الأعداء والمنافسين المشتركين وتبديل ما هو عدو استراتيجي وتحويله إلى عدو تكتيكي وتحويل ما هو خصم أو منافس تكتيكي إلى عدو استراتيجي . وعلى ضوء ذلك تقدير الإدارة الأمريكية لطبيعة المعركة وأدوار اللاعبين الإقليميين، تم استبدال الثنائي الباكستاني السعودي كحلفاء في تحويل الإسلاميين في الثمانينيات بثنائي جديد، تركيا القوية الجامحة لمواصفات الهوية والشرعية الإسلامية والحداثة والنجاح الاقتصادي والتجربة الديمقراطية العلمانية، وإمارة قطر الغنية بالنفط والغاز ومالكة قناة الجزيرة التي خطفت الجمهور العربي بإبهارها وتكتيكاتها وصدقيتها الإعلامية الناعمة والعابرة للدول ومن خلال انفتاحها على حركات الإسلام السياسي في مصر.
س25: أ. مراد غريبي: للإصلاح الديني مقتضيات من بينها: الفصل بين الدين والتدين، نقد الفهم الديني، تجديد فهم مقاصد الشريعة، تجاوز إشكاليات العلمنة والحداثة، أين محاولات الإصلاح الديني في مصر من هذا كله؟ و كيف ينظر لتجارب القمني، يوسف زيدان و عبد الجواد ياسين، نبيل عبد الفتاح و الأزهريين الثائرين و غيرهم على ضوء مشاريع الإصلاح الديني في العالم الإسلامي؟
ج25: د. محمود محمد علي: إن فكرة الفصل بين الدين والتدين، ونقد الفهم الديني، وتجديد فهم مقاصد الشريعة، وتجاوز إشكاليات العلمنة والحداثة ترتبط في نظري بمدى التغير الجذري الذي يمارس به المفكر دوره في الحياة الفكرية في عصره، ومدى الأثر العميق الذي يحدثه في مجرى الحياة الفكرية التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة وزعزعة الأفكار السائدة، وتأسيس نوع من الانقطاع الإبستمولوجي بين المعارف القديمة من جانب، والمعارف الجديدة من جانب آخر، مستهلاًُ الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على الفكر، نفياً لتقاليد الأتباع وتأسيساً لقيم الابتداع.. وتتجسد في حضور هذا النوع من المفكرين نقاط التحول الحاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث لا توجد استمرارية في منهجية المفكر، بقدر ما توجد قطائع واستحداثات لا تنتهى".. هذا النوع من المفكرين يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التي تتغلغل في كل الأركان، فلا تبقى شيئاً على حاله الذي كان عليه، حتى في دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير. فحدة العاصفة التجديدية التي تندفع بها رؤية هذا المفكر لا تقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها، والأثر العميق لمتولياتها، والتغلغل الناتج لنوافذها؛ خصوصاً إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري, دافعة إليه ومتجسدة في الرؤية الشاملة للمفكر، ومتحققة بها في الوقت نفسه.
والسؤال الآن: هل تجارب سيد القمني، ويوسف زيدان وعبد الجواد ياسين، ونبيل عبد الفتاح والأزهريين الثائرين وغيرهم قد قاموا بعمل مشاريع للإصلاح الديني بحيث أن نقول إنها أحدثت نوع من القطيعة المعرفية؟
والإجابة في نظري تكون بالنفي لكونهم لم يحدثوا في فكرهم نوع من القطيعة المعرفية، فالقطيعة المعرفية في نظري تحتاج لمفكر أو فيلسوف يتميز بالمشاغبة ؛ فالمشاغب في نظري هو ذلك المفكر الذي يتمتع بمواهب لا تنكر وبطاقة فلسفية حقيقية، بحيث يفرض على الجميع أن يكون أحد الأسماء الهامة واللامعة في فكرنا المعاصر، وأن يسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، بحيث تكون اللبنات الفكرية والأدبية والسياسية التي يضعها تكون بمثابة الأساس الذي يبني عليه الكثيرون (سواء من تلاميذه، أو من مشاهديه) مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، وأن يكون ليس مجرد فيلسوف يدعي أنه نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، ولكنه لابد أن يكون إنساناً في تفلسفه،وفيلسوفاً في إنسانيته،وبين الإنسان والفيلسوف تتجلى المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم،أو محقق،أو ناقد،أو سياسي،أو أكاديمي،أو أديب.. الخ.
علاوة على أن الفيلسوف المشاغب في نظري يجب أن يتمتع بصفات أخرى منها: أن يكون مغامراً لا يحدّه خوف، ومناضلاً لا تتعبه خيبة، ومقاوماً لا تكسِره شراسة الأيام، وأن يخوض بمفرده أشرس المعارك الفكرية، وأن يتحمّل ما يكفي من معاناة أزهرت فيما بعد كتباً لم تكن في الحسبان؛ بحيث يكون سلاحُه الاحتراف والاشتغال على الذات، وأن يكون صاحب فكر متّقد انتهج النقد سبيلاً، والتجديد أسلوباً، والكشف عن المنسي هدفاً، وألا يكون لديه القدرة في التواصل البنّاء مع المتلقّين من حوله، وألا يرضي بالبكاء على الأطلال، ولا التغني بنهضة سبقت، إنما يُسنّ قلمه ويُنهض بنفسه في حراك لا يهدأ سفراً، وبحثاً، وإنتاجاً، وأن يكون له حركةٌ هادرةٌ لا تعرف الراحة، وأن تكون لديه القدرة علي الدورانٌ في المعنى، والاستنطاق المستدامٌ الذي لا يعرف السكون، وأن يكون هو جيشٌ من الفعلة هو، وأن يكون مبدعاً في أكثر من مجال؛ وكأنه مركز أبحاث، أو خلية نحل لها استراتيجية خاصة بكل يوم، تنجزها وتنتقل إلى أخرى متّجهة نحو حقل أبعد.
وللأسف تجارب سيد القمني، ويوسف زيدان وعبد الجواد ياسين، ونبيل عبد الفتاح والأزهريين الثائرين وغيرهم لم تعمل على إقامة مشاريع للإصلاح الديني بحيث تحدث نوع من القطيعة المعرفية، صحيح أنهم أمنوا بتحرير العقول وطرقوا قضايا دينية، فلسفية، وتاريخية راسخة في الوجدان العربي ربما لم يطرقها أحد من أبناء جيلهم..
ولذلك فأنا لا أنكر أن كتابات هؤلاء فيها من الايجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكننا إذا وضعناها تحت مجهر الابستمولوجيا المعاصرة؛ وخاصة ابستيمولوجيا " جاستون باشلار" القائمة على فكرة القطيعة الابستمولوجية، نجد أنها لا تستطيع أن تخلف لنا الأثر الجذري الذي تركته أعمال زكي نجيب محمود، ولذلك ظلت بحوثه الفلسفية بعيدة عن خلق قطيعة ابستمولوجية، ولذلك لا أستحي أن أقول بأن كتابات هؤلاء لم تحول مجرى التفكير الفلسفي السائد والمنقول إلى تفكير إبداعي يحمل رؤية خاصة تتواءم مع مستجدات واقعنا الفكري. ومن ثم لم تُحدث تلك النقلة الكيفية في أدوات البحث الفلسفي، وإن استخدم الدكتور الشنيطي، قضايا ومشكلات فلسفية تناسب حركة الحياة الفكرية في عصره.
عندئذ يكون الأثر التجديدي لإنجاز هذا المفكر شبيها بالزلزال، الذي يحدث تأثيراً جذرياَ فى صميم بنية العلم السائدة، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز التجديدي في تتابعه المتصل أو تصاعده المستمر، متوازية مع عمق الأثر الذي يتركه في مجالات فلسفية كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع المصري بأسره.
س26: أ. مراد غريبي: أحد النماذج المعاصرة للإصلاح و التجديد الديني في مصر و الذي يعتبر مؤسس اليسار الإسلامي المفكر الراحل الدكتور حسن حنفي، ما أهم ما تميز به مشروعه الإصلاحي الثوري عن غيره ممن سبقوه أو عاصروه في حقل تحرير الفكر الديني؟
ج26: د. محمود محمد علي: في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت مصر الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة،وكان المفكر والباحث والكاتب الدكتور حسن حنفي، واحداً من كبار المفكرين المصريين المعاصرين والذي تميز بإنتاجه العلمي الفكري الثري والمتنوع في مختلف أبعاد وجوانب العلم والثقافة والفكر .. الخ
وحسن حنفي له مشروع متميز حول ما يسمي بـ "التراث والتجديد" والذي يوصف بأنه "مانفيستو حسن حنفي" لأنه يقدم تفصيل لمشروعه الفكري في تجديد التراث الديني، وهذا التجديد يحمل هموم الإنسان فكرًا وواقعًا ووطنًا في العالم العربي المعاصر، وهو يقاوم لإبداء الموقف الحضاري من التراث العربي الإسلامي ومن التراث الغربي ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية والفكرية والفلسفية .
وهذا المشروع يتوزع حول «التراث والتجديد» على عدة محاور رئيسية؛ بحيث شملت معالجاته أغلب القضايا التراثية من جهة، وأهم التيارات الفكرية الغربية من جهة أخرى. ومن ثم، يمكن القول: إن السمة الرئيسية المميزة لمشروع، أو قراءة، حنفي للتراثين: العربي والغربي، تتمثل في اتساع رقعة المشروع والشمولية، الأمر الذي انعكس بصورة سلبية على حساب الدقة في الطرح، والموضوعية في التناول.
هذا ويقوم مشروع حنفي لقراءة التراث العربي الإسلامي، في جوهره، على استقراء المدونة التراثية الشاملة بخطوطها السبعة: (علم الكلام، والفلسفة، والتصوف، وأصول الفقه، والعلوم النقلية كالتفسير والحديث والسيرة، والعلوم العقلية كالرياضيات والطبيعيات، وأخيرا العلوم الإنسانية). وينطلق هذا المشروع الضخم من عام 1400 هجرية ليقف بنا على مشارف مرحلة السبعمائة الثالثة من تاريخ الحضارة الإسلامية، بعد مضي وانتهاء مرحلة السبعمائة الأولى التي كانت تمثل مرحلة المد والازدهار، ثم مرحلة السبعمائة الثانية التي كان انقلابها الجدلي إلى الذبول والنكوص والاضمحلال.
س27: أ. مراد غريبي: ماهي أهم ملامح الإصلاح الديني في مصر الراهنة و هل هناك أفق مستقبلي بعودة الأزهر الشريف لدوره الريادي في التقريب و التنوير و التجديد و النهوض بالحوارات الحضارية بين المسلمين و مع الأديان الأخرى و كذا الغرب خصوصا جامعة دار العلوم التي شكلت طفرة في تاريخ الفكر الإسلامي من أيام الشيخ عبده و الشيخ عبد الرزاق مرورا بالدكتور طه حسين إلى غاية زمن الدكتور حسن حنفي و راهنا الدكتور محمد عثمان الخشت؟
ج27- د.محمود محمد علي: نعم، فلقد لعب الأزهر أدوارا كبيرة في حماية الهوية الثقافية العربية الإسلامية، والدفاع عن قيم الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، ونشر العلوم الشرعية واللغة العربية، والتصدّي لتيارات التطرف والغلوّ التي تشذ عن صحيح الدين وتنحرف عن جادة الحق ومحجة الصواب، وهو حقا يمثل قلعة متقدمة للدفاع عن مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة والفكر الإسلامي المستنير وعن القيم الراقية في الثقافة والحضارة الإسلاميتين،وقد اتضح لي ذلك من خلال أقوال فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب والتي أكد في أكثر من مرة بأنه لا صراع حضارات كما قال هينتجتون، ولا نهاية التاريخ كما قال فوكاياما، وإنما نقول صراع التفاهات، وليس صراع الحضارات.. وأشار إلى أن حضارة الإسلام كانت مفتوحة على العالم، وتعاملت مع الأديان والحضارات بكثير من الاحترام والتواصل وتمد يدها للحضارات الأخرى وتستفيد وتفيد، فكان الإسلام أول من سعى للعالمية بثقافته المتنوعة..
وأعرب شيخ الأزهر عن أمله في حوار داخلي يجمع بيننا ويوحدنا قبل حوارنا مع الغرب الذي لا يعرف سوى لغة الاتحاد وليس في يده كتاب مقدس كالقرآن يحثهم على الاتحاد، بل إن الغرب الذي اتحد وزاد اتحاده قوة لا يمتلك من أسباب الوحدة ما لا يملكه المسلمون، ونحن العرب لنا لغة واحدة ودين واحد ومصحف واحد ونبي واحد ومع ذلك يقع بيننا العنف والبغضاء والمذهبية التي يسعى ديننا لاحتوائها جميعا. كما طالب بأن يحترم أهل كل مذهب الآخر، وألا يتخذ طرف من الأطراف هذه الخلافات لإحداث فتنة أو ينشر بها الكراهية بين أتباع الدين الواحد، وأن تقطع الطريق نهائيا عن الألاعيب السياسية.
انتهى
حاوره: ا. مراد غريبي
12 – 12 - 2021