أقلام فكرية
سامي عبد العال: العراء الافتراضي.. الفلسفة والمسْخ (1)
ربما وجدتْ الفلسفةُ نفسها - مع ثورة الديجتال revolution of digital - أمام "ظاهرةِ العراء" التي لا نهايةَ لها(1)، حيث يُعْرض كلُّ شيءٍ عياناً بياناً تحت الأنظارـ وحيث تُرمى اسرارنا على سطح الحياة اليومية وقد أـخذت المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي في تحديد معنى كل الحقائق. ماذا ستقول الفلسفة إذن بصدد هذا الشأن لو افترضنا أنها ستقول شيئاً فكرياً بعيداً؟ وكيف ستتأمل هكذا ظاهرةٍ تقنية- ثقافية؟! وبخاصةٍ أنها ظاهرة تمثل الإنكشاف المجاني العاري من أي غطاءٍ. فالعراء الافتراضي يكشف كلَّ (ما يخصنا وما لا يخصنا) أكثر من أي وضعٍ آخر.
لا يرتبط فضاءٌ كهذا بجنس القضايا المعتادة لدى الفلاسفة والمفكرين سواء قضايا الوجود أم المعرفة، ولا تحقق ظواهره شروطاً سابقة التجهيز لمحاولتي الفرز والتصنيف. فالواقع الافتراضي ليس مساحةً فيزيائيةً خاليةَ الوفاض مما دونها، لكنه فعلٌّ تواصليcommunicative action بحجم العالم، وهو أثرٌ لخيال خلاق يأخذ مكانَّه في الحياة بمجرد لمسات إلكترونية. ولكن مثلما أن الفضاء الافتراضي يبدع أدواته ويمكننا من أبراز جوانب الحياة الإيجابية، فكذلك يشكل ميداناً لأزمات إنسانية طاحنة.
على قارعة الحياة
دون مكانٍ وزمان قريبين، ليس بيني وبين الآخر سوى أنْ أراه أو أسمعه أو أصل إليه أو أتتبعه أو اترك علامات عبر صفحات الافتراض. إذ يلونُها المتفاعلون إنسانياً كيفما شاءوا، ويوقِّعون عليها بأيةِ أحبارِ يُفضلون، ويتجولون هنا أو هناك بلا نهايةٍ. انبعاث أسطوري قديم لقدراتنا على الحلم والانجاز في شكل عملياتٍ تقنيةٍ. ومن هذه الزاوية، يراهن (العراء الافتراضي) على تغيير قوانين الثقافة وأبنيتها، لأنَّه يمارس قدرات ما هو عمومي وما هو قابل للمشاركة والتجاوز بطرائق مختلفةٍ.
لكن وجهَ الإشكال: أنَّ طبيعة الثقافة الجارية (في حقب الركودِ والانحطاط) تعتمد آليةَ التطابق والتكرار. وارتباطاً بهويتها المنجزة، تُحددُ الثقافة منطقاً شاملاً بين عناصرها وتصوراتها الممتدة إلى مساحة الفراغ والخيال. مما يجعل الذهنيات قريبة التماثل لبعضها البعض (أو كما يقال يخلق من الشبه أربعين)، أي تغدو (مسخاً وراء مسخ) لتجتَّر تاريخاً فقدَ صلاحيته الإنسانية. ولا يشير (مسْخ الذهنيات) إلى شيء قدر اشارته إلى ماذا تفعل الثقافة الراكدة. وبالوقت نفسه دائماً ما يحضُر التفلسف حين يُنشط ما هو عمومي، لكوننا مطالبين بأنْ نصبح على مستوى انسانيتنا الكونية المشتركة.
في تاريخ الإنسانية، لم يكُّن ما هو عُمومي قيد التفكير على مستواه إنْ لم يُثر أفكاراً كليةً تطلُ على ما يحدث. ويشكل سياقاً حيوياً للفكر خارج المصالح الضيقة, فالشأن العمومي ينازعنا الوجود إذا استشعر استحواذاً ما، ويحرك داخل العقول الحدود المنتهكة والتي ينبغي أنْ تتوافر على إمكانيات متبادلة. وقد لا يكف عن التملمُل حتى يجسد وضعاً مستقلاً نازعاً نحو الحرية. ومن هنا نشأت أساليب الهيمنة كرد فعلٍ باحثٍ عن موضوعاته، ومن الباب ذاته قد تلوح الأخطار المهددة للعقل.
كيف يُمكن للمثقف (وهو جزء منها) أنْ يعي آليات" المَسْخ الفكري" الذي يَطال الجميع؟! هذا هو التحدي في (المجتمعات المتعثرة فلسفياً)، حيث تتراجع حرية التنوع والاختلاف ويتدنى الاعتراف بالحريات والحقوق. أي: كيف يتم الوعي بما نطرح من (أفكارٍ) داخل ثقافة تحدد سلفاً ماهية (الفكر) وتعيد انتاجه. والمعنى هنا وراؤه قضيةٌ أعم: أنَّ ما سيمارسه المثقفُ بشكلٍّ جزئي لن يستطيع السيطرة عليه على نحو كليٍّ وأنَّ ما سيُنجزه لن يتمَّ إلاَّ بإطارٍ آخر يتفلت من قبضته، دوماً سيبوح ما هو عمومي بنتائجه لا كيفما يريد الإنسان، إنما بحسب قانون الثقافة السائدة التي أصبحت الآن هي الورشة الحقيقية للفلسفة.
ذلك يضع المثقف في تناقض حي مع انتشار أدوات المعرفة وتكنولوجيا المعلومات ووسائط التواصل وتداخل عوالم الابداع والابتكار. فلم يعُدْ المثقفُ بعيداً عن واقع افتراضي virtual reality كاشف لكلِّ شيءٍ (فيسبوك، تويتر، انستجرام، مواقع، منصات، منتديات...). حيث تتم عملية التعرية اللحظيَّة للأحداث والأشخاص والمشاكل والقضايا على شاشات الحواسيب والهواتف النقّالة والأجهزة الرقمية المتطورة، وكأنَّها تؤدي دورَ ثقافةٍ أخرى تقاوم التغطيةَ وأساليب الحجب والمراوغة والحظر.
والفلسفة هنا إذا كانت مفيدةً ثقافياً كما أشرت، فهي طريقةٌ مختلفة لإيقاظ وعينا بعملية المسخ وتحولاتها المُرعبة. إنها ضربٌ فذٌ من الفكر المُضاد لجميع عمليات التعمية، التعتيم، التدني، السقوط إذ تقاوم التشوُه، التماثل الأبله، الخُنوع لغلبة الدعة وتشابه الذهنيات. في مبتغاه البعيد، يعدُّ التفكير الفلسفي أحدَ فنون الاختلاف الفكري ابرازاً لكسر حدود العقل وايجاد فضاءات حُرة له. وأيَّة ثقافة دون عمل حفري كاشف لها لن تكون سوى بطانةٍ قميئة لحياة فاسدةٍ.
المثقف المسخ
لأنَّ اللغة هي أرشيف الحياة وهي قدرتنا على استقبال الزمن، تبدو كلمة المسخ دالة على أشياء ليست مفردةً. لأنَّها صورة معكوسة لممارسات تهيمن على عمومية العلاقات ونمط العيش بين البشر. المَسْخ في المعجم العربي يعني تحول هيئة الشيء إلى صورةٍ أقبح منها، انتقال مفاجئ بفضل قوة غامضةٍ إلى وضعٍ أسوأ مما كان. كيف يحدث ذلك المسخ وأية قوة تدفعه؟!
على صعيد الاعتقاد يتم المسخ بفعل ميتافيزيقي كما يُقال: مسخَ اللهُ فلاناً إلى قردٍ. والمسيخ هو المشوَّه الخِلْقة على غرار المسيخ الدجال ضمن لاهوت نهاية الزمان. وفاكهة ممسوخة...لا طعم لها ولا مذاق. وثقافياً سيكون الفرد مسخاً عندما يحمل فكراً وذهناً لا قيمة لهما، ويظل شكلاً مزيفاً أمام الآخرين، أي الأحمق والثرثار بلا فائدةٍ من القوم. والحمل الذي يصم العقل ليس لعلّة طبيعيةٍ، بل بإرادة سلطة متجسدة في تضاعيف الثقافة وطياتها.
أمَّا باللغة الانجليزية، فتنقل كلمة المسخmetamorphosis ، monstrosity دلالات البشاعة والقبح والفظاعة والاحتقار والإزدراء. ولم تغبْ النبرةُ الاخلاقية في هذا الشأن، لأنَّ "المسخ هو من فقدَ صلاحيتَّه الإنسانية في صورة كائن آخر أكثر تشوهاً وغرابةً وفظاعة". مثل حشرة كافكا بروايته التي تحمل العنوان نفسه (المسخ 1915(2)) Die Verwandlung، حيث حياة حشرية مستحيلة- تحول إليها بطل الرواية- كانت مليئة بالبؤس والشقاء والعجز إزاء الأقدار. والتحول جزءٌ من جسد الواقع المُزري إذ يسلبُ قدرةَ الإنسان على الحرية والانطلاق.
على خلفية الثقافة، يُبرز المسخُ الفكري استعمالَ الإنسان بأغراضٍ تحقِّر من شأنه وتنتهك حريته كجزءٍ من حياة مشوهةٍ وتكبل العقل بطرائق باليةٍ تطمسُ ملكاته وتسد الآفاق الرحبة للمعرفة. نقطة الالتقاء(بين التشوَّه والفكر) تكرسها أبنيةُ الثقافة التي تفرض لوناً من الوعي وتستعبده بالوقت عينه. إذ تحرص على رسم دوائر مغلقة يدور فيها الافراد ضماناً لوجودها التاريخي. فلن تغيب الثقافة عن مرحلة أو أخرى وسترمي إلى مستقبل هي تتهيأ إليه.
في حين أتاح الواقع الافتراضي للجميع – أو هكذا ينبغي أن يكون- الاسهام في صناعة الثقافة اليومية، وأدخل الوعي الإنساني ضمن عمليات من البحث والتساؤل والفحص والتقصي والمراجعة والحوار والمناقشة والاقتراح. وهذا الوعي سيفترض تفلسفاً من نوعٍ ما(إنْ لم يكن صراحةً فهو ضمني). لأنَّ ما يربط هذه الاشياء على درجة أوسع لن يكون متاحاً من أولِّ وهلةٍ، فتلك الأنشطة ستحتاج رؤية نسقية نافذة. إنَّ التعامل مع وسائط التواصل سيطوُر تدريجياً قيم التفكير الحر. أي سيحرر (ما هو عام لدينا) في إطار (ما هو عام لدى الآخرين) والعكس.
لأن الشأن التواصلي العام كما أشرنا هو(الخارج) الذي يستحيل تحويله إلى خاصٍ أو داخل نوعي، حتى تكون ثمة "مساحة مشتركة" غير قابلة للانهيار بين جميع الافراد ومحايدة بالنسبة إليهم، وسيجعل التلاعب بأي مشهد أمراً مكشوفاً، ولن يمر بسهولةٍ من إنسان إلى آخر بل لن يمر كذلك من مجتمع إلى آخر. وسيمهد التربة في المدى البعيد لنمو بذور التمرد إزاء السلطة بأصنافها.
حينما يعْرِض المثقف (بضاعته الثقافية) ضمن ألعاب السلطة، فهو كائن مسخ. وحينما يمالئ نظاماً سياسياً هو يعلم كَّم الحياة التي يستقطعها من كيان المواطنين، فهو مرتزَق. لكنه فلسفياً لا يدري كيف ينتقد ويتساءل ويفكر على نحو مختلف، ولا بأي منطقٍ يجدد أدواته ويعيش العصر بانفتاحه الإنساني الحر. فيبدو كائناً غامضاً عبر الشاشات الفضية ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد برَرَ أهداف السلطة امعاناً لهيمنتها. في أي زمان ومكان تحاول كل سلطة انتاج نسخ مشوهة من البشر، فالنسْخ والاجترار عمليتان ثقافيتان تضمنان تكريس الأوضاع الجارية كما هي.
وإلى حدِّ الافتضاح يظهر، المثقف العاري عادةً بلا أفكار مميزةٍ، كلامه جارٍ لإرضاء أهل السلطة. وقد اعطى نفسه لطرف المعادلة الهيجلية " العبد والسيد" مجاناً إلاَّ من فتاتٍ. ويحول المواقف العابرة إلى "حيل بهلوانية" منافحاً عن أية سلطة قائمة. يفعل هذا كأنَّه منذ البدء صنيعة ماكرة للنظام السياسي الغالب، ويظل عالقاً بوجوده منفذاً لأغراضه على مستواه الخطابي والحركي تحت سقف التعبئة الفكرية(3).
كثيراً ما رأينا هؤلاء المثقفين العرب- أثناءالأحداث السياسية اليومية- كائنات ممسوخة فكرياً تقطن الشاشات الفضية والعالم الأزرق على مدار الساعة. يتفننون بالدفاع الجدلي عن مآرب الأنظمة الحاكمة متناسين القضاياً الحيوية للإنسان كإنسان. يعتاشون على بقايا الموائد جرياً مع وظائف (الطفيليات، الفيروسات) التي تنظف الأرض وتحلل الجيَّف تمهيداً لجثث قادمة!!
لم يعد المثقفُ يدرك أهميةَ دوره الثقافي المفترض، لأنَّه مع انفتاح الواقع الافتراضي، فشل في أول اختبار لممارسة رؤاه. وكذلك لكونِّه قابلاً للاستعمال(وقد أظهرت الأحداث السياسية ذلك مراراً)، فالمثقف يخضع لما تمليه السلطة، حين ارتضى بأن يكون أحد أنيابها إزاء الآخرين. فمن خلال المكان غير المرئي حيث خفاء الثقافة، يقبع المثقفُ في ظلال الحياة المشتركة. كما أنَّ تسليع الممارسات على نطاقٍ واسع جعل الثقافة بضاعةً سهلة المنال، ولم يمتلِّك المثقف ما يقدمه سوى مسايرة هذا السوق. سوق له من القوة والتحول ما ينوء به المثقف ذاته، لأنه يتحدث من داخل (فتريناته القشيبة) التي هي وسائط الإعلام والتواصل الديجيتال.
خرقةٌ بالية
في غياب التفلسف بمعناه الحر، تحولت الثقافةُ لدينا إلى" خرقة تنظيف"(4) لفضلات السلطة وأنظمة الحكم دون أي مجال لحياة أفضل. إنَّ ثقافة بلا فلسفة كالقلب الذي يضخ دماء راكدة لا تحرك أوصال الجسم ولا تزوده بالغذاء والحيوية. الفلسفة إزاء الحياة هي تساؤل يُوقظ المراكز العصبية للمجتمعات تأكيداً لحساسيتها تجاه انسانيتنا وتجاه المستقبل القادم. وإذا كان التفلسف يقرب الحدود القصوى للزمن، فهو إمكانية تشكيل التاريخ بتجارب حرةٍ ليست أقل.
هل التاريخ العربي الاسلامي يعيد نفسه في صور من العبودية الرمزية بين شقي السلطة والفكر، تحديداً عندما كانت الأنظمة السياسية تستعمل المثقفين لبقاء سلطانها ومُلكها مقابل العطايا والهبات؟! ولماذا يدجن المثقف المواطنين دون تحرير الواقع أمام الزحف الافتراضي الراهن؟!
وبخاصة أنَّ العالم الافتراضي- كما أشرت- هو عالم الكشف الحقيقي حول ما يوجد داخل الأحداث سياسياً واجتماعياً، لن يكون هناك ما يخفى على المتلقي من حينه. بضغطة زر على الكيبورد سيعرف المواطن ما هي (سياسات الحقيقة) من جوانب أخرى. ليصبح الكيبورد بذلك هو كيبورد العالم والتفكير حول الحقائق، وبلمسة واحدة لسطح الشاشة الذكية(smart) سيقلِّب صفحات الواقع، ويفتش بين السطور وعلامات المحو بين الصور والأحداث والأزمنة.
لعلّ أبرز سمات الواقع الافتراضي كونَّه يتوحد بسياق المتلقي ويعيد ترتيب أوضاعه. يسرب إلى لاوعينا الاندماج غير المباشر بين تجربة الخيال التقني والممارسة الفعلية للحياة. أي يمارس تحريضاً على نقد الواقع والنظر إليه بشكل مختلفٍ. لأنَّ صوره تظل عالقة في الذاكرة إلى أمد بعيدٍ. والواقع الافتراضي- من هذه الزاوية- اندماجٌ بلا حدود جاعلاً من الممارسة الافتراضية دائرة للفعل والعمل. بدليل أننا في الحياة اصبحنا نتعامل مع التقنيات كجزء عضوي في انسجة ممارساتنا العامة. تلقائياً نذهب إلى أقرب جهاز إلكتروني لمعرفة الحقائق وأشكال الحياة الأخرى. لأنَّ واقعاً افتراضياً كما يقول سيان جرادي Grady سيشكل قوة لتوسيع نطاق المعرفة وما يترتب عليها من نتائج(5).
إنَّ(المثقف) المسخ مرادف للكائن الهلامي الذي بلا معالم ولا قسمات واضحة، كأنه وجه مختلط بالعدم. وقد تكون له علامات مشوهة هي الوعي الزائف والأفكار البائدة، لكنه مضطرب الوجود وغير مؤثر. فكائن بالوصف السابق كان يتطلب تكملةً فاعلةٍ تميزه عن غيره. ذلك بالضبط ما يعُوزه المثقف تعبيراً عن علاقات الرفض للأوضاع القائمة. الحاصل أنَّه قد سَلَبَ (ذاتياً وثقافياً) كل إمكانيات نشاطه، وكمْ خضعَ لدورات استعمالية جعلته إفرازاً قميئاً لأيِّ وضعٍ سياسيٍّ.
فمن حينه يطل المثقف العربي بوجه متواتر على منصة بعينها كأنَّه محجوز لها من قبل. هو حارس ليلي خاص يلهث بتعليقات تخدم سياسات غير بريئة. لقد جعلَ الثقافة ممارسة فاقدةً للمضامين الكونية والفلسفية، تلك المضامين الضرورية التي تتجاوز أية مواقف ضيقة امتثالاً لمعايير عامة. ولم يذهب بعيداً في رؤيته لمسار التاريخ، فالمآرب اللصيقة برغباته لم تفسح الطريق إلى ملامسة الإنسان فينا.
الأمر الغريب أنَّ مَنْ يكرر دوراً كهذا يتم اعتباره (بفعل السلطة) مثقفاً ألمعياً لا يُشَّق له غبار. فجأة يتحول من كاتب مغمور يتعثر في اولويات التفكير إلى مبدع وصاحب آراء تمشياً مع القوى لمهيمنة على وسائل الاعلام والتلفاز. فهذا الجهاز السحري لا يحوي فضائيات وبرامج وتغطيات إخبارية فحسب، لكنه عبارة عن "معمل خيالي" لتجريب وانتاج صور لتبرير الأشياء، نماذجها ودلالتها. والأخطر أنه يترك تأثيره حتى بعد اغلاقه (التحكم فيه بالريموت كنترول remote control) ، لكونِّه يؤسسُ لما يُريد فيما وراء الواقع الغُفل!!
ولا ينفصل عن ذلك أنَّ بعض المشتغلين بالثقافة والتعليم يمارسون مضغ التفاهات وسيادة المشاهد بالتدني والغمز بالعبارات الطافحة بالنرجسية الفارغة. وهم يدركون قبل سواهم أنهم يعبرون عن صوت الصفير الذي يسكنهم نتيجة البلادة وقلة الحيلة. وأن الواقع الافتراضي قد أعطاهم فرصةً- ولو سلبية- للتواجد والظهور حتى على أكتاف القيم والمعايير. ولا يكتفي هؤلاء بذلك، بل ينسبون إلى انفسهم أوصاف الإبداع والتأليف الفذ، وهم مجرد فقاعات هوائية نتيجة المناخ الثقافي السائد. إنهم أحد تجليات فكرة المسخ العابر لجوانب الحياة الراهنة، كائنات ممسوخة مع كامل الرضا الذاتي نتيجة (الإشباع الغرائزي- الديجيتال) لما يُمارسونه من تفاهة على صفحات الواقع الافتراضي.
د. سامي عبد العال
...........................
1- العراء ينطوي على معاني ضمنية تخص الفضاء والوسع والتعرية والانكشاف واللاحدود والإمكان والتخطي والإلقاء في العالم بعبارة هيدجر. ولأول وهلةٍ تعد خريطة العالم، تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها دون استثناء، هي مجال هذا العراء. وهو ظاهرة "تقنية ومعرفية " جلبت كل ما يمت للإنسان بصلةٍ نحو الآخرين، تحت اعينهم ورقابتهم وفضولهم وتحت عمليات التقنية التي قد يقومون بها. العراء هو التيه المعاصر لمعان أصيلة من الخلاء الكاشف والصعيد المفتوح واستحضار جميع الإمكانيات التواصلية ولو كانت مستحيلة بأي موضع في العالم والثقافة. والعراء الافتراضي بذلك يمثل أكبر تحدي لكل سياسات المنع والحظر. ففي الأنظمة السياسية والاجتماعية المغلقة لا يعترف بالعراء إلاَّ اقصاء وتهميشاً. أما في صورة العالم الراهن، فالعراء هو مساحة الصراحة والاعتراف والإفضاء داخلنا وعبر علاقاتنا المشتركة. قد يراه البعض لونا من التفضُح، لكنه في جوهره قدرة على الشفافية بشكل تلقائي. فالحواجز غير موجودة وثقة الفاعل في الآخرين تجعلنا أمام حالات معرفة وتساؤلية دائمة التطور، كما أنَّ الرغبة في اطلاع الآخرين على ما نحن فيه وادهاشهم تمثلان شيئاً أساسياً.
2- تبدأ القصة بتاجر مسافر اسمه جريجور سامساGregor Samsa ، الذي يستيقظ ليجد نفسه قد أصبح حشرة بشعةً. في السطر الأول من روايته المسخ يصدم كافكا القارئ بهذا التحول الرهيب حيث يقول:" استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلي حشرة هائلة الحجم". "جريجور"، هذا العامل البسيط، البائس بوظيفته التي تجبره علي الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن بائعاً متجولاً في شقاء يومي متكرر، بالكاد يحقق له دخلاً بسيطاً يعول به أسرته. ويجري" كافكا " هذا الحدث غير الواقعي، وغير المعقول ، في سياقات واقعية تماماً، موهماً القارئ بصدق هذا الكابوس، والذي تمنَّى" جريجور/ المسخ" أنْ يكون مجرد حلم مزعج سرعان ما يستيقظ منه. لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة أمنياته، عندما ترتعش أطرافه الحشرية نهوضاً من فراشه حيث تسبب له الألم، وعندما يضطر للرد علي أسرته القلقة بسبب تأخره في النوم علي حالته الجديدة، ويصافح سامعيه هذا الصوت الغريب الذي هو بالتأكيد صوته غير البشري. وتباعاً لا تقتصر مأساة هذا البائس على عجزه عن المواءمة مع هذا التحول القدري، بل تتعداه إلي موقف الأسرة السلبي منهاـ فيما عدا أخته التي كانت تقدر محنته، حين كانت تبتعد عنه مع مرور الوقت تتفاقم أزمته الوجودية، ثم هي تدفعه للاختفاء بعيداً عن الأعين، ثم وهي تبلور مشاعرها كمشاعر باردة مدفوعةً برغبة جماعية في التخلص منه، حتى ولو كان الثمن هو الموت. فارتباطهم الطبيعي به قد انقطع غداةالتحول الحشري مع توقفه عن العمل. وبالفعل يموت "جريجور سامسا"، ماذا يمكنه أنْ يفعل غير الموت؟، بعد أنْ أرهق "كافكا " القارئ بالتفصيلات الحياتية اليومية الكابوسية، التي تؤكد أنَّ مجرد بقاء هذه الصورة أمراً مرعباً وغير محتمل، وأنَّ الانتحار هو الحل الوحيد الممكن.
فرانتس كافكا، الدودة الهائلة، الأعمال الكاملة الجزء الأول، ترجمة الدسوقي فهمي، سلسلة آفاق الترجمة العدد 29، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة – القاهرة يونيو 1997، ص ص 11- 80.
Franz Kafka,The Metamorphosis(1915), Translated from the German by Ian Johnston, Malaspina University-College Nanaimo, BC.This document is in the public domain, released, January 1999, Pp 1-26.
3- هناك خلط يقع فيه المثقفون بين معاني الثقافة والتعبئة الفكرية. وهذا الخلط أساسه وضع الأيديولوجيا مغموسةً في الثقافة كمعيارٍ لتحريك صور الحياة تجاه أهداف السلطةِ. ونتيجة الولاء لها يطلق المثقفُ خطاباته بصيغةٍ شبه لاهوتية في إطار التعبئة. وهي الالحاح على تكريس الانحياز والتملق. ولا يكف عن متابعة الطرح وصولاً إلى غايته الضمنية عادة، مستعملاً كافة أساليب الإعادة والتأكيد والاثبات لما يقول بشكل عاجل. ودون روية سيكون الكلام قولا لاصقاً بلا معنى، لكنه يعتمد على تأجج الحالة وفوران الحدث ارتباطاً بالقول.
4- لأنَّ بنية الثقافة في المجتمعات الأقل تطوراً بينة تبرير واعادة انتاج للماضي، وسيكون المطلوب منها تنظيف الحاضر مما يتراكم فيه من أفعال مغايرة. دوماً الثقافة تحتاج إلى عملية نقد قاس وشديد الوطأة حتى تحدث كسراً تاريخياً في ممارساتهااللاوعية. كل ثقافة تمثل في جوانب منها استغراقاً إلى حد الانهماك فيما ينتج علاقات القوة والهيمنة وبأخص ما ترث وتملك. ولأن المثقف لدينا فقد مكانته النقدية لعدم استقلال المعايير وللاستلاء على الوعي العام، فلن يكون سوى ترس في ألة السلطة يتحرك كما تتحرك ويبرر كما تبرر ويأكل المصالح كما تأكل.
5- Sean M. Grady, Virtual Reality, Simulating and Enhancing the World with Computers(New Edition),Facts On File, Inc, New York 2003. P181.