مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الأكاديمي د. سامي عبد العال (1)
خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:
ا. مراد غريبي: كيف يقدم نفسه الأستاذ المفكر الدكتور سامي عبد العال لقراء المثقف وللقارئ العريي؟
د. سامي عبد العال: جزيلُ الشكرِ لكم على هذه الدعوة للحوار، لأنَّ كل دعوة تُناشد وجودنا الثري والحيوي تحت نظر الآخرين، فهم قائمون بصدد ما نتكلم عنه ضمن حياتنا الثقافية معاً، وما أجمل أنْ ننفتح لثراء الآخر دون مقدماتٍ. ومع ذلك، لا يخلو الأمرُ من صعوبةٍ بالغةٍ إزاء ما أسميتمُوه: "تقديم نفسي"، لأنَّ هناك هواجس وأفكاراً متضاربةً داخل ما يُعرف بالنفس. كما أنَّ التقديم لونٌ من ألوان العرضshow. وهو أنْ أتوجّه إلى عناية القارئ بكوني" كذا .. وكذا "، على ما يتضمنه العرض من" إدعاءٍ وإعتراف". وبخاصة مع ربط (طقس كهذا) بألقاب أكاديمية رائجة أو غير ذلك. وهذا جزءٌ من اهتماماتي الثقافية والفكرية بالأساس، فما أكتُبه يشتبكُ مع النظرة السابقة اشتباكاً نقدياً حادّاً.
و"تقديم النفس" قد يفترض خطاً واحداً أراه ضامناً لمجمل التفاصيل، وربما لا يكون ذلك مقبولاً في نهاية المطاف. فكل كتابةٍ هي عملية مخاطرة بلا ضمانٍ، ويُفترض أن تُترك للزمن كي يكشفها ويعري جوانبها. على أي حال، سأتكلم عن " سامي عبد العال" الذي أعرفه تقريباً، ولم أستطع كتابته "بنفسي" حتى الآن. فأنْ أكون " أنا سامي" هو اسهامي ومشاركاتي وكتاباتي في لحظات زمنية وعبر إحداثيات فكريةٍ ونتيجة كوني (منظُوراً فكرياً) لتفاعل الظروف والمتغيرات عبر شخصي أنا. هذا الذي أترقبه من (كل تقديم للنفس) بصرف النظر عن المسئوليات والمواقع الجامعية التي شغلتها كوظيفةٍ.
أنا – مع كل التواضع- مجرد قارئ، .. بالتحديد: قارئ– كاتب له رؤية فلسفية. تلك الإزدواجية التي لازمتني منذ وعيي المبكر جداً إزاء نتاجات الأدب والثقافة والفلسفة والدين والتصوف والفنون والموسيقى والمشاهدات الإنسانية والإجتماعية. كنت قارئاً نهماً إلى حد الهوس بالكتب والأوراق، وكأنني مسئول "مسئوليةً وجوديةُ" عن امبراطورية القراءة، وكأنني شغوفٌ شغفاً صوفياً بكراً دوماً بالنصوص الأصلية والمؤلفات المبدعة عبر أغلب مجالات المعرفة. أي منذ اللحظة الأولى، كنت في مواجهة كل التنوع الفكرى والثقافي مرة واحدةً. وربما ذلك هو سبب تخصصي في الفلسفة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي. لأنَّ الفلسفة ليست محبةَ الحكمة (قضاءً وقدراً) كما يُقال، ولكن الأهم أنها قدرة مثيرة ونوعية على الرؤية خارج القوالب الجاهزة. هي بكارة الأسئلة وإدهاش الطرح، أي أنها رؤية تحركها آليات التنوع والنظرة الكلية والأبعاد الإنسانية، فالفلسفة تقول ما لا يمكن قوله في كل المجالات الأخرى. إنَّ ما هو ماثل (داخلي) عبارة عن لحظة من التنوع الخلاَّق، وكأني أريد كتابة هذه الشيء المستحيل الذي لا يتحقق بسهولةٍ من الأفكار والمواقف والمعاني.
كلُّ نص وكلُّ تجربة مقال بمثابة مغامرة فكريةٍ لا حدود لها، كما لو كانت تقف على أبواب المجهول. عندما قرأت الفلسفة أخذتني بكل استغراق حيث لا مخرج، وحاولت الإسهام فيها وفي طرح أفكار (أدفعها) لأن تكون مختلفةً إلى حدٍ بعيدٍ. فأنا سامي كحدث هو الحاصل على " الليسانس الممتازة مع مرتبة الشرف" في الفلسفة من آداب الزقازيق تكملة لمسير التفوق العلمي في المراحل التعليمية الأولى، وهو الذي كان طالباً محاضراً في الوقت نفسه، حيث اعتاد منذ مراحل التعليم الأولى على إلقاء المحاضرات وتحليل القضايا والحرص على التجوال الثقافي والمشاركة في الصالونات والندوات. وهو- هكذا بضمير الغائب- الحاصل على ماجستير في: "نظرية العلم"، وهو كذلك منْ كتب رسالة الدكتوراه في: "تفكيك سيميولوجيا اللغة عند جاك دريدا" حتى نال درحة الأستاذية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
وإذا كانت لذلك أيةُ ميزة تُذكر لسامي عبد العال، فهي تُجدد عقد اللقاء مع إزدواجة القراءة والكتابة. حيث أثارت شغفي الباكر بكتابة الإسهامات الأدبية في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي والفني، ثم كتابة الأبحاث والدراسات والنصوص الفلسفية. أكبر الخدع هي هذه التصنيفات التي تغتصب ما نفكر فيه، أنا شخص غير مسكون بالتصنيفات المعرفية ولا أطمئن إليها حتى تعترف بما وراءها. وفي جميع ذلك، تمثل الكتابة بالنسبة لي تجربةً وجوديةً خالقة لعالمها الرحب، حيث أحرص على وضع الموضوعات (وضعاً مختلفاً) عما يعهده الأخرون، ولهذا الوضع قدرة خاصة على أن يفتح أبوابها ونوافذها تجاه المختلف.
بهذا المعنى، كتبت حول قضايا إشكالية تدخل في دوائر عدة: السياسة واللغة والتسامح والسؤال وجسد اللغة والفلسفة والهوية والواقع الافتراضي والثقافة وأنماط الإنسان وغيرها مثل نصوصي التالية: " فلسفة السؤال 2007"، " نقد فلسفة التسامح 2008"، " ميثولوجيا المواطنة: استعارات الهوية في الخطاب السياسي 2010"، " الحدث والخطاب: دراسة في فلسفة الثقافة 2013"،" فلسفة الجسد الإفتراضي: تحولات العلاقة بين الجسد والسلطة 2014"، " آلهة الحرب: عنف التأويل الديني 2016"، " أنطولوجيبا التفاهة: سؤال اليومي في عصر ما بعد الحداثة 2017" , "وجه الآخر: القراءة والهبة 2021"، " العقلانية المرحة: ابتهج بأسئلة طفلك 2023"، " التساؤلية : نحو فكر فلسفي جديد 2023"، ... وكتابات أخرى ستكون قيد النشر.
القسم الأول: الفلسفة (1)
س1- أ. مراد غريبي: حوارنا نستهله في قسمه الأول بمجال تخصصكم الفلسفة: ما هي منزلة الفلسفة في عالم الرقميات والذكاء الاصطناعي، وماهي الوظيفة التي ترى أنّها ينبغي أن تضطلع بها؟
ج1- د. سامي عبد العال: الرقميات هي الشكل المُتأخر مما نادت به الفلسفةُ من عقل كوني له أساليبه التقنية والافتراضية. فالفلسفة منذ لحظتها الأولى كانت تقنيةَ خيال لرؤى العالم والحياة والوجود، رغم أنَّ هذا الخيط لم يكُّن واضحاً في تاريخ التفلسف. لأنَّ الفلسفة حاملة إمكانيات ومشرّعة لآمال البشرية داخلنا كما يُقال بلسان إيمانويل كانط، وليس شرطاً أنْ تقول الفلسفة كل شيء في وقت واحدٍ، ولكنها بالتأكيد ستضع أفكاراً مضمرة في زمن ما على أن تتجلى هذه الأفكار بصورٍ أخرى في زمن تالٍ. وتلتقي الفلسفة مع الإنسانية عبر هذا الفضاء الرحب. ومما هو مشهور عن مارتن هيدجر أنَّه كان حذراً من التكنولوجيا حين تضر بروح الإنسان، وحين تأخذنا إلى مرحلة الغسق بدلاً من أصالة فهم الوجود والعيش. غير أنَّ ذلك ليس صحيحاً بالمرة، لأنَّ التكنولوجيا الديجيتال بمثابة وسائط لإنعاش آمالنا المشتركة وممارسة الحياة بشكل أكثر جدّةً وإمتاعاً في الوقت نفسه.
بالفعل ليست إلاَّ وهماً: كل تلك الهواجس والمخاوف إزاء وجود الذكاء الإصطناعي، لأنَّ الذكاء الإصطناعي عبارة عن خيال مُدهش تشكَّل في عوالم وبيئات افتراضيةٍ تختصر المسافة بين الواقع والإمكان بضغطة زرٍ. وهو يعيد تعريف الواقع إلينا بكل أصالة. إنه المستحيل الذي حدث بالفعل عندما نفكر جديّاً في المسألة. ولذلك، فإن اللمس touch في التقنيات عبر الشاشات المصقولة والخلايا اللامعة والأسطح البراقة والسمارت ديجيتال هو المعبر عن تلك الحالة من الإدهاش. فهذه الرقميات ترتبط بالفلسفة على ثلاثة أصعدةٍ:
أولاً: الانتشار: حيث غدت الفلسفةُ واسعة الانتشار مع المقاهي الافتراضية والمنصات والمواقع الحوارية والثقافية المختلفة. وبات مستعملُو التقنيات الديجيتال على علاقة مباشرةٍ أو غير مباشرة بالفلسفة، وكأنَّ الفلسفة إحدى ظواهر الرقمنة بإمتياز. لأنك ما لم تتعامل مع الرؤى والتنوع الفكري والتداولي لن تستطيع أنْ تكون صاحب شخصية رقمية digital personality. والإنتشار ظاهرة إيجابية من واقع أن التصورات والمفاهيم الفلسفية يتم طرحها وتناولها بين المستخدمين وقد يضاف إليها من جسد الافتراض وقرائح رواد المقاهي والمنصات.
ثانياً: التحقق: إذْ أمست المفاهيم الفلسفية لصيقةَ البناء بالاستعمالات التقنية. فالميتافيزيقا أضحت مفهومة في عوالم الإفتراض والفنون الرقمية كما لو لم تفهم من قبل. وليس أدل على ذلك من مشاهدة أفلام مثل فيلم أفاتار Avatar، حتى يدرك الإنسان تلك العوالم السحرية مع الإسقاط المتخيل على الواقع. لأنَّ الوسائط الذكية تثير الخيال وتجعل الفكر محلقاً طوال الوقت مع الإبهار التقني المتواصل، وليس هذا فقط، تقنيات الميتافيرس metaverse وعوالمه المبهرة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأفكار الفلسفية. عندما عرَّف أفلاطون الإنسان، قال هو الأنثروبوث anthropos، أي الكائن ذو الوجه. فليس يعني ذلك فقط التفاصيل الجسدية لمعنى الوجه، لكن هناك استكمالاً لمعنى الوجه الذي يعيش به بين الناس ويخلق وجوهاً أخرى كشخصيات افتراضية وعوالم بإمكانها أن تكون بدائل للحياة المعتاة وظروفها التاريخية. وكل وسائط الرقميات تعد وجوهاً في المقام الأول، لأنك تستعملها بالوجه لا بالجسد ولا بأجزاء منه. الوسائط هي وجوه معكوسة لدينا حيث التأثير العاطفي والحسي لها على إعماق بعيدةٍ. إنها كذلك الوجُوه المعكوسة التي نرى داخلها ملايين الوجوه المتناسلة والمستنسخة إلى غير نهاية.
ثالثاً: التأثير: وهو يأتي من إعادة بناء الوعي بالتفكير المختلف والكلي في الآن نفسه. فكل تقنية تحتاج إلى طريقة خاصة في التعامل معها، وهذا هو منطق الأداء performance بما فيها من إمكانيات متطورة. ولنلاحظ أن هناك جانبين من الاستعمال: المستوى العادي الذي يستطيعه كلُّ الناس الذين يرتادون المواقع الإفتراضية ويستخدمون وسائط إلكترونية متداولة. وهناك تباعاً: مستوى الاستعمال الأكثر تركيباً بما يدفع وعينا للتماهي مع اللاوعي عند نقطة لا تصح العودة منها سهلة إلى الواقع المباشر. وهذا في التقنيات يحتاج اللجوء إلى الإمكانيات options المضاعفة، والامكانيات تحتاج توليفاً وتحريكاً شخصياً للعقل والفكر دون توقف... وهكذا تتسع آفاق الإنسان.
س2- أ. مراد غريبي: إذا ما أردنا أنْ نقارب معالم الفلسفة في المجال العربي والاسلامي، فأين يمكن تحديد مدارها وآفاقها؟
ج2- د. سامي عبد العال: هذا التعبير (معالم الفلسفة في مجال كذا...) يثير لدي حساسية غامضة تجاه ما نتكلم عنه، فالفلسفة تخص الجانب الكوني فينا لا الإقليمي ولا الثقافي. وبقدر ما نكُون على هذا المستوى الإنساني، سنتمكن من التحدث عن تفكيرنا. وإذا بإمكان الإنسانُ التفلسف، فلأنَّه قادر على الشعور بإنسانية عصره. ولهذا استطاع فلاسفة الإسلام والعرب أنْ يصعدوا في بعض أفكارهم إلى هذا المستوى الكلي. واللافت للنظر أنْ يكون ذلك معياراً لمعرفة معالم الفلسفة العربية الإسلامية العربية سواء في العصر القديم أو الحديث.
ولكن الفلسفة بهذا المعني كثيراً ما تعبر عن سلبيات وجودها الثقافي حين تلتصق بمعالم معينةٍ دون سواها. بل أحيانا ما تعيش كآفاق عقلية حرة على هوامش وتخوم المجال المسمى (بالعربي الإسلامي). ولذلك ليس غريباً أنْ يكون الفلاسفة (العرب والمسلمون) قاطنين فلسفياً على الحدود بين الثقافات المختلفة مثل: الحدود بين (الثقافة الفارسية والثقافة العربية)، بين (الثقافة الوسط أسيوية والثقافة الشرق أوسطية)، و: الحدود بين (ثقافات جنوب شرق أسيا والرقعة العربية الإسلامية الممتدة)، و: الحدود بين (ثقافة المشرق وثقافة المغرب في الأندلس)، و: الحدود المتقاطعة بين (رؤى المشرق ورؤى المغرب في شمال أفريقيا) و: الحدود المتاخمة بين (أسفل قارة أوروبا وجنوب البحر المتوسط وأعلى أفريقيا وغرب أسيا) .
هذه هي الأقاليم الجيو ثقافية- إنْ صح التعبير- التي نبتت فيها الفلسفات العربية الإسلامية، وتلاحقت وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الأرض عبر خرائط طولية وعرضية. حيث تعد تلك الجغرافيا بمثابة (جغرافيا التفلسف) المنتمي إلى هذا المجال، وهي ذاتها جغرافيا العقل العربي الإسلامي. وعندما تكلمت عن ذلك في أحد مقالاتي أسميتها ظاهرة: الفكر العابر للثقافات. حيث نوهت إلى كون الفلسفات العربية الإسلاميىة تجوب الآفاق بحثاً عن ذاتها، وهي آفاق تمثل قاع العالم القديم والوسيط من جهة الأصالة والتراثات الروحية والنفسية والعقلية والجسدية لكل اللغات والمجموعات البشرية الراهنة.
إن التراثات المتاخمة هي التي تشكل المجال العربي الإسلامي، حيث انتجت عقولاً مبدعة بالفعل: ابن سينا والكندي والفارابي ومسكويه والفخر الرازي وأبو بكر الرازي الطبيب وابن رشد والحلاج وابن خلدون والمتصوفة كابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، ومروراً إلى مفكري الإصلاح والتجديد: محمد إقبال وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والإمام محمد عبده وشبلي شميل وسلامه موسى. فهؤلاء جميعاً الذين يمسوّن (العقل والروح والفكر والحياة) هم عابرون إلى ضفاف أخرى بكل معنى الكلمة. وهذا بخلاف فلاسفة الغرب الذين يتخذون من الفكر ذاته كوناً يتفلسفون في أقاليمه المهجورة والممتدة، فهيدجر قارة بحالها ونيتشه قارة بحالها وكانط قارة أيضاً وهيجل قارة بحالها, وسرعان ما يهدم هؤلاء الفلاسفة الغربيون الحدود بين تلك القارات. وكأن المقارنة بين الشرق والغرب هي مقارنة بصدد ماهية الحدود والفلسفة.
س3- أ. مراد غريبي: إلى اي مدى ينطبق قول الأديب والفيلسوف موريس بلانشو على منظورات الفلسفة عربيا: "الفلسفة لم يتبقَّ لها إلا الأثر أو شعرية الخراب"؟ اذا كان كذلك، لماذا وصلنا الى هذا الوضع؟
ج3- د. سامي عبد العال: ينتمي موريس بلانشو إلى جيل الفلاسفة الأدباء المؤثرين في أفق الفكر الغربي والعالمي، مثل جوته وتولستوي وفليب سولرز وسارتر وألبير كامي وإميل سيوران. وشعرية الخراب مصطلح يقع في النهايات القصوى للحياة والمجتمعات الإنسانية. إذ كلما دُفعت حياتنا إلى نقطة الصفر أو نقطة اللاعودة نحو التهور والتدهور، ستجد الخراب ماثلاً وربما شاخصاً عبر أشكال أخرى من الحياة. بمعنى أنه يلتقط الآثار التي تترتب على حركة الإنسان نحو النهاية، وكل ما يترك رواسبه على العقل والذائقة والإبداع. ولذلك يعد الخراب بفحواه الإنساني هو مرحلة الوجود عند نقاط التلاشي والتماهي، إنه درجة (عدم التميُز والتمييز) جنباً إلى جنب. وهذا جزء من تصور الفكر الغربي إزاء ذاته كما عند أزوالد شبنجلر في مؤلفه الشهير اضمحلال الغرب ونيتشه في مقولتيه" موت الإله" و" عفن القيم" وهوسيرل في أزمة العلوم الأوربية.
وكلُّ خراب يدعونا لإقتفاء الآثار tracing الحاضرة والغائبة بالضرورة، لا يوجد خراب بلا آثارٍ لشيء ما، لحياة ما، لكائنات ما مرت بوافر وجودها. ذلك هو مصدر الإثارة التي لا تنتهي في المسألة. لأننا عندما نعرف هذا الإنهيار أو ذاك التدمير سيكون علينا أن نتتبع الموقف: ما الذي حدثَ؟ وكيف حدث؟ وبأي معنى وصل هذا الأمر إلى منتهاه؟ والأهم ما معنى الخطر الكامن فيه؟ وأين نحن مما بدا كذلك؟! وهو موقف الأطلال في تراثنا العربي، والإطلال ظاهرة ثقافية إنسانية ولذلك كانت جاذبة للذائقة الشعرية وأحد أغراض الشعر المقابلة للحماسة وهي البكاء على الأطلال. وما يحدو الشعراء وأصحاب القول للبكاء هو الأثر الذي يبقى عالقاً بوجدانهم.
عندما شدت أم كلثوم بأغنية (الأطلال)، تلحين رياض السنباطي وكلمات إبراهيم ناجي المأخوذة من قصيدته الطويلة" الوداع"، كانت الكلمات وأصداؤها الغنائية معبرةً عن الأثر العاطفي والشعور العميق بالتلاشي. إن المقطع القائل: " يا فؤادي لا تسل أين الهوى، كان صرحاً من خيالٍ فهوى، إسقني واشرب على أطـلاله واروِى عني طالما الدمع روى".. مقطع فائض المعنى والتداعي، ولكنه معبر عن شعرية الخراب، هذا الفقدان الذي يشعرك بالعدم إنه عدم الوجود بملء الأثر. فكل ما تبقى هو أن يشعر الإنسان مع حالة الفقد بجرجرة أذيال الماضي والتاريخ الذي كان. هو إنسان يظل عائشاً عبر تلك الحالة الشجية كما لو لم يسر إلى المستقبل ولو خطوةً، إنها استحضار الأثر من الأمام. والإنسان دون أثر ليس إنساناً مستقبلياً.
كان ابن خلدون لمّاحاً عندما أدخل ظاهرة الخراب في علم العمران، ليمارس دوراً حضارياً لم يكتمل على يد لاحقيه، ولم نتعلم نحن ورثته مما أبتكره هذا المؤرخ والفيلسوف في تراثنا العربي الإسلامي. فلئن كان الأثر يعود بالفرد إلى ماضٍ قد سلف، فهو لدى ابن خلدون لا ينفصل عن الزمن الآتي. طرح ابن خلدون أفكاره كي يتعلم العرب ظاهرة الأثر، وكيف يحددون خرابهم الحادث أو حتى هذا الخراب المنتظر على قارعة الحياة.
أمَّا لماذا وصلنا إلى هذا الوضع من خراب بعض جوانب حياتنا الفكرية، فهناك عدة أسباب ولكن سأطرح عدداً محدوداً منها:
1- عقم التقكير لدينا واقتصاره على المجالات غير المؤثرة. وهذا نتيجة رسوخ فكرة التقليد وعبوره من مجال إلى آخر واعتباره أقرب الحلول لمشكلات مستجدة. حتى ظهرت مفارقة دالة: أنَّ المشكلات جديدة بينما المعالجة تقليدية حتى النخاع. على الرغم من أنه يفترض أنْ يكون العكس. وهذا ارتدَ على حال الفلسفة باعتبارها لا تنتعش إلاَّ في بيئات مُبدعة، ولكنها تحولت لدينا إلى معرفة تبريرية حجاجية مفرّغة من خطورتها الفكرية.
2- تشوه الوعي بالفلسفة والواقع معاً. فالفرد العربي الذي يقرأ الفلسفة ويتعلمها وينال فيها شهادة جامعية لا يقبل أن يفكر فلسفيا على نحو حرٍ، فقط بتمسك بمسلمات لا تقبل النقاش ولا يغير منظومة تصوراته حول الأشياء. وكذلك لا يُسمح له برؤية الواقع نظراً لحجبه بكم هائل من الحواجز وتغليف عقله كما هو كتلة واحدة.
3- شيوع ثقافة القطيع. والفلسفة تهرب من القطعان أينما وجدت، لأن التفلسف قدرة على قول شيء لم يكن ليقال عادةً. والقطيع ليس لديه شيء مختلف، مما جعل التميُز عملة نادرة كالكبريت الأحمر بلغة التصوف.
4- مصادرة المجال العام. نحن نعرف أن الفلسفة وليدة أجورا Agora، أي هي ابنة شرعية للسوق كمكان للتجمع الثقافي والمعرفي والحواري على نحو تلقائي. وعندما يرفع الحوار من المجال العام، فلا تنتظر سوى إنطفاء وعي الإنسان والانزواء بعداً وخوفاً من قبضة الهيمنة والسيطرة.
س4- أ. مراد غريبي: تناولتم فوبيا الفلسفة وانماط الهروب منها بالمناقشة، هل جذر الخوف من الفلسفة عربياً هو سطوة المدونات الفقهية والكلامية على العقل العربي مما خلف ظاهرة الأمية الفلسفية؟
ج4 - د. سامي عبد العال: المدونات الفقهية أفرزت مواقف متشددة تجاه الفلسفة في حياة الناس. ولكنها ليست السبب المباشر الأوحد وراء فوبيا الفلسفة، لأن خوفاً منها كنشاط عقلي كان نتيجة الهروب من التفكير واحتقاره. لقد أُسست الثقافة العربية الاسلامية على هذا الرعب بالتبني. وسمحت لكل نشاط ثقافي وديني إجمالاً أن يجرِّف الوعي بمسميات شتى، ويفرض شروطاً ضاغطة على الفلسفة. فعليها: أن تظل مهذبة فكرياً، وإياها وأن تصدر كلاماً حقيقياً، ولا مانع من تلبية أغرض أصحاب السلطة وأن تقتفي آثار الدين دون زيع ولا نقد وعليها أن تصبح خادمة للعلوم الشرعية لا تبرح مكانها. وإذا أرادت أن تستقل، فلتسمِ نفسها اسماً آخر كعلم التفسير أو الحكمة أو المبادئ الفكرية. المهم ألا تكون نفسها ولا تنفرد بها!!
الفلسفة وضعت في عالمنا العربي تحت الإقامة الجبرية، ويتناوب عليها حراس ليليون وحراس نهاريون. هكذا بهذا التداول الكوني لليل والنهار، ولا يسمح لها حتى بأن تبكي أو تنعي حالها ولا أن يسمع أحد أنينها الطويل. قد يكون هذا الحارس: رجل فقه يأخذ الفلسفة على محمل التهافت كما فعل أبو حامد الغزالي، رغم أن لديه ملكات عقلية ومنطقية جديرة بالإعتبار في كتابه تهافت الفلاسفة، ولكن الخطورة كونه قد كفرهم كما هو مشهور في تاريخ الفلسفة الإسلامية. وقد يكون الحارس الجديد فقيه آخر كابن تيمية صاحب الفتاوى وصاحب الرد على المنطقيين وصاحب الفهم السلطاني الخاص للسياسات الشرعية، غير أنه اتاح لنفسه مهاجمة الفلاسفة معتبراً إياهم فاسدي الحجج وضعيفي البراهين بصدد المسائل التي يناقشونها. وأن كل فلسفة يجب أن تقيَّد بوثاق الشرع كما يجب أن تربط برباط الحقيقة الدينية حتى لا تجمح نحو الضلال والزيغ.
وقد يكون حارس الفلسفة رجل سلطة كما جاء الخليفة العباسي المعتصم بالله متلقياً من الكندي فك طلاسم ما غمض من شأن الفلسفة الأولى، فكان الأخير فاهماً لرسالة السلطة في شخص الحاكم الأول المعتصم، وهو يدرك كونه سلطة مضاعفةً (الحاكم والثقافة)، فكتب الكندي أن الفلسفة علم الأشياء بحقائقها. ولكيلا يكون هناك داع للتبرير، فقد نصَّ الكندي على أنها تعنى بعلم الربوبية والوحدانية وهي جملة كل علم نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضارٍ والاحتراس منه واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله. والخطاب المضمر لهذا الكلام واضح لا لبس فيه: فإذا كانت شجرة الفلسفة مصدر قلقٍ، فلا داعٍ لذلك التوجس، فهي معروفة لدينا من قبل، ويمكن غرسها في تربتنا الثقافة تحت اسماء علوم نافعة تختص بالربوبية والتوحيدية، أي ستعلن التوحيد معنا وستشاركنا العقائد، وستكون لنا خيرَ معين على ما نؤمن به. وبالرغم من كون هذا الأمر قابلاً للنقاش، لكن المهم في ذلك هو رفع الكندي المعاني على جناح اللغة إلى رجل السلطة. وبالمقابل يحاول الحاكم أنْ يطمئن على (دولة العقل) في الخلافة العباسية وكيف لا يتسرب إليها ما يعكر صفو المزاج الثقافي السائد، حتى يضمن الحاكم ولاء كافة الأقاليم الرمزية (المعرفة والفكر) والأقاليم المادية في الحياة العامة.
وقد يكون أيضاً حارس الفلسفة رجل فكر محاطاً بهالة من الكهانة والدروشة، إذ يحرص على استعمال الفلسفة لأغراضه الخاصة زاعماً قدرته على تحويلها إلى "دكان عطارة"، عطارة الأعشاب والوصفات الأيديولوجية والنفسية والمقولات العامة التي يتدثر بها من وقت لآخر. وفي هذه الحالة ليس يجدي تخليصها من عباءته، لكونه يتكلم بسبعة ألسن وله امتداد في كل جامعة ومؤسسة تدرس الفلسفة، ولا يخلو الوضع من إطلاق تلامذته لبخور التبجيل والتقديس لذاته قبل الفلسفة. ومن سوء حظ الفلسفة أن أكثر الضربات الموجعة تأتي من أهلها ومن فساد عقول منتحليها.
حين يشعر الناس بفوبيا تجاه الفلسفة، فالأمر له واقع بالفعل، فضلا عن أن الإنسان لدينا لا يعمل عقله، بل يسير خلف السائرين في مواكب السلطان تاركاً كيانه عند أقرب ناصية. إنه العداء الدفين تحت جلد الثقافة الشائعة لكل ما يدعو للتفكير، وهو ما يحول دون خطط التنمية والإبداع وتطوير المجتمعات العربية. وهكذا أصبحت الفلسفة إمَّا كلاماً غامضاً، طالما لا يريد الجمهور التفكير في مسائلها وإما فاقدة الأهلية، حيث تسحب منها بطاقة الهوية بين الفينة والأخرى.
س5- أ. مراد غريبي: أليسوا من نعتهم بـ"دواعش الفلسفة" هم سبب البلاء الذي يعيشه الفكر والثقافة والتجديد والاصلاح والتنوير عربياً واسلامياً؟ من يكونون وكيف استطاعوا اختطاف الواقع والخطاب والإنسان؟
ج5- د. سامي عبد العال: ليس الدواعش " ظاهرة طارئة " طفحت على سطح ثقافتنا مثل الطفح الجلدي على جسم الإنسان حين يمرض. أي ليسوا نتاج مرض غامض، لكنهم نتيجة " عماء ثقافي cultural blindness " مازال سارياً في أبنية مجتمعاتنا حتى اللحظة. وهو عماء يحدث بكامل ظروفه وشروطه الموضوعية التي نراها ونتورط فيها من غير وعيٍّ. فجميعنا إزاء مشاهد الدواعش وحروبهم المتلفزة كان يتساءل: من هؤلاء الدواعش؟! ومن أين جاءوا ؟! ولماذا يفكرون ويتصرفون بهذه الطرق الوحشية؟! وربما عناصر الدواعش أنفسهم قد تساءلوا بهذا المعنى في يوم من الأيام!! كل ذلك من غير أنْ ندرك أنْ أصدقاءنا وأقرباءنا وجيراننا قد التحقوا بهم أو أنهم ظلوا " فائض دواعش" في أماكنهم. لعل هؤلاء وأولئك نمطٌ من التفكير والإعتقاد بكونهم يملكون الحقيقة المطلقة، طالما يرون إمتلاكهم نسخة معينة من الدين هي في تصورهم صحيحة والباقي على خطأ كل الخطأ.
لو تصورنا أن شخصاً معنياً بإزاحة الستار عن هذا المشهد، ليرى جسم الداعشية وعقلها، سيُذهل من حجم الظاهرة التي هي بوجوه مختلفة، تتبادل الأقنعة وتتضامن فيما بينها من موقع لآخر. الداعشية أسلوب حياة وصور من العقل تحتاج إلى دراسة أعمق من ذلك. أبرز وجوهها هو (دواعش الفلسفة)، هؤلاء الذين يتعاملون مع الفلسفة كأنها تميمة أو حجاب طارد لكل فكر آخر يعتقدون كونه شيطانياً. ويطلقون (حول رؤوسهم ) كل ما نتخيل من طقوس وتراتيل الفكر المغلق، داعين سواهم إلى الولاء إلى طريقتهم السرية في الحياة.
الأخطر أنَّهم ينصبون أنفسهم معياراً لما يُقال في الفلسفة، ويختزلون الحقائق في نصوص علان أو فلان، وتراهم شاخصين في مسوح وأضابير قديمة لا تلوي سوى على بث صورة بعينها تجاه المتلقي طوال الوقت. طبقة جديدة وراقية من الدواعش في إهتاب مدني حداثي. فالدواعش يعيشون في كهوف الماضي القح فهماً ونصاً وحرفاً،بينما يعيش دواعش الفلسفة في كهوف النصوص وخلف مكاتب وثيرة وداخل أربطة عنق لامعة وابتسامات ناعمة. الهدف منها سحب العقول إلى أقفاص أخرى تدمر ما تبقى من فهم ووعي!!
كيف يحدث تنوير في ظل الداعشية المتوارية بألف وجه؟ التنوير كما هو معروف استعمال العقل دون خوفٍ وذلك بجرأة تضع العقل في مواجهة المشكلات والاشتباك مع إفرازات الحياة بكل حرية واستقلال. وأنْ يكون العقل سيداً لا مقوداً، معياراً لا موضوعاً. وهو ما يعنى أن العقل يشرِّع لنفسه بإنسانية عالية النبرة. كما يقول ديكارت: إنَّ العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. بينما دواعش الفلسفة لدينا قد استغلوا التنوير لاغتصاب العقل، لقد ذبحوا العقل كما ذبح الدواعش ضحاياهم أمام الشاشات وتحت مسمع ومرأى من البشر!!
إن أساليب التنويريين المزيفين في مجتمعاتنا العربية واضحة:
1- لقد حولوا التنوير إلى " لاهوت نكاية وسخرية" من نوع جديدٍ. وكأن الخطاب التنويري لا يملك إلاَّ النبرة الهاذئة من أصحاب المعتقدات وأهل الأديان. وهذا شيء نحن العرب فقط الذين نتفرد به دون سوانا. هناك خطابات وكتابات ونصوص كل شغلها الشاغل إطلاق النكاية في المعتقدات من غير فهم ولا مبادئ إنسانية حرة.
عندما كان كانط يكتب ما التنوير؟، كان ينجز بالتزامن" نقد العقل الخالص " و" نقد العقل العملي" و" نقد ملكة الحكم"، وهي ثلاثية معروفة في الفلسفة: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا على أن أفعل؟ ما الذي أرجوه وأطمح إليه؟ وهذه أسئلة كانت مؤثرة على صعيد جذري لا سطحي. ولكن تنويري العرب عندما يطلقون مقولات التنوير إنما يرتدون ملابس غيرهم ولا يصنعون مما يأكل عقلهم، كما أن العبارات التي يلجأون إليهم تبدو غريبة على التربة الثقافية ولا تجد ماء الفكر الأصيل الذي يضمن لها النماء والإزدهار. كل تنوير ما لم يكن نبتاً طبيعياً في بيئته لن يجدي سوى تأكيد الفقر العقلي مرة أخرى.
وهذا الأمر سبّبَ لدى التنويريين العرب تضخُماً وانتفاخاً للعقل والمفاهيم، لكونها- أي مفاهيم التنوير- بلونات هوائية لا تسقط على الواقع ولم تخرج منه، بل هي طائرة كالمنطّاد قيد الريح، يركبونها كي يتفرجون على الحواري والأزقة التي حفرها العقل العربي تاريخياً، من غير أن يعاينوا المشكلات ولا الحقائق ولم يجهدوا أنفسهم في تطوير المجتمعات. وتدريجياً تحول خطاب التنوير إلى خُطب منبرية رنانة مثلها مثل خطب زعماء التيارات المتطرفة التي استقطب الجماهير بالنبرات الحالمة والتصورات الفارغة واثارة العواطف والشجون باسم الماضي اليوتوبي للأديان.
2- لا يمتلك التنويريون العرب مرونة عقلية كافيةً نتيجة التكلم بلسان حال الجماعة في شخصهم المفرد. وهو أمر يدعو إلى التعجب، من الذي نصب هذا أو ذاك ليتكلم باسم الناس جميعاً؟! وكأن التنوير لدينا يقع فريسة للاوعي الثقافي الغالب، وقد أصبح نزعة دجمائية صارمة نتيجة التكرار والإلحاح. لدرجة أنك لو رأيت (شخصين تنوريين)، لن تستطيع التفرقة بينهما، هما عبارة عن لسانين برأسين منفصلين فقط. أحدهما يموج ويتلعثم ويتقعر في ماهية التنوير حتى يشعرك بالأهمية والآخر يردد ما يقوله الأول.. وهكذا.
3- لا يرتبط التنوير لدينا بسؤال: ماذا بعد؟ لأنَّ الخطاب التنويري لا يملك ماذا بعد، وإذا كان الدواعش يصدرون جثثاً إلى ىالمقابر، فدواعش التنوير يصدرون بضاعة مزجاة إلى لا شيء. وقد اعتقدوا أن العلوم والمعارف ستحمل بضاعتهم على أكتافها لتكملة المسييرة، هذا هو الوهم السائد نتيجة غياب الفهم البنيوي والجذري لمعضلات الثقافة العربية. تكفى الثقافة العربية سلع بائرة، كما أن لكل ثقافة طرائقها في التنوير، ويجب البحث عنها من داخلها لا من الخارج فقط.
4- التحولات المفاجأة للتنويريين، فقد يكون أحدهم صاحب رؤية عقلانية للحياة والمجتمع والتاريخ ويردد هذا طوال الوقت. بل يظل مدافعاً عن العقل وإعماله في كافة القضايا والأفكار المطروحة، لكنه فجأة (ينسى ما قد سلف) متمسحاً بأصحاب السلطة أو ساعياً إلى تولي مسئولية سلطوية، حيث ينقلب إلى داعم لكل نزوع عنيف فاقد الإبعاد العقلانية من الأساس. أو أن يكون قد رفع شعارات العقلانية والحرية والفكر في مرحلة معينة، ثم مع حرق المراحل أخذ يحرق مراكب العودة، ليقل أقرب قطار سريع من أجل المصالح والذود عن المغانم هنا وهناك.... هل هذا تنوير أم ماذا .. ؟ وأية كائنات تلك التي تقتات على أدمغة الثقافة لدينا؟!
***
حاوره: ا. مراد غريبي – المثقف
20 – 9 – 2023م