مرايا فكرية

مرايا فكرية

2760 وطفة ومرادخاص بالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع المفكر والأكاديمي الدكتور علي أسعد وطفة، وحوار شامل  أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التربية وعلوم الاجتماع، فأهلا وسهلا بهما:


 س7: أ. مراد غريبي: الظاهرة التربوية متنوعة و حاضرة في كل ميادين الحياة؛ في الشارع، والأسرة، والمسجد، والمدرسة، الملاعب، الأسواق، فضاءات الترفيه ومختلف المنظمات، والمؤسسات، ووسائل الإعلام و الاتصال، و(الإنترنت)، وبين الأفراد والجماعات،... إلخ، مما يوحي بضرورة استقلالية كل علم من العلوم التربوية، حتى تتحقق السيطرة العلمية على موضوع كل نسق معرفي منها، دون تحييدها عن بعضها البعض واستثمارها لصياغة رؤية فلسفية متماسكة ضمن نسق ما يعبر عنه بفلسفة التربية؟

ج7: د. علي أسعد وطفة: أشكركم مرة أخرى على هذا السؤال الحيوي حول استقلالية العلوم التربوية وتكاملها. أقول بداية مع بداية نشأة العلوم وولادتها (منذ بداية القرن السادس عشر) كانت هذه العلوم تبحث عن هويتها واستقلالها وضمن هذا السياق كان العلم الوليد يطور نفسه ويغوص في أعماق ذاته ليضرب جذوره في أرض العلم ويبرهن عن وجوده. وكما تعرفون كانت الفلسفة بداية تمثل الأرومة الحقيقية لمختلف العلوم الطبيعية والفيزيائية. ومع تطور المعرفة بدأت هذه العلوم رحلة استقلالها بدءا من القرن السادس عشر الذي سجل فيه على يد كوبرنيكوس استقلال علم الفلك، وتتابع مع الزمن استقلال العلوم الطبيعية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث بدأت العلوم الإنسانية بالتوالد ومنها العلوم التربوية.

ومما لا شك فيه أن استقلال العلم يؤدي وظيفة حيوية في استكشاف أبعد ما يمكن استكشافه في المجال العلمي للعلم نفسه. ولكن يؤخذ على الاستقلال العلمي والاستمرار فيه أنه قد يؤدي إلى التصلب والجمود والانفصال عن السياق المعرفي للعلم فيفقد العلم تألقه وحضوره المعرفي وقدرته على الابتكار في مجاله الخاص. ومن أجل تجنب هذا التلبد والتقوقع داخل النطاق المعرفي الواحد أوجد كل علم لنفسه فلسفة توازيه وتعمل على تحقيق التوازن بين التخصص العلمي الدقيق وقدرة هذا العالم على أن يتواصل مع العالم الخارجي دون تصلب أو جمود. ومن هنا ظهر لكل علم فلسفة مثل: فلسفة التاريخ، فلسفة العلوم، فلسفة الفيزياء، فلسفة الحق والقانون، فلسفة التربية...الخ. وكما أشرنا تتمثل وظيفة هذه الفلسفات في حماية هذه الفروع العلمية من حالة الجمود والانكفاء والتكلس، وتحقيق الانسجام والتكامل بين العلم المعني والعلوم الأخرى وما بين العلم والآفاق البعيدة للكون الذي ينتمي فيه.

وفي فترة لاحقة نشأت ضرورة ما يسمى بالعلوم البينية، وهي العلوم التي تبحث في مجالين علميين مترابطين مثل الفيزياء النووية، البيئة والتنمية وفي مجال العلوم التربوية مثل: علم الاجتماع التربوي، وفلسفة التربية والأنثروبولوجيا التربوية، وسياسات التربية، والتربية المقارنة، وعلم الاجتماع المدرسي. ومن الطبعي أن نشأة هذه العلوم البينية تدل بصورة قاطعة على أهمية التعاون والتفاعل بين العلوم في معالجة الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وهذا يدلنا على أن العلم أي فرع علمي عندما يبلغ أشده وينمو ويحظى باستقلاله وكماله يستطيع أن يخرج من دائرة الهوس بالاستقلال إلى دائرة التعاون والتفاعل والتكامل مع العلوم الأخرى. وهذا يعني أنه يوجد لكل علم مساران أساسيان أحدهما عمودي يتعلق بالتخصص الدقيق وآخر أفقي يتعلق بقدرته العلم نفسه على التعاون مع العلوم الأخرى في مجال الفهم والاكتشاف والتفسير. وهذا التعاون تقتضيه شمولية الظواهر الكونية وعمقها وتعدد مظاهرها الطبيعية. فأي ظاهرة في الطبيعة تمتلك تكوينات مختلف في ذاتها، وهذه التكوينات تأخذ طابعا فيزيائيا وكيميائيا ورياضيا ولذاك فإن فهم أي ظاهرة لا يتم بشكل واضح إلا بتكامل العلوم الذي يقدم فرصة أفضل لفهم ظاهرة ما في الكون.

ويبدو أن الظاهرة الاجتماعية أو التربوية أشدّ تعقيدا من الظواهر الفيزيائية والطبيعية، ومن هنا يبدو لنا أن صيغة التكامل بين العلوم التربوية أكثر أهمية وخطورة وضرورة من الظواهر الفيزيائية نفسها. وقد فرض هذا التعقيد في الظاهرة التربوية حضورا مكثفا للعلوم البينية التي تتناولها وتبحث فيها وتعمل على تطويرها. فالتربية هي من أكثر الظواهر الاجتماعية تعقيدا ولذا فإن أكثر علوم التربية هي علوم بينية متكاملة ومتفاعلة جزئيا وكليا. ومن هذا المنطلق نجد أن المتخصص في مجال التربية يجب أن يكون موسوعيا ليتمكن فعليا من امتلاك القدرة على فهم الظاهرة التربوية، وأن أغلب المقررات في أصول التربية هي مقررات بينية بالضرورة. وهذا يعني أن التكامل بين العلوم أصبح ضرورة قصوى بالنسبة إلى التربية وغيرها من العلوم.

وهنا يجب علينا أن نؤكد أنه لا يوجد أي تناقض بين التخصص في العلم والتعمق فيه إذ يستطيع العلماء الغوص في معاني العلم دون أن يمنعهم ذلك من الخوض في العلوم الأخرى وتحقيق التكامل بين تصوراتهم العلمية في ضوء التفاعل العلمي مع العلوم الأخرى. ومن هذا المنطلق فإن العلم عليه أن يأخذ بمساريه التخصص والتعمق فيه ومن ثم العمل على تحقيق التكامل بين التخصص والعلوم الأخرى. وهذا لا يضير بل يساعد دائما على الانطلاق في العلم والتحليق في المعرفة. وهذا ما نلاحظه اليوم إذ يوجد هناك تكامل عميق بين هذه العلوم وفيما بينها وبين المحيط الحيوي والاجتماعي الذي توجد فيه.

فالتربية ظاهرة كلية وهي تنطوي بين جوانحها على مختلف مظاهر الوجود ولهذا اقتضى الأمر تعمقا في العلوم واستقلال لها وتكاملا بينها. ونقول في هذا السياق أيضا إن العلوم التربوية تقع في منطقة التجاذب والتقاطب بين مطلبين: مطلب الاستقلال والهوية، ومطلب التكامل مع العلوم الأخرى. وهنا يجب علينا أن نحقق هذا التكامل فلا يكون الاستقلال العلمي انفصالا ولا يكون التكامل بين العلوم ذوبانا في العلوم الأخرى.

وهذا المطلب المزدوج يجب أن يتحقق أيضا في شخص المعلم والأستاذ الجامعي فيجب على الأستاذ الجامعي ألا يغور في الاختصاص إلى حد الغياب والتغييب، وألا يتلاشى خارج دائرة الاختصاص إلى حدّ الذوبان. وهذا يعني في النهاية أن التعمق في الاختصاص يجب أن يتكامل مع التفقه في الاختصاصات الأخرى القريبة والرديفة. وهذا يشكل ما نسميه بالثقافة العلمية التي تجعل من الطالب قادرا على مواجهة الحياة علميا ومعرفيا وإنسانيا.

نقول إن الاستغراق في التخصص العلمي ضمن ما نسميه بالاستقلال العلمي أمر خطير ونتائجه قد تكون كارثية في العلوم التربوية، ويجب علينا أن نحذر من تدريس العلوم التربوية بوصفها كيانات منفصلة يغيب فيها التكامل. ومثل هذا الأمر يهدد العلم ذاته والدارسين فيه إذ يجب أن تنكبَّ الجهود لإيجاد التكامل المنشود بين التفرعات المختلفة. فالتربية لا يمكن أن تكون ألا مشروعا إنسانيا منفتحا على ذاته وعلى المحيط الذي توجد فيه. ويقينا تأخذ المعرفة التربوية صيرورة نماء مستمرٍّ وهي تتدفق فيضا يتجاوز أسوار الجامعات والمؤسسات العلمية.

باختصار، الاستقلال في العلم لا يعني الانفصال والتفاعل لا يعني الذوبان. ومن هنا يجب على العلوم بعامة والعلوم التربوية بخاصة أن تجمع بين الأمرين وتنطلق بقوة هذين الجناحين لترسخ معرفة حقيقية وصميمية في دائرة التفاعل والتكامل الإنساني المنشود.

س8: أ. مراد غريبي: حديثنا عن علوم التربية يعني فلسفة و أدب و ثقافة و دين و تاريخ و علوم حديثة، بحكم تخصصكم في مجال التربية و علم الاجتماع التربوي، ماذا عن علوم التربية عربيا، هل حاله حال المجالات العلمية الأخرى حبيسة الفلسفات و النظريات الغربية أم هناك محاولات جادة في الاستقلال و الإصلاح و التجديد؟ وهل استفاد العرب من النماذج التربوية الغربية ومناهجها ونظرياتها أم مجرد محاولات تبيئة واستنساخ؟

ج8: د. علي أسعد وطفة: أولا بالنسبة إلى علوم التربية عربيا أقول إننا ما زلنا ندور في فلك المعطيات الغربية في مجال هذه العلوم، وهذه العلوم لم تأخذ بصمتها العربية حتى اليوم. فالعلوم التي ندرسها ونجترها هي تكوينات غربية الهوى والهوية ولا يوجد إسهام عربي حقيقي في هذا المجال حتى اليوم. فالبصمة الإبداعية العربية غائبة كليا في مجال العلوم التربوية كما في غيرها. ومع الأسف أننا ما زلنا نعيش حالة هذه العلوم في الزمن الأول الذي نشأت فيها، أي في النصف الأول من القرن العشرين. وما زلنا نجتر بعض الترجمات العربية للكتب الأجنبية التي صدرت في بداية القرن الماضي. فالغرب يتقدم وهذه العلوم تحقق تطورات كثيرة مذهلة، ولكننا لا نواكب حتى ما يدور في عالم المعرفة الغربي من إبداعات وطفرات إبداعية في مجال العلوم التربوية، وبقينا في حالة الاجترار العلمي الساذج لمنتجات الغرب الفكرية التي أصبحت من مخلفات الحضارة الغربية. ويعود ذلك إلى ضعف حركة الترجمة والتواصل الفعلي بين أساتذة الجامعات والمعرفة الغربية. لقد قام الرعيل الأول من المفكرين العرب أو أساتذة الجامعات بترجمة بعض الأعمال الرئيسية إلى العربية، ولكن هذه الحركة توقفت كليا في النصف الثاني من القرن الماضي. ومن الطبيعي أن نقوم نحن أساتذة الجامعة بتعليم هذه العلوم بطريقة فجة وتلقينية دون أي حركة إبداعية ودون أي تواصل ابتكاري مع المصادر العلمية المتقدمة في الغرب والشرق في آن واحد. ومن المؤسف أيضا أن الأكاديميين العرب يغرقون في داخل هذه الاختصاصات العلمية ويعيشون في شرانقها ويتناقلونها بصورة شكلية ساذجة.

ومع الأسف لا يوجد هناك أي بوادر للتجديد أو الإصلاح كما تفضلتم، ويندر أن نرى أكاديميا عربيا قد وصل إلى مستوى العالمية في مجال الإنتاج الفكري -التربوي أو غيره من الاختصاصات العلمية. فنحن نعيش حالة تصحر فكري وثقافي مخيفة ويكاد تعليمنا لا يتجاوز حدود التلقين الجامد لبعض العلوم والمعارف في عقول طلبتنا دون أن يكون فيها هذا الثراء الفكري المطلوب للحركة النهضوية في العلم والمعرفة.

س9: أ. مراد غريبي: وماذا عن أسلمة علوم التربية ومدى واقعيتها بحكم العقل العملي الخاص بسياقات العلوم المعاصرة؟؟

ج9: د. علي أسعد وطفة: يا صديقي أرى أن العلم يفقد صفته العلمية عندما نضفي عليه طابعا دينيا، وأعتقد أن تديين العلم يعبر عن حالة ضعف وعجز وقصور حضاري. فالتديين هو ردة فعل إزاء النقص الذي نستشعر إزاء الحضارة الغريبة المتقدمة. فالعلم لا يتدين والدين لا يتعلمن. فالدين يعتمد في جوهره على الإيمان في حين يعتمد العلم على التجربة المنفصلة عن أي إيمان كان. فموضوعية العلم تضعه خارج العقائد وبعيدا عن الأيديولوجيات الدينية. وهذا يعني أن تديين العلم يشكل محاولة يائسة لتدمير العلم نفسه فالعلم المتدين خواء وفراغ، وهو بتدينه يفقد أهم شرط من شروطه الموضوعية. فالعلم منهج يبحث في الطبيعة والكون بغض النظر عن الأيديولوجيات والأديان والعقائد. وهناك تناقض كبير في منهجية الدين ومنهجية العلم؛ فالأول يقوم على المسلمات والمطلقات أما الثاني فيقوم على التجارب والمعقولات وشتان بين الأمرين. وهذا يعني أن العلم لا يمكن أن يكون دينا كما أن الدين لا يمكن أن يكون علما. فالدين بحث في المطلقات والعلم بحث في النسبيات والمتغيرات. العلم يغير ويتغير في حين أن الدين يعتمد مبدأ اليقين والثبات.

لا يمكننا على سبيل المثال أن نتحدث عن فيزياء إسلامية وأخرى مسيحية وثالثة يهودية أو بوذية. فالفيزياء بحث في الطبيعة الكونية وقوانينها واحدة هنا وهناك لأنها تبحث في كون واحد وموضوع واحد. وأعتقد أن أسلمة العلوم كما أشرت هي محاولة يائسة لتفريغ العلوم من طاقتها العلمية. ومن الغريب أن تديين العلم ظاهرة إسلامية أقصد أننا نحن المسلمين من يريد أسلمتها ولا يوجد تاريخيا تدين العلم مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا. فالعلم لا وطن له ولا عرق ولا دين العلم علم والدين دين والخلط بينهما لا يكون إلا تعبيرا عن العجز والقصور؛ لأن الدين يفقد جوهره عندما نريده أن يكون علما عمليا وكذلك العلم يفقد جوهره عندما نجعله تحت سلطة العقيدية والإيمان. فكل اكتشاف علمي في أي مكان أو زمان هو اكتشاف يتجاوز حدود الزمان والمكان والأديان والعقائد والأيديولوجيات. وكل اختراع يصبح ملكا للإنسانية دون تمييز بين عرق أو دين أو جنس. وقد يمكننا أن نتحدث عن العلم ضمن دوائر جغرافية كأن نقول تطور الفيزياء في فرنسا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر. مع أن أي تطور هو تطور إنساني.

فالعلوم تطورت وتخاصبت عبر الزمن وعبر الحضارات وكل إنجاز علمي حدث في أي مكان كان يشكل مقدمة للتطور في مكان آخر من العالم. فاكتشاف الذرة وتفجيرها لم يكن أكثر من تطور فكرة ذرية في العصر اليوناني القديم. فكل خطوة من خطوات العلم ما هي إلا تطور وتطوير للخطوات السابقة. فما أنجزه المسلمون في عصرهم الذهبي لا تنفصل نتائجه عما نراه اليوم من تطور في العلوم والفنون. وهذا يعني أن العلوم ظاهرة إنسانية فوق الأيديولوجيات والعرقيات والمذاهب والأديان.

ويجب علينا نحن العرب المسلمين أن نلج إلى بوابات العلم بصورته العالمية وألا ننغلق على أنفسنا ضمن مسارات أيديولوجية ودينية قد تضيق مساحتها قليلا أو كثيرا عن الفضاء الواسع للعلم الذي ينطلق في مجال الكون ليتجاوز حدود المجموعة الشمسية. فلا يمكن أن نتحدث عن فيزياء نووية إسلامية وأخرى مسيحية، فالذرة وقوانينها ومفاعلاتها واحدة هنا وهناك. والقنبلة الذرية الباكستانية لا تختلف في أسسها العلمية عن القنبلة الذرية الهندية. فلا هذه إسلامية ولا تلك هندوسية أو مسيحية. وعلى هذا الأساس فإن الدعوة إلى تديين العلم دعوة إلى الخلف وإلى الجمود والهزيمة والانكسار. وهذا ينطبق تماما على العلوم التربوية إذ لا يمكن أن نتحدث عن إحصاء تربوي إسلامي أو علم اجتماع تربوي إسلامي. وهذا النوع من الأسلمة يعني في النهاية القطيعة مع حركة الحضارة الإنسانية التي تميل إلى التكامل والتفاعل الحضاري على إيقاع إنساني واحد. وإذا كانت الأسلمة فكرة حقيقية فإن مثل هذه الأسلمة إذا افترضنا أنها ممكنة تتطلب تجاوز الحضارة الغربية واحتواءها والانطلاق منها إلى بناء حضارة جديدة تقوم على الإبداع والابتكار والتجاوز، وعندها يمكن الحديث عن أسلمة وتعريب للحضارة الإنسانية.

2760 وطفة ومراد

س10: أ. مراد غريبي: هل يمكننا القول تخلفنا عن صياغة فلسفة تربوية بمعنى عدم وعينا بعد، ماذا نريد من العملية التربوية؟ ولأية أهداف؟ وما خصائص وصفات المدرس والتلميذ والمدرسة؟ وكيف نبلور مناهج تربوية تتناسب وتطلعنا الحضاري وعلى ضوء ثقافتنا العربية الصحيحة والسليمة؟ كلها أسئلة محورية في الفعل التربوي بعيدًا عن بعض النزعات والخلفيات الإيديولوجية..

ج10: د. علي أسعد وطفة: سيدي الفاضل، المسألة لا تكمن في فلسفة تربوية ممكنة بل في تخلف حضاري عميق وشامل في مختلف المستويات والأبعاد. من نحن؟ إذا كنت تقصد العرب فنحن أشلاء ممزقة في 22 دولة ويزيد والحبل على الجرار؟ دول فقدت كل مقومات الحضارة والوجود، مثل: اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين المغتصبة وليبيا والصومال... والقائمة تطول. عن أي فلسفة تريدنا أن نتحدث يا سدي!؟ واسمح لي أن أعبر عن وضعيتنا العربية في سياق إحصائي بلغة الأرقام في تقرير القمة العالمية للحكومات في دبي في عام 2017:

- 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة.

- 13.5 مليون طفل عربي لم يلتحقوا بالمدارس هذا العام.

- 30مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر.

 - 1 تريليون دولار كلفة الفساد في المنطقة العربية.

- 5 دول عربية في قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم.

- العالم العربي يمثل 5% من سكان العالم إلا أنه يعاني 45% من الهجمات الإرهابية عالمياً.

- 75 % من اللاجئين في العالم عرب!

- 68 %من وفيات الحروب عالمياً عرب!

- 20 ألف كتاب فقط ينتجها العالم العربي سنوياً، أي أقل من دولة مثل رومانيا.

- 410 مليون عربي لديهم 2,900 براءة اختراع فقط، فيما لدى الكوريين الجنوبيين فقط 20,201 براءة اختراع.

- من عام 2011 حتى 2017 تم تشريد 14 مليون عربي.

- من عام 2011 حتى 2017 خسائر بشرية تصل إلى 1.4 مليون قتيل وجريح عربي.

- من عام 2011 حتى 2017 تم تدمير بنية تحتية بقيمة 460 مليار دولار.

- من عام 2011 حتى العام الحالي خسائر في الناتج المحلي العربي بقيمة 300 مليار دولار.

في ضوء هذه الظروف المأساوية لا أعتقد أنه يجدر بنا أن نتحدث عن أهداف تربوية أو فلسفات تربوية. فالفلسفات لا تكون إلا في سياق تاريخي واجتماعي متحضر ومتقدم. المجتمعات العربية محكومة بالحديد والديكتاتوريات والنار ومع هذه الديكتاتوريات وهذا التخلف يستحيل علينا أن نقع على فلسفات تربوية حقيقية. فمدارسنا ومؤسساتنا التربوية هي في أفضل حالاتها معسكرات للتدجين والترويض والتهجين، وجامعاتنا معسكرات للأنظمة السياسية تنتج وتعيد إنتاج التخلف الاجتماعي وتكريس كل مظاهر القهر والسلبية والاستلاب والاغتراب في حياتنا الاجتماعية والثقافية.

مع هذا التخلف الثقافي والأخلاقي والإنساني والاقتصادي الشامل الذي يضرب في العمق لا تحدثني عن أهداف تربوية أو أنظمة تربوية. فمجتمعاتنا يا صديقي تعاني من التخلف والتجزئة والاستبداد والتبعية ولا يوجد ربما دولة واحدة خارج هذه الصورة كليا أو جزئيا. فكيف نتحدث عن أهداف تربوية وفلسفات إنسانية وقيم أخلاقية. الحالة مأساوية وبائسة، فالدول العربية تحتاج إلى معجزات إلهية معجزات وليست معجزة كي تستطيع أن تبدأ خطوتها الأولى، لأن مظاهر الجهل والتخلف والاستبداد قد تكاثفت وتصلبت حتى أصبحت حصونا لا يمكن كسرها أو دكها أو تدميرها. إنها حصون التخلف الهائلة التي تصغر معها أسوار الصين.

 س11: أ. مراد غريبي: بنظركم ماهي الأسس السوسيوثقافية القادرة على خلق سياق فلسفي عربي من شأنه إبداع نسق علمي تربوي خاص و استراتيجي؟

 ج11: د. علي أسعد وطفة: سيدي الفاضل،  أثبتت تجارب الأمم أن نهضة الأمم لا تكون إلا بإحداث ثورة فكرية على صورة زلزال هائل مدمر يسقط أوابد التخلف وأركانه، إذ لا بد من إعصار كاسح لتحطيم أساطير الذهنية التقليدية وإسقاط أوابدها وهدم مطلقاتها الثقافية المغلقة من أجل الانتقال إلى بناء حضارة تواكب مستجدات العقل والعلم والمعرفة بأكثر مظاهرها الإنسانية تقدما وحيوية. فالنقلة الحضارية تحتاج إلى عقلية متحفزة منطلقة تتجاوز في قدرتها كل رواسب الثقافة التقليدية بأساطيرها وخرافاتها وأوهامها.

إن أخطر ما يمكن لمخططات التنمية في البلدان العربية أن تواجهه يتمثل في عطالة العقل التقليدي بأختامه السحرية وجموده المستطير وانغلاقه على موانع التنمية ومضادات التقدم والنهضة. فالعقل المتخلف مبني على مبدأ التصلب والممانعة لكل أشكال التنوير والعقلانية في مختلف أوجه الحياة الإنسانية. وهو يمتلك في ذاته مطلقات ومقدسات وأوهاما أسطورية قادرة بميزاتها السحرية الهائلة على مقاومة كل إشعاعات التنوير وإضاءات العقل المنفتح وكل أشكال القيم الحضارية والإنسانية.

فالثقافات التقليدية المتحجرة الصماء التي تخيم على وجودنا تمتلك في ذاتها القدرة التلقائية الهائلة على دفع ورفض ونبذ المؤثرات الثقافية الجديدة التي لا تتوافق مع بنيتها الأسطورية، وهي فوق ذاك كله قادرة في حالة التصادم مع المؤثرات الثقافية الجديدة على احتواء هذا الجديد بطريقة تكلسية تصلبية، أي بمعنى أنها قادرة على احتواء هذه المؤثرات الثقافية الجديدة وتفريغها من مضمونها العقلاني وتحويلها إلى أبنية صلبة متحجرة تزيد من متانة التخلف وعنفوانه الأسطوري.

ويستطيع هذا البناء الثقافي المتحجر أن يستقطب كل ما هو جديد بطريقة الاحتواء والانصهار والتجميد. وهذا يعني أن الثقافة العربية التقليدية تستطيع بقدرتها الهائلة احتواء معطيات العلم والقيم الحضارية ضمن حركة الصهر والتذويب والتبريد لتحولها إلى قيم جديدة تغذي القديم وتزيد في مناعته وصلابته. فنحن اليوم نعيش هذه الفعالية الثقافية الهائلة في مدار ثقافتنا حيث يوظف العلم ومنتجاته جميعها بطريقة أسطورية، فيتم تحويل معطياته إلى قوة تعزز ما هو قديم بما هو جديد كاستخدام المعارف العلمية الجديدة في تأصيل المفاهيم الأسطورية والعقائد التقليدية الجامدة المهووسة بأساطيرها.

ونحن نستطيع اليوم أن نرى بوضوح كبير أن الثقافة التقليدية تجاوزت أدواتها القديمة في صد الجديد ورده ودفعه وتبنت أدواتها الجديدة باحتواء الجديد وتحويله إلى قديم متجدد متصلب. وهذا يعني أن الثقافة التقليدية استطاعت أن تغني جمودها وتصلبها بتحويل العطاءات العلمية والفكرية إلى أساطير تقليدية جديدة تتجه إلى زيادة درجة الجمود والعطالة في الذهنية التقليدية. وليس أدل على ذلك من استخدام أكثر وسائل الحضارة تقدما في نشر وتعزيز وترسيخ الجمود الصارم للثقافة التقليدية. ومن هنا يمكن الإشارة إلى توظيف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كقوة جبارة في ترسيخ ودعم وتعزيز ونشر الثقافة التقليدية بأكثر قيمها شذوذا وانحرافا. ولا يخفى على الناظر اليوم الكيفية التي يتم بها توظيف نتائج العلم الحديث في الفيزياء والكيمياء والرياضيات من أجل تعزيز عقائد تقليدية أسطورية مضادة للعلم والمعرفة في بنيتها ووظيفتها.

وضمن هذه الرؤية يمكن القول بأن سدنة الثقافة التقليدية استطاعوا على نحو متميز توظيف معطيات العلم ومنجزاته في تأصيل المنظومات الفكرية والذهنية المضادة للفكر والعقل والمنطق والتنوير. فرجال الدين يستخدمون اليوم الرياضيات والفيزياء والفلك في رسم حدود الأرض والسماء ويرسمون بالخرائط مكان الجنة والنار في قلب الفضاء ويرسمون أبعاد وإحداثيات حركات الملائكة ويعملون على قياسها بذبذبات الضوء وومضات المغناطيس والكهرباء.

وفي هذه الدائرة يمكن القول بأن التواصل والتصادم بين الثقافة التقليدية والعقل الحديث لم يؤديا في مجتمعاتنا إلى هدم القديم وسقوطه بقدر ما استطاعت الثقافة التقليدية أن تزداد قوة وتصلبا وممانعة وحضورا وامتدادا وتوسعا.

ومن المذهل أن ترى على مدّ البصر طبقات من المثقفين والمفكرين والمتخصصين في المجالات العلمية وهم يفكرون بطريقة تقليدية تماما لا تختلف عن الطريقة التي يفكر بها فلاحو القرون الوسطى فيما يتعلق بنظرتهم إلى الكون والحياة والوجود. وهؤلاء في مدار الساعة لا يجدون أي تناقض فيما تعلموه من علوم حديثة وبين الطريقة التقليدية التي تشكلوا على منوالها في النظرة إلى الوجود والكون والحياة. واستطاع هؤلاء المتعلمون والعلماء في مجال اختصاصاتهم تحقيق توافق مطلق بين العلم والمعرفة والميتافيزياء وبين منظومات القيم التقليدية التي تقوم على مرتكزات المقدس والخرافة. ومن المدهش حقا أن نجد العراف والمنجم ورجل الدين يستخدم معطيات العلم الحديث في تفسير وتحليل معطيات الكون في تعزيز ترهاته وطقوسه، مثل عملية انتقال الأرواح بسرعة الضوء واستخدام المعادلات في قياس حركة الملائكة في السماء واستخدام دلالات الثقوب السوداء في السماء وحركات الكواكب ودورانها والجاذبية في تفسير وتحليل العقائد.

هذا التطور الجديد الذي شهدته الثقافة التقليدية يعد طورا جديدا من أطوار التفاعل مع حضارة العصر، فالثقافة التقليدية استطاعت أن تتجاوز طور التصادم والتصدع والانهيار في مواجهة العلوم الحديثة والفكر الحديث إلى طور الاحتواء والتكيف والامتداد والتفاعل البرغماتي في تحويل العلم وقضاياه إلى نماذج للتفكير السحري ووسائل لتعزيز الفهم الأسطوري للكون والوجود والحياة.

وهكذا تطالعنا الحياة الثقافية بنماذج أسطورية لأساتذة جامعات وعلماء عادوا من الغرب وهم يحملون أعلى الشهادات العلمية في الطب والهندسة والفلسفة والكيمياء، ولكنهم في مسار حياتهم المهنية لا ينفكون يكرسون ثم يكثفون نمطا من التفكير الأسطوري المتشبع بالأوهام والمتكسر بالخرافات في عقلية الأجيال الجديدة. وفي الجعبة مئات الحوادث والشواهد حول هذه المسألة أحدثها أستاذ جامعي عائد من الإيفاد قضى في الجامعات الأمريكية عقدا من الزمن ثم عاد ليلقي أول محاضرة له لطلبة في طريقة إخراج الجن والشياطين من بدن الإنسان. والبقية تأتي.

 فالصلابة التي تميزت بها ثقافتنا التقليدية جعلتها غير قابلة للاختراق الحضاري، وصدام هذه الثقافة مع الحضارة الغربية لم يضعفها بل زادها قوة وتصلبا وانكفاء. ولم تستطع علوم الغرب وفنونه وعقلانيته أن تكسر هذا الجمود في الثقافة التقليدية التي استطاعت أن تصد وترد كل معطيات العلم في مجال الحياة والثقافة والإعلام والاقتصاد والنظرة إلى الكون، وبقي الإنسان العربي غارقا في متاهاتها مأسورا بسحر خرافاتها وأساطيرها. وهذا يعني أن الاختراق الثقافي للعقلية التقليدية أشبه بالمستحيل نتيجة لما رسخ في بنية هذه الثقافة من تصلب في الفكر وجمود في العقائد والعادات.

 كانت الفلسفة وما زالت صرخة إنسانية نبيلة تدعو الإنسان إلى المكاشفة النقدية والخروج من صمت التقاليد الجامدة إلى تحطيم أوهام الإنسان ومطلقاته الجامدة.. . إنها دعوة إلى حرية العقل ونبل التفكير ورفض لكل أشكال التعنت والتصلب الفكري بمختلف أشكاله وتجلياته، بل هي دعوة حقة إلى رفض المطلقات والمسلمات والمقدسات التي تمنع الفكر من الحرية والانطلاق. إنها إعلان صريح وامض بالشوق إلى المعرفة في أكثر تجلياتها العقلية شموخا وتنويرا. وهذا يعني أن الفلسفة كانت رفضا لكل المسلمات القائمة على التقاليد الجامدة والرؤى السحرية الأسطورية للوجود والكون.. إنها ثورة على كل ما تعلمه الإنسان من موثوقات ويقينيات غارقة في المقدسات الزائفة وتائهة في التقاليد الفكرية المضادة للعقل والمنطق.

والفلسفة هي رفض للحقائق المطلقة وانفتاح على الحقيقة الإنسانية المتجددة التي ترى في الحقيقة واقعا نسبيا متحركا في غمرة التفاعل الحقيقي بين أطوار الزمان والمكان.. . فالحقيقة متغير وهي دائمة التغير ولا شيء يقف على الثبات غير حقيقة التغير ذاته المنفتح على كل أشكال الحقيقة وماهياتها ضمن صيرورة أبدية لا تنتهي بمجال ولا تقف عن حدود وثوقية معلنة.

 يجري الاعتقاد اليوم أن الوصفة السحرية للتقدم تكمن في نقل المعارف والعلوم والتقانة إلى المؤسسات التعليمية، وأن تعليم العلوم والمعارف العلمية واستخدام أفضل الأساليب التربوية في التعليم يمكنها أن تحقق النهضة والتقدم الحضاري على نحو تلقائي، ولكن التجارب التاريخية تعلمنا أن تكاثف الجامعات وتعاظم المؤسسات التربوية ونقل المعارف والتكنولوجيا لم يفض قط إلى بناء الحضارة وإحياء التقدم في المجتمعات المتخلفة. وأن كل هذا الركام من المعارف والتقانات لم ولن ينفع ما لم تحدث ثورة فكرية ثقافة شاملة تكسر اليقينيات وأنماط التفكير التقليدية المضادة للتطور والتقدم. فالعلوم والمعارف ليست أصلا في الحضارة بقدر ما هي نتيجة لانتفاضة العقل على تقاليد الجمود الفكري والتخلف الثقافي لدى الشعوب. ومن أجل مزيد من الوضوح نقول إن العصب الحقيقي للتقدم يكون في تطوير العقليات من عقليات جامدة ملجومة بالمقدسات والمطلقات المضادة للإنسان والحضارة إلى عقليات منفتحة على العقل والتساؤل والنسبية والإبداع والتفاؤل.

ولا يمكن لأي معارف علمية أن تحدث دويا في الواقع وتغييرا حضاريا ما لم تتساوق مع نمط جديد من العقل الحر والعقلية المتمردة على أوابد اليقينيات الماضوية المنفتحة على التساؤل والتمرد والإبداع والرفض والإيمان بسلطة العقل القائم على النسبية المفارق للمطلقات المعادي للمقدسات واليقينيات الخارقة. العلوم والمعارف والتقانات لا تزيد العقل المغلق إلا انغلاقا ولا تضفي على الثقافة التقليدية سوى تصلب وجمود وجنوح نحو اليقينيات المجافية للعقل والعقلانية.

 

حاوره: الأستاذ الباحث مراد غريبي

صحيفة المثقف

7 - 9 - 2012

 

 

خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما:

مفتتح:

يعد التصوف في عالم المعرفة الإسلامية حقل من الحقول المهمة التي تحتاج لإستظهار وعناية ثقافية خاصة، حيث شهدتْ الإنسانية خلال العقدين الأخيرين عناية خاصّة بساحات مباحث التصوف والعرفان والتربية الروحية لدى أغلب الديانات السماوية والوضعية، وازداد الاهتمام بالتصوف سواءٌ ‏في آفاق الدرس الفلسفي والفقهي والتربوي الإسلامي أو البحث الاستشراقي في الغرب والشرق، وتنوّعت المساحات المختلفة في نقاش هذا المبحث الثقافي الإسلامي، وفي هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور/ مجدي محمد إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلاميّة والتصوف بجامعة أسوان (مصر)- نجتهد في ‏تسليط الضوء على حقل التصوف ومباحثه ضمن المجالين الإسلامي والاستشراقي، وذلك من خلال ثلاثة محاور: التصوف، القيم الروحية في الإسلام، الدراسات الاستشراقية للتصوف (التاريخ والمثاقفة):

أ. مراد غريبي: بداية، هلا عرفتنا عن شخصكم الكريم الأستاذ الدكتور مجدي محمد إبراهيم؟

د. مجدي إبراهيم:

بادئ ذي بدء سعيد جدا بهذه الضيافة الحوارية الطيبة وأتمنى أن ينتفع قراء صحيفة المثقف الغراء من مضامين هذا الحوار الخاص واتمنى لكما خالص التوفيق الأستاذ مراد غريبي والمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، شاكرا لكما هذه الثقة والود والإحترام أما بعد:

الأستاذ الدكتور مجدي محمد إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف من مواليد 30/10/1965م بمصر أرض الكنانة، رئيس قسم الفلسفة كان من الفترة 2015-2019 بجامعة العريش ونقلت مؤخرا إلى جامعة أسوان مطلع سنة 2020م..

المشوار العلمي:

تحصلت على ليسانس الآداب- قسم الفلسفة دورة مايو 1987م جامعة الاسكندرية، وماجستير الآداب قسم الفلسفة تقدير ممتاز سنة 1993م جامعة الزقازيق بعنوان: "حال الفناء بين الجنيد والغزالي" .

ثم نلت شهادة الدكتوراه سنة 1995م بمرتبة الشرف الأولى بجامعة الزقازيق بعنوان: "مشكلة الموت عند صوفية الإسلام"

النتاج العلمي:

لدي العشرات من المؤلفات أغلبها حول مسائل التصوف وشخصياته ومفاهيمه وما هنالك من إضاءات حول حيثياته أذكر منها:

* كتاب فعل الهمة في المحبة والإرادة عند الصوفية،

* كتاب التجربة الصوفية (بحث في تحقيق العلاقة بين اعتقاد الثنائية ورؤية الواحدية في تجربة العارف الروحانية) من تصدير أستاذنا القدير المرحوم الدكتور عاطف العراقي،

* أيضا كتاب التصوف السني: حال الفناء بين الجنيد والغزالي (في الأصل رسالة الماجستير)

* و كتاب التصوف عند ابن خلدون

و غيرها من الاصدرات حول شخصيات صوفية مثل:

* كتاب أبو القاسم الجنيد (السر في أنفاس الصوفية)،

* كتاب أبو العباس المرسي (مذهبه وآراؤه الصوفية)،

 وكتب مفاهيمية ذات علاقة بالتصوف:

* كتاب حديث الولاية (اضاءات معرفية للدعائم والمرتكزات)

* كتاب الحرية عند ابن عربي، الذاتية الخاصة للقرآن الكريم (دعائم تأصيل التفسير الإشاري)،

* كتاب الحياة الباطنة في تصوف الإمام الشعراني،

* وكتاب فكرة إسقاط التدبير في تصوف ابن عطاء الله السكندري...

إلى غير ذلك من المخطوطات التي تنتظر الطبع، بالإضافة إلى أبحاث ومقالات ودراسات منشورة في العديد من الصحف والمجلات، ناهيك عن المشاركات في المؤتمرات العلمية والثقافية داخل مصر وخارجها، مع الإشراف على رسائل الجامعية وكذا مناقشتها.4465 مجدي ابراهيم ومراد غريبي

القسم الأول: التصوف في عالم المعرفة الإسلامية

س1: أ. مراد غريبي: رغم أن التصوف مفهوم شائع لكن مازال يحيط نفسه بكثير من الغموض، ويبدو كأنه لغزاً لا يمكن اختراقه، أتمنى على سعادة الدكتور مجدي بدايةً أن يقدّم للقارئ مفهومه عن التصوف من خلال أهم معالمه؟

ج1: د. مجدي إبراهيم: إذا كنت تقصد التصوف في الإسلام؛ فهو ثورة روحية باطنة تقوم في قلب صاحبها بغير مُنَازَع، تعتمد الذوق منهجاً لها تدور في فلكه، وتتناول قضايا الدين والعقيدة على أساسه، فهو بحق زبدة عمل العبد بالكتاب والسنة كما تقرّر هذا التعريف لدى القدماء، شريطة أن تكون هذه الزبدة هى الخلاصة التي يصل إليها العبد من طريق الذوق والتبتل والمراقبة بُغية إعلاء التوجه الروحي في إطار العقيدة الإسلامية قبل كل شيء. وإذا كان التصوف ثورة روحيّة فهو من أسس العقيدة الإسلامية ينطلق، ولا يتوقف عند حد محدود؛ ليصل إلى المعرفة بالله حقيقةً. والفرق كبير جداً بين العلم بالعقيدة، أصولها وأسسها وضوابطها وأحكامها، وبين ممارسة العقيدة كحياة ومعايشتها من الباطن وتشربها في كيان من يدين لها بالولاء حتى الرمق الأخير.

في الحالة الأولى تظل العقيدة مجرد رأي ودراسة من خارج، منعزلة عن التوهجات القلبية والعمليّة. وفي الحالة الثانية تمضي بصاحبها تحقيقاً إلى ملكوت العرفان. هنالك تتوحّد العقيدة مع المعرفة، ويتوحد الكيان الإنساني كله في ذاته ولا يفترق ولا ينقسم على نفسه أجزاء متناثرة كل جزء منها يبحث عن إشباع حاجاته فيتشتت هم الإنسان ويتفرّق، لا بل في ظل العقيدة يصبح التوجه روحياً خالصاً نحو طلب الأولى والأعلى متسامياً عن الدنيا مرتفعاً بالمقاصد العليا إلى التعلق بالقيم الكبرى في إطار المبدأ العقيدي الذي يدين له بالولاء: التوحيد.

إذا خلت العقيدة من معرفة الله في كيان صاحبها أقفرت وأصبحت جدباء خاوية من الفاعلية والحركة النافعة، وإذا استولت على المعرفة على قلب المؤمن كان طلبها في ذاتها محاولة ناجحة لا شك فيها للعرفان. المهم أن يصدق في القلب الطلب وأن تزول عنه عوائق ما يطلب، وأن يكون طلبه على الدوام صادقاً من جهة اليقين الذي لا يداخله شك، هنالك تصبح حركة السلوك الديني موالية للعقيدة التي يعتقدها ويدين لها صاحبها بخالص الولاء.

ولم تكن حركة بغير هدف قصدي عميق في باطن الوعى الشعوري؛ بل هدفها الأول والأخير معرفة الله.

لكن المعلم البارز في كل تصوف وفي أي تصوف هو عندي يكمن في "التجربة الصوفية"، لا يصح أن يُقال عن الصوفي إنه صوفي بغيرها، ولا يمكن أن نصف الصوفي بأنه صوفيُّ ما لم يكن صاحب تجربة.

وهذه النقطة تحتاج إلى شرح لذلك سوف أتوقف عندها بالمقاربة بين تجربة الشاعر وتجربة الصوفي:

فأقول؛ قد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنّف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو السهروردي أو ابن سبعين. والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانية غير الذي يستحقها به البقية، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" لا تجارب "العارفين" بين تصوف سنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي وشبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

ومع أن مزايا التصوف كثيرة جداً غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والصوفية ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين. وقد يُحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيٌّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد. فقد يعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها, غير أن المزية التي لا غنى عنها والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها هى مزية واحدة لا خلاف في الرأي عليها: "التجربة الصوفيّة"، وطلب المعرفة الإلهية من طريق الذوق والتبتل وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه. فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزية الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعر شاعراً إلا بنصيب منها كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفية" مزية الصوفي الأصيل، لا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها. وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحية في كلتا التجربتين. فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

لأجل هذا؛ تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفية معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم, وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحية ومستندها، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء. وعلى هذا الأساس, لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها.4462 التصوف مجدي ابراهيم

 س2: أ. مراد غريبي: من الناحية التاريخية هناك اختلافات كثيرة حول نشأة التصوف ضمن خط الزمن الإنساني؛ فهناك من يربط التصوف بالديانات الإبراهيمية كلها، والبعض يحصرها منذ القرن الثالث الهجري، وأن الفكر الصوفيّ أعتمد فلسفات أجنبيّة كالهندوكيّة والبوذيّة والفارسيّة، ويرون أصحاب هذا الرأي أن الغالب من مفاهيم التصوف ترجع لتأويلات وتفسيرات النصوص المقدّسة في الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، ما تعليقكم دكتور مجدي؟

ج2: د. مجدي إبراهيم: أعتقد أن الإجابة على سؤالك هذا ترتبط مباشرة بما أسلفت، لكن لا بأس من التنويه إلى التفرقة بداية بين ما يُقال عن التصوف في الإسلام وهو القائم على "المضمون الديني"، على الكتاب الكريم وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وبين التصوف في الحضارات والثقافات الأخرى ممّا عساه يندرج مباشرة تحت "التصوف المُقارن". هذه التفرقة ضرورية جداً لتلمس "وَحْدَة القصد" والتوجه. التصوف في الإسلام، والسني منه خاصّة، توجه بالروح وفق مضمون الكتاب العزيز وتطبيق تعاليم سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، هو تصوف عملي، حياة يومية، ترتقي بالضرورة مع التوجه وتتوخى وَحْدَة القصد، بالروح والأخلاق. أما التصوف المقارن في الحضارات والثقافات الأخرى أو حتى في الأديان الكتابية: اليهودية والمسيحية؛ فيغلب عليه الجانب النظري، طابع الدرس للدرس فقط، لا السلوك العملي والممارسة اليومية، هو مجرد مقارنة أفكار قد تتشابه وتتلاقى أو تختلف وتتباين، فالمقارنة هنا نظرية تتوجه للفكرة أكثر من الجانب العملي التطبيقي. ونحن إذا قلنا عملاً وتطبيقاً وضعنا التجربة الصوفية في أولى الاعتبارات.

فلا يعقل أن يقرأ المتصوف وهو يدين بعقيدة الإسلام عن التصوف الهندي، أو تصوف أفلوطين، أو التصوف في اليهودية، أو في المسيحية، ثم يطبق هذا في حياته العملية سلوكاً يومياً وممارسة فعلية. لا يعقل عاقل هذا بقرابة البداهة.

أضف إلى ذلك كله، وهو المهم، أن الاختلافات الكثيرة حول نشأة التصوف الإسلامي فيما تفضلتَ بذكره إنمّا ترتد إلى نظرية المصادر وهى نظرية قديمة أنتهجها المستشرقون وفق منهج "الأشباه والنظائر"؛ لتفسير نشأة التصوف في الإسلام من أين جاء وعلامَ اعتمد؟ فالبحث في أصل الكلمة نفسها وفي مدلولاتها المباشرة وغير المباشرة، يرتبط ارتباطاً شديداً بتفسير المصدر الذي أريدُ أن أنسب إليه نشأة التصوف الإسلامي؛ فإذا كنت أريد أن أقول إن التصوف في الإسلام مأخوذ من المصدر اليوناني، ركزت بدايةً على البحث في أصل الكلمة "صوفيا". وإذا أردتُ أن أقول إنّ التصوف في الإسلام يرتد إلى المسيحية بحثت بدايةً فيما عساه يلقي الضوء على التشابه بين لباس الرهبان ولباس الصوفية، أو جعلت من عبارة الغزالي التي يقول فيها "تعلمت المعرفة من راهب يُقال له سمعان" هى أساس منطلقاتي الفكرية؛ بجعل التصوف في الإسلام مستنداً على أسس مسيحية ... وهكذا.

لكن هذا التشابه الشكلي بنظرة فاحصة مُدققة هو خارج عن نطاق المضمون الديني في الإسلام، ليس بداخل فيه ولا بالمؤسس له حقيقةً. فمن عساه يرد التصوف الإسلامي إلى أصول هندية أو يونانية أو مسيحية يعتمد منهج "الأشباه والنظائر"، فلبْسُ الصوف واتخاذ السِّبح والمقاربة بين دلالة الكلمات، كلها أشياء تتشابه فيما بينها من حيث الشكل الخارجي، ولكن "التشابه لا يلغي عندي المضمون"، ولذلك؛ أنا أرفض هذه النظريات الشكلية وأقابلها بنظرية "المضمون الديني" في مواجهة عمق التجربة الصوفية نفسها من ناحية، وفحص أصول الكلمات المتشابهة بين أنواع التصوف الكثيرة في الثقافات والحضارات المختلفة ومقارنتها بما في المضمون الديني الإسلامي من ناحية أخرى، ليتبيّن لنا بعدُ تلك المعالم البارزة كخصائص لكل تصوف على حدة. إنما الأمر متخلف في التصوف الإسلامي الذي يقوم على وعي المسلم بمضمونه الديني، واتصال هذا المضمون بممارساته اليومية، واقتداره على توظيفه في حياته فكرة وتطبيقاً.

خذ مثلاً توضيحياً آخر على هذا عساه يفرّق لنا بين قراءة التصوف قراءة أيديولوجية وبين ممارسته على الواقع الفعلي: كثيرون من المنظّرين، أصحاب الرؤى والاتجاهات الفكريّة والمعتقدات العلميّة، يعرضون للتصوف قدْحَاً، وعلى غفلة، فيتعرّضون؛ في زعمهم، لأخطر ما فيه، فلا يرون منه، مع ما فيه من خطورة، إلا ما يُشْبه الهوس، يُحلق صاحبه بعيداً عن واقعات الحياة وفروضها، مع أن هذا الشيء الخطر ليس من التصوف في شيء، هو فقط من أدمغتهم، تحليلاً وتخريجاً، وتلويثاً. وإنْ شئت قلت: ومن أبخرة عقولهم الملوثة بلوثات الفكرة الأرضيّة.

فتارة ينسبون إليه ضعف التوجّه، وينعتون صاحبه بفقر القوة على ملاقاة الحياة الصاخبة بمتطلباتها اليومية، وتارة يضفون إليه الحيل الهروبية والانسحابية؛ لهزال نفسي يمسُّ تكوين الشخصية، وتارة يقارنون بينه وبين الابتكارات العلميّة بغية إخضاعه عنوة إلى تطبيقات المنهج العلمي مع أنه ليس بعلم، وتارة يصفونه بالمرض العصابي يلمُّ بأشخاص فقدوا تحقيق رغباتهم الدنيوية، فتمكن منهم المرض العضال فلم يجدوا سوى التصوف يريحهم من عناء الأزمات، وتارة ينسبونه إلى مصادر غير إسلامية: يونانية أو فارسية أو هندية أو مسيحية كما فعل قادة الفكر الاستشراقي، مع فارق في التخريج غير قليل، في نسبة الإبداع الفكري الإسلامي برمته إلى مصادر غير إسلامية؛ وهكذا دواليك: حالات غربية من الإسهال النظري المُدْلج لمعرفة كُنه الحقيقة الروحيّة بغير طرقها ومناهجها وأدواتها ووسائل الاتصال بها. وإنما في بطن التجربة تجود المعرفة ويجود البيان.

أقول؛ إنّ هذا الشيء الخطر هو توهم كشف حقيقة التصوف مع أن ما كانوا تعرّضوا له ليس بتصوف؛ لأن الكلام عن التصوف شيء، وحقيقة التصوف شيء آخر، وكذلك تجئ الكتابة عن التصوف شيء، والاتصال بالحالة الصوفيّة شيء آخر؛ تماماً كحلاوة العسل أو تجربة الحُب، أو لذة الجماع، كلها أمور مهما وصف لك الواصفون من شأنها، فلن تستطيع أن تتحقق منها ما لم تحصّلها بنفسك: تتذوقها، وتباشرها، وتعايشها حياة خالصة، وتجرّبها بنفسك غير خاضع فيها لرأي سالف ولا بمعرفة نظريّة سابقة على التجريب.

وهذا هو الفرق الفارق بين القراءة الأيديولوجية للنصوص الصوفية كونها مجرّد كلمات خاضعة لمشارط التحليل والنقد والتنظير، ثم لمناهج تستنها مدارس فكرية بعينها وتوظّفها توظيفاً حسب مقتضياتها وأهدافها فيما تراه، وبين التصوف في ذاته؛ كونه سلوكاً له قواعده النظريّة غير أنها موقوفة على الاستشعار والاستبصار، والاستغراق في قلب هذه القواعد إلى حياة مُحَقَّقة في الواقع الفعلي. أقصد واقع هذه الشخصية أو تلك من ذوات التجارب الكبرى.

فلن تكون متصوفاً مهما قرأت ألآلاف ألآلاف المصنفات الصوفيّة، أو كتبت في هذا الميدان ما لا يُحصى عدّه من المؤلفات. لن تكون متصوفاً على الحقيقة ما لم تتجرّع مرارة الصبر في غير تعبيس، وتأخذ الحقيقة من أهلها لا من عقلك أو من نفسك!

أمّا العنجهية الفكريّة والصَلَف المعرفي والأيديولوجيات النظرية؛ فهي تخريجٌ بليدٌ فاسدٌ؛ بل وموغل في الفساد، يفسد أذواق النصوص الصوفية ويُلقي بها في متاهات الأوهام.

كل ما كتب في التصوف أو عنه ليس بتصوف، إذا نحن عددنا التصوف بالفعل هو:"الأخذ بالحقائق"، على حد تعبير معروف الكرخي المتوفى عام ٢٠٠ من الهجرة، والحقائق لا تدوّن في كتب، ولا يُنَظّر لها، ولا تكشف للباصرة النظريّة، أو للمعوان العقلي، ولكنها مع ذلك تكشف. إنما تكشف بتجليات باطنة تتجلى (فضلاً) من عون الله على قلوب الأتقياء، لذلك كان التصوف أمراً باطناً، لا يُطلع عليه، هو علاقة خاصّة مخصوصة بين العبد وربّه، هو الإخلاص وكفى.

مَنْ يودْلِج لهذه العلاقة دون أن يعرفها أو يشم منها رائحة، يضرب في واد غير ذي زرع، ثم لا يخرج بشيء إلا كما يخرج به غربال من بئر.

 س3: أ. مراد غريبي: هناك شخصيات تاريخية دينية كان لها السبق في صياغة التصوف الإسلامي، أي شخصيات رسمت معالم التصوف إسلامياً؟

4463 التجربة الصوفية مجدي ابراهيم ج3: د. مجدي إبراهيم: أشرت فيما سبق إلى مثل هذه الشخصيات، وهى الشخصيات الكبيرة في التصوف، أصحاب التجارب الصوفية، من أهمها وأبرزها شخصية أبي القاسم الجنيد بن محمد البغدادي "طاووس العلماء" "وسيد الطائفة" المتوفى سنة (297هـ)، يمثل التصوف السّني الخالص، وقد قمت بدراسته في مرحلة الماجستير ووفقني الله مؤخراً قبل سنوات إلى تحقيق ودراسة كتابه "السّر في أنفاس الصوفية". وفي كتابنا "التجربة الصوفية" الذي قدّم له أستاذنا الدكتور عاطف العراقي، عليه رحمة الله، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة سنة 2002م، وأهديته إذ ذاك إلى رائد التصوف في العالم العربي الدكتور أبو العلا عفيفي، رحمه الله؛ درست تجارب الصوفية الكبار حسب التصنيف التقليدي: تجربة البسطامي (ت261هـ) الاتحادية. وتجربة الحلاج (309هـ) الحلولية. وتجربة السهروردي المقتول سنة (589هـ) الإشراقية. وتجربة ابن عربي (ت638ه) في وحدة الوجود. وتجربة ابن سبعين (ت669هـ) في الواحدية المطلقة، بالإضافة إلى تجربة الغزالي (ت 505هـ) في التصوف السّني، والتي سطرها بصدق صادق لا شك فيه في "المنقذ من الضلال".

تلك كانت شخصيات كبيرة ومؤثرة في التصوف الإسلامي، هذا فضلاً عن قدماء كتاب التصوف الأوُّل كالسراج الطوسي صاحب كتاب "اللمع"، وأبي طالب المكي صاحب "قوت القلوب" والكلاباذي صاحب "التعرف لمذهب أهل التصوف"، والقشيري صاحب "الرسالة" وغيرهم الكثير والكثير.

س4: أ. مراد غريبي: من الإشكالات الحاصلة في حقل الدراسات الإسلامية المُفارقة بين مفهومي العرفان والتصوف أو التصوف السني والعرفان الشيعي وكذا ما يسميه بعض المخالفين التصوف الطرقي أوالعرفاني، كيف يمكننا تفكيك هذا المأزق المفاهيمي والتعقيد الأبستيمي إنْ صح التعبير؟

ج4: د. مجدي إبراهيم: أولاً: أنا لا أحبذ استخدام كلمة "التصوف الطرقي" هذه، لأنها ليست مفهوماً ولا مصطلحاً، بل هى كلمة عامية تشعرك بالسخرية والاستخفاف من الطريق الصوفي، وأي سخرية أو استخفاف غير مقبول علمياً، فضلاً عن أن كلمة الطريقة هذه كلمة قرآنية "ولو استقاموا على الطريقة"، غير أن التصوف كلٌ كامل لا تقسيم فيه، معطى روحي، هو علم ذوقي له أصوله ومعطياته، لا يحتمل تنصيفاً ولا تقسيماً اللهم إلا أن يكون تقريباً للأذهان.

ثانياً: يُلاحظ أن مصدرُ العرفان في حقل الفلسفة هو العقل الإنساني مُجرّداً عن لواحقه الشعوريّة. ومصدر العرفان في الدين، وخصوصاً الأديان الكتابيّة، هو الله تعالى يُغذي طاقات العقل الإنساني بشتى المعارف وشتى العلوم، كلما فتحت طاقة من طاقات المعرفة فتحت معها طاقة أخرى تتلوها أو تصاحبها، وهكذا بغير انقطاع. ومدد الفتح لا ينقطع إذا كان المصدر هو الحكيم العليم:"وإنك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم".

الاستقلال الفكري العقلي في الفلسفة لا يجور، ولا ينبغي له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته كونه يسمح بالانتقال بالإنسان من حياة إلى حياة ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مستقره الأخير.

والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال وحده، عائقٌ للعقل البشري نفسه لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه ونحو ما يدركون. ما لا أدركه أنا بعقلي المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذي يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.

وليس معنى عجزي عن الإدراك عن مسائل بعينها، إنها غير موجودة؛ بل عجزي هو الذي صوّر لي سلفاً إنها معدومة؛ فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندي من تصور العدم. عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه إنّ ما لا أدركه بعقلي المحدود قد يدركه بباصرته غيري ويقتدر عليه.

هذا هو الإنصاف المطلوب في كل حال.

ثم إنه توجد خلافات مثلاً بين التصوف السُّني والتصوف الفلسفي، كما توجد مُقاربات بين التشيع والتصوف عموماً، وبينهما أيضاً عند التحقيق خلافات، فليس قطب الصوفية مثلاً كالإمام المعصوم عند الشيعة، ولا دلالة الرمز في التشيع كدلالته في التصوف، ولا اصطلاح السّر في التصوف كاصطلاح السر في التشيع، ولا محبة آل البيت عند أهل الله كمحبتهم عند الشيعة. الخلافات والمقاربات هما أمر طبيعي يحتمه منهج الدرس الفلسفي. ولكن لكل نزوع خصائص، ولكل توجه ملامح تمس روح هذا أو ذاك، تماماً كالشخصية الإنسانية المُفردة لها روح ولها خصائص وسمات ولا يمكن أن تتشابه مع أخرى ويكون لها نفس الخصائص والسمات.

هذا لا يعني مطلقاً نفي القول بأنّ التصوف في كل مجال وَحْدَة كلية كاملة كوحدة الروح الإنساني؛ طالما في الإنسان روح ففيه تصوف، وأن هذا التصوف يستند على مقومات وأسس ينطلق بداية من العقيدة ويتغذى على الوعي والثقافة الروحيّة والعقلية، ولكنه لا يخلو أبداً من طلب الكمال؛ لأن ارتقاء النفوس في مقامات الكمال من العناية الإلهيّة، وهو بحث دقيق ممّا أختص به علم التصوف كما كان الإمام محمد عبده (1849-1905) يقول: "إذا اعتقدتَ بقصور فضل الله عنك، وقفت نفسك حيث وضعتها، ولن تسطيع إلى التقدّم سبيلاً". الأمر كله: اعتقاد وجهاد وكدح وتطور وحيوية واتصال.

ونظراً لأن سؤالك مركب فالإجابة عليه تلزمني أن أقول: إنْ أردت التي لا لوم فيها؛ فلتبحث معي عن ملكة التعلّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟

فلئن كانت الحالة الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأً على وجه القلب فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه؛ فانقطع.

الغريب في الأمر، إنّ قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى القلب؛ فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها سلفاً فاستغرقته بالكليّة، أي قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبي لديه بكليّتها؛ فحُجِب. والاشتغال بالأسباب صدأُ قلبي. بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟

أقول لك: مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربعة: جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.

وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلاّ لوقائع عينيّة مشهودة.

الحقائق الإلهية لها أداة للإدراك غير أداة العقل التحليلي المنطقي الاستدلالي، ولكنها مع ذلك تدرك، فكيف تدرك؟ تدرك بالذوق الإيماني الديني وسلامه القلوب من الدغل والتعطيل.

يتبع

***

حاوره: ا. مراد غريبي - صحيفة المثقف

2 - 11 - 2022م

 

 

2760 وطفة ومرادخاص: المثقف تستضيف المفكر والأكاديمي الدكتور علي أسعد وطفة ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل  أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التربية وعلوم الاجتماع، فأهلا وسهلا بهما:

مراد غريبي: يأتي هذا الحوار في حلقات ضمن سلسلة مرايا حوارية  حول آفاق  الفكر التجديدي وأبعاده  عبر تفكيك إشكالات ومشكلات مفاهيم كالتربية والثقافة والهوية والتنمية وأدوار المثقف في البحث عن المنهجية الدقيقة للنهوض بالوعي الحضاري لدى إنساننا العربي. وسنحاول من خلال هذا الحوار مع الأكاديمي والمهتم بالشأن التربوي والمعرفي والثقافي الحضاري الدكتور علي أسعد وطفة مناقشة العناصر الهامة للتربية والثقافة والهوية ومسؤولية المثقف كحاجة لقراءة متجددة  ومقاربة موضوعية على ضوء معطيات العلم والواقع بحسب نتاجات فعل النقد والتحرير والتنوير في إعادة فهم التجديد وتحديد مفاهيمه الأساسية ودوره، متجاوزين التفسير الواحد والرؤية الوحيدة وتوسيعا  لنطاق الوعي وتغيير النهج وتطوير التصور والخطاب والعمل بما يغني التطلع ويرفد القيمة ويرسخ القناعة بأن النهضة إرادة وعي وجد واجتهاد وإحسان وسداد..

س1: مراد غريبي: السيد الدكتور علي أسعد وطفة، كيف يقدم شخصه الكريم لقارئ صحيفة المثقف؟

ج1: د. علي أسعد وطفة: يسرني في بداية هذا الحوار أن أوجه الشكر والتقدير إلى الأستاذ الكبير المبدع ماجد الغرباوي رئيس تحرير المثقف الذي كرس نفسه على مدى عقود لخدمة الفكر والثقافة في العالم العربي عبر "المثقف" ومن خلال عطاياه الفكرية المتمثلة بأعماله الجليلة في مجال الفكر والثقافة العربية. كما أنني أتوجه بالشكر إليكم شخصيا على تكريمكم لنا بالدعوة إلى هذا الحوار الفكري حول التربية والثقافة والعلوم في عالمنا العربي المعاصر، وأرجو لهذا الحوار أن يكون مفيدا ومثمرا للقراء المهتمين بقضايا التربية العربية بهمومها وشجونها، كما أرجو أن يواكب الرسالة الثقافية لمقام سلسلتكم العليّة "مرايا حوارية ".

مما لا شك فيه أن سؤال الهوية على الرغم من البساطة التي ينطوي عليها يتميز بدرجة عالية من التعقيد والصعوبة، وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار البعد الفلسفي الذي ينطوي عليها.

وسؤالكم الكريم: كيف تقدم نفسك لقراء المثقف؟ سؤال ثقافي يتجاوز حدود التعريفات البسيطة التي تتعلق بمكان الولادة والاسم والجنسية ومكان الإقامة وحالة الزواج، لأن مثل هذه الحدود لا يمكنها أن تشكل مطلبا من مطالب الحوار الثقافي المناسب لمقام مجلتكم الثقافية العامرة. ولعمري فإن هذا السؤال يدور في فلكه الثقافي رغم طرحه الأولي البسيط، وقد ينطوي بذاته على اختبار ثقافي نأمل أن ننجح فيه. وعندما نريد تجاوز الصيغة البسيطة لسؤال الهوية والانتقال إلى صيغته الثقافية، فإن شعورا بالقلق والحيرة يتملكنا، لأنه لا يوجد هناك ما هو أصعب من أن يخضع المرء ذاته للفحص والتقويم، وهذا الأمر يتضمن مخاطرة في تقديم الذات على نحو موضوعي، لأن المشاعر الذاتية قد تشكل قوة ضاغطة تدفعنا إلى تقديم صورة مغايرة عن الذات لا نريدها لأنفسنا أو لغيرنا. ومما لا شك فيه أن سؤال الهوية هنا يضعنا في مواجهة صعبة، وذلك لأن تقديم الذات وصوغ الهوية الذاتية، أي: تلك التي يراها الإنسان متجسدة في ذاته ومتبلورة في أعماقه – أمر ينطوي على صعوبة وتعقيد كبير.

وفي هذه المواجهة مع الذات ضمن مطلب تقديم صورة الذات إلى الآخر، يجد الإنسان نفسه مطالبا بالتفكير ملياً، وكأنها المرة الأولى التي يبحث فيها في هويته الذاتية وفي قدرته على صوغها ضمن مطلب محدد يتمثل ربما فيما يريد أن يكونه في وعي الآخرين. فالهوية قد تأخذ طابع تماثل أو صيغة تمييز، وقد تجمع بينهما في آن واحد. وغالبا ما يبحث المرء عن الصيغة التي يُعرف بها ويتميز بها عن الآخر، وهنا تكمن المعضلة الكبرى في تحديد تخوم هذا التمايز وفي حضور هذا التجانس في الآن الواحد. فما يحسبه المرء تجانسا في الهوية والانتماء قد يكون عين التماثل الجامع بين كثيرين من البشر، وقد يؤدي هذ التجانس إلى تغييب حدود الهوية ويغلق منافذها. ومن أجل الخروج من هذا المأزق سأحاول أن أتجاهل حدود التمايز والتجانس كليهما، وانطلق لأقدم نفسي على نحو ثقافي واقعي شعوري ضمن حدود المشاعر والأحاسيس التي تتملكني والتي أشعر بأنني أنطوي عليها.

وهذا التعريف الذي أقصده يتمثل في الهوية الفكرية التي تشكلني وأتشكل بها، فلست مأخوذا بشعور الانتماء إلى سوريا الحبيبة في كلية الآداب بجامعة دمشق، أو حاملا لشهادة الدكتوراه من جامعة كان الفرنسية، وعائدا للعمل مدرسا ثم أستاذا في جامعة دمشق، ومن بعدها جامعة الكويت، فتلك هي مقدمة بسيطة لا تعرّف بالهوية الثقافية التي أشعر بها وتمتلك كياني. فالهوية التي أبحث عنها وأشعر بها تتجاوز هذه الحدود المكانية الزمانية الجامدة، لأن الحدود الحقيقية للإنسان بوصفه كائنا غائيا لا تكون إلا في أحضان هذا الكوكب بأبعاده الكونية. فالإنسان عندما تضعه أقداره في هذا الكون العظيم يتلقفه المجتمع ويرسم له حدود هويته ووجوده فيفرض عليه دون إرادته أن يعتنق مذاهب وأديانا وأفكارا وتصورات ويتشبع بثقافات جاهزة التكوين. وفي هذا كله تغييب للهوية الفردية التي بها يكون فردا لا جمعا أو وعيا يتفرد بذاته وينطلق إلى الحياة ليراها بمنظوره الخاص ورؤيته المفردة.

لذا يقال بأن الإنسان لحظة ولادته يفرض عليه أن يعتنق دينا وينتسب إلى مذهب ديني وأن يكتسب اسما وجنسيه وهوية مكانية، وأن عليه فيما بعد أن يدافع حتى الموت عن معتقداته ودينه وأفكاره وتصوراته واسمه، وهي أمور فرضت عليه ولم يختر أيا منها، وهنا تكمن كارثة ما نسميه التطبيع بالهوية أو التخلق القدري بمعنى أن يكون القدر نفسه هو الصانع للهوية والوجود، وهذه الهوية القدرية لا يمكن أن تكون الهوية الحقيقية التي نبحث عنها ونرنو إليها ونسعى إلى تمثلها.

فالهوية الحقيقية للإنسان تبدأ عندما يستطيع أن يخرج من هذه الدوائر المفروضة عليه؛ أي عندما يضعها موضع التساؤل ويخضعها للنقد والبحث والفحص والرفض والقبول، أي : عندما ينفتح الإنسان على صورة العالم الذي ينتمي إليه ويبحث فيه مستكشفا جماله مستلهما معانيه، وعندها نستطيع القول في هذه اللحظات بأن الإنسان قد بدأ بتشكيل هويته الذاتية على صورة جديدة تنتظم في رؤيته الفلسفية للعلاقة بين الأنا والعالم أو بين الكينونة الخاصة والوجود العام ؛ أي : عندما يستطيع المرء أن يخرج من الشرانق التي تشكل فيها والقوالب التي ارتسم في أعماقها، وهو الخروج الذي يجعله قادرا على صوغ هويته وتشكيل كينونته الوجودية في ضوء تفاعله مع العالم وذلك الكون الذي يعيش فيه. وأعني أن الهوية لا تتشكل عمليا إلا في دائرة التفاعل الإنساني الخلاق في أحضان الكون الذي ننتمي إليه.

ومن هنا أقول إن سؤال الهوية التقليدية، أي: سؤال الشرانق والنماذج لا يعنيني ولا يشكل هويتي الحقيقية التي أريد. وفي هذا المسار لا بد لي العمل على تفكيك الانتماءات القدرية بما تنطوي عليه من التصورات الانطباعية التي تركتها الثقافة الزائفة في أعماقي، ومع تحطيم هذه النماذج يراودني اليوم شعور عميق وشامل ورصين بأنني: كائن لا اسم له ينتمي إلى هذا الكون ويسعى في مناكبه بحثا عن الأمن الروحي والسلام الداخلي. وهويتي التي أريد أن أتقدم بها إلى قارئكم الكريم لا تعدو أن تكون سعيا إلى استكشاف المكان الذي يرتقي إليه شغفي في هذا الكون العظيم، فهويتي التي أريدها تكمن في هذا التفاعل الذهني المستمر مع مكونات هذا العالم الذي نعيش فيه، بكل ما ينطوي عليه من قيم وجمال ومعان وثقافات وديانات وأخلاق. وهذا التفاعل الذهني الدائم مع عناصر الكون والحياة، ما زال يشكلني ويشكل هويتي التي لاتزال قيد الصيرورة والتشكل، لأنها هوية متغيرة متحركة، لا تعرف صيغ الجمود والتصلب الثبات، وكأنني في كل يوم على حال جديدة، وهذا يمثل حالة الخروج من الدوائر المغلقة الضيقة للإحساس بالوجود والشعور بالهوية انفتاحا على العالم في خضم رؤية شمولية إنسانية خلاقة تحقيقا للبعد الإنساني في الشخصية وتأكيدا لجوهر الإنسان الحقيقي.

فالإنسان ضمن هذه الدائرة الجديدة لا يكون في جوهره أكثر من عقل وعاطفة إنسانية وغريزة بقاء أو حياة، والهوية الإنسانية لا تكون إلا بتحقيق التوازن بين عقل منفتح خلاق وبين عاطفة إنسانية جياشة مفعمة بالحب عميقة الشعور إحساسا بالكون، كذلك لا يكون إلا بغريزة متوثبة إلى الحياة فيها كثير من خصائص الجموح والجنون. والهوية الإنسانية الحقة الأصيلة لا تكون إلا في العمل على تحقيق هذا التفتح الذهني للعقل، وإزكاء هذا التوهج العاطفي الممكن بين الإنسان والطبيعة، وفي كبح جماح هذه الغرائز المتوحشة كي تبقى في حدود العقل ومشروعية العقلانية وسلام الإحساس المتوقد بوهج الجمال وتألق الضمير.

وهنا، وضمن هذا المعادلة أرى نفسي ساعيا إلى أن أكون كائنا عاقلا متوهجا بالحب الإنساني للوجود والإنسان، متأملا في معاني هذا الوجود مستوحيا عظمته وجماله، وفي كل هذا أقول إنني هكذا أرى نفسي وتلك هي هويتي: إنسان في طريق الإنجاز، وتلك هي الصورة التي أريد أن يراني فيها قارئكم الكريم.

فعقليتنا الثقافية يا سيدي قائمة على مبدأ الانشطار الوجودي.. أي: الانفصام إلى ثنائيات قبيحة الهيئة والمضمون، فكل مقولة أو فكر أو رأي أو حتى شعر أو نص أدبي يفسر في ثقافتنا أو في ثقافة المثقفين بروح أيديولوجية انشطارية شيطانية على وجه الإطلاق.. مؤمن أو كافر -- علماني أو إسلامي..أسود أو أبيض.. وعلى أساس هذا المرتكز الانشطاري يتم تفسير العالم: مع أو ضد!!! عدو أو صديق --- إذ لا وجود للحدود الوسطى.. لا وجود للتنوع والتعدد.. وتلك هي ثقافة التضاد والتنافر والانشطار.. وهذا يعني ذهنية التفكك والانحلال إذ لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار كما يقول نزار قباني.

ومن منطلق الخروج على هذه العقليات الوحشية أعرف نفسي بما يلي: ليبرالي مؤمن بالله والإنسانية.. عربي أحب ثقافة الغرب الحضارية وإنجازاته الفكرية.. مسلم أحب بوذا ومالتوس وعلي وابن سينا وعمر وابن رشد وغيلان الدمشقي.. أعشق أدب الجاهلية وشعرها.. أحب الغرب وأكره سياساته.. أحترم أعدائي وأحب أصدقائي.. أعشق ابن عربي وأموت عشقا في ماركس وغاليلو وروسو.. أحب الجمال في الأساطير الأولى والأخيرة.. مؤمن أحترم كل المقدسات والأديان.. أرفض المذاهب والمذهبيات --- أحتقر الأيديولوجيا والأيديولوجيات - أشعر بالانتماء إلى الكوكب وأغرق في حب الطبيعة.. وفي هذه التضاريس الشيء الكثير.. فلم العجب.. إذ لست ثنائيا ولا يمكن تصنيفي أبدا ضمن هذه الدوائر الانكسارية الصفراء، فأنا لا أصنف بين حدين ففي كياني طبقات كثيرة وكيانات متكسرة.. وانتماءات متنوعة.. فأنا كائن شديد التعقيد.. وألمس ذلك في نفسي.. فأنا أكون وسأكون خارج دائرة هذه الانكسارات التصنيفية البائدة.

وفي تفسير ما أريد قوله إنه يجب على الإنسان أن يكون صيرورة إنسانية تبحث عن ماهيتها في منارات العقل والعقلانية وتستكشف ذاتها في معاصم الرؤية الأخلاقية للكون المتوهجة بنبل المحبة للطبيعة والإنسان. وهذه هي الصورة التي أرى فيها نفسي وأريد أن أكون فقط كائنا مفيدا للكون لا يفسد في الطبيعة ويكون نفعه للإنسان والطبيعة أكثر من ضرره، وشوقه للمعرفة لا يمكن أن يتوقف.

س2: مراد غريبي: كل المصلحين والفلاسفة وعلماء الدين وغيرهم والمجددين يؤكدون على أهمية التربية في أي مشروع نهضوي، ماذا تعني التربية لغويا وإنسانيا وثقافيا؟

ج2: د. علي أسعد وطفة: لا أعتقد يا سيدي أننا في مقام التقديم لتعريفات عادية ساذجة للتربية وفق تشكلاتها اللغوية البسيطة. دعنا نلامس أغوار هذا التعريف بالقول: إن الإنسان صيرورة تربوية وإنه لا يكون إنسانا إلا بالتربية، فالإنسان كيان بيولوجي عقلي عاطفي متحرك دائما يتشكل في دائرة البحث عن الوجود والماهية. وهذا التعريف للتربية يماثل سؤال الهوية. فالتربية وفقا هذا التصور تسعى كي تمنح الإنسان هويته الخاصة؛ أن تحقق ماهيته وجوهره الإنساني.

نقول في تعريفنا لمفهوم التربية إن الإنسان هو الكائن الوحيد في مملكة الكائنات الحية الذي لا يمتلك برنامجا وراثيا بيولوجيا للتكيف والوجود. وهو فوق ذلك كله يكون أضعف الكائنات الحية وأقلها قدرة عند الميلاد. ويمكن القول بأنه يولد مجردا تقريبا من إمكانات الوجود والبقاء والاستمرار. فهو يستطيع بصعوبة أن يأخذ ثدي أمه عند الولادة ويكون واهيا عندما يأخذ رضعته الأولى، وهو كما نعرف جميعا لا يستطيع المشي أو الانتقال أو الكلام أو التمييز بين الأشياء. إنها حالة من الضعف المطلق الذي يعرف به الإنسان في طفولته. وما يحتاجه أبدا هو برنامج تربوي جديد يسجل له إمكانية الحركة والانطلاق والتكيف. وهذا يعني أن على التربية أن تأخذ بيده على اكتساب ما يمكن أن نطلق عليه السجل العصبي الثقافي للإنسان الذي يترامى في مناحي الحياة الاجتماعية للمجتمع. فالإنسان يحتاج أن يدرب لمدة عامين كي يكتسب القدرة على المشي ويكون قادرا على ضبط حاجاته البيولوجية، ويحتاج إلى ثلاثة أعوام ليطلق عباراته الأولى وإلى عشرين عاما اليوم كي يستطيع الاستقلال ومواصلة الحياة بناء على إمكاناته. وهو في كل مراحل حياته اللاحقة يحتاج إلى عامل التدريب والتربية والتعلم من أجل أن يكتسب هذه المهارات والقدرات التي تساعده على التكيف. وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان إلى برنامج تربوي كامل على مدى الحياة ليستطيع التكيف مع متطلبات حياته الاجتماعية.

والإنسان وفقا لهذه الصيغة صيرورة تربوية وهذا ما يؤكده الفيلسوف الألماني كانط Kant في عبارته المشهورة التي يقول فيها: "إن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية وهو ليس أكثر مما جعلته التربية: وفي هذا الاتجاه يذهب عالم النفس الفرنسي هنري بييرون Henrie Piéron مؤكدا القدرة الكلية للتربية حيث يقول: "إن الطفل مرشح لأن يكون إنسانا وهو ليس أكثر من مرشح للارتقاء إلى هذا المستوى، وهو بالتالي لا يعدو أن يكون غير وجود بالقوة لإرث النوع الإنساني، ومن ثم فإن الانتقال به من صورة القوه إلى صورة الفعل، من وجود إنساني بالقوة، إلى وجود إنساني بالفعل، أمر مرهون بالفعل التربوي. فالإنسان ليس معطى يندفع إلى الوجود بصورة نهائية، إنه كيان ينمو ويتطور في سياق تفاعلات عميقة وشاملة بين قطبي الوجود المتمثلين في الشروط البيولوجية من جهة وفي الشروط الاجتماعية من جهة أخرى. ويجد هذا القول صداه عند المفكر الفرنسي أوليفيه ربول إذ يقول "لا يولد الإنسان إنسانا: إنها نقطة تجمع عليها العلوم الإنسانية كلها، ولا شيء من جوهر الإنسان أي اللغة والفكر والمشاعر والفن والأخلاق (..) قد انتقل إلى الإنسان عن طريق الوراثة، إنها عناصر تكتسب بالتربية والتربية وحدها". وهذا يقتضي أن التربية جوهر إنساني ومن غيرها يفقد الإنسان خاصته الإنسانية.

تأخذ التربية عند المثاليين صيغة "جهد إنساني يهدف إلى هزيمة الشر وكمال العقل". كانت التربية بالنسبة لسقراط "هي صياغة النفس الإنسانية وطبعها على الحق والخير والجمال وتحقيق مجتمع أفضل "وهي بالنسبة لأفلاطون "معرفة الخير وتنمية هذه المعرفة وطبع النفس الإنسانية على الحق والخير والجمال". ويعرف أفلاطون التربية بقوله "التربية هي إعطاء الجسم والنفس كل جمال وكمال ممكن ".

ويرى أنصار النزعة الطبيعية في التربية أن التربية هي الحياة وأنها سعي مستمر لتفجير الطاقات الطبيعية الحيوية في الإنسان. والتربية هي هذه التي تؤصل في الإنسان الانطلاقات الطبيعية لوجوده وحركته. ومن هذا المنطلق يرى كانط أن الإنسان حر وخاضع للحتمية في آن واحد، فهو حر إلى الحد الذي يعد فيه روحا، وهو خاضع للحتمية إلى الحد الذي يكون فيه جسدا خاضعا للقانون الطبيعي. وهدف التربية عنده "أن تنمي عند الكائن كل ما يستطيعه من كمال "وهو كمال يفهمه كانط فهما أخلاقيا أكثر منه فيزيائيا. ويعرفها بأنها "عملية تكون وبناء للإنسان" وذلك لأنه لا يمكن للإنسان أن يصير إنسانا إلا بالتربية، إنه ما تصنع منه التربية "وإن غاية التربية هي تربية كائن يمتلك الحرية ويحافظ على كينونته الإنسانية الذاتية ".

يعرف المربي السويسري جوهان هنريك بستالوتزي التربية بأنها "النمو المتناسق لكل قوى الفرد النفسية ". فالتربية عند بستالوتزي هي عملية النمو لجميع قوى الإنسان وملكاته نموا طبيعيا. والمربي كما يعتقد بستالوتزي ليس هو الذي يغرس قوى جديدة في الإنسان أو ينفخ فيه روح الحياة، بل تكمن مهمته الأساسية في إزالة القوى الخارجية التي تقف في طريق النمو الطبيعي عند الفرد. وهذه القوى يجب أن تستمد جوهر وجودها من القوى الداخلية..

لقد أبدى دوركهايم انتقادات أصيلة لمفهوم التربية التقليدي الذي يركز على الجانب الفردي في التربية، وهو المفهوم الذي تبناه أسلافه، والذي نجده عند كانط وهيربارت  Herbart، وستيوارت ميل Stuart Mill وسبنسر Spencer. وعلى خلاف أسلافه جميعا ينظر دوركهايم إلى التربية بوصفها "شيئا اجتماعيا بالدرجة الأولى ". وانطلاقا من ذلك، يعرفها بأنها "تنشئة اجتماعية تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة ". وفي سياق آخر انطلاقا من ملاحظة الوقائع ودراسة الأنظمة وتحليل البنى المعرفية يعرف دوركهايم التربية بأنها "الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد وذلك من أجل الحياة الاجتماعية ". ويكمن هدف التربية في تنمية الجوانب الفيزيائية، والعقلية، والأخلاقية عند الأطفال وتطويرها، وذلك على النحو الذي يحدده المجتمع السياسي بوصفه كلا متكاملا، ووفقا للصورة التي يعلنها الوسط الاجتماعي الخاص الذي ينتمي إليه الأطفال. وباختصار شديد "التربية عملية تنشئة اجتماعية منهجية للجيل الجديد ".

ولكن التربية بالمعنى الحصري الدقيق تشكل منظومة العمليات والفعاليات التي توظف في تحقيق الكمال الإنساني للطفل عبر تنمية مختلف القوى والقدرات والقابليات الإنسانية الكامنة فيه إلى أعلى حدّ ممكن. وتهدف التربية كما يقول ستيوارت ميل إلى تنمية مختلف القدرات والقابليات المضمرة في الإنسان من أجل أن يحقق أعلى درجة من درجات تكامله وكماله الإنساني المتجذر في ذاته. وفي حقيقة الأمر فإن الإنسان يحقق ذاته تربويا ليس بقوة الأشخاص والمربين الذين يحيطون به بل بتأثير مختلف الظروف والأحوال والقوة التي تحيط به وتشكله إنسانيا وأخلاقيا: القوانين والأعراف والتقاليد وظروف الحياة المتنوعة. وعندما يشب الطفل عن الطوق يقوم هو ذاتيا بتربية نفسه وتطويرها نحو الأفضل الممكن على مدى الحياة، لأن الإنسان يتميز بقابليته التربوية المستمرة وينزع إلى النمو المستمر نحو الأفضل من المهد إلى اللحد.

وتأسيسا على مختلف النظريات التي استعرضنا تصوراتها حول مفهوم التربية يمكننا القول بأن التربية صيغة تفاعل خلاق بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه بين الإنسان والبيئة الطبيعية التي ينشأ فيها، والإنسان لا يكون إلا نتاجا حقيقيا لهذا التفاعل الذي ما إن يكون صحيحا حتى يبلغ الإنسان غايته في عملية النضج الحضاري والإنساني. ويمكنني القول خارج دائرة التعريفات الكلاسيكية التي أعطيت للتربية بأن التربية صيغة تفاعل وجودي بين الإنسان والكون بين الإنسان وعناصر الوجود بين الإنسان والبيئة بكل ما تنطوي عليه من عناصر فيزيائية وثقافية وإنسانية.

2760 وطفة ومراد

س3: مراد غريبي: على أي أساس تطرح أهمية التربية لمستقبل المجتمعات؟

ج3: د. علي أسعد وطفة: وكيف لا تكون التربية مهمة وهي التي تصوغ المجتمع وترسم هويته وتحافظ على وجوده وتراثه. وهل يمكن لنا أن نتصور مجتمعا لا توجد فيه أنظمة تربوية؟ دعنا نتصور ذلك ولو للحظة؟ ماذا ستكون عليه حالة هذا المجتمع؟ إذ لا يمكن للإنسان أن يكتسب هويته وثقافته إلا من خلال التربية التي يتلقاه. وهذا يعني أن التربية نسق وجودي بالنسبة للإنسان والمجتمع. وفوق ذلك كله لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض حضاريا أو ثقافيا من غير تربية فاعلة نشطة تفجر القوى الكامنة في المجتمع أدبا وفنا وفلسفة وإبداعا وابتكارا. فالتربية في مختلف دلالاتها وسيلة لاستخراج وتنمية الطاقات الكامنة في أفراد المجتمع. وتلك هي اللحظة التي ينمي فيها المجتمع قوته وإرادته وحضارته.

فالتربية قبل كل شيء معنية بتحقيق السلام والعدالة الإنسانية والتكافل المجتمعي. ومن غير التربية يتحول الإنسان إلى حالة وحشية ويحل الدمار وتندلع الفتن في المجتمع. وكما عرفنا التربية سابقا فإن الإنسان من غير التربية يفقد جوهره الإنساني الذي لا يكون إلا بالتربية ومن خلالها، عدا أن التربية هي التي تمكن الإنسان من التكيف في الحياة ومعها ومن خلالها، وهي التي تزودنا بالقدرة على إنتاج الحياة والوجود مأكلا وملبسا وتفاعلا مع البيئة والطبيعة والإنسان.

فالتريبة معنية بعملية الاستثمار في رأس المال البشري، ورأس المال البشري هو أعظم الثراء بالنسبة للمجتمعات المعاصرة. فقوة المجتمعات اليوم تقاس برأسمالها البشري الاجتماعي أو بالقدرة على الاستثمار في البشر الذين يشكلون مصدر كل الثراء والقوة والحضارة.

ويبين آدم سميث Adam Smith في مؤلفه الشهير ثروة الأمم The Wealth of Nations الذي نشر سنة 1776، أهمية التربية والتعليم كعنصر فعال وحيوي لتحقيق استقرار المجتمع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وينظر إلى التربية بوصفها استثماراً في رأس المال البشري، ويبيّن الإمكانات الهائلة للتعليم في إثراء اقتصاد الأمم وتقدمها. وتنطوي نظرية سميث هذه على فكرتين أساسيتين: تتمثل الأولى في دور التعليم وأهمّيته في تحديد مستوى دخل الفرد وإنتاجيته، وتتمثل الثانية في تأثير النظام التعليمي في النظام الاقتصادي للدولة. وفي هذا المقام تشير نتائج إحدى الدراسات إلى أن «إنتاجية العامل الأمي ترتفع بنسبة 30 % بعد عام واحد من الدراسة الابتدائية، وحوالي 320 % بعد دراسة 13 عاما، وتصل إلى 600% بعد الدراسة الجامعية".

ويبين دونيزون Denison في هذا السياق أن 23% من نسبة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية تعود إلى تأثير التعليم. ويؤكد معظم الاقتصاديين وعلماء التربية أن التعليم يسهم في النمو الاقتصادي. ويرى آدم سميث في هذا السياق أن الاستثمار في رأس المال البشري يعطي مردودا اقتصاديا يعادل عشرة أضعاف المردود الاقتصادي للاستثمار في رؤوس الأموال الجامدة. وهكذا يتضاءل دور رأس المال الطبيعي والمالي أمام الأهمية المتعاظمة لأشكال رأس المال الإنساني المتعددة، المتركزة في البشر، أفراداً ومؤسسات ومجتمعات، باعتبارها عماد التقدم الإنساني قرب نهاية القرن العشرين. ومن هنا ينبع الاهتمام الفائق بالتعليم حيث "يصنع" رأس المال الإنساني ويشّكل.

وهنا أيضا فإن التعليم والتربية يسهمان في عمليات الابتكار والإبداع، وحل المشكلات وتطوير المجتمعات والنهوض بها، وتحقيق السلام والتكامل الحيوي بين أفراد المجتمع. وهذا كله يعني في معرض الإجابة عن سؤالكم أن مستقبل الأمم يرتبط بمستويات التعليم فيها وأن المجتمعات التي تفتقر إلى التعليم الجيد هي مجتمعات لا مستقبل لها أبدا. ومن هنا تسارع الدول المعنية بالتطور إلى تطوير أنظمتها التربوية والإنفاق عليها بصورة فلكية.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن كثيرا من الدول المتقدمة لا تمتلك ثروات طبيعية أو ثراء ماديا ومع ذلك استطاعت هذه الدول أن تتوج نفسها على قمة الدول المتقدمة وذلك عن طريق الاستثمار تربويا في البشر، كما هو حال اليابان التي تفتقر كليا إلى الموارد الطبيعية ومع ذلك فقد استطاعت أن تجعل من رأس المال البشري قوة حضارية لا تضاهى.

ومن المهم في هذا السياق ألا تختزل المدرسة أو التعليم إلى بعده الاقتصادي المحض، فالتعليم يؤدي دورا ثقافيا خطيرا في حياة المجتمعات والأمم ويرسم مصيرها الحضاري في مجال الفن والأخلاق والجمال والثقافة وحقوق الإنسان. ويشكل النسق المعنوي الثقافي للتعليم والتربية المنصة الحقيقية التي ينطلق منها أي مجتمع نحو المستقبل بأبعاده الحضارية والإنسانية. وماذا نقول هنا، نقول إن قوة الأنظمة التعليمية وتماسكها تحدد الإيقاع الحضاري لتطور الشعوب والأمم والدول، إذ لا يمكن لنا أبدا أن نقع على دولة متقدمة من غير نظام تربوي متقدم.

س4: مراد غريبي: حديث "أدبيات التربية"، الذي يشمل؛ كل ما راكمه الفلاسفة، والأدباء، والمثقفون على اختلاف تخصصاتهم، عن التربية بمعناها الواسع، ورغبة في تأسيس خطاب علمي تربوي يتجاوز عموميات أدبيات التربية، شرع الباحثون في هذا المجال يتحدثون عن "علم التربية"، ثم مع تدخل عدة تخصصات علمية في مجال التربية أصبحنا نسمع عن علوم التربية" كيف عرفت دراسة الظاهرة التربوية هذا التطور؟ وماهي أهم النظريات الفاعلة في الاجتماع الإنساني المعاصر؟

ج4: د. علي أسعد وطفة: أشكرك على هذا السؤال الذي يطرح بذاته إشكالية منهجية كبرى تتعلق بالأطر المعرفية للتريبة. فتحديد موقع التربية ما بين العلم والنظرية والممارسة والعلوم الرديفة مسألة في غاية التعقيد والأهمية. وهذا السؤال يحتاج في حقيقة الأمر إلى بحث كامل مستقل وذلك نظرا للغموض الكبير الذي يشوب هذه المسألة. ومما لا شك فيه أن الارتباط يصيب الباحثين عندما يقاربون هذه المسألة المشابكة: هل التربية فن أم علم أم علوم أم نظرية أم فلسفة أم ممارسة فلسفية؟ وقد شكلت هذه القضية موضوعا متواترا تناوله المفكرون، أمثال: دوركهايم في كتابه التربية والمجتمع الذي كان لنا شرف ترجمته إلى العربية، وهربرت سبنسر في بريطانيا، وألكسندر داغيت في سويسرا، وهنري ماريون في فرنسا، وغاستون ميالاريه في فرنسا أيضا. ونؤكد على أن هذا التساؤل يدور في أذهان أغلب المفكرين التربويين المهتمين بالمسألة التربوية وبعضهم يتناولها بعمق في حين يتجاوزها كثير من المربين دون الاهتمام بأبعادها.

ولهذه المسألة برأينا بعد تاريخي يتعلق بنشأة التربية كعلم أو كفن أو كمنهجية للمؤسسات المعنية بالتربية والتعليم. فالتربية (éducation) في الأصل نشاط مستمر عبر التاريخ ففي كل المجتمعات نجد أنظمة تربوية وتعليمية تعتمد في تربية الناشئة والأجيال. ومثل هذه الأنظمة التربوية لا تعتمد الطرائق العلمية التي نعرفها اليوم منهجا في التدريس والتعليم. وغالبا ما كان التعليم في المجتمعات القديمة يتم على نحو عفوي يستجيب للخبرات التاريخية المتناقلة في هذا الميدان. لذا كان دائما يطلق على الفعالية التعليمية تسمية تربية أو تعليم. ولم يكن المعلم يحتاج إلى إعداد تربوي في تلك العصور لأن التعليم على مدى العصور القديمة كان يشكل نوعا من التعليم التلقيني – نقل المعلومات – وهذا لم يكن يحتاج إلى مهارات علمية متقدمة. ولذا كان الحديث عن علم للتريبة ممتنعا بمعنى لا ضرورة له ولا أمر يقتضيه.

وكما يرى دوركهايم فإن العلم – بسماته الحديثة – لا ينشأ إلا إذا اقتضت الحاجة حضوره وضرورته. وفي تلك العصور القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر لم يكن هناك أي حضور لما يمكن أن نسميه بعلم التربية أو علوم التربية. ولكن الحاجة إلى توليد هذا العلم أو تلك العلوم بدأت مع بداية الثورة الصناعية وانتشار التعليم ضمن أنظمة حكومية مترامية الأبعاد والأطراف.

لذا دعونا نستقرئ ولادة علم التربية تدريجيا. في البداية نقع على ما يسمى بالنظريات التربوية مثل النظرية الطبيعية التي دعا إليها كل من ابن طفيل الأندلسي وجان جاك روسو ومن بعده رواد المدرسة الطبيعية أمثال بستالوتزي وغيره من المربين، وعلى الأثر ظهرت نظريات كثيرة مثل البرغماتية والوجودية والواقعية والمثالية. وتمثل هذه النظريات توجهات فلسفية في مجال التربية والتعليم. ومن الواضح أن هذه النظريات لا تقوم على أسس علمية راسخة. وهي ليست علما بالتأكيد.

ومع بداية القرن التاسع عشر وتطور الأنظمة التعليمية واتساع التعليم وتعاظمه بدأت معالم البيداغوجيا التربوية بالظهور. والبيداغوجيا (Pédagogie) مصطلح إشكالي يشير إلى علم التربية وأحيانا نظرية التربية ومرة أخرى إلى التربية بوصفها علما وفنا في آن واحد. ولكن الأمر الثابت أن البيداغوجيا هي علم التربية وهو العلم الذي يباشر عملية النمو الانفعالي والتربوي عند الطفل ويبحث في أفضل السبل للعملية التربوية. وكما يتضح من لفظ الكلمة فإن كلمة بيداغوجيا مشتقة من كلمة "بيداغوغ " وهو العبد الذي كان يشرف على الأطفال في بلاد الإغريق القديمة.

والبيداغوجيا تعريب للكلمة الفرنسية Pédagogie وقد ترجمت إلى العربية بمعنى نظرية التربية أحيانا وعلم التربية أحيانا أخرى. ومن أجل تجاوز هذه الازدواجية تجري العادة على استخدام اللفظة الأجنبية "بيداغوجيا " وهو المفهوم الذي يحاول دوركهايم تحديده وتحديد معالم تجانسه وتمايزه مع علم التربية Science de l'éducation ومفهوم التربية Education.

وغالبا ما يتداخل مفهوما التربية Education والبيداغوجيا Pédagogie ومع ذلك فإن الفصل بينهما بدقة وعناية أمر تقتضيه الضرورة المنهجية. فالتربية Education تعني الفعل الذي يمارسه الآباء والمعلمون على الأطفال، وهو فعل يتميز بديمومته وعموميته. إذ لا توجد مرحلة ما في الحياة الاجتماعية، إذا لم نقل لحظة من لحظات الحياة اليومية، لا يتعرض فيها الأطفال لعملية الاتصال مع الراشدين ولتأثيرهم التربوي.

فالتأثير التربوي لا يحدث في إطار اللحظات القصيرة فحسب، التي يتواصل فيها الآباء والمعلمون بشكل واع مع صغارهم عن طريق التعليم، والذي ينقلون من خلاله لهؤلاء الأطفال حاصل خبراتهم الحياتية.  إذ توجد هناك تربية غير مقصودة عرضية تتميز بخاصة الديمومة والاستمرار. وهذا يعني أننا – نحن الكبار - نمثل نموذجا تربويا يتجلى في أحاديثنا وأفعالنا التي نقوم بها في إطار حياتنا الاجتماعية. وهو نموذج نؤثر من خلاله في عقول أطفالنا بشكل دائم.

فالممارسات التربوية هي شيء آخر غير البيداغوجيا التي تتجسد في إطار متكامل من النظريات والآراء والأفكار التربوية، كما تتجسد في وجهات نظر تدور حول التربية وهي شيء آخر يختلف عن الممارسة التربوية العملية. ويمكن لنا في هذا السياق تحديد مفهوم البيداغوجيا بشكل جيد عندما تتم مقابلته مع مفهوم الممارسة التربوية. فالتربية التي يعلن عنها رابليه Râblais، وهذه التي يبديها روسو Rousseau، والتي رسمها بستالوتزي هي نظريات تتعارض مع التربية الواقعية التي كانت سائدة في أيامهم. فالتربية Education موضوع يخضع لدراسة البيداغوجيا Pédagogie التي تتمثل في بعض اتجاهات التفكير الخاصة بالقضايا التربوية.

فعلم التربية Science de l'éducation يسعى إلى معرفة التربية Education، وهو لا يتداخل مع النشاط الانفعالي للمربي أو مع نظرية التربية Pédagogie الذي تقوم بتوجيه النشاط التربوي. فالتربية تشكل موضوعا لعلم التربية Science de l'éducation وهذا يعني أن علم التربية لا يسعى إلى تحقيق الغايات نفسها التي تسعى إليها التربية، بل وعلى خلاف ذلك، يقدم للتربية مختلف المعلومات والمعارف المناسبة لعملية التربية. وهنا لا يعترض دوركهايم أبدا في أن يشكل علم النفس ركيزة لعلم التربية بالمعنى الواسع للكلمة. إذ يمكن لعلم النفس، وحده، باستناده إلى البيولوجيا والطب أن يدرك لماذا يحتاج الطفل إلى التربية، وكأننا بدوركهايم يتنبأ بعلم النفس التربوي الذي سيتشكل لاحقا كعلم رديف للتربية وأصيل فيها.

لقد حدد دوركهايم علم التربية Science de l'éducation على نحو بالغ الوضوح، بأنه علم اجتماعي. إن ما يعنيه دوركهايم بالبيداغوجيا ليس نشاطا تربويا أو علما تأمليا بل ما يعنيه بالبيداغوجيا هو تأثير الجانب الثاني التأمل في الجانب الأول النشاط، وهذا يعني أن المهمة الأساسية للتأمل الفكري تكون في عملية البحث، التي تجري في إطار معطيات علم النفس وعلم الاجتماع، عن المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني. وتأسيسا على ذلك نقول إنه عندما تكون لدينا، في واقع الأمر، معرفة جيدة بطبيعة الأشياء فإن فرص استخدامها بشكل فعال تكون أكبر على المستوى العلمي. وعندما يقوم المربي بمعالجة اهتمام الأطفال فإنه سيكون أكثر قدرة على التحكم، إذا كان يعرف بدقة طبيعة الطفل. وهذا يعني أيضا أن علم النفس يشتمل على إجراءات تطبيقية، وأن علم التربية يقوم بتشكيل القواعد والمبادئ الأساسية للعمل التربوي وتهيئتها.

ولكن علم التربية لم يكن قد تشكل فعليا في زمن دوركهايم وما زال حتى اليوم في صيغة مشروع يمكن تحقيقه. وهذا يعني أنه يمكن لفروع علم الاجتماع أن تأخذ على عاتقها مساعدة "البيداغوجيا" على تحديد هدفها وتوجيه مناهجها. ويمكن أيضا لعلم النفس أن يؤدي دورا بالغ الأهمية في تحديد تفاصيل العملية التربوية وتوجيه مساراتها. ويبدو لنا هنا أن البيداغوجيا أصبحت لاحقا وثيقة الصلة بعلم النفس ولاسيما بعلم النفس التربوي، وقد شكل الاتحاد بينهما أشبه ما يكون بعلم التربية الحديث الذي لم يكتمل بعد.

وقد أشار دوركهايم إلى هذه القضية بوضوح في القاموس التربوي لفرديناند بويسون إذ يقول بأن البيداغوجيا أصبحت علمًا للتعليم ولكن ما زال علما لم يكتمل بعد ويتعين بناؤه بالكامل كي يصبح "العلم الذي يجعل من الممكن معرفة ما يجب أن يكون التعليم وذلك لمعرفة طبيعة التعليم وتحديد الشروط التي يجب أن يعتمد عليها ورسم القوانين التربوية التي يتوجب أن يهتدي بها".

وكأن دوركهايم كان يتنبأ بالحديث عن علم أصول التدريس الذي نشأ واضحا بالاعتماد على معطيات علم النفس واستكشاف القوانين الفضل لعملية نقل المعلومات وتعليميها للطلبة. ومن هذا المنطلق يمكن تسمية علم أصول التدريس بعلم التربية ببساطة لأنه يحدد المعايير وأفضل السبل في توجيه العملية التعليمية. وهذا هو الأمر الذي أشار إليه هنري ماريون (1883)، خلال محاضرته الافتتاحية في جامعة السوربون في ندوة مخصصة لعلم أصول التدريس إذ يقول "هناك علم حيثما يوجد نظام مترابط ومتكامل من الحقائق والافتراضات الواقعية ووجود نسق متكامل من المفاهيم والتفسيرات الصحيحة التي يستند فيه إلى العقل والتجربة وتؤدي إلى نتائج إيجابية أثناء الممارسة والتطبيق "، وهذه هي الأصول التي يقوم عليها علم أصول التدريس أو ما يمكن تسميته بمناهج التدريس.

وعلينا الآن أن نأخذ بتطور التربية الحديث الذي ارتبط بتطور المناهج والطرائق والأصول، وضمن هذا السياق تآلفت مجموعة من العلوم التربوية التي تضافرت في مجال تأصيل العمل التربوي. في زمن دوركهايم كانت البيداغوجيا التي تطورت إلى علم التربية ممثلة في أصول التدريس، أما اليوم فيمكننا الحديث عن مجموعة متآزرة من العلوم التربوية – هذه المرة بصيغة الجمع – Sciences de l'éducation.

ووفقا لـجاستون ميالاريه تتكون علوم التربية من جميع التخصصات الأساسية التي نعرفها اليوم مثل: علم الاجتماع التربوي، وتاريخ التربية، واقتصاديات التعليم، وعلم النفس التربوي، والاثنولوجيا التربوية، والتربية المقارنة، وأصول التدريس، ومناهج البحث التربوي، وعلم الاجتماع المدرسي، والإدارة التربوية، وغيرها من العلوم التربوية. ويلاحظ في هذا السياق أن التربية تقوم على نسق من العلوم التربوية البينية المساندة التي أصبحت ضرورية وحاسمة في تطوير العملية التربوية. ويلاحظ في هذا السياق أن التربية ليست علما بالمعنى الدقيق للكلمة بل هي نشاط ضخم يعتمد على مجموعة من الأنساق العلمية المختلفة.

وبالعودة إلى زمن دوركهايم (نهاية القرن التاسع عشر)، كان الحديث يجري عن علم التربية " بيداغوجيا " الذي ارتبط بعلم النفس وهو العلم الوحيد الذي تم تأسيسه علميًا، ليكون قادرًا على تسليط الضوء على التعليم، من حيث نظريته وكذلك نظرية ممارسته. ولكن مع تطور العلوم الإنسانية وبعد فترات طويلة من التجارب المهمة والتطورات اللاحقة في الحقل التربوي تبين أنه يمكن التأسيس على عدد آخر من العلوم الإنسانية البينية كالتي أشرنا إليها آنفا.

وأخيرا وليس آخرا، تبين الممارسة التربوية لنا في كليات التربية أننا لا نقع أبدا على علم للتربية بل على عدة علوم وهي التي أشرنا إليها، وهذا الأمر يدل على أنه لا وجود لعلم التربية بالمفرد وأن التربية نسق معرفي يعتمد على عدة حقول متآزرة متكاملة في إضفاء الطابع العلمي على التربية بوصفها نشاطا وممارسة إنسانية.

س5: مراد غريبي: ماذا عن فلسفة التربية هل تندرج كنمط معرفي حديث ضمن علوم التربية أم أنها تظل مبحثا تأمليا تهتم بطرح الأسئلة الجوهرية والمقاصدية إن صح التعبير؟

ج5: د. علي أسعد وطفة: مما لا شك فيه أن الفلسفة تندرج ضمن الأنساق المعرفية للتربية ولا يمكن للتربية أن تنفصل عن الفلسفة إذ هي المعنية بتحديد التوجهات الغائية للحركة التربوية في مختلف نشاطاتها وفعالياتها. والفلسفة ليست ضرورية للتربية فحسب بل هي ضرورية لمختلف العلوم. ولهذا نمت في كل فرع علمي فلسفة رديفة تسانده وتوجه خطاه، مثل فلسفة العلوم وفلسفة التاريخ وفلسفة التربية وفلسفة القانون وفلسفة اللاهوت.. الخ. وإذا كانت الفلسفة ضرورية في كل علم فإنها تأخذ صيغة الضرورة القصوى في كل نسق تربوي. فالتربية نسق معرفي غائي، وهذه الغائية لا تتحقق إلا بشروط فلسفية محضة ولهذا كانت فلسفة التربية وثيقة الصلة بالتربية وعلومها، إذ تشكل منصة أساسية تعتمدها التربية في مختلف توجهاتها العملية. وقد تجلت الفلسفات التربوية في نظريات تربوية مهمة جدا مثل النزعة الطبيعية في التربية والبرغماتية والوجودية والمثالية والمادية وغير ذلك من النظريات التربوي التي تحمل طابعا فلسفيا في ثناياها وطواياها.

وإذا كانت كل فلسفة هي تعبيرا عن عصرها، فإن الفلسفة التربوية تفرض حضورها في أي فعالية تربوية. ومن هذا المنطلق كان ديوي يؤمن بدور الفلسفة في التعبير عن الواقع وفي تغييره. فالفلسفة يجب ألا تقف عند حدود تفسير العالم بل يجب أن تعمل على تغييره كما يرى ماركس. ومن ثم فإن كل فلسفة لا تؤدي إلى التغيير والفعل والتأثير هي فلسفة فارغة تفقد معناها وغايتها ودلالتها. ومن هذا المنطلق أراد ديوي لفلسفته أن تكون فاعلة ومؤثرة في الواقع، ومحركة للطموحات الإنسانية، وفاعلة في الثقافة وفي مجمل النشاطات الإنسانية الحيوية في عصره. ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى تأكيد ديوي على الدور التربوي للفلسفة، لأن الفلسفة هي منطلق التغيير والمواجهة والتحدي فخليق بها إذا أن تنحني لمعالجة القضايا التربوية التي تحتل مكان الصدارة في فلسفة ديوي، حيث كان يطابق بين الفلسفة والتربية، إذ يرى أن الفلسفة هي النظرية العامة للتربية، ومن ثم يجب على هذه الفلسفة التربوية الجديدة أن تكون مؤثرة فاعلة عملية ونشيطة في بناء نظام تربوي يستجيب لطموحات الأمة وغاياتها المجتمعية الكبرى.

وفي هذا السياق يعارض ديوي المفهوم الكلاسيكي القديم للفلسفة الذي يرى أن الفلسفة هي حب الحكمة والبحث عنها. فهذا التصور القديم للفلسفة ليس واردا في تصور ديوي؛ لأن الفلسفة أخذت اتجاها آخر في فلسفته يتمثل في معادلة الحياة التي تتمثل في " التطبيق البصير لما نعرفه في السلوك وأمور الحياة"، ومن ثم فإن الفلسفة الجديدة التي شيدها ديوي تبحث في الغايات والقيم والاتجاهات التي توجه النشاط الإنساني بمختلف تجلياته الاجتماعية. لقد بيّن ديوي وأكد في هذا الاتجاه أن الفلسفة الحقيقية هي التي تتصل بالحياة وتعمل على تنظيمها وتوجيهها، وهي في هذه الصورة ليست شيئا آخر سوى التربية كما يؤكد في مختلف مقولاته. أما الفلسفة التي تنفصل عن الحياة فإنها تفقد معناها وتصبح فلسفة لفظية فارغة جوفاء لا معنى لها، ولاسيما تلك التي تأخذ من القضايا الميتافيزيقية موضعا مركزيا لها. فالتربية في منظور ديوي هي الفلسفة، والفلسفة هي النظرية العامة للتربية، والتفلسف يجب عليه أن يدور حول التربية بوصفها أكثر الاهتمامات الإنسانية ارتباطا بالفلسفة ذاتها. ومن هذا المنطلق نقول: بأن العلاقة بين الفلسفة والتربية علاقة كينونة ووجود. وإذا كانت التربية في حقيقة الأمر سعيا إلى تكوين ميول عقلية ووجدانية نحو الطبيعية والإنسان نفسه، فإن الفلسفة ستكون بالضرورة هي النظرية العامة في التربية كما يرى ديوي.

وأخيرا نقول إن الفلسفة ليست علما وكذلك هو حال الفلسفة التربوية، ومع ذلك فإن التربية لا تستقيم أبدا من غير الارتكاز على قاعدة متينة من التصورات الفلسفية العميقة التي توجه مسارها وحركتها نحو الغايات الإنسانية التي يحدده التطور الإنسانية في كل مرحلة وعصر.

س6: مراد غريبي: هل يمكن أن تحدثنا عن واقع علوم التربية عربيا وهل سبق للحضارة الإسلامية أن عرفت هذا المجال العلمي؟

ج6: د. علي أسعد وطفة: لقد أشرنا فيما سبق إلى أن علوم التربية حديثة العهد وقد نشأت وتطورت في بدايات القرن العشرين. ولكن عندما نأخذ التربية كسياق حضاري نجد أن الحضارة الإسلامية قدمت نماذج فكرية فلسفية مهمة في تاريخ الحضارة والتربية. ونحن نعرف جميعا أن العقيدة الإسلامية تتدفق بالمعطيات التربوية الفلسفية التي تأخذ طابعا أخلاقيا متميزا. وقد تضمن القرآن الكريم إشارات وتنبيهات تربوية ألمعية في توجهاتها، وجاءت السيرة النبوية الكريمة مفعمة بمختلف التوجهات التربوية الإسلامية. ومن ثم شهدنا تطورا كبيرا في الفكر التربوي الإسلامي على يد مفكرين جهابذة مثل الغزالي صاحب كتاب "أيها الولد"، وابن طفيل الأندلسي في قصته المشهورة "حي بن يقظان" التي وصفت بأنها قصة في فلسفة وفلسفة في قصة تربوية.

بنظرنا يعد ابن طفيل الأندلسي مؤسس النظرية الطبيعية بلا منازع وهو سابق على جان جاك روسو في هذا التأسيس. وقد شهدت الحضارة الإسلامية أيضا منابت نظريات تربوية جمة ومفكرين ألمعيين في هذا الميدان أمثال ابن باجة وابن سحنون وابن خلدون والغزالي والشافعي وابن طفيل والغزالي والقابسي وابن الحارث المحاسبي وابن القيم وغيرهم كثير. وقد أشار عبد الأمير شمس الدين في موسوعته التربوية إلى أهم المربين في الفكر الإسلامي ومنهم من أشرنا أليه آنفا مثل: ابن سحنون والقابسي والزرجوني والغزالي وابن جماعة والعاملي، وأشار إلى الفلاسفة المربين ومنهم الكندي وابن سينا وابن طفيل، وقطاع الكتاب والأدب يمثلهم الجاحظ وابن المقفع، وقطاع الصوفية يمثلهم الكلاباذي والسراج والطوسي وأبو نعيم الأصفهاني وأبو طالب المكي..

(يتبع)

 

حاوره: مراد غريبي

خاص بالمثقف

30 - 8 - 2021م

 

 

karima nooresawiibrahimborshashnفي إطار الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، وتزامنا مع ليلة الفلاسفة التي دأب المعهد الفرنسي منذ سنوات على تنظيمها، واحتفاء بالفلسفة التي تُعتبر أم العلوم كان لنا لقاء علمي مع الدكتور إبراهيم بورشاشن الباحث الأكاديمي الرصين والشاعر المتميز.

د. كريمة نور عيساوي: في مستهل هذا الحوار سنكون سعداء أن نستمع إليك وأنت تنقلنا إلى أولى خطواتك في فضاء الفلسفة الرحب؟

د. إبراهيم بورشاشن: شكرا للأستاذة المحترمة الدكتورة كريمة نور عيساوي على هذه الالتفاتة الطيبة، وعلى هذه الفرصة التي تتيحينها لي لتعريف الجمهور المثقف في بلادنا العربية والإسلامية، وربما في بلاد أخرى، على همومي الفلسفية والشعرية وعلى هذه المساهمات المتواضعة التي قدمتها لحد الآن، والتي لا أخفيك سيدتي أنها دون ما كنت أطمح إليه لولا ظروف وأسباب قد نأتي على ذكر بعض منها إذا سمحت بذلك.

أستاذة كريمة أذكر أن علاقتي بالفلسفة بدأت في قسم الباكالوريا حيث تعاقب علينا في تلك السنة ما بين سنتي 1975و 1976 أكثر من أستاذ نتيجة للظروف الصحية التي كانت تعاني منها أستاذتنا الرسمية، ولعله من حظي أن أتى للتعويض أستاذ كفء، كان في ذلك الوقت مجازا في علم النفس، وسيصبح فيما بعد أستاذا بالجامعة وهو الدكتور عنيمي الحاج. ولعل طريقة تدريسه وتفاعله الوجداني مع المادة حببت إلينا الفلسفة، أو بالنسبة إلي على الأقل، لأني أذكر أني كنت الوحيد في قسمي الذي اختار التسجيل بعد ذلك في شعبة الفلسفة في الجامعة، إذ أن كثيرا من أصدقائي المتميزين اختاروا شعبة الحقوق، وأصبحوا فيما بعد محامين وقضاة. أو اختاروا الشعبة الأدبية، والتحقوا من بعد بالجامعة للتدريس، لكن انفعالي القوي بمادة الفلسفة بلغ إلى درجة أني أذكر أنه في تلك السنة قرأت أول كتاب فلسفي، وهو جمهورية أفلاطون، وشعرت بفارق كبير في شخصيتي النقدية قبل قراءتها وبعد قرائتها، فكانت الدفعة القوية لي للتسجيل في شعبة الفلسفة في السنة الموالية. والحمد لله أني لم أجد أي اعتراض من أسرتي، ولم يكن أبي رحمه لله يتدخل في اختياراتنا العلمية وإن كان قبل ذلك حريصا على أن يكون الكتاب أفضل صاحب لنا، وقد بذل لذلك مجهودات كبرى أفلحت في الأخير، بأن أصبحت عاشقا للكتاب. وقد قرأت كثيرا من كتب الأدب.

د. كريمة نور عيساوي: ألا ترى معي بأنك ظللت في عمقك أديبا، وأن شعلة الإبداع ظلت متقدة بداخلك، على الرغم من اشتغالك بالفلسفة؟

د. إبراهيم بورشاشن: إذا كان الشباب في جيلي يعشق المتعة فقد كنت عاشقا للكتاب، قرأت كثيرا لطه حسين وعباس محمود العقاد و إبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وأعمال نجيب محفوظ وقبله كتب محمد مندور ثم ميخائيل نعيمة وحفظت كثيرا من الشعر العربي القديم. كما أن الوالد رحمه الله كان حريصا علينا أن نحفظ كثيرا من القرآن الكريم... وقد كان كل ذلك يقودني إلى التخصص في الأدب لولا صدفة الباكالوريا، إذا صح القول. لذا لم أفاجأ كثيرا وأنا أدلف إلى الخمسين من عمري عندما أصابتني من جديد لعنة الأدب، إذا صح اعتبارها كذلك، فتوقفت لفترة عن الاشتغال الفلسفي، وكتبت في قصيدة النثر مجموعة من القصائد جمعتها من بعد في ثلاثة دوواين لحد الآن.

د. كريمة نور عيساوي: لنعد قليلا إلى الوراء، وتحديدا إلى فترة دراستك للفلسفة في الجامعة المغربية، هل بإمكانك أن تُقربنا من عوالمها كما عشتها آنذاك؟

د. إبراهيم بورشاشن: كان نظام تدريس الفلسفة يجمع بين الراغبين في الفلسفة وفي علم النفس وفي علم الاجتماع في سنتين مشتركتين ثم يتم التخصص في السنة الثالثة، وقد اخترت شعبة الفلسفة العامة التي كانت تدرس القول الفلسفي الخالص مع ثلة من الزملاء، وبعد حصولي على الإجازة، تابعت الدراسة في السلك الثالث لتحضير شهادة الدراسات المعمقة. وهو الأمر الذي أهلني لتسجيل في دبلوم الدراسات العليا، وإعداد بحث عن ابن طفيل، ثم بعد ذلك هيأت أطروحة للدّكتوراه عن ابن رشد. وقد درسنا على أيدي أساتذة كبار من المشرق ومن المغرب، فأذكر من المشرق على سبيل المثال الأستاذة فوقية محمود التي كانت تدرسنا الأخلاق، والأستاذ الحبيب الشاروني الذي درسنا ديكارت، ووليم جيمس بأوهامه، إلى جانب ميخائيل سعد الذي درسنا علم النفس المرضي، والأستاذ فؤاد كامل الذي كان يدرسنا فلسفة اللغة. ولا أنسى الباحث الكبير الدكتور حسن حنفي الذي درسنا في السلك الثالث علم الكلام. أما من المغرب فقد تلقينا هذا العلم من باحثين شباب

كانوا قد بدأوا مسارهم العلمي في الكلية بكثير من الجدية والمثابرة والعشق لتخصصاتهم، أمثال محمد وقيدي، وأحمد العلمي، ومحمد المصباحي، ومحمد سبيلا، وسعيد بنسعيد العلوي، و عبد الصمد الديالمي، و محمد ألوزاد، والأستاذ جمال الدين العلوي الذي فتح مسارا جديدا في الفلسفة، وكان له تأثير كبير على طلبته.

د. كريمة نور عيساوي: أستاذ بورشاشن أنتم تذكرون دائما المرحوم جمال الدين العلوي، وقد أهديتموه كتابكم الموسوم بــ"مع ابن طفيل في تجربته الفلسفيةّ، كما كتبتم عنه قصيدة في ديوانكم الأخير الذي اخترتم له عنوان "كنت نائما فانتبهت". هل يمكن أن تخبر عن سر هذه العلاقة؟

د. إبراهيم بورشاشن: يجب الاعتراف بأنك بهذا السؤال تحركين في قلبي أشجانا للرحيل المبكر لهذا الرجل، الذي لو قدر له أن يعمّر قليلا لكان للفلسفة شأن وأي شأن في بلدنا المغرب، بل وفي العالم العربي والإسلامي بأكمله. لقد اختطفت المنية الأستاذ جمال الدين العلوي، وهو لم يتجاوز بعدُ عقده الرابع، وكان عطاءه العلمي يسير في اتجاه تأسيس القول الفلسفي العربي الإسلامي، وذلك من خلال تقنية دراسة النصوص، يمكن القول إن المرحوم أسس للمدرسة الفاسية التي ستشتهر بالاهتمام الفيلولوجي، وهو الذي كان وراء تأسيس"مركز الدراسات الرشيدية" الذي تعاقب على رئاسته بعد المرحوم كل من الأساتذة محمد ألوزاد، وأحمد العلمي، وعز العرب لحكيم بناني، وقد أنتج المركز دراسات علمية مهمة بفضلها تم تحقيق عدة نصوص لابن باجة. كما ساهم المركز في تكوين باحثين أكفاء. لقد كان المرحوم، يضع بين أيدينا نصوص الفلاسفة المسلمين، ويحثُنا على معايشتها مباشرة دون الرجوع إلى أي مصدر آخر حتى نتعلم الإنصات إلى النصوص، وقراءة لغتها الفلسفية على الرغم من صعوبتها بالنسبة إلينا. مكنتنا هذه العلاقة بالنصوص الفلسفية من تنمية ملكاتنا الفلسفية والنقدية، وسمحت لنا أكثر من ذلك بتقديم قراءات ذاتية لبعض الإشكالات الفلسفية.

د. كريمة نور عيساوي: طيب، أستاذ بورشاشن، طالما أننا نؤرخ لمسارك الفلسفي. هلا حدثتنا عن عملك الأول حول ابن طفيل.

د. إيراهيم بورشاشن: ترجع علاقتي بابن طفيل إلى سنة الإجازة حيث أنجزت بحثا حول "فشل الفيلسوف" عند ابن طفيل، ثم بعد نيل شهادة استكمال الدروس، أكملت المسار الجامعي، وسجلت بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا حول "التجربة الفلسفية لابن طفيل"، وقد كان علي قبل أن أقرأ نص ابن طفيل الفلسفي الوحيد "قصة حي بن يقظان" أن أعمل أولا على تحقيقه، وفعلا حصلت على أربعة مخطوطات، وأنجزت نصا محققا تحقيقا أوليا، قبل أن أغوص في النص وأقدم قراءتي المقترحة.

د. كريمة نور عيساوي: لكن في نظرك ما علاقة التحقيق بموضوعك الفلسفي؟

د. إبراهيم بورشاشن: أنت تعلمين سيدتي أن كثيرا من النصوص الفلسفية المنشورة تعاني من كثير من الأخطاء، فضلا عن الهنات التي تلحقها من قبل نساخها، والتي لم يؤد الناشر دوره في تصحيحها. بل قد لا نستغرب من وجود نصوص سقطت منها فقرات كاملة مثلما هو حال القصة التي اتخذتها موضوعا لدراستي، فنشرة أحمد أمين تعاني من سقوط فقرة مهمة فيها، كما أن نشرات حي بن يقظان مليئة بالأخطاء، وهو ما عاينته في مقالة لي عن نشرات الرسالة، فكان لزاما علي أن أرجع إلى المخطوطات حتى لا أقع في خطأ يتعلق بقراءة كلمة أو فقرة فأخرج في التأويل عن المطلوب، وفعلا كان عمل تحقيق النص مفيدا لي، لأني عايشت النص عن كثب، واستطعت أن أقف من خلال ذلك عند بعض اللحظات المهمة في النص، كما استطعت أن أضبط تمفصلاته الكبرى، وقد ساعدني طول صحبتي مع النص أن أقدم دراسة من ثلاث محطات كبرى؛ فكانت محطة سياسية ـ ثقافية عالجت فيها علاقة ابن طفيل بزمانين؛ الزمن المرابطي، والزمن الموحدي. مع الوقوف عند بعض عوائق التفلسف في المجتمع الإسلامي، ومحطة وقفت فيها عند الأصول التي متح منها ابن طفيل نسقه الفلسفي، وبخاصة الرافد الباجي والسينوي والغزالي، وقد حاولت في دراسة حديثة وسمتها ب"ابن طفيل ومنتحلو الفلسفة في عصره" أن أقدم فرضيات حول مصادر أخرى للتجربة الفلسفية لابن طفيل، وفي المحطة الثالثة عالجت مسالة "التقريب الفلسفي" حيث تبينت من خلالها الطريقة التي انتهجها ابن طفيل لإيجاد وشائج القربي بين القول الفلسفي والقول الشرعي، وهو ما يبرز رغبة المسلمين في جعل المعرفة معرفة كونية، وهذه في اعتقادي من أهم الإسهامات التي قدمها المسلمون بين يدي الفكر الفلسفي

د. كريمة نور عيساوي: كيف ذلك؟ هل نطمع في مزيد من التوضيح؟

د. إبراهيم بورشاشن: طبعا، هذا الجهد الذي قام به الفلاسفة والمسلمون لبيان أن الحكمة الإغريقية كما وصلتهم لا تباين الحكمة الشرعية، كما نجد ذلك عند الكندي، وقد بينت ذلك في دراسة لي عن "الوحي والفلسفة عند الكندي"، وكما نجد عند ابن طفيل، وعند ابن رشد، هي درس في كونية الحقيقة لم يقم به سوى المسلمون كما انتبه إلى ذلك فتحي مسكيني، ففي الوقت الذي كان الإغريق يرى أن لا معرفة إلا معرفته وجد المسلمون في حكمة الإغريق ما يمكنه أن يتوافق ومعرفتهم وبالتالي لم يجدوا حرجا في التعامل مع هذه الحكمة سواء في آليتها المنطقية، التي لم يسلم حتى الفقهاء من تأثيراتها الكبرى عليهم، أو الطبيعية أو الميتافيزيقة، وإن كانوا أدخلوا عليها من إبداعاتهم وإنشاءاتهم ما يقربها من خصوصيتهم الثقافية أكثر، كما نجد في مفهوم "الحدوث المستمر" عند ابن رشد، أو مفهوم "الفيض" مثلا عند الفارابي. لكن ظلوا يرون الحقيقة عامة غير خاصة ولا حرج عندهم من اقتباسها من غيرهم سواء كانوا إغريقا أو هنودا أو فرس أو رومان أيضا. وانظري إذا شئت إلى تأويلات ابن رشد للقرآن الكريم سواء في كتابه "فصل المقال" أو في كتاب "تهافت التهافت"، سترين كيف كان الرجل مسكونا بالوحي وبهاجس الحكمة عند القدماء أيضا. وقد بينت ذلك في دراسة لي عن "الوحي والفلسفة عند ابن رشد"،

د. كريمة نور عيساوي: قل لي من فضلك أستاذ بورشاشن كتابك الأول عن ابن طفيل كان في الأصل رسالة جامعية قمت بنشرها. ما هي القيمة المضافة لكتابك الثاني الذي عنونته بـــــــ "هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل؟"ّ.

د. إبراهيم بورشاشن: الكتاب الثاني هو تطوير لبعض قضايا الكتاب الأول، ومقالات أخرى تفتح المجال في البحث في رسالة حي بن يقظان سواء على مستوى هذا الاحتفاء العالمي بقصة حي بن يقظان، والبحث عن دلالاته، انطلاقا من نشرة الناربوني العبرية مرورا بنشرة بوكوك اللاتينية إلى غيرها من النشرات المترجمة إلى كثير من اللغات الأوروبية، أو على مستوى الأبحاث المعاصرة في "تاريخ النص"، أو مستوى استنطاق النص من خلال هذه الإشكالات التي يحبل بها، من مثل إشكال علاقة ابن طفيل ممن أسماهم "منتحلو الفلسفة" أو ممن شغلوا بالمضنون به على غير أهله وكانوا سبب كتابة النص أو على الأقل من دواعي الكتابة، أو على مستوى تحقيق النص نفسه، هذا النص الذي أعتقد أن نشرة علمية جديدة له يمكن أن تقدم للباحثين ورشة فلسفية مفتوحة للعمل العلمي. أو على مستوى علاقة العلم بالفلسفة في نص ابن طفيل. وأعتقد أنه يمكن لمساهمتي المتواضعة بشأن ابن طفيل أن تقدم ورشا علميا مفتوحا في قصة حي بن يقظان، وفي متن ابن طفيل الأدبي أيضا.

د. كريمة نور عيساوي: ماذا تقصد بالمتن الأدبي؟ وما علاقته بفلسفة ابن طفيل؟

د. إبراهيم بورشاشن: تعلمين سيدتي أن شعراءنا كلهم تقريبا اهتموا بالفلسفة والأدب معا، وبعضهم كان شاعرا مجيدا مثل ابن سينا وابن باجة وابن طفيل، وقد عبر فلاسفتنا عن هموم فلسفية بقول شعري جميل كما نلمس ذلك في عينية ابن سينا الشهيرة التي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع *** ورقاء ذات تعزز وتمنع

بل إن فلاسفتنا توسلوا بالأسلوب القصصي في عرض قضايا فلسفية عميقة كما صنع ابن سينا في أقصوصته"حي بن يقظان" والتي دبجها بأسلوب رمزي مكثف حتى كادت أن تستعصي على الفهم، وقد اقتدى ابن طفيل بالشيخ الرئيس، وألف قصته"حي بن يقظان" لكن في أفق مغاير من حيث الأسلوب والمضمون. فحظيت بإقبال كبير لم تحظ به قصة ابن سينا. وأعتقد أن فهم الشخصية الأدبية مدخل أساس لفهم شخصيته الفلسفية لأن الشكل لا ينفصل عن المضمون، فلا شك أن الشكل الأدبي شكّل بل وطوّع المعاني الفلسفية التي فصل فيها القول ابن طفيل بأسلوب سردي في قصته الفلسفية. دون أن نغفل عن الذكر أن ابن طفيل توسّل بالقول الشعري في التعبير عن شخصيته طبيا فكتب أرجوزته الطبية الضخمة التي نأمل أن تُكتشف نسخة أخرى منها للاستفادة منها. لذا يمكني القول باطمئنان : إن الأدب مدخل إلى فهم الفلسفة عند ابن طفيل على الأقل.

د. كريمة نور عيساوي: الآن أدركنا سبب اهتمامكم بابن طفيل. فما قصّتكم أستاذ بورشاشن مع ابن رشد؟ وهل كانت نقلتكم من ابن طفيل إلى ابن رشد طبيعية أم شابها بعض التكلّف؟

د إبراهيم بورشاشن: ابن طفيل وابن رشد سيدتي، قصة صحبة. فابن رشد يسمي ابن طفيل صاحبه، ويذكره في كتاب "تلخيص الآثار العلوية" كما أن بينهما مراجعات في الطب ذكرها ابن أبي أصيبعة، وكما هو معروف فإن الذي قدم ابن رشد إلى الخليفة يوسف بن عبد المؤمن هو ابن طفيل، وتم تكليفه رسميا بالاشتغال على المتن الأرسطي شرحا وتنقيحا. إنها قصة جديرة بأن تكتب كتابة علمية رصينة عندما تكتشف هذه النصوص التي جمعت بين الصاحبين. وقد حاولنا فيما كتبناه أن نلمس ذلك لمسا خفيفا إلى درجة أننا افترضنا فرضيات بعيدة عندما طرحنا السؤال :"ماذا لو قرأ ابن رشد قصة ابن طفيل، أي موقف كان سيكون له منها؟" وقدمنا جملة فرضيات للإجابة، قد تقترب أو تبتعد عن المألوف، لكن نتمنى أن نكون فتحنا بابا من القول، ونرجو أن تتاح فرص علمية أنسب وأكمل لتفصيل القول أكثر.

د. كريمة نور عيساوي: إذن يمكن القول ونحن مطمئنون بأن نقلتك من ابن طفيل إلى ابن رشد كانت نقلة طبيعية؟

د. إبراهيم بورشاشن: أعتقد ذلك، وإن كان الإشكال الذي أرّقني مع ابن رشد مختلف، مع ابن طفيل كان الهم فيلولوجيا، وسوسيوـ ثقافي، لقد كان همّي ينحصر في وضع ابن طفيل في إطاره الحضاري، ووضع قصته في مكانها في تاريخ الفلسفة الإسلامية على الخصوص. أما مع ابن رشد فقد كان هاجسي يتمثل في البحث عن وحدة مفترضة بين متنه الفقهي ومتنه الفلسفي خاصة أن البعض شكك في شخصيته الفقهية وبعضهم أنكر عليه كتابا فقهيا كبيرا مثل "بداية المجتهد وكفاية المقتصد"، فكان هاجسي هو البحث في شخصية ابن رشد الفقهية والفلسفية لردم هذه الهوة التي وجدتها فيما بعد أنها هوة زائفة؛ ومن هنا كانت فرضيتي الأولى عن الأصول الفقهية لفعل التفلسف عند ابن رشد؛ فبحثت عن تولد العقلية النقدية عند ابن رشد من التراث الفقهي الذي كرع منه وبخاصة تراث جده، وافترضت أن هذه العقلية النقدية، والتي تتجلى بشكل كبير في كتابه في الفقه العالي مدخل أساس لتبلور شخصيته الفلسفية، فكان تراث ابن رشد الجد مع تراث أبي حامد الغزالي جسرين عبر منهما ابن رشد إلى الفلسفة بشكل طبيعي وآمن؛ فقد كان دور الغزالي حاسما في النّقلة الفلسفية عند ابن رشد كما حاولت بيان ذلك مستثمرا أطروحة كان جمال الدين العلوي رحمه الله قد بثها في العدد الثامن من مجلة كلية الآداب بفاس، وهي أطروحة أعادت تشكيل العلاقة بين الشارح الأكبر وحجة الإسلام. كما دفعت بفرضية أخرى تزعم أن الحياة الفلسفية لابن رشد تنطوي تحت جبته الفقهية وإن كان يرى أن الفيلسوف أفضل من الفقيه، بل هو في نظره أكمل الناس. وبالإضافة إلى ذلك افترضت أن مفهوم "الجمع" الذي يستخدمه الفقهاء من أجل لمّ شتات الأقاويل الشرعية المتعارضة قد استخدمه ابن رشد في الجمع بين أفلاطون وأرسطو، والجمع بين الأقاويل المتعارضة، وبين شخصيات علمية تبدو أقاويلها في الظاهر أقاويل متعارضة. كما أنني بحثت في المتن الرشدي فوجدت أن المفاهيم التي تلحم القول الفقهي والقول الفلسفي مفاهيم واحدة، وأن الطريقة الصّناعية التي يكتب بها هي طريقة واحدة في الفقه والفلسفة والطب على السواء.

وهكذا شكّلتُ أطروحة، أحسب أنها كانت متكاملة في وقتها على الأقل، تثبت وحدة المتن الرّشدي في الفلسفة والفقه والطّب على السواء.

د. كريمة نور عيساوي: ألا تعتقد أستاذ بورشاشن أن جمال الدين العلوي سبق أن نادى بوحدة المتن الرشدي؟

د إبراهيم بورشاشن: طبعا، أنا لا أنكر ذلك، وقد نوّهت بذلك في مقدّمة كتابي الذي صدر عن دار المدار الإسلامي بعنوان "الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي"، وإذا كان من فضل لهذا الكتاب فهو أنه استطاع أن يبرهن على هذه الأطروحة، وأن يفصل القول فيها بعد موت الأستاذ سنة 1992، مع العلم أني بدأت العمل في هذه الأطروحة بعد سنة 1996. أي بعد الانتهاء مباشرة من مناقشة رسالتي عن ابن طفيل. ولابد من القول إنه رغم أن مشاريعي الفلسفية الأولى كانت من وحي أستاذي جمال الدين العلوي، فإن المرحوم كان قد قضى، ولم يُكتب له أن يرى ثمرة أحد تلامذته التي أنضجتها مع الوقت من خلال تأملاتي في نصوص الفلسفة الإسلامية، وهذا التردد بين النظر الفقهي والنظر الفلسفي.

د. كريمة نور عيساوي: لكن كتابك الذي وسمته بــــ "هل نحن في حاجة إلى ابن رشد؟ّ عدت فيه مجددا إلى ابن رشد، هل قدمت جديدا في هذا الكتاب؟

د. إبراهيم بورشاشن: رغم أن الغرض من هذا الكتاب هو بيان أن ابن رشد يمكن أن يعاصرنا، وأن موته الذي ينادي به البعض هو مناداة غير تاريخية، فإن الكتاب يستعيد بعض القضايا التي سبق أن عالجتها في كتابي السابق عن ابن رشد، أردت إبرازها في مقالات مفردة للتنبيه على معاصرة ابن رشد لنا مثل قضية علاقة ابن رشد بالتصوف وعلاقته بالموسيقى مثلا، لكن الكتاب يضم أيضا دراسات جديدة من قبيل علاقة الوحي بالفلسفة عند ابن رشد، و دور الزمن في التأليف الرّشدي. إنني رمت في هذا الكتاب تقريب ابن رشد كما كان الغرض من كتابي "هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل"والقصد الأكبر هو تحريك العقل العربي المسلم للنظر في قضايا الفلسفة الإسلامية بجهات من النظر مختلفة، وأكاد أجزم أن المتن الفلسفي العربي الإسلامي زاخر بكثير من القضايا الفلسفية البكر التي تحتاج لمن يفترعها ويخرج بها إلى العالم.

د. كريمة نور عيساوي: بعد أن طُفنا في رحاب الفلسفة الإسلامية، وإشكالاتها الكبرى سنُحلق في سماء الشعر ومتاهاته. حدثنا عن تجربتك الشعرية، وكيف ولجت عالم الشعر؟

د. إبراهيم بورشاشن: رغم أني بدأت أديبا وكان أول عمل أدبي كتبته أقصوصة صغيرة في سنتي الثانية من التعليم الثانوي بثانوية المولى إسماعيل بمكناس، دون أن أتجاوز العشرين من عمري، بل لعل أول عمل كتبته كان مسرحية شعرية بمناسبة احتفالات عيد العرش عندنا في إعدادية الأزهر بمكناس، أما الشعر في تجربتي الأولى فكان عبارة عن قصائد رومانسية نظمتها في مناسبات عاطفية مختلفة. ثم عندما دلفت إلى الجامعة انقطعت صلتي به. وما حصل بعد ذلك هو أني لما بلغت عقدي الخامس أصابني جني من وادي عبقر، وعدت إلى الأدب، وتحديدا إلى الشعر، وقد أثمرت هذه العودة لحد الآن ثلاثة دواوين شعرية ذات نفحة فلسفية ــ صوفية، كما لاحظ ذلك بعض الدارسين.

د. كريمة نور عيساوي: هل تتكرم أستاذ بورشاشن وتحدثنا عن كل ديوان على حدة؟

د. إبراهيم بورشاشن: أول ديوان أصدرته سنة 2011 كان عنوانه: "الطين المسجور" ورغم أن قصائد الديوان كتبت منذ 2006 تقريبا إلا أنها جاءت تحمل في طياتها بصمات الربيع العربي، وإن كان الديوان يحتوي على قصيدتين، على الأقل، كتبتا إبان موجة الاحتجاجات، وظهرت فيهما بعض أحداث تونس وليبيا واليمن والأحداث الأولى لسوريا. لكن روح الديوان المهيمنة هي روح الألم، ورفع الصوت ضد كل أنواع الاستبداد كما في قصيدتي "النيرونية" و"النحلة المغاضبة"، كما تجلى هذا الألم في قصيدتي "الغريب" وقصيدتي التي ناجيت فيها القلم، وغازلت فيها الحروف، وتشكل قصيدتي "الطين المسجور" قصيدة غريبة إذ هي في العمق قصيدة غزلية، لكنها في ظرفها التي نشرت فيه ظهرت لي كأنها نوع من النذير لانطلاق شرارة الربيع العربي، إذ تبدو وكأنها تتحدث عن حريق البوعزيزي لنفسه. وقد ذيلت الديوان ببعض قصائدي عن الحيوانات، وبخاصة قصيدتي "نعي عجماء" التي نعيت فيها جروا مات أمامي بعد أن دهسته دراجة نارية.

د. كريمة نور عيساوي: وماذا عن الديوان الثاني؟

د. إبراهيم بورشاشن: الديوان الثاني مختلف تماما، فديواني "إبحار في عيون الحوريات" أفردته لقصائدي التي كتبتها أيضا على طول الفترة الممتدة من 2006 إلى 2012.

د. كريمة نور عيساوي: ولم أفردت ديوانا للمرأة؟ هل ثمة أسباب ذاتية من وراء ذلك؟

د. إبراهيم بورشاشن: لم يكن هذا أيضا رأي الأستاذ الشاعر عبد الكريم الطبال الذي قدّم لي الديوان، لكني وجدت في هذا الجمع والإفراد مناسبة لي لإبراز علاقتي بالمرأة في مجموعة شعرية مفردة، وقد تنوعت وجوه المرأة في الديوان فاستحضرت صور زوجتي وابنتي و أصناف من النساء ممن صادفتهن إما مباشرة وإما عبر تقنيات التواصل الحديثة مثل قصيدتي "آجيا" التي كتبتها في سيدة مسيحية لبنانية، وقصيدتي "في عصمة الجبل" التي كتبتها في سيدة صوفية لبنانية، وقصيدتي "في غيابات الجب" التي كتبتها في شاعرة أردنية، وقصيدتي "عاشقة الحروف" التي كتبتها في شاعرة لبنانية، وهكذا و في كل مرة التقي فيها بسيدة أجد في شخصيتها ما يلهمني فأكتب فيها قصيدة مثلما هو الأمر في قصيدتي "سمفونية العين" التي كتبتها عن فنانة تشكيلية، وقصيدتي "مخيط الشفق" في خياطة، بل إنني أدرجت في هذا الديوان قصيدتي "عتاب إلى فاس" لأن فاس لم تخبرني عن زيارة الحبيب لها. طبعا من ألهمنني من نساء بلادي كثر، وعلى قدر كبير من الحساسية الجمالية، لا أستطيع الوفاء بحقها بالكلمات.

د. كريمة نور عيساوي: هل أصبحت المدينة عندك امرأة؟

د. إبراهيم بورشاشن: الشاعر ينشىء عالمه الخاص به، فيرى موضوعات العالم العادية بنظرة مختلفة. لكن الغريب أن قصائدي كلها عن المرأة تعتورها نفحة صوفية عميقة، ويغيب فيها التشبيب الجسدي الذي ينزع إليه بعض الشعراء. فنظرتي إلى المرأة يغلفها ضرب من المثالية كما في قصيدتي "عشق الروح" وقصيدتي "الشفاه المرسومة"، بل إن النفحة الصوفية تظهر قوية في قصيدتي "رماح العشق" و"سارقة الحب". وقد ختمت ديواني الجديد بقصيدتي "كنت نائما فانتبهت" بقصائد غزلية تمتح من أجواء ديوان "الإبحار".

د. كريمة نور عيساوي: إذن سنُبحر نحو ديوانك الجديد؟

د إبراهيم بورشاشن: ديواني الجديد، الذي اخترت له آخر جملة شعرية في القصيدة التي كتبتها رثاء لوالدي رحمه الله "كنت نائما فانتبهت"، قدمه لي عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري، وقرّضه الشاعر الدكتور حسن الأمراني. وقد اخترت أن أنوّع أشعار هذا الديوان، وقسمته إلى خمس مرايا إذا صحّ التعبير : مرآة سمّيتها "حميمية المكان" وخصصتها لقصائد تمدح المكان كما في قصيدتي عن مدينة زرهون، وبعضها فيه مدح مفارق إذا شئت، كما في قصيدتي عن مكناسة الزيتون، ومرآة أخرى سمّيتها "حميمية الروح" قدّمت فيها بعض القصائد ذات النفس الوجداني الصوفي، ومرآة أخرى سمّيتها "حميمية الصداقة" تترجمها قصائد تؤرخ لعلاقات صداقة، ثم مرآة سمّيتها "السّفسطائي الأخير" فيها قصائد تسلّط الضوء على بعض المفارقات التي تعتور العلاقات الإنسانية عندما تحضر السفسطة، أي القدرة الخطيرة على إبدال الحق باطلا والباطل حقا، وهي القدرة التي تعضدها سلطتا السلطة والمال، فيكون الإقناع أسهل، ثم أخيرا مرآة "الغَزَل المنقوض" التي تضم قصائد غزلية كما حدثتك قبل قليل.

د. كريمة نور عيساوي: لاحظت أستاذ بورشاشن وأنا أطالع كتاباتك، وأستمع إلى هذا الحوار الشيق معك ثراء في إصداراتك الفلسفية والشّعرية، وأودّ الآن أن اقترح عليكم السؤال الآتي: ما العلاقة التي تنسجونها بين القول الفلسفي والقول الشعري؟

د. إبراهيم بورشاشن: أولا شكرا على هذه الكلمة كلمة "ثراء" وإن كنت أرى أنّ الظّروف التّي مررت منها، والتي حالت دون التحاقي بالجامعة عطلت إنجاز بعض مشاريعي الفلسفية، ولعلّها هي التي اضطرتني إلى الذهاب إلى قلعة الشّعر، وهجران البحث العلمي لفترة من الزمن. أنا اعتبر نفسي أنّي قدمت إلى الشعر بالعرض، فانا لم أكن أفكر إلا في متابعة مشاريعي العلمية التي فتحتها لي أبحاثي في ابن طفيل وفي ابن رشد، لكن القانون المشؤوم الذي يمنع حاملي دكتوراه الدّولة من الالتحاق بالجامعة كسّر هذا المسار العلمي واضطرني إلى الشّعر.

د. كريمة نور عيساوي: لكن لم الشعر؟

د. إبراهيم بورشاشن: يذهب هيدجر إلى أنه عندما تصبح إمكانية التفلسف مستحيلة يبزغ الشعر ، فنحن نحتاج إلى ترتيب مقامنا على ظهر الأرض، عندما لا نستطيع ذلك فلسفيا نفعله شعرا، ومن هنا ارتباط الشعر بالكينونة كما أبرز ذلك هيدجر؛ فكأن الواقع أصبح يضيع مني فأنا أستعيده وأفكر فيه بالشعر، بل ربما الأفضل أن أقول أعيد بناء الواقع بالشعر، لأن الإبستمولوجيا علّمتنا أن الواقع غير معطى، وإنما هو يبنى، وفعلا بنيت عالما من الشعر حاولت فيه أن أجد المعنى لوجودي الذي كاد أن يضيع مني تحت ضغوطات الواقع وإكراهاته. فمجتمعاتنا لا تؤمن بالذاتية في علاقتها بأفرادها، إنها لا تفرق بين الجماعة والقطيع؛ فنحن مع الجماعة من حيث هي مؤسسات وضدّ الخلاف الممزق لبنية مجتمعاتنا، لكن ضد عقلية القطيع من حيث إنها نزوات فردية وأعراف لا تحترم كينونة الأفراد، ومن هنا تأتي غربة الشاعر والفيلسوف أيضا في مجتمع قاهر ولا يكاد يميز بينهما. ولعل من هنا أتت غربة ابن باجة في كتابه الفريد "تدبير المتوحد" وابن طفيل في قصته الفلسفية الفريدة "حي بن يقظان"، إن الفيلسوف كائن مبدع وكذا الشاعر يبدع، لكن لا إبداع إلا إذا كان الفضاء يحترم الفردية والذّاتية ويحمي حريات الأفراد.

د. كريمة نور عيساوي: إذن بالشعر أضفيت المعنى على وجودك؟ هل يعني أنك قبل الشعر لم يكن لوجودك معنى؟

د. إبراهيم بورشاشن: شكرا على هذا السؤال سيدتي، حقا يسهم الشعر في اكتشاف الذات بل وفي إبداعها، ولا أخفيك أن الفترة التي انكببت فيها على كتابة الشعر كانت فترة غوص عميق في الذات، كما كانت فترة انفتاح على المجتمع، كما لا أخفيك أن درجة تفاعلي عند كتابة القصيدة كانت قويّة لدرجة أنني عندما كنت أكتب قصيدة أشعر أحيانا بوهن شديد وعياء كبير. ولعل هذا التّفاعل العميق هو الذي جعلني أجدد ذاتي، وأعطى لأشعاري صدقها وقوتها الإيحائية وجدّة كثير من صورها كما تنبه إلى ذلك الدكتور حسن الأمراني.

د. كريمة نور عيساوي: أراك تتحدث عن علاقة الفلسفة بالشعر عندك دون أن تدخلنا إلى عالم دواوينك الثلاثة، وتقدم لنا أمثلة عن ذلك.

د. إبراهيم بورشاشن: عندما نكتب سيدتي، لا نعبر فقط بعقولنا بل يتدخل اللاوعي فيجد التعبير عنه في غفلة عنا، لذا فنحن نبدع بكل طاقاتنا العقلية والتخييلية وساعتها تتجسد هويتنا في ما نكتب، وكأن من يريد أن يعرف نفسه فلير نفسه في مرآة ما يكتب. عندما أرجع إلى ما أكتب أجدني أسير شخصية فلسفية إغريقية معها بدأت الفلسفة بالتحديد، أقصد شخصية سقراط، وقد كتبت في ديواني "الطين المسجور" قصيدتين عنه إحداهما سمّيتها "سقراط" استلهمت فيها إشادة سقراط بالعقل، والثانية "سؤال سقراط" استلهمت فيها شغف سقراط بالسؤال، وفي ديواني الأخير قصيدة أيضا عن سقراط، استلهمت فيها نظريته التي اشتهر بها ، أقصد :"اعرف نفسك بنفسك". لكن الدواوين كلها تعج بأسماء فلاسفة كثر من مثل ابن رشد، واستلهام قصة حي بن يقظان لابن طفيل، واستلهام حكاية موت ابن باجة بالباذنجانة المسمومة، واستلهام فكرة "العود الأبدي" لنيتشه، ومقولة هرقليطس في عدم إمكانية النزول إلى النّهر مرتين، وتجربة أفلوطين الذي خلع بدنه مرتين كما يقال، وتجربة السفسطائية في تاريخنا المعاصر، وكذا الرواقيين، كما استحضر اسم الخوارزمي، وكذلك موقف فيثاغوراس من أصل الوجود؛ عددا ونغما، وفي قصيدتي "جسد بلون التراب" تبدو أسماء لفلاسفة معاصرين من مثل ياسكال وديكارت وشوبنهور ودوبوفوار صديقة سارتر ، كما أن النفحة الفلسفية تظهر في بعض عناوين قصادئي من مثل "عشق الروح" و"عين الجمع"، كل هذا الزخم الفلسفي طبعا لا يفارقه الإحساس بالهوية العربية الإسلامية التي أنتمي إليها، كما يظهر في دواويني من استخدام للمفاهيم والتعابير القرآنية، وانفعالي الشديد بتجربة ابن حزم الأندلسي كما عرض لها في كتابه الفريد "طوق الحمامة"، وكلما ظهر اسم "الظاهري" في قصائدي فهو يشير إلى هذا التماهي بيني وبين الفقيه والشاعر الأندلسي ، وكأنني في دواويني أريد أن أعبر عن هوية منفتحة على البعد الإنساني، وأظن أن البعد الإنساني حاضر بقوة في نصوصي الشعرية وذلك للتحرر الكبير الذي كان يصاحبني في لحظة الإبداع. وحتى لا أثقل عليك سيدتي سأقف هنا، وإلا فإن القضايا الفلسفية والتي تثير في نظري إشكالات عميقة والتي أعرض لها بنفس شعري كثيف في دواويني كثيرة، وأزعم أنها تحتاج إلى دراسة مفردة.

د. كريمة نور عيساوي: أشكرك الأستاذ والشاعر المغربي إبراهيم بورشاشن على هذه الجلسة العلمية التي فتحت لنا فيها قلبك، وحدثتنا عن مسارك الفلسفي والشعري، وأترك لك كلمة أخيرة تختم بها هذا اللقاء الماتع معك.

د. إبراهيم بورشاشن: شكرا أستاذ كريمة على إتاحتك هذه الفرصة لي، فقط أحب القول إن حاجتنا اليوم إلى الفلسفة كما هي حاجتنا إلى الشعر حاجة حيوية وضرورية في عالم يفقد المعنى ويخلع عنه أثوابه الرمزية الجميلة، وأعتقد أن الدخول إلى العالمين الفلسفي والشعري يبدأ في ثقافتنا العربية من إعادة الاعتناء بالفلسفة الإسلامية من خلال رموزها الكبار الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغيرهم من الذين أثْرَوْا الحقل الفلسفي الإسلامي، وأيضا من خلال متنها الصّوفي الضّخم والذي يشكل ثروة رمزية كبيرة وخزّانا من الدّلالات، و كذا من خلال تلك المؤلّفات العلمية التي تركها من مارس العلم في حياتنا العربية الإسلامية من أمثال الخوارزمي وابن الهيثم وابن البنّا المراكشي وغيرهم من القامات العلمية التي قدّمت إسهامات كبرى في العلم العربي الإسلامي إن صح هذا التعبير. كما أنه يجب أن نعتني باللغة العربية وبالأدب العربي وإلا كيف نستطيع أن نفكر إذا لم نكن نمتلك ناصية الأدب الذي يمكّننا من التعبير عن أدقّ الأفكار وأعمق الأحاسيس. قراءة تراثنا الأدبي القديم وبخاصة الشّعري منه مدخل أساس من مداخل نهضتنا المعاصرة التي لن تبلغ كمالها أيضا إلا إذا انفتحت بوعي على مكتسبات العقل المعاصر في اللغات والفلسفة والعلم والفنون على السواء. وشكرا لك سيدتي.

 

 

 

 

.

 

 

 

 

الصفحة 2 من 2

في المثقف اليوم