مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين (6)
خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:
س9- أ. مراد غريبي: عن الإصلاح الثقافي، العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع أطرت على طول مسيرتكم الفكرية وعيكم المعرفي وإسهامكم الثقافي، كيف تجدين اليوم وضعية الفعل الثقافي العربي في مشاهد الجامعات والمؤسسات الثقافية من دور نشر وإعلام وفن هل هناك انفتاح على الواقع قادر على خلق جيل عقلاني؟
ج9: أ. إيمان شمس الدين: يعتبر الفعل الثقافي ضمن مصاديق العمل الرّسالي، عندما نتحدث عن عمل فنحن نتحدث بالمضمون عن وجود أفراد ومجتمع وتفاعل وانفعال، أي أن ما نطلق عليه مصطلح أمة أو شعب أو مجتمع، فإن ذلك يعني المعادلة التالية:
الإنسان + هدف + تخطيط + منهج + أدوات + عمل (تطبيق) = نتيجة، ثمرة، تغيير آني أو على المدى البعيد.
وهناك نوعان من الأعمال:
الأول: عمل مأجور، أي عمل في قبال أجر.
الثاني: عمل رسالي، أي عمل تطوعي هادف بدون مقابل.
" العمل الرسالي هو العمل الذي يقوم به الإنسان لأجل هدف، ولأجل تحقيق هدف. بطبيعة الحال، العمل هذا يعتبر خطوة في سبيل كمال الإنسان، أو بالتعبير الإسلامي يعتبر عبادة، والحديث الشريف يقول: العبادة سبعون جزءًا، أفضلها العمل. والعمل الرسالي هذا، لا يرتبط بكمية الأجر سواء كان الأجر قليلًا أو كثيرًا. فالعمل متقن، يعني من مميزاته، عدم البخس في العمل والاتقان. فالحديث الشريف يقول: الذي يبخس في عمله، يخون هذه الأمة، والحديث الشريف يقول: رحم الله من عمل عملًا، فأتقنه".(محاضرة لموسى الصدر، 1972) فالعمل الرسالي هو عمل هادف بخطة لها وسيلة وآليات تطبيقية، لتحقيق حركة وعي رسالي ينهض بحاضر الأمة ومستقبلها.
ويختلف العمل الرسالي عن العمل المأجور بالأمور التالية:
١. العمل الرسالي قائم على التطوع، أو حتى قد يكون مقابل أجر، ولكن أجر رمزي لأنه ليس وظيفة يستأكل منها صاحبها، ويسعى في عمله لأجل تحقيق أهداف قيمية إنسانية، بالتالي هو يصنع مجتمع حركي فاعل متكافل حيوي، قائم على التنافس والتعاضد، والتنافس نتاج طبيعي للاختلاف في الكفاءات والقدرات والقابليات، فيكون فيه التنافس على أساس التكامل والتعاضد، لا على أساس الصراع والخلاف. بالتالي تكون نتاجات العمل الرسالي مجتمع حي حركي متكافل، تحكمه منظومة قيم إيجابية، وضمير أخلاقي حي. وإن من أهم مظاهر العمل الرّسالي هي صناعة الوعي ورفع منسوب الثقافة في المجتمع، وهي وظيفة المثقف الرّسالي الذي يحمل هم وعي مجتمعه حتى لا تفتك به أمراض الجهل والاستبداد.
٢. العمل المأجور، هو عمل في قبال أجر وغالبا أجر مالي، بالتالي يتحول فيه الفرد إلى آلة، كلما زاد من كفاءته وقدرته في العمل، وزاد إنتاجه المادي للجهة التي يعمل لديها، كلما زاد أجره، بالتالي يكون هنا المجتمع مجتمع طبقي قائم على الصراع لا التنافس، تغيب عنه القيم الإنسانية، وتحضر القيم المادية، وتتشكل فيه الطبقات على أساس رأسمالي جشع، يغيب عنه الحركية والحيوية والتكاتف والتعاضد، وهذا توصيف لواقعنا المعاصر حيث تهيمن الرأسمالية علي العقول الاقتصادية في العالم، وبالتالي تشيد أنظمتها في الوظائف على أساس القيم الرأسمالية التي حولت الإنسان إلى آلة، عليه أن يراعي دوما كفاءتها، وتطويرها، لا لأجل الكمال والتكامل المادي والمعنوي، بل الكمال المادي الذي يطور مهاراته المادية وتجعله يعيش دوما في صراع الديمومة والبقاء، مع نظرائه.
وهذا لا يعني أبدا أن كل عامل مقابل أجر بالضرورة هو عمل غير رسالي أو مذموم، أو قائم على أسس مادية، بل وفق ما ورد في الروايات أن العمل عبادة، وأن الكاد على عياله كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ولكن نحن هنا في صدد التمييز بين فعل الوعي المتعلق بالمثقف وغيره، لأن أصل العمل الذي يخدم الناس حتى لو كان مقابل أجر،قام صاحبه به على أكمل وجه،دون أن يقصر في وظيفته فإن ذلك عمل رسالي وخدمة للمجتمع وهو عمل صالح، لكنه ليس تغييري ولا يتعلق بوعي الناس. فالخدمة الصالحة تتعلق بما يقوم فيه الإنسان من خدمات توصف بذاتها صالحة في حق المجتمع، لكن الإصلاح هو عمل منظم بخطة مدروسة، وأهداف سامية وأدوات وآليات تطبيقية صالحة يقوم بها نخبة، ويقدمون لأجلها تضحيات كبيرة تعمل على تغيير فهم الناس وإصلاح محيطهم، فهو عمل متعلق بالمجال الإدراكي للمجتمع وتصويب مساراته المعرفية والسلوكية.
العمل الرسالي:
كان خط الإفراط والتفريط حاكما على طول التاريخ، خاصة على مستوى الآراء التي تستقرئ النص بأدوات علمية، وتستنبط الأحكام من أدلتها الظنية، وتشخص الإشكاليات الاجتماعية إما من منطلقات خاصة لها أبعاد شخصانية، أو أنها بعيدة عن الواقع في استقرائها له، وكانت العدالة النفسية من عناصر الحضور الخامل والنادر، وهو ما يمكن استقراؤه من المناهج والمسارات الموجودة عبر التاريخ .
ومن الملاحظ أن الهدف الرسالي هو آلي أكثر منه غائي، كونه سبيل وطريق لهدف أسمى وهو رضا الله، وكون الرسالة مودوعة في رحم الحركة ومرتبطة بها ارتباطا عضويا وظيفيا، يترتب بهما وعليهما سويا إحراز الأثر الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع.
فأي دعوة تكتنز العلم لا يتبعها تطبيق وعمل، فهي دعوة تبقى في فضاءات بعيدة لا يمكن إحرازها لأثر حقيقي في محيط الفرد والمجتمع، فحراك المثقف الرسالي على سبيل المثال، علميا وثقافيا إذا كان مجردا عن العمل وبعيدا عن الواقع، سيتحول إلى مجرد نظريات لا تحدث أي تغيير في بنية وعي المجتمع المعرفية والسلوكية.
فالفكر صحيح أنه متقدم على العمل لكنه غير منفك عنه، بل لا قيمة للفكرة في عالم الحقيقة إلا إذا تم تنفيذها كمشروع في ساحات العمل الرسالي الناهض بالعقل والوعي.
فحراك المثقفين منقسم بين أهداف رسالية باتت غاية في ذاتها، لكنها مفرغة من الحركية التطبيقية، وتدور في طاحونة التنظير والتبليغ فقط، رغم ما للتبليغ من أهمية كبيرة لكن أهميته تكمن في كونه محركا بالأفكار إلى مشاريع عمل تنفذ وتطبق، كي تحول المجتمع تدريجيا لمجتمع مُوَحِّد، ليتحول إلى تبليغ عاطل عن العمل. خاصة مع عدم التزام كثير من المثقفين الرساليين بأغلب ما يدعون إليه ويطرحوه، وهو ما ينافي الآية الكريم " تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" (البقرة: 44)، وهي غاية في الصراحة في مقصود خطابها والفئة المستهدفة بها.
وبين أهداف حركية لكنها فارغة من المحتوى الرسالي التأسيسي الأصيل، هو مجرد حراك كمي يقوم به أفراد يملكون عزما وعقلا وقّادا بالأفكار كالمثقفين، وحيويةً فذة، أي هم طاقات لكنها واقعا طاقات مهدورة وعاطلة عن التنظير، خلّاقيتها للأفكار عالية لكنها أفكار لا تخضع لمبضع التنظير والتشذيب والتقريب من الواقع، وإنزالها بعد ذلك بآليات صالحة للتطبيق، أفكار تخلط الحق بالباطل، والغث بالسمين، تحتاج غربلة تدمج بين النص والعقل بأدوات أصيلة ومنهج متقن له مراجعه الفكرية والمنهجية. أو أنهم عمال تنفيذيون بمهارة عالية، لكن دون وجود خطةً منهجية وأهداف رسالية مرحلية واضحة، يقود عملهم التغير اللحظي المرحلي المنفعل مع متطلبات المجتمع والسياسة.
وقد قال الله في محكم كتابه: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (الكهف: 104). "وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون " (الأحزاب: 80)
هذا الحراك الكمي غالبا أفراده لا يمتلكون الأهلية الحقيقية في قيادة المشاريع المثمرة واقعيا، كون قراءة مجموعة كتب والمشاركة بمجموعة مؤتمرات ووجود مجموعة مشاريع، لا تعتبر معيارا حقيقيا وواقعيا منفردا في قياس أهلية الفرد، بل المعيار الكيفي لابد أن يجتمع مع الكمي وليس العكس، في تقييم أهلية الأفراد للقيام بنهضة المجتمع على كافة الأصعدة، فكل منا له سعة فهم وإدراك تختلف عن الآخر، وترتبط بمدى سعي الإنسان لتطوير قابليته وفهمه وإدراكه ومدى إدراكه للحق والحقيقة. هذا فضلا عن دخول المحسوبيات في ترشيح الشخصيات وليس الكفاءة، حتى في الوسط الرسالي الإسلامي غالبا يكون الترشيح في بعض أوساط الحراك الرسالي والثقافي، إن وجد في بعض الساحات، قائما على ترشيح شخصاني وليس معياري، يغلب عليه مدى طاعة المرشح ومدى التزامه بالولاء لهذه الجهة، وقد يكون يملك مقومات علمية وعملية، لكن أصل ترشيحه يكون لتلك الأسباب لا لمقوماته وكفاءته.
وهو ما يتضح جليا عندما يختلف هذا الشخص مع تلك الرموز فيتم إقصاءه بسب ممارسته للنقد والتقويم، وهو ما يفسر عند الرموز في عقلية العالم العربي والإسلامي بأنه خرج عن مبدأ الطاعة، رغم كفاءته وأهليته العالية، لكن لمجرد انتقاده واعتراضه تسقط كل تلك المؤهلات.
والأهلية هنا لا تعتني إلا بالكفاءة والقدرة والاقتدار، ومدى اتزان النفس وتخلصها من الهوى وميلها للحق والحقيقة، وثباتها على الحق وقدرتها على تنفيذ الخطط بفعالية عالية، وخلاّقية إبداعية تصب في صالح بناء الإنسان ووعيه. وامتلاك قدرة على اكتشاف مكامن الخلل في المشاريع الرسالية والثقافية، وفاعلية في تصويبها وسد ثغراتها بما يصب في سبيل الله لا سبيل الرموز.
وأستطيع القول أن كثيرا من كوادر العمل الرسالي ومن المثقفين الرساليين خاصة، تتعاطى مع الدعوة الرسالية والعمل في سبيل الله بطريقة نسبية، بحيث تصبح أي فاعلية لها علقة بمدى ما تحققه من مصلحة للكادر ولرضا القيادات، التي بيدها مصالح ومقدرات هذا التيار أو ذاك.
لكن العمل الرسالي الحقيقي يجعل الكيف هو المعيار الحاكم، واجتماع الكم والكيف هو نور على نور في تقييم الكفاءات الموجودة.
إننا نحتاج لرسالية حراكية منتجة وإن لم تحرز ثمارها على المدى القريب، لكن إن كانت أهليتها عالية ومنهجيتها سليمة مستوية على صراط مستقيم، فإن ذلك حتما سينتج ثمارا وإن كان على المدى البعيد .
فالمطلوب في ذاته ليس العمل ونشر الثقافة والحصول على الوجاهات الاجتماعية، ليصبح التأثير والسيطرة أكبر على وعي الناس وفق رغبات من يتصدى، وهي ممارسة شبيهة بممارسة المستبدين في السيطرة على وعي الناس بتجهيلهم وتوجيه وعيهم باتجاهات رغبات المستبد، ولكن الاختلاف هنا أن المثقف يستخدم علمه ووعيه ونضجه في السيطرة على وعي الناس، وتنصيب نفسه مستبدا بالعلم على عقولهم، وإنما المطلوب من العمل الرسالي هو إحراز رضا الله من خلال العمل وفق إرادته هو جل شأنه وتحت رقابته هو لا رقابة الناس والمسؤولين، وهو ما يمكن الإنسان من إتقان عمله حينما يستشعر رقابة الله أكثر من استشعاره لرقابة غيره، والرسالية الحراكية سبيل إلى هذا الرضا، وكي نهتدي السبيل لابد أن تكون أدواته ومنهجه مستويا على الصراط المستقيم، ويكون مقترنا كيفه بكمه وقوله بفعله، ومحرزا للعدالة على كافة المستويات، ومعتدلا لا يميل إلى الافراط ولا إلى التفريط.
فلا حراك ثقافي رسالي دون حركية هادفة لتحقيق ملكوت السماء على الأرض، ولا حراك أرضي دون توسله بالرسالية الملكوتية السماوية كمنهج يستقيم عليه.
أما انتشار ثقافة الكم الحراكي لمجرد إثبات الذات (انظر كتابي: الاصلاح والتغيير) التي جبلت على حب العمل، فإن النتائج ستكون عكسية، كما في الحراك الثقافي المتجرد من أي حراك تطبيقي رسالي.
فالثقافة الرسالية الحركية تتطلب ضوابط، تضبط إيقاعها وفق أسس سليمة تحفظ لها تحقيق غايتها في رضا الله بتوسل آليات ومنهج سليم.
ولو قمنا باستقراء واقع أغلب الساحات في العمل الثقافي الرسالي خاصة الإسلامي منه، لوجدناها تشترك في عدة مشتركات تعتبر نقاط ضعف أخلاقية ومنهجية في العمل الثقافي الرسالي العام وهي:
ـ تأثرها بسلوكيات علمانية وإن بشكل غير مباشر، ومن أهم وأخطر هذه السلوكيات هي:
١ـ انحسار العمل الثقافي الرسالي فقط في الأماكن الدينية كالمساجد والمراكز الإسلامية والتابعة لكل تيار وحزب، وعدم وجود رؤية للانتشار الاجتماعي والتواجد في مؤسسات الدولة وفق برنامج مدروس. وهي علمنة مبطنه وعزل للدين عن باقي المجتمع ومسارات الحياة.
٢ـ البراغماتية السلوكية في التعامل مع الأفراد، فالذي ينفع المشروع وفق إرادة قيادة المشروع كان له الحظوة، وإلا يتم تهميشه وعدم توظيف أي طاقة أو الاعتداد بعقله مهما كان وازنا وراجحا، خاصة أن معايير النفع غالبا هي معايير شخصانية بعناوين دينية. كالطاعة والولاء والانضباط، فالطاعة تكون للقيادة البشرية، وهنا لا نرفض مبدأ الطاعة، لكن نرفض توظيفه في سبيل شخصاني لا سبيل رضا الله، وتحويله من مفهوم نسبي إلى مطلق، بمعنى أن طاعة القيادة غير المعصومة، هي طاعة نسبية تتوقف على حكمة القيادة وبصيرتها ومصداقيتها ومدى انضباطها على الحق ومدى عدالتها النفسية وإنصافها وكفاءتها العلمية والعملية، من باب قبح اتباع العالم للجاهل، وانتهاجها لمنهج البحث عن الحقيقة والتزامها الأخلاقي القيمي، أما الطاعة المطلقة فهي لا تكون إلا لله ولمن عصم الله تعالى.
هذا فضلا عن عدم تقدير العاملين كما يجب، فمن لا يتفق مع المنهج العام يتم تهميشه، بل ويتم غالبا إهماله اجتماعيا حتى في التواصل الإنساني الممدوح عقلا ونصا.
٣ـ تعطيل الطاقات الثقافية لمجرد اختلاف وجهات النظر، فيكون بذلك قاطع طريق لسبيل الله، وتفعيل من يتوافق مع وجهات النظر، حتى لو لم يكن أهلا، وهذا يعود لفقدان منظومة القيم والمعايير المتصلة بالسماء، وتحولها لمنظومة قيم ومعايير نسبية بشرية.
٤ـ رفض النقد والتقييم بحجة الاستهداف وعدم شق الصف، مع أن وجود الأعداء لا يعني السكوت عن الأخطاء، بل يجب مع وجود الأعداء النقد والتقييم لسد الثغرات وعدم فسح المجال لمن استهدفنا من النفوذ والاختراق من الثغرات.
٥ـ الانغلاق على الذات، وما أعنيه الجلوس داخل الصندوق وعدم محاولة الخروج من مألوف ومشهور المحيط، وهنا لا أدعو لخروج دفعي صدامي، وإنما لخروج تدريجي تصحيحي تغييري للمحيط، كون العمل الرسالي أحد أهم أهدافه التغيير الإيجابي وتصحيح مسيرة المجتمع وصناعة وعي وازن، وهو ما يتطلب انفتاح اجتماعي وعلى كافة المستويات والآفاق، وخلق مشتركات يمكن من خلالها إيجاد أرضيات تعاون مع كافة فئات المجتمع ومكوناته.
٦ـ غلبة أصالة المجتمع على الفرد، وهي مس اشتراكي غير مباشر في الوعي والسلوك، حيث تقدم مصلحة الجماعة على المصالح الطبيعية للفرد، ويغلب العقل الجمعي على قاعدة " خيركم من جمع العقول لعقله" وهي قاعدة تعمد إلى الاهتمام بكل العقول الناهضة والفاعلة، وجمعها لتحدث توازنا في الرأي والفكرة، وبالتالي في الرؤية والسلوك والعمل. هذه الغلبة تكون نسبية، فغلبة أصالة المجتمع تكون في العمل والتنفيذ، وغلبة أصالة الفرد على المجتمع تكون في القيادة ووضع الخطط والاستراتيجيات، حيث يتصدى أفراد دون انتخابهم، وإنما لمجرد الأقدمية غالبا يتصدون لوضع الخطط والاستراتيجيات في كافة المجالات.
بينما الاسلام وازن بين الأصالتين، وكانت العدالة حاكمة بينهما بحيث في مواقف قدم إحداهما على الأخرى بما يحقق التوازن ومصلحة المجتمع العامة، وهو ما يجب أن تعيه الحراكات الرسالية وتضع خططها وفقه.
-٧ تهميش المرأة وحصر عملها في التنفيذ، وعدم وجودها في مراكز القرار والتخطيط، هذا فضلا عن عدم الدفع باتجاه ارتقاء خطابها لمعطيات الزمان والمكان، وحصره في دائرة ضيقة مكانيا وزمانيا ومذهبته، ليكون مقتصرا على فئة، وعدم مواكبته لأهم الإشكاليات التي تواجه المرأة في المجتمع على كافة المستويات، هذا الحصر هو نوع من العلمنة في عزل الحراك الثقافي عن باقي المجتمع، ومرافق الدولة المختلفة، نتيجة مذهبة الخطاب وعدم تحويله لخطاب عالمي.
٨ـ ومن مظاهر المس العلماني في أغلب الحراكات الثقافية الرسالية، هو ديْنَنَة الخطابات والدعوات وبأساليب قديمة، وما أعنيه بالديننة هو الخطاب الوعظي وغير المواكب لمتطلبات العصر، وأهم الإشكاليات التي تعاني منها المجتمعات، وحصره في إطار ضيق من الدين نتيجة فهم ضيق للنصوص، وتحييد العقل عن امتلاك مكنة التشخيص، وإقصائه عن حاجات الناس وقضايا المجتمع وراهن العالم وتطورات الحدث، بذلك يكون تم تقليص الفهم الديني إلى إطار ضيق لا يهتم إلا بجانب من جوانب حاجات الإنسان وجانب من حاجات الروح.
٩ـ هناك تهميش للقيم والمبادئ والأخلاق غالبا في كيفية التعاطي بين الإنسان ونظيره الإنسان، ومن أبرز المصاديق هو الإسقاط الاجتماعي للشخص الذي يختلف مع الجهة المنتمي إليها، سواء اختلاف في وجهات النظر وقيامه بالنقد والتقييم، أو اختلافه مع آليات العمل ومنهجياته ومحاولته للإصلاح والتصحيح، الذي غالبا يجابه بالرفض والإقصاء وينتهي بالتسقيط الإجتماعي.
وهو سلوك شبيه بحملات الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها دول الكبرى، بحيث تعمد إلى تزوير الحقيقة وتسقيط الجهات المناوئة لتلك الدول، فهو سلوك استكباري علماني، يفصل مساره عن القيم الدينية والأخلاقية.
هذا المس العلماني والاشتراكي لكثير من منهج وسلوك الحراك الثقافي الرسالي في كثير من المجتمعات، هو نتيجة غياب الدراسات الفاعلة حول رؤية الإسلام للعمل الثقافي الرسالي والإدارة، أو وجود دراسات لكن كثير من الجماعات الرسالية يغيب عن منهج عملها التنظير والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي، ولا يوجد لديها غالبا مطابخ فكرية تعمل على رسم الخطط ودراسة الواقع ومعطياته، والخروج برؤية شرعية منهجية وفكرية كاملة.
إن المطلوب في ظل ترهل كثير من التيارات الرسالية الإسلامية، وتراجعها في مواكبة المجتمع ومتطلبات الجيل الشاب، هو نهضة شاملة قادرة على تقديم مشروع مثقف رسالي تغييري تدريجي وليس دفعي، تحكمه قوانين السماء ومنظومة قيم ومعايير أخلاقية وإنسانية، يضع للكفاءة أولوية، وللتخطيط والمنهجة خيارات ناجعة، ويضم في حساباته الجيل الشاب والمرأة.
خاصة أن العولمة استطاعت أن تقدم بدائل جاذبة وتلبي طموحات الشباب وإن ماديا، وأن وجود هذا الكم من الخلل في العمل الثقافي الرسالي خاصة القيمي والمعياري والمنهجي، هو ثغرة تدفع لتسرب الأجيال وهروبها من الدين لا لأنها ترفضه، بل لأن من تصدى لنشر الدين عمليا لم يكن أهلا، أو لم يكن مؤهلا وقادرا على المواءمة والمواكبة وسد الثغرات.
إن جاذبية الدين للإنسان فطرية، لكن عملانيا نحتاج تطبيق هذه الجاذبية وتنزيلها للواقع، لنجد الناس تدخل إلى دين الله أفواجا، لا دين الرموز والقادة، وهو ما يتطلب قيادات وعاملين ربانيين يتخلصون من الأنا، ويجعلون همهم رضا الله، فلا يكونوا قطاع طرق عن الله، بل جسورا إليه.
العمل الرسالي أو ما يمكن تسميته أيضا العمل التطوعي وخاصة في المجال الثقافي والمعرفي، يعاني من خلل رئيسي ومحوري وهو تصدي الأكفأ والأكثر استحقاقا.
الكفاءة والاستحقاق والأثر:
الاشتغال على منطقة الوعي اشتغال يتطلب توفر عدة شروط في المُشْتَغِل، وإذا ما كنا نتحدث عن المثقف ووظيفته ومسؤوليته، بالتالي نحن نتحدث عن امتلاكه لعدة أمور قبلية تستبق حراكه الاجتماعي وتصديه:
١. امتلاكه القدرة والتي تعتبر البناء الأساسي والتحتي، والذي يُفَعِّل عزيمته للسعي وكسب المعارف والخبرات والتجارب في المجال الثقافي، وهذه القدرة والمُكْنَة هي التي تشكل له القاعدة في إمكانياته.
٢. الكفاءة، وهي مجموعة ما يملكه من معارف وعلوم وخبرات ومهارات تجعله الأكثر قدرة على التصدي اجتماعيا من غيره، وهذا يثبته فعله الثقافي وتأثيره في المجتمع، والكفاءة هنا لا تقتصر على الملكات المادية التي تركز على كم المعارف والعلوم، بل على نوعها، ولا تقتصر على كفاءته الظاهرية، بل إن كفاءته الباطنية تعتبر المنطلق والأساس لتحقيق الكفاءة الظاهرية، وهو ما لا يمكن أن يتضح للعيان إلا من خلال سلوك المثقف الاجتماعي ونوعية ما يطرحه من معارف ووعي.
٣. الفاعلية، فقد تجتمع في المثقف القدرة والكفاءة، لكنه لا يكون فاعلا، وأعني بذلك فاعليته في تحقيق أهدافه وإبداع طرق لتوظيف ثقافته في رفع منسوب الوعي، وحل الإشكاليات الثقافية والمعرفية التي يواجهها مجتمعه الداخلي والخارجي، وطرق الحل التي يجب أن تتناسب وعصره وما يواجهه من تحديات.
ولكن لماذا يجب على من يتصدى لهذه الوظيفة أن تتوفر فيه هذه الشروط؟
إن من أهم الآثار التي تترتب على توفر هذه العوامل في المتصدي للعمل الثقافي والمعرفي هو:
١. المصداقية، فإذا ارتبطت كفاءته الظاهرية بكفاءته الباطنية وكان حراكه الاجتماعي يفكك الإشكاليات المعرفية، ويحقق حركة وعي حقيقية تؤثر على حراك المجتمع، فإن ذلك يعزز من مصداقيته بين الناس، ويوثق العرى بين المجتمع والمعرفة.
٢. الثقة: تحقيق المثقف الكفؤ لمصداقيته الاجتماعية يؤدي لبناء جسور الثقة بينه وبين مكونات المجتمع والدولة بكافة الاتجاهات، بالتالي يجعله مرجعية معيارية ومعرفية، يتم من خلالها تقييم المعارف وفقها، ويصبح بذلك حارس لوعي الناس، ومعزز لعلاقتهم بهويتهم.
٣. الأمانة، يصبح بعد إثبات مصداقيته وتعزيز ثقة الناس به، أمينا على عقولهم ووعيهم من الاستلاب والاغتراب، ومن كل محاولات الاستعباد، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كفؤا يمتلك قدرات معرفية في تشخيص الخلل، ورؤية الواقع خارج كل الأطر التي تُسَوِّرْ عقول الناس وتمنعهم من رؤية الواقع كما هو.
لذلك يعتبر تصدي غير الكفؤ في كافة المجالات، وخاصة المعرفية والثقافية أمرا مرفوضا ومذموما عقلا وشرعا، بل هناك روايات صريحة تذم تصدي غير الكفؤ، وتنهى عن ذلك.
وهذا التشديد في التأكيد على تصدي الكفاءة، هو لما لهذا التصدي من آثار عظيمة على المستوى المعرفي والقيمي، والأخلاقي، والمعياري، والمبدئي.
لذلك أول شرط في تصدي المثقف اجتماعيا هو كفاءته، والكفاءة لا تحدد بالكم من المعارف فقط، بل أيضا بنوعها، ولا تحدد بالكفاءة الظاهرية فقط، بل بكفاءة الظاهر مع الباطن.
لذلك لدينا إشكاليّة عليا بداية تشخيصها وهي إشكاليّة المثقف ذاته والجدليّات التي تدور حوله سواء من حيث الوظيفة، أو من حيث استغلال الثقافة في المصلحة الذّاتية التي تؤدي غالبا إلى تغييب الحقيقة وتزييف الوعي، وأما ما يتعلّق بالإعلام والفن ودور النّشر فأستطيع القول أنه موضوع ذو شجون، خاصة فيما يتعلّق بدور النّشر وإشكاليّة الحقوق الفكريّة والماديّة التي يعاني منها كثير من المثقّفين، وهذا يأتي نتيجة غياب أو تغييب الاهتمام الشعبي بالثقافة والقراءة وبالتّالي بالمحتوى الثّقافي وحصر الاهتمام على الرّوايات والأدب، وهذا لا يعني انتقاصا من هذا الفضاء المهم، لكن حتى هذا الفضاء يعاني من هبوط المحتوى، هذا بطبيعة الحال يجعل دور النشر تهتم بما يطلبه الجمهور، لا بما يجب أن يصل إلي الجمهور، وهو غالبا ما نشاهده في معارض الكتاب في كثير من الدّول العربية والإسلاميّة. وما يخص الاعلام فقط فردت فصلا كاملا في كتاب التغيير والإصلاح حول دوره وإشكاليّاته ومنعا للإطالة يمكن مراجعة ذلك لمن يرغب من القرّاء.
س10: أ. مراد غريبي: ما طبيعة مدارات الإصلاح الثقافي وأهم تحدي يواجه المثقف العربي في هذه اللحظة الثقافية المتراوحة بين المقاومة والانبطاح أمام عولمة متوحشة؟
ج10: أ. إيمان شمس الدين: إن طبيعة هذا السّؤال تدفعنا لسؤال الهوية، وهي المُعَرّف عن فرد أو مجتمع أو دولة، تدلنا على الثقافة والإيديولوجيا السائدة وطابع العادات والتقاليد، فترسم معالم المشهد الإنساني وطريقة تفاعله مع ذاته ومحيطه.
فتكون بمثابة المفتاح الذي من خلاله نقرأ داتا الفرد والمجتمع، ومن خلالها تتضح آليات التواصل والاتصال بين مختلف الشعوب والمجتمعات والأقطار.
التفاعل الحضاري:
للهوية معالم ثابته تعبر عن شخصية اعتبارية لحاملها وتؤثر في محيطها، ولكن لها في ذات الوقت جانبا متأثرا تأثرا خاضعا لظروف العصر أي الزمان والمكان، حيث جانبها المتغير الذي يتطور من خلال التفاعل الحضاري مع الثقافات الأخرى، وما أعنيه بالتفاعل الحضاري هنا هو تداخل إيجابي يؤثر ويتأثر، ويطور وينهض من خلال استفادته من تجارب الهويات الأخرى الإيجابية النهضوية، دون أن تتغير ملامحه الثابتة التي تمثل بصمته الخاصة. فالحضارة في مفهومها العام، هي حركة المجتمع ونشاطه بجوانبهما كافة، المادية منها والمعنوية، وتشمل الخبرات المادية وإنتاجها، والمعارف العلمية والمذاهب، والأفكار الفلسفية، كما تشمل النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والقيم والتقاليد والمؤسسات والجماعات المختلفة وأنماط السلوك.. "(محسن الأمين، حصاد لم يكتمل، ص219)
الغرب بين الإحلال والتفاعل:
جاء المشروع الإسلامي خاصة في البعد الثّقافي بفهم حضاري للتفاعل يهدف منه أمرين:
الأول: تفعيل القيم الثابتة في فضاءات المعرفة لكل ما هو خارج الجسد الإسلامي، حيث القيم الثابتة جزء من الفطرة الإنسانية وتفعيلها كسلوك، فالتفاعل يعمل على إزالة الحجب المعرفية عن النفس، لتمرير تلك القيم التي تمهد الطريق لتحقيق العدالة بين كل البشر. وهو ما يتطلب لوازم أهمها، امتلاك هذه الحضارة مقومات التأثير من مكنة واكتفاء ذاتي وتكافؤ علمي، و تحقيق منجز حضاري فاعل في حياة الإنسان، يسهل عملية السريان المعرفي بين الاسلام وغيره من الحضارات.
الثاني: المواكبة والمعاصرة، التي لا تتحقق إلا من خلال مراكمة المنجزات الحضارية السابقة مراكمة معرفية تحافظ على أصالتها وترفد متغيرها بمعطيات الزمان والمكان هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع على تجارب الحضارات الأخرى والاستفادة من إبداعاتها العلمية، ونهضتها القيمية في الجانب المشترك الإنساني، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المنهجية والمنطلقات القاعدية لكل حضارة، أي هو تواصل واتصال ومشاركة و اكتساب خبرات تُفَعِّل المسكوت عنه في اللاوعي الإنساني، وتطور من نظرة المجتمعات للحياة، وتزيل الأغلال الغير سليمة التي توارثتها المجتمعات عن الآباء دون وجود مسوغ عقلي وشرعي لها.
أهمية التفاعل:
إن التفاعل الحضاري يضع الحضارة الإنسانية أمام مسؤولية أخلاقية أولا، كون التفاعل يستند على العلاقات الإنسانية المطلقة، والتي يفترض أن تتمثل ضمن بيئة التفاعل على المحبة والأخوة والعدالة والتسامح والتراحم بين بني الإنسان، وعلى نفي التعصب، والعنف والإرهاب الفكري، ومحاولة الاستقواء وإلغاء الآخر المختلف، وتصبح قيمة التبادل للمنافع المعرفية والعلمية قائمة على هذا الأساس، لذلك التفاعل الحضاري لا بد أن يراعي التعددية الحضارية والتمايز الحضاري الذي ينفي كل أشكال التناقض والصراع، ويؤسس لعملية انفتاح كبرى علي كل الحضارات والحوار معها في سبيل خير الإنسانية، وتحقيق العدالة التي هي جوهرة القيم في تحقيق الكرامة الإنسانية.
تكمن أهمية التفاعل في أمور عديدة أهمها:
ـ توسيع المدارك المعرفية، وتنضيجها بالاطلاع على تجارب الآخرين البشرية.
ـ تفعيل ثقافة الخروج من صندوق الذات، بما تحمله هذه الذات من أفكار ومعتقدات وقبليات ومسبقات، وتأثيرات البيئة، وهو لا يعني التخلي عن ثوابت كل ما سبق، تلك الثوابت التي ثبتت بطريق الدليل العقلي والشرعي، بل يعني عدم الركون لكل ما سبق، ومحاولة مواكبة الزمان والمكان في تطوير المفاهيم وتمحيصها، ومراجعة الأدلة على ضوءما استجد في الساحة العلمية والإنسانية.
ـ تفعيل مفهوم التعدد الإيجابي، يوسع مساحات الاشتراك المعرفي، ويفعل عملانيا مفهوم التعايش والتسامح الحضاري، على أساس التكافؤ الإثني وليس الإحلال والإلغاء للآخر المختلف، وينضج القدرات العقلية في فهم النص، بما يحفظ خاتميته دون المساس بعناصر خلوده.
ـ يعمل على تذليل العقبات أمام العقول من خارج الجسد الإسلامي لفهم هذا الدين الخاتم عن قرب، ويسمح للمنتمين للإسلام بفهم الأديان الأخرى والثقافات المختلفة، بالتالي يعمل على ترصيف رؤية كونية قائمة على مفهوم التوحيد، وينهض بمفهوم العبودية في ظل التوحيد.
ـ يبسط نفوذ الله في قبال نفوذ القداسات السياسية والدينية، فهو يفعل مفهوم العبودية والحرية على ضوء مفهوم التوحيد الحضاري، ليزيل الحجب المعرفية العقلية في لا وعي الشعوب، التي اشتغل عليها المستبد بأي شكل من أشكال الاستبداد، لاستعباد الناس وتمكين سلطته عليهم، وهو ما يستدعي تفاعل المقتدر والمدرك للآخر، من موقع امتلاك المكنة في اختراق لا وعيه، بوسائل يفهمها الآخر المختلف، ويمكنها الوصول إلى عقله وقلبه، فالحق والحقيقة بينة.
فثقافة أية أمة وحضارتها لا يمكن أن تكونا معزولتين، وخارج نطاق التفاعل الثقافي والحضاري مع ثقافات الأمم والشعوب الأخرى وحضارتها، والحقائق التاريخية السابقة والحالية، تؤكد أن الثقافات والحضارات كانت ولم تزل، وسوف تبقى، في حال التفاعل والتأثير المتبادل في بينها في وحدة متكاملة بين العام، أي الحضارات والثقافات في العالم، والخاص، أي الحضارة والثقافة القومية الخاصة لكل أمة ودولة".(المصدر نفسه)
معايير التفاعل الحضاري:
ـ يحتاج التفاعل مكنة وقدرة واكتفاء ذاتي، يكون المتفاعل إما متكافئ مع الآخر، أو يسبقه بدرجة، و هذا من مقومات التحصين الذاتي للثوابت ومقومات الوجود، فيكون التفاعل من موقع التأثير والتأثر الإيجابي.
هذا لا يعني أن عدم توفر المكنة ـ كما هو حالنا ـ أن ننغلق على ذاتنا، ولكن تصبح مساحة التفاعل أضيق حفاظا على الهوية لعامة الناس، فيكون التفاعل مقتصر على طبقة النخب والتي تسعى بتفاعلها هذا لتحصين الداخل، وإيجاد إجابات للتساؤلات المطروحة نتيجة تسرب ثقافة الآخر للجسد، دون وجود ضوابط أو حصانه ومكنة، فتكون النخبة بمثابة الفلتر الذي يحاول تثبيت الثوابت، و غربلة الشوائب لا من باب الوصاية على العقول والحجر عليها كأنها قاصرة، ولكن من باب عدم تهيؤ قابليات عامة الناس معرفيا وإدراكيا لهضم الآخر المعرفي على أسس سليمة، فيجعلهم عرضة للاستلاب السهل دون أدنى مقاومة تحت هيبة التقدم الظاهري والمكنة العلمية والتنكنولوجية التي تسلب لب الإنسان العادي، وتجعله أسيرا لكل قيمها وثقافتها ومفاهيمها، فهو بمثابة ممارسة عمل تحصيني قادر لا أقلا على درء الشبهات و حماية الهوية، دون أن يطمح للتأثير إلا في نطاق النخبة عند الآخر، فتتغير الأولويات هنا نتيجة عدم توفر المعايير اللازمة للتفاعل الشامل بين الشعوب والنخب، من أولوية التأثير الواسع إلى أولوية التحصين مع التأثير المحدود، والسعي الدؤوب لتوفير معايير التفاعل الحضاري، وهنا قد يطرح سؤال هل يمكن تحقيق ذلك في ظل توفر وسائل التكنولوجيا، وسهولة الحصول على المعلومة، ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي ضيقت المسافات الفاصلة، وقربت الجغرافيات البعيدة، وبالتالي فتحت الآفاق أكثر معرفيا؟ إن ما أعنيه هنا هو نوعية المعارف وآليات التعاطي معها وفق قابليات المجتمعات، فمهما فتحت تلك الوسائل طرق التعارف والفهم، إلا أن دور النخبة يبقى ثابتا في تشذيب تلك المعارف وتفنيدها، وفي نوعية الإشكاليات المعرفية التي على النخب تداولها وطرحها، فليست كل الإشكاليات المعرفية والمعارف هي قابلة للتداول على بساط المجتمع دون مراعاة لتفاوت القابليات داخل المجتمع الواحد من جهة، وبين المجتمعات المتعددة من جهة أخرى..
ـ لا يمكن أن يتم التفاعل الحضاري مع توفر معاييره، إلا إذا كانت بنية الأمة ثقافيا ومعرفيا وفكريا قوية، وهويتها محصنة بشكل علمي برهاني، بل لديها فلتر للشبهات وقادرة على مواجهة كل محاولات الإقصاء، وتمتلك العزة والكرامة، وهما قيمتان تحافظان على الهوية من خلال تحقيق حالة الاعتزاز بها، وهذا لا يحدث إلا من خلال تأسيس المجال الإدراكي للأمة، و تحصينها بالعلم والمنهج البرهاني، الذي يحاور ويمتلك وعي وجودي ومنفتح على الآخر، فالعلم معيار أساسي في عملية التفاعل الحضاري، وأعني هنا معرفة الذات معرفة عميقة مدركة المباني وشبكة المشتركات والاختلافات القاعدية بيننا وبين الآخر، ومعرفة الآخر أيضا معرفة عميقة، وامتلاك أدوات منهجية علمية رصينة في مشروع التفاعل الحضاري.
ولأن الحراك يتطلب تفاعل فإنه أيضا يتطلّب مقاومة، ولكن مفهوم المقاومة نتيجة الظروف السياسيّة الرّاهنة في المنطقة فإن دلالاتها تم عسكرتها لينصرف الذهن العام إلى المقاومة العسكريّة، رغم أن الفعل المقاوم أحد مصاديقه العسكر.
المقاومة لغة هي الممانعة وعدم الرضوخ للتغييرات التي تفرضها قوى خارجية، أو قوى داخلية، وهي إرادة فعل واختيار تسبقها معرفة وفهم للواقع ومتغيراته، ولتداعياته على الراهن والمستقبل.
المقاومة فعل تغييري مستديم على عدة مستويات:
1. مستوى الذات: وهنا تكون المقاومة فعل ذاتي فردي تزداد شدته وضعفه وفق قوة وضعف إرادة الإنسان، وهذه القوة والضعف تعتمد على قوة وضعف معارفه ووعيه، وبالتالي مسارات اختياره.
2. مستوى الأسرة: وهنا تتعلق المقاومة أيضا بوعي ومعارف الأسرة، ويكون للوالدين القيادة الفاعلة في تفعيل مقاومة باقي أفراد الأسرة، وتفعيل مساحات اختياراهم وترشيد إرادتهم وتوجيهها باتجاهات الوعي السليم.
3. مستوى المجتمع وهنا تلعب النخب الدور الفاعل في ترشيد الوعي والمعرفة، وبالتالي ترشيد مسارات الاختيار، وتفعيل قوى الإرادة الاجتماعية باتجاه المقاومة الإيجابية، والتي تواجه الفساد وتعمل على مواجهة قوى الفساد والتغيير السلبي، وتفعيل مسارات التغيير الإيجابي.
4. مستوى الدولة وتكون هنا مسؤولية الدولة في التأسيس للمؤسسات المعنية بالتعليم والتربية، والاعلام، والاقتصاد، والاجتماع، والدفاع الداخلي والخارجي، للمؤسسات الأهلية.
5. المستوى الاقليمي
6. مستوى العالم
والمقاومة لها أشكال ومصاديق متعددة وأهمها:
1. المقاومة الثقافية والتي تعني ببنية الهوية وأبعادها على مستوى الفرد والمجتمع وما يواجه هذه الهوية من تحديات داخلية وخارجية.
2. المقاومة الاقتصادية، والتي تعني بالبناء الاقتصادي الذي يعتمد على عناصر مهمة أهمها الاقتدار، والاكتفاء، والاستقلال، وهذه المقاومة تتعلق بالتأسيس لنظام اقتصادي مقاوم وفاعل في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
3. المقاومة العسكرية، والتي تعني بالأمن الداخلي والخارجي المتعلق بالجغرافيا وما تحويه من ثروات، سواء ثروة بشرية تكمن في العقول، أو مادية تكمن فيما تحويه الجغرافيا من خيرات.
4. مقاومة إعلامية وتهتم في صناعة الصورة، والرسالة الإعلامية التي ترفد العقل الإنساني بالمعرفة والقيم والأسس التي من خلالها تحافظ على هويته ومنظومته المعيارية والقيمية.
5. مقاومة مدنية تتمثل في المظاهرات السلمية التي تعبر عن رغبة الجمهور في التغيير الداخلي، أو في رفض ممارسات من السلطات القائمة.
حدود التداخل والاشتراك والانفصال:
قد تتداخل وتشترك أشكال ومصاديق المقاومة في مناطق مشتركة عملانية، ولكن غالبا مسارات المقاومة وأشكالها المتعددة تتفق في هدف واحد، لكن تختلف في المنهجيات، فلا يمكن على سبيل المثال استخدام منهج المقاومة العسكرية وتطبيقه من حيث المنهج لها المصاديق والأدوات على المقاومة الثقافية أو الاعلامية، فعسكرة الثقافة من أخطر الممارسات على الفكر البشري، وما أعنيه أن كل فعل مقاوم في مجال محدد يتبع منهج خاص به ليؤدي الهدف العام، قد تتداخل المناهج أحيانا في مناطق اشتراك، ولكنها تختلف حتما في الأدوات.
فمثلا المقاومة العسكرية تحتاج لإعلام ثوري، شعاراتي يثير حماسة الناس والمشاركين المقاومين، لكن في المقاومة الثقافية لا نستطيع استخدام الاعلام الثوري والشعارات في مواجهة التحديات الفكرية والثقافية والمعرفية، بل نحن هنا نحتاج لتأسيس فكري مكين تجذيري، الى جانب الشعارات الخاصة بالموضوع الثقافي والفكري والمعرفي. وهكذا..
وللمقاومة بعدين:
1. المقاومة الإيجابية:
وهي التي تهدف لتحقيق العدالة في كافة المجالات الاقتصادية والثقافية والعسكرية والإعلامية، وتكون بنية المقاومة هنا قائمة على الفهم المنهجي، الذي يعتمد على عنصري الأصالة والخلود، فهو لا يفرط بالثوابت، ولكنه يحاكي في أدواته الزمان والمكان ويسعى دوما للمواكبة في منهجه وآليات مقاومته لتحقيق الهدف العام.
- على المستوي الثقافي: مقاومته ليست قائمة على الرفض العسكري للآراء، ولا تعني المقاومة هنا الانغلاق على الذات، ولا الركون للمألوف والمشهور دون أدنى محاولة لمواكبة التطورات الثقافية والمعرفية، التي لا تتعارض مع الهوية والثوابت. وتعمل المقاومة هنا عم الطبيب من حيث الرصد الدقيق والتشخيص السليم للمعارف والآراء الثقافية، وتناقش الآراء والمعارف الواردة والجديدة مناقشة علمية هادفة بمنطق الدليل والبرهان لا منطق العادة والتقليد السلبي. حتى لو كانت الآراء جديدة، فجديتها لا تعني عدم صحتها، لأن معيار الصحة والخطأ قائم على مدى حقانية الفكرة، ومدى قوة دليلها وبرهانها، ومصدرية هذه المعارف ومواءمتها مع مصادر المعرفة، أي حجية هذه المعارف.
- على المستوى الاقتصادي: المقاومة هنا تقوم على التأسيس لنظام اقتصادي، يستفيد من كل المقومات الداخلية البشرية والمادية، ويقيم نظام خاص يتناسب وموقعه الجغرافي، ومقدراته وثرواته، وعلى أساس التعاون والتنافس الإيجابي، وتحت شعار المنفعة للجميع.
- المقاومة المدنية التي قد تتمثل في المظاهرات السلمية، أو العصيان المدني، وهي مظهر من مظاهر المقاومة والرفض الشعبي، الذي كان له أثر كبير في نجاح الثورة الإيرانية، وقيام الجمهورية الإيرانية، وكذلك تاريخيا في سقوط الملكية الفرنسية، وقيام الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا. فالثورة الإيرانية مصداق للمقاومة الإيجابية التي قامت ضد حكم الشاه الجائر المستبد، وضد سلب الناس حقوقهم المدنية والسياسية، والعمل على إفقار الشعب، وبيع خيراته للمستعمر.
2. مقاومة سلبية:
وهنا أعني بها المقاومة التي تكون باتجاه معاكس للحق، فهي أيضا تعتبر مقاومة من قبل الفرد رافضة للمسار الصحيح، وغالبا هذه المقاومة تنطلق من العصبيات، كالتعصب المذهبي والطائفي، والتعصب المعرفي،والثقافي والعرقي. هذه العصبيات تكون منطلقا لعمليات مقاومة سلبية، تخلق هذه المقاومات حالة النزاع والخلاف، فعلى المستوي الثقافي، تكون كثير من النخب منغلقة في صندوقها المعرفي، الذي إما توارثته أو اعتادت عليه، بالتالي أي ثقافة ومعرفة جديدة خارج إطارها الخاص، يتم مقاومتها ورفضها حتى قبل الاطلاع على مدى حجيتها ومواءمتها مع ثوابتي وهويتي، أو ما يمكن أن تنفع به أو تضر. فيكون الرفض هنا قائم على التعصب على منهج الدليل والحجية. وكذلك استغلال المظاهرات المدنية والعصيان المدني، في رفض محاولات الاستقلال، وفي تمكين المشاريع الاستعمارية سواء الثقافية منها أو الاقتصادية.
الدولة المقاومة:
تتأسس الدولة المقاومة على مفهوم العدل، والرفض للخضوع والاذلال، الاستقلال، والاقتدار والاكتفاء الذاتي، التعاون والتنافس الإيجابي، ومفهوم الأمن المشترك وعدم الاعتداء.
فاليوم كون المنطقة مستهدفة بشكل مكثف، ومحاولات السيطرة والهيمنة لا يكل أصحابها ولا يملون، فنحن بحاجة لمعادلة: الدولة العادلة، والمجتمع المدني المقاوم، والجيش القوي المستقل، والمقاومة الشعبية.
ففي البعد السياسي: النظام العادل والدولة القوية؛
والبعد الاجتماعي: المجتمع المدني المقاوم والمقاومة الشعبية
والبعد العسكري: الجيش القوي المستقل والمقاومة الشعبية.
التأسيس للمقاومة كفعل استراتيجي:
1. التأسيس خاضع لاعتبارات الجغرافيا لكل دولة، فإما يكون هرمي يبدأ من الدولة ومؤسساتها التي تتبنى ثقافة المقاومة ورفض الخضوع لإرادة الفساد الداخلي والهيمنة الخارجية، بحيث تعمل على تنزيل وتبيئ مفهوم المقاومة في مؤسساتها نزولا الى المجتمع ومرافقها العامة باستغلال كل الآليات المتاحة، أو يبدا من المجتمع من خلال المقاومة السلمية المتمثلة بالمظاهرات السلمية والعصيان المدني كمرحلة متقدمة في مواجهة قوى الفساد الداخلي، ورفض قوى الهيمنة الخارجية، بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافية، فيكون مدني بمعنى أنه يقوم من رحم المجتمع كثقافة ومن ثم الحراك الاجتماعي الشعبي يفرض رؤيته المقاومة لتصبح واقع يدفع رأس الهرم للتسليم لإرادة الشعب.
⁃ التشبيك العمودي والرأسي:
⁃ عموديا من خلال التشبيك بين الارادات الفاعلة في الساحات الثقافية كالنخب، والعسكرية كالمقاومين والسياسية بين الفاعلين سياسيا في مراكز القرار والاقتصادية لتشكيل حلف اقتصادي يفرض رؤيته الاقتصادية للخروج من هيمنة الدولار وهيمنة الامريكي على النظام العالمي الذي يستغله لإرضاخ الارادات الحرة.
⁃ الرأسي من خلال تشبيك العمل والتعاون ضمن القطر الجغرافي الواحد لكل دولة، بين جميع النخب الفاعلة في كافة المجالات لتشكيل جبهة داخلية متوازنة ومواكبة، هذه الجبهة تشكل حائط صد تمنع الثغرات التي من خلالها يمكن أن تحدث الاختراقات في كافة المجالات. وهو ما يتطلب عملية متابعة وتقييم ونقد دقيق للفعاليات المقاومة بكافة اشكالها، وفي ذات الوقت مرونة تستوعب متغيرات الزمان والمكان، وتشخص في كل مجال مقاوم خطابه الخاص وآلياته المحددة.
3. تسييل المصادر وتبادل الخبرات ونقلها مع تطويرها وتبيئها. من خلال فتح قنوات مأمونة لتسييل مصادر التمويل المعرفي والمصرفي والسياسي، وتبادل الخبرات بين المشبكين سواء رأسيا أو عموديا، كون هذه الخبرات خاضعة في جغرافيا لظروفها السياسية والثقافية، بالتالي مع اختلاف هذه الظروف تكون طرق المقاومة مختلفة وفق هذه الاعتبارات، هذا فضلا عن إيجاد ممرات آمنة عسكريا للمقاومين.
***
حاورها: الأستاذ مراد غريبي – المثقف