حوارات عامة

حوارات عامة

علي محمد اليوسفحوار فلسفي اجراه الباحث الاستاذ مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف


 س12: ا. مراد غريبي: ذكرت انه جرى احتدام شديد بين كلا من بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم حول مسالة الادراك والوعي، علما ان ثلاثتهم ينتمون الى الفلسفة المنطقية المثالية التجريبية. هل من اعطاء لمحة سريعة حول الموضوع؟

ج1: ا.علي محمد اليوسف: أننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في أعتبارهم موضوعات العالم الخارجي الحسيّة ما هي سوى أنطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه وجود العقل ونظام السببية معتبرا أياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة.. ليصبح التكرار عادة وليس سببا لنتيجة.

وينتقد جون سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا (في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي – نسبة الى ديفيد هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية).

والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة او المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في أعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية... أشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في أختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو أغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في أنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل أنعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء في أنتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما..ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكرأنساني...

لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي في الواقع تجربة الادراك.

س12: ا. مراد غريبي: نود التركيز على قضية الوعي القصدي في فلسفة جون سيرل، وبماذا يختلف سيرل عن الفلاسفة الانجليز اصحاب الوضعية المنطقية التجريبية؟ وهل اعطى سيرل معان محددة لمفردات تجريدية متعالقة مع الوعي القصدي؟

ج12: ا. علي محمد اليوسف: في هذه المقولة الغامضة لسيرل (التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي بالواقع تجربة الادراك ) نعجز عن فهم محدّد ماذا يعني لنا الوعي، وماذا تعني لنا القصدية في السلوك؟، وماذا يعني لنا الادراك العقلي،؟ وماذا يعني لنا موضوع الادراك؟، فجميع هذه الفعاليات الادراكية وتوابعها تجمعها تلك المقولة في ما أطلق عليه سيرل (تجربة) الادراك.. التي هي ليست موضوعا للادراك فهي آلية تنفيذية مكتفية بذاتها غنيّة ان تكون موضوعا يدركه العقل.

الوعي الادراكي القصدي يحتاج الى أشباع معرفي ومادي لمدركاته لا تنفصل عن مواضيعها الادراكية من خلال التجربة الادراكية لموضوعات معرفية تختلف تماما عن أشباع القصدية لغرائز أدراكية بيولوجية مثل أشباع العطش والجوع والجنس..في هذا النوع من الادراك البيولوجي يكون الاشباع استهلاكيا بمعنى نهاية تجربة الادراك في الاشباع البيولوجي لحاجات النفس والجسم، بخلاف الاشباع الادراكي المعرفي فهو يدّخر خزينا أستراتيجيا معرفيا في الذاكرة في تجريد فكري غير مستنفد في تموضعه الادراكي..

التجربة الادراكية في المعرفة فعالية من فعاليات العقل (الدماغ) لكن موضوع الادراك هو في كل الاحوال شكل ومضمون (محتوى) لموجود متعّين في عالم الاشياء غير مرتهن وجوده بأهمية الادراك العقلي له..ولا يمكن للادراك القصدي المباشر الفصل بين محتوى الشيء ومضمونه، فالمرتبة الاولى للادراك هي في معرفة الشيء كوجود حسي ظاهراتي فينومينولوجي موّحد بصفاته البائنة الخارجية التي ربما تكون معرفتها هي معرفة ماهيّة الشيء المحتجبة خلفها.. وفي نفس المعنى تقريبا فعل منهج الفينامينالوجيا في أدراك الظواهر الخارجية فينومين والماهيات غير المدركة للوجود بذاته (نومين) وجاء هذا التمييز الذي كان تقليديا راسخا في فلسفة كانط ومن ثم في الفلسفة الوجودية لدى هوسرل تحديدا..

فأدراكنا وجود كرسي هو أدراك شخصاني أنفرادي لموضوع يتألف من شكل ومحتوى متعيّن أنطولوجيا، ولا يوجد مضمون من دون شكل يلازمه..كما لا يوجد شكل من دون مضمون يلازمه ويفصح عن ماهيته الانطولوجية كجوهر.. والادراك يكون قصديا هادفا لاشباع رغبته الفطرية الغريزية أو في الاشباع المعرفي، فأشباع غرائز فطرية عند الانسان مثل الجوع والعطش والجنس هي من باب الاشباعات البيولوجية لاهداف الادراكات القصدية، وهذه القصدية الادراكية الاشباعية أنما تكون بعفوية بيولوجية طبيعية تختلف عن قصدية الادراك المعرفي للاشياء..

فالفعاليات الادراكية القصدية الغريزية العفوية البيولوجية كما في حالات أشباع العطش والجوع والجنس وغيرها لا يكون العقل المدرك لاشباعها ملزما بتجربة أدراك قصدي هي أبعد من المتحقق الاشباعي البيولوجي لها..وتكون القصدية هنا شخصانية مكتفية ذاتيا.. وهذه تختلف عن قصدية أشباع الموضوع غير الفطري الغريزي في الالمام بتفسيره كمعرفة خالصة تبغي معرفة الشيء المدرك بخصائصه البائنة أوماهيته المحتجبة لما يجعله العقل خزينا معرفيا أستراتيجيا في الذاكرة.. ويختلف الوعي بحقائق الموجودات في ألادراك المعرفي عنه في الاشباع البيولوجي وفي هذا النوع من القصدية المعرفية (لا يكون الوعي بالشيء وعيا حقيقيا ألا بمقارنته الشخصانية الفردية بغيره من حالات الوعي الاخرى كجزء من الوعي الشخصاني الكلّي) وهذا لا يتم بغير أعتماد الخزين المعرفي الاستراتيجي في الذاكرة التي هي بنك المعلومات المكتسبة بالخبرة العقلية والتجربة... فقد تكون موضوعات الوعي هي أدراكات تتم في الذهن والخيال ألاسترجاعي من الذاكرة ولا يقابلها وجود متعيّن وحضورموضوعي في عالم الاشياء (وتمثل الاحلام شكلا من اشكال الوعي المختلف تماما عنه في حالات اليقظة ) أي ألادراك في موضوعات الخيال المستمد من الذاكرة جميعها تعتمد الشعور المسيطر عليه عقليا بينما لا يكون الشعور ساكنا حضوريا في الاحلام لذا يكون الادراك الحلمي اللاشعوري تداعيات متقطعة لا ينتظمها أدراك تحسّسي مترابط ولا زمن تنظيمي لها..

س13: ا.مراد غريبي: نحن لا زلنا نرغب معرفة فلسفة الوعي التي اشتهر بها جون سيرل عالميا كفيلسوف العقل واللغة والوعي، ما هي خصائص الوعي القصدي في فلسفته خاصة تعتبر من انضج المباحث الفلسفية التي تدرسها الجامعات الامريكية؟

ج13: ا. علي محمد اليوسف: سوف استعين بالاجابة عن السؤال بما كنت كتبته في احدى مقالاتي المنشورة وتعقيبي عليها. اقصد خصائص الوعي القصدي عند جون سيرل وهي:

- (الوعي حقيقي غير قابل للاختزال). بمعنى غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الادراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي بالدماغ والجملة العصبية..

- (الوعي نوعي.) بمعنى هناك نوعية تجريبية لكل حالة واعية، والوعي شخصاني أنطولوجي لا تتم معايشته ألا من قبل موضوع بشري أو حيواني..

- (جميع ملامح الوعي ناتجة من دون أستثناء عن عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي.) (لاتعليق)

- (الوعي القصدي المعروف الوحيد هو الموجود في الجهاز العصبي للانسان او الحيوان)..(لاتعليق)

- (تجربة الوعي الادراكي القصدية النوعية الشخصانية بكاملها هي جزء من مجال وعي ادراكي كلي). بمعنى أشتراك أكثر من حاسة واحدة في تجربة الادراك من جهة، وكل تجربة شخصانية تعتبر محدودة بالنسبة لتجارب لا حصر لها من أدراكات وعي كلي متنوع بتعدد موضوعاته من جنبة أخرى.

- (مضمون الوعي مضمون الوعي القصدي يفيد معنى شروط الاشباع) بمعنى غاية وهدفية الادراك هو أشباع الرغبة في تحريك القصد نحوتحقيق غاية محددة يتوجب بلوغها..والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا..

س14: ا. مراد غريبي: كيف يتحدد الادراك بضوء تجربة الوعي في فلسفة جون سيرل؟

ج14: ا. علي محمد اليوسف: يأخذ سيرل على الفيلسوف أ.ج. آير صاحب كتاب (اسس المعرفة التجريبية) في معرض بناء حجته على آراء مستمدة من هيوم بأن ما ندركه هو بيانات حسيّة .. ليطرح سيرل بضوء ذلك تساؤله:ما الموضوع الذي نحن واعون به مباشرة في حالة الادراك اذا لم يكن جزءا من أي شيء مادي؟ طبعا هنا كان تركيز سيرل على الادراك والوعي القصدي الناتج عن رغبة الاشباع المعرفي التي تفترض سلفا تحقق الوجود الانطولوجي لمواضيع العالم الخارجي للاشياء كمجال أدراكي واقعي، وأغفل أمكانية قيام الادراك على غير متعيّن مادي يحضر كموضوع كما ألمحنا له سابقا، فالعقل يقوم بفعل الادراك القصدي في معالجته مواضيع أدراكية غير مادية مستمدة من الذاكرة التخييلية الى جانب أدراكه مواضيع الواقع المادي الحسية، ولا وجود في حالة الادراك القصدي التخييلي شرطا لموضوع يكون جزءا من شيء مادي كما في رغبة سيرل في عبارته السابقة..ليس شرطا أن يكون الوعي الادراكي بموضوع يمّثل جزءا من واقع مادي حصرا، فالخيال الادراكي يستطيع التعامل مع موضوعات لا وجود لعلاقة أنطولوجية لها تربطها بحواس الادراك ..

ينقل جون سيرل عن الفيلسوف الامريكي (الفا نوي ) في مقال لهذا الاخير بعنوان (تجربة من دون رأس) الى أن الوعي الادراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ، موضحا قوله (أن تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ - والجسم - والبيئة) .

الوعي القصدي عند سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله واقعة بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية..

نلاحظ للمرة الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الادراك القصدي هو المتعّين أنطولوجيا في عالم الاشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة من هذه الورقة البحثية في المحاورة..لكن مقولة الفانوي ممكن حدوث وعي خارج الدماغ تحتاج حجة إثبات قوية باعتقادي.

س15: ا.مراد غريبي: ما علاقة الوعي القصدي باللغة؟ وهل لك تعقيبا اضافيا حول هذا المبحث عند جون سيرل. باعتباره فيلسوف العقل واللغة؟

ج15: ا.علي محمد اليوسف: ابرز فيلسوف معاصر اهتم بالعلاقة الثلاثية التي تربط العقل والوعي واللغة في توليفة فلسفية واحدة هو جون سيرل بلا منازع. وسعى سيرل الى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان الى أدراك الاشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع أستحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا،، ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الاسبقية للعقل أم للغة؟ ويجيب على تساؤله عن الاسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الاساسي القائم وراء تناولي لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل.. وهي نظرية صادقة تحمل حقيقتها المقنعة تماما.

ويطلق سيرل على أن الهلوسة الادراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان، وتعقيبنا أن هلاوس الادراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد أنها (واعية) في أمتلاكها مضمونا ولا هي تمتلك موضوعا، ويتعّذّر التفكير في وعي أدراكي لا يحمل موضوعه المتعيّن كمادة أدراكه الملازمة له، ولا يشترط في موضوع الادراك أن يكون متعينا أنطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية، وبخلاف الهلاوس غير المنتجة تكون أدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها في ملازمة تخليق الادراكات المجردة في الذهن.. وحالة الادراكات الهلاوسية تكون حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغيرموضوع واحد محدد، وتجارب الهلوسات الادراكية التي لا تحمل موضوعها الادراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي..والا كيف لنا تعليل سلسلة الادراكات التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام باكثر من موضوع تخييلي كما نجده في معظم الابداعات الفنية والادبية وبالتحديد في الشعر؟؟ ففي مثالنا هذا لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الادراكية هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي تفتقد موضوعها..بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة وأستحقاق.

س16: ا.مراد غريبي محور هذه الحلقة كان حول موضوعة الوعي القصدي هل تتوفر على تلخيص شامل لمبحث الوعي بضوء فلسفة جون سيرل نختم به هذا المحور من الحوار؟

ج16: ا.علي محمد اليوسف: تعودت كما اخبرتك في محاور سابقة اني اتبع منهجا نقديا لا احيد عنه، وهو المنهج المادي لا اسميه الجدلي في المعرفة، ورغم صرامة وانضباطية طرح جون سيرل الفلسفي حول اشكالية فلسفية مزمنة تجنب الخوض بها غالبية الفلاسفة الا اني اجد في طرح سيرل ثغرات ساتناولها بالتعقيب النقدي الموضوعي ارجو التوفيق به.

يذهب سيرل أن الوعي الادراكي القصدي ظاهرة بيولوجية، أي أنه وعي شخصاني نوعي أنطولوجيا وهو جزء من مجال وعي كلي شامل. هنا بضوء هذا التعريف يجب التفريق بين موضوع الادراك المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون أشباعا بيولوجيا كما في مثال الاشباع الغريزي الجنسي والجوع والعطش وغيرها، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال المعرفة والسعي لاكتسابها.. الذي يكون أدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الانسان كركن أساس تحديدا في أكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهوأدراك بيولوجي على مستوى الشخص المدرك للاشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع أدراكه..ومواضيع الادراك القصدي نوعين موضوع أدراك معرفي، وموضوع أدراك غريزي فطري..وكلاهما يشكلان هدفين متمايزين لتجربة الادراك في أشباعهما...

ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينامينالوجية في الادراك، تقوم على مرتكز محوري أن موضوع الادراك هو المتعيّن أنطولوجيا في عالم الاشياء المادية فقط، ويهمل الادراكات الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها الخيالية، ولا يناقشها في صفحات كتابه الموسوم (رؤية الاشياء كما هي) كفعالية أدراكية لا يمكن أهمالها..وعنوان كتابه رؤية الاشياء على صعوبته الفلسفية المعقدة.. أنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع فقط..علما أن مدركات مواضيع الادراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الابداع في الادب والفكر والثقافة والفنون وجميعها أدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..

يحدد سيرل أن محددات أي أدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه، أي موضوع الادراك، وثالثا حاسّة الابصار العين، التي تكون البداية منها في أستقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه، أي ضوء الموضوع المنبعث منه في تجربة الادراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الادراكات الناجمة عن بقية الحواس عند الانسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر مصادر الاحساسات الاولية في عمليات الادراكات لم يعرها سيرل أهتمامه..كما لم يعر أنتباها الى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في أتمام عمليات الادراكات..ركّز كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الادراكي المادي..وعنونة الكتاب هو (رؤية) بمعنى الابصار في العين وعلاقتها بالوعي الادراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب كاملا...

ورد على لسان سيرل أن علاقة الادراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الادراك الحقيقي السليم، كون أدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وأن أمتلكت (وعيا) أدراكيا في مضمون متعيّن أدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي في أدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم أمتلاكه موضوعات أدراكية لا يشترط أن تكون مستمدة انطولوجيا من واقع الاشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الادراك الهلاوسي منطلقها تداعيات الفكر الصادرعن الذاكرة والمخيلة اللاشعورية التفكيرية غير المنظمّة لغويا...والوعي هو وعي بموضوع يتألف من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي ملازما له..

لكي يقوم سيرل في تأكيد رغبته أن أدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا) وقد تمتلك (مضمونا)، الى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الادراك الحقيقية والسيئة أي بين تجربة الادراك السليم وتجربة الهلوسة، وهذا التفريق لا يلغي ولا يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الاشكالية المفتعلة قوله (في التجربتين – يقصد الحقيقية والهلاوسية - يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الاخرى ) .

لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وأنعدامها في تجربة ألهلوسة حتى وأن أمتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي باشتراك التجربتين في أدراكهما موضوعا واحدا....كما لا يمكن أستساغة التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربة الادراك الخطأ الذي زرعته الفينامينالوجيا في تكريسها ثنائية أدراك الظاهراتية هذا وأستحالة أدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينامينالوجيا أدراك الاشياء في ظاهرياتها البائنة عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهياتها التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل..، وفي العودة الى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى أستحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن أدراكه منفصلا غير متعالق بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل..وأدراك موضوع كشكل أنطولوجي لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر..ولا يمكننا تصورأدراك مضمون بلا شكل وموضوع يؤطرهما..ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة شكلا ومحتوى والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..

يطرح سيرل تساؤلا أشكاليا صعبا، يذهب الى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا أدراكه هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع، فهل يمكننا تعميم حقيقة مدركاتنا على الجانب الأخر(مجموع الاخرين) .

لن نأخذ بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة أشكالية قوامها مرتكز حاسة البصر (العين) في التجربة الادراكية عنده فقط أي لا يفند سيرل رأي فلاسفة التجريبية المنطقية المثالية بمنطق فلسفي في حين نجد هناك أجماعا على حقيقة ثابتة لا يمكننا العبور من فوقها هي لا تتمكن الحواس من أدراك الاشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة، وتبقى على الدوام أدراكاتنا ناقصة في معرفة العالم وهو ما ينطبق على حاسة البصر العين .. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره الى مضمار التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فينجشتين، وهذا ما لا يعتمده فلاسفة الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس أنتهاءا بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج مور وبراتراندرسل وايتهيد، كارناب من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسرلا بالادراك ولا بتعبير اللغة...

كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة الفردية كما تنسحب على تعبير الادراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف بخيانة اللغة...التجربة الحقيقية في الادراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض أستنتاجاتها، من حيث أن مواضيع الادراك في غالبيتها تكون متعّينات أدراكية ثابتة أنطولوجيا تقريبا، بينما يكون الادراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الادراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك فالادراك الفردي لا يتوّصل الى حقائق علمية قاطعة بل الادراك قسمة مشاعة أمام الجميع في ممارستها ضمن الامكانيات المتعددة في تنوع ألادراكات الشخصانية لتحقيق حالة الاشباع القصدي، عليه تكون نتائج الاستدلال الادراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى..يوجد تفاوت أدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد تفاوت في أدراكنا حقيقة الوجود يسبق أدراكاتنا الفكرية عنه..مما يجعل أمكانية الخطأ الجمعي متراجعا في أدراك الموضوع الواحد..

جون روجرز سيرل: فيلسوف امريكي ولد عام 1932 ويشغل ألآن درجة أستاذ فخري في فلسفة العقل واللغة، وأستاذ طلبة الدراسات العليا في جامعة بيركلي – كالفورنيا، معروف على نطاق واسع في مساهماته في فلسفة اللغة والعقل والفلسفة الاجتماعية، بدأ التدريس في جامعة بيركلي عام 1959..

انتهى

 

 

ناجي ظاهرتضرب جذوره في قرية فلسطينية مهجرة منذ عام 48، تدعى سيرين. ولد في مدينة الناصرة بعد سنوات من تهجير اهله القسري. نما وترعرع في الناصرة. قاص وشاعر وصحفي عمل في الصحافة، الادبية خاصة، منذ شبابه الاول وما زال يعمل فيها. ابتدأ الكتابة عام 1965 وهو لما يزل على مقاعد الدراسة الا انه يعتبر عام 1968 بدايته الحقيقية في عالم الكتابة. صدر له حتى الآن اكثر من ستين كتابًا. ترجم عدد من كتاباته إلى لغات اجنبية. حصل على جائزة الابداع الادبي عام 2000. ناشط في الحياة الادبية والثقافية ويُعلّم الابداع الادبي للطلاب منذ سنوات بعيدة. انه الكاتب الاديب ناجي ظاهر. يعرف فيما يلي بحياته الشخصية والعامة ايضًا ويُلقي المزيد من الاضواء على جوانب غير معروفة في حياته وتجربته.

- الحديث عن سنة ومكان الولادة، الاهل والعائلة، مكان السكن ...

* ولدت بعد سنوات من التهجير القسري لأبناء عائلتي من قريتهم الوادعة سيرين.. واشير إلى ان اسم قريتي مأخوذ من كلمة يونانية قديمة هي السارونة وتعني حورية الماء.. وهي امرأة نصفها سمكة ونصفها الآخر بشر. اما مكان الولادة فقد كان في الناصرة. تنقلنا في اكثر من حي منها حي النبعة في سوق البلدة القديمة. والحي الشرقي وقد شهد شطرًا من يفاعتي وحي الصفافرة. قبل سنوات، بعد وفاة الوالدة تحديدًا، تشتت ابناء اسرتي ايدي سبأ، فأقام كل منهم في واحد من احياء الناصرة.. اقيم حاليًا في حي شنلر.

- من اين بدأت فكرة الكتابة لديك؟ كم كان عمرك؟ هل كان هناك من دعمك ؟ من هو ولماذا؟...

* في الطفولة الاولى كنت طفلًا شقيًا.. لم اعش طفولتي.. وكانت والدتي رحمها الله تطلق علي وانا لما ازل في الثالثة او الرابعة صفة الختيار، فكانت تطلب من نسوة الحارة أن يصمتن عندما ادخل الغرفة. لاعتقادها انني سأفضحهن وسأروي كل ما تحدثن به وتفوهن لأبناء الحارة. في البداية شاهدت عند الجيران كتلة خشبية تطلق اجمل الانغام. عرفت فيما بعد انها آلة العود.. فهِمتُ بها. إلا أن الحلم مات فور ولادته بسبب فقر الاهل. بعدها اكتشفت طاقة على التمثيل والاخراج، وكان هذا عندما كنت اروي ما استمع إليه من حكايات ترويها جارتنا قادرية الملا رحمها الله، لأبناء الحارة وكنت اوزع عليهم الادوار ليقوموا بتمثيل ما أرويه من قصص. عندما بلغت الثالثة عشرة من عمري طرق باب بيتنا من يستعطينا طالبًا المساعدة فردت عليه امي قائلة إننا فقراء ولا نملك شيئًا واقترحت عليه أن تعطيه رغيف خبز ساخنًا فهزّ رأسه موافقًا.. وضع رغيف الخبز في جيبه وانطلق غير ناظر إلى الوراء. تأملته وهو يمضي غير عابئ بما وراءه، انتابتني حالة قاتلة من الحزن فتوجهت إلى اوراقي واقلامي ابثها ما شعرت به من حزن والم.. لكن على لسان ذلك الشخص الفقير. كانت تلك اول قصة كتبتها في حياتي. بعدها مررت بفترة اعتبرتها تمرينًا على الكتابة تواصلت مدة ثلاثة اعوام.. في عام 1968 كتبت قصتي الحقيقية الاولى.. ونشرت آنذاك كما يعلم الكثيرون في مجلة "الجديد" الحيفاوية. في طفولتي كنت وما زلت في كهولتي عاشقًا مُحبًا للكتاب. لهذا اعتقدت دائمًا وما زلت اعتقد أن محبة الانسان للكتاب تعني في بعض من جوانبها غرامه بالكتابة. وان في داخل كل قارئ جاد مشروع لكاتب رائع. حبي للقراءة كان المشجع الاول على الكتابة. لم يشجعني احد. انا من شجعت نفسي. وقد ترسّخ لدي منذ البداية أن الانسان هو من يُشجع نفسه وأن تشجيع الآخرين ما هو الا تتميم معاملة.

- ما هي مواضيع كتاباتك من البداية حتى الآن؟!

* امس كنت اتناقش مع صديق مثقف. قلت له إنني احب الكتابات الاجتماعية. فحاول اقناعي بان الكتابات السياسية اهم. بعيدًا عن تفاصيل ذاك النقاش اقول اعرف ان السياسة يمكن أن تدخل في كل تفاصيل حياتنا. إلا أنني أرى انه يوجد هناك الكثير من الفرق بين السياسة والابداع الادبي وقد اختصرت هذا الفرق بما مفاده أن الادب استراتيجية ورؤية في حين أن السياسة تكتيك وتخطيط وشتان ما بين الامرين. منذ كتاباتي الاولى كما قد تلاحظين ركزت على الجوانب الاجتماعية في الحياة ولم اكتب القصة السياسية بالمرة علمًا أن كل من قرأ قصصي لمس البعد السياسي الذي حضر ربما دون وعي مني. أنا مؤمن أن التقدم الاجتماعي هو الاهم واننا عندما نتقدم اجتماعيًا لا بد أن نتقدم سياسيًا لأن الانجاز السياسي في حالة التقدم الاجتماعي سيكون تحصيل حاصل. لقد دفعت مقابل اختياراتي الادبية الواعية ثمنًا غاليًا تمثّل في عدم وصول كتاباتي إلى آفاق واسعة من القراء. وقد كنت اعرف منذ البداية انه بإمكاني أن انضم إلى هذا الحزب السياسي او ذاك فأعرف أكثر وتنتشر كتاباتي اكثر.. إلا أنني فضلت أن اكسب استقلاليتي حتى لو كان مقابل ذلك محدودية الانتشار الذي يسعى إليه الجميع. لست نادمًا على اختياري هذا ولديّ شعورٌ أنني سأقرأ كما حلمت في المستقبل.. يسرني أن أقول إن العديد من اعمالي الادبية ترجم إلى لغات اخرى وادخل في مناهج التدريس المقررة. . وفي هذا السياق اذكر ان مترجم كتابي القصصي "النبي المهجّر"، إلى الانجليزية اخبرني أن الكتاب يدرّس حاليًا في خمس او ست جامعات امريكية.

- هل استعنت بشيء معيّن حلال كتاباتك ؟ (كتب، اشخاص، مؤسسات...)

* في طفولتي كنت اتصور الجنة مكتبة. وحتى هذه الايام ما زلت أرى أن الكتاب هو اجمل ما في حياتي واكثر ما حببني بهذه الحياة. القصص الشعبية في الطفولة والكتب في مرحلة تالية من مراحل العمر الاولى كانت هي مدرستي. وما زلت حتى هذه الايام طالبًا مُجدًا في عالم الكتب. بالنسبة لتشجيع الاشخاص اقول إن الكثيرين شجعوني عندما رأوا اهتمامي الشديد بالكتاب وعالمه ولمسوه بأيديهم تقريبًا، وقد انطبق عليّ فيما يتعلق بمسألة تشجيع الناس هذا ما قاله بول كويليو في روايته "الكيميائي"، ومفاده اننا عندما نريد شيئًا من اعماق قلوبنا فإن العالم كله سيتآمر معنا لنحققه وننعم به. هذا القول منقول بتصرف عن الكتاب المقدس/ الانجيل لا سيما عندما يذكر الايمان الحقيقي وحبة الخردل.. وهو ما يزيد في قيمته. فيما يتعلّق بالمؤسسات وتشجيعها اعترف أنني لم اسع إليها لعلمي انها "لن تعطيني نعجتها إلا لتأخذ مني الثور والجملا"، كما اشار ابو العلاء المعري في قول شعري آسر. لقد فضلت أن اربح نفسي على أن اكون تابعًا لهذه المؤسسة او تلك. لقد ولدت حرًا ومستقلًا وسوف ابقى كذلك إلى آخر يوم لي على هذه الارض. التشجيع الحقيقي يأتي باختصار من داخل صاحبه اولًا وقبل كل شيء. ولا يأتي من الخارج بالضرورة.

- لمن كنت تقرأ في بداية مسيرتك ؟ اي من الشعراء/ كتاب / نقاد كنت تقرأ؟

* لم تكن في طفولتي كتب. وكثيرًا ما كنت أعثر على هذا الكتاب او ذاك مُلقىً في هذا الشارع او سواه. فكنت اطير به إلى البيت لأقرأه بنهم. ذات يوم أهداني بائع فلافل كتابًا شبه ممزق اكتشفت فيما بعد بمساعدة مدرس اللغة العربية الاستاذ محمود كناعنة رحمه الله انه كتاب "مثالب الوزيرين" لابي حيان التوحيدي، فقرأته قبل أن أعرف من هو مؤلفه وقد اذهلني وادخلني في مطارحة غرامية ثقافية من نوع رائع مع صاحبه ما زالت دماؤها تجري في عروقي حتى هذا اليوم. واذكر بالمناسبة انني كرّست مجموعة شعرية كاملة لابي حيان التوحيدي حملت عنوان "قصائد الى ابي حيان التوحيدي"، وقد صدرت في اوائل الثمانينيات ضمن منشورات جامعة حيفا. بعد أن دخلت المدرسة مباشرة تقريبًا تعرّفت على الكاتب المصري العربي كامل كيلاني، فانبهرت به وبكتاباته وما زلت حتى هذه الايام اعتبره الرائد الاول والحقيقي لأدب الاطفال في ادبنا العربي المعاصر. كان هذا قبل عام 67 وقد اكتشفت في تلكم الفترة مكتبةً عامةً عامرةً في مجلس عمال الناصرة على اسم فرانك سيناترا، فأقمت فيها سنوات، اقرأ في مختلف الضروب الثقافية، في الفلسفة، الموسيقى والعلوم المختلفة. واذكر أنني قرأت في هذه الفترة المئات من الروايات الاجنبية المترجمة إلى اللغة العربية. بعد عام 67 انفتحنا على العالم العربي المحيط بنا فتدفقت علينا الكتب لتزيدنا علمًا. وقد كتبت عن هذا الانفتاح في كتابي " حياض غثيم- سيرة ذاتية من خلال آخرين". وبإمكانك العودة اليه للتوسع.

- هل كنت تقرأ مواضيع معينه حيث كانت تقربك من الكتابة اكثر؟ ما هي؟

* قرأت في معظم المواضيع كما قلت لك.. اذا لم يكن في كلها. كنت في تلك الفترة نهمًا شديد النهم للكتاب وعوالمه الرحيبة. بيد أن القراءات الاساسية انصبت منذ البداية على الفن القصصي والروائي. صحيح انني قرأت الكثير في الشعر وعنه، إلا أن قراءتي الاساسية تمحورت في فن السرد. اعتقد أن هذا يعود إلى ثقافتي الاولى في القصة الشعبية. فقد بهرتني هذه الحكاية وما زلت مبهورًا بها حتى هذه الايام. مؤكد ان قراءاتي هذه قرّبتني من الكتابة.. لا سيما قراءتي المتجددة دائمًا للسفر الادبي الرائع "الف ليلة وليلة" وللكتب المقدسة كلها.

- كيف تقبّل المجتمع والعائلة موضوع كتابتك (في بداية مشوارك)؟

* قلت في اكثر من مقابلة وكتابة إنني نبتت في صحراء وانني اشبه ما اكون بنخلة نبتت من نواة القى بها مسافرٌ لاهٍ في عرض الصحراء وسمقت دون ري اوماء. لقد شققت طريقي بأظافري، مشيت على الاشواك وما زلت وسوف اواصل إلى ما لا نهاية. فقد وقر لدي انني صاحب رسالة وعلي ان امضي في طريق ادائي لها متحديًا كل العقبات والمصاعب. كان اهلي مهتمين بتوفير المطالب الاولية لنا. ولم يكن بإمكان احد أن يهتم بالآخر. حتى أن أمي رحمها الله عندما لاحظت مدى اهتمامي بالكتاب سألتني عن السبب فقلت لها اريد أن اكون كاتبًا، عادت تسألني عمّا اذا كنت اريد ان اكون كاتب عرض حال اساعد الاميين في كتابة رسائلهم، فقلت لها لا أنا أريد أن اكتب القصص عنك وعن عذابات كل ابناء الاسرة. فقالت والله ما انا فاهمة بس على الله يطلع من بيت المطبلين مزمر. عندما عُرفتُ كاتبًا واصبح اسمي يتردّد في المحافل العامة والخاصة زهت امي بي وارسلت نحوي نظرة ذات معنى مفادها.. الآن عرفت ماذا عنيت عندما قلت انك تريد ان تكون كاتبًا.. انني فخورة بك.

- اول كتابة لك نشرت في مجلة "الجديد" الحيفاوية. كيف تم هذا؟

* كان عنوان تلك القصة " الكلمة الاخيرة"، وكتبتها عن مدينتي، امي وحبيبتي، عبّرت فيها عن مشاعر وجلة بالمحبة لكل هؤلاء، بعد الفراغ منها شعرت أنني كتبت ما يستحق القراءة والبقاء، فأرسلتها إلى مجلة الجديد التي كانت آنذاك تصدر في حيفا ويحررها الشاعر سميح القاسم الذي سيغدو فيما بعد صديقًا غاليًا واعتز به وبصداقتي له، وفوجئت في العدد التالي بقصتي تنشر في موقع محترم من المجلة، عندها حملت المجلة وطرت إلى امي لأريها اياها.. فابتسمت دون ان ترد. كانت تلك القصة الاولى الحقيقية لي وقد مثّل نشرُها ذاك تحديًا ما زلت اعيشه كل ليلة وكل يوم واكاد اقول كل دقيقة وكل ساعة. فقد اشعرني نشرُ القاسم لتلك القصة انني اضحيتُ كاتبًا وانني ينبغي ان اتحمّل المسؤولية كاملة.. منذ ذلك العام حتى هذه الايام بإمكاني أن أقول إنني لا انام الا حينما يهدني التعب وتملؤني القراءة. يهمني أن اقول إن تلك القصة انطلقت من مشاعر انسانية صرفة لولد مهجر. وانها مثلت الانطلاقة لمفهومي القائم على العمق الانساني في كتابتي القصصية. وما زلت سائرًا على هدي تلك القصة وسأبقى. الكتابة باختصار تحولت مع مضي الايام الى قدر لا فرار منه إلا اليه. علمًا أنني لم أعد نشر قصتي الاولى تلك في كتاب.. حتى الآن.

- من أين استوحيت كتاباتك؟

* من الحياة بالطبع. فقد قُيّض لي أن أعيش واقعًا اشبه ما يكون بالخيال. في كل مكان حولي كنت اواجه قصة جديرة بالكتابة، بيد انني لم اتنازل ولا في اي من كتاباتي عن عنصر التخييل الذي يجعل العمل الابداعي ابداعيًا.. مهما استمد مادته من الواقع اليومي المعيش.. انني الآن وانا في هذا العمر المتقدم نوعًا ما في السنوات، الشباب إلى حد بعيد في المشاعر والاحاسيس، انظر إلى الوراء فأرى حياتي مجموعة من القص كل منها تأخذ بيد الاخرى وتمضي في طريقها باتجاه قصة في ظهر الغيب تريد الحضور بأسرع ما يمكن من وقت.

- هل ابطال القصص هي انعكاس لواقعك ام متخيلة؟

* ابطال قصصي يولدون من رحم الواقع ويشبّون في عالم الخيال.. اذ لا كتابة قصصية او شعرية.. وانا بالمناسبة شاعر أيضًا ، بدون خيال او تخييل، ولعلها مناسبة لأن اوضح أن من ينقل عن الواقع هو الصحفي وان مهمة الكاتب المبدع أن يعيد صياغة الواقع بعد وعيه به وامتلاكه له جماليًا.. أضيفي إلى هذا انني مؤمن أن التجربة الانسانية العميقة تختلف كثيرًا عن المُشاهدة التي يتصف بها الكثيرون. أنا كاتب يمر على الاشياء بعمق وتأمل ولا أمر عنها مرور الكرام.

- ماذا يميز قصصك عن باقي قصص الآخرين؟

*هذا السؤال يطرح قضية الاصالة والتجديد بكل ثقلها. ما يميز قصصي عن قصص سواي هو أن قصصي لها مساحتُها الخاصة بها كابن لعائلة من المهجرين. وأنها تنطلق من رؤية صادقة جدا. اؤكد اننا كلما كنا نحن بصدق وعمق كنا مميزين.. وأن التميّز لا يُقصد وإنما ينبع من اعماق رؤيتنا وفهمنا للعالم ولأشيائه المحيطة بنا. تريد أن تكون مميزًا باختصار؟ كن انت.. انت بكل ما لديك من صدق وعمق.

- ماذا تعني لك "سيرين" ؟

* إنها طفلة باكية في الخيال. احاول دائمًا أن أزيل دمعتها لكن دون ان افلح. طوال عمري وأنا احاول أن ابعث الفرحة الهاربة في عروقها.. وسوف اتابع إلى اليوم الاخير.. إنها مسقط راس الاحباء وهي مرابع الطفولة المتخيلة.. إنها جذوري وعالمي.

- ماذا تعني لك "الناصرة" ؟

* لأقل لك بداية إنني أحد العشاق المغرمين بهذه البلدة. انا لم اطلع منها ولم اغادرها طوال ايام عمري. ولي جملة اعتقد انها باتت معروفة هي:" انني صغرّت العالم حتى اصبح الناصرة وكبّرت الناصرة حتى اضحت العالم". الناصرة بالنسبة لي كما قال ناقد صديق تعتبر المكان البديل لسيرين الخالدة. كثيرًا ما قلت لمن التقيت بهم من ناس وطلاب إن العالِم الاغريقي القديم ارخميدس عندما سئل أين مركز الارض أجاب سائله هنا حيث اقف، وأنا لو سألني احدهم مثل هذا السؤال لأجبته هنا مركز الارض حيث اقيم في الناصرة. الناصرة بالنسبة لي ليست الطرقات والبيوت وإنما هي تاريخي الوجداني بكل ما حفل به من محبة وأمل. في كل من شوارعها واماكنها الخفية توجد ذكرى ومحبة. هي باختصار عالمي كله ولا اتصور العالم بدونها.. إلا خرابًا. وهي تقيم فيّ اكثر بكثير مما اقيم فيها.

- ما هو عدد قصصك التي كتبت حتى الآن؟

* لا اعرف. كتبت القصص طوال حياتي. ما يمكنني أن اقوله حاليًا هو أنني كلما جلست إلى حاسوبي لأكتب قصصي اشعر أنها المرة الاولى التي اكتب فيها.. وكأنما انا كاتب ما زال يتلمس طريقه نحو القصة الاحلى والاجمل التي لما يكتبها بعد.

- الراوي في القصص التي كتبت هي بلغة المتكلم "الانا"، لماذا؟

* هذا الكلام ليس دقيقًا فقد كتبت بمختلف الضمائر (قد يكون ابرزها المضارع)، كما كتبت بمختلف الاساليب بدءًا من اسلوب الحوار مرورًا بأسلوب السرد العادي انتهاء بأسلوب الرسالة. وقد وصفني الناقد الصديق الدكتور نبيه القاسم بأنني كاتب تجريبي وانا اعتز بانني كاتب تجريبي. اما فيما يتعلّق بضمير الانا فهذا يعود إلى سببين احدهما انه الضمير الاكثر حميمية والآخر انني عشت جرحًا ما زال مفتوحًا وسيبقى.. هو جرح التهجير القسري من سيرين الحبيبة.

 

حاورته: مي عودة

 

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيحوار فلسفي اجراه الباحث الاستاذ مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف

س1: مراد غريبي: في احدى مقالاتك الفلسفية تساءلت هل الوعي مادة؟ ما توضيحك الاجابة على هذا التساؤل.؟

ا. علي محمد اليوسف: هل الوعي يمتلك خواص المادة مثل الحركة والإمتداد والأبعاد ألثلاثة الطول والعرض والارتفاع واضاف انشتاين البعد الرابع الزمن؟ وهل تمتلك المادة خاصية التفكير الواعي منفردة على خلاف خاصية تفكير الوعي في تعبير اللغة عن مدركات العقل المادية ؟ هل المادة عقل مفكر ذاتيا يعي تفكيره؟ وهل الفكر جوهر مادي مستقل عن منظومة العقل المتعالقة بإدرك الموجودات؟ وبأي وسيلة تعبير تمتلك المادة الإفصاح الإستدلالي عن وجودها الانطولوجي دونما إدراك الوعي العقلي لها في غيردلالة اللغة؟. (نقصد بالمادة هنا كل موجود غير عاقل يمتلك صفات وماهية المادة كمتعّين أنطولوجيا يدركه العقل الانساني ولا يدرك هو العقل).

لقد "وضع هوبز النزعة الآلية في الإمتداد، وأضاف جوهرا آخر للمادة هو التفكير لكي يفسح في المجال لوعي الانسان الذاتي، وجعل من هذين الجوهرين – يقصد المادة والوعي -  يعتمدان على الله " .

س2. مراد غريبي: اذن بماذا تحدد انت الاجابة على التساؤلات التي طرحتها؟.

ا. علي محمد اليوسف: الوعي ليس مادة بالمعنى الحسّي المتعين أنطولوجيا بل هو ادراك معبّر عنها، وصفات ألإمتداد والحركة الآلية في المادة لا غبار عليها،والوعي لا يمتلك خواص المادة ولا صفاتها بإستقلالية عن منظومة العقل الإدراكية من ضمنها تعبير اللغة، ولكي يكون الوعي متعّينا مدركا أنما يكون في إمتلاكه قابلية التحول من موضوع لافيزيائي الى لغة تعبيرفيزيائي في التفكير بشيء مادي أو بموضوع خيالي.وإلا أصبح الوعي من إفصاحات النفس تجريدا التي هي ليست موضوعا مدركا بإستقلالية عن العقل.بل النفس مفهوم سلوكي بتعبيرلغة العقل عنه. بمعنى لكي يكون الوعي موضوعا مدركا عقليا علينا ربطه باللغة في موضعتهما ألاشياء التي يعبرّان عنها. وبغير تلازم الوعي مع لغة التعبير لا يبقى وجود له في عالم الموجودات الخارجية في التعبير اللغوي المتموضع معه الوعي في كل شيء يدركه العقل بوعيه فيه وتعبير اللغة عنه. وبغير هذا التلازم بين الوعي واللغة وبين الوعي والعقل يكون الوعي صمتا تفكيريا بألذهن داخليا استبطانيا فقط. بعبارة ثانية الوعي هو تموضع لغوي صامت في التعبيرخارجيا عن مدركات العقل، واللغة تموضع إفصاحي عن مواضيع إدراك الوعي لها. الوعي حلقة ضرورية داخل منظومة ألإدراك العقلي لا يمتاز بخصائص المادة ولا يمتلك خاصية أن يكون موضوعا تجريديا أو ماديا يدركه العقل.

س3: ا. مراد الغريبي: كيف يكون الربط بين علاقة تجريد كلا من الوعي واللغة ببايلوجيا العقل؟

ا. علي محمد اليوسف: الوعي حلقة تجريد يمتاز بها العقل ويمارسها وسيلة تجريد معرفية شأنه شأن اللغة، وليس الوعي جوهرا ماديا مستقلا ذاتيا ايضا. فكلاهما الوعي واللغة حلقتان تجريديتان في منظومة العقل الإدراكية. وكما لا يستطيع العقل جعل اللغة موضوعا مستقلا في إدراكه لها دونما أن تكون اللغة تعبيرا عن موضوع مدرك، وكذا يعجز العقل أن يجعل من الوعي موضوعا يدركه بإستقلالية لوحده خارج منظومة الإدراك. الوعي أو اللغة تجريدان تعبيران يرتبطان بعملية الإدراك العقلي ولا قيمة لهما في إستقلاليتهما عن موضوع مدرك. بمعنى لا يمكن للعقل أن يدرك الوعي أو اللغة تجريدان مستقلان من غير تعالقهما بمعنى قصدي يلازمهما.

ولا يكون الوعي موضوعا مستقلا لإدراك العقل له، فالوعي شأنه شأن الزمن ليس موضوعا لإدراك العقل بل وسيلة إدراكه لمواضيعه، كذلك اللغة هي تجريد تعبيري للعقل لكنها ليست موضوعا مستقلا في إمكانية إدراكها مجردة عن موضوع يلازمها، وعندما نفكر بشيء ما أو موضوع ما فنحن نفكر به لغويا تجريديا –  وتموضعيا ماديا، أي بمقدار ما تكون اللغة تجريدا في تعبيرها الفكري عن الاشياء بمقدار ما تكون جزءا متموضعا ماديا في التعبير عن تلك الاشياء كموجودات تحمل لغة إفصاحاتها معها.. اللغة ليست خاصية الفكر التجريدي في التعبير فقط بل هي لغة تمثل جزءا متموضعا في كل شيء يدركه العقل. اللغة ليست إدراكا تجريديا فقط وإنما هي صفة ملازمة للاشياء التي يدركها العقل ليس بلغته بل في إكتشافه تموضع اللغة بها ويقرأها العقل وعيا تجريديا لغويا في انطولوجيا الموجودات المدركة..

وحينما يدرك الوعي العقلي المادة كتجريد لغوي فهو يكتسب خصائص الموضوع المادي المدرك المنفرد بلغة الذهن الصامت. بمعنى الوعي لا يكون ماديا حسّيا في تعبيره اللغوي عن الاشياء وأنما يبقى الوعي تجسيدا لغويا تجريديا في التعبير عن مدركات العقل المادية والخيالية. الوعي أكثر تجريدا صامتا من تجريد اللغة الصامتة والإفصاحية معا، كون الوعي فهم معرفي صامت وليس تعبيرا إدراكيا تصوريا مثل اللغة يمكن معرفته من خلال تعبيره عن موضوعه الذي يجري التفكير فيه ويعيه العقل.. وفي كل هذه الخصائص التي نتصورها خطأ أنها مستقلة عن بعضها في الوعي واللغة إلا أن حقيقتهما البايولوجية جوهران ينتظمهما ألإدراك العقلي.

وحينما يعي الوعي ذاته بمعنى حينما يعي الانسان وعيه  لذاته فهذا لايخرج عن أصل التعبير في معنى مرادف هو إدراك العقل لذاته كموضوع الذي هو ماهية الانسان الفردية التي لايدركها سوى صاحبها، في مطابقة الوعي المجرد مع كينونة العقل الفيزيائية التجريدية لغويا في تعبيره عن مدركاته وفي تعبيره الواعي عن كينونته الذاتية. وفي كلتا الحالتين لا يكون الوعي موضوعا منفصلا لإدراك العقل بل وسيلة إستدلالية له في معرفته الاشياء. الوعي لغة عقلية صامتة واللغة وعي ناطق في تعبيرات العقل عن مدركاته.

س4: ا. مراد غريبي: هل تجد هناك موضعة تكوينية للوعي في المادة المدركة؟

ا. علي محمد اليوسف: ليس هناك من علاقة إدراكية حسّية ولا حتى علاقة تخييلية ميتافيزيقية، تربط بين (المادة والوعي) في أمتلاكهما خاصية الحركة والامتداد والأبعاد الثلاثة لكل مادة . فالمادة والوعي جوهرين متكاملين في وظيفة الإدراك العقلي لكنهما جوهرين منفصلين كموضوعين في إدراك العقل لهما كماهيتين منفصلتين. ولا يمتلكان(المادة والوعي) الإستقلالية التأهيلية الإنفصالية أحدهما عن الآخر ليدخلا في علاقة معرفية وإدراكية مع الله كما ذهب له هوبز. إختلاف المادة عن الوعي أنها تمتلك صفاتها الانطولوجية كمتعيّن مادي يدركه العقل، وهذا ما لا ينطبق على الوعي كونه غير مادة لذا فهو ليس موضوعا مستقلا في إدراك العقل له.فأينما وجدت المادة وجد الوعي الملازم لها في إمكانية إدراكها. وهناك فرق جوهري كبير بينهما سبق لي ذكره هو أن المادة تكون موضوعا للعقل بينما لا يكون الوعي موضوعا مدركا للعقل، لذا فالحركة والامتداد والأبعاد الطول والعرض والارتفاع والزمن ألإدراكي لها هي صفات للمادة فقط ولا تكون صفات ماهوية أو خصائصية للوعي الذي هو تجريد لا مادي حاله حال اللغة والزمن كمفهوم مطلق في تعبيره عن الشيء وهو ليس جزءا مدركا يلازمه.

التفكير ليس آلية خاصية تمتلكها المادة أية مادة، فالمادة لا تفكر نتيجة الوعي الإدراكي العقلي لها الذي هو جوهر لغوي تجريدي لا مادي، بل الوعي ينوب عن لغة تفكيرالعقل في موضعته الاشياء المادية ويبقى إدراك اللغة المتموضعة بالشيء تجريدا تفكيريا للعقل وتبقى المادة وجودا أنطولوجيا في ذلك الإدراك مستقلة وجودا. بمعنى لا توجد خصائص معينة تجمع المادة بالوعي على أنهما جوهرين غير منفصلين وليسا جوهرين متداخلين داخل منظومة العقل الإدراكية الواحدة.

س5: ا. مراد غريبي: هل تنطبق صفات المادة التمدد والحركة والتقلص على الوعي ايضا مع فارق التجريد بينهما في تعبير اللغة عنهما؟

ا. علي محمد اليوسف: صفتا الحركة والامتداد اللتان تمتلكهما المادة كجوهر، لا يمتلكهما الوعي كتفكير مجرد في تعبير اللغة عن مدركات العقل إلا فقط بإرتباط الوعي بموضوعه المادي ويكتسب منه الحركة والإمتداد بتجريد منفصل عنه.. وهنا يكون الوعي الملازم لإدراك الشيئ في مجمل تحولاته وتغييراته هو (زمن) إدراكي ملازم للشيء بفارق أن الوعي زمن مفارق لموضوعه بعد الإدراك العقلي له بخلاف الزمن الذي يلازم الموجودات ولا ينفصل عنها إلا بوسيلة واحدة حينما يكف العقل عن إدراك شيء يكون إستغنائه عن زمن إدراك ذلك الشيء قائما بالإنفصال عن العقل وليس بالإنفصال الزمني عن الموجودات المادية، الزمن ملازم دائم للاشياء فكل مدرك مكانا هو مدرك زمانا وبغير هذا التعالق الزمكاني لا يقوم العقل بوظيفة إدراكه الاشياء، ولا يكون الزمن ملازما العقل الا وقت حاجته إدراك الاشياء، لذا فالانسان يكون متحررا من سطوة الزمن الإدراكي عليه في حالة اللاشعور وفي أثناء النوم.

وعندما نؤشر على وجود شيء أنما يكون تأشيرنا مرادفا متعالقا مع زمن إدراكنا له، في حضور الوعي معه زمنيا إدراكيا. الوعي بالشيء مرتهن بملازمة زمن الإدراك لذلك الشيء،  والزمن  يلازم العقل في حضوره الإدراكي فقط ويلازم الشيء مكانا في كل الحالات وجميع الإنتقالات والسيرورة والحركات. وجود الشيء هو زمن وجوده الانطولوجي، بينما الوعي تعبير لغوي صامت لا علاقة مركزية دائمية تربطه بالتبعية بالشيء المدرك خارج تبعيته لمنظومة العقل الإدراكية..

أما أن يكون الوعي منفردا بأستقلالية  كجوهر ميزته حركة أمتدادية في الاشياء فهذا ما لا يقبله علم وظائف وفسلجة الاعضاء كون الوعي هو حلقة غير منظورة ولا محسوسة ولا تمتلك إستقلالية تفكيرية دونما إرتباطها بمنظومة العقل الإدراكية في معرفة الاشياء والتعبير لغويا تجريديا عنها.. فالوعي يبقى حلقة تجريدية تفكيرية لا مادية يتوسط الحواس والذهن ولا يمتلك الاستقلالية ولا قابلية أن يكون موضوعا مدركا انطولوجيا متعينا بأبعاد المادة مثل الحجم والكتلة والارتفاع والطول والعرض وحالات المادة الصلابة السيولة والغازية وغيرها من خصائص مادية ممكن إدراكها بالحواس.

س6: ا. مراد غريبي: ما علاقة الوعي الذاتي بالمادة؟ وهل الوعي تخليق عقلي ام تخليق انطباعات الحواس؟

ا. علي اليوسف: علاقة الوعي بالمادة علاقة ادراكية هي من تخليق الدماغ وليست من تخليق الحواس. الوعي ليس انطباعات مصدرها الحواس في علاقة ارتباطها بالذهن، بل الوعي ناتج ردود الافعال الارادية التي يصدرها الدماغ في تفسيره لمدركات الحواس.

والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته الأنوية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود أنطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الأشياء والموجودات الخارجية والمحيط.

الوعي الذاتي هو جزء إدراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، إلا في إرتباطه كحلقة في منظومة الإدراك العقلي، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها... فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت.

س7: ا. مراد غريبي: قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزّعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الإدراك العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها "كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والإمتداد مجرد صفتين له." ما تعليقك على ذلك؟

ا. علي محمد اليوسف: في تعبير سبينوزا الذي ذكرته نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالإدراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجده عند الصوفية الدينية في شخصنتها الذات الإلهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الإلهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله -  قوانينه الخاصة به في قدرته تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الإلهية المعجزة في أعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الإعجاز الإلهي مثلما يقف أمامها عجز الإدراك الانساني لها. ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق في إمتلاكه صفتين هما (الفكر والامتداد) اللتين هما صفتين ماديتين تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة بإستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات. من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الإلهية انه يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها بإستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.

سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة . سبينوزا في مذهب وحدة الوجود أراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالإنصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الإلهية من خلال الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية لا علاقة لأي شيء مادي محسوس بها.

بمعنى لا تمتلك المادة خاصية الفكر بأستثناء أمتلاك عقل الانسان قابلية التفكير اذا ما أعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركات العقل.. الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الإدراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والإمتداد موفقا مقبولا، فالإمتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الإمتداد والحركة المادية وهو ليس مادة؟ نجد عند عديد من الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المأزق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.

س8: ا. مراد غريبي: منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة أهتماما أستثنائيا في أعقاب أطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في أمتلاك الوعي الفردي القصدي لمعرفة الذات .. هل تحدثنا عن هذه الاشكالية الفلسفية وكيف نشات وتطورت؟

ا. علي محمد اليوسف: في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف  برينتانو بمقولته (أن اللاوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثيرهذه العبارة على جون سيرل لاحقا..ليعقب – برينتانو -  تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى أدراك الذات على أنها أشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الادراك بلوغه.. وبذلك تأثر تلميذه من بعده، هيدجر في أعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وأنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود..وخروج سارترلاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه..وغيرهم

س9ا: ا. مراد غريبي: كيف انتقل مبحث الوعي القصدي الى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وسيلارز، ورورتي وغيرهم، من اقطاب فلاسفة العقل واللغة؟

ا.علي محمد اليوسف: مبحث الوعي القصدي كان مثار اهتمام الفلاسفة قرونا طويلة، وكان التهيب من الخوض به هو الدخول في نفق ميتافيزيقي. مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى التي ركز على هذه الاخيرة بتطرف فلسفي كلا من امبرتو ايكو في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية. ما جعل الفلاسفة الاميركان يستضيفون الفلاسفة الفرنسيين والالمان من هواة فلسفة اللغة ويستلموا الراية منهم. يذهب سيرل أنه أستنادا الى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية يوجد فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا أدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على أفتراض عدم وجود الارقام.

هذا المعنى الفلسفي كان مثار جدال حاد جدا بين الثلاثي جون لوك، ديفيد هيوم، وبيركلي، وقد تناولت اشكالية الادراك الانطولوجي في مقالتي المنشورة بعنوان (اشكالية الادراك: الاصل والصورة). وليس هنا مجال البحث في تفاصيلها لأنها تحتاج شرحا مطولا.

س10: ا.مراد غريبي: هل الوعي يرتبط بعلاقة تجريدية مع الادراك ام بعلاقة عضوية بايولوجية مصدرهما منظومة الدماغ؟ ولمن تكون الاسبقية للادراك ام للوعي؟

ا. علي محمد اليوسف: بالحقيقة السؤال معقد ويحتاج عرضا توضيحيا يقوم على الثوابت التالية:

- الادراك الحسي لانطولوجيا الوجود يسبق تشكيل الوعي عنه.

-  الادراك يرتبط بعلاقة تجريدية بالوعي.

- باستثناء الحواس والجهاز العصبي والدماغ لا توجد مفردة واحدة إدراكية ترتبط بهذه المنظومة لا تكون تجريدا مصدره الدماغ عضويا.الذهن، الانطباعات، الادراك، الوعي، الذاكرة، المخيلة جميعها مفردات تجريدية مصدرها منظومة العقل الادراكية ومركزها الدماغ.

- صحيح جدا ان هذه المفردات التي مررنا بها تجريد عقلي وظائفي لكنه لا معنى لواحدة منها ولا لاكثر من واحدة منفردة قيمة يعتد الاخذ بها ما لم تكن مرتبطة بمنظومة الادراك العقلي ومركزها الدماغ والخلايا العصبية المليونية المختصة بكل واحدة من هذه المفردات الادراكية المجردة.

- يوجد إختلاف ليس بالبسيط بين فهم الفلسفة لهذه العلاقة الاشكالية وبين المنظور العلمي التخصصي التجريبي في معرفة وظيفة الخلايا الدماغية المسؤولة عن كل مفردة من هذه المفردات التجريدية.

- ترتبط هذه المفردات التجريدية فيما بينها بصيغة التكامل الوظيفي الادراكي ولا يمكن ان يكون هناك قيمة لواحدة منها لا ترتبط مع غيرها. بمعنى لا وجود لذهن بغير حواس، ولا وجود لادراك من غيرمادة او موضوع، ولا معنى لخيال لا يرتبط بمخيلة، ولا معنى لذاكرة من دون استرجاعات تذكرّية وتداعيات فكرية وهكذا.

س 11: ا. مراد غريبي: هل تجد ان ادراك الشيء هو غير الوعي به وغير معرفته؟

ا. علي محمد اليوسف: في عبارة لجون سيرل أن أدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للادراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الادراك الحقيقي المباشرله، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الاحساسات المنقولة الى الدماغ بزمن أدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الادراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الادراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا،أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا أسترجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء.. وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك أدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى ألادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر أدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع أدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع أشباعات بيولوجية خالصة..ويوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي.. فالادراك المعرفي هو معرفة العالم الخارجي كوجود انطولوجي، والادراك الاستبطاني الداخلي فهو يتمثل بردود الافعال لمثيرات أجهزة أحاسيس الانسان الداخلية في اشباع حاجات الانسان الغريزية مثل الحاجة للاكل والحاجة للنوم او الحاجة للجنس وهكذا، وتدخل مواضيع الادراك الخيالية في تلبية اشباع رغبة استبطانية تراود الانسان اشباعها.

س12 : ا.مراد غريبي: ذكرت انه جرى احتدام شديد بين كلا من بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم حول مسالة الادراك والوعي، علما ان ثلاثتهم ينتمون الى المنطقية المثالية التجريبية. هل من اعطاء لمحة سريعة حول الموضوع؟

ا. علي محمد اليوسف: أننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في أعتبارهم موضوعات العالم الخارجي ما هي سوى أنطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه العقل ونظام السببية معتبرا أياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة.. ليصبح التكرارعادة وليس سببا لنتيجة.

وينتقد جون سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا( في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي – نسبة الى هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية).

والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني يتم داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة او المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في أعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية....أشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في أختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو أغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في أنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل أنعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء في أنتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما..ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكرأنساني...

لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه.... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي في الواقع تجربة الادراك.

 يتبع في ج2

 

 

2814 رانيا عدليفي التاريخ عبرة وعظة وفكرة ومنهاج، البحث فيه شاق، ولابد لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يتسلح بأدواته التي تعينه على البحث والاستقصاء في التاريخ، وأول هذه المقومات أن يكون محايداً وموضوعياً ومتجرداً من الأهواء والعواطف والميول الذاتية، ويتميز المؤرخ باستقلال شخصيته وعدم تسليمه الكامل بكل ما يقرأ ويطلع عليه من وثائق وأوراق، والمشقة تزيد عندما يقرر المؤرخ أن يكتب لعامة المثقفين والقراء العاديين، ويبذل في هذا قصارى جهده ويضهم المادة التاريخ ويقرأها مرات ومرات حتى تستوى إليه، ثم يبرزها للمتلقي في لغة جامعة مانعة، مع الحفاظ على الصدق والحقيقة التاريخية.

وفي السطور التالية نلتقي مع الباحثة رانيا عدلي؛ التي تنتمي إلى مؤسسة عريقة هي مؤسسة الأزهر الشريف، فدرست العلوم العربية والإسلامية والتي تخّدم على مجال التاريخ، فتكّون لديها زاداً كثيراً أعانها على كتابة الفصول التاريخية فيما بعد، ووقعت في حب الأندلس، وهو حب سيطر عليها وطغى منذ أن كانت في المرحلة الثانوية وعندما التحقت بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، اختارت مجال التاريخ، ولما حصلت على الليسانس لم تكتف بهذا القدر من التعليم ولكنها أكملت دراساتها العليا في مجال التاريخ الأندلسي، وحصلت على الماجستير، وهي الآن باحثة دكتوراه، وخلال رحلتها القصيرة أمدت المكتبة العربية بالعديد من الكتب التي تماست مع شريحة كبيرة من القراء فأقبل الناس علي هذه النوعية من المؤلفات، يدفعهم شوق إلى الأندلس "الفردوس المفقود" وحاضرته الزاهرة مدينة قرطبة، مشعل التنوير في أوربا كلها في العصور الوسطى، ثم انتقلت لتحدثنا عن "رجال صنعوا التاريخ الأندلسي" على مدار ثمانية قرون في هذه الجنة الوارفة التي مازالت تعبق بعطر الحضارة الإسلامية المعطاة، رغم ما بذله الإسبان من الجهود المضنية في اقتلاعها على مدار خمسائة عام وخاب سعيهم، وختمت الثلاثية الأندلسية مع مملكة غرناطة، أخر معاقل دولة المسلمين في الأندلس والتي استمرت قرابة قرنين ونصف فكتبت "الوراقة والوراقون ومجالس الآمالي ودورها في الحياة العلمية بغرناطة"، ولم تنس المشرق الإسلامي في خضم هذه الرحلة، فكتبت كتاب "دروب ومسالك"، حيث تحدثت عن عدد من أعلام المشرق الذين كان لهم بصمة واضحة في ازدهار الآداب والعلوم الإسلامية من أمثال: الجاحظ، وابن خلدون، وفي جعبتها الكثير فهي مشعل نشاط، ولديها الكثير من المشروعات في قابل الأيام والشهور...

ولع بالأندلس..

* متى بدأت رحلتك مع الأندلس ولماذا اخترت مجال الإبداع مع انك باحثة بالأساس؟

2815 قرطبة- الولع بالتاريخ الأندلسي بدأ منذ كنت في المرحلة الثانوية، كان أحد البرامج التلفزيونية يتحدث عن التاريخ الأندلسي، من يومها أحببت القراءة والتعمق في هذا التاريخ، ولكن لم يتثنى لي القراءة والتعمق فيه إلا عقب دخولي الجامعة، حيث اخترت الانتساب لكلية الدراسات الإنسانية - قسم التاريخ، وعقب انتهاء المرحلة الجامعية اخترت الانتساب لتخصص التاريخ الإسلامي باعتبار أن التاريخ الأندلسي ينضوى تحت لواءه، ثم كانت رحلتي في رسالة الماجستير في التاريخ الأندلسي، وكذلك الدكتوراه التي ما زلت بصدد العمل عليها

*هل الإبداع والبحث العلمي وجهان لعملة واحدة أم بينهما تضاد؟

- الكتابة الأدبية أو ما تطلق عليه حضرتك الإبداع يختلف بكل تأكيد عن الكتابة الأكاديمية ممثلة في منهج كتابة البحث العلمي، ووجه الاختلاف بينهما أن الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية غالبا لا يقرأها إلا المتخصص أو من يرغب أن يتخصص في التاريخ، وذلك نظرا لصعوبة أسلوبها بالنسبة القارئ العادي وغير المتخصص، أما الكتابة الأدبية فالهدف منها أن يستطيع كل شخص أيا كان تخصصه قراءة التاريخ والاستفادة منه والاستمتاع بالتعمق فيه، ونظرا لذلك تأتي الكتابة الأدبية مبسطة قدر المستطاع مع عدم إغفال ربطها بالواقع الذي نعيشه، لأن في النهاية إن لم يكن الهدف من قراءة التاريخ: الاستفادة والتعلم من تجارب من سبقونا فهذا يعني أننا نضيع وقتنا وجهدنا فيما ليس منه فائدة ولا من ورائه طائل..

* قرطبة.. لماذا قرطبة بالذات؟

- لم يكن كتاب "قرطبة عروس الأندلس" هو العمل الوحيد عن الأندلس، بل سبقه كتاب "رجال صنعوا التاريخ" وهو يتحدث عن مجموعة من حكام الأندلس الذين كان لهم بصمة واضحة في صناعة التاريخ الأندلسي، وشمل الكتاب الإشارة إلى إيجابيات وسلبيات كل شخصية من شخصيات هؤلاء الحكام .. أما كتاب "قرطبة عروس الأندلس" فهو بداية للحديث عن المدن الأندلسية باعتبار إن قرطبة كانت عاصمة الخلافة في الأندلس، بمعنى هذا لا يمنع أن كان في العمر بقية سيكون لي بإذن الله جل وعلا أعمال تتحدث عن المدن الأندلسية الأخرى، مثل غرناطة، وإشبيلية، وطليطلة وغيرها.

* من قدوتك في هذا المجال؟

- أساتذتنا الأفاضل الذين تتلمذنا على مؤلفاتهم مثل د. محمد عبد الله عنان صاحب الموسوعة الزاخرة دولة الإسلام في الأندلس وغيرها من الدراسات الأندلسية الرائدة ود. حسين مؤنس صاحب المؤلفات القيمة والتي لا زلنا وسنظل لا غنى لنا عنها في أي دراسة أندلسية، مثل "فجر الأندلس"، و"معالم تاريخ المغرب والأندلس" وغيرها من المؤلفات ود. الطاهر مكي، ود. أحمد مختار العبادي، و د. عبد الرحمن الحجي وغيرهم من القامات العلمية التي كانت لها بصمة واضحة وبارزة ولا زالت بصمتها موجودة عن طريق ما سطرته يداها في التعريف بدقائق التاريخ الأندلس.

* اقصد من مبدعي الرواية التاريخية؟

- أنا لم أكتب في الرواية التاريخية، أعمالي كتب تاريخية بصياغة أدبية وليست أكاديمية حتى يستطيع فهمها واستيعابها ومن ثَمَٰ يستفيد منها أي شخص أيا كان مجال تخصصه، بمعنى الهدف من أعمالي هو انزال التاريخ لأرض الواقع، وذلك عن طريق ربطه بالواقع الذي نعيشه، حتى لا تكون قراءة التاريخ مجرد المباهاة بأننا نعرف قصة هذا الأمير أو ذاك، أو نعلم تاريخ هذه البلدة أو تلك، كما أنه ليس الهدف من قراءة التاريخ هو البكاء على اطلال ماضي عفى عليه الزمان، وإنما الهدف من دراسة الماضي بالدرجة الأولى هو فهم واستيعاب الحاضر ومن ثَمَٰ استشراف المستقبل

*هل تنوين الكتابة عن جغرافيا أخرى من حقب التاريخ؟

- نعم وبدأت ذلك بالفعل، حيث أن كتابي "دروب ومسالك" الصادر عن دار كتوبيا للنشر والتوزيع في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021 أول عمل لي يحلق بعيدًا عن الأندلس، حيث يتحدث عن عدد من أعلام المشرق الذين كان لهم بصمة واضحة في ازدهار الآداب والعلوم الإسلامية مثل، الجاحظ، وابن خلدون، وسيكون هذا العمل بداية لسلسلة تتحدث عن أعلام المسلمين في المشرق بإذن الله جل وعلا.

 

أبوالحسن الجمال

 

 

3187 نجاح ابراهيم وعصام شرتحناقدٌ يمتلك من الوعي الجمالي، والحساسية الجمالية الكثير، وعلى رأس ذلك يمتلك الخبرة الجمالية التي تعدُّ أس القيم، الواجب توفرها في الناقد المؤثر. أتابعه كما غيري من المهتمين بالنقد الجمالي، فأجدُ خبرته الجمالية تتنامى شاقولياً وتتطور حتى لترقى زقورات عالية. إنه مصنع جمال بحد ذاته، لا يأنف من التجريب والممارسة والمتابعة في ملاحقة كل ما هو جديد ضمن دائرة الابداع النقدي إنه الدكتور عصام شرتح، العاكف في عرزاله على نسج الدراسات الجمالية في الشعر. ولا يخفى على أحد اصداراته في النقد الجمالي والتي فاقت على التسعين مؤلفاً أذكر منها: فتنة الخطاب الشعري عند جوزيف حرب- الفكر الجمالي في قصائد أولئك أصحابي- فتنة الازاحة في النص الحداثي... يشوقني الإبحار في عالم النقد الجمالي مع قامة إبداعية سورية تجاوزت الحدود الجغرافية

س1- نبدأ من مؤلفاتكَ النقدية في شقّها الجمالي، ما هي أهم المؤلفات الجمالية التي صدرت لك؟ والتي شكّلت منعطفاً مهماً في تجربتك النقدية في شقّها الجمالي؟

ج1- النقدُ كما تعرفين مناهجٌ ومدارس، ولكلِّ منهج طريقة، ولكلِّ مدرسة أسلوبها الخاص وطريقتها الخاصة في الكشفِ الجمالي، وأنا في بحثي عن الجمال كان منطلقي الأساس الكشفَ الجمايَّ الذي هو كشف عن كلِّ مظاهر الإبداع المثيرة في النصّ، وقد وجدتُ في علم الجمال العلمَ المثيرَ الذي يكشفُ عن خصوصية التجارب الإبداعية في شقّها الجمالي، وقد انطلقتُ في كشوفاتي الجمالية من خبرتي الجمالية التي امتدتْ قرابة عشر سنوات أصدرت خلالها الكتب التالية: علم الجمال الشعري، 2018- الصادر عن دار الخليج الأردن. المكونات الجمالية في شعر الحداثة، 2020- الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر. الشعرية بين فعل القراءة وآلية التأويل، 2018- دار الخليج للنشر، عمان، الأردن. حداثة الشعرية، 2018-النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد(222). توترات النص الشعري ( قراءة جمالية في شعرية النص)، 2020- دار الخليج، الأردن، ط1. هذه المؤلفات تبيّن حجمَ الجهد النقدي المبذول في الجانب التطبيقي لشعر الحداثة بين جماليةِ الأسلوب وجماليةِ الرؤية

س2- ترى ماقيمة هذه الدراسات من وجهة نظرك؟

 ج2- قيمة هذه الدراسات نابعة من الفكر الأسلوبي الجديد في النهج الإبداعي، ناهيك عن تعدّد الأساليب البحثية في تناولِ النصِّ، وهذا يعني أنَّ الكشوفات النقدية المتتابعة وراءَ هذا الجهد الإبداعي في الاختيار والكشف، واستخلاص الأحكام النقدية.

س3- كيف تنظرُ للحركة النقدية في سوريا في هذا الزمن العصيب والظروف التي تعيشها بلدنا؟

ج3- النقدُ يَضمرُ كباقي القوى في الحياة إن لم يمارسْ نشاطه، والنقد - بطبيعته بحاجة بالإضافة إلى الموهبة- يحتاجُ إلى جدية الكشف والبحث والرؤية العميقة، وهذه متطلبات لا يستطيعها كلُّ ناقد؛ وهي لا توّرث، ولا يمكن أن يمتلكها الناقد بسهولة، وأكبر مأزق عاشه النقادُ في سورية هو الانقطاع، والانقطاعُ الذي يدومُ سنوات يجعلُ الناقد يتراجعُ كثيراً ومستواه ينحدرُ ويتدهورُ، وهذا ما واجهه النقدُ والنقاد، وطبيعي حيال هذا الانقطاع أن يغيبَ النقد، وتغيب معه الأسماء اللامعة.

س4- كيف ترى واقعَ الشعرِ الراهن في سوريا تحديداً؟

 ج4- حالُ الشعرِ ليس أرقى حالاً من حالة النقد، ليس من ناحية الكمِّ، ولكن من ناحية الكيف، لقد زادَ الإنتاج الشعري ومعه زاد الإفلاس الشاعري، أي ضعفت الجودة والفنية واللذة الإبداعية، ومن هنا، ارتدَّ النقاد إلى النماذج الشهيرة ليلتقطوا بعضَ الجماليات من قصائد ما قبل الأزمة، بحثاً عن الجمالية، طبعاً هذا الحكم يخصُّ الغالبية لا الجميع، فثمة استثناءات ومواهب فردية لا تعكرُها الأزمنة، وهي تقفزُ فوقَ حاجز الزّمن والواقعي والرّاهن، وهذه المواهب نادرة إذا ماقيست بالتجارب اليومية التي تنشر كل ما هو دوني، أو يقعُ ضمن دائرة السرد الممطوط ولغة القصِّ التي دخلتْ النّهج الشعري وليست من الشعرية في من أيِّ جهة أخرى.

س5- لقد هاجمت الكثير من الأسماء الشعرية التي تركت إرثاً شعرياً حافلاً، هل نفهم من هجومك هذا استفزازاً للقارئ أم استفزازاً للجمالِ ليس أكثر؟

ج5: النقدُ أمانة ورسالة، والناقدُ هو رسولُ الإبداع، وهذا الرّسول غايته إيصال رسالته التي تنيرُ، وليس الرّسالة التي تظلمُ أو تعمي. من السهل التمجيد وقد ألِفت أذواقنا العربية على التمجيد كثيراً، وإنَّ أي نقدٍ يطالُ الشاعر لاسيما إذا كان النقد سلبياً فهو نقدٌ باطلٌ، أو غير مؤهل للاستماع له، وأخذه بعين الاعتبار. بصراحة الشعوب العربية قاطبة لا تتقبل النقد إلاَّ بجانبه التمجيدي أو الإطرائي، تتقبل النقد الذي يطري، النقد الذي يصبُّ في خانة تمجيدِ الأنا الشاعرة، وهذا نقدٌ مميتٌ للشاعر، وقتل لبذرة الجمالية التي يمكنُ أن تولد وتظهر في مرحلة ما من مراحل الحياة المستقبلية، النقد التمجيدي هو المبيد للجمالية التي يمكنُ أن تظهرَ في نتاج الشاعر في مراحل قادمة.

س6- حسناً ماهو النقد الحقيقي والمثمر برأيك ؟

ج6- النقد الحقيقي هو النقد الذي يبحثُ عن الجمال ويؤسسُ له، فإنْ غابَ الجمالُ في النقد غابَ النقد كفنٍّ وإبداعٍ جمالي، لأنَّ النقدَ الحقيقيَّ هو النقد الذي يؤسس للجمال في الحكم النقدي. وكلُّ نقدٍ توصيلي ليس إلاَّ.. يمكنُ أن نطلقَ عليه ( هوامش نصية) يبتعد كلَّ البعد عن النقد، النقد هو هدم وبناء وتركيب، وليس استجماماً أو رحلة ترفيه، ومن هذا المنطلق يختلفُ النقد المؤسس عن النقد الغوغائي الفانتازي الذي يضخّم الأشياء ولا يقف على تفاصيلها وحقيقتها التي تنطوي عليها.

س7- لم تتطرق إلى سؤالي عن هجومك للبعض من الشعراء الكبار ؟

ج7- لم يفتني ذلك، سأجيب لا ريب.. هجومي على بعض الشخصيات الشعرية المهمة كمحمود درويش والماغوط وأدونيس، وغيرهم، أنا لا أنكرُ إبداعهم في مرحلةٍ من المراحل، وإنما أستهجنُ بعض كتاباتهم النثرية التي يطغى عليها طابعُ السّرد الممطوط الذي يخلو من الشعرية، أستهجن النصَّ الذي تغيبُ فيه الجمالية، وأكره النصَّ الذي يخلو من الانزياحات الفنية الصادمة، أنا مع النصِّ الذي يحرّك في نبضي الشعرية، وأنفرُ من النصِّ السردي الممطوط الذي يشبه القص، أو العمل القصصي؛ إن كل من نادى بالسردية في الشعر؛ واستحسن هذا الأسلوب، وشجع على إقحام النثر السردي بالشعر دمر الأصالة والفن في الشعر؛ فلا قيمة للسرد شعرياً إن لم يتضمن انزياحات فنية تصويرية شائقة، وللأسف استغل الكثيرون السرد بالمجان، واستسهلوا الكتابة؛ فصارت هذه التقنية السم الزعاف في قتل الشعرية؛ ولا يخلو شعر أدونيس، والدرويش، والعدوان، من هذا النهج في بعض قصائدهم؛ مما جعلني أعيد النظر في شعرية هؤلاء الشعراء بعدما وجدت هذا الاستسهال في تقنية السرد الممطوط عند الكثير من الشعراء التي تخلو حقيقة من بذور الشعرية؛ وإن كل من فهم إن السرد يغذي الشعرية يضحك على نفسه وقارئه، فتضيع الحدود بين الفنون، وينكسر الرتم الشعري المؤثر، وتضعف قيمته.

س8- كيف تنظر إلى النقد العربي المعاصر، وهل ترى أنه مازال بخير؟

ج8- النقد العربي كله في أزمة مصالحة مع الذات ومع القارئ؛ ثمة أزمة في المفهوم العربي ككل للنقد، إن النقد العربي بالإجماع نقد يختلف عن النقد الغربي أو العالمي، جملة وتفصيلاً، في الجمالية والمنهجية والإبداع، والأحكام النقدية؛ النقد العربي يحتاج إلى إعادة صياغة؛ وهذا يعني أن النقد العربي رغم الكثير من الأسماء اللماعة يبقى( نقد اللا نقد)؛ ويمكن أن نضعه في خانة( هوامش النص) لاتتعدى الشرح، وتعداد الصور، والقضايا المجازية واللغوية والإيقاعية؛ وهذه كلها أمور ضرورية في النقد، لكنها ليست كل العملية النقدية؛ فللنقد آفاق رؤيوية غابت عن النقاد العرب؛ في حين كانت الركيزة الأساسية في العملية النقدية في الغرب؛ إذ اكتفى النقاد بكتاب نقدي حقيقي قد يساوي مئات الكتب العربية التي ننطلق عليها نقداً، وهي من النقد براء؛ لايمكن أن نقول عن العرب انهم عرفوا النقد، العرب منذ القديم إلى الآن ماعرفوا النقد، عرفوا ذيل النقد الذي يتمثل في الشروح والتعليقات والإشارات الذوقية هنا وهناك، واتباع ما اتفق من آراء وملحوظات، وكل مايمت إلى الذوق بصلة؛ فللنقد الحقيقي مدارسه ومناهجه الخاصة ورواده الحقيقيون، وللأسف نحن العرب لسنا منهم.

س9- ما هو منظورك النقدي الجديد لحركة الحداثة الشعرية؟ وكيف ترى واقع القصيدة اليوم؟!!

ج9- لاشك في أن النقد اليوم يمر بمراحل جديدة، هذه المراحل تارة تشتغل على النص، وتارة تشتغل على ما هو خارج النص، وتارة تشتغل على المصطلحات الجديدة والمنظورات الغربية في دراسة النص الشعري، مما يعني أن الحركة النقدية تطورت في رؤيتها، ومجالات اشتغالاتها لتشمل ما هو داخل النص، وما هو خارجه، وبتقديرنا : إن اعتماد المنهج الجمالي في الآونة الأخيرة في النقد التطبيقي وتركيز الكثير من النقاد على هذا الجانب قد أسهم في تطور الحركة النقدية لاسيما في إصابة القشعريرة الجمالية التي تحرك النصوص الشعرية؛ فالشعر ليس مجرد كلام موزون في قالب شعري جمالي مموسق، إنه الطاقة الخلاقة التي تلون الرؤى والدلالات، وتكثف منتوجها الإيحائي داخل النص، وهذا يعني أن من واجب النقد أن يكتشف الطاقة النابضة في النص، ويكشف عن الوجه الجمالي فيه، فكم من الدراسات النقدية لا تمت إلى النقد الحقيقي بصلة، وما هي إلا عبئاً على النص أكثر مما هي مصدر إغناء له، ووفق هذا التصور، لا يمكن أن تتطور الدراسات النقدية الحديثة إلا إذا تغلغلت إلى عمق الرؤيا ومكمن حراكها الجمالي. وباعتقادي أن واقع القصيدة اليوم لا يقل تطوراً عن واقع الحركة النقدية في واقعنا المعاصر، فكما تطورت الحركة النقدية في إبراز منتوجها الجمالي، فكذلك تطورت القصيدة اليوم لتثبت منتوجها الشعري المؤثر، لاسيما في تخليق الشعرية التي افتقدناها في الكثير من النصوص الشعرية التي تدعي الشعرية، دون أن تملك القسط الأدنى من الحس الجمالي والخبرة الجمالية في التشكيل النصي.

وأعتقد أن الوعي الجمالي في التشكيل الإبداعي من أبرز ما أضفى على الحركة الشعرية بعض النتاجات المهمة التي لا تنسى لاسيما تلك التجربة الشعرية الفذة (تجربة الشاعر اللبناني جوزف حرب)، والشاعر سعيد عقل، والشاعر محمد علي شمس الدين، وغيرهم، وهذا يعني أن الحركة الشعرية تطورت ليس على صعيد الإفرازات الفردية، وإنما على صعيد الحركة الشعرية، في بلداننا العربية.

ومن الممكن أن تتطور القصائد الحداثية اليوم أكثر من ذلك بكثير لو انفتحت على الفنون البصرية في الحركة والصوت والصورة، والإيقاع، لاسيما الحركة السينمائية في المشاهد واللقطات السريعة التي ترصد الأحداث بتفاصيلها الجزئية وحراكها البصري.

وبتقديرنا: إن دهشة الصورة مرتبطة بدهشة القصيدة، وخصوبة الرؤيا الشعرية التي تبثها، ولا يمكن أن تتطور الرؤيا الشعرية جمالياً إلا بتطور الحساسية الجمالية، وتطور المنظورات الجديدة إليها، فكم من النصوص الشعرية لاتملك من الجمالية إلا الصوت والحركة المموسقة لبعض الكلمات والأنساق الشعرية، ولو بحثت عن مصدر جمالية الرؤيا فيها لوجدتها عقيمة أو ضحلة، وهذا يعني أن جمالية القصيدة أو الإبداع هي كل متكامل، في هيكلها النصي ورؤيتها الخلاقة التي تموج بالحساسية، والوعي والحس الجمالي الخلاق وهذا لاتنتجه إلا موهبة جمالية خلاقة وطاقة إبداعية لايستهان بها. ولهذا، فإن ولادة نص إبداعي حقيقي لاتأتي إلا من مبدع خلاق واعِ بعملية الخلق والإنتاج الشعري الوهاج أو المؤثر.3187 نجاح ابراهيم وعصام شرتح

س10-هل من شعرية للنقد من منظورك؟ وكيف تراها من منظور الشعراء؟

ج10- لاشك في أن مسألة شعرية النقد من المسائل المهمة التي ينبغي الاحتفاء بها، لاسيما في ظل ما نراه اليوم من لغة النقد المعاصر، وما فيها من تجاوزات، لدرجة بات النقد من النقد براء، والكثير من الدراسات النقدية التي تزعم أنها نقدية، ماهي في المحصلة إلا مجرد ارهاصات، وإسقاطات لا تنم عن وعي وخبرة نقدية إبداعية حقيقية في الكثير من الدراسات التي تحمل اسم النقد، لأن النقد بمعناه الحقيقي ما فهمته الذائقة العربية فهماً حقيقياً مؤسساً، لأن النقد الحقيقي يؤسس، ويبني، وينتج، وليس ذلك فحسب، بل إنه يحقق ثمرته اليانعة من خلال دقة مكتشفاته النقدية وفاعلية هذه المكتشفات في البناء النقدي الحقيقي المؤسس الذي تنبني عليه النتائج والقيم النقدية الجمالية الحقيقية فيما بعد، أي ثمرة النقد الحقيقي النتائج المحكمة التي تنبني عن خبرة وتمحيص وإدراك معرفي شامل.

ولا أبالغ في قولي: ليس المطلوب في النقد أن تكون النتائج نهائية بمثابة قوانين رياضية فيزيائية تطبق كما تطبق في العلوم الرياضية؛ وإنما المطلوب في الدراسة النقدية جمالية الفكرة، والرؤية، وعمق ما تصيبه من نتائج دقيقة تخدم الرؤية النقدية المؤسسة لتكون هذه الدراسات؛ منطلقاً لدراسات مستقبلية عميقة في مدلولها ومنتوجها الجمالي الإبداعي الحقيقي.

وقد لا أبالغ في قولي: إن للنقد شعريته كما للشعر شعريته، ومتعته الجمالية، وهذه الشعرية تتأتى من جمالية اللغة النقدية التي يكتسبها الناقد بعد خبرة طويلة في التركيب، والتحليل، والاستقصاء، والإمتاع الكشفي، وهذه الخبرة الجمالية التي يمتلكها الناقد في كشف الظواهر والقيم الجمالية بلغة ماتعة هي ما يحقق للدراسة النقدية شعريتها وألقها وسحرها المدهش.

فكما للشعر سطوته الجمالية، فكذلك للنقد سلطته الجمالية التي تجعل النص الشعري يكتسب قيمته وأهميته، وبهذا المقترب النقدي يقول الناقد علي جعفر العلاق:[ إن القصيدة عمل خاص جداً، لا تذهب إلى الآخرين دائماً. ولا تفتح مغاليقها لهم جميعاً، وفي كل وقت، فهي ليست أغنية، أو حكاية، أو إعلاناً. بل هي عملٌ غائمٌ ومشعٌّ في آن واحد؛ ولذلك فإن ما فيها من ضوء يظلُّ كامناً أو مؤجلاً في انتظار قارئ مرهف؛ لا قارئ عام، قارئ قادر على إحداث ذلك التماس المقلق بينه وبين النص، وليس كل القراء قادرين، بطبيعة الحال على الوصول إلى نقطة التماس تلك: حيث مكمن الضوء، أو الرعد، أو الإثارة. وهكذا، كلما ازدادت القصيدة إحكاماً أو تعقيداً قلَّ عدد قرائها المتميزين؛ أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنص، وتفجير مكنوناته الفكرية، والوجدانية، والبنائية. وتأسيساً على ذلك، يظل عدد المرهفين، من قراء الشعر، قليلاً في العصور كلها، فالشعر، كما يقول الشاعر الأمريكي اللاتيني (خوان رامون جيمينز) هو فن الأقلية الهائلة).

وهذا القول – على ما فيه من تشكيك- يبدو صحيحاً، لأن الشعر حقيقة فن الأقلية العظمى، والقليل من يتذوق الشعر، ويدرك مراميه، وقيمه الجمالية، وتقنياته المؤثرة، فالإنشائية لا تصنع نقداً جمالياً، وإن انساق الكثير منا إلى دراسات (الناقد يوسف سامي اليوسف) الذي غلبت على معظم دراساته النقدية النزعة الإنشائية الراقية؛ واللغة الرشيقة، فشعرية النقد ليست في إنشائيته الماتعة بقدر ماهي في المكتشفات الخلاقة المبدعة؛ وبهذا المعنى المقارب يقول العلاق:[ إن أدبية النقد لا تعني إنشائيته، أو غرقه في لغة الانطباع، أو الخاطرة، أو الرأي المنفعل. ولا تعني الاحتفاء بما تقوله النصوص أو التغني بحمولاتها الفكرية، ومن ناحية أخرى فإن عملية النقد لا يقصد بها جفافه، أو خلوه من بلل الذات، وهي لا تعني تجنب الاحتكاك بالنصوص، أو التماس مع شحنتها الخطرة. بل تعني ارتفاع الناقد إلى أهوائه وانحيازاته، وتعني أيضاً إقباله على تلك النصوص مدفوعاً بقوة الوعي وتوهج الروح معاً].

وبهذا التصور الدقيق، نقول: إن شعرية النقد، أو أدبية النقد تتحدد بمكتشفات الناقد للنص المنقود، ومدى أهمية هذه المكتشفات في الإضافة إلى النص، والارتقاء به إبداعياً؛ فليست من مهام الناقد تشويه النص، ومسخه، أو الحط من قدره ومصدر كفاءته، فهذه تنأى بالناقد عن مهمته الإبداعية الرئيسة، وهي اكتشاف المضمر فيه، ومحاولة التغلغل إلى أعماق النص، وتفكيك جزئياته للخلوص إلى رؤية جديدة وقيمة جمالية أو حكم نقدي جديد، فالناقد الحق يكتشف ما خفي من النص لدرجة يكتشف مالا يراه الشاعر المنتج للنص ذاته؛ وهذه الكفاءة هي التي تجعل النقد شعرياً أو أدبياً، وبهذا المعنى يقول العلاق :[تتجلى أدبية اللغة النقدية في مستوى آخر هو أنها ليست أداة نفعية. قد تكون كذلك في أحيان نادرة لكنها تظل دائما جزءاً من الطقس النقدي، وعنصراً فائق الحيوية من نسيجه، وبذلك، فهي ليست ذرائعية، جاهزة لتحقيق خدمة ما. وهي أيضاً ليست وسيلة محايدة، تنتهي الحاجة إليها بعد أن تنجز هدفها الأساسي أو الوحيد: أعني التعبير عن الموقف النقدي، أو نقله، أو إيصاله. لهذا، كله لابد من أن تزدهر في هذه اللغة ذات الناقد، لا بمعنى الانحياز، أو الميل، أو الهوى، بل ذاته التي تنغمر في موضوعها، وتستدرجه إلى الداخل: تسقط عنه خارجيته، وتتلبسه، وتتماهى معه، لتكشف عن شحنته الداخلية، وما يحتمل في داخله من أهواء، وذوات، ورؤى. وفي هذه الحالة لا يعود النص الأدبي مجرد أبنية وتكوينات لغوية فقط، بل شبكة من الدوال التي تستفز الناقد، وتُستفز به أيضاً، فيشتبك معها في منازلة حميمة خصبة].

فالناقد الحق لابد له من لغة تميزه، وهذه اللغة هي التي تجعله يقترب من حساسية الشاعر؛ من حيث البلاغة، والقيمة، والأثر الجمالي المقنع في كل مكتشف نقدي، أو رؤية نقدية، وهذا يعني أن الناقد الحق يمتلك أعلى القيم البلاغية في كشفه للظواهر، ومعالجتها بلغته المتفردة التي تخصه وحده دون سواه، وقد أشار إلى ما أكدنا عليه العلاق قائلاً[ أنا لا أرى النقد الحق إلا بوصفه نشاطاً لغوياً من طراز خاص؛ فالعملية النقدية لا تفصح عن ذاتها إلا من خلال اللغة؛ وفي اللغة أيضاً. وبدون لغة جذابة وثاقبة لا يستطيع الناقد مهما كان وعيه النقدي عالياً، أن يجسد موقفه من النص وانفعاله به تجسيداً بارعاً ومؤثراً، وبكلمات أخرى؛ فإن الناقد يظل، بدون هذه اللغة الخاصة، ناقداً بالقوة أ كثر منه ناقداً بالفعل، ويظل مسعاه النقدي مشاريع، أو محاولات، أو نوايا نقدية أكثر منها إنجازات مكتملة].

وهذا يعني أن الكفاءة النقدية العالية لا تتأتى إلا من خبرة جمالية في التشكيل؛ ناهيك عن الموهبة الخلاقة، واللغة، والصوت الخاص الذي يميزه عن غيره من النقاد، فكم من ناقد قد ماتت لغته واضمحلت ولم يستطع أن يترك بصمته النقدية الخاصة، وهذا القول يؤكد ما ذهب إليه العلاق قائلاً:[ لابد للناقد الحقيقي من نبرة خاصة، أعني صوتاً شخصياً يدل عليه، ويميزه عن سواه، ويفصح عن اهتماماته: صياغات، وأبنية، ورؤىً، وهكذا، فإن أدبية النقد، تتجلى، بشكل ناصع، في امتلاك الناقد صوته الفردي المميز، وكما تدل القصيدة على صاحبها فإن لغة الناقد المتفرد تكشف عن شمائله التعبيرية، وميوله ولوازمه التي يجد أنها أقدر من سواها على بلورة نزوعه النقدي، أو منحاه في التأمل، والكشف، والتحليل. ومن ناحية أخرى، إذا كانت القصيدة، مثلاً تجسيداً لغوياً للحظة إنسانية خاصة فإن العمل النقدي، وبمعنى من المعاني، قبض على تلك اللحظة اللغوية، ومحاورتها، والارتقاء بها، ومعها من التأمل إلى الوعي، ومن الوعي إلى التجسيد، أو من العماء إلى التشكل]

وبهذا المعنى، نقول: إن أدبية النقد تتمثل في كل ما يجعل من الممارسة النقدية قيمة جمالية في الكشف، والمغامرة، وبلاغة الاستنتاج، ولا عجب أن القليل من الممارسات الشعرية ما تحقق شعريتها ليس بلغتها الإنشائية الجياشة الموهومة كما في دراسات الشعراء أنفسهم التي تطالها اللغة المشرئبة بالإنشاء، والإطراءات الزائدة، فهذه لا تصنع لغة نقدية مؤثرة، أو ما أسميناها ب(لغة نقدية شعرية أو شاعرية)، فمسألة شعرية النقد لا تقتصر على اللغة الجذابة التي يبتدعها الناقد ليجذب القراء إليه مشفوعاً بلغته الأدبية الراقية، كما لاحظنا عند الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف التي نالت دراساته الشريحة الكبرى من جمهور قراء الشعر والشعرية، فهذه الدراسات رغم استحسانها عند البعض لا تشكل ما أسميناه ب( شعرية النقد)، فالشعرية النقدية ليست في المتعة والمجاذبة اللغوية بقدر ما تكمن في المهارة والحنكة في اكتشاف الحكم النقدي والتدليل عليه.

ويرى العلاق أخيراً حقيقة مهمة في محاولاته النقدية، إذ يقول:[ لابد من الإشارة إلى أنني، ومنذ محاولاتي النقدية الأولى، كنت أولي شكل القصيدة، وبناء الفكرة الشعرية عناية خاصة، كانت كيفية القول الشعري لا ماهيته هي ما يستحوذ على اهتمامي كله. ومع ذلك، فإن الوعي وتجلياته في الممارسة لا انفصال بينهما. النضج في وعي الكتابة، لدي، لا يجد اكتماله إلا في نضج أدوات الإفصاح عن التجربة؛ وهذه الأدوات، بدورها، تزيد التجربة حدة وصفاء، لذلك؛ فإن التحول في مستويات التعامل مع النصوص محصلة طبيعية لفائض الخبرة أولاً، وللتعالق الحاد بين الملكة الشعرية، و الاستعداد النقدي في الذات الواحدة ثانياً، ونتيجة لهذا التلاحم القاسي والحميم بين هاتين الطاقتين، كان لي، أو حاولت أن يكون لي، منحاي الخاص فيما أكتب من نقد منحىً يكون فيه النقد أدخل في باب الخلق الأدبي منه في باب العلم، أو البحث الجاف المحض. وتكون فيه اللغة النقدية على قدر عالٍ من النقاء وترف التعبير، والبعد عن الترهل، كأنها مصدر نبيل لرهافة القول، ومجده القائم بذاته، ولذلك، فإن اللغة ليست مجرد وسيلة للتوصيل، أو خادمة لقول أول أرفع منزلة منها، بل هي جزء حي من جمالية الأداء النقدي، وأحد تجلياته الخلاقة.].

وبهذا التصور، تبدو لغة النقد – من منظور العلاق- لغة انسيابية جمالية غضة تشي بإشعاعاتها الجمالية وبعدها الدلالي؛ و لذلك، فإن النضج الجمالي في الكتابة النقدية يبدو من سلاسة اللغة، ونداوتها لا في تعقيدها وتعقيد مصطلحاتها النقدية.

وقد حاولت في لغتي النقدية أن أصل إلى بلاغة الحكم النقدي ودقته؛ فالجمالية الحقة ليست في تعقيد الرؤى، وتغريب اللغة بالمصطلحات الغامضة المعقدة، ولا في اتباع المدارس النقدية بمصطلحاتها الجافة، وإنما بتسريب روح النقد الجمالي في اللغة النقدية لتثمر إبداعياً. لأن النقد الحقيقي الذي يبقى ويستمر هو النقد الإبداعي الذي ينافس الحالة الشعرية ويرقاها دائماً، ويخطئ من يظن لغة النقد لغة تابع لمتبوع، وإنما لغة خلق لمخلوق لترقى درجات فوق المخلوق لتحاكي جمالية الخالق، هذه الجمالية التي تصيب وتدهش وتحقق غايتها الجمالية الحقة.

ونخلص أخيراً إلى القول: إن شعرية النقد فهمها الكثير من نقادنا ومبدعينا فهماً خاطئاً حتى هذا الفهم طال ناقدنا العظيم علي جعفر العلاق وناقدنا الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، وحتى ناقدنا الجليل صلاح فضل، فالجميع صبوا آراءهم حول شعرية اللغة، والرشاقة، والسلاسة في إصدار الحكم النقدي حتى ولو كان الحكم النقدي مغلوطاً، فالنقد لا يكتسب قيمته إلا من شعرية مكتشافاته، وعمقها؛ فالكثير من دراسات الناقد الجليل صلاح فضل إذا ما استثنينا كتابه (أساليب الشعرية المعاصرة) تبتعد كل البعد عما أسميناه بـ(شعرية النقد)، إن دراساته تنطوي على المقارنات، والمحاججات التنظيرية التي لا تستحوذ على أية قيمة شعرية، فالنقد الحقيقي فن جمالي ككل الفنون الجميلة، فالذي لا ينظر إلى النقد كفن وممارسة كمن يتحدث عن الفحولة وهو عنين- رحمك الله يا ناقدنا الفذ خليل موسى- الذي أدرك اللعبة النقدية وخلق من لغته الشعرية لغة نقدية مدهشة، واستطاع أن يغير من مسار الخريطة النقدية في سوريا، بدراساته الجمالية التي أهمها ماثلة في كتابه جماليات الشعرية، والقليل القليل من نقادنا من أدرك ذلك واعترف للرجل بأهميته عربياً فيما أسميناه بـ(شعرية النقد).

ونخص إلى القول أخيراً: ما زالت دراساتنا النقدية على المستوى العربي تفتقر إلى ما أسميناه بـ(شعرية النقد)، لأن شعرية النقد عكس شعرية القصيدة؛ وإن اتفقتا في الجانب العام، فإنهما تختلفان في الجانب الخاص، فلغة النقد تكمن شعريتها في دقة الحكم النقدي، وبراعة الاكتشاف النقدي في حين أن شعرية القصيدة تكمن في تجاوزها الفني، ورؤيتها الخلاقة، وصورها المبتكرة؛ و هذا ما تنأى عنه لغة الناقد الإبداعية التي تهتم بالجانب الكشفي، والحكم النقدي الجديد، والمدلول العميق، فليس الناقد مطالباً بلغة جياشة بالعواطف، والإطراءات، والإعجابات الكثيرة المترامية من هنا، وهناك، فكما قلنا فإن الإطراءات الزائدة تقتل الناقد والمبدع معاً، وتجرهما إلى هاوية لا قرار لها، فهذه الإطراءات قد جرت ناقدنا الفذ يوسف سامي اليوسف إلى هاوية لا قرار لها وكذلك ناقدنا صلاح فضل وغيرهم كثير من نقادنا الكبار، فهذه الإطراءات لا تصنع لغة نقدية شاعرية تقترب من روح النص وجوهره العميق، وكما قلت أن الطاقة النقدية التي يمتلكها الناقد يوسف سامي اليوسف تؤهله أن يتبوأ أعلى الدرجات لكنه شأنه شأن غيره سقط في هاوية إقناع الجمهور، وإمتاعهم على حساب براعة المكتشفات النقدية، وأهميتها، وعمقها، وهذا خطر يهدد ساحتنا النقدية العربية بكاملها، ومن يطلع على النقد الغربي بعمق لا نكاد نجد كلمة إطراء واحدة في دراسة نقدية تتجاوز مئات الصفحات تهتم بما هو داخل النص من تقنيات وقيم، ومكتشفات نقدية مازلنا إلى الآن نلهث وراءها باحثين عن هداها في دراساتنا النقدية المعاصرة.

س11- كيف ترى الشعرية اليوم، وهل بمنظورك اختلفت الشعرية اليوم عن الشعرية فيما مضى؟

س11- الشعرية اليوم شعريات، وليست شعرية واحدة، كل يوم تتولد شعرية جديدة بإحساس جمالي إبداعي متجدد، مادامت الإفرازات الشعرية متغيرة فإن الشعريات متغيرة كذلك، ولهذا تبقى مسألة الشعرية ذات أفق مفتوح متجدد، مع تجدد الحياة وآفاقها المعرفية والوجودية، فما نجده اليوم من إفرازات شاعرية قد يأتي في يوم غد ما يناقضها وينافيها ويغير المنظور الجمالي إليها، ولهذا تتغاير الشعرية وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ومن أجل هذا نجد الأحكام النقدية متغيرة ومتناقضة في مسألة الشعرية والشاعرية كذلك، فلا يمكن الخلوص إلى نتائج دقيقة نهائية في مسالة الشعرية والشاعرية والجمال والجمالية، لأن هذه الأشياء متغيرة زئبقية في حركتها الوجودية ومسرحها الإبداعي.

وتأسيساً على ذلك، تختلف الشعرية اليوم عن الشعرية فيما مضى، وستختلف شعرية اليوم عن الشعرية في المستقبل، قد تختلف أدواتها وقيمها الجمالية ومنظوراتها الرؤيوية، وهذا بالتأكيد يؤثر على العملية الإبداعية مستقبلاً، فالشعرية ولادة من مخاضات عدة، ولهذا ينابيعها متجددة مع كل ولادة نص شعري جمالي هناك شعرية مغايرة وشعرية متحولة على الدوام.

س12- ماهو طموحك النقدي؟ وهل ألفت كتابك النقدي الذي تحلم؟

ج12- دائماً أبحث في النقد عن الإبداع؛ ولا أمارس النقد إلا إذا وازى نقدي النص المنقود؛ أو فاقه؛ لأني أؤمن أن النقد فن جمالي مؤسس للجمال والإبداع؛ وما دام يتحدث عن الإبداع ينبغي أن يكون النقد- في جماليته- بمنزلة النص المبدع أو يفوقه. لقد أفدت من النظريات الغربية أن أحترم النص الذي بين يدي، وأجهز له بكامل عتادي النقدية وأدواتي اللغوية والتعبيرية، ما استسهلت نصاً، كل نص أمامي شبح مرعب علي أن أخوض معركتي مع النص منتصراً لنفسي وللنص وللقارئ؛ ولهذا كانت دراساتي النقدية محط إعجاب الطلبة في الماجستير والدكتوراه، لاسيما في الجزائر والعراق والأردن، لقد كرمني القارئ العربي بوعيه وحسه النقدي العالي، أن كانت مؤلفاتي من أكثر المؤلفات احتفاء بها قراءة ونقداً واستشهاداً في أطاريحهم الجامعية، وهذا المنجز النقدي حقق طموحي وانتشاري العربي الواسع.

س13- هل تعتقد أن النقد فن جمالي ككل الفنون المؤثرة في الحياة؟

ج13- لاشك في أن النقد الحقيقي فن إبداعي مثير، لا يختلف عن فن الشعر، أو القصة، أو الرواية، إنه فن يقوم على فن، ولهذا فإن فن النقد فن مركب، وبما أن النقد فن مركب فهذا يعني أن أهميته مضاعفة، والقلة القلة من نقادنا من مارس النقد بوصفه فناً جمالياً مبدعاً ككل الفنون؛ لأن فن النقد الإبداعي الحقيقي فن جمالي يقوم على مثيرات الرؤيا الجمالية الخلاقة، وهذا يعني أن النقد الجمالي المثير نقد جمالي مركب يحقق غايته الفنية والجمالية من كشوفاته النقدية الدقيقة ومراميه البعيدة التي تشف عما خفي من مضمون النص وتقنياته ومؤثراته الفنية.

ومن يطلع على حركة النقد العربية في الكثير من كشوفاتها لا يلحظ فنية النقد أو جماليته، وإنما يجد عبثية النقد وفوضاه، وهشاشة منظوراته الإبداعية، وضحالة النتائج والرؤى المكتشفة، القلة النادرة من النقاد من مارسوا النقد بوصفه فناً من خلال الكشوفات الدقيقة والبنى العميقة والتطلعات الجمالية المبتكرة. وهذه من النوادر جداً أن نجدها في نقدنا المعاصر الذي يغط بالسطحية والهشاشة والقضايا النقدية المستعادة التي ملها النقد حتى صارت مستهلكة.

س14-هل أقول إنك وصلت إلى القمة في نقدك؟

ج14- لا، لم أقصد ذلك، يظل ثمة كتاب في نفس المبدع يحاول دائماً البحث عنه، وأعتقد أنني ما أنجزت الكتاب النقدي الذي أحلم؛ وأحمد الله أنني حققت شخصيتي النقدية المميزة، وبصمتي النقدية الحقيقية، متجاوزاً كل ما قيل في السنوات السابقة على أيدي الظلمة في جامعة حلب؛ وما بثوه من ادعاءات باطلة واقتناص بعض الهفوات وترويجها لدحر اسمي محلياً، ودفن أي إشراقة قد تبرق من هنا وهناك، وأعتقد انهم نجحوا في سورية نجاحاً ساحقاً في ذلك، إذ استطاعوا إغلاق كل المفاصل الحساسة لنشر منتجي النقدي، وأنا أبارك لهم نجاحهم الذي حققوه، واعتبره نصر أصحاب النفوذ والسلطة وهؤلاء ما أكثرهم في أوطاننا العربية، لكن المواهب الحقيقية ستظهر رغم أنوفهم، وأنا أحمد الله أنني حققت الأهم في الخارج في الوطن العربي فأورثني محبة القراء هذه البقعة الواسعة لاسيما في العراق والجزائر والأردن.

 

حوار الدكتورة نجاح إبراهيم مع الدكتور عصام شرتح

 

2812 شاكر واسراءكان لي هذا الحوار مع الكاتبة إسراء عبوشي من مدينة جنين القسام - فلسطين، حول تجربتها الإبداعية وقضايا ثقافية مختلفة ومتنوعة:

* من هي إسراء عبوشي؟

- كاتبة روائية، مديرة ومؤسسة ملتقى رواد المكتبة في مدينة جنين، معلمة في مدرسة المغير الثانوية للبنات

* حدثينا عن تجربتك الإبداعية وتشابكها مع تجربتك الحياتية؟

- نشأت حين كانت جنين جنة وبساتين، الأرض الخضراء أنبتت روحًا خضراء تتجدد مع الفصول وتزداد عشقًا للأرض مع كل نهار جديد، إلى أن أتى صباح يوم طفولي أليم فقدت فيه والدتي، فلجأت إلى أوراقي لأعبر عن مشاعر الفقد وصادقت الكتب التي صارت سلواي، من مكتبة والدي، فكأن القراءة والكتابة الحضن الدافئ والحصن المنيع لمواجهة أحزاني، صادقت الكتاب والقلم، وعشقتهم واجتهدت لتطوير أدواتي.

* ما هي الدوافع والعوامل التي أسهمت في ابراز موهبتك؟

- القراءة أولًا علاوة على المشاركة في الأنشطة الأدبية حيث أتاح لي مجال الخوض في النقد الأدبي تنمية مهاراتي الكتابية، والتركيز على مكامن القوة التي تقييم النصوص الأدبية.

* ما هي القضية المركزية التي تؤرقك وتدور حولها موضوعات قصصك ورواياتك؟

- الحرية بشكل عام حرية الوطن والمرأة، عشت في فلسطين ولم أتذوق طعم الحرية في وطن مقيد محاصر ينظر للمرأة كصنف ثاني، في وطني فلسطين يجب أن تكون المرأة أولا فهي أم الشهداء وزوجة الأسير والمناضل، تراودني فكرة من لم يتمتع بالحرية ولم يعرفها يوماً قد لا يفهمها وتضيع فيه السبل في طريقها.

* ما هي الأمكنة التي تتحرك فيها نصوصك السردية؟

- يجب أن أعيش في الأماكن التي تتحرك فيها شخصيات نصوصي، كتبت عن فلسطين والأردن ومصر المحور الوطن، حيث بصمة الوطن الحزين تبقى عالقة في مجريات حياتنا نحمل ألمنا أينما اتجهنا.

كيف ترين علاقة المرأة بالأدب، وعلاقة المرأة بالرجل؟

بنظري خلق الله المرأة ضمن تصنيف الإنسانية كلاهما واحد بنظري، النظرة للمرأة هي التي تصنفها فقط، الأفعال مقياس التقييم لا التصنيف رجل أو امرأة، النظرة تحدد العلاقة، أما عن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن يحرسها الاحترام وتكللها الثقة.

* كيف تنظرين إلى من تناول ونقد تجربتك القصصية، وهل للنقد من أثر في نصوصك الجديدة؟

- الناقد يجلي جمال النصوص ويضع يده على مكامن القوة والضعف، تناول النقاد مؤلفاتي ونصوصي فكان لهم دور هام في الإضاءة عليها، فكان لي شرف تناولك لمسيرتي الأدبية منذ البدايات أنت الأديب الناقد شاكر فريد حسن إغبارية، ومن أبرز من قدموا قراءات نقدية لما كتبت الأديب جميل السلحوت، والباحث الأستاذ عمر عبد الرحمن نمر، والأستاذ عمر غوراني، والناقد رائد الحواري، والأستاذ إبراهيم يوسف من لبنان، والأديبة الشابة قمر منى، رؤيتهم النقدية إبداع آخر وتعبير راقٍ في علاقة تكاملية.

2812 شاكر واسراء

* من أين تستمدين قوة وحبكة نصوصكِ؟

- من وجوه الناس، أطيل النظر في عيونهم، وآخذ حكايتي من ملامحهم، بكل خشونة يد وتجعيده وجه قصة مختلفة، وبكل دمعة تراق على الخد أو بسمة تنير الوجه قصة أخرى، تحرضني لتأمل مشاعرهم، أعبر عما يجول في خاطرهم، وأرى ما حولي بنظرة مختلفة وبانطباع جميل، فقد خلقنا الله على فطرة.

في بعض المواقف تبرق فكرة أبني عليها حكاية أو تتشكل شخصية أعيش معها بخيال يشوقني لأغوص في كنهه واستمد منه أفكاري، وأكتب وأكتب.. ويخبرني بالمزيد.

* بماذا تحلمين بعد هذه السنوات من الإبداع الكتابي، وما هي تصوراتك للمستقبل؟

- حلمي الشخصي أن أكتب فيض مشاعري، وتفاعل عواطفي مع كل ما عشت بالحياة، وحلمي العام أن تستمر من بعدي أفكاري وخططي التي أحاول بها إيجاد عالم مختلف أساسه الكلمة الصادقة الحقيقية التي تصنع الإنسان وترتقي بالحياة، احلم بأن يعود للمثقف والكاتب مكانته الحقيقية ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية، لهذا أسست ملتقى روّاد المكتبة لفرض المثقف في الحياة اليومية والأمر الآخر الاهتمام بالقراءة ومكافحة العزوف عن القراءة، وكذلك تنمية المواهب لنجد من يحمل أفكارنا من بعدنا.

* من يعجبك من الكاتبات العربيات المحدثات؟

- غادة السمان ومي زيادة، رغم الاختلاف الكبير بينهما، قصة مي زيادة ما زالت تتكرر مع بعض الكاتبات والشاعرات في وطننا العربي.

* ما تقييمك للرواية العربية المعاصرة بشكل عام، والفلسطينية على وجه الخصوص؟

- الفلسطينية يجب أن تحمل الهم الوطني خاصة وهي توضع على رفوف معارض الكتب وتمثل فلسطين، ويجب أن تكون صادقة مقابل زيف التاريخ، أما العربية المعاصرة يجب أن يكون هناك قيود على الطابعة يخفف من ازدحام السوق الأدبي بما لا يستحق البقاء.

* ما هي التحديات التي تواجه الروائي والمثقف الفلسطيني عمومًا؟

- الحياة الروتينية أول ما يقتل الروائي والمثقف الفلسطيني، حيث يحرم من ترف الكتابة والاهتمام بطقوسها التي تنمي إبداعه، متطلبات الحياة المادية والاجتماعية تحرمه من ذلك.

وكذلك استغلال دور النشر له.

يقال أن الثقافة العربية في الوقت الراهن في أزمة، ما رأيك؟

وزارة الثقافة الفلسطينية واتحاد الكتاب الفلسطيني تقف مكتوفة الأيدي عما يحصل، الحرية ليست طليقة ولن تكون "الانخراط في بوتقة القوانين" من هنا تنبع الأزمة، الكاتب يجب أن يكون حراً ويحرض على الحرية ووطننا حريته مسلوبة وأفكاره في إدراكها منقوصة

* كيف تتلمسين الواقع السياسي في كتاباتك، وكيف تتعاملين معه؟

لقد كتبت عن الواقع كما يراه الشارع الفلسطيني ويدركه، لم أتعمق لأن المنطق مختل وبداياته مشوشة، حاربت دائما الأفكار التي زرعها فينا المحتل، وكيف غير مفهوم الكلمة وروج لثقافته، وساعده الكثير من الكتاب في ذلك، في مجموعتي القصصية " ياسمين" كتبت عن واقع الحياة الاجتماعية في ظل الانتفاضات والاحتلال، وكتبت عن الوحدة وهي أولى أسباب النصر، وعليها يجب أن يبنى الواقع السياسي.

* هل تتقيدين بمنهجية معينة في كتاباتك؟

الحب منهجي لو احببننا أنفسنا وما حولنا لسهلت علينا الحياة

* ما هي أقرب كتابات اسراء عبوشي إلى نفسها؟

أضع شيء من روحي في نصوصي، أعبر عن مشاعري النابعة من قلبي مشاعر تحرك الوجدان وتثير الشجون، تلك الجزئية هي الأقرب إلى نفسها أعود إليها بين حين وآخر فتسري معانيها بنفسي من جديد وتجدد مشاعري، سينتهي مشروعي الكتابي إن نفذت، أو استطعت التعبير عنها كلها، إلى الآن ما زالت تتدفق، وما زالت تتجسد في شخصيات رواياتي وتحركها وتخلق لها فضاء تتماها معه.

* ما هو مشروعك الأدبي القادم؟ وما هي الأعمال التي صدرت لك حتى الآن؟

- أسرانا البواسل وأسرهم واللحمة الاجتماعية والنفسية بينهم، كتبت مسرحية عنهم عرضت في مدرستي، سأحولها إلى رواية.

الأعمال التي صدرت لي " مجموعة قصصية بعنوان "ياسمين"

وقيد الطباعة روايتي " رادا " و "لما تلاقينا"

* المشهد الثقافي الفلسطيني كيف تقرئينه، وكيف تنظرين إلى العلاقات الأدبية بين المبدعين والمنتجين في الوطن المحتل؟

- هدف ملتقى روّاد المكتبة، إعادة تشكيل المشهد الثقافي في محافظة جنين يكون حاضنة للمبدعين، لا يمكن للفكرة أن تتم إلا بتعاون الأدباء والشعراء والمثقفين، عنوان المشهد إبراز الجيد، والاهتمام بالكلمة الجيدة لتكون الأثيرة، ودعم المواهب والارتقاء بالعلاقات، هناك مجموعة من الأدباء والشعراء تسعى معي وتناصرني في تحقيق هدف الملتقى، أتجاوز معهم المعيقات الكثيرة.

أما عن سلبيات العلاقات فهناك فئة تحارب المبدعين، فقط لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا مثلهم يلجؤون إلى السرقات الأدبية والفكرية التي تدمر العلاقات، أما المنتجون فهم تجار لا علاقة لهم بالأدب.

* أدب الأطفال هل أصبح في أيامنا تجاريًا؟

- ما أصعب أن تكون إجابتي نعم، فالأطفال جيل الغد يجب التنزه عن التجارة بأدبهم، يجب أن نهتم بقصص ترتقي بأحلامهم وتحسن لغتهم وتنمي خيالهم وتكون بجودة عالية من حيث الكلمة والرسومات.

* الأزمة النقدية التي يعيشها عالمنا، ما هي الوسائل التي ترينها مناسبة لحلها، وما هي انعكاساتها من وجهة نظرك على كلّ من يتعاطى الكتابة في مجالات الشعر والقصة والرواية؟

- على اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة أن تمنع طباعة الكتب وتداولها إلا بعد أن تعرض على لجنة متخصصة، فلا يكون بمتناول النقاد إلا ما يستحق النقاش، ويقدم للحركة الأدبية كل جديد، ويحد من المجاملات الأدبية التي صنعت أدباء بالمجان.

* ما هي الكلمة الأخيرة للقراء؟

- ملكة الكتابة جعلت من إسراء إنسانة نقية محبة للحياة متصالحة مع الذات، فإذا حباك الله تلك الملكة اهتم بها، واعمل على تنميتها وتطويرها ففيها روحك جميلة وقلبك كبير

 

حاورها شاكر فريد حسن

 

3163 كارلو روفيليمقابلة مع العالم المشهور الموهوب، الفيزيائي كارلو روفيلي بمناسبة صدور كتابه الذي يروي فيه نشأة ميكانيكا الكم ...

ولد في 3 مايو 1956 في فيرونا، يدرس كارلو روفيلي في جامعة إيكس مرسيليا. كما تتم دعوته بانتظام للتحدث في العديد من الجامعات في كندا

 أجرى المقابلة بودوين إشباس

نشر بتاريخ 12/20/2021

ترجمة د. جواد بشارة


 مُنظِّر الجاذبية الكمية الحلقية (مع لي سمولينLee Smolin)، مدرس في جامعة إيكس مرسيليا، ولكن أيضًا في كندا، كارلو روفيلي Carlo Rovelli ليس فقط أحد أهم العلماء في عصره، بل هو أيضًا مؤلف غزير الإنتاج، وعالم الفيزياء والمنظر المتخصص في ميكانيكا الكم، هو أيضًا فيلسوف في العلوم. يقسم وقته بين مرسيليا ولشبونة وفيرونا ولندن (في أونتاريو). في عام 2015، نشر كتاب سبعة دروس مختصر في الفيزياء Seven Brèves Leçons de physique chez Odile Jacob، قبل أن يخصص سيرة ذاتية للفيلسوف الإغريقي أناكسيماندر دي ميليت Anaximandre de Milet (دونود)، وهو عالم ما قبل سقراطي دربه تاليس والذي كان يفرك الكتفين بمفهوم اللانهاية في القرن السادس قبل الميلاد. بعد كتاب لامع بعنوان نظام الزمن The Order of Time (Flammarion)، يروي كارلو روفيلي الآن، في كتاب جديد * الظروف التي ولدت في ظلها فيزياء الكم. لقد تمت صياغته بطريقة الرواية التاريخية، حيث كانت صفحات الفلسفة ستنزلق بسلاسة، ويعلمنا كتابه عن واحدة من أكثر المفاهيم تعقيدًا في الفيزياء المعاصرة.

"كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، ولدت ميكانيك الكموم أو الكوانتوم.

المقابلة:

لو بوان: بدأ كل شيء في صيف عام 1925 في جزيرة هيلغولاند في بحر الشمال. تصور فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg، البالغ من العمر 23 عامًا في ذلك الوقت، فكرة أن قفزات الإلكترونات les sauts des électrons من مدار إلى آخر تستجيب لمنطق لا يمليه متغير فيزيائي ثابت variable physique constante، ولكن من خلال مجموعة من الأرقام المتطورة التي تجعل من الممكن التنبؤ بشكل مرضي أكثر بهذه الأشياء التي كانت موجودة حتى الآن حركات غير مفهومة. ما رأيك كان القادح في ذهن هايزنبرغ لهذه الفكرة؟

-  كارلو روفيلي: أعتقد أن "ال زنادle déclic"، أو القادح كما قلت، كان عبارة عن مزيج من عدة مكونات: أولاً، الانغماس الذهني الكامل لهيزنبرغ في المشكلة، ولكن أيضًا طريقته المادية والملموسة في مواجهة هذا اللغز. فهو لا يعتمد على العروض الرياضياتية المعقدة، بل بالأحرى على خياله الحر وفحص طبيعة الواقع. كان انفتاح هايزنبرغ على الأفكار الفلسفية الراديكالية (لا سيما أفكار إرنست ماخ Ernst Mach) مهمًا أيضًا. سأضيف تأثير ماكس بورن Max Born وبشكل غير مباشر تأثير لألبرت أينشتاين Albert Einstein، الذي فهم الحاجة إلى قفزة كبيرة في الفيزياء. لكن يمكن للمرء أن يضيف المحادثات الفيزيائية الفلسفية مع نيلز بور Niels Bohr، والد الكوانتا quanta، وأيضًا، على الأرجح، عمر هايزنبيرغ الشاب ... كل هذه المعلمات تشكل مزيجًا متفجرًا. كان هذا الكوكتيل هو الذي سمح لهايزنبرغ بإلقاء نظرة جديدة على المشكلة التي تواجهه.

س: هذا الاكتشاف هو ذروة تأملات مجموعة من العلماء، بما في ذلك، كما قلت، ألبرت أينشتاين وماكس بورن، وأيضًا إروين شرودنغر Erwin Schrödinger وولفغانغ باولي Wolfgang Pauli. ما هو القاسم المشترك بين هؤلاء الرجال؟

ج: إنهم يتشاركون الشغف المشتعل: السعي إلى الفهم. نقطة أخرى مشتركة: عدم وجود أفكار ثابتة. فهم كلهم على استعداد لتغيير رأيهم. بالنسبة للبقية، لديهم شخصيات ومهارات وقدرات مختلفة تمامًا عن بعضهم البعض.

س: على الرغم من كل شيء، هل هي طريقتهم المشتركة في فهم العالم التي تسمح لهم باستكشاف هذا المسار الكمومي؟

ج: على العكس تماما! إن خلافاتهم هي التي تسمح بنجاح قبضتهم وأهميتهم الجماعية العظيمة.

س: إن اكتشاف فيرنر هايزنبرغ، الذي سيُطلق عليه قريبًا "ميكانيكا الكم mécanique quantique"، يفتح الباب أمام مجموعة كاملة من الاختراعات: إتقان الذرة، والحوسبة الكمومية، على سبيل المثال لا الحصر. أيهما تعتقد أنه الأكثر إثارة للإعجاب؟

ج: أكثر من اختراع محدد هو حقيقة أن جميع خصائص العناصر، بما في ذلك بنية الجدول الدوري للعناصر، تتبع معادلة واحدة!

س: تأخذ فيزياء الكم La physique quantique اسمها من هذه الكمات quanta، أو حبيبات الطاقة grains d’énergie، التي يُقال إنها تفسر السلوك الغريب للإلكترونات. كما أنها تملي الطريقة المذهلة التي تنتقل بها الموجات الك هرومغناطيسيةles ondes électromagnétiques. كتب ريتشارد فاينمان Richard Feynman أنه لا أحد يستطيع فهم الكوانتوم ...

ج: لم يكتب ريتشارد فاينمان أنه لا أحد يستطيع فهم الكوانتوم، فقد كتب أنه لا أحد يفهمها. الفرق كبير. إنه شيء ألا تكون قابلاً للفهم، وشيء آخر القول إنه لا يمكن فهمه في لحظة معينة. في هذه الحالة الثانية، يبقى الفهم ممكناً...

3162 رواية فيزياء الكمس: في حالة عد الفهم، كيف يمكنك تمثيلهم إذا طُلب منك تقديم تشبيه؟ حبيبات ماذا؟

ج: يتوقف الأمر على التوضيح. فالفوتونات هي حبيبات الضوء. كميت مجال الجاذبية وهي بذور الفضاء أو المكان أي بذور الفراغ. التفصيل الحبيبي ليس هو الجانب الذي يصعب فهمه: فالرمال حبيبية. الجزء الصعب الذي يجب فهمه هو "علاقاتهمrelationnalité". هذه الكمات ليست كيانات. هذه أشياء تظهر نفسها: يتجلى الضوء في شكل حبيبات، مثل الفوتونات.

س: هذه الطريقة في فهم الواقع من خلال اللجوء إلى نهج أو مقاربة أكثر دقة من ملاحظة المادية التبسيطية للجسيمات في الفضاء تقود العقل إلى الاعتراف (مثل أنطون زيلينجرAnton Zeilinger) بأن العلاقات المعقدة يمكن أن توحد كيانات تفصلها أحيانًا مسافات هائلة.

ج: نعم، هو كذلك بالضبط.

س: كيف، إذن، يمكن النظر إلى هذه الحقيقة العلمية دون الوقوع، في وقت أو آخر، في اعتبارات غير منطقية أو لا عقلانية irrationnelles على ما يبدو: أحدها هو التعايش بين عوالم متوازية mondes parallèles حيث تحدث أحداث مختلفة (في نفس الوقت)؟ يمكنها التفاعل فيما بينها؛ والآخر هو حقيقة أن المتغيرات الخفية variables cachées تمنعنا من قراءة واقعنا. نحن نتدفق في المصفوفة Matrix... هل هذا يعني أن المخيلة والأحلام والخيال فقط يمكنها أن تسمح لنا بفهم ميكانيكا الكم la mécanique quantique؟

ج: أعتقد أن العلم قد أعطانا الكثير وكشف لنا الكثير من الأشياء الجديدة التي تبدو غريبة، لكنك بعد ذلك نطور حدسًا جيدًا ونعتاد عليه. هذه هي قوة العادة. لا أحد يشعر بالذهول اليوم من حقيقة أن الأرض تتحرك، وأنها تدور حول الشمس. لكن كان ذلك من الصعب هضمه عندما تم وضع النظرية عليه لأول مرة. أعتقد أن الشيء نفسه سيحدث مع نظرية الكم. سنستوعبها ... تدريجيًا.

س: ومع ذلك، فإن التشابك الكمومي L’intrication quantique الذي يقع في قلب حقيقة هذه الفيزياء "الجديدة" يفتح آفاقًا مذهلة ناتجة عن ارتباطات لا يمكن تصورها على ما يبدو. علينا أن نقبل فكرة ليست واضحة بأي حال من الأحوال: اللاحتمية l’indétermination أو على الأقل التفسير الذاتي للاحتمالية بفضل أو بموجب "النظرية الكمية الكيوبية البانيزيانية quantum Bayesianism" التي تعطي نظرية QBiste اسمها. هل هذا يعني أننا يجب أن نتمسك بنوع من النسبية المطلقة حيث تكون الحقيقة مختلفة لكل مراقب، اعتمادًا على وجهة النظر التي يتبناها؟ ألن يكون هذا مرعبًا؟

ج: أعتقد أنك تبالغ هنا. عندما اكتشفنا أن الأرض تتحرك، بدا الأمر مرعبًا أكثر. العقلانية الكمومية ليست ذاتية، ولا تتحدى المفاهيم المعتادة للموضوعية les notions usuelles d’objectivité. فالحجر الذي يسقط على رؤوسنا سيؤذينا كما كان الأمر من قبل.

س: تتطلب قصة قط شرودنغر الشهير chat de Schrödinger المسجونة في علبة مغلقة والتي هي في آن واحد ميتة وحية ما يجبرنا أن نفكر في إمكانية تواجد أكثر من واقع في نفس الوقت!

ج: تحدث بورBohr عن "استحالة الفصل الواضح بين سلوك الأنظمة الذرية والتفاعل مع جهاز القياس الذي يعمل على تحديد الظروف التي تحدث فيها هذه الظاهرة". تلتقط هذه الملاحظة الاكتشاف الذي يكمن في قلب نظرية الكم: عدم القدرة على فصل خصائص كائن ما عن التفاعلات التي تظهر فيها هذه الخصائص نفسها والأشياء التي تتجلى فيها.

س: في طريقنا إلى التعرف على الكوانتا، نلتقي بعدد قليل جدًا من الفرنسيين (لويس دي بروجلي Louis de Broglieهو الأكثر شهرة). لماذا؟ هل يتعلق الأمر بالطريقة الديكارتية التي يتدرب بها ويتأهل وفقها مهندسونا؟

ج: أعتقد أن تدريس العلوم الفرنسي صارم للغاية. مبالغ في "التكوينية". إنه ينتج مهندسين جيدين وآلات حاسبة جيدة وحتى علماء رياضيات جيدون جدًا. لكن لا يخرج علماء الفيزياء النظرية جيدين. من أجل ذلك، نحتاج إلى شكليات أقل، والمزيد من حرية العقل.

س: تدين فيزياء الكم كثيرًا للعلماء المنغمسين في الفلسفة، والذين غالبًا ما يكونون منخرطين سياسيًا (أدلرAdler أو  بوغدانوفBogdanov، على سبيل المثال لا الحصر). هل كان على المرء أن يكون مثاليًا لولادة ميكانيكا الكم هذه؟

ج: ربما نعم. عليك أن تعرف كيف تحلم. ربما كان هذا هو السبب في أن الفترة الأكثر خصوبة للعلم الفرنسي كانت الثورة.

 

 

"كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، ولدت ميكانيك الكموم أو الكوانتوم.

* هيلجغلاند، معنى ميكانيكا الكم، بقلم كارلو روفيلي، طبعات فلاماريون، 249 صفحة، 21.90 الفراغ. التفصيل ليس هو الجانب الذي يصعب فهمه: فالرمال حبيبية. الجزء الصعب الذي يجب فهمه هو "علاقتهم". هذه الكميات ليست كيانات. هذه أشياء تظهر نفسها: يتجلى الضوء في شكل حبيبات، مثل الفوتونات.

هذه الطريقة في فهم الواقع من خلال اللجوء إلى نهج أكثر دقة من ملاحظة المادية التبسيطية للجسيمات في الفضاء تقود العقل إلى الاعتراف (مثل أنطون زيلينجر) بأن العلاقات المعقدة يمكن أن توحد كيانات تفصلها أحيانًا مسافات هائلة.

نعم، هو كذلك بالضبط.

كيف، إذن، يمكن النظر إلى هذه الحقيقة العلمية دون الوقوع، في وقت أو آخر، في اعتبارات غير منطقية على ما يبدو: أحدها هو التعايش بين عوالم متوازية حيث تحدث أحداث مختلفة (في نفس الوقت)؟ من يمكنه التفاعل مع كل منها آخر؛ والآخر هو حقيقة أن المتغيرات الخفية تمنعنا من قراءة واقعنا. نحن نتدفق في المصفوفة ... هل هذا يعني أن الخيال والأحلام والخيال فقط يمكن أن يسمح لنا بفهم ميكانيكا الكم؟

- أعتقد أن العلم قد أعطانا الكثير من الأشياء الجديدة التي تبدو غريبة، لكنك بعد ذلك تطور حدسًا جيدًا وتعتاد عليه. هذه هي قوة العادة. لا أحد يشعر بالذهول اليوم من حقيقة أن الأرض تتحرك، وأنها تدور حول الشمس. لكن كان لا يزال من الصعب هضمه عندما تم وضع النظرية عليه لأول مرة. أعتقد أن الشيء نفسه سيحدث مع نظرية الكم. سنستوعبه ... تدريجيًا.

اقرأ أيضًا "المصفوفة": تتابعات يساء فهمها أو آثار لا تزال حية

ومع ذلك، فإن التشابك الكمي الذي يقع في قلب حقيقة هذه الفيزياء "الجديدة" يفتح آفاقًا مذهلة ناتجة عن ارتباطات لا يمكن تصورها على ما يبدو. علينا أن نقبل فكرة ليست واضحة بأي حال من الأحوال: اللاحتمية أو على الأقل التفسير الذاتي للاحتمالية بفضل "النظرية الكمية البايزية" التي تعطي نظرية QBiste اسمها. هل هذا يعني أننا يجب أن نتمسك بنوع من النسبية المطلقة حيث تكون الحقيقة مختلفة لكل مراقب، اعتمادًا على وجهة النظر التي يتبناها؟ ألن يكون هذا مرعبًا؟

أعتقد أنك تبالغ هنا. عندما اكتشفنا أن الأرض تتحرك، بدا الأمر مرعبًا أكثر. العقلانية الكمومية ليست ذاتية، ولا تتحدى المفاهيم المعتادة للموضوعية. الحجر الذي يسقط على رؤوسنا سيؤذينا كما كان من قبل.

- تتطلب قصة قط شرودنجر الشهير المغطى والذي مات وما زال على قيد الحياة أن نفكر في إمكانية تواجد العديد من الحقائق في نفس الوقت!

تحدث بوهر عن "استحالة الفصل الواضح بين سلوك الأنظمة الذرية والتفاعل مع جهاز القياس الذي يعمل على تحديد الظروف التي تحدث فيها هذه الظاهرة". تلتقط هذه الملاحظة الاكتشاف الذي يكمن في قلب نظرية الكم: عدم القدرة على فصل خصائص كائن ما عن التفاعلات التي تظهر فيها هذه الخصائص نفسها والأشياء التي تتجلى فيها.

في طريقنا إلى التعرف على الكوانتا، نلتقي بعدد قليل جدًا من الفرنسيين (لويس دي بروجلي هو الأكثر شهرة). لماذا ا ؟ هل يتعلق الأمر بالطريقة الديكارتية التي يتدرب بها مهندسونا؟

- أعتقد أن تعليم العلوم الفرنسي صارم للغاية. جدا "التكوينية". إنه ينتج مهندسين جيدين وآلات حاسبة جيدة وحتى علماء رياضيات جيدون جدًا. لكن علماء الفيزياء النظرية ليسوا جيدين. من أجل ذلك، نحتاج إلى شكليات أقل، والمزيد من حرية العقل.

تدين فيزياء الكم كثيرًا للعلماء المدربين في الفلسفة، والذين غالبًا ما يكونون منخرطين سياسيًا (Adler أو Bogdanov، على سبيل المثال لا الحصر). هل كان عليك أن تكون مثاليًا لتلد ميكانيكا الكم هذه؟

- ربما نعم. عليك أن تعرف كيف تحلم. ربما كان هذا هو السبب في أن الفترة الأكثر خصوبة للعلم الفرنسي كانت الثورة.

 "كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، لحظة حدسه!

 

...........................

* هيلغولاند، معنى ميكانيكا الكم، بقلم كارلو روفيلي، طبعات فلاماريون، 249 صفحة، 21.90

 

2809 هبة جمال الدينأتقدم الى جناب الدكتورة هبة جمال الدين المحترمة بإجراء حوار صحفي متسلسل حول مشروع "مسار إبراهيم" الذي تحدثت حوله بأكثر من مناسبة، وإيصال الرأي والمخرجات والاستنتاجات التي خرجتِ بها الى الرأي العام وبالخصوص، فيما يعني الشأن العراقي، للوقوف على شروحات وتفصيلات تكشف ماهية هذا  المشروع والدورالدولي والإقليمي المؤثر في بلورة هذا الأمر.


 تحية طيبة دكتورة هبة جمال الدين المحترمة

ارحب بحضرتكِ، وبجميع السيدات والسادة القراء الأفاضل. ونؤكد على ان حرية الرد مكفولة. وما يرد من تفاصيل ضمن الإجابات هي من وجهات نظر الضيف، والحقائق والاستنتاجات التي يعرضها كمختصبهذا الشأن.

س: من هي هبة جمال الدين؟

ج: مدرس علوم سياسيه بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية متخصصة في الشأن الإسرائيلي لها العديد من الكتب في هذا الشأن مديرة مراكز الفكر في صنع السياسة العامة بإسرائيل حاصلة علي اربعجوائز بحثية.

س: ما هو مسار ابراهيم؟

ج: مشروع خطير أنشأته مبادرة مسار ابراهيم في المنطقة العربية والإسلامية ما يسمى بالشرق الأوسط يدعوا فيه رغبة،في ربط الدول العشرة التي مر بها رسول الله وفقا لجغراقيا الأديان والتي تبدأ "بأور" في محافظة ذي قار جنوبالعراق، وتنتهي بمكة والمدينة ويمر لإيران وتركيا.

المسار خطير لانه يؤكد في وثائق تأسيسه أنه خطوة مبدئية لتدويل وإنشاء الارض الابراهيمية العالمية المشتركةللاديان.

والخريطة للمسار المخطط له هي خريطة ارض إسرائيل الكبري.

وفي بداية دراسة المسار بدأ الباحثين في جامعة "هارفارد" برصد عدة تحديات للمسار يقوم على اساس إزالة الحدودالسياسية وارساء رؤية ذات مصداقية للمسار عن طريق جامعة هارفارد كمظلة له نظرا لايمان شعوب المنطقة بالمؤتمر أنكما يدعون ووجدوا أن أهم تحدي أمامهم هو رفض التطبيع مع إسرائيل والخلل كان خلق هوية إبراهيمية جديدة كبديلعن الهوية العربية والإسلامية والوطنية فالكل أسرة ابراهيم واحدة وسيحدث ذلك: (عبر أنشطة الحكي وتغير وضعوهوية الصراع مع إسرائيل عبر إنشاء صراع بنيوي وليس هيكلي صراع يؤكد أن الاحترام المتبادل اهم من الحصول عليالارض والتاريخ).

س: هل له وجود على ارض الواقع كتطبيق ووثائق ومندوبين وممثلين لهذا المشروع؟

ج: للاسف نعم موجود في أغلب الدول بالمنطقة في كردستان ومصر وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين وتركيا وبالطبعإسرائيل وقد أدخلته جمعيات أهلية تعمل في السياحة والاعشاب والثقافة وبداية إنشاؤه جاءت عبر شخصيات تنفيذيةتعمل في مجال السياحة والفندقة.

جمعيات أهلية تنظم رحلات بإسم المشي أو الجمال تم إدخالها عبر إقامة مشروعات للمجتمعات المحلية كالبدووالقبائل وانشاء مشروعات ريادة أعمال تخلق دخل تجعلهم يدافعون عن الفكرة رغما عن الدول.

للاسف يتم علي الارض وبدايته الان في المدينة "الابراهيمية بالعراق" فالتسمية مريبة ويجب الإنتباه لها.

تضمن كشف المخطط عبر مسمى جديد تم البدء فيه عبر مفهوم الدبلوماسية الروحية تقوم علي البحث عن المشتركبين الأديان وتنمية المختلف عليه وإعادة قراءة النص الديني وتفسير المعاني السرية ووضع ما يتفق عليه رجال الدينعلي الخريطة السياسية بعد الاتفاق وتنمية الاختلاف وتتم في ساحات من الدبلوماسية غير الرسمية وكما تعلمون أنالإسلام يعترف بكافة الأديان السماوية ويختلف حوله باقي الأديان والمسيحية تعترف باليودية التي تنكر كلا منالإسلام والمسيحية واعترف بالماجوسية والبوذية والهندسية باعتبارها أسهمت في بناء الثقافة اليهودية

وتري الدبلوماسية الروحية أن ذلك سيحقق السلام الديني العالمي الذي سيتحقق عبر إعطاء الشعوب الاصلية الحقعلي الخريطة السياسية وبالطبع يحاول الصهاينة الدعاء أنهم الشعوب الأصلية ويزيفون التاريخ.

(وللاسف يعملون علي اتفاقية الشعوب الأصلية المسجلة بالامم المتحدة ليعودوا ليتحكموا في مقاليد الدول العربية مرةأخرى).

س: ماذا تضمن الكتاب البحثي الذي اصدرته الدكتورة هبة جمال الدين؟.

ج: تضمن الكتاب المخطط ومشروعات تسيس الابراهيمية المتحدة في مخطط الولايات المتحدة الابراهيمية "صفقة القرن " باقتدار وفقا للنتائج البحثية بالكتاب.

س: لماذا ألغى بايدن "ألرئيس الامريكية الحالي" اسم المشروع الإبراهيمي؟

ج: لان المخطط انكشف فربط ترامب الابراهيمية باتفاقيات التطبيع مع إسرائيل جعل الكثير يرفضها وينتبه لخطورة المخططخاصة أنني بالكتاب توصلت بالتحليل الشبكي أن المخطط مازال ضعيف غير مكتمل الأركان فيحتاج الي مزيد من الدعموهذا ما تعمل عليه الان الإدارة الأمريكية فهي مشروع دولة المؤسسات منذ التسعينيات تم الإعداد له عبر برنامج دراساتالحرب والسلام بالبنتاجون الذي جاء بعد " ترامب "

س: إتفاقيات المسار؟ وهل إنتهت ام بقيت سارية المفعول وتحت اي مسمى؟

ج: سارية تحت مسمي اتفاقات التطبيع ولكن جهود الابراهيمية مازالت على الارض لم تكتمل دون إعلان الدولة الأمريكيةتبنيها رسميا لها.

س: كيف يؤثر هذا المشروع على العراق تحديدًا؟

ج: العراق مستهدفة كبداية للمسار التدويل كجزء من ارض إسرائيل الكبرى.

س: هل هناك بوادر تخص مشروع المسار او " التطبيع" في العراق ، ماهي وكيف؟.

ج: الصلاة الابراهيمية ثم المدينة الابراهيمية والصلوات الابراهيمية وبعثات" التنقيب التي ستأتي معها@ كل ذلك خطيروللاسف يتم الآن على الارض.

س: كيف تقرأ الدكتورة هبة جمال الدين زيارة بابا الفاتيكان الى العراق؟.

ج: نحن نحترم البابا كرمز ديني كبير لكن استعمال الابراهيمية في الصلاة وإطلاق دعاء جديد على الاذان ن والحديث عنأرض الخلاص وعودة الشعوب المضطهدة يدعو للحذر.

س: نسبة الخطر الفعلية اين تكمن على الشعوب وعلى العراق تحديدًا ضمن مشروع " التطبيع " او مشروعمسارابراهيم؟.

ج: الخطر بدا بتغير مسمي الاديان من سماوية الى الابراهيمية ، فالهدف للشعوب لتقبل بالهوية الجديدة، لتقبل فيما بعدبحكم الصهاينة، كأسرة ابراهيمية واحدة، وأن الأرض ليست ملكا لنا لأن سيدنا ابراهيم ملك للعالم ككل، عبر خلق دعمدولي للمشروع وهذا ما يتم الآن.

س: (السعودية العربية وتركيا والاردن) كيف تقرأ الدكتورة هبة هذه الخريطة؟

ج: للاسف تركيا شريك مرحلي في المشروع. والأردن هي ما تمنع جغرافيا إسرائيل من التوسع لذلك محاولة الانقلاب الفاشلةأحد خطى المخطط للوصول للسعودية التي يتم الآن التدمير بنظام الحكم للموافقة علي السلام الابراهيمي كبدايةلمخطط تدويل المقدسات والبدء بخلق مقدسات جديدة لنزع القدسية عن المقدس تمهيدا لهدم المقدس!.

س: اين تجد الدكتورة هبة الشعب المصري والشعب اللبناني من كل هذا؟

ج: مصر حكومة وشعبا ضد المخطط وعلى الشعب اللبناني الإنتباه لما يحاك ضده بإفشال الدولة وإعلان موتها كجزء منالمخطط اللعين للوصول للاتحاد الابراهيمي المسمي بالولايات المتحدة الابراهيمية التي ستضم كل الدول العربية وايرانبرءاسة إسرائيل وتركيا.

س: ماهي علاقة الربط المنطقي بين العراق وإيران ضن مشروع مسار ابراهيم؟ اي بمعنى لدى حضرتك علا رابطة في إحدى اللقاءات تحدثت عن محاولات تفعيل دور العراق " الشيعي تحديدًا " ضمن مساع انجاح هذا. المخطط ماهوالدور المقصود بذلك؟ وماهي العلاقة المؤثرة او الرابطة في هذا الدور باتجاه إيران ؟

ج: العراق بها المرجعية الشرعية بالنجف ق مذهبية قوية للشيعة كبداية لقبول ودخول الدول الإسلامية الشيعيةبالمخطط لاكتمال مسار ابراهيم بدخول إيران واليمن ومن ثم يكتمل التدويل.

س: ما هي الآليات والوسائل التي تراها هبة جمال الدين للوقوف ضد هذا المشروع؟

ج: رفض تغير مسمي الأديان من سماوية الو الابراهيمية، اصدار فتوي من المرجعية الشرعية بحرمة الابراهيمية وكذلكمن الازهر

رفض الشعوب العربية.

رفض السياحة الدينية فلا تدولوا الارض بحجة الدخول والتسامح،

التمسك بالأرض والدين والتعاون بين السنة والشيعة وحل المشكلة بين إيران والدول العربية، فلقاءنا معا مرتبط ببعضهالبعض لمجابهه المخطط الصهيو امريكي ، وتوعية شبابنا بالمخطط اللعين.

شكرا لوقتك الممنوح في الاجابة مع التقدير ..

 

حاورها الكاتب والصحفي

انور الموسوي

 

 

2808 ليلى الطيب* هل لك ان تقدمي نفسك للقراء؟

 - ليلى الطيب مواليد 7 أغسطس بالجزائر وتحديدًا شرق العاصمة في  قسنطينة، مدينة الجسور المعلقة والعلم والعلماء، التي ولد فيها العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس عضو جمعية العلماء المسلمين، وهي الجمال وفيها كل السحر، وتجعل منك شاعرًا رغما عنك.

* متى بدأت الكتابة، وإلى لون أدبي تميلين، وما الذي يستفزك للكتابة؟

- انا ما اخترت الحرف وإنما هو اختارني، ومنذ دخولي المدرسة في سن 6 سنوات ظهرت ميولي للتعبير والمحادثة، وبدأت الكتابة الحقيقية في سن 12سنة. كانت مجرد رسائل، بعدها نصوص قالوا انها شعر نثري أو هي سرد أحيانًا، ولم اصنف نفسي في زاوية محددة، وباقي الفنون الأدبية كالقصة والرواية اعشقها وطُلب مني مرارًا محاولة الكتابة وربما سأفعل يومًا. ويستفزني في الكتابة لو قرأت نصًا ولامسني أتمنى الكتابة مثله أو أن يكون لي والحرف مني، علاوة على اختيار مفردة موجزة تصل لعمق المعنى المراد بشكل مكثف. 

* الشعر، ماذا يعني بالنسبة لك؟! وأي المضامين تركزين عليها؟

 - الشعر هو الباب الذي أطرقه للفرح والتعبير عما يجول بمخيلتي

وبما أريده واقعًا، أو التعبير عن حالة رأيتها او قرأتها، فهو ما منحني جديد حياتي، وفسح لي مجال العيش ومحاورة الذات بعد أن كنت احتضر.

 * أين الوطن في شعرك، وما هو حيز الحب في قصيدتك؟

 - الوطن أسكنه رغم أني مقصرة في حرفي معه لأن كل حروف الأبجدية لا تفي التعبير عنه. أحس مشاعري متذبذبة ناقصة لا تتنفس ما نحن فيه وتوصيل معانيه، أما الحب في قصائدي فهو صمامها الأبدي ومحورها الرئيسي.

 * هل توجهت وجهة معينة في ثقافتك الشعرية، وما دور الثقافة في جودة الشعر؟

 - وجهتي للحرف لا غيره أكيد، رغم مطالعتي لبعض الكتب وما اكثرها الا إنني أظل تواقة للقراءة أكثر والتعلم بقدر كافٍ حتى استطيع تجديد مفرداتي وخروج نصي بالجودة المطلوبة التي يحبها القراء.

 *هل تسيرين في شعرك ضمن إطار اجتماعي أو فكري، أم إنك تتفاعلين مع التجربة الآنية؟

 - مع كل ما ذكرت يحكمنا مجتمع وفكر وتجارب، وإلا يظل النص حبيس الجدران ومستهلكًا.

 * ما رأيك بقصيدة الومضة التي لها حضورها في الوقت الحاضر؟

 - في مرحلة من عمري اقتصرت كتاباتي على الومضة واتقنتها والحمد للـه بمساعدة أساتذة وبشهاداتهم. والومضة هي قصيدة العصر، وأصبح الكل يلجأ لها لقصر أحرفها وغزارة معانيها واصابتها الهدف بإيجاز.

* ما رأيك بوجود أدب نسائي وآخر رجالي؟

 - الصراحة لا أحب وضع فروق،  فالأدب أدب لا يدخل فيه جنس ذكر أو أنثى، كل منهما يكمل الآخر ويبدع فيما يكتب.

 * كيف ترين الواقع الثقافي في بلدك بشكل خاص، وفي العالم العربي على وجه العموم؟

- الواقع الثقافي للأقلام الجزائرية عمومًا وافرة ومتمكنة، ولها باع في كل المجالات والألوان. صحيح يوجد نقص أو عدم انتشار واسع، لكن الحرف الجزائري لا يستهان به، ولكل واحد من المبدعين مدرسته الخاصة وموجود على الساحة الثقافية الجزائرية والعربية بغزارة، وهنالك الكثير من الشعراء والكتاب المتميزين، والواقع الثقافي في العالم العربي لا يختلف عن الواقع الثقافي في الجزائر، ورغم وجود نشاطات شبابية ومبادرات أدبية الا أن النقص مازال قائمًا في عدد من المجالات.

 * كيف يبدو النقد العربي في الوقت الراهن، ومن يعجبك من النقاد، وهل أنصفك النقد؟

 - النقد قائم على حسب الحرف، وثمة نقاد منهم من يلفت انتباهه حروف الشاعر فيقدمه على طبق متشكل به كل ألوان التقييم والتحليل والقيمة البنيوية للنص والتفرد والسقوط، ومنهم من يقدم نقدًا لنص من صنف حرفه وفكره وقربه كنوع من الترضية لصاحبه ومفاخرة به ، أو كرد جميل، أو أنه يراه نابغة متجدد يقدم الإبداع دائمًا، ويظل النقد لبعض الأقلام زيادة في العمل ومحاولة تصحيح مساره ومنهم من لا يعني له النقد شيئًا طالما نصه يرضيه وهو مقتنع بسلامة ما يكتب حتى لو رأى غيره ضعفًا في نصه. ولي تجربتان فقط كتبت بحفاوة عن حرفي رغم أنني هاوية حرف لا غير، من الناقدة العراقية الأستاذة الأديبة إنعام كمونة نسغ التأمل، والناقد الأديب المغربي عبد الرحمن بكري، وإنني من هنا أقدم لهما خالص الشكر لوقوفهما على حرفي ومتابعته.

 * كيف تفهمين الحرية، وما رأيك بما وصلت إليه المرأة في الوطن العربي من تحرر اجتماعي؟

- ما دمت اتنفس فأنا حرة، والمجتمع مازال ذكوريًا 100%، لا تغريك العناوين والشعارات عن المساواة بين الرجل والمرأة، من قال أن الرجل ترك لها المكان، ومن قال أن المرأة تعيش بعيدة عن ضلعه، ما زالا في الدائرة، وكل منهما يدور على الآخر.

* هل لك إصدارات ورقية، وما هي مشاريعك الأدبية المستقبلية؟

 - اصداراتي هي:

ديوان حروف حائرة صدر سنة 2016

وديوان مشترك تحت عنوان "كلمات فرسان الخيمة" صدر 2021

ولي ديوانان تحت الطباعة، الأول "الروابي تستمطر حبًا"، والثاني "اسئلة التوت".

 *من يعجبك من الشعراء القدماء والحداثيين، نساءً ورجالًا؟

 - إنني مولعة بالمعلقات وبطرفة بن العبد، زهير بن ابي سلمى، والبحتري،  وابن زيدون، ومن الجزائر ابو القاسم خمار، الأخضر السائحي، والفلسطيني محمود درويش.

* ما هي القصيدة الأحب إلى نفسك، من قصائدك؟

 - عندي حرف أحبه لا قصيدة أحب

* ماذا تختارين للقراء من قصائدكِ؟

 - اختار قصيدة "امرأة من نار"

تمطر السّماء من ضحكته

وأهمس لشفتيه:

أنا الحلم المتمرد

وأنت الواقع على أعتاب العُمْر

أنا الحرف العذري

يتوضأ بالحب ويُعَمَّدُ بأنامل جمر

انا امرأة من نار

لحظات انصهار الروح

تخمد جذوتها

تهدهدُ العشقَ أنفاساً

بين أغصان عارية

تحيا بقبلة لقاء.

وتكتب على صدرك بلمعةِ عين

لا بنبيذ حبر

كنتُ ســ أُخبرك!

أنّ صلاتي قصيدتك

وان طالت متاهات صمتك

سأتوضّأ بعطرك

إذا نطق نبضي:

حقّ آلاء الغياب

وهذا المساء القلق

‏ثمةَ حرفٌ..!

عنوانه انتَ..

زاهي الزّهرات

بعضه منك وبعضه مني

* ما هي الكلمة الأخيرة للقارئ؟

 - أحبّوا بعضكم وكونوا أوفياء، فالوفاء اصبح عملة نادرة.

وألف شكر لك أستاذ شاكر فريد حسن على هذا الحوار الشائق.

 

 

2806 سعد وحنان- بالشجرة أستدلُّ على الحياة، والشَّجرة هي أنا والوطن والحبيبة...!!!

- تعدد القراءات في النَّصّ الواحد سمة مهمة من سمات الحداثة .

- لا تجديد يأتي من فراغ والتجديد هو سرّ الحياة وديمومة الإبداع.

- الإبداع الحقيقي هو ما يبقى .

للحروف لهفة يستمد منها روحه لعزف نشيد الريح وهي تراقص قامات أشجاره الباسقات بموسيقى تواشيح الطبيعة فتسقسق أشواقها أخاديد شوق وحنين وتبث الوهج النابع من أعماق وجدان شاعرنا وضيفنا الدكتور سعد ياسين يوسف قصائد رائعة للغاية .

عراقي المولد عام1957 في مدينة العمارة . عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. أصدر سبعاً من المجموعات الشعرية. وهو باحث أكاديمي حاصل على درجة دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر للعلاقات الدولية وله دراسات وأبحاث ومحاضرات واسعة جدا ومشاركات شعرية في مهرجانات وتجمعات ادبية محلية وعربية ودولية كثيرة . يجيد صياغة الحرف بأسلوب ممتع له أسلوب رائع في كتابة القصيدة النثرية بطريقة خلاقة.. قصائده تحمل كماً كبيراً من الأحاسيس الوجدانية والإنسانية بصور رائعة تخدم المعنى وتعمقه وكانها لوحة فنية رسمها فنان بريشته الجميلة. أبدع الدكتور سعد ياسين يوسف وتوفق في الوصف والتشبيه وتوظيف الانزياحات اللغوية في التشكيل الشعري واعتمد الشجرة رمزاً له وأنسنها ولذلك لقبه النقاد بشاعر الأشجار.

قال عنه الناقد الكبير فاضل ثامر " إنَّ الشّاعر سعد ياسين يوسف تألق في قصيدة النثر ببنيات مهمة ومن خلال انتماء الشّاعر لفضاء الطبيعة وأنسنتها وقد استطاع أن يخلق منها كياناً إنسانياً لتصبح رمزاً و(آخراً) حينما يقيم حواراً مع افتراضي آخر هو الشَّجرة الذي قد يكون قريناً له أو الوجه الآخر مشدداً على إنَّ تجربة الشّاعر سعد ياسين يوسف تجربة غنيّة تندرج ضمن المتن الثقافيّ لما حظيت به من تكريم وجوائز عالميّة وتتطلب قراءة جادّة".

س1: يلقبك النقاد ب (شاعر الأشجار) ما قصة الأشجار في أغلب

قصائدك دكتور سعد؟ وما سرّ هذا التعلق بها؟

- بالشجرة أستدلُّ على الحياة، الشَّجرة هي أنا ..هي الإنسان هي العائلة هي الوطن هي البيت والقيم وهي الحبيبة والملاذ وهي الشَّاهد وهي المقتول بحزن الفصول ... أليس لكلِّ شيءٍ في الحياة شجرته، أقصد جذرا وساقا وفروعا ..؟ ولذا كانت الشَّجرة وبدون وعي مني تتألق في قصائدي وتتوهج معي لتعلنَ عن وجودها.

لقد أنسنتُ مفهوم الشَّجر بانزياحات لغوية عديدة وقد تنبه الكتّاب والنُّقاد لذلك وأطلقوا عليَّ لقب (شاعر الأشجار) في أكثر من مقال ودراسة نقدية ومقابلة تلفزيونية، فيما أقام لي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أُصبوحة احتفائية سُميت حينها (الأشجار ثيمة في شعر الدكتور سعد ياسين يوسف) تحدث فيها عدد من النُّقاد والأكاديميين الذين أكدوا فيها أنَّ منجزي الشِّعري قد تفرد باعتماد هذا الرَّمز ومنحهُ عمقاً عبر النّصوص التي يتشظى فيها معنى الأشجار ويكبر ويصبح ثيمة واسعة وعميقة تستدعي الدِّراسة النقديّة الأكاديميّة والفكريّة.

ولو تأملنا الآية القرآنيّة التي ورد فيها أسم الشَّجرة وهي 24من سورة إبراهيم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ..) .... يالها من شجرة هذه التي أجلس كل َّ يومٍ تحت معانيها لأنهل منها صوراً شعريّة باذخة الجمال والعظمة .

وحتى في الفلسفة للشَّجرة أهمية كبيرة فهذا ابن عربي يقول :" إني نظرت ُ إلى الكون وتكوينهِ، وإلى المكنونِ وتكوينه، فرأيت الكون شجرة".

أما سرّ التعلق بهذا الرَّمز لأنَّه مشروعي الفكريّ والفلسفيّ في الكتابة الشِّعريّة وأنا سعيد ومُطلَق العنان في معانيه الرَّحبة .

س2: خلف العناوين الظاهرة في قصائدك الرائعة الكثير من الرّموز العميقة المختبئة تملأ أبجدية اللّغة العربيّة بدهشة قلمك .. كيف لهذه الأحاسيس أن تترابط فيما بينها؟

- مجموع هذه الرّموز هي أنا، حياتي، مشاعري ما أحب ومن أحب، والعنوان عتبة مهمة للدِّخول إلى عالم القصيدة والعتبة كما يُجمع النّقاد ومنهم (جيرار جنيت) حيث يؤكد أنَّ العنوان (ما يَصنع فيه النَّصُّ من نفسه كتاباً مفتوحاً ويقترح ذاتَهُ بهذه الصِّفة على قرائه وعلى الجمهور عموما،أي ما يحيط بالكتاب من سياج ٍأولي وعتباتٍ بصريّةٍ ولغويّة .)

وهكذا فالعنوان نصٌ يوازي النَّصَّ الأصلي لإنتاج المزيد من الدِّلالات الشِّعريّة التي تُفعّل دائرة التلقي وفنّ التَّأويل وتشكّل علامات دالة تلخص الفكرة وتكثفها وتُظهر الأبعاد الرَّمزية لها، لتمثل مفاتيح دلاليّة تؤدي وظيفة إيحائيّة باتجاه المعنى ومقترباته .

لذلك فأن العنوان عندي هو تكثيف لبؤرة ضوء القصيدة والجهد الذي أبذله في اختياره يوازي جهد كتابة القصيدة، وأحيانا تولد القصيدة حاملة اسمها .

س3: عندما تتألم أشجارك، كيف تدفن أكداس الحزن؟ وكيف تلتقط حبات ضياء الأمال لتمنحها لعصافير المعنى المغرد على أغصانها؟

- هذا سؤال جدُ رومانسيّ وعذب، نعم أشجاري تفرح وتتألم وينعكس ذلك على مرايا قصائدي كضوع بخور لا يمكن أخفاء عطره كلّما أشتعل وتوهج زاد عبيره وأنتشر شذاه، وأنا على تواصل مع أشجاري كلّ يوم أستمع لحفيفها في الليل حينما أخرج بعد أن يؤوب النَّاس إلى منازلهم وتخلو الشَّوارع والأزقة من كلِّ شيء إلا من نسمات مشاكسة بلَّلها نثيث مطر خفيف وعطر الياسمين، وأحيانا أنشدها بعضاً من قصائدي فيزداد الحفيف ليصبح تصفيقا ً هو الأصدق من تصفيق أي جمهور .

س4: الكثير من الأمنيات تتجسد بحروف تخرج من مكنون القلب .. والحرف يتوهج قصيدة بإحساس عالٍ يستمد منا روحه، بماذا تحدّث القصيدة الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف؟

- للقصيدة حديثان، حديث لحظة تشكلها وقد يمتد للحظات وساعات وأيام وقد يطول لأكثر من عام بكل تحولات الجنين في رحم أمه، تلازمني ألوانها ومساراتها وشكل عينيها، وحديث بعد ولادتها حينما أُداعب خدودها وشعرها المنسدل على كتفيها وبهذا تكون قد باحت لي بأسرار جمالها، أضع وردة على غرتها وأزين شفتيها بحمرة الرِّوح وأضع بعض أسراري بين نهديها، وقد صَوَرتُ معاناة الولادة في قصيدة (شجرة القصيدة) وأسمحي لي أنْ أقتبس منها :

((هيَ الغيثُ النازلُ فوقَ يبابِ الأرضِ

ينبتُ اكواناً من سحرٍ

ومواسمَ أعيادِ الأرضِ

هي حزني المتفجّرُ صمتاً ببريقِ عيوني

وصهيلِ خيولي النافرةِ من برزخ ِصدري

لسماواتٍ سابعة ٍ.. .. ..

خلفَ سنابِكها نُثْارُ نجومِ الدهشة ِ

تَمْوّجُ أوراقِ الآياتِ الأولى

وهي تحلقُ عائدةً

لتحطَّ على أشجارِ حديقتيَ المسكونةِ

برفيفٍ لا أعرفُ سره ...))

2806 سعد وحنان

س5: كيف تنظر لمستقبل اللغة العربية في ظلّ التحديات الكبيرة التي يطغى فيها صخب الإنترنت، وخاصة مستقبل جيل الشباب والغيمة المثقلة بالتكنولوجيا الرقمية؟

- للّغتنا العربية ربٌّ يحميها لكِ أنْ تطالعي التأريخ الذي مرت به اللُّغة العربية والهجمات التي تعرضت لها بفعل الفرنسة والتتريك والتفريس، لكنها بقيت صامدة تستمد عمقها وجزالتها من كتاب الله (القرآن الكريم) ومن تراثها الهائل الذي تمتلكه على مرِّ العصور، فلا خوف عليها على الإطلاق، وما أوجده الإنتريت ومواقع التَّواصل الاجتماعيّ لا ينال من جرف اللُّغة بدليل أن هذه المقابلة وبلغتنا العربية الفصحى تمت عبر الإنترنيت، لكن ثمة شريحة من الذين تركوا الوطن وهاجروا إلى المنافي وجدوا أنفسهم أمام معضلة الأبناء الذين ولدوا هناك وقد فرضت عليهم ظروف البلاد الجديدة لغتها، وهنا لابد أن يتدخل الأهل ليزرعوا في قلوبهم حبّ اللّغة العربيّة لما فيها من مميزات لا تتوفر في أيّةِ لغة أخرى من حيث عدد مفرداتها وثراء اشتقاقاتها وجزالة معانيها، فتلك حقا مسؤولية الأسرة .

س6: في قلب أشجارك (قصائدك) كرنفال من المعاني يتردد صداه بانزياحات مدهشة وشخوص نصية أنزياحية وطبيعية .. كيف تنظر لضرورة تعدد القراءات في النصّ؟

- تعدد القراءات في النَّصّ الواحد سمة مهمة من سمات الحداثة في القصيدة الحديثة فلا قيمة إبداعيّة لنصٍّ بمعنى مباشر واحد لا يتشظى فيه المعني لمعانٍ تتسع كدوائر الماء عند إلقاء حجر في بركة، وهذه مهمة الجملة الشِّعرية الحيّة أن توسّع مدارك المتلقي وتترك فيه اتساع دوائر المعنى فأنا أرى أنَّ القصيدة يجب أن ترتقي بمدارك المتلقي لا أن تهبط به إلى ما هو سائد ومستهلك أو أن تجعله يصفق كما صفق الآخرون، التصفيق لم يعد قياساً لجودة القصيدة قدر ما تحققه من ارتفاع في درجة حرارة فكر المتلقي وهو يعيد تشكيل المعنى وصولاً إلى الدهشة .

س7: حصلت قصيدتيك (قذائف وشناشيل) و(قيامة بابل) الرائعتين على المركز الأوّل في مهرجانين للشعر في بلغراد بالرغم من عدم حضورك الأوّل، ماذا يعني ذلك لكَ.

- حزت على جائزة يوم الشِّعر العالمي لمرتين الأولى في تموز عام 2012بقصيدة قذائف وشناشيل التي كانت صرخة بوجه العدوان الأمريكي الغاشم على العراق، وهذا يعني أنَّ الإبداع الإنساني هو ما يصل عابرا إلى الضّفة الأخرى حتى بدون وجود الشَّاعر بجسده،وذلك حينما يحمل نصّه قضية إنسانيّة يتفاعل معها الإنسان في كلِّ مكان.

أما المرة الثانية التي أحرزت فيها الأولى أيضا في عام 2013 بقصيدة (قيامة بابل) كنت موجودا وقد قوبلت بحفاوة كبيرة من قبل الأدباء والمفكرين والإعلاميين في بلغراد وأحتفت المكتبات بتوقيع نسخ من مجاميعي الشِّعرية لتكون أول كتب عربيّة تدخل لمكتبة بلغراد في حينها.

وقد أقيمت لي جلسات شعريّة في أكثر من مدينة صربيّة ومقابلات تلفزيونية للاحتفاء بمنجزي وبحضارة بابل، وحضارة بابل معروفة في كلِّ أرجاء المعمورة والقصيدة كانت تبشر بقيامة بابل من جديد ونهوض العراق بعد كلِّ الحروب والنَّكسات التي مرّ بها لأنَّه بلد الحضارات التي مهما تكالب الأعداء على إطفاء نوره يعود ليتوهج نوراً يهدي الإنسانية من جديد .

س8: كيف تقبَّل الجمهور الأجنبي في مهرجانات بلغراد ومدن صربيا لقصائدك باللغة العربية؟ وهل ترجمة هذه النصوص أفقدها الجانب الأيقاعي والشعري؟

- أنا أومن بأنَّ الأحساس لغة، وكان ثمة مترجم رائع وشاعر هو الأستاذ صباح الزبيدي  يريد أنْ يترجم القصيدة أثناء القراءة، لكني طلبت منه أن أكملَ قراءة القصيدة باللّغة العربيَّة كاملة كي لا أتوقف وتفقد وهجها، وهذا ما حصل توقفت التَّرجمة وكان الجمهور ينصت بشغف لي ويتفاعل مع إحساسي الذي حاولت أنْ أوصله بتموجات الحزن والفرح واللَّهفة والألم وحالما أنهيت القصيدة صفق ليَ الجمهور بحرارة قام بعدها المترجم بقراءة القصيدة باللّغة الصربيّة .لكن مما أثار فرحي أنَّ أحدى الأديبات الحاضرات أستأذنتني بحديث على إنفراد لتقول : إنَّها فهمت معاني القصيدة بأكملها من خلال قراءتي وإنَّ الشُّحنة التي أكتنفتها القصيدة قد وصلت إليها قبل أنْ تستمع إليها مترجمة ً .

س9: ما هي فلسفتك في الحياة، هل هي روحية، ام واقعية؟

- الواقع يفرض شروطه علينا، شروطه القاسية الموجعه ومآلاته ومتغيراته فنلوذ بندى الرُّوح لنخفف قليلا من قسوة الواقع وجفافه وما يتركه من ندوب وجراح عميقة في قلوبنا، الواقع مفروض علينا، لذا لابد أنْ نخوض غماره متسلحين بكلِّ دفاعات الرُّوح من قيم أرضيّة وسماويّة يسمو بها الإنسان وينتصر بها على واقعه، والشِّعر هو القيمة الروحيّة التي ألوذ بها من هول قساوة هذا الكون .

س10: جلسات الحوارات الأدبيّة التي تحتفي بكَ دوماً شاعراً مبدعاً في بقاع الأرض أجمع، والدِّراسات النقديّة التي يقدمها الكتّاب والنُّقاد في مضامين دواوينك وتقدمك كحلقة وصل بين رواد الشّعراء و جيل الشّباب .. بماذا يُشعرك ذلك ؟

- أغلب من قدمني في الجلسات الحواريّة وجلسات الاحتفاء بي وكتب عن منجزي الشعري قراءةً ونقداً كانوا قد اطلعوا على بداياتي الشِّعرية التي تمتد لسبعينيات القرن الماضي لذلك وجدوا هذه الصفة التي (لا أدعيها لنفسي)، أما فيما يخص جيل الشّعراء الشّباب فنعم، وقفت معهم ودعمتهم من خلال وجودي في عضوية منتدى الشِّعر في الاتحاد العام للأدباء والكتاب ومن خلال اشرافي على حملة الإشارة هذا هو الشَّاعر العراقيّ هذا الموقع الذي احتفينا من خلاله بقامات شعرية سامقة وكذلك بالعديد من الشّعراء الشَّباب وبشّرنا بهم كشعراء واعدين وهم الآن شعراء مميزون في الحركة الشِّعريّة العراقيّة، وهذا ما يشعرني بالفخر لأني ساهمت بمدِّ يد العون للجيل الذي أعقبنا .

س11: تندفع الاجيال الجديدة وراء التجديد، هل يدعو دكتور سعد ياسين لمبدأ التجديد مع الأصالة وما هي حدود التجديد لديك؟

- لا تجديد يأتي من فراغ والتجديد هو سرّ الحياة وديمومة الإبداع هذا ما يعلمنا إياه تعاقب الليل والنهار ولولا التجديد الذي طرق أبوابه المبدعون الذين سبقونا انطلاقاً من عمق أصالتهم، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، وبالتأكيد ينطلق التَّجديد من أصالتنا وهذه مسؤولية تقع على عاتقنا وعاتق جيلنا لنواصل مسيرة الإبداع ونمنح الأجيال المقبلة شعلته .ومع ذلك أنا لست مع التجديد الذي يُفقد الإبداع جمال الصورة والقيم الجماليَّة التي ترسخت في ذواتنا ولست مع التجديد الذي يسلب القصيدة دهشتها ولا يُنقّي المفردات والجمل في القصيدة ويمسخ الهوية العربيّة والإنسانيّة.

س12: في قصيدة( عيون الصّبار) و (شجرة العروج) من ديوان

أشجار لاهثة في العراء خرج أنين وصرخة مدوية لترثي العصافير

المذبوحة التي رقدت على أشجار بغداد .. " فوق نافورة الدم ..

كيف تحمل بقلبك كل هذا الصخب المؤلم لتنهض من رمادك فتقول " خذي ثلجك أيّتها العاصفة .. ودعي لنا شمس أحزاننا التي تمرّست بالبقاء " كما قصيدة (أشجاري تعرفك) .

- القصيدتان الأولى والثانية كانتا على إثر فاجعة الكرادة، والكرادة : حيٌّ في بغداد تعرض لتفجير انتحاري اجرامي في أهم مجمعاته التجارية في شهر يوليو عام 2016 بينما كان المدنيون الأبرياء يتبضعون أستعداداً لعيد الفطر المبارك .. راح ضحيته أكثر من (1500) شهيد وجريح من النساء والأطفال والشَّباب، ولذا وجدتني أكتب قصيدتين عن هذه الفاجعة وأنا ألوذ بالشِّعر من هول الفجيعة، وقد لقيتا أهتماما من قبل الشُّعراء العرب حتى حينما دُعيت لتونس للإحتفاء بي في بيت الشِّعر التابع لوزارة الثَّقافة وجدت من يتحدث عنهما بألم ومن بين الذين تحدثوا عنهما وأشاد بهما الشَّاعر التونسيّ (سوف عبيد) حينما كنا في جلسة شعرية حضرها أ. د . عبد الرضا عليّ وأ.د . خضير درويش والروائي الكبير عبد الرحمن مجيد الرُّبيعي، مما يؤكد أنَّ النّصوص الصَّادقة تصل إلى القلوب رغم بعد المسافات .

أما (أشجاري تعرفك) فتتناول موضوعة الوفاء، فكثيراً ما نزرع أشجارنا ونزينها بالقصائد وورود القلب لكن العيد لن يمرَّ، ولو مرَّ وأنحنى تحت مهابة أغصانها يبدي نكرانا لخضرتها ...

س13: أعتمدت الرمزية في الكثير من كتاباتك،لماذا تستدعيها. وما هي حدودها لديك؟

- الرَّمز في قصائدي يعمق لغة الكتابة ويرتقي بالمعنى من المباشرة إلى معنى أعمق والرَّمز كما يقول المبدع صلاح عبد الصَّبور" يتيح لنا أنْ نتأمل شيئاً آخر وراء النصّ، فالرَّمز قبل كلِّ شيء معنى خفي وإيحاء" والرَّمز يحيلنا إلى فهم العلاقة الداخليّة التي تربط الدّال بالمدلول، أما نازك الملائكة فوصفته في كتابها قضايا الشِّعر المعاصر بأنّه "شيء حسّي يعتبر كإشارة لشيء معنوي لا يقع تحت الحواس "

أما اعتمادي الرَّمزيّة فهو لإبعاد النَّصّ عن المباشرة المملة المستهكلة وكتابة نصّ مغاير للّسائد مليء بالمعاني والإشارات الخفية التي توسع دائرة التلقي وتحتفي بعقل القاريء وتدفعه إلى الإكتشاف والتفكير وأستدعاء مرجعياته الثقافيّة وبذلك نضيف شيئا جديدا ً للقارئ ونرتقي بثقافته من خلال أستمتاعه بالربط بين الرَّمز والمرموز أو من خلال سعيه لفك رموز النَّصّ بالعودة إلى ما يضعه النَّصّ من تحدٍ سيميائيّ أمامه عبر الرّموز الأسطوريّة أو التَّأريخيّة أو الحياتيّة أو الطبيعيّة وصولا إلى لذة الإكتشاف والدَّهشة، بعيداً عن التَّعمية والانغلاق في المعنى الذي يضع حواجز بين القارئ والنَّص ّ .

س14: كتبت عن الحلم كثيرا، فمتى يكون الحلم وعداً؟ هل هو شمعة الفرح المؤجلة؟ ام هو في حفيف أجنحة الفراشات التي توشح الافق بغدٍ أفضل؟

- الحلاج يقول "إنَّ الحلم جنين الواقع" فلا واقع مرتجى لولا الحُلم بتغييره نحو الأحسن والحُلم هو ما يمنحنا الطاقة لإيقاد شمعة الفرح لنضيء دروب الظَّلام بنورها،والحلم بالزَّهرة هو ما يمنح أجنحة الفراشات رفيفها،والحياة البشريّة تدفقها وزخمها اليومي المتفجر بكل ما هو جديد وبكل المنجزات التي تحققت، فلا حياة بلا حُلم والعمل هو ما يمنح الحُلم تَحققه .

س15: أي وهج يضيء من مجموعتك الجديدة الأشجار تحلّق عميقا؟

- إنما هو وهج الرُّوح الذي سيضيء في كلِّ قصائد المجموعة الشِّعريّة وهي السَّابعة وعبر أثنين وثلاثين نصّاً،والمجموعة دعوة بضرورة أنْ يعمّق الإنسان جذوره في الأرض ليحلّق في فضاءات العطاء الإنسانيّ، فلا تحليق بلا ترصين الرُّوح والقيم النبيلة،وبالتأكيد تناولت موضوعاتها همّ الإنسان العراقيّ وتطلعه للحياة الحرة الكريمة إنطلاقاً من حضارته والقيم السّماويّة والإنسانيّة التي آمن بها، ومواجهته للصعوبات والحروب والظروف الحياتيّة والسياسيّة القاهرة التي أثقلت كاهله .

كما تضمنت رؤيتي للأسئلة الكونيّة والفلسفيّة التي تواجهنا ومنها الحياة والموت والفراق والغربة والنّشوء.

فائق الشكر والتقدير دكتور سعد ياسين يوسف لهذا الحوار الممتع، أتمنى لك مزيدا من النجاح والتوفيق .

أجرت الحوار: الشاعرة والأعلامية حنان جميل حنا

جواد كاظم البيضانيتشكل منطقة القوقاز عقدة مواصلات مهمة في الحد الشمالي للعالم العربي، وهي واحدة من اهم المناطق ذات التأثير المباشر في ميزان القوى، والمحرك الفاعل للصراعات  المستحكمة بمنطقة الشرق الأوسط، فهي السكين  المؤقت لاي انفجار ربما يحدث، او نزاع ينشب بين طرفي النقيض، لان أيدلوجية الحرب بمفاهيمها التقليدية توصلنا الى قناعة بحتمية التصادم بين بلدان هذه العقدة، ولعلنا نفاجئ اذا ما علمنا ان اقليم متناهي في الصغر يشكل تهديد كبير في وقوع مثل هذا التصادم الذي وصفه البعض بالحتمي.  انها (قرباغ) او ما تسمىناغور نيقرباغ وسكانها يسموها (ارتساخ) وهذا الاقليم له وقع مؤثر في القراءة الاستراتيجي لثلاث دول مهمة في المنطقة هي ايران وتركيا وروسيا، فضلاً عن المحيط العربي القريب جداً، وهي قريبة من بؤرة نزاع مستحم في المنطقة بين تركيا وروسيا ودول اوربا طرف فيه، فضلاً عن الإستراتيجية الغربية التي تعتمد القضم والتطويق للضغط على روسا وايران وتحجيم إستراتجية الصين في بعدها الاقتصادي .

وللوقوف عن حجم هذا التهديد كان لنا لقاء موسع مع وزير خارجية قره باغ الجبلية الأستاذ الدكتور دافيد بابايان الذي يحلوا لبعض وكالات الانباء ان تسميه بـ(اقليم قرباغ المتناع عليه).

وقبل الحوار مع الدكتور دافيد بابايان لا بد ان نُعرف بموقع جمهورية قرباغ، فهي منطقة جبلية وعرة تقع وفق المعاهدات الدولية في الخاصرة اليسرى على الطرف الجنوبي الغربي من دولة اذربيجان، عاصمة هذه الجمهورية مدينة استيبانا كيرت، وربما سميت بهذا الاسم نسبتاً إلى الزعيم الأرميني ستيبانشو ماهان، يعتمد نشاط هذه الجمهورية غير المعترف بها دولياً على الزراعة وتربية المواشي وبعض الصناعات التقليدية. وهي منطقة شهدت نزاعات بين القوى الاقليمية الثلاث في المنطقة، وكان سؤالنا الاول للدكتور بابايان عن: السبل التي مكنت هذه الجمهورية المحاصرة من اذربيجان بان تحافظ على كيانها رغم عدم التوافق الكبير بين ارمينيا واذربيجان؟

قال السيد بابايان بعد الترحيب والشكر: "الحقيقة ان اذربيجان لم تقاتل بمفردها، بل كانت هناك غرفة عمليات تركية اذرية واشتركت معها دول اخرى، وعليك ان تتصور الفرق الكبير ان تقاتل بدولة سكانها بكل شرائحهم لا يتخطون (150) الف وبين دولتين يتجاوز نفوسهما (100) مليون تملك التقنيات العسكرية المتطورة والاسلحة الفتاكة . نعم قاتلت اذربيجان والارهابيين المجندين من دول متعددة الذين تطوعوا للقتال الى جانب اذربيجان مقابل المال، وهذا يوضح لنا حجم التفاوت العددي الكبير. لقد خسرنا الكثير وهذا امر وارد في الحرب لكننا حافظنا على استقلالنا وهذا الامر المهم.

وهنا تبادر الى ذهني سؤال: " في ضوء هذا التهديد الذي وصفتموه ما هو الضامن لاستقلالكم ؟

يجيب الدكتور بابايان: "إن نهاية الحرب بين اذربيجان وارتساخ كانت فيها بصمة روسية. فعلاقتنا مع روسيا علاقة وثيقة، وودية ونحن اخوة، وروسيا هي الضامن، ونحن نقدر تقديراً كبيراً الدور المميز الذي تضطلع به في فرض حالة الاستقرار في المنطقة ومعالجة اي تدهور فيها، ولكم ان تعلموا ان علاقاتنا مع الاشقاء في روسيا هي علاقات تاريخية متينة، وقوات حفظ سلام روسيا ساهمت في اعادة اعمار ما خلفته الحرب، فضلاً عن تعزيز الأمن والاستقرار في جمهوريتنا.

وعن علاقات جمهورية ارتساخ مع دول العالم، والدول التي اعترفت بجمهورية ارتساخ، قال؟

لدينا علاقات واسعة مع بعض الدول، وهناك تمثيل دبلوماسي لنا مع بعضها، فمثلاً هناك اعتراف متبادل مع جمهورية جمهوريةابخازيا وجمهورية بريدنيستروفيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية وهي جمهوريات مستقلة،  وأيضا تم الاعتراف بجمهوريتنا من مجالس بعض الولايات الامريكية وفي اوسترالية وبعض المدن والبلديات الاميركية وفي أوربا ايضاًأوروبية.والحق ان للجالية الارمنية في الشتات دوراً في ذلك. فدعمهم لأشقائهم لا ينقطع لأنهم يدركون جيداً حجم التهديم الذي يتعرض له شعبنا.

وعن العلاقات مع العالم العربي قال الدكتور دافيد بابايان؟

من غير ادنا شك ان الوطن العربي يمثل لنا أهمية كبيرة، ويعود تاريخنا مع العرب الى قرون خلت، وهناك نشاط اقتصادي، وتاريخي وبنيوي تربطنا مع العرب، لقد ابطل شعبنا اكبر تحدي على المسلمين وهو ثورة بابك الخرمي على العباسيين في فترة ٨٢٦ - ٨٣٧. وكما هو معلوم فان انتصار هذه الثورة لو حصل لكان له اثر خطير ومدمر في مسيرة الحضارة الإسلامية التي شعت في هذه المرحلة. وهناك تلاقع فكري ومعرفي مع المسلمين، فالإسلام هو دين عظيم انتج حضارة عظيمة، نحن نكن لها الاحترام والتقدير.

ويتابع بابايان القول أن للعرب موقف مشرف في التاريخ الحديث عندما وقفوا إلى جانب شعبنا بفعل الإبادة التي ارتكبت بحق الأرمن، فكانت بلادهم مواطن لشعبنا الجريح، وعاش الأرمن في كثير من البلدان العربية كمواطنين كانت لهم انجازاتهم في حقول معرفية وعلمية وصناعية .

في الختام قال الدكتور دافد بابايان: " نحن من خلالكم نريد ان يطلع الشعب العربي على حجم التهديد الذي يتعرض له شعبنا، وشعوب الإقليم من تركيا التي تشكل تهديد حقيقي للعراق ومصر وسوريا وليبيا ودول الخليج العربي، لأنها حالة عدم استقرار بسبب اطماعها التي اعلن عنها المسؤولين الاتراك في اكثر من مناسبة. متمني ان تعيش المنطقة بأمن وسلام بعيداً عن التهديدات التي تفرضها الدول القوية على الدول الأقل منها قوة.

2758 لقاء البيضاني

 

اجرى اللقاء الدكتور جواد كاظم البيضاني

 

 

2756 الزمن والحزنحاوره: غرانت بارتلي

تقديم وترجمة: حاتم حميد محسن


نبذة موجزة

وُلد ريموند تاليس عام 1946 وهو فيلسوف بريطاني وفيزيائي طبي عمل في جامعتي اكسفورد ومانشستر. كتابه الحالي عن فلسفة الزمن.غموض الزمن يبدو عصيا على الفهم عندما يتم تجريده من الأوصاف والاستعارات الشائعة. المؤلف يرتقى الى مستوى التحدي ويستطلع طبيعة ومعنى الزمن وأفضل طريقة لفهمه. كتاب الزمن والحزن شكّل ذروة 20 سنة من التفكير والكتابة والتساؤل حول الزمن، انه عمل جريء وأصلي ومثير للتفكير . تاليس يسعى بلا خوف الى استعادة الزمن من فكّي الفيزياء. بالنسبة لمعظم الناس، الزمن مركب من الصباح، الظهر، المساء ويُعبّر عنه بالاستعجال، الأمل، الشوق، الانتظار، التحمل، التخطيط والتوقعات المرحة والمؤسفة. التفكير في الزمن يعني التأمل في فنائنا. لكن الفيزياء تقول القليل او لا تقول شيئا عن الزمن كما يُعاش. القصة التي تحكيها الساعات او نظرية الكوانتم بحاجة الى دعم من طحالب الصخور، ودموع العينين والقصص الطويلة لرحلتنا الانسانية. حياتنا القصيرة تستحق انتباه اكبر مما تقدمه معادلات الفيزياء الرياضية. كل من أصابته الحيرة حول الزمن وطبيعته يتسائل ما اذا كان الزمن غير منفصل عن التغيير، او ان كان نقطة ام مستمر، او ما اذا كان هو ذاته حقيقي. الكاتب يضع وعي الانسان في قلب الزمن ويبيّن اننا "اكثر من مجرد جسم صغير في ساعة كونية، مجبرين على التعاون مع التقدم الذي يدفعنا نحو منتصف الليل".

في المقابلة التي نشرتها مجلة الفلسفة الآن لشهر حزيران/ تموز 2017 يبدأ المحاور غرانت بارتلي في مقابلته مع المؤلف بالقول:

 رائع ان أرى البروفيسور تاليس للحديث عن عمله الجديد والعظيم حول الزمن والحزن. ما الدوافع التي دفعتك لكتابة هذا الكتاب؟

- حسنا، انه جزء من مشروع كبير. كإنساني علماني، انا أشعر نجحت في تحرير نفسي من التفكير الما فوق طبيعي للانسانية، لكن البديل للعديد من الناس هو التفكير الطبيعي – فكرة اننا فقط "أجزاء من الطبيعة". أحد مظاهر هذا هو فكرة ان العلوم الطبيعية هي بالنهاية ستعطينا وصفا تاما، ليس فقط لبقية الكون، وانما لأنفسنا ونحن نعيش فيه. هذه العلموية كانت احدى أهدافي لعدة سنوات، وهي احدى الدوافع لكتابة هذا الكتاب حول الزمن. هناك دوافع اخرى. لكن الاختزالية العلمية للزمن الى "زمن صغير"(ت) هي مثال جيد عن المكان الذي ستأخذنا اليه العلموية، والذي سيكون مكانا كئيب.

بـالرمز (ت) انت تعني تمثيل الزمن كقيمة بدلا من شيء واقعي؟

- انا أعني ككمية خالصة من متغير، كمجرد بُعد، أحد الأبعاد الأربعة، الأبعاد الثلاثة الاخرى هي المكان (عرض وارتفاع وعمق) – كنتيجة لفكرتنا عن الزمن والتي هي فكرة فقيرة بشكل خطير. الوصف العلمي للزمن مفيد بالطبع. انه مكّننا من التنبؤ بالأحداث الفيزيائية والسيطرة عليها بطريقة لم تكن متاحة قبل العصر العلمي. الخطر هو ان هذا النجاح يقودنا للاعتقاد ان فيزياء الزمن، او الزمن كما يُرى في الفيزياء، هو آخر كلمة في الموضوع – ان فيزياء الزمن هي ميتافيزيقيته ايضا.

تأمّل في الأشياء التي تستطيع عملها في الزمن (ت). انت تستطيع ضربه بذاته. تستطيع وضعه تحت عامل متغير آخر كمقام، كما في حالة قياس السرعة. انت تستطيع استخدامه في سرعة الضوء لقياس المسافات النجمية وهكذا. الآن هذه انواع الاشياء انت تستطيع عملها في الزمن عندما يتم تجريده من كل ما ارتبطنا به اثناء حياتنا . لكن فكّر في محاولة وضع إجازة نهاية الاسبوع كمقام، او ضرب ظهيرة يوم سعيد في ذاتها. انه غير ممكن ، وسيجعلك تدرك ما تجرّد من الزمن عندما اختُزل اليه.

معنى ذلك ان التصور العلمي للزمن ككمية لايرتبط بتجربة الانسان له؟

- نعم ، وفي عدة طرق نحن عادة نعتقد ان ساعة الزمن هي الكلمة الاخيرة – بمعنى لو تخاصمت مع الساعة حول مقدار الوقت الذي مر، عندئذ فان الساعة بالنهاية يجب ان تكون صحيحة. ولكن بالطبع، الساعة تقيس فقط الكمية بينما الزمن اكثر غنى وتعقيدا من ذلك. لذا فان الكتاب يعالج اولا اختزال الزمن الى بُعد شبه مكاني، كما في نظرية النسبية، التي تتضح في الأبعاد الاربعة للفضاء. بالنهاية هذه الهندسة للزمن تختزله الى هندسة فضاء – وبالتالي يضيع الكثير. في الكتاب، انا افحص كيف يبدو الوقت مختزلا الى (ت) فقط عندما نزيل المراقب، عندما ننسى ان قياس الوقت يجب ان يتم بواسطة شخص ما. لذا حتى في عباراتها الخاصة، فيزياء الزمن تعطي وصفا غير تام لعملياتها. انا اريد ان أضع تجربة الانسان للزمن في مركز "الزمن". ذلك يبدو صعب جدا، لأنك حينما تقول ان وجود الزمن يعتمد على الانسانية، عندئذ انت ترفض الكثير مما نعرف عن العلم، خاصة ان هناك سلسلة زمنية من الأحداث قبل ان يكون هناك اي وعي، الوعي الانساني لا يهم. الانفجار العظيم جاء قبل ظهور الكواكب، والارض جاءت قبل ان تكون هناك حياة، والحياة جاءت قبل ان تكون هناك حياة واعية. لذا من الواضح ان الزمن كان قبل الوعي الانساني. انا لا أعني ان الزمان الفيزيائي هو باطني للوعي الانساني لأن ذلك سيضعني في موقف صعب بشأن ما نعرف عن تاريخ الكون.

كيف ترتبط الصورة الرياضية الفيزيائية بالواقع نفسه؟

- ذلك سؤال مثير للاهتمام يجب ان أعالجه، لأنني عندما أقول ان (ت) ليست حقا جوهر الزمن، انا ادّعي ان الاتجاه الكمي للعالم، رغم انه فعال بشكل استثنائي، لكنه لايستوعب تماما الواقع. في الكتاب انا أستكشف ثلاث رؤى عن السبب الذي جعل الرياضيات ناجحة جدا في الفيزياء، ولماذا الفيزياء كانت علما مؤثرا. الاول هو ان الرياضيات فقط اداة مفيدة جدا للتعامل مع مظهر معين من الواقع، أعني كمياته. الثاني هو ادّعاء اكثر جرأة في ان الرياضيات اساسا ليست وصفا جزئيا للعالم، وانما هي وصف تام له، وصف اكثر اخلاصا. واخيرا، هناك قوة صناعية فيثاغورية تقول ان العالم بالاساس يتألف من أشياء رياضية. بالنهاية أعتقد انا مع غالبية الفيزيائيين في رؤية الرياضيات فقط كأداة مؤثرة جدا، تعطي أجوبة كمية لأسئلة كمية. العالم ، لا يتألف فقط من أجوبة كمية لأسئلة كمية. الرياضيات فعالة جدا لأنها تختزل الأماكن لأماكن عشرية، لكن الأماكن ليست أماكن عشرية، انها اكثر من ذلك. اولئك الذين يعتقدون ان العالم يتألف من أشياء رياضية يرتكبون خطأ شهير في الخلط بين الخارطة و التضاريس.

لماذا يصر العلماء جدا على التمسك بالزمن ككمية خالصة؟

- انه جزء من مشروع كلي للعلم الفيزيائي من غاليلو فصاعداً، في ان يأخذ الكميات كحقيقة، كما كانت، ويرفض النوعيات باعتبارها أشياء فقط للذهن وليست واقعية كليا. ارجو ان لا تسيء فهمي، انا اعتقد ان الفيزياء أعظم انجاز فكري للانسانية، وانها حققت العديد من المنافع التطبيقية لنا من حيث توقعات الحياة، توقعات الصحة وما شابه. لكنها لم تعط وصفا تقريبيا للعالم المادي، وحتى أقل من عالم الانسان، العالم الذي يعيش به الفيزيائيون ويؤدون فيه أعمالهم الفيزيائية. ذلك يوضح لماذا الجزء الثاني من الكتاب خُصص كليا للزمن المعاش. انا أنظر في ثلاثة أزمان، الماضي ، الحاضر والمستقبل، وايضا نظرة على الأبدية ، لأني أعتقد ذلك مهم جدا. انا انظر الى الازمان بالتعاقب، بعد الدفاع عن الزمن الظرفي tensed time(الماضي والحاضر والمستقبل) مقابل الادّعاء العلمي بان الأزمان هي وهم، وضد بعض الفلاسفة الذين يعتقدون ان الزمن الظرفي هو فقط نتيجة ثانوية عرضية للعلاقة بين اللغة والعالم. هم يعتقدون انه عندما نتحدث عن الماضي فنحن في الواقع نتحدث عن حدث سبق القول في ما ندّعي. فمثلا، عندما أقول ان شيئا ما حدث في الاسبوع الماضي، فان ما أقوله حقا هو ان حدثا وقع قبل اسبوع من اللحظة التي اتحدث بها حاليا. انا لا أعتقد بصحة الاختزالية وذلك للعديد من الاسباب التي أطرحها. لذا انا ادافع عن الزمن الظرفي ضد الفلاسفة، وضد الفيزيائيين، ومن ثم أفحص الأزمان بالتعاقب. انا ابدأ بما يبدو لأول وهلة اسهل الأزمان وهو الحاضر.

هل هناك حاضر، واذا كان هناك حاضر، فهل هو خادع؟

- بالنسبة لي الفكرة الأكثر خداعا هي فكرة اللحظة اللامحدودة durationless instant او ذرة الزمن. انا اعتقد ان وليم جيمس هو الذي أشار بأن لا أحد تلقائيا يعتقد ان الزمن صُنع من لحظات بلا حدود. اللحظة، كما يقول A.N، هي بناء خالص.

اذا انت تنظر للحاضر بـ "الان"، سيكون محير جدا. منذ الأزمان الكلاسيكية، قال الناس ان الحاضر هو الخط بين ما لم يحدث بعد وذلك الذي حدث سلفا، والخط ، كما معروف، ليس له عرض. واذا انت تنظر للزمن كما رآه الفيزيائيون، فهو مركب من نقاط غير متسعة. لكن الحاضر لم يُصنع من لحظات لا محدودة. اي لحظة من الوعي هي سلفا تصل الى المستقبل وتستفيد من الماضي. هذا شيء طُوّر كثيرا من جانب الفينومينولوجيون مثل هسرل، لكني اطوّر هذه الفكرة لمدى أكبر.

هل تستطيع ان تخبرني ماذا تعني بـ "تصل الى المستقبل وتستفيد من الماضي"؟

- عندما انظر نحوك الآن انا اميّز وجهك. وجهك يجعل معنى لي بسبب تجرتي الماضية وبسبب الغرض الذي جئنا لنلتقي من أجله، والذي يجعل معنى لما يحدث. وضوح الحاضر يستفيد من الماضي. ولكن بالاضافة الى ذلك، وضوح الحاضر يبرز من كونه يحمل ما سيحدث لاحقا. كوني هنا يعطيني إحساس بما سيحدث بالدقائق القادمة وما ورائها. وضوح الحاضر لا يستفيد فقط من الماضي وانما ايضا من استمرارية الحاضر، وما سيحدث لاحقا، وفي الحقيقة، لما متوقع لي.

كيف يرتبط الماضي والمستقبل بالحاضر؟

- هذا أحد أهم الأسئلة: ما مكانة الغد، اليوم؟ ماذا لو كان الغد هو هنا سلفا؟ هناك أشياء معينة هي بالتأكيد موجودة هنا سلفا. فمثلا، هناك عمليات مستمرة، ستبقى مستمرة في خمس دقائق من الوقت. هناك مكان نجلس فيه، والذي سيكون آثاث الغد بالاضافة الى اليوم. ما لا يوجد سلفا هو مستقبل الأحداث. كتاب الزمن والحزن يناقش "القدرية المنطقية". هذا يُشتق من جدال مثير عرضه ارسطو يذهب كالتالي: اما انه صحيح ستكون هناك معركة بحرية غدا، او انه صحيح سوف لن تكون هناك معركة بحرية غدا. اذا كان احد هذين الادّعائين صحيح، فيجب ان يكون صحيح سلفا-  وفي أي حالة، المستقبل هو ثابت سلفا. السؤال هو هل نحن خُدعنا منطقيا؟ بكلمة اخرى، هل المستقبل تقرر سلفا؟

الطريقة التي يتعامل بها المرء مع هذا هي ان ينظر نقديا للادّعاءات التي تُطرح في الجدال. الحقيقة هي، عندما تتحدث انت عن معركة بحرية في المستقبل، انت لا تتحدث عن أي حدث حقيقي، انت تتحدث عن صنف من أحداث محتملة، وتلك الأحداث لايمكن ان تكون جميعها ممكنة، لأن معركة بحرية واحدة ربما تتضمن ان يموت فيها البحار جون ومعركة اخرى لا يموت فيها البحار جون . لذا من الواضح، ان المشار اليه في اقتراحات الجدال لايمكن ان يكون حدث واقعي. لكن المستقبل لايزال يمتلك حقيقة بالنسبة للاشياء الثابتة الحاضرة، والعمليات المستمرة.

لكي نرجع للحاضر، تماما كما يبدو احيانا يتقلص الحاضر بالماضي والمستقبل، الخطر المقابل هو ان الحاضر يبتلع الأزمان الاخرى. هناك حركة فلسفية قوية تسمى "الحضورية" presentism، والتي هي الفكرة بانه فقط منْ يوجد في الحاضر هو واقعي، ولذلك هناك فقط زمن واحد، زمن الحاضر. ولكن اذا كانت الحقيقة فقط هي الحاضر، عندئذ كيف يمكن ان تكون هناك أشياء صحيحة، او زائفة عن الماضي؟ كيف استطيع القول ان سقراط اكان اثنيا، وأقول زيفا ان سقراط كان انجليزيا؟ اذا كان الماضي لا يمتلك حقيقة، فلن تكون هناك حقائق حوله، لأن "الحقيقة تحدث لاحقا على الوجود". لهذا فان الماضي له حقيقته الخاصة به، وانها حقيقة معقدة جدا. هناك ماضي من التذكّر المباشر، ومن ثم ماضي من شبكة كلية من الحقائق التي نحن، كعرق انساني نعتني بها جماعيا – ماضي التاريخ.

هل الزمن الظرفي يتطلب بالضرورة مراقب انساني، او مراقب واعي على الأقل؟

- نعم، بالتأكيد، لكن ذلك لا يعني هو نوع من الدرجة الثانية للوجود. انه لا يجعله درجة ثانية اكثر من الألوان، مثلا، والتي تعتمد ايضا على المراقب.

هل هناك معنى للسؤال عن "الزمن ذاته" كمضاد للإحساس بالزمن؟

اظن ان هذا أصعب سؤال والأكثر اثارة للاهتمام. انا فعلا استكشفه بشكل مطول، وبالنهاية، انا لم أصل الى حل. لكن دعني القي الضوء على بعض الافكار. يبدو لي ان افكار "المبكر" و "اللاحق" يجب ان تفترض مسبقا الوعي. الرعد ليس واعيا في كونه أبطأ من البرق. انه لا يربط نفسه بالبرق. الرعد يحدث عندما يحدث، والبرق يحدث عندما يحدث، لا وجود هناك "للمبكر" او "اللاحق". لا وجود هناك للتعاقب عدى عندما يُلاحظ ذلك التعاقب من قبل الفرد الذي يربط بين الحدثين. اذا كان المبكر او اللاحق خاصية مكوّنة وباطنية للأحداث، عندئذ سيصبح العالم فوضى حقيقية، لأن كل حدث سيكون أبكر من ملايين الأحداث وأبطأ من ملايين الأحداث الاخرى. لذا، حتى الزمن المبكر والزمن اللاحق والتي تُسمى من قبل جون تاغرت John Mc Taggart بـ (B-  series time) تبدو حقا تتطلب وعيا لتجلب حدثين مع بعضهما، وتحددهما في علاقة زمنية. انه أسهل بكثير التعامل مع الزمن الظرفي: من الواضح تماما ان الماضي والحاضر والمستقبل يبدو فعلا يتطلبون وعيا انسانيا. كوننا قلنا ذلك، نحن نعرف ان هناك سلسلة موضوعية من الاحداث التي تحدث قبل الوعي، كما ناقشنا. لذا، لدينا مشكلة الزمن الانساني الذي يتم احتوائه في زمن فيزيائي، والزمن الفيزيائي يتم انتزاعه من الكون بواسطة وعي الانسان. هذا هو الموقف الذي يشير له كن (quine) بـ "الاحتواء المتبادل".

في كون غير مُراقب، هل يمكن ان يبقى هناك ترتيب للأحداث، ولكن ليس كترتيب زمني كما نفهمه؟ انت تستطيع القول ان الأحداث هي مرتّبة في زمكان في تعاقب معين، ولكنها فقط عندما تضع الكائن الانساني في ذلك ستحصل على ما نسميه زمن؟ . يبدو انك اذا تحاول ازالة المراقب الانساني ، وانت تحاول الافتراض ما اسماه ناجل "رؤية من لا مكان" – رؤية مستحيلة، لأنها ستكون رؤية بدون مكان للمراقبة – انت سوف تمتلك المجموع الكلي لاستمرارية الزمكان.

لكن المرء لا يعرف ما هي استمرارية الزمكان في غياب المراقب. بعض الفلاسفة قالوا ان كل شيء يتعايش في استمرارية الزمكان، والذي هو بلا معنى، لأن ذلك يعني ان فتح الباب وغلق الباب يحدثان في نفس الوقت، او ربما لايحدثان في أي وقت محدد، او كما يقترح Herman WeyI لايحدثان ابدا.

ماذا عن تجربة الأبدية؟ هل هذه الفكرة متماسكة؟

- فكرة الأبدية كلها فكرة صعبة. كل من الافكار الدينية وغير الدينية للأبدية فيهما الكثير من المشاكل. اولا، ماهي الأبدية؟ هل هي استمرارية أبدية – وقت لا متناهي – ام هي لازمنية؟ هذا الغموض يصبح ضاغطا خصيصا عندما نفكر حول الناس الذين يدخلون الأبدية، اما في لحظة معينة، او في نهاية حياتهم – لأنك عليك ان "تدخل" الأبدية، والتي ربما بلا زمن، في وقت معين، و هو بالتأكيد مغالطة. وبالمناسبة، الحياة في الأبدية هي عمل كئيب جدا لأنه لكي تستمر الأشياء الى الأبد هي يجب ان لا تتغير، واذا لم يكن هناك تغيير، لا شيء مثل التمثيل الغذائي يمكن ان يحدث، ولا شيء مثل الشعور بالحاجات يمكن ان يحدث. انا لا اعتقد ان الذين لا يؤمنون بالأبدية يخسرون الكثير.

ألا تعتقد ان هناك معنى بوجود بُعد أعلى للزمن يمكن ان ترى منه تدفق الزمن؟

- هذا يستدعي السؤال: "اذا كان الزمن يتدفق، فما سرعة تدفقه وما الذي يتدفق فيه؟" والجواب هو " حسنا، انه يتدفق في ثانية لكل ثانية، انه يجب ان يتدفق في ترتيب زمن للثانية". وهو امر غير مقنع ابدا. انت لا تستطيع امتلاك قياس له نفس البُعد على المقام والبسط (t/t) لأنهما سيلغيان بعضهما. أحدُ ربما يقول، "اذاً كان الزمن لا يتدفق: ذلك يجب ان يعني انه ثابت، وفي الحقيقة، الكون ثابت". الجواب كلا: فقط لأن شيء ما لا يتدفق لا يعني القول انه ثابت. لذا انت ربما تسأل، لماذا نجد فكرة الزمن كتدفق لا تُقاوم؟ ذلك بسبب اننا نُدخل في الزمن ذاته دينامية الأحداث، بما في ذلك الأحداث التي بواسطتها نقيس الزمن. لذا نحن نشاهد ساعة اليد تتحرك، ونعتقد ان الوقت يتدفق.

اذا كان "التدفق" استعارة غير جيدة، ما هي الطريقة الجيدة للتعبير عن التغيير او الحركة من خلال الزمن؟

- انا استطيع ان اعطيك العديد من الاستعارات السيئة: فكرة الزمن ككتلة نامية (growing block)(1)، او الزمن كبقعة ضوء متحركة، وهكذا، ولكن جميع هذه لا تصلح كأسباب أعتمد اليها في هذا الكتاب. انا اعتقد علينا ان نعمل بدون استعارات. اساسا، نحن نهمل الاستعارات، و سنرى ما يبقي معنا. ثم نبدأ بالبحث عن بعض التعريفات للزمن الضئيلة والشديدة التضييق،  وفي الحقيقة، نحن نفشل مرة اخرى. انظر في بعض التعريفات التي عُرضت: الزمن هو تصورنا لسلسلة الأحداث، الزمن هو اتجاه السببية، او الزمن هو ذلك الذي يجيز التغيير دون تناقض بحيث استطيع القول انك في لندن وانت في ادنبرة، وذلك ليس تناقضا لأنك في لندن مرة وفي ادنبرة مرة اخرى. لكن اذا انت تنظر لكل تلك التعريفات، كلها تنتهي بكونها دائرية. فمثلا، الذي يقول ان الزمن هو الذي يجيز التغيير لأن العالم لايمكن ان يمتلك وضعين في وقت واحد، انت اعترفت بـ "وقت واحد"، كفكرة زمنية. فكرة ان الزمن هو تصورنا لتعاقب الاحداث هو اكثر دائرية: "السلسلة" هي "سلسلة زمنية". لا وجود هناك لتعريف غير دائري للزمن . هذا لا يقلقني بسبب حقيقة ان شيء ما واقعي وفريد من نوعه يعني لايمكن اختزاله الى أي شيء آخر.

ربما نحن نستطيع القول اننا نعرف ماهي حركة الزمن لأننا نمارسها؟ انا غير متأكد جدا اننا فعلا نمارس حركة الزمن. نحن نلاحظ احداثا ديناميكية، ونحن ايضا نلاحظ مجموعة فرعية معينة من الأحداث تكون فيها الحركات مرتبطة بقياس الزمن – في الساعة. لكن انا لا اعتقد نحن لدينا تجربة مباشرة بحركة الزمن بنفس الطريقة التي نمتلك فيها تجربة مباشرة بالحركة في المكان. بدلا من ذلك، نحن نرى ان اشياء معينة تحدث في وقت معين، وان اشياء معينة تأخذ وقتا معينا، وان شيء ما حدث قبل شيء آخر، وان شيئا كان في الماضي وان شيئا آخر كان في المستقبل. لكن لاشيء هناك غير زمني .

هل الزمن مرتبط بشكل وثيق بالتغيير؟

- هناك الكثير من التجارب الفكرية تتصور عالما تتوقف فيه كل أشكال التغيير، بما فيه بعض التغييرات الماكرة، وهي تستلزم تصورا فيه تستطيع النظر الى ما يحدث في ذلك العالم. اذا توقفت كل الاشياء عالميا في وقت واحد، عندئذ لا أحد يستطيع عمل ملاحظات ، لذا يقترح (سدني شومنكر) اننا يجب ان نتصور موقفا فيه ثلث العالم يتوقف دوريا، ومن ثم ثلث آخر يتوقف دوريا، و ثلث الثلث من العالم يتوقف دوريا، لكن كل من تلك العوالم له تجميد مختلف دوريا، مثلا كأن يكون مرة في 60 سنة كل العالم يتجمد. السؤال هو هل هناك اذاً تغيير في الزمن؟ هناك اسباب تدعو للإعتقاد بالنفي. اولا، سوف لن تكون هناك قياسات للزمن المتغير. ثانيا، سوف لن تكون هناك طريقة لتقرير الفترة التي يتجمد بها الزمن: سوف لن يكون هناك فرق بين الفوري والأبدي. لذا سيبدو الزمن بمعنى ما غير منفصل عن التغيير – مع قبول حقيقة ان الزمن هو بنفس المقدار حاضر في الاشياء التي هي ثابتة.

كيف ترتبط حرية الانسان بالزمن؟

- أعتقد ان الزمن الظرفي هو مركزي جدا لحرية الانسان. المخلوقات التي تعيش وتمارس الزمن الظرفي – خاصة الكائن البشري-  ليست متطابقة مع اللحظة الفيزيائية التي هو فيها. لذا، عندما أجلس هنا الآن، فان وضوح التجربة التي أمتلكها تعني انا متجذر لمدى معين في ماضيي، وسوف أصل نحو المستقبل. ان عدم التطابق مع لحظة معينة في العالم الفيزيائي هو البذرة وأصل حريتنا.

بالنسبة لي هذا يرتبط بما ذكره سارتر عن وجود الكائن البشري "لأجل ذاته" وليس "في ذاته"، يعني ان الوعي هو نوع من التحرر من الواقع المادي.

هناك ارتباط أكيد. لكن رؤيته كانت عامة جدا، انا أنظر الى الحرية بخصوصية أكبر، وفي الحقيقة انا أنظر الى أفعال حقيقية وقوة حقيقية. اولا، ان أي فعل واقعي يجب ان يكون ذو معنى للفرد، وثانيا، الفعل سوف لن يحدث لو لم يعمل معنى للفرد. اساسا، عندما أتصرف، انا أقوم بتجميع عدد كبير من الأحداث الفيزيائية التي ما كانت لتحدث لولا الشعور من الماضي بما أريد عمله، وشعور بالمستقبل الآتي الذي أريد تحقيقه. هذا هو "ليس وجودا متطابقا مع اللحظة".

 كيف تأثر تفكيرك حول الزمن بأفكار آخرين مثل عمانوئيل كانط، جون تاغارت، وايتهد او دي اتش ميلور؟

- انا وجدت ان افتراض كانط بان الزمن هو أحد "أشكال البداهة المعقولة" لا يصمد امام حقيقة اننا نعرف ان هناك تعاقب زمني حقيقي قبل وعي الانسان. عندما نأتي الى تاغارت ، انا لا اوافق على رفضه للزمن الظرفي وكذلك استعماله لذلك الرفض لإنكار حقيقة الزمن. دي اتش ميلور كان احد المحاورين المفضلين لدي، لأنه يكتب بأناقة عالية و باقتضاب. نحن لم نتفق على الزمن الظرفي، وانا ايضا لا اوافق على فكرته بان الزمن هو بُعد سببي للزمكان.

اخيرا قبل ان اسأل عن ما هو الزمن، هل لي ان اسأل عن اللا زمن؟

- كوننا أهملنا جميع الاستعارات واحتفظنا بالزمن المعاش، دعنا ننظر في بعض التعاريف. أحد هذه التعاريف هو، الزمن هو تصورنا لسلسلة من الأحداث، لكن هنا تكمن مشكلة، كما ناقشنا. ثانيا، الزمن هو شيء ما يسمح بالتغيير. هنا الزمن هو مرن خالص لأسباب منطقية: انه يسمح لشيء ما ليكون في كلتا الحالتين مستدير ومربع من خلال كونه مستدير في زمن ومربع في زمن آخر. لكن هذا التعريف يفترض ان لدينا فكرة عن الزمن بُنيت سلفا: اساسا تقول الفكرة ان الشيء (س) يمكن ان يكون احمر في وقت وازرق في وقت آخر. لذا نحن سلفا استعملنا الزمن في تعريفنا. ايضا، فكرة "الزمن المرن" قريبة وبشكل خطير لفكرة ان الزمن ذاته هو سبب. اذا كان الزمن له فعالية سببية عندئذ كل حدث سيكون له سببان: واحد سيكون سببه الخاص به، والآخر سيكون زمن. وبذلك يحصل تقرير مفرط للأسباب. تعريف آخر هو كما يقول ريتشارد فايمان ان الزمن هو ما يحدث عندما لاشيء آخر يحدث. هذا غير مفيد، لأنه بالأساس يفترض اننا نمتلك زمنا في غياب التغيير والأحداث. وهناك عدد آخر كبير من التعريفات للزمن. فشل تلك التعريفات يجعل اتجاه فيتجنشتاين لتعريف الزمن مقنعا. مع ذلك، انا اصر على فكرة ان الزمن كلمة تشير الى عدد من المفاهيم لها تشابه عائلي لكنها لا تضيف "بذاتها" الى أي شيء. اتجاه فيتجنشتاين اكثر اقناعا عندما نطبقه على اشياء مثل الألعاب. سؤاله كان ما هو المشترك بين ألعاب الاولمبك ولعبة اللودو الذي يجعل كلاهما ألعاب؟ جوابه كان ، ليس كثيرا، لذا نحن حمقى للاعتقاد ان هناك شيء مشترك بين كل الألعاب يجعلها ألعابا، حتى عندما تمتلك حقا تشابه عائلي بين واحد و آخر. ولكن انا اعتقد هناك شيء مطابق للزمن. انه بناء من الظلال التي تلقيها الكلمات . ولكن ليس فيه تلك الاشياء التي ناقشتها توا. في نظرتي الطويلة للزمن انا احاول ان أضع مجتمعة كل الاشياء المختلفة التي ربما نقولها حول الزمن، جميع الطرق في الاقتراب منه، وأرسم صورة منصفة لتعقيديته. انا أستنتج ان الزمن واقعي وغير مختزل لأشياء اخرى. انا أتفق مع (لي سمولن) الذي قال اذا كان هناك شيء اساسي جدا في الكون، فهو الزمن.

الزمن لا يُختزل الى اي شيء آخر، ولذلك لايمكن حصره في تعريف. له عدة مظاهر ولا يمكن ترجمته الى مجرد بُعد كالطول. حتى اولئك الذين ينكرون اهمية حقيقته المعاشة يجب ان يقبلوا انه لن يكون شيئا بسيطا ابدا ولا هو مجرد شيء واحد. معظم المتحمسين من الاختزاليين يجب ان يقبلوا بالفرق بين ترتيب زمني، ومدة زمنية، وموقع زمني. هذا يتضح عندما ننظر الى أحداث واقعية. معركة اجينكور حدثت بعد معركة هاستنك، اجينكور استمرت يوما واحدا، وحدثت عام 1415. التعقيدية تتجاوز الزمن القليل(ت).

 

حاتم حميد محسن

...................

* (الزمن والحزن: تفكير في المؤقت) للبروفيسورالبريطاني ريموند تاليس، صدر عن دار اجندا في شهر مايو 2017 في 672 صفحة.

الهوامش

(1) طبقا لنظرية الكتلة المتزايدة، يوجد كل من الماضي والحاضر بينما المستقبل غير موجود. الحاضر خاصية موضوعية يمكن مقارنتها بضوء متحرك. بمرور الزمن المزيد من العالم يأتي الى الوجود، ولذلك، تتضخم كتلة الكون. نمو الكون يُفترض ان يحدث في الحاضر، في جزء صغير جدا من الزمكان، حيث المزيد من الزمكان يأتي دائما الى الوجود. رؤية الكتلة المتزايدة هي بديل لكل من الأبدية (القائلة ان الماضي والحاضر والمستقبل جميعها توجد) والحضورية (القائلة ان الموجود هو فقط الحاضر).

 

هدلا القصارحوار شعري ونقدي


بين الشعر والنقد حبل سري يغذي كلاهما الآخر.. فالنقد يتنسم روائح الأدب، والأدب يعطر النقد بروائحه الفواحة، وكلاهما سند للآخر فلا أدب بلا نقد، ولا نقد بلا أدب.. ونحن اليوم نلتقي بعلم من أعلام الأدب والنقد نتحاور معه حول إشكاليات الأدب وتوقعات النقد:

 س1- الشاعرة والناقدة هدلا القصار قارئنا المعاصر يحب أن يتعرف أولا على مسيرة الطفولة والشباب من خلال مذكراتك الشخصية .

- يبدو أن على الكاتب أن يبحث دائماً في دفاتر طفولته وبداياته محاولا استذكار الجانب الخفي في شخصيته.. لكن أسلوب المحاور المتمكن يجعلنا نستحضر آخر ما لدينا.. لتعترف هدلا القصار أنها لم تعش طفولتها، كما يجب كفتيات جيلها، بل تختلف عنهن..، ليست أفضلهن، بل كان اهتمامها أكثر حبا وتفرغا لسماع الموسيقى والقراءة والكتابة التي كانت تعتقد أنها مجرد مذكرات شخصية، لاكتشف بعد ذلك أنها نصوص أدبية بدأت كتاباتها منذ الصفوف الابتدائية، لترافقني عزلتي التي اخترتها مع الكتاب والقلم، بعد أن وجدت بين الأسرة من لا يهتم بغير السياسة المسيطرة في ذلك الوقت على أحاديث العامة ووسائل الإعلام. وكثيراً ما أهرب من هذه النوافذ إلى نافذة القراءة، لأختلي بشخصية شاعر أو شاعرة والحالة التي كتبت فيها القصيدة، بغض النظر عن قوة النص أو عدمها، لأن مفهومي للأدب في ذلك الوقت كان بحجم المعرفة العمرية لدي، فيما تستحضرني تلك الدهشة التي لطالما دعتني للتفكير العميق بما يتملكني بعد قراءة قصة أو رواية، اعتقادا مني ما هي إلا قصة الكاتب/تبة، إلى أن أدركت فيما بعد، أن تلك القصص والروايات كانت تجعل القارئ يعيش داخلها بكل ما فيها من ألم وهزات نفسية وإنسانية.. هذا ما كان من تفكير طفلة لم تتجاوز الخامسة عشر ة من العمر.. إن مثل هذا التصور كثيرا ما كان يدفعني للتساؤلات المتكررة، ما ج6مجلات وصحف محلية.. إلى أن انتقلت قراءاتي من الأدب العربي، إلى الأدب الغربي، تاركة ورائي ما قرأته من حركة الروايات وقصص الشرق بعد أن شبعت من رجات الروح، وشد الأعصاب، ورسم صور الاضطهاد المجتمعي، والألم، والصراخ والنواح.. ومن الموضوعات التي نقرأ عنها دون أن نجد نقطة ضوء للخروج من الحزن ومآسي المجتمع.. ومن العنصرية الذكورية، والدونية التي شاعت وأبحرت في المجتمع العربي حتى اليوم . وعلى ما يبدو كانت شخصيتي تحمل هرمون وراثة قوة الإرادة والتصميم لأصل إلى ما أريد الوصول إليه، لذا بقيت كالنحلةفي الحروب التي كانت بالنسبة لي كما قال المتنبي : "مصائبُ قَومٍ عندَ قوم فوائدُ " لأنها منحتني الوقت الكافي أثناء إغلاق الجامعات والمؤسسات لفترات متباعدة، التخصص بـ " سيكولوجية الإنسان المقهور " والوصول للعقل البشري.. بعد الهدنة الموقوتة . ومن خلال هذه المادة أدركت أن ما كان لدي ليس إلا موهبة فطرية دفعتني للتمرد على ما لا أرغبه والتعاطي مع ما يحثني لتوسيع المعرفة والعلوم التي تمثل مربع اتجاهاتي الفكرية المرتبطة بهذه العلوم الثلاثة . وهذا ما كان يجول في ذائقتي بالاستدراج التلقائي، إلى أن حققت الوصول لتركيبات الفكر والمجتمع بطريقة عملية "دياليكتية" ما أضاف لي مميزة التعاطي مع النقد.. وصياغته على أوارق النشر في الصفحات الورقية التي تحولت فيما بعد إلى الكترونية. في النهاية يمكنني القول أن شخصية هدلا القصار تجاوزت حدود حاضرها منذ الصغر إلى أن أعلنت ذاتيتها وخاصيتها واستقرارها الفكري إلى حد ما . بهذه السيرة أختم بداياتي المخبأة بتفاصيل العزلة التي نقلتني من إلهام الشعر إلى الإعلام المجتمعي.. إلى الإبحار بما يكمل استقرائي النقدي وتحليل الخطاب الأدبي وما يندرج من منابع الأدب والغوص في مناهج علم النفس.

س2- الشعر بالرغم من سوقه الراكدة هذه الأيام إلا أنه يبقى الطفل المدلل.. ما رؤيتك لمستقبل الشعر بين الفنون الأدبية الأخرى؟

- كان الشعر وما زال علما من أعلام تاريخ الأدب عامة، والأكثر حضورا بين الكتابات الأدبية الأخرى، ما دامت الكرة الأرضية والمجتمعات في حراك دائم.... وما دام هناك استمرار للظلم والألم النفسي والمعنوي، والهزائم.. وتقلبات البيئة.. وتوتر شرائح المجتمعات، وتغيير المناخ الجغرافي والاجتماعي والثقافي، والهجرة وتغيير المكان، باعتباره أهم عوامل ارتقاء لغة الشاعر . خاصة بعد أن خرج الشعر من الصحراء إلى الحياة والطبيعة.. واتجه نحو البحث في القيمة الوجودية والإنسانية التي هي مصدر حركة الواقع الثقافي والمجتمعي الذي تطرق له الشعر في العصر الحديث، بالإلهام الشعوري بما تماشى مع سجية الشاعر واستجابته لأهواء المخيلة التي دفعته لتوثيق أيديولوجية حركة المجتمع الذي عزز مكانة الشعر المعاصر، و تبادل ثقافات الشعوب وغيره من عوامل الحياة، دون الإغفال عن العامل التاريخي، وارتباطه بأحداث الحياة، من خلال أدوات الشاعر وثقافته ولغته، وتصويره المعبر عن المحسوس والملموس الذي أثقل موهبته ومسار قلمه لإحياء ما عجز عنه البعض. ولنرى العالم من خلال هذا الطفل الذي يعيش في داخلنا، ويكبر مع الزمن.. بكل ما يحمل من ألم وظلم وكبت المشاعر، التي لعبت دورا مهما لإفراغ هذا المخزون من خلال الشعر، وبالتالي نقل الصور الحية للمتلقي، بكل ما فيه من شريان الطبعة الشعورية.. فمن الطبيعي أن يبقى الشعر المخلوق الأجمل والأنقى هذا إذا ابتعد بعض الشعراء عن تراكيب الكلمات، والرتوش، والفبركة اللغوية.. والفذلكة الشعورية، والصور المجانية المبالغة.. كالتي يتبعها بعض المتطفلين على الساحة الشعرية.. الذين تسببوا بالاختلاف بين الشعر الالكتروني، والشعر الورقي. لهذا ننصح بعدم خروج أوراق القصائد من حضن الشاعر إلا لطباعتها.. ليبقى الشعر الحقيقي إلى حد ما بأمان، في ظل الشعر الالكتروني. أما بالنسبة للمسرح المرتبط منذ البدايات بدواخل الذات الإنسانية التي صاغت لغة العالم بطرق متعددة.. ما دفعنا القول " تعددت المدارس والمذاهب" والجوكر واحد " وحده الذي سبق وأجاد اللعب على جوهر الإبداع خاصة في "المسرح المجتمعي الحر" وأشدد على كلمة "المسرح الحر"، الذي لا يتبع بلاط الملك، لأن مثل هذا الفن مرتبط بنتاج جماعي جدلي متنقلاً من دلالات الممارسة الإبداعية، إلى ممارسة اجتماعية معرفية.. ليكون بريد المجتمع لعمليات الإرسال والتلقي.. ووسيلة تلقين ونقل المعرفة " البيولوجيا " من أجل رسم ديمومة الحياة واستمرارها.. ولأنه يبقى الحوار الدائم والثابت والمتغير، الذي يعيد إنتاج الحياة بصور مستمدة من مسرح العقل وحوار المجتمع والفئات والطبقات المتعددة.. بوصفه أحد الأجناس الأدبية التي تستنطق السمع والبصر وحركة الجسد المتفاعل مع المعارض والمؤيد . وهذا ما يضعنا في زاوية تضيق بشرح ما لم تسعه مساحة 6اهتمام بدراسة الإنسان في الحاضر والماضي)، المبني على العلوم الحياتية و المعرفة والاجتماعية.. لكن اليوم لنا مآخذ على المسرح العربي المحلي الذي بات يمثل طبقات معينة أو فئات تمثل تسييس السياسة التابعة لقناعات فردية.. كما في دور المسرح الكوميدي الذي تحول من سخرية موضوعية إلى حركات بهلوانية مصحوبة بالضحك المبالغ والمفتعل، لإضحاك الجمهور إلى أن ينسى الموضوع الذي يجب أن يمثل أدوار المجتمع وما لها وما عليها بطريقة كوميدية . وأيضا مسرح "الدراما " الزاخر بالحوادث المثيرة المتسمة بالانفعالات في تعبير العواطف المبالغة في حركة الممثل، إلى أن تحول المسرح الدرامي إلى " ميلودراما" ناتج من الصراخ والنواح أكثر مما يتحمل الدور أو الموقف المراد إيصاله بطريقة موضوعية كوميدية مؤثرة.. ويعتمد على صوت الممثل وليس على مدى تأثير الموضوع على المتلقي، خاصة المسرح المصري رغم عراقته.. أما مسرح الطفل الذي لم نعد نقرأ عن مساره " البيداغُوجِي" (الذي يعتني بفنون تربية الطفل وعنايته).. على خلاف ما يجب أن يكون في المقدمة، بما أن الطفل يمثل هرم المجتمع على المسرح الذي كان فيما مضى يحقق له أهداف الحركة الفكرية والوجدانية والمعارف التعليمية والتربوية بوسائل إبداعية تعني بتنميته من خلال المسرح الذي يجمع بين العلم والتطبيق.. لنتعرف على إنتاج عقل الطفل وحتى الجيل الشاب، الذي يجب أن تعرض أدواره على مسرح الحياة بما يفيد تطور ذائقته الفنية والاجتماعية والتربوية وبلورة شخصيته.. لكن للأسف مثل هذا المسرح لم نعد نراه إلا في مدارس مسرح الغرب . أما فيما يخص مطاعم القصص والروايات، التي انقسم مؤلفوها إلى أقسام منهم من يزاحم الآخر لتكديس منشوراتهم وكأنهم في سباق مع الزملاء الكتاب، ومنهم من سجل التاريخ من وجهة نظر منفردة،.. ومنهم من وثق قصص رواياته الشخصية بشكل فردي، والبعض الآخر قد ينقصهم معرفة فنيات النص الأدبي المميز قبل أن يسردوا روايات القصص دون أن يمرر استنتاج الكاتب ورؤيته، من خلال إحدى الشخصيات المطروحة في القصة أو الرواية بطريقة أو بأخرى . وهذا ما يطلق عليه "الجندي المجهول" أو "الملك " الذي يبحث عنه المتلقي في قصة الرواية من خلال النقاش والحوار داخل القصة.. للخروج من مأزق الحالة التي تمثل الحاضر والجرائم التي ترتكب بحق المجتمع والإنسانية.. خاصة في هذا العصر المتوتر، ليبدو لنا أن الكاتب لا يهتم بالحاضر أو المستقبل.. وهذا ما يسجله النقد بأدب التايك اواي " taek away إلى أن أصبحت القصة والرواية في الوطن العربي أقل حظا من الناحية التفاعلية مع المجتمع.. بالطبع هذا الرأي لا يشمل الجميع ولا ينفي كتاب أبدعوا بدمج هذه العوامل المخالفة لتوثيق غير هذا النبط. ومنهم من يؤلف رواياته وقصصه بدافع الحشد وكأن الكاتب أو المؤلف يحسب بالكمية وليس بالنوعية، والبعض الآخر انفرد بمؤلفاته للحديث عن تاريخ قراه أو بلداته او مدائنه.. ومنهم ما زال يوثق أسباب الحروب والاحتلالات والثورات، و غيرها من قصص الروايات التي لم تعش الحياة بما فيها . علما أنه من السهل المؤكد أن نعرف أسباب الحروب والاحتلالات والثورات التي نريد، من خلال عالم التكنولوجيا الحديث، لكن من الصعب أن نحدد خصائص أو مزايا المجتمع وتحركاته معرفة صحيحة إلا عن قرب، أو من خلال كتاب تدفعهم أمور الحياة الكشف عن الأحداث الكامنة بالمفاجآت والمجاهل التي نتعرض لها في حياتنا العادية، مستذكرين الواقع الإنساني وتأثيره على المجتمع، مخاطبين الفرد من خلال عالمنا الأدبي، ناقلين له تفاصيل الواقع، معبرين عن لحظات أوجاعنا من خلال القصص والروايات، ليتسنى لنا تعديل عروض سيرها بعد عرضها على المتلقي، والناقد، والمبدع الشاهد على مجتمعات تتعدد فيها الظواهر والموروثات، كتعدد اللغات والموضة، أو كالأنظمة التي تعكس اتجاهات شأنها شأن المؤلف، الذي لم يعد يتابع حيثيات الحداثة، بطريقة ايجابية لتنعكس على مستقبلنا الأدبي.. وللاستفادة من تقنيات العصر وتطور الإبداع، في قصص وروايات تحمل فلسفة العالم، بصور "فوتوغرافية" لداعم القلم الذي يجلس ملكا على أوراقنا المتعبة من التاريخ وروايات واقع الحياة، لأجل أن نجد لنا قلماً يراهن على جمالية أوراقنا الأدبية العربية، فالعالم يعيش في عصر السرعة والحداثة، لا بد للمؤلف من متابعة ما يجري في المجتمعات بعد أن نتفق على أن الكتابات الروائية والقصصية الأدبية، هي العماد الذي تعتمد عليه أهمية الموضوعات في منطقتنا التي لا تخلو من التطورات . لعلنا نصل إلى ما وصلت إليه الأديبة الفرنسية فرانسو ساغان، والروائية الكندية مارجريت أتوود، وغيرهم/هن من أدباء الغرب، الذين اشتغلوا على ترميم الجراحات الإنسانية، والقضايا الاجتماعية.. من خلف جدران تابوهات الجماعة والمجتمعات . بدل أن تتكاثر مؤلفات كتب الشعوذة التي انتشرت فجأة بشكل لافت،و الكتابات عن الجسد.. وهي الأكثر رواجا.. وكأن الحياة ليس فيها سوى " الجسد " الذي يشغل المجتمعات المليئة بالمشكلات السياسية والاقتصادية والمهنية وما يلحق بهم من أمراض نفسية ومعنوية.. بخلاف روايات الغرب كرواية " الأمير" للمؤلف ميكافيلي، التي أخذت بعين المعرفة لما تحتويه الرواية من موضوعات منسجمة مع واقع المجتمعات من الناحية الجنسية و السياسة، والدين والمجتمع والعلاقات الإنسانية والبيئة وغيرهم بسبك إبداعي نوعي دون تحديد لأي هدف مما رواه المؤلف، بعد أن منعت روايته من نشر من قبل دولته ايطاليا بحجة كشف أوراق التعسفات المجتمعية والسياسية الغائبة عن المجتمع الايطالي.. كما في " كتاب الملكية والنخبة السياسية في المغرب" الذي أعتمد كمرجع لفهم تاريخ السياسة والحياة في المغرب، " . وكذلك رواية "الأم" للمؤلف "مكسيم جوركي" التي تدفع الفرد للمطالبة بالديمقراطية و حقوق الفرد في الحياة، ومحاربة الفساد، كما طرحت قصص السياسة والأحزاب وأفكارهم، وعن المبادئ الاجتماعية.. أنها قصة عالمية شاملة . أما رواية أو مسرحية " احدب نوتردام " التي طرحت الحلول بالتصميم للمطالبة بالحرية والمساواة.. وعن ازدواجية الكاهن الذي يمثل مبادئ البشرية، وعن المرأة الغجرية "البوهيمية" التي كان يحاول اصطياد الرجل لجسدها لكنها لم تكن لأحدهم ولم يكن هدفها سوى الحرية والتعامل معها إنسانيا وليس جنسيا.. وكذلك "مسرحية الملك" للمؤلف وليم شكسبير، التي ترجمها جبرا إبراهيم جبرا، لم تترك هذه المسرحية آفة في مصير المجتمع الا وتطرقت لها، وكذلك في كتاب "غراميات مضحكة " للمؤلف ميلان كونديرا، القصة تدور حول العلاقات الإنسانية وخاصة بين الزوجين وما يدخلهما من مواقف وأفكار سلبية وكيفية معالجتها عبر التفكير المنطقي والهادئ والصراخ الداخلي وليس بالصوت الذي يخرم الاذان ويبعثر الموضوع أو ينفر ذائقة المتلقي.. لنسال اليوم أين كتابنا من هؤلاء الروائيين الحقيقيين كـ ( هوميروس وفرجيل، في ثلاثية الاوذيسة والإلياذة الذين حولوا عصور الآلهة إلى عامل أنساني اجتماعي يحمل عبر ما زالت سارية حتى هذا التاريخ، كما في " تراجيديا سوفقليس " هل قال أحد أن هذه المجموعة لا تعالج قصص الحياة للخروج المؤقت عن الواقع بطريقة تفيد عقل الفرد في مجتمعة؟! بيد أننا أردنا أن نضع مرآة الفكر ومقارنته بين قصص وروايات الغرب الذين كانوا يحاولون البحث في قصصهم عن الموضوعات الإنسانية وشروط التربية الصحيحة فكريا واجتماعيا وعمليا.. كما يركزون على كيفية العلاج النفسي وارتفاع المعنويات.. وعلى أهمية العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة، والاحترام المتبادل الذي يهذب النفس.. وعلى الأنظمة والتاريخ.. والجغرافيا والأساطير.. والوطن وسياسيات الدول و العلاقات الاجتماعية والعنصرية الفردية، والحروب والموساد.. والأفلام البوليسية التي تحرك المشاهد او المتلقي للبحث عن الفاعل قبل أن يكشفه المخرج عبر الممثل للجمهور ليستفيد المتلقي بتوسيع المخيلة وتنميتها بطريقة عقلانية.. وهناك العديد من أفلام الرعب للمراهقين لإفراغ طاقتهم الانفعالية.. وغيرها من أشكال الوعي إضافة إلى الأفلام المخصصة للأطفال وتنمية تصوريهم لمن يمثل فكر الطفل الذي لا يعرف سوى التأمل بالصوت والصورة. ولن يفوتنا أن هناك روايات لا بد من الاستشهاد بها كرواية ( الوطن كمرادف للفراغ أو الموت) للروائي باسم سليمان، الذي وضع موت الحياة واليأس في تجلي رواية مليئة بالمشاعر الحقيقية التي قد يعيشها البعض في واقع يحكمه الكبت الاجتماعي والوجداني.. برواية شملت المستوى الموضوعي والواقعي والنفسي والمعنوي.. ووضعهم بمحاولة التغلب عليهم بشتى الطرق . قبل أن يستسلم الكاتب ويفكر بالهروب بما يحمل من مبادئ إنسانية واجتماعية إلى الهجرة أو اللجوء إلى أي مكان آخر . وما زال كتابنا غافلين عن توثيق إيديولوجيا الحياة" وسيكولوجية المجتمع" ومعاناة الجيل الجديد الذي نشأ مع الحروب المؤثرة على تنمية الفرد في مجتمعه، هذا الجيل الذي لم يعد يهتم سوى بترتيب أعمدة مستقبله وقضاياه، وأهمها: التعليم والزواج والعنوسة وغلاء المهور والعيش برفاهية والعمل.. وما يعيق احتياجاته المادية والعاطفية والإنسانية والنفسية.. ونموه الوجداني الذي ينبثق من مستجدات العصر الذي يبحث فيه الفرد عن استقراره والعيش بسلام . والآن بعد هذا الشرح أود تعريف العالم أن لدينا من كتابات الجيل الشاب ما يغني ويثمر في المجتمع العربي على الساحة الأدبية، واعتقد انه يجب أن نسلط الضوء على كتابات الجيل الشاب ومؤلفاته الأقدر على توثيق حالاته.

س3- الشعر في عصرنا الحاضر يتشكل بأشكال متعددة خلع عباءته الخيالية وإرتدى الزي الغربي.. ما موقفك من الشعر العمودي.. الشعر التفعيلي.. الشعر المنثور.. شعر النص المفتوح

 - عامة احترم كل من يحمل صوته وأنفاسه.. وعبق المخيلة والطبعة الشعورية.. من جميع الأنماط الشعرية، وأجناسها، وميادينها.. لأنها عبارة عن طاولة مملوءة بالفاكهة المتنوعة الشكل والطعم واللون..، ما على المتلقي سوى أن يختار ما يرغب تناوله، لأنهه بمثابة دواء لكل داء . لكن علينا قبل أن نفكك عناصر السؤال و نرمي نرد الرؤية، يجب أن نفهم دراسة الحياة وتأثير دورتها وتطورها على الفرد،لأننا لوعدنا إلى الوراء، ونظرنا لتاريخ الأدب والفن، لوجدنا أن الإبداع الحقيقي سيظل يثير جدلا لا ينتهي كالسؤال حول "ارتداء الشعر الزى الغربي" أو الشعر العمودي وموقفنا من أجناس الشعر النثر والحر والشعر المفتوح . وبما إننا لسنا من أنصار أسلوب التنظير، سأبسط التعبير والشرح ببساطة الإجابة عن الشعر الذي خلع عباءته الخيالية وارتدى الزى الغربي" لكن قبل الإجابة أريد أن اسأل: أليس الأدب الغربي أدباً؟! ولم ندرس المواد الانجليزية والفرنسية كلغة إجبارية في المدارس منذ الابتدائية؟ ولماذا نلهث وراء أسماء أدباء الغرب، ونتفاخر بآرائهم ونترجم فلسفتهم؟ الم نحتفظ في مكتباتنا العامة والخاصة بالعديد من نتاج أدباء وفلاسفة الغرب إلى يومنا هذا؟ ولماذا تتفاخر الشعوب العربية بتحصيل شهادات عليا من جامعات الغرب أليس لتوثيق اعتمادها؟ ولم نذهب لترجمة أعمالنا؟ أليس لنتفاخر بأسلوبنا المنفرد بشاعريتنا حسب اعتقاد البعض؟ وكذب كل من قال ليرى الغرب نتاجنا الأدبي.. ! الم نذهب إلى دول الغرب طالبين اللجوء وتوفير المناخ الآمن؟ ولم يتفاخر العرب بالتزاوج من الغرب؟ أليس أعجابا بانفتاحهم على أفكار وحضارات بعيدة عن الأنظمة المتسلطة، وإمبراطوريات المجتمع الذكوري، والقبلي ومن العقائد والأعراف المجتمعية.. المعيقينة لتطور الفرد اجتماعيا وعلميا ومهنيا؟ أليس لان العلم الحديث سبق الفكر الإنساني؟ بعد أن توصل إلى ما يسمى بـ "اثنولوجيا المجتمعات " التي تمثل اختلاف الشعوب وخصائصها وتوزعها واختلاطها ببعضها البعض، لتأثيرها على مجتمعنا العربي؟ أليس لان الإنسان كائن اجتماعي تتبلور معرفته من نشاط أيديولوجي؟ ومن هذا المنطلق أخذ الشعر الحديث ـ أو لنقل المعاصرـ مكانته في العالم العربي وفرض وجوده على خارطة الإبداع.. ويجب أن لا ننسى إن التغير الجغرافي وتاريخ الشعوب، هو من غير وفرض على مخيلة الشاعر ولغته الشعرية الواقع الحداثي، أو التهجين، أو الزى الغربي.. يستحضرنا بهذا الحديث ما تعلمناه عن إيديولوجيا تاريخ الشعوب وجغرافيتها.. ومحطاتها في كراساتنا المدرسية، عن شعوب كانت تسمى بالآشوريين والكنعانيين، والفينيقيين، والفراعنة، وغيرهم من أسماء دول استقلت تاريخيا وجغرافيا وحدثت أسماءها وأصبحت ( لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق)، وهذا أيضا ينطبق على الشعر العمودي الذي أطلق عليه قديما "ديوان العرب" وبعد هذا التغير التاريخي والجغرافي والمجتمعي ألا يحق للشاعر أن ينحني للأفضل؟ لتحريك جمود الماضي.. أو تهجين الصور الشعرية أو التناص، أو استخدامات رموز التاريخ بمجمله !؟ أرى أن شعر التفعيلة والمنثور والحر والشعر المفتوح، جميع هذه الأجناس، اعتبرها كلون بشرة الشعوب المختلفة، وشكل الجسد، وسمات الفرد الذي يتشكل بإشكال المجتمعات والبيئة والثقافة والعلوم والمفاهيم وغيرهم من العلوم الحديثة.. إذا فلم لا تبدع هذه الكائنات الأدبية؟! ولا يفوتنا أيضا أن الشعر العمودي، سبق وتجاوب منذ الثلاثينات مع شعر التفعيلة وما لحق به من تفاعل في الخمسينيات، حين خرج بشكل فعلي من قيود القافية والوزن، إذ لم نقل تحرر بشكل ملحوظ واتجه إلى ميدان الشعر الحر الذي نقل القصيدة العربية من الرتابة والجمود إلى النشاط الفكري والتصوير الحيوي، ليتماشى مع الحضارة التي صدرت الشعر المعاصر، كما أنه لا يمكن للشعوب أن تتقدم إلا إذ خرجت " إلى بيوغرافيا الحياة" وإستراتيجية" التعبير عن الوجه الحقيقي للواقع المتنقل من قافلة إلى قافلة ومن عالم إلى عالم ومن جغرافية إلى أخرى. اننا هنا لا نعني إنكار الشعر العربي قديما بل ما هي إلا نبذة عن التطور الطبيعي للماضي، الذي تناسب مع أجناس الشعر المعاصر إلى أن أصبح مشروعا مرتبطاً بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي.. مما اتسع فضاء فلسفة الوجود الإنساني الذي أخرج الشعور من أعماق الذات.. وأنهضها من الموت وأعادها إلى حقيقة وجودنا المؤقت على أرواق الشعر المعاصر الذي فتح الأبواب على مصارعيها للصور الشعرية والرمزية وإيقاظ التاريخ وتوظيف الأساطير.. الذين ناموا في عهد الشعر الذي سيطر عليه عصر الملوك وألزمه الصنعة الشعرية وانشغاله بنظم القوافي والبيانات المملحة بالمدح والهجاء والغزل . من هنا بدأ الشعر بنقلة نوعية إلى العالم عبر رواد الشعر المعاصر الذين تعاطوا مع حالة الشاعر بالروح والتأمل والإلهام، معبرين عن الواقع الذي ولد الطبعة الشعرية الأكثر تدفقا وحضورا وانسجاما مع الذائقة العامة، مما دفع الشاعر لاستحضار الأجمل، والأفضل، والأرقى.. لتوثيق ترجمة الحياة وإعادة ترتيب تطور البيت الثقافي للشعراء المبدعين . إذا لا بد من تثقيف المتلقي ليتناسب مع رقي المجتمع هذا إذا أردنا السعي وراء التقدم والوعي في غياب الأهداف والغايات التي نبحث عنها في انسنة الحياة للرقي بالمجتمع النامي من خلال كتاباتنا الأدبية الحديثة.. وبعد هذا الحراك الشعري والنوعي يجب أن لا نتساءل عن وجود هذه الأجناس الشعرية لأنها أتت من الشعر العامودي وزوجاته اللواتي استقبلن بذرة هذه الأجناس المتدفقة من أصابع الشاعر الذي ملك مخيلة أوسع من نطاق القوافي.. واعتمد على الطبعة الشعرية التي جمعت اللغة والأداة والوصف والتصوير..

س4- ينشر الشعراء المعاصرون الكثير من النصوص ويعجز النقد عن مواصلة قراءتها ما رأيك بهذا الكم الهائل من النصوص.. وكيف يمكن لنا تقديمها قبل أن نسال عن عجز الناقد؟

- يجب أن نسال أولا لم لم نعد نرى في النقد سوى المديح والتأييد والممالقة مما خلط الحابل بالنابل . في البدء يجب انتقاء مقياس أيديولوجية علاقتنا بالنصوص الشعرية كي لا نصل إلى مرحلة التساؤل حول ما وصلنا إليه من ضعف النقد، من انزوائه الذي يعود إلى الشبكة العنكبوتية، التي أتت بمولود متطفل يسمى " الأدب المرئي" هذا المولود المتوحش الذي فتح نوافذ بضاعته للمستشعرين، والمستثقفين، والمستكتبين، المحملين بموهبة التسلق على حساب الأدب الحقيقي، ليصبحوا شعراء أدباء بين ليلة وضحاها، إلى أن نسوا حقيقتهم وصدقوا كذبتهم بعد ان فرضوا أنفسهم كشعراء على أضواء المواقع الإلكترونية للتباهي بما لديهم من قص ولصق والنشر بأسمائهم/هن معتمدين على قُبَل الإعجاب والمحاباة والمبايعة.. او تبادل الأدوار.. دون التصدي لما ينشر من سطور تتغذى من ري الصفحات الالكترونية التي لا يمكن مراقبة ما ينشر عليها.. ليصبح الكاتب هو الناشر والمروج لنتاجه المنقول.. مما تسبب بابتعاد الشاعر الحقيقي والناقد المتابع.. فمنهم من توارى عن مثل هذه المواقف ووظف إبداعات مناهج النقد.. لأقلام شعراء حقيقيين على الساحة الأدبية . وهناك من سخر علومه لصالح العلاقات والمحاباة محاولاً وضع جميع مناهج النقد في نص لا يحتمل فرد عضلات النقد لحساب التوصيات والمصالح المشتركة . ومنهم من توجه للتعليم الأكاديمي لحفظ ماء الوجه . والبعض أخذ منحنى آخر واعتمد نشر النقد في صحف او مجلات تصرف مكافأة مالية للكاتب الذي الأمر الذي أوجد النقد العشوائي لنصوص خالية من تركيبات المنهج الأساسي للنقد.. إلى أن تحول النقد العلمي إلى دخل مالي . والبعض الآخر وضع وجه الكاتب في مرآة نقده.. بدل أن يضع علومه في حبر القلم ومبادئه.. لهذا تراجع النقد أو تقلص حضور النقاد الحقيقيين خوفا أن يقعوا في فخ الإحراج مع الكاتب أو الصديق، مما يراه من عيوب في النص.. وخاصة إذا كان الناقد اسم لامع في سماء الأدب الخالص . دون أن يدرك الناقد أن مثل هذا الهروب أو الانزواء ساهم بانتشار حالة التردي التي نعيشها عبر شبكة الانترنت التي دفعت العديد السقوط في طحين الاستنساخات، طالما وجدوا غطاء إفلاسهم الفكري الذي يلف غموض كتاباتهم، وشخصياتهم، وأفكارهم المعجونة من أقلام كتاب أسياسيين وما لحق بهم من عوامل تفتح المجال للمستنسخين أن يسبحوا في بحر الساحة النتية بنصوص لقيطة أو غير شرعية.. مما زاد من ظهور كتابات ساهمت بالفوضى الأدبية، التي تجاوزت حدود المنطق الأدبي.. ليسكننا اليوم عدم التوازن المهني والعملي والثقافي، الذي يسوده حالة مرضية توهم كل من يبدع يتصفيف نص مركب.. انه آخر الاكتشافات.. يبد أنه كان يجب على الناقد أن يملك خبرة "سيسوثقافة مهنة النقد" وان يستنفذ أداوته النقدية والتحليلية لما يحمل النص من خلال دوره المشروع في النقد المبني على الموضوعية، والناقد الحقيقي يجب عليه أن يلملم المسميات الأدبية ووضعها على طاولة التشريح للبحث عما قد يستفز ذائقته والتعمق بما يكتشفه لدي الكاتب من ايجابيات أو سلبيات بطريقة بناءة موضوعية علمية.. لتكون بمثابة امتحان للناقد لإظهار مدى خبرته وقدرته على التعاطي مع مناهج النقد لمثل هذه الإشكاليات المطروحة على الساحة الأدبية بكثرة دون خوف او هروب . كما يجب على النقاد ان يتكاتفوا ويجتهدوا لمواجهة هذه الفوضى بمادة نقدية موضوعية و بروابط موثقة تثبت شخصية الكاتب الحقيقي، لكي يتعظ السارق ومن سيفكر من بعده، ولكي يبقى الأدب محاطا محصناً من هذا الانتشار الذي لن يفيد الكاتب أو المتلقي أو حتى الأجيال التي ما زالت تحبوا على أبواب الشعر والأدب عامة، كما يجب على الإعلام أن يتكاتف مع الناقد بملاحقة الكتابات المرسلة للمواقع الالكترونية، وأن نضع مثل هؤلاء الأشخاص تحت المجهر لعلنا نصلح ما أفسده المفسدون حفاظا على مجهودات أفكارنا وحبر أقلامنا …..

2705 هدلا القصار

س5 - إذا تعارض النقد مع الشعر كفن.. أين تقفين أنت؟

- الوظيفتان لا يبتعدان عن بعضهم البعض فالنقد يدفعني لتسجيل فكرة الرؤية، وما يندرج عنها.. والنقد يأخذ رجفة الفكرة، وما يليها من رؤى.. بالنهاية الاثنين يعبران عن الشعور بالإبداع لدي الشاعر الناقد . ما دمنا متفقين أن لكل منا فرح وحزن، ينام ويصحو، يموت ويعيش، على ما تنتجه المشاعر الإنسانية والنفسية.. وأنه سيأخذ القلم إحدى هاتين الجنسين ليسجل تلك الشحنات كوسيلة تعبيرية.. عن رؤية أو دهشة ما، ليطلع المتلقي على ما أفرغه القلم من خلال الشعر أو النقد، لذلك لا يمكن أن ينفصل الشعر عن النقد.. وبما ان الشعر يرسم الحالة النفسية والوجدانية والإنسانية المبنية من مجموعة مشاعر وعلاقات تتعلق برؤية الشاعر، أما النقد يأتي ليلملم الوعي والعلم وما يلحق بهم من حالات ومعطيات فنية مهنية.. ولدينا ما يثبت " حين تناولت قلم النقد لأكتب حول قصة حقيقية تأثرت بها.. وإذ بي أرى استرسالي بالموضوع النقدي تحول إلى قصيدة نثرية بعنوان " الشهقة الأخيرة " . وهذا يؤكد أن الاثنين بالنسبة لي شخصيا يحملان نفس الشعور والقبول، بكل ما لدي من مشاعر وصور شعرية وتناقضات وتساؤلات.. لذا اتبع اتجاه القلم الذي ينساق وراء التأثير الداخلي أو الهام العقل الباطن، الذي قد يتجاوز وضع النقاط المنوي الحديث عنه

س6- أصدرت الشاعرة هدلا القصار بعض أنتاجها الشعري.. هل هي راضية عنه؟

- بالطبع راضية من ولادة النصوص بما أن لكل ديوان سماته وعمره وأحداثه.. ولأنه في النهاية يمثلني في الزمن واللحظة واليوم والحالات.. التي وثقت بعفوية الشعور المنفرد باللحظة الانفعالية.. لكني لست راضية من الفترات الزمنية التي اصدر فيها وخاصة المولود الأول بعنوان " تأملات امرأة " الذي كان يعني لي الكثير، ولان من اشرف عليه و أشار على العديد من نصوص الديون كان أستاذي في اللغة والتعبير الذي كان يدرس في مدرسة "الادفنتست الإنجيلية" التي بدأت التعليم منها حتى انتقالي للجامعة.. كذلك بعض الشعراء الذين كنت اهرب من الالتزام العائلي لحضور أمسياتهم خلسة لاستمع إليهم وبيدي دفتر كتاباتي التي كنت اعرض بعضها على إحدى الشعراء بعد انتهاء الأمسية ليطلبوا مني إلقاء ما يختارونه في اللحظة.. فألبي طلبهم متلهفة لاستقبل تجلي إعجابهم بما يرضي ذاتي المصحوبة بفرح تصفيق الحضور حتى الانتهاء . لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان كان اقوي من فرحتي على ما يبدو هذه الفرحة التي لم تدم سوى شهرين إلى أن أصبت بإحباط وانكسار داخلي.. وتركت الشعر وعدت للعمل الإعلامي، حتى وقت صرخت فيه كتاباتي اختناقها من أوراق الدفاتر طالبة الخروج إلى النور لأصدر ديواني الثاني بعنوان "نبتة برية " الذي جهز منذ العام 2003 لكن بسبب انشغالي الوظيفي صدر في 2008 وحديثا خرج إلى النور الديوان الثالث بعنوان "مهرة الحكاية" الذي عانى الويلات جراء سرقة جهاز تخزين المستندات الذي احتفظت بداخله نصوصي غير المنشورة مما أضاع من ولادته سنتين ما بين الاكتئاب ولملمة ما تبقى من مسودات، وإعادة ترميمها من خلال محاولات استرجاع لحظة كتابة النص الذي أنقذ من موت اللحظات الجميلة والمريرة

 س7- ماذا ننتظر من ناقدتنا الكبيرة من كتب نقدية جديدة؟

- اعمل على تنقيح ديوان بعنوان " ترانيم الهديل" والتحضير لطباعة مجموعة مقالات نقدية تستحق الطباعة حسب تقييم بعض النقاد الزملاء وأصحاب مؤسسات أدبية.. اعمل على إصدار كتاب" بعنوان مقترح " إبداعات بين التهجين وسوسيولجية النص الأدبي " . كما أحاول لملمة أوراق دراسة أهملت لسبب أو لآخر، وهي حول " تأثير اللكنة المحلية على إلقاء الشاعر" مهما حاول إخفاء جنسيته بلحاف اللغة .

 

س8- هل ترى ناقدتنا الكبيرة هدلا القصار أن النقد العربي المعاصر ما زال يحبو على يديه؟

- بداية لن أخوض في مناهج النقد ومفاهيم تداوله، وبالتأكيد لا أؤيد التخمين بان النقد العربي ما زال يحبو.. بعد أن قطع شوطا كبيرا من المفهوم الشامل لمناهج النقد وتطوره.. لكن يمكننا أن نقول أن النقد الحديث ذهب للتنزه في طرقات غير معبدة ليضع بيوض علومه بمحطات غير صالحة لتسجيل مراحل تاريخ الأدب الحديث الذي من المفترض أن يكون " ما بعد الأدب المعاصر " لكن على ما يبدو أن بعض النقاد حاولوا الاجتهاد بوضع مناهج نقدية حديثة ربما لتناسب مع الشعر العمودي بشكل سري، لكنهم لم يخرجوا سوى بالنقد الغربي بأسلوب عربي، مما أربك الناقد هذا الخليط غير المجدي لا بل أتى باعتكاف النقاد للأساليب النقدية الملتفة.. وعدم استيعاب طلاب الأدب العربي، لكثرة السياقات والمناهج الفلسفية المتشابكة، والتي لم تقدم جديدا لمدارس النقد العربي مقارنة بمدارس النقد الغربي، الذي لم يترك منهجا إلا وتطرق له وخاصة فيما يناسب الشعر المعاصر الذي اكتسح الساحات الأدبية، وكما ذكرنا فرض نفسه وسط المعارضين الذين يغالطون الواقع الحديث الذي وزع الأدوار بحسب الولادات الشعرية المتعددة الأجناس والمناصب . وأننا ندرك تماما أن كل ما ينضوي على فضاء ما، يولد معه النقد الأدبي والإعجاب والاجتهاد وهذا ما يحصل على الساحة الأدبية حول النقد ومدارسة التي تتداول وتدور وبالنهاية اعترف به، وهذا ما كان عند العرب القدماء حينما كانت أوروبا تعارض عصور الظلام، كان عند العرب سوق عكاظ وهو سوق للشعر بامتياز من قراءة ولفظ، على حدا سواء، وهذا واقع حال اليوم لان مناهج نظريات النقد الأدبي من الأساس جاءتنا من الغرب بأساليب أظهرت نظريات النقد ومدارسه وأجناسه.. إلى أن أصبحت عالمية، وليست حكرا على مكان أو ناقد.. خاصة بعد أن حدث تحول جذري وكبير في أنماط القصيدة العربية من الشعر العمودي والشعر الحر والحدث الذي يقترب ويتماها مع نمط القصيدة العالمية.. فعلى سبيل المثال هل يمكننا التفريق بين قصائد بدر السياب و البياتي ونازك الملائكة/ أحمد سعيد/ وادونيس/ واحمد عبد المعطي حجازي/ وصلاح عبد الصبور/ وخليل حاوي/ و فدوة طوقان/ ويوسف الخال /ومحمود درويش/ و ادموند وشعراء عالميين مثل اركون الفرنسي/ وناظم حكمت التركي/ وغيرهم من رواد الشعر المعاصر؟ ومن هنا نقول يجب على الناقد العربي أن يعود للنقد الغربي لأنه يتناسب مع جميع أجناس الشعر وخاصة المعاصر . لنستنتج أخيرا أن مناهج النقد الغربي أفضل من الآداب الأخرى علميا بعد اجتهادات لم تأت بغير ما لدينا .

س9- الشاعر الكبير يحتاج إلى ناقد كبير.. من من الشعراء والشواعر النساء ترشيحات لنيل جائزة الشعر المتفرد ومن من النقاد يستحق ان ينال لقب الناقد الفنان..

- وكأنك تريد أن توقعني بسهو الذاكرة، هناك شاعرات وشعراء ونقاد وناق : الشاعر اللبناني وديع سعادة الشاعر والناقد التونسي يوسف رزوقة الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الشاعر والناقد الليبي خليفة التليسي الشاعر والناقد والباحث العراقي كريم القاسم الشاعر والناقد الفلسطيني عز الدين المناصرة، الشاعر والناقد الجزائري ميلود حميدة الشاعر والناقد المصري نجيب سرور الشاعرة والناقدة المغربية نجاة الزباير الشاعر والإعلامي عياش يحياوي الشاعر المغربي محمد السرغيني الشاعر اللبناني فوزي المعلوف الشاعر المصري احمد شوقي الشاعر اللبناني فوزي بزيع الشاعر اللبناني فوزي المعلوف الشاعرة والقاصة اللبنانية د مريم الترك الشاعر والإعلامي رمزي عقراوي الشاعرة والناقدة السورية ندى محمد عادله الشاعرة مي زيادة الشاعرة الليبية عزة رجب الشاعرة السورية رندة حيدر الشاعرة والإعلامية فاطمة بوهراكة الناقد المغربي احمد العربي الناقد السعودي عبد الله الغذامي الناقد الفلسطيني الأردني على البتيرى الناقد المغربي دكتور حمام محمد زهير الناقدة اللبنانية يمنى العيد الناقد والباحث المغربي جميل حمداوي الناقد «المشرقي» السعودي عبدالله الغذامي الناقد الفلسطيني الأردني على البتيرى الناقد المغربي دكتور حمام محمد زهير الناقدة المصرية مريم نعوم مرسيدس وهناك العديد العديد ممن أبدعوا واجتهدوا بأقلام تسجل في تاريخ الأدب .

س10- هل بمقدور أديبتنا هدلا أن تسمعنا نصا شعريا لها يمثل أعماقها من الداخل .دمت أخت هدلا وبانتظار لقاءات شعرية ونقدية جديدة.

- هذه بعض تجلياتي الشعرية

الكلام أولاً.. والقصيدةُ فيما بعد

ما معنى الشِّعرُ يُكتبُ

وَهُو لا يقبلُ الكذبَ

ولا يصدِّقُ الحقيقةَ؟

كيف أطرقُ أبوابَ القصيدةِ !؟

وطبيبُ الشِّعرِ

يَضَعُ قانوناً للكتابةِ

ويقول بالكذبِ تتجمَّلُ الكلماتْ؟!

العاقلُ منا يفكِّرُ ويكتب

ُ ليكسر صُورَ الحزنِ

ِبالحقيقةِ نفسي لا ترضى بمكانِها

ولا ترضى أن تكتبَ الشعرَ وحدَها

ماذا أفعل؟

هنا رمتني العواصفُ والسنونُ

ولم تعنيني الصداقةُ وحدَها

ولم تتركْني للتفكيرِ وحدي..

. إذَن سأسلك الطريقَ التي أريدُ

وأُطلقُ الكلمات

تَحكُمُ بين الخيالِ والحقيقة

هناك جنسٌ يكادُ يُشبهني

فيه أنسجُ الحزنَ بكاءً

وهناك بكاءٌ ينسجُ الحزنَ

بالحقيقةِ .

هنا كلماتٌ لها أظافرٌ

تدخلُ صمتَ الأفكار

وهناكَ بينَ الأرواحِ والكلمات

خطوةٌ تكمنُ فيها السعادةُ

لِتُرْعِدَ أصابعي القصيدةَ

وفي نفسي خوفٌ

كأن الحياةَ ليستْ سِوى حبلٍ

يَشدُّنا لِلْوراءِ والأمام

سأسيطرُ على القصيدةِ

حتى لو وضعتِ السنونُ على رأسي

قبعةَ الشيبِ

***

حنين إلى لبنان

يُلاحقُني تفكيري

بينما أَكنِّسُ أوراقَ وجودي

تهزّني خواطرُ الذكرياتِ

يجتاحُني شعورٌ

كحنينِ الطيورِ لأوطانِها

منذ أنْ غادرْتُ ساحِلَكَ

وكوكبَ أُمسياتِك

أَجلسُ كلَّ يوم

أُذّرِرُ نهرَ اغترابي

داخلَ حدودِ ملعبي

لأفجر معاناتي المخبأة

أتهيأُ للشقاءِ المتدرجِ

تنهالُ أظافرُ هذياني

أتلاشى لِلَحظاتٍ الجنونْ

وبريشةٍ موحشةٍ أُدَوِّنُ كلماتي

ثُمَّ أُعالجُ رموزَ السطور

ِ لأجعلَها كالمعابدِ المغلفةِ بالخرافاتْ..

يبحثُ عَنِّي تفكيري!

حينَ أُغادرُهُ لِبوابةِ النسيانِ

يلاحقُني كصديقِ وجودي

كالثائرِ المبشِّرِ يأتي بمفرداتِهِ

يلهو داخلَ نيراني

يضعُني بين غيابِ الوطنِ

كلَّ يومٍ كلَّ شهرٍ

وساعةٍ بساعةٍ من السنة

وكلما شردَ خاطري

كساعةِ سَكينةِ الأسودْ

وحين أُصوِّبُ عَيني

على مرورِ الطيورِ المجنحةِ

فوق صمتِ الصخور

هنا تموتُ كلُّ الأشياءِ حولي

كالمنازلِ التي لا تُشرع نوافذُها

كالمراكبِ التي لا تُبْحِر

بينما أُحاولُ مقاومةَ الحياةِ

كالعشبة التي لا تموتْ

قبل أنْ تبدأَ علاماتُ الشيخوخةِ

وأعزفُ على أوتارِ غُربتي

أَرْقصُ على طبولِ أَحْلامي

وقبل أن ينتهيَ مِشوارُ كلِّ سنةٍ

أَصرخ

ُ أشجارُ الأََرْزِ ضُميني بينَ أغصانِكِ

وبين أوراقِكِ

خبئيني وفي صفحاتِ تاريخِِكِ

ضَعيني وبين حروفِكِ الفينيقيةِ

اِبْحثي عن غيابي

ومع رياحِ الشرقِ أَرسلي لي ابتساماتِكِ

حتى لا أتجاوزَ حدودَ سريري

لا تتركيني أتجوَّلُ كالمهاجرينَ في الوطنِ السِّرِّي

لا تتركيني أستسلمُ لضَياعِي

وأتأملُ أهوالَ البشر

لا تتركيني بين عالمٍ مِنً الخشبِ

ألاعبُ ستائرَ الظلامِ أدخلُ ركنَ استسلامي

أسجلُ أيامَ بُعْدَكِ

وأُكَوِّرُ أرقامَ هويتي

بحباتِ الصنوبرِ المجففة

هنا لا السماءُ خيمتي

ولا الشوارعُ وطني

ولا الكواكبُ عائلتي

وليس الزمانُ مَأْمَنِي

ولا الشواطئُ مَرْفَأي

هذه الأرضُ ما زالتْ تجهلُ نيراني

فكيف أكونُ أو لا أكونْ!؟

أدخليني بين ركعاتِ صلاتِك

رتّليني بتلاوةِ كلماتِكِ

قبل أن تبتلعَني أقراصُ الشِّعْرِ المهدئة

***

حاورها المستشار الأدبي حسين علي الهنداوي

..

سيرة ذاتية للشاعرة والناقدة هدلا قصار

هدلا القصار:

البلد الأم: لبنان /بيروت

الإقامة الحالية: فلسطين

- أنهت دراستها الجامعية في الصحافة والإعلام من الجامعة الأمريكية اللبنانية

- بكالوريوس في "سيكولوجية الإنسان المقهور" جامعة بيروت العربية

ماجستير في النقد، وتحيل الخطاب الأدبي وأهميته.

بدأت رسالتها الأدبية أواخر السبعينات نشرت العديد من النصوص النثرية والمقالات الاجتماعية والأدبية في مجلات لبنانية محلية منها، مجلة الحسناء/ ومجلة الشبكة/ وصحيفة وصوت المرأة المحلية/ وصوت العدالة .

إلى أن تزوجت من كاتب فلسطيني ناقد مسرح وسينما

- عملت في مجلة الحرية سنة 1982 في بيروت

- عملت مدير العلاقات العامة في القنصلية الفلسطينية في دمشق 1982/1984

- علمت " باحثة اجتماعية " في سوريا دمشق 1982/1984

- عملت في وقت واحد محررة في مجلة فلسطين، وصحيفة " الجزيرة" المختصة بالجالية العربية في جزيرة قبرص سنة 1985/1992

- عملت مدير دائرة التحرير لمجلة "قضايا فلسطينية" التابعة لوزارة التخطيط والتعاون الدولي، . سنة 1994 .

- نائب المدير العام لدائرة الإعلام في وزارة الشؤون الخارجية لدي السلطة الوطنية

- عملت لصالح الوزارة على إصدار نشرة بعنوان "الحقيبة" الموجه إلى السفارات والقنصليات الفلسطينية في الخارج) . سنة 1996

نشرت العديد من الكتابات السياسية والدراسات الإعلامية ضمن نطاق العمل .

شاركت في العديد من الندوات والأمسيات الشعرية في عدة دول عربية

- صدر لها ديوان بعنوان " تأملات امرأة " عن دار الساقي بيروت سنة 1982

- ديوان بعنوان " نبتة برية " عن دار الشروق بيروت. سنة 2008

- ديوان بعنوان "مهرة الحكاية" برعاية المركز القومي للبحوث الفلسطينية 2016

- العمل على تنقيح ديوان بعنوان " ترانيم الهديل"

- التحضير لطباعة كتاب عن النقد حول " المهجر وتهجين لغة الشعر "

- التحضير لطباعة مجموعة مقالات نقدية خاص بالكاتبة بعنوان "سوسيولجيا النص الأدبي . ( بالطبع العنوان قابل للتغيير

- نشرت الكترونيا وورقيا العديد من النصوص النثرية والسردية والدراسات النقدية والاجتماعية في عدة صحف ومجلات أدبية تصدر في دول عربية وعالمية، منها: صحيفة إيلاف / صحيفة الزمان الالكترونية / الإمبراطور / فضاءات / ديوان العرب / صحيفة المثقف /مجلة الندوة العربية / مجلة ألوان /عراق الكلمة / مجلة أنانا /مجلة ليلى اللبنانية/ ومجلة الغربة الثقافية والإعلامية/ والموقع الدولي والعلماني " الحوار المتمدن" وغيرهم العديد..

* عضو " الموسوعة الكبرى لشعراء العرب " الموسوعة الأولى .

* عضو رابطة شعراء العالم 2006

* عضو اتحاد كتاب العرب 2007

* عضو رابطة أدباء العرب 2008

* عضو في نقابة الصحفيين العرب 2008

* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين 2009

* عضو اتحاد مدونين العرب 2009/ 2010

* عضو كتاب الانترنت 2010

عضو اتحاد الكتاب الفلسطيني .

عضو اتحاد المدونين العرب .

عضو صالون القلم الفلسطيني .

* عضو لجنة التحكيم في النقد الأدبي في ملتقى الأدباء القاهرة

* رئيسة ومديرة صالون المواهب الشعراء والمبدعين

* مديرة وسفيرة البيت الثقافي العربي في الهند ( لدي فلسطين)

* دكتورة فخرية من المجلس الأعلى للإعلام فلسطين/ فرع الأردن

* وأخيرا كان لي شرف الفوز بـ " جائزة الشاعر شربل بعيني لعام 2016"

آخر نشاطاتها وفعالياتها الأدبية

عملت على تكريم خمسين إعلامية لم يأخذن حقهن على الساحة الغزية برعاية " مركز رؤية للدراسات والبحوث " 2015

* علمت باجتهاد شخصي على " إقامة برنامج شامل لـ ( مواهب الشعراء والمبدعين ) والتركيز على نقاط الضعف والقوى لدي المواهب وتقويتهم من خلال دورات شاملة فما يخص خصصت دراسة ومفهوم " الإطار العام للقصيدة المميزة"

* شاركت في العديد من المؤتمرات السياسية والفعاليات الشعرية والنقدية الإبداعية

كما جري معها العديد المقابلات الإذاعة والتلفزيونية والمجلات والصحف الدولي

حول كتاباتها الادبية الشعرية والاجتماعية والدراسات النقدية

أهم ما كتب عن نصوصها :"

- كتب الباحث والناقد العراقي عن قصيدة " بحر الأبدية مقالة بعنوان " في حر الأبدية.. لهدلا القصار"

- كذلك كتب الدكتور الناقد حمام محمد زهير " قياس اللذة في بحر الأبدية " للشاعرة هدلا القصار

- كتب الشاعر والناقد والمترجم ميلود حميدة،ضمن كتابُ بَوتقةِ المِسك.. حَلقاتٌ بينَ الأدب وَنُضوجِ الصَّدى" باب " صدى الدراسات النقدية"

- كتب الشاعر والناقد عبد الوهاب المطلبي دراسة بعنوان " قراءة مرآوبة لنصوص الشاعرة الفذة هدلا القصار

- كتب الباحث والناقد المصري حازم حداد " التنوع في الأسلوب الشعري في قصائد الشاعرة هدلا القصار

- علي شبيب ورد/ كتب " ورود تٌكتب بالقصائد"

- كتب الشاعر دراسة والكاتب الجزائري أحمد مكاوي، النبوءة في نص سردي بعنوان (قصص لمدينة) لهدلا القصار

- وكتب دراسة الشاعر والكاتب الجزائري أحمد مكاوي عن قصيدة (ظل منقار) هوى على منحدر حلم عاقر

- كتب الباحث والناقد الدكتور كريم القاسم رؤية بعنوان (جولة ٌ في جذور نبتة برية

- ترجم بعض من نصوصها الشعرية إلى الإنجليزية والفرنسية، منهم نص بعنوان " لن أبوح" "نشوة الرهبان" بحر الأبدية / علبة الأصابع / نبتة برية..

كما ترجم بعض من دراساتها النقدية

ترجم بروفايل للشاعر يوسف رزوقة بعنوان: من سحر الأمكنة الأدبية، نذهب إلى انسكلوبيديا "الشاعر التونسي يوسف رزوقة،المقيم في فرنسا

ترجم إلى الفرنسية بروفايل للشاعر والفيلسوف اللبناني روبير غانم،بعنوان

من بين كهناء الشعر نتوقف أمام تجربة الشاعر - دانتي- اللبناني وارتباطه الميتافيزيقي بالفكر والواقع .

ترجم إلى الرومانية بروفايل للشاعر الفلسطيني منير مزيد بعنوان: " من أجيال كهنة الشعر نذهب إلى الشاعر الكنعاني المقيم في رومانيا منير مزيد"

بعض من كتابات الشاعرة الرؤيوية التي أخذت حيزا كبيرا من تأييد واهتمام نقاد كبار والمواقع الأدبية (علما هذا غير مالوف بين اصحاب المهنة)

1- بروفايل (1) – ساحات لا تحتمل أقلام كهنة شعراء العالم العربي والعالمي المتسلحين بمحراب حروفهم الهاربة من ببلوجرافيا الأدب

2- بروفايل (2) من الساحات التي لا تحتمل أقلام كهنة شعراء العالم العربي والعالمي والشاعر والمترجم التونسي يوسف رزوقة

3- بروفايل (3) من بين كهنة الشعر يدعونا يسوع الأقدار قاسم حداد، إلي جلسة حميمة مع محراب حروفه المهجنة

4- بروفايل (4) من بين كهناء الشعر نتوقف أمام تجربة الشاعر - دانتي- اللبناني وارتباطه الميتافيزيقي بالفكر والواقع

5- بروفايل (5) من مسقط رأس الهجرات الثقافية نطوف بالنجم البريري الشاعر العماني سيف الرحبي

6- بروفايل (6) من العائلة الكهنية نصطاد البلبل الفرعوني الشاعر شربل بعيني،و ملفوظاته السيميائية

7- بروفايل (7) نتجه نحوى طائر الفينيق اسعد الجبوري ومخزونه المكتظ بالمعرفة الابستمولوجية في الشرق الأوسط والعالم العربي

8- بروفايل (8 ) من أجيال كهنة الشعر نذهب إلى الشاعر الكنعاني المقيم في رومانيا منير مزيد

9- روايات القصة الفلسطينية بين المرأة والرجل

10- الرقص على وتر العاطفة وعاصفة العقل التي تطول وتقصر في سيسولوجية الشاعر عثمان حسين

11 – فيكتور هوجو الفلسطيني - علاء نعيم الغول- يغرق بين اللغة وصياغة الشعر الحديث في ديوان – قصائد العشق المائة-

12 – أرصفة الذات بين الانكسار،وسراج العقل في ديوان –شمس الليل- للشاعرة اللبنانية دلال غصين

13- فاطمة بوهراكة بين الأسئلة والمبررات في هذيان –جنون الصمت- والبوح

14- نقطف من تراتيل الكنائس - دادئيات- الشاعرة السودانية - ابتهال محمد مصطفى تريتر-

15- حين يجتمعون الشعراء في عزاوات الحبيبة

16- رؤية نقدية حول نصوص الشاعر العراقي وهاب الشريف

17- سماح الشيخ الطفلة التي ترتدي لباس الراشدين

18- بين ديوانية الحريم والمكاشفة الفذة

19- هل بإمكان النقد أن يوقف الأخطاء المتوارثة والاقتباسات النتية؟

20 – بين الذاكرة والذاكرة يعيش الشاعر اللبناني - جورج جرداق – في مربع الشعراء

21- البحتري الصغير، الشاعر الجزائري أحمد مكاوي

22 - ادكـار ألـن (السعودي) القاص عبد الرحمن الدرعان الذي يرضع طفولته من حقائبه القصصية السردية

23 – من أوراق' زهايمر خفيف' نتجه إلى عقلانية الشاعر الفلسطيني الشاب محمود ماضي

23 – الجريفاني.. شاعر سعودي يتنفس الحب من تحت عباءته

24- سعد جاسم يعيد اكتشاف وطنه عبر الأنثى

25 – شاعر لم تقولبه القصيدة ولم تصنفه الكلمات الشاعر الفلسطيني منير مزيد

26 من هرمونات الحركة الإبداعية الحديثة لجيل الشباب الهارب من الأبيض والأسود الاجتماعي

27 - من مطاعم روايات القصة الفلسطينية بين الرجل والمرأة وبين استنساخ الماضي واستحضار الحاضر

28 – سماح الشيخ الطفلة التي ترتدي لبـاس الراشين في منولوج متأرجح بين الصغر والكبر

29 – تفرد الأناة الجمعي في قصص نهيل مهنا في قصص" حياة في متر مربع" المشبع بقضايا هموم المرأة الفلسطينية

30 - أفـــلام فلسطينية للتجارة..

31 - شـاعر الماركة المسجلة الشاعر اللبناني "شربل بعيني "

32 - شاعر لم تقولبه القصيدة ولم تصنفه الكلمات الشاعر منير مزيد

33 – قراءة في قصيدة الشاعر العراقي يسعد جاسم "لا وقتَ إلاّ لابتكارك"لعنوان ديوانها الثاني

لبست هذه النبتة ثوب الصمت إلى أن خرج صراخها بعد أن ضاق الهمس في صدرها.. حيث أيقظت هذه النبتة غربتها عن الوطن في الفكر والمشاعر.. لتذهب الى الإبداع الذي شجعها على الصمود وترميم البقاء من خلال أوراقها..، كانت وما زالت تبحث عن من يشبه غربة روحها التي خرجت بها إلى الطبيعة لتبحث عما فقدته بين الكائنات اللحمية فوق اليابسة، وفي أعماق التاريخ وصولا إلى نقطة العودة.. ذهبت لتسال سكان الغابة عن موطنها الذي كان يناديها.. وحدها من كان يسمع ذاك النداء القادم من ارض الفينيق توقفت لتنفض ملابس العبارات.. ومن يسكن حنين قلبها لتلقي برأسها على وسائده.. بعد أن فقدت برعمها.. ذهبت إلى الغابة التي لا يوجد فيها من يعاقب أو يلام.. لتستكشف داخلها الزمني في الذاكرة، وتبحث عن مسامير أرضها في الطبيعة لتبحث عن من يكتشفها أو يشبهها.. يدنو منها.. نشرت هذه النبتة غربة نصوصها خارج ارض الوطن الأم..

وما زال الاغتراب يزاحمها، مشكلات الواقع، والخداع، والزيف، وتعدد الوجوه المزيفة.. كما يزاحمونني على النجاح.. وما زلت اهرب إلى عرش الشعر، وهمس المحبين.. ليضيء الحلم الذي يرقص بجناح ملكوت الشعر لاحتفل معه بــ "عرس بلا رقص"

 

 

2608 نبيلة متوجالسورية نبيلة متوج: تجربتي الشعرية متفردة بذاتها، بسيطة كبساطة الريف وعميقة بعمق الحب والمشاعر التي تربطني بالآخرين

نبيلة متوج شاعرة مرهفة الإحساس، تكتب بصدق ولغة أنيقة، وبأسلوب نثري متين ورصين، تغرد مع البلابل والحساسين في سماء الوطن وفضاء القصيدة. كان لي معها هذا الحوار:

س: هل لك ان تقدمي نفسك للقراء؟

ج- اسمي نبيلة متوج، من موطن الأبجدية الاولى ... من بلاد الياسمين سورية الحبيبة. خريجة كلية العلوم فرع رياضيات. أهوى الجمال في كل شيء ... أعمل في القطاع الصحي كإدارية جامعية. أعشق الكلمة الجميلة ولكنني مازلت أحبو على دروب الشعر

س: حدثينا عن بداياتك الشعرية؟

ج- بدايتي كانت منذ خمس سنوات تقريبا عندما رحلت امي رحمها الله ففاضت عبرتي كلمات

خذيني إليك . . .

آه يا امرأة

رسمتني عيناها قبل التكوين

أرهقني بعدك أرهقني

لو تمنحني قدماك الطاهرتين

هنيهة أمن ......

من محراب الروح أناديك

أسمع همس نجواك

يملأ أرجاء الكون دعاء

يناجي الله كل فجر

أن يحفظ فلذات الأكباد

أعلم أنك هبة الله

لديك الرحمة وكل الحب

الجنة حيث تكونين

خذيني إليك ......

إلى جنتك .......

أنا منذ ولدت

عرفت الله بعينيك

عبدت الله بفضلك

صرت نبتة طهر

هذا الفجر أضناني

الشوق إليك

قمت . .صليت . . بكيت

ناديت خذيني إليك

اشتعلت لغتي

حرفا".... حرفا"... شوقا"

احترقت نبضات قلبي

بخورا" ......

أمي أضم صورتك

أمسح عينيك بدمعي

ينبت قلبي

فوق طهر ثراك

ريحانًا وقمحًا

يا امرأة بحجم الكون

لو خيروني اختار

وطن

أختار قلبك

س: يقال ان بعض الشعراء يكتبون قصائدهم والبعض الآخر تكتبه القصيدة، فمن أي الشعراء أنت؟ وكيف تولد القصيدة لديك؟ وهل من طقوس معينة للكتابة؟

ج- أنا من الشعراء الذين تكتبهم القصيدة، فقصائدي وليدة آلام الناس ومعاناتهم وفرحهم واللحظات الجميلة التي يمرون بها، وليس لدي أي طقوس معينة للكتابة ...ربما أكون أسير في الطريق فأرى موقف أو منظر يستهويني فتولد قصيدتي. دائما اصطحب معي قلمي وأوراقي ...وأخط ما يمر أمامي وأرسمه بالكلمات فتولد قصيدة.

س: مَنْ كان له النصيب الأوفر في التأثير على تجربتك الشعرية خلال مشوارك الإبداعي؟

ج- أعشق كل شيء جميل من كلمة وزهرة ومنظر طبيعي، أحببت منذ طفولتي الشاعرة العراقية نازك الملائكة وتأثرت بالشاعر الكبير نزار قباني وقرأت للشاعر الكبير محمود درويش، لكني أظن أن تجربتي الشعرية متفردة بذاتها فهي بسيطة بساطة الريف، عميقة بعمق الحب والمشاعر التي تربطني بالآخرين.

س: هل الاعلام العربي يقوم بواجبه في نشر الثقافة والشعر، والتعريف بالمبدعين، وكيف ترين تجربة النشر على مواقع التواصل الاجتماعي؟!

ج- برأيي أن الاعلام العربي مقصر جدًا في نشر الثقافة والشعر والتعريف بالمبدعين من شعراء، وأدباء، وعلماء. أما تجربة النشر على مواقع التواصل الاجتماعي فهي تجربة جيدة وناجحة، ولولا هذه المواقع لما سمعنا بأكثر الشعراء ولا قرأنا إبداعاتهم.

فوسائل التواصل الاجتماعي جعلت العالم أسرة قرية صغيرة ، تستطيع من خلالها أن تجوب العالم وأنت في مكانك ولها الأثر الكبير في انتشار الأدب والعلم والمعارف، والتكنولوجيا ساهمت مساهمة كبيرة في ابراز واشهار الشعراء وتعرفت الناس على نتاجهم الادبي، وقد فتحت أمامهم هذا الفضاء الأزرق، ولولا وسائل التواصل الاجتماعي ما عرفنا بعضنا البعض ولا استمتعنا بروائع الشعراء والأدباء، لذا أحببت النشر في الفيسبوك على صفحتي الشخصية وفي ملتقيات أدبية  كثيرة ومنتديات ومجلات عربية وحصدت قصائدي الثناء من القراء والكثير من شهادات التكريم.

س: هل تعتقدين بوجود كتابة نسائية وأخرى ذكورية؟ وهل هناك فرق بينهما؟

ج-الأدب والشعر لا ينقسمان بين الذكور والاناث. لا يوجد أدب نسائي أو أدب ذكوري، إنما الأدب واحد، وإن كان هناك أديبات وشاعرات كثيرات على الساحة ربما يكون الاختلاف بأن المرأة أكثر حساسية وتأثرًا بالموضوعات التي تطرحها في قصيدتها.

س: هل لك ان تحدثينا عن ديوانيك الالكترونيين، وماهي أبرز المحطات فيهما؟

ج- صدر لي ديوانان الكترونيان، الأول صدر عن منتدى نسمة ياسمين للأدب والشعر، وهو من إعداد واخراج الأستاذة غادة السيد، والثاني بعنوان (حورية) مجموعة قصائد بطعم الشجن، صدر عن منبر الأدب الليبي والعربي والعالمي. وفي كلا الديوانين قصائد تصور الحياة العامة والشخصية وقصائد وجدانية وواقعية بلغة سهلة من يقرأها يظن أنها كتبت خصيصًا له، تحاكي واقعه وأحاسيسه وفيهما قصائد محاكاة لقصائد شعراء عالميين.

س: ما رأيك بالحال النقدي الراهن؟ وهل أنصفك النقد والنقاد؟

ج- لا يوجد في أيامنا هذه نقد بمعنى النقد البناء ...والذي كلنا نسعى اليه ...أما بالنسبة لي فقد رأيت العديد من النقاد سلطوا الضوء على مجموعة من قصائدي وإن كنت أتمنى لو تحظى كتاباتي بالنقد أكثر، كي أمكن من السير قدمًا في طريق الأدب والشعر. وإنني مدينة بالشكر للناقد الاستاذ شاكر فريد حسن اغبارية، والأستاذ الناقد حميد الخويلدي، والاستاذ صاحب ساجت.

س: كيف ترين واقع المرأة السورية بشكل خاص، والمرأة العربية بشكل عام؟

ج- الحقيقة المرأة السورية تُرفع لها القبعة احترامًا وتقديرًا، كانت ومازالت الجمال والخصب والعطاء ...حاربت على جبهات القتال وصمدت ...وزفت أبناءها شهداء وزغردت وزرعت الأرض ...علمت الأجيال. المرأة في سورية حصلت على كثير من حقوقها فتراها في كل مكان وكل المجالات (معلمة ...قاضية ...محاربة.. مزارعة..شاعرة، لكن المرأة العربية بشكل عام مازالت تعاني الكثير، وواقعها متردٍ  تتزوج باكرًا وتمتلك كأنها قطعة أرض يتحكم بمصيرها الرجل سواء كان أبًا أو أخًا أو زوجًا.

س: هل تعتبرين جمال المرأة له أثر على شهرة الشاعرة وسطوعها؟

ج- لو تكلمنا عن الجمال فمن منا لا يعشق الجمال. لكن في مجال الشعر لا أظن أن جمال المرأة له أثر في سطوعها وشهرتها، إنما جمال احساسها وكلماتها المنمقة الجميلة ربما يكون لهما الدور الأهم في شهرتها وسطوع نجمها.

س: بعض القصائد ترتبط بموقف معين وتكون بمثابة انعكاس وتوثيق لهذا الحدث، فما هو الحدث الذي أثر فيك وكتبت عنه؟

ج-كل الأحداث التي مرت على بلادي سورية أثرت بي وجعلتني أكتب أحرف حمراء بلون دماء الشهداء وبلون دموع الأمهات، فكتبت عن سنوات الحرب، وعن أحداث مرت على بلاد العرب كلبنان والعراق وفلسطين اثرت بي وكتبت عنها، وكذلك جائحة كورونا التي هددت العالم، وعلى الصعيد الشخصي وفاة أمي وأبي رحمهما الله أثرا عليّ كثيرًا وبكيتهما قصائدًا موجعة الحروف.

س: ماهي أحلامك وطموحاتك ومشاريعك المستقبلية؟

ج- أحلم بأن تنتشر قصائدي ويقرأها الجميع وأن تصبح عالمية وتترجم الى لغات العالم. أما مشاريعي إن وفقني اللـه أن أطبع قصائدي ورقيًا.

س: هل هنالك قصيدة تعتزين بها أكثر من غيرها، وما هي؟

ج- كل قصائدي هي جزء مني، أحبها وأعتز بها لأنها تحمل نبضات قلبي ووجعي وأحلامي، ولكن هنالك قصيدة أحبها وأقدمها للقراء، وهي بعنوان (اعترافٌ متأخرٌ):

لا المسافاتُ

وَلا الأيّامُ تُؤرِّخُ

غَيرَ المَحبَّةِ!

هدِيلُ حَمامٍ

قِبابٌ مِنْ غِيُومٍ وَعَسْجَدٍ

تَرْتيلةُ صَلاةٍ مِنْ بَنَفسَج

جُسُورٌ مِنْ رُؤىٰ

قَداسَةُ نَدًىٰ

صُبْحٌ لَمْ يُولَدْ!

وَجهُكَ الوّضَّاءُ...

صَيَّرَني...

في زَمَنِ الوَغَىٰ..

حُبًّا مَمْنُوعًا

وَ في لَيالي الشِّتاءِ،

دِفْءً لَذِيذًا

عَلَّمْتَني:-

لِلْصَّمْتِ حَكايَا

تُطَرِّزُ الأوْقَاتِ...

بَراعُمٌ تَغْزُو قَلْبًا مُعَنَّىٰ

تَضْحَكُ لَها المَرايَا

غمزةُ عَيْنٍ

تَنْثِرُ في تُرْبَةِ قَلبِي

حُرُوفًا...

تُزْهِرُ  قَصائِدَ!

أنْتَ يا صَخْبَ الهدُوءِ

وَ صَمْتَ اللَّذَّةِ

يا سِرًّا وَ خَفايَا

أعوامٍ مرت

نَثَرْنا في الوُجُودِ

أجْمَلَ هَدايَا

امْطَرَتْ فَراشاتِ حُبٍّ

أَمانِينا...

وَ لَوْعَةَ الياسَمِين!

س: كلمة أخيرة تقوليها في نهاية هذا الحوار!

ج - لقد سررت جدًا بأنني كنت ضيفتك استاذ شاكر فريد حسن في هذا اللقاء، وكنت المحاور اللطيف الهادئ، فكل الشكر وباقة من الورد والرياحين لك استاذنا الانيق.

وهذه القصيدة هديتي لكم في نهاية هذا اللقاء، وهي قصيدة أضاءها الكثير من النقاد ونشرت في الكثير من المواقع، تقول كلماتها:

حوريَّةٌ أَنَا...

سَبِحْتُ في بَحْرِ كلماتِكَ

مَعَ حُرُوفِ اللَّازُورْدِ

لَبِسْتُ غِلَالَتي،

وَ أَطْلَقْتُ أَجْنِحَتي

عِبْرَ مَداكَ

كَمْ كَتَبْتَ قَصائِدَ وَردِيَةً!

حُلمُكَ المُقَدَّسُ أَنَا

صَلاتُكَ لِلرَبِّ

تَدْفَعُنِي لَهْفَتي،

فَأَنْسَلُّ بَينَ حُرُوفِكَ

أَتراقَصُ...

فراشاتٍ

أمْلَأُ عالمَكَ ياسَمِينًا

أَظْمَأُ وَ أَرْتَوي

تَمْتَلِىءُ بي

بِهَمسي وَ عَذْبِ حُضُوري

أَدمَنْتَني وَ..كَفَىٰ!

أَنـا إبْنَةُ أفكارِكَ

وَ مَلاذُكَ الآمِنُ

حُورِيَّتُكَ أَنَا

أُبْحِرُ في زَحْمَةِ إبْداعِكَ

أَنسَلُّ كالدَهشَةِ

بَينَ سَكَناتِكَ

أرْجُوكَ...

غَنِّ لِي بِنَبضِ قَلبِكَ

قَصِيدًا بَدَوِيًّا

وَ عَلِّقْني في خَيْمَةِ رُوحِكَ!

***

حاورها: شاكر فريد حسن

 

 

علي محمد حسن2562 ايمان اليوسفربما لم يأتِ الاهتمام أو التركيز على علاقة المرأة والكتابة بشكل مباشر في البدء، لكنه فرض نفسه. بمعنى، حين بدأت الكتابة (ولا زلت) كان أكثر ما يشغلني هو الانسان. القضايا التي تهز الإنسان، التي تؤثر فيه ويتأثر بها والتي تبنيه ويبنيها. العالم قائم في تاريخه وجغرافيته على وحدة أو قطعة الموزاييك الأعظم فيه وهو الإنسان. هذا ما صرحت به الكاتبة إيمان اليوسف في الحوار الذي اجريته معها كما اخبرتنا عن تأثرها الكبير بالثقافات الغربية بدرجة كبيرة . كما اعربت إيمان عن ايمانها بعدالة الأدوار للجنسين وبانها فلسفة أعمق وأصدق من المساواة. بالاضافة الى انها اخبرتنا برأيها عن ماذا تحتاج المرأة لتكتب.

ولدت الكاتبة في عام ١٩٨٧ في دولة الامارات العربية المتحدة. مدربة جرافولوجي ومهندسة كيميائية. درست في الجامعة الأمريكية في الشارقة وحصلت على دبلوم في الدبلوماسية الثقافية في عام ٢٠١٧ في برلين. وهي أيضاً عضو إداري في إتحاد كُتاب وأُدباء الأمارات.

صدرت لها روايتين (النافذة التي أبصرت) و(حارس الشمس) بالإضافة إلى ثلاث مجموعات قصصية. وقد فازت روايتها (حارس الشمس) على جائزة الإمارات للرواية لعام ٢٠١٦ والتي ترجمت الى سبع لغات. ومن الجدير بالذكر أن إيمان اليوسف أول إماراتية إختارتها جامعة آيوا في الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الزمالة في الكتابة الإبداعية.

الحوار:

يقال أن "الكتابة نوع من الترجمة والنص الذي يجب ترجمته هو أنت" ويقال أيضا أن " الكتابة ليست الا حلما موجها"

1- ماذا تعني لك الكتابة؟

- مررت مع الكتابة بأكثر من مرحلة مختلفة. جاءت في البداية كنوع من أنواع البحث عن الذات. إذ حين بدأت القراءة في عمر مبكرة جدًا كنتُ من خلالها أبحث عن إجابات للكثير من الأسئلة التي لم يكن بإمكان الأسرة أو المنظومة التعليمية الرد عليها. كنت طفلة شديدة الفضول، أتساءل عن كل شيء طوال الوقت. ومن حسن حظي اكتشفت المكتبة العامة التي يفصلها عن بيتنا شارعان فقط.

لم آتِ من أسرة توفر مكتبة في بيتها ولا شغوفة بالقراءة، لذا قضيت الكثير من الوقت في المكتبة أقرأ كل ما يطيب لي. في فترة مبكرة أيضًا وجدتني أبحث عن ملاذ. أحببت أن أصنع عالمًا أغرق فيه كما العوالم المختلفة التي كانت تسحبني كحفرة أليس في بلاد العجائب من الروايات التي قرأتها في المكتبة. أردتُ أن أصنع عالمًا من اختياري. أصب فيه جنوني كله. اكتشفت لاحقًا مع تتابع إصداراتي الأدبية، أن الكتابة بالقدر الذي كانت فيه الملاذ والمأوى والمهرب، كانت الرحلة إلى الذات. وجدتني أكثر وعرفتني عن قرب مع كل سطر خطه قلمي.

الكتابة بالنسبة لي أساسية، كما المأكل والمشرب. طوال مسيرتي المهنية قدمت الكثير من التضحيات، لأتمكن من الاستمرار بالكتابة. وحين كُنت أُخير بين الكتابة وأي شيء آخر على مختلف مراحل عمري، كانت الكتابة تفوز دائمًا.

هي ببساطة غايتي وهدفي ورسالتي في الحياة.

2- من هو/ هي مصدر الالهام لإيمان اليوسف؟

- تُلهمني التفاصيل التي يغفل عن رؤيتها الناس. في روايتي الأولى "النافذة التي أبصرت" ألهمني لكتابة مدخل الرواية رجلٌ يحمل باقة من الزهور البرية. كان يعبر الشارع. تساءلت يومها، هل هذه الباقة بداية العلاقة أم نهايتها؟ أعني، هل هي لمصارحة امرأة بحبه، هدية لزوجته؟ أم أنها اعتذارٌ لها ورحيل؟ وأدركت أن في التفاصيل الكثير مما لا يُقال. في التفاصيل، كل الحكاية. في الوقت ذاته، أُصاب بالإلهام حين يستفزني أمرٌ ما كما حدث معي قبل كتابة روايتي الثانية والحائزة على المركز الأول لجائزة الإمارات للرواية "حارس الشمس"، إذ كنت حينها أتابع الأخبار، واستفزني بل وأغضبني بشدة ما يحدث في الموصل على يد الجماعات الإرهابية خاصة حين أقدموا على تفجير جامع النبي يونس عليه السلام. ضياع الأثر الذي يشكل ثروة للإنسانية جمعاء، القصة التي تقف شاهدًا تاريخياً، الظلم الذي يتجرعه العراق كله أحزنني جدًا حتى لم أتمكن من النوم جيدًا لمدة أسابيع بعدها.

بحثتُ في أمر الكنوز التي توجد مدفونة تحت جامع النبي يونس كما توضح بعض رحلات التنقيب البريطانية في العراق قديمًا. كنوز تعود إلى سرجون الأكديوسنحاريب. ثيران مجنحة ضخمة بعيون من ياقوت وزمرد. حدائق بابل المعلقة المدفونة تحت هذه الأرض المباركة. كله دفعني للكتابة. أردت للعالم أن يعرف الحقيقة. وبالفعل فازت الرواية بالجائزة وتمت ترجمتها إلى ما يقارب السبع لغات عالمية.

إذًا، فإن ما يُلهمني ليس بالأشخاص تحديدًا بقدر ما تُلهمني التفاصيل والقضايا الإنسانية والوجع البشري بالدرجة الأولى.

3- هل حققت المرأة الاماراتية كل أو بعض من طموحاتها فيما يخص دورها الاجتماعي؟

- المرأة الإماراتية امرأة قوية بطبيعة تكوينها وبما جادت عليه بيئتها وتاريخها. كانت تتولى مهام التجارة والأسرة كاملة حين غياب الرجل في رحلات الصيد والغوص من أجل اللؤلؤ قديمًا والتي كانت تمتد شهورًا طوال. اليوم، وبفضل هذه القوة بالإضافة إلى دور الحكومة الرشيدة والداعمة للمرأة بكل قضاياها وشؤونها، تطورت حقوق المرأة ووضعها سواء الاجتماعي أو المهني من التمكين إلى تمكين المجتمع من خلالها.

أصغر وزيرة في العالم هي من وزيرة الشباب الإماراتية، الوزيرة شما المزروعي. وزارة السعادة تقودها وزيرة هي معالي عهود الرومي. بالإضافة إلى تولي وزيرة العلوم المتقدمة معالي سارة الأميري مهمة مسبار الأمل الذي تم إطلاقه إلى كوكب المريخ منذ عدة شهور ويُعد الوصول الأول للعرب جميعًا إلى الفضاء. إن الإمارات تثق بالمرأة، توليها الحكومة والقيادة الحكيمة مهام عظيمة. تعمل المرأة بشكلٍ مساوٍ للرجل في شتى الميادين مع الحفاظ على حقوقها من إجازة للوضع وتسهيلاتٍ في حضانة الطفل وتسهيلات حديثة فرضتها مهامهن برعاية وتدريس أطفالهن بعد تحول التدريس من الحضور الشخصي في المدارس إلى الدراسة عن بُعد تحت الظروف الصحية الاستثنائية التي يشهدها العالم.

في المشهد الأدبي والثقافي، تتصدر المشهد المرأة من خلال غزارة الإصدار والنتاج وصولًا إلى الجوائز وحتى ريادة حركة النشر والترجمة.

4- أغلب وسائل الاعلام تسلط الضوء على البناء العمراني في دولة الامارات. جئت الى هنا لأسلط الضوء على دور الدولة في بناء شخصية المرأة الاماراتية.كيف ساهمت الدولة في هذا الامر؟

- تم الرد على هذا السؤال ضمن إجابتي على السؤال قبله (سؤال 3)

5- عندما أطلعت على سيرتك الذاتية، كما نقول باللهجة العراقية " عين الحاسود بيها عود" لاحظت انك قطعتي اشواطا طويلة في البحث والدراسة عن دور الكتابة وعلاقته بالمرأة والطفل. ما أهمية هذه العلاقة؟

- ربما لم يأتِ الاهتمام أو التركيز على علاقة المرأة والكتابة بشكل مباشر في البدء، لكنه فرض نفسه. بمعنى، حين بدأت الكتابة (ولا زلت) كان أكثر ما يشغلني هو الانسان. القضايا التي تهز الإنسان، التي تؤثر فيه ويتأثر بها والتي تبنيه ويبنيها. العالم قائم في تاريخه وجغرافيته على وحدة أو قطعة الموزاييك الأعظم فيه وهو الإنسان. حين أكتب فأنا آتي بالأحداث السياسية (كما في رواية حارس الشمس)، التاريخية (كما في رواية النافذة التي أبصرت) أو النفسية والسايكولوجية والميثولوجية (كما في قيامة الآخرين) أو حتى السوريالية والفانتازية كما في مجموعتيّ القصصيتين _طائر غي حوض الأسماك وبيض عيون) ثم أسلط الضوء على الحلقة الفاصلة والنقطة الأهم في هذا كله، الإنسان. ولأن بذرة الإنسانية الأكثر خطورة وحساسية والتي تحمل في جوفها الطاقة الأكبر هي الطفل، ولأن المرأة عانت وتعاني بصورة أكبر في كل المتغيرات من حولنا وغالبًا هي العنصر الذي لا يملك أن يقرر كما يحدث للرجل، فإن علاقة المرأة والطفل بالإنسانية وبالتالي الكتابة والأدب أقوى.

لكل من يكتب لإيصال صوت الضعيف أو لمن يود نقل القضايا الإنسانية الأعمق سيجد نفسه في مواجهة صريحة مع قضايا المرأة والطفل بالصورة الأكبر وهذا ما حدث معي.

أيضًا، فقد درست الكتابة كعلاج وجزء كبير منها قائم على نشأة الإنسان وبدايته في مراحل الطفولة المتقدمة بالإضافة إلى دول المربي الذي غالبًا يكون الأم أي المرأة وهنا نفتح بوابة قضايا المرأة والطفل من جديد.

2562 2ايمان اليوسف

6- من خلال دراستك في أميركا، هل تأثرت بالثقافة الغربية وكيف؟

- كلنا متأثرون بالثقافات الغربية بدرجة كبيرة. كلنا كقراء وكتاب نقرأ وقرأنا كلاسيكيات الأدب والكثير من الأدب المترجم هذا بالإضافة إلى تأثر الفرد في الوقت الراهن بالثقافات وخاصة الغربية لانفتاح العالم وقربه الشديد. كل ما يحدث حولنا إنما يقربنا أكثر من بعضنا البعض، أكبر مثال على ذلك الظروف الاستثنائية التي عشناها منذ عام 2020 والتي سهلت تقارب العقول وقصرت سبل الحوارات والنقاشات وتبادل الأفكار من خلال عدم الاحتياج للسفر لحضور ندوة ما أو لدخول متحف أو معرض بعد أن قدمت الكثير من الصروح الثقافية والفنية والأدبية فرصة التجوال الافتراضي داخلها متاحة للجميع.

لكن، من خلال تجربتي في البرنامج الدولي للكتاب والذي تقيمه جامعة آيوا في الولايات المتحدة الأمريكية والذي يعد أعرق وأقوى برنامج كتابة إبداعية في العالم حيث تأسس وبدأ نشاطه منذ عام 1967 وأُعد أول كاتبة إماراتية وخليجية يتم اختيارها في هذا البرنامج عام 2018، من خلاله تمكنت من الاطلاع على أعمال ونتاج وفكر ثلاثين كاتبة وكاتب من مختلف دول العالم. تعد هذه التجربة ثرية بشتى المقاييس. تعرفت من خلال تدريسي للغة العربية في جامعة وسترن كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية بموجب منحة الفلبرايت العريقة للعام الدراسي 2020 – 2021 أيضًا على الكثير حول الثقافة الأمريكية والأدب الأمريكية، الأمر الذي يعد استفادة عظيمة لي كأديبة وكمتخصصة وباحثة في مجال الدبلوماسية الثقافية. أيضًا، فإن التأثر يخالطه التأثير، أي أنني أثرت في طلابي وفي الكتاب والأدباء والأكاديميين ونقلت لهم تجربتي وثقافة وطني وهويتي، وهذه هي القوة الناعمة في أبهى صورها.

7- ما هو رأيك بالروائيات العربيات واسهاماتهن؟

- لست بموضع النقد والتقييم ولا أملك حق ذلك. لكن، كأديبة وقارئة أعبر عن ذائقتي الشخصية ورأيي الشخصي ببساطة، فمن الصعب حصر تجارب الكاتبات العربيات جميعهن. المرأة حين تكون كاتبة فهي انعكاس لقضيتها وقضية بيئتها وهويتها، والوطن العربي يتسع ليشمل العراق من شرقه إلى دول الخليج العربي والشام ومصر والسودان ودول المغرب العربي. يمكنني الحديث عن الكاتبة الإماراتية، التي أثبتت بجهودها وقلمها ما أثبتته سابقًا بدورها في غياب الرجل من تحمل للمسؤولية المجتمعية والاقتصادية وتكيف مع بيئة صعبة وشاقة كبيئة الإمارات. هناك عدد من الأقلام القوية الإماراتية التي ترجمت أعمالهن لمختلف لغات العالم وتستحق إصداراتهن الاطلاع والقراءة منهن نادية النجار والتي غطت الكثير من القضايا الإنسانية في رواياتها كما تحدثت عن قضية غرق السفينة دارا في ستينات القرن الماضي في روايتها ثلاثة الدال وتعد من أروع من كتب للطفل. أيضًا الكاتبة ريم الكمالي والتي كتبت في مجال الرواية التاريخية وأبدعت مثل رواياتها: سلطنة هرمز وتمثال دلما وصدر لها مؤخرًا يوميات روز. بدرية الشامسي من أروع الكاتبات خاصة في خط الكتابة للطفل وفي أدب اليافعين الكاتبة أميرة بوكدرة. هناك أيضًا، الكاتبة عفراء البنا والتي نشرت مجموعة قصصية فيها سلطت الضوء على الكثير من القضايا الإنسانية المسكوت عنها في مجموعتها القصصية "سرير أبيض" كما وتملك دار نشر ومكتبة باسم "غاف". هناك من القاصات الجيدات الكاتبة مريم الساعدي وباسمة يونس ومن الروائيات المتمكنات من قلمهن الكاتبة لولوة المنصوري وزهراء موسى وصالحة عبيد وميسون صقر ووداد خليفة لرائعتها زمن السيداف ومن الكاتبات من جيل الرواد مريم جمعة فرج رحمها الله وشيخة الناخي وغيرهن كثيرات، ومن الرائدات والمتفردات في أدب الخيال العلمي نورة النومان. القائمة تطول وهناك الكثير من الكاتبات الإماراتيات اللاتي تركن بصمات متفردة في خارطة الأدب العربي والعالمي.

8- كيف واجهت إيمان اليوسف التحديات الاجتماعية والاعراف لتصبح كاتبة لها صدى واسع؟

- كنت موفقة ومحظوظة بأسرة داعمة ومتفهمة وبدولة ذات قيادة تدعم الكاتبة والمرأة في شتى الميادين وتذلل له العقبات والصعوبات، ولولا دعم قيادتنا الرشيدة وثم وأسرتي المتمثلة بشكلٍ أكبر بوالدتي لما كنت الكاتبة التي أنا عليها اليوم. لكن، لا يخلو الأمر من التحديات والصعوبات التي يجدها كل من يختار أن يمتهن الكتابة. الكتابة والأدب للأسف لا تُعد وظيفة، لذلك فإن إيجاد الوقت والتفرغ للعمل الأدبي باهظ ومكلف وصعب، هذا بالإضافة إلى عدم وجود فكرة الوكيل الأدبي في عالمنا العربي، وبالتالي على الكاتب الخوض وحيدًا في هذه المياه الصعبة للمشهد الأدبي والثقافي بالإضافة إلى حمل مسؤولية عمله ونتاجه الأدبي منفردّا، بمعنى آخر أنا حين أكتب مسؤولة عن تسويق عملي الأدبي والمتابعة بحفلات التوقيع والندوات والأمسيات والتي غالبًا لا توفي الكاتب والأديب حقه وقد تحدثت عن هذا بشكل مباشر ومستفيض في سلسلة فيديوات أقدمها عبر قناتي على اليوتيوب.

أملك في شخصيتي الكثير من الإصرار والمواظبة على العمل الدؤوب والبحث والكفاح. ولو لا هذه الصفات، لما تمكنت من النجاح ولله الحمد. مهنة الكتابة شاقة ومجال الأدب صعب والتحديات فيه متواصلة.

9- يقول الراحل نزار قباني: أريد أن اسأل " لماذا في بلادنا تقف النساء ضد حرية النساء؟" . هل تؤمن إيمان اليوسف بمناصفة الادوار الاجتماعية والسياسية مع الرجل؟

- أؤمن بعدالة الأدوار للجنسين وهي فلسفة أعمق وأصدق من المساواة. للمرأة حقوق وواجبات ودور لا يمكن لغيرها أن يلعبه ويقوم به، كما أن لها حرية الاختيار وتقرير ما تريده. لا يمكن لأي مجتمع أن يقوم إلا بتكامل دوريّ الجنسين معًا. هما يكملان بعضهما البعض في أدوارهما الاجتماعية كذلك، إذ لكل منهما تكوينه ومساحته وتناغمه والدور الذي لا يمكن للآخر أن يلعبه بالطرق أو الكيفية ذاتها.

10- دولة الامارات العربية المتحدة منفتحة على العالم وتمتاز بتنوع الثقافات أي ان هناك تلاقي بين الثقافات الغربية والافريقية والاسيوية والعربية، كيف ترى إيمان اليوسف تأثير هذا التنوع على شخصية المرأة العربية بصورة عامة؟

- دولة الإمارات تتصدر وفقًا للمؤشرات العالمية المراتب الأولى في القوة الناعمة والسعادة. من استراتيجيات ودعائم القوة الناعمة التي تقوم عليها هي التسامح وقد خصصت عامًا لذلك ومبادرات منها البيت الإبراهيمي. تعيش وتتعايش في دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من 220 جنسية مختلفة بانسجام وتسامح وهذه معادلة صعبة التحقيق في كثير من دول العالم.

هذا يشكل ثراءً للكاتب والأديب والمبدع خاصة في ظل الاهتمام المتزايد للدولة في هذا المجال بعد العمل على الإقامة الذهبية والاقتصاد الإبداعي. أثناء نشأتي ومن خلال مسيرتي التعليمية والأكاديميةوثم المجال الوظيفي والأدبي والثقافي، كنتُ محظوظة بالاختلاط والاحتكاك بالعديد من الجنسيات المختلفة والثقافات من مختلف دول العالم مما لعب دورًا فاعلًا وهامًا سواء في مقدرة قلمي على رؤية "الآخر" وفهم "المختلف" والقدرة على رؤية القضايا الإنسانية على تعددها واختلافها وتنوعها. كما وقد أسهم في مقدرتي على البحث في مجال الدبلوماسية الثقافية الذي أتخصص فيه.

11-  تقول الراحلة فيرجينيا وولف" لكي يكتبن،النساء بحاجة الى دخل مادي خاص بهن وغرفة مستقلة ينعزلن بها للكتابة". إيمان اليوسف مختصة في الكتابة الابداعية " Creative Writing"، وهنالك الكثير من النساء اللاتي يحملن فلسفة خاصة ورغبة في كتابة الرواية. برأيك ماذا تحتاج المرأة لتكتب؟

- هذه المقولة الخاصة بالكاتبة فيرجينيا وولف والمقتبسة عن مقالة لها، هي من أقرب الاقتباسات الأدبية إلى قلبي وأصدقها إلى اليوم. للأسف، لا تزال الكتابة وهي من أنبل وأهم ما قد يُمارس، لا تزال لا تُعد وظيفة بمعنى أنها لا تُوفر الاستقرار المادي لصاحبها وهذا ينطبق على الجنسين ممن يرغب في امتهان الكتابة.

الكاتب الجيد بحاجة للكثير من الوقت والتفرغ والانقطاع ليتمكن من البحث والكتابة وإعادة الكتابة والتدقيق، كما ويحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد بعد صدور مُنتجه الأدبي للعمل عليه ومناقشته وتسويقه وذلك لغياب الوكيل الأدبي وضبابية دور الناشر في أغلب الحالات. في الوقت ذاته فإن الكتابة والكاتب والفن من الدعائم الهامة والمحورية التي يقوم عليها المجتمع والدولة. أدركت هذه الحقيقة الدول العظمى اليوم، لذلك تخصص ميزانية ومبادرات وجهود خاصة للعمل على زيادة الناتج المحلي العام الخاص بقطاع الأدب والفن. بالإضافة إلى أن الآداب والفنون توثق وتسوق وتخلد ثقافة وهوية الشعوب وتلعب دورًا حساسًا جدًا وهامًا في الكثير من القضايا العالمية وفقًا لتخصصي في مجال التسويق الأممي والدبلوماسية الثقافية. بعد هذا كله، فإن الكاتب وإلى اليوم بحاجة إلى الاستقرار المادي ولا أعني الوظيفي، ليتمكن من الإنتاج بفاعلية وجودة وبحاجة إلى مساحته الشخصية المخصصة له وهو ما تعنيه فيرجينيا وولف بقولها "غرفة" خاصة. بالطبع، فإن الوضع في حالة المرأة أكثر صعوبة وتحديًا لكي يتحقق، فنحن نعرف الكثير من الشعراء والكتاب ممن وقفت زوجاتهم معهم لدعمهم وتوفير المساحة الخاصة والوقت الخاص للكتابة، لكن لا نسمع عن المثل في حالة المرأة.

على النساء المبدعات من فنانات وأديبات حمل مسؤولية بيوتهن وأبنائهن وأزواجهن، مسؤولية اجتماعية شاقة دون دعم مما يصعب عليهن مهمة التفرغ للإنتاج الأدبي. قليل منهن من يحصلن على دعم معنوي واجتماعي ومادي مع الأسف.

أذكر كاتبة بدأت مدخل مسرحيتها التي فازت بالمركز الأول لجائزة مجلة دبي الثقافية خلال سنوات صدورها بـالشكر لزوجها وولديها "على كل ما فعلوه بها، كلما أمسكت بالقلم لتكتب" وهي عبارة ساخرة ومؤلمة في الوقت ذاته.

12- هل من الممكن ان تخبرينا عن طقوسك في الكتابة؟

- أنا كاتبة ليلية. حاولت الكتابة في فترات مختلفة من اليوم، لاكتشف أنه لا شيء يضاهي عندي سكون الليل والاحساس اللذيذ الذي يعطينيه بملكية الذات والوقت. فكرة أني استيقظ وحدي مع النجوم والسماء والظُلمة والناس نيام.

أيضًا، فأنا أخاف أثناء الكتابة، خاصة في المراحل الأولى من كل عمل أدبي، لذلك من طقوسي تشغيل التلفاز وكتم صوته، إذ أكتفي بالصور التي تُشعرني بالاطمئنان. 

13-  تقول أحلام مستغانمي: " ما نريده من الرجال لا يباع ولا يمكن للصين تقليده وإغراق الاسواق العربية ببضاعة رجالية تفي بحاجة النساء العربيات". من خلال تأثير الحركات النسوية،هل بدأ الرجل العربي يدعم المرأة في تحقيق اهدافها؟

- هناك تزايد في وعي الرجل والمرأة بأهمية المشاركة في نجاحات بعضهما البعض وفي الدور الهام الذي يلعبه كليهما في تكامل الآخر وتكامل العلاقة وفي مسيرتهما معًا مما يعود بالنفع على الطرفين وعلى الأسرة ككيان. لذلك، فاليوم نجد نسبة الرجال الداعمين لزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم في ازدياد. مع ذلك، وحتى نكون منصفين وواقعيين، هذا الوعي المتزايد والنماذج الإيجابية لا تزال قليلة ولا تزال أغلبية النساء تعاني من ضعف دعم الرجل لها، خاصة في مجالات الإبداع من كتابة وفنون وسينما.

14- لو لم تكن ايمان اليوسف روائية، ماذا ستكون؟

- شاعرة. بدأت مجال الأدب بكتابة القصائد بالفعل، ثم انتقلت إلى كتابة القصص القصيرة والرواية وهي التي حظيت بالنشر بينما بقي الشعر مساحة حميمة وخاصة بيني وبين نفسي. أجد نفسي بين الحبر والأوراق والكلمات. تفتنني وتُلهمني اللغات والشعر والحكايات ولا يمكن أن أتخيل نفسي في مجالٍ آخر أبدًا.

15- هل انت مشغولة الان بكتابة شيء ما؟

- أنا في مرحلة البحث حاليًا والتي تسبق الكتابة. أبحث في حقبة زمنية محددة بصدد الكتابة عنها وهي فترة وجغرافيا قليل جدًا من تناولها أدبيًا. أيضًا، أعمل وبشكلٍ حصري على ملف الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة في صحيفة البيان وأحضر لكتاب متخصص في هذا المجال بالإضافة إلى مجال التسويق الثقافي.

16- في الختام،ما هي الرسالة التي توجهها إيمان اليوسف للمرأة العربية؟

- أنتِ الحكاءة الأولى، منذ شهرزاد، وأنتِ المُلهِمة والقوية. لا تنتظري دعمًا أو تشجيعًا من أحد. كوني كل شيء لكِ وآمني بنفسكِ وستنجحين. أنتِ قادرة على تحقيق كل ما تتمنين، أثق بذلك. لا تفقدي الإيمان بقوتكِ أبدًا مهما حصل، ولا تسمحي لأحد مهما كان بتقييمكِ أو بالحط من عزيمتكِ أو بالتقليل من أحلامكِ. أيضًا، لا تخشي المجازفة. لو لا تضحيتي وشجاعتي في التخلي واقتحام الصعب والإصرار على ما أريد، لما وصلتُ إلى ما وصلتُ له اليوم من تفوق ونجاح – بالطبع بعد توفيق الله ورعايته- - ، له الحمد والفضل.

أنتِ تستطيعين.

 

إعداد المُحاور- : د. علي محمد حسن

 

2452 شمس 1لا يكاد يمر حدث جلل ما في فلسطين الحبيبة من البحر الى النهر والتي تعاني الامرين تحت حراب المحتل الصهيوني الغاشم، الا ووجدته سباقا على المستوى العربي والعالمي ليترجم جانبا من تلكم الاحداث بريشته محولا إياها الى لوحات تشكيلية لافتة للانظار تحظى بالاعجاب والمتابعة محليا ودوليا، ففلسطين الابية الصامدة، والاقصى المبارك، اولى القبلتين وثالث الحرمين، هاجسه الدائم وقلبه النابض على الدوام طوال سني حياته، ولسان حاله يردد مع كل حدث يتفاعل بمعيته ويتماهى معه لاسيما الأحداث الأخيرة المتمثلة بجرائم تهجير الفلسطينيين الابرياء العزل من منازلهم بمنطقة الشيخ جراح بالقوة تمهيدا لإهدائها الى قطعان المستوطنين الصهاينة، علاوة على اقتحام الاقصى المبارك، ومحاولة تهويد القدس،وقصف غزة بالمدافع والطائرات والاسلحة المحرمة دوليا بما فيها العنقودي والنابالم والفسفور الابيض، وحيث الجرائم الصهيونية البشعة ماضية على قدم وساق تنتهك عن سبق اصرار وترصد كل المواثيق الدولية والقيم الدينية والاعراف الانسانية، تهتك الاعراض وتنتهك الحرمات في زمن الخنوع والتطبيع وصفقة القرن او بالأحرى " بصقة القرن " وحيث ما يسمى بـ" الديانة الوهمية"التي يراد تعميمها بإرادة ماسونية خابوا وخسئوا، قائلا " اذا لم نكن هناك سوية في بيت المقدس واكناف بيت المقدس بأجسادنا لنقاسي ما يقاسيه اخوتنا المحاصرون شيبا وشبانا، نساء ورجالا، من ظلم واضطهاد واقصاء وتهميش وتهجير قسري وتغيير ديمغرافي وقتل متواصل بدم بارد على يد شذاذ الافاق من الصهاينة الغاصبين وجلهم من الاشكناز والسفارديم الذين جاءت بهم القوى الاستدمارية الغاشمة من اوربا لتمنحهم ارضا عربية لا تملكها، ليهب بذلك من لايملك لمن لايستحق، فلا اقل من ان نكون معهم بقلوبنا، بألسنتا، بضمائرنا، بأكفنا الضارعة، بأقلامنا، بقصائدنا، بخطبنا، بمقالاتنا، بلوحاتنا " ولعل الريشة واللوحة والالوان هي سلاح الفنان التشيكلي الجزائري شمس الدين بالعربي، الذي فتح صدره لنا في لقاء مفتوح من القلب الى القلب لم يكن الأول ولا اظنه سيكون الاخير، مضيفا:

2452 شمس 2ان " القضية الفلسطينية قضية كل الجزائريين فقد تربينا على حب فلسطين، وعلى الفنان العربي وفي أي مجال من المجالات أن يسهم بكل ما حباه الله تعالى من مواهب، وان يوظف كل طاقاته وامكاناته وان لايدخر وسعا ولا يألوا جهدا لنصر المظلومين ولهذا فقد عقدت العزم وشرعت بإنجاز عدة اعمال وفي مناسبات مختلفة، احدى جدارياتي رسمتها بمناسبة فوز المنتخب الوطني بكأس افريقيا والذي تم أهداؤه الى الشعب الفلسطيني الصابر المحتسب هدية من الشعب الجزائري الشقيق .

وتابع بالعربي "بالنسبة الفنانين الجزائريين خاصة والعرب عامة فكلهم كانوا سندا لقضيتهم الأم فلسطين

  كذلك الحال مع بعض الفنانين الغربيين ممن وجدوا انفسهم أمام هذه القضية العادلة التي تتطلب منهم موقفا حازما ووقفة حاسمة فترى هذا البعض وهو يجتهد لتقديم كل عمل رصين بحكم إنسانيته وضميره، ذاك ان نصرة القضية الفلسطينية بالنسبة لهؤلاء الفنانين الغربيين هي قلادة ووسام شرف على صدورهم ترمز الى إنسانيتهم، واذكر من الفنانين الغربيين الذين نصروا القضية الفلسطينية الممثل الأمريكي نجم هوليوود المسلم عبد السلام عبد الرزاق الذي تعمد لبس الكوفية الفلسطينية في المحافل السينمائية الكبرى وهو صاحب الادوار المميزة في أضخم الأفلام بما مجموعه 59 فيلما ومسلسلا ولعل من ابرزها  دور قائد المشاة في فيلم (مالكوم اكس) وأفلام آخرى، ونذكر أيضا الممثلة إيما تومسون والمغنية سيلينا جوميز، والكاتبة رولينج مؤلفة سلسلة " هاري بوتر"، والكاتبة الأمريكية توني موريسون الحاصلة علي جائزة نوبل والقائمة طويلة جدا .

واردف بالعربي " أما بالنسبة الى الفنانين العرب فجلهم كانوا سندا لقضيتهم الام فلسطين ومن منبع هذه القضية تولدت فلسفات وحركات ومدارس فنية في مضمونها وتصنيفاتها بما يسمى بالفنون السبعة، والفنون المائة كما على وصف الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي، بحسب تصنيفه لمفهوم انواع الفنون، فكم من مسرحية أرخت للقضية الفلسطينية، وكم من أغنية تغنت بها الشعوب لنصرة فلسطين، وكم من فيلم عرَّف العالم بمعاناة الفلسطينيين، وكم من قصيدة شعرية ولدت من رحم معاناة الشعب الفلسطيني، وكم من استعراضات جماعية شكلت العلم الفلسطيني على خشبات العالم، وكم من اناشيد تغنت بها الفرق الكورالية في مسارح الهواء الطلق، وكم من ترانيم تغنت بالسلام لفلسطين الحبيبة، وكم من لوحة فنية شكلت بألوانها الوان العلم الفلسطيني الذي سيظل يرفرف في سماء البشرية ما دامت الحياة قائمة" .

2452 شمس 3وزاد الرسام الجزائري العالمي " ومن هنا دعني اتحدث عن البقع اللونية التي وضعتها لتأدية واجبي نحو فلسطين والتي لا استطيع رؤيتها من بين الألوان التي أفرغت في سبيل هذه القضية المحورية، فانا ومنذ الصغر رسمت لفلسطين بالطباشيرعلى الجدران وبالاقلام الجافة واللوحات الزيتية فجمعت الكثير من اللوحات التي توجزمنظوري لأمي الحنون فلسطين باختلاف مناسباتها بما يمثل يوم القدس العالمي، ويوم الارض، يوم الاسير الفلسطيني، وكل المناسبات الوطنية الفلسطينية، وقد رسمت الكثير من قامات الفكر والاعلام الفلسطيني مثل الدكتور مصطفي نادر القنة، وتعرفت على المخرج نور الشمالي مدير تصوير الفنان محمد عساف " .

ويسترسل قائلا " اما عن أهم أعمالي في هذا المضمار فلاشك هي اللوحة الفنية التي جسدت معاناة الصحفي معاذ عمارنة، وهو مراسل ومصور فلسطيني أُصيب برصاصة صهيونية غادرة في عينه اطلقها عليه احد جنود الاحتلال الصهيوني عام 2019 خلال تصويره للمواجهات بين الشبان الفلسطينيين وجيش الاحتلال جنوبي الضفة الغربية،عنوان اللوحة (أرادوا أن يطفئوا عينه ففتحوا أعين العالم على معاناة الشعب الفلسطيني) وقد نالت هذه اللوحة شهرة واسعة وعندما شاهدها الصحفي معاذ عمارنة  ارسل لي رسالة أنشرها هاهنا لأول مرة جاء فيها (اشكركم على كل الامل الذي تزرعونه في قلوبنا، اشكركم على هذه الروح التي تبعث فينا طموحا بغد افضل، شكرا لكل من يطبب ويرعى ويسير في خدمة كل مصاب وصاحب امل، شكرا لكل من يعمل ليجعل من غدنا اجمل ..في لحظات اصابتي الأولى احسست بأن العالم كله قد انتهى ولكن عندما وقفتم الى جانبي بدأت المعادلة تتغير وبدأت اشعر بأني اولد من جديد.. انا مصاب بمرض اسمه مرض الصحافة، والمصاب بهذا المرض يعيش مع متلازمة الخبر والصورة. وحتى وان دفعت عيني ثمنا له الا انكم الان انتم جميعا بمثابة عيني الثانية التي اكمل بها الصورة" وهذه هي خلاصة الرسالة التي عنونها بـ" من اخوكم الصحفي المصاب معاذ عمارنه إلى الفنان شمس الدين بالعربي " .

يشار الى ان الفنان العربي الذي وصل الى العالمية كان قد افاض في حوار سابق معه عن بداياته قائلا " البداية كانت في مرحلة الطفولة اذ كنت مهتما بالرسم، وفي طريق عودتي الى المنزل يوميا كنت أرمق بعض الصحف وهي ملقاة على جانب الطريق وكانت تجذبني صور نجوم السينما فيها فألتقطها واتأبطها لأرسمها في منزلي المتهالك الذي يضم بين جنباته عائلة مكونة من ستة أفراد أنا أكبرابنائها سنا ولعل عيشي بكنف عائلة فقيرة جدا إضطرني لإمتهان الرسم كحرفة بدأت بتزيين المحال التجارية والديكور أولا، الا انني تعرضت لكثير من المضايقات وواجهت كما هائلا من الغبن نتيجة لذلك وهكذا كانت البداية!

2452 شمس 4وتابع بالقول " بكل تأكيد فالسينما بالنسبة لي كانت حافزا كبيرا لرسم ملصقات ولقطات الأفلام حتى عقدت العزم على بناء ورشة عمل صغيرة الى جانب المنزل وبدأت أبعث برسوماتي الى شركات الانتاج السينمائية الامريكية برغم ان تلكم اللوحات كانت مرسومة بأدوات بسيطة وهكذا لسنين حتى تبسم لي القدر وتواصل المنتج الارجنتيني خوان مانويل اولميدو معي بعد أن شاهد أعمالي وأعجب بها وطلب مني عمل ملصق لفيلمه (الضربة القاضية) من بطولة الممثل العالمي محمد قيسي، الشهير بدور (Tong po) والمعروف ضمن الشخصيات السينمائية في عقد الثمانينات، وهكذا حتى تم تسجيل إسمي في القاموس العالمي للسينما العالمية IMDB

كنت أمر بصالات السينما وأشاهد الافيشات وأتمعن بالصورالضخمة لنجوم السينما وبخاصة افلام الاستاذ محمد قيسي وجان كلود فان دام واهمها فيلم قلب الاسد وفيلم bloodsport وkickboxier

بدأت الاتصال من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مع الممثلين فنالت إعجاب المخرجين والمنتجين وبدأوا بالتواصل معي وأخذت حياتي المهنية في الفن وصناعة الملصقات بالطريقة التقليدية أي عن طريق الرسم وفن رسم الملصقات تتواصل، مع ان الافيش هو فن كلاسيكي قديم انتهي زمنه لأن التكنولوجيا المتطورة الرقمية وهي رائدة هذا العصر قد ازاحته جانبا، ولكن وبحمد الله نجحت في إعادة هذا الفن الى الساحة الفنية أما بالنسبة الى الاضافات التي اسهمت فيها لإثراء هذا الفن فكانت عبر الرسم الزيتي والتركيز على المبالغة الفنية في الظل والنور والكتابة بخط عصري جميل واستعمال الالوان الجذابة الممزوجة بطريقة الذوبان اللوني لإبرازها قريبا من الصورة الواقعية، لقد أعدت تركيب الملصق المرسوم وأخرجته من دائرة اللوحة التشكيلية الى رسم مركب بأبعاد مختلفة لتقريب فكرة الفيلم للمتلقي والتعريف بمضمون الفيلم وفي بعض الأحيان استعمل الصورة الحقيقية واضيف لها تزيينات فنية بالريشة بما تعجز الآلة الرقمية عن اضافتها، اتمني أن أفتح مدرسة عالمية للشباب العربي لإبراز مواهبهم وانا مستعد لإعطاء كل ما عندي من خبرة وتجربة وقد وجدت اذانا صاغية لتبني هذا المشروع وانا على ثقة بأني اذا ما وفقت لفتح هذه المدرسة فسوف ننتشل الكثير من المواهب الشابة الحالمة من الركود والبطالة .

 

حاوره / احمد الحاج

 

 

2428 شعبان وعبد المجيدرشعبان في خصوصياته.. بعيداً عن الإنشغالات الفكرية قريباً من واقع الحال – أحمد عبد المجيد

- روحي في بيروت وان سكنت النجف في قلبي

- الحب يأتيني كشلال ضوء ويكون له سلطان على القلب

مضى على آخر لقاء مباشر لي مع الدكتور عبد الحسين شعبان، اكثر من 18 شهراً . رأيته في بيروت التي كانت تشع بأنوارها وتغرق بلون البحر، الذي تحتضن امواجه كثيراً من الذكريات وتخفي اسرار ما كان يدور في حجرات فندق (سان جورج)، وحديثاً في شرفات فندق فور سيزونز، وفي احدى جولاتي مع الدكتور شعبان اطربني صوت فيروز المنبعث من مذياع سيارته، فتذكرت ان المفكرين وكبار الباحثين بشر ايضاً، تأخذهم العواطف الى تخوم الشباب وايام (الشقاوة)، ولم يكونوا بالجدية التي هم عليها اليوم، وبالانشغالات التي تصرفهم عن العناية –  احياناً –  بألوان اللوحة الماضوية التي هرب بريقها، فتحول الى حلم باهت لا ملامح له ولا اثر .

* ما يجمع اساتذتي في الإعدادية طيبة القلب وحب التلاميذ

* شغفي بالمرأة ينبع من رائحتها وابتسامتها وغنجها

* استمع الى فيروز ووردة وام كلثوم وأستمتع بالموسيقى الكلاسيكية

* إحتفظت بعلاقة ودية بالبياتي يوم تعرفت اليه في القاهرة مطلع 1969

* انا تعددي بإستثناء فلسطين والفقراء

* الأسفار ثلاثة والأخيرة سفر  التيه والحيرة

* حب الناس سعادتي والعمل وأسداء الخير مصدرها الأساسي

* هاجسي لا يتجسد بشخص بل بظاهرة الغدر

* السيرة الذاتية شديدة القسوة لكنها ليست هتكاً للاسرار.

2428 حوار شعبان 1

وقلت، في نفسي، ان هذا الرجل، وانا صامت جالس الى جواره في المقعد الامامي في السيارة، يعيش على اطياف من الذكريات، لكن لا احد نبش فيها ولا حاول اخراجها من القمقم يقول الاديب اللبناني جبران خليل جبران (أحترس من ذكرياتك، فالوجع يزورك مرة واحدة ولكنك لا تتوقف عن زيارته). وغالبا ما يعمد الذين يجرون حوارات صحفية معه، يستنطقونه بقصد استدراج فكره ورؤاه السياسية والفلسفية، متناسين ان قلبه مازال ينبض، وهو مفعم بالالم وسهر الليالي والحرمان، وان ملائكة الحب تحوم حوله، ولاسيما في خلوته او تحت تأثير كأس من النبيذ احتساه في ركن من اركان شارع الجميزة البيروتي، الضاج بالحركة والعنفوان والمزدحم بالسكارى والصبايا . وعملياً فان شعبان دأب على اختيار زاوية عند مطعم شعبي اسمه (مشاويش مار مخايل) يضع مناضده على قارعة الطريق، ويحرص شعبان على دعوة المقربين منه الى هذا المكان، لنفض متاعب القدوم من بغداد او الشام الى المدينة التي اتخذها محطته الاخيرة بعد ان جاب مدناً وعاشر عواصم .

* * *

بعض الاشخاص تتمنى لو انك لم تصادفهم في حياتك، وبعضهم تتعرف عليه وتمضي معه رهطاً من حياتك، ويمض وتمضي دون ان يترك في مشاعرك اثراً او في روحك بصمة . اما افضلهم على الاطلاق فهم الذين تهبط صداقتهم عليك من السماء، فترتبط بعلاقة وطيدة بهم فيتركوا في روحك عطراً وفي نفسك شذى الوفاء والقصص الحميمة . وعبد الحسين شعبان من هذا الطراز . وذات مرة قلت له، وانا على تواصل شبه يومي معه عبر الهاتف، (دكتور .. اعاتب نفسي احياناً بالسؤال، لماذا لم اتعرف اليك قبل عقود من الزمان ؟) . ويضحك معبراً عن سمات شخص نادر الوفاء يمزج المرح بصدق الكلام .

ويوم كنا نتجه الى (الجميزة)، الشارع الذي يروق له وسط بيروت، راودني فضولي الصحفي فرفعت عن علاقتنا بعض (الكلفة) واقترحت عليه اجراء حوار غير تقليدي، ليس كعشرات وربما مئات الحوارات التي اجريت معه واتسمت بجدية مفرطة تنظر فيها الاسئلة الى الحياة وكأنها فواجع بشرية وعنف مفرط وثأر تاريخي حسب، او كأنها تقتصر على رؤى ما ورائية، لا حيوية فيها ولا صفاء انساني أو كما يظنون انها حكاية تراجيدية تكشف وجودنا البشري الضعيف . رأيت ان يكون حواري مع عبد الحسين شعبان، الانسان والمفكر، صائد المفردات والمصطلحات والعابر من الكفاح بانواعه، الى المرح واللا شقاء بانماطه والسخرية من الاقدار، حلوها ومرها . وهكذا ولد جزء من هذا الحوار، بينما كان شعبان يمارس رياضة المشي، قرب انتصاف الليل، على رصيف كورنيش بيروت، تاركاً لساعة الكترونية يرتديها، قياس خطوات المسافة التي يقطعها ذهاباً واياباً كل يوم، اما الجزء الاخر فقد ولد في حضن الحجر الصحي من الجائحة، بعد اشهر من بقاء الاسئلة في الادراج، وسفر شعبان الى لندن، لتلقي الجرعة الثانية من اللقاح ضد كورونا:

2428 حوار شعبان 3

* ما الذي تركته من عقلك الباطن في النجف؟

–  الروح تسكن هناك، حتى وإن سكنت النجف في قلبي. وعلى غرار الموسيقار البولوني شوبان “العقل في باريس والقلب في وارشو”، أقول القلب في النجف والعقل مهاجرٌ. وإذا كانت باريس قد منحت شوبان الشهرة حيث تربّع على عرش البيانو والإبداع الموسيقي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، بعد باخ وموزارت وبيتهوفن، فإن وارشو منحته تلك الروح المتوهّجة، حتى توزّعت بين عشقه وموسيقاه.

* ما شكل الصف الدراسي الذي جلست فيه للمرّة الأولى؟

– مدهش بخشوع وناطق بالبهاء ومفعمٌ بأريج الأمل… إنه اللبُّنة الأولى التي قادتني لعالم المعرفة الشاسع والبلا نهايات.

* ما هو أول كتاب قرأته؟

– اعترافات أرسين لوبين “اللصّ الظريف”، ولاحقاً عرفت أن المؤلف هو الكاتب الفرنسي موريس لوبلان.

* ما هي أول قصيدة حفظتها؟

– ربما للشاعر معروف الرصافي التي يقول فيها:

أنا بالحكومةِ والسياسة أعرف/ أَأُلام في تفنيدها وأعنّف

عَلَمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ/ كل عن المعنى الصحيح محرّفُ

* ما هو أول وجه رأيته وما زال عالقاً في عقلك ووجدانك؟

– وجه الوالدة المنير نجاة حمود شعبان ووجه الوالد المشرق عزيز جابر شعبان، وحين أستعيد المشهد، فكأنهما انفلقا عن تكوينٍ واحد، وأصبحا جسمين ولكن بروح واحدة.

* صف لي معلماً تأثّرت به؟

– سأصف لك ثلاثةً لأنهم يكمّلون بعضهم البعض:

الأول – عبد الرزاق الساعدي، وهو أوّل مَن علّمني فك رموز الحرف (الصف الأول الابتدائي).

والثاني – رؤوف الشيخ راضي، الذي حبّبني باللغة العربية وبدرس الإملاء (الصف الثالث الابتدائي) وكلاهما في مدرسة السلام.

والثالث – الشيخ يحي الجواهري وهو أحد المتمكنين من اللغة العربية وفقهها، وقد درست على يديه في الاعدادية: النحو والصرف والاعراب وكتابة الشعر (الصف الرابع الثانوي).

وكان الأول سمحاً جداً، والثاني حازماً جداً، والثالث عصبياً جداً، وما يجمعهم طيبة القلب وحبّ تلاميذهم وتفانيهم من أجل تعليمهم.

2428 حوار شعبان 2

* أي الطيور أحببتها في صباك ولماذا؟

– الحمام والبلابل والعصافير وما زلت أحبّها لأنها أليفة وتغريداتها جميلة.

* ما الذي يُذكّرك بامرأةٍ شغفت بها؟

–  رائحتها وابتسامتها وغنجُها.

* هل تستمع إلى أغنيات الريف، ومَن هو مطربك الريفي الأول؟

– أحياناً… أحب الاستماع إلى مطرب الريف الأول داخل حسن، ثم إلى المطرب الشعبي للأغنية الحديثة الياس خضر.

* ما أنواع الموسيقى التي تستمع إليها؟

– الموسيقى الكلاسيكية وبشكل خاص سمفونيات بيتهوفن وموزارت وباخ وتشايكوفسكي ودفورجاك… وبالأخص أحب الاستماع دائماً إلى السمفونية التاسعة لبيتهوفن، والسمفونية الخامسة لتشايكوفسكي، والسمفونية الرابعة  لدفورجاك.

* وأي المطربين تستمع إليهم عادةً؟

–  فيروز بالدرجة الأولى، وأحب الاستماع إلى عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وأم كلثوم ووردة الجزائرية.

* لماذا تميل إلى الشاعر الجواهري من دون سواه؟

–  أميلُ إلى الأدب بشكلٍ عام والشعرُ بشكلٍ خاص، وميلي إلى الجواهري الكبير لأنه أحد أبرز أركان الشعر الكلاسيكي في القرن العشرين، بل آخر عمالقته. وهذا الميل محكوم بالذائقة الشعرية من جهة، وبالعلاقة والصداقة التي ربطتني مع أبو فرات لنحو ثلاث عقود من الزمان من جهة أخرى. وقد سبق لي أن قلتُ وقبل التعرف المباشر على الجواهري أنه عاش في بيتنا (لأن كلُّ ما يخصّه وما كان ينشرُه من قصائد ودواوين وما يكتب عنه موجود في بيتنا، ويتداوله الأعمام والأخوال) كما كان معنا في مدرستنا الخُورنَق حيث كانت قصيدته التي حيّا فيها ثورة 14 تموز/يوليو 1958 مفتتح فصلنا الدراسي الأول، وهو موجود في مدينتنا النجف (واقعاً وليس مَجازاً) حيث نشأ فيها.

وللأسرة الجواهرية مكانة علمية منذ جدّه الأقدم محمد حسن صاحب كتاب “جواهر الكلام في شرائع الإسلام”، الذي اكتسبت منه الأسرة إسمها.

والأكثر من ذلك أننا عشنا في مدينتين حبيبتين لسنوات عديدة هما براغ في السبعينات، ودمشق في الثمانينات، وكنا على تواصلٍ مستمر، مثلما التقينا في لندن في التسعينات.

وقد أصدرتُ عنه كتاباً بعنوان: الجواهري في العيون من أشعاره” في العام 1986) بالتعاون معه)، كما أصدرتُ عنه كتاباً في العام 1997 الموسوم “الجواهري – جدل الشعر والحياة” (طُبع ثلاث طبعات).

* وماذا عن علاقتك بشعراء آخرين؟

–  احتفظت بعلاقة ودّية مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي تعرّفت عليه في القاهرة في مطلع العام 1969 وبلند الحيدري حيث عملنا معاً في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان عضواً في المجلس الاستشاري، وكذلك بعلاقة وثيقة مع الشاعر مظفر النواب والشاعر كاظم السماوي والشاعر رشدي العامل والشاعر والروائي فاضل العزاوي، كما ارتبطت بصداقة مديدة مع الشاعر سعدي يوسف، وهو “شاعر التفاصيل الصغيرة”، وقد غيّرت قصيدته منذ مجموعته الشعرية “الأخضر بن يوسف ومشاغله” 1972 ذائقتنا الشعرية، وآمل أن يتسع الوقت للكتابة عنه وهو المبدع الذي لا تُدرك بوصلته، وهو في نظري أحد أبرز شعراء الشعر الحديث بعد بدر شاكر السيّاب  وجيل الروّاد، ويشكّل مع محمود درويش وأدونيس أهم ثلاث شعراء عرفتهم اللغة العربية، منذ ستينات القرن الماضي، علماً بأنه غزيز الانتاج، شعراً وترجمة ونقداً، إضافة إلى رواية واحدة بعنوان “مثلث الدائرة”، وعشرات الدراسات ومئات المقالات.

كما كانت علاقتي وثيقة بعدد من الشعراء الشعبيين مثل شاكر السماوي وعزيز السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف.

وأود هنا أن أنوّه إلى العلاقة المتميّزة مع عشرات من الأصدقاء من جيلنا والجيل الذي أعقبنا  وهم شعراء مرموقون، وبشكل عام اطلعت على الشعر العراقي بمدارسه المختلفة.

* كيف شربت كأسك الخمري الأول؟

–  مثل الريح الخفيفة المعطرة والمنعشة، وما زال طعم الكأس الأول لذيذَ المذاق وأشتاق إليه.

* هل تحنّ إلى صديق قديم أَثير إلى قلبك؟ من هو؟

– السيد صاحب جليل الحكيم صديق العمر والشيوعي الأول والأنقى متمنياً له الصحة وطول العمر.

* عدّد لي ثلاث صفات تتمنّى في كل إنسان؟

–  الشجاعة والأمانة والوفاء، وهي منظومة متكاملة وأي اقتطاعٍ لجزءٍ منها يخلُّ بالآخر.

* أيام السجن، ماذا كان يشغل بالك فقط؟

–  لم أسجن. بل اعتقلت عدّة مرات، وما يشغلني كان وما يزال هو المستقبل.

* أيّهما أقرب إلى قلبك… ابنتيك أم زوجتك؟

–  الإبنتان قطعة من قلبي وروحي، والزوجة من خارجه، ويمكن أن تدخل وتخرج، وهكذا هي الحياة. وتبقى مكانة الأبناء متميّزة.

* ماذا يمثّل الشقيق بالنسبة إليك، وهل وجدته فعلاً فيه؟

– التكامل والوفاء… نعم هو ما وجدته فيه.

* أي البلدان أحبّ إلى نفسك؟

– أنا تعددي كما تعلم باستثناء فلسطين والفقراء فأنا أحادي كما قال صديق عني. فبعد العراق (النجف وبغداد، الروح ومسالك الطير) الأقرب لي هي سوريا، وفي دمشق المدينة الناعمة كحرير الصين كان تكويني الثاني، وقد كتبت عنها نصاً أدبياً بعنوان “الشام هي التي علّمتني حب الصباح”، وأنا أردّد دائماً أنني “سوراقي”.

أما بلاد التشيك، ففي براغ تتقاطع طرق الحب وتلتقي جداوله، وكتبت نصاً أدبياً عنها بعنوان “براغ وثمة عشق”، ويبقى لبنان مانحاً الحواس عطراً وجمالاً، حيث الخزامى واللافندر، وفي بيروت يتجدّد العشق، هكذا هي أرخبيلاته وشواطؤه، وقد كتبت نصاً أدبياً عن بيروت حين تم تكريمي من الحركة الثقافية في أنطلياس.

* ألهذا السبب أنت في بيروت؟ ولماذا غادرت لندن؟

–  بيروت أقرب إلى المزاج، وأكثر دفئاً وألفة وحميمية، وهي ملتقى المثقفين والمنفيين والصعاليك والعشاق، أما لندن فرغم أيجابياتها خصوصاً الحرية والأمان، فإنها أبعد وأبرد، إضافة إلى ارتباطي بعقود عمل جامعية في بيروت منذ سنوات طويلة.

2428 شعبان وعبد المجيدر

* أنت كثير الترحال والأسفار.. أيهما تفضل ركوب البحر أم البرّ أم الجو؟

–  حسب ابن عربي فالأسفار ثلاثة:  “سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه”، وهذا الأخير سفر التيه والحيرة، وهو لا معنى له، وسفري شخصياً هو سفر الروح التي ظلّت معلّقة هناك، وهكذا تراني هائماً وغير مستقرّ، مرتحلاً مع كتبي وأسبابي ولواعجي.

وفي السفر فوائد كثيرة، فإضافة إلى المغامرة والاكتشاف ففيه الاطلاع على ثقافات الشعوب وحضاراتها. وهو تمنحك مرونة في التعامل مع الآخر، وقدرة أكبر على التسامح والتواصل والصداقة وكل ما هو مشترَك إنساني. وفي السفر اكتشاف للذات أيضاً وحسب الإمام الشافعي ففيها تفريج همٍّ، وقد يكون طلب علمٍ.

* ما أحسن رواية قرأتها؟

–  دونكيشوت لسرفانتس، وهي مصنفة من أعظم الروايات العالمية.

* ومن هو أعظم روائي؟

–  أستطيع القول دوستويوفسكي وتولستوي وماركيز. وهؤلاء من أفضلهم.

* وأفضل روائي عربي؟

–  نجيب محفوظ بالطبع، كما يعجبني عبد الرحمن منيف.

* وماذا عن أفضل روائي عراقي؟

–  أحب قراءة غائب طعمه فرمان ويشدّني فؤاد التكرلي وأستمتع بقراءة شمران الياسري “أبو كاطع”، وأقصوصاته وحكاياته.

* أي همٍّ يغمرك بالألم والأسى والحزن؟ وكيف تستطيع الهرب من انشغالاته؟

– أكبر الأحزان هو الظلم على المستويات كافة، وأشعر براحة نفسية حين أنتصر لمظلوم أو أساعد ضحية، وكم كنت منسجماً مع نفسي حين تمكّنت من مساعدة لاجئين فارين من العراق أو من عدد من البلدان العربية.

* مرأة… صحيفة… أم صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي؟

– تعدديتي متواصلة مع الكتاب والمرأة والنبيذ ورياضة المشي والصديق وهي متداخلة ومتفاعلة ومتراكبة، يكمّل بعضها بعضاً.

* ماذا تقول في الصداقة والصديق؟

– حسب أرسطو: الصديق إنسان هو أنت… إلاّ أنه بالشخص غيرك. والصداقة أفضل العلاقات الإنسانية. وأساسها كرم العهد والتضحية.

* هل أنت سعيد وما أبرز سمات السعادة في رأيك؟

– نعم سعيد جداً، وحبّ الناس وحب العمل وحب الخير هي مصدر سعادتي الأساسية.

* أي أغنية تطاردك أينما حللت؟

-أغنية الياس خضر والتي هي من ألحان طالب القرة غولي والكلمات قصيدة لمظفر النواب:

روحي ولا تگـلها شبيج ..وانت الماي

مگطوعة مثل خيط السمج روحي

حلاوة ليل محروگة حرك روحي

وعتبها هواي ما يخلص عتب روحي

ولا مريت ولا نشديت ولا حنيت

گالولي عليك هواي

ياثلج اللي ما وجيت

وأحياناً أغنية سعدون جابر وألحان كوكب حمزة، والكلمات للشاعر زهير الدجيلي:

عيني ياعيني ياهوى الناس

قداح وشموس وعصافير

ياليل ومعاشر نواطير

مرات ياخذنه الهوى اثنين

مرات تحضنه البساتين

ومرات تنسانه الدواوين

ومرات نسأل عالوفه وين

لكن هوانه .. هوى الناس

* والأغاني الأجنبية؟

– أغنية فرانك سيناترا Stranger in the night.

وأحياناً أغنية كارل غوت المغنّي التشيكي O MAMI وهو المعروف بصاحب “الصوت الذهبي”.

* وأنت تقود سيارتك هل ندمت على عدم الوقوف إزاء مشهد صادفك؟

– نعم، حين يعتدي رجل على امرأة تسير معه وسط الشارع أو يعنّف أحدهم متسوّلة سورية اقتربت منه، وهي التي قذفتها ظروف الحرب والحصار إلى الهجرة.

* هل ثمة شبح يطاردك أحياناً؟ صف لي شكله أم هواجسك منه؟

– لا يتجسّد بشخص، بل بظاهرة هي الغدر، وهي وسيلة الجبناء، ومنعدمي الضمير.

* كم مرّة وقعت بالحب؟

– لا يوجد تصنيف للحب وليس ثمة أرقام أو أعداد بالنسبة لي. الحب واحد، فقط تتقاسمه عدّة نساء، ولكل امرأة زمانها ومكانها، وحتى وإن تداخلت الأزمنة والأمكنة أحياناً، فيبقى الحب واحداً، وهو الذي ينتصر.

* وماذا عن الحب الأوّل؟

– لا يوجد حب أول وحب أخير، فكل حب هو أول بالنسبة إليّ، والحب واحد تتقاطع فيه الطرق وتتقارب المصائر وتتشابك العواطف وتختلط الأحاسيس.

* ما علاقة القلب والعقل بالحب؟

– العشق بالقلب وهو بالعين أيضاً، وحسب بشار بن برد بالأذن أحيانا، والقلب والحاستان أول العاشقين، أما العقل فهو يؤنسن العشق ويؤطره، فليست كل عين ترى، على حد تعبير ابن عربي، ويمكن القول وليست كل أذن تسمع.

وهكذا فالعشق ندى الروح وعطر القلب.

* كيف يأتيك الحب؟

– مثل شلال ضوئي وسرعان ما يكون له سلطان على القلب وفيه تتطهّر الروح، ويدخل العقل في حوار مع القلب، واتحادهما على موقف موحد، يبعث في المرء نوعاً من الطمأنينة والرضا، وحين أكون في مثل هذه الحالة تراني أنام بعمق، وأتنفس بعمق، وأعمل بعمق.

* هل هناك دين متسامح وآخر غير متسامح.

– الأديان أكثر رحمة وتسامحاً من البشر، والإنسان هو من يحاول أن يوظّفها باتجاه الشر والتعصب والتطرف والعنف والارهاب.

* هل تؤمن بالله؟

– علاقتي بالسماء قوية، وتأتيني إشارات غامضة باستمرار وأشعر معها بالطمأنينة والسلام، وكل ذلك خارج دائرة الطقوس والشعائر والغيبيات، وإنما هي علاقة روحية وجدانية عقلية.

* متى تكتب سيرتك الذاتية؟

– السيرة الذاتية شديدة القسوة على كاتبها وكذلك على القارىء وهي ليست هتكاً للأسرار أو انتقاصاً من الآخر أو فضحاً لخفايا النفس أو تلميعاً للصورة، إنها خلاصة تجربة قيمية وصميمية، وقد تكون فرصة للمراجعة خارج دائرة الإساءة للأموات أو إيذاء للأحياء. إنها فرصة تأمل وهدوء ونقد موضوعي.

* ماذا تتمنى؟

– أن يسود السلام واللاّعنف، وأن تنعم بلادنا العربية، بل والعالم أجمع، بالحرية والتنمية وأن نستطيع التعايش فيما بيننا على أساس المشترك الإنساني، وأن نسـهم كما كان أسلافنا في ركب الحضارة الكونية.

 

حاوره: أحمد عبد المجيد

 

2424 عبد الرحمن زيارة 1حوار مع الباحث العراقي الذي دحض خمسا من قواعد أرسطو الاستدلالية واشتق أخرى بدلا عنها وزيادة !

ضجت العديد من الصحف والمجلات الورقية والالكترونية فضلا عن منصات ومواقع التواصل الاجتماعي العراقية والعربية على سواء طيلة الأيام القليلة الماضية بخبر مهم لايمكن أن يمر مرور الكرام وليس بوسع المهتمين بقضايا الفكر والمنطق والفلسفة وبأي حال من الأحوال غض الطرف عنه أوتجاهله البتة، الخبرالذي تناقلته على صفحاتها بإهتمام كبير جاء بعنوان مثير وبالمانشيت العريض (باحث عراقي يدحض خمس قواعد استدلالية لأرسطو ويشتق تسع قواعد بدلا عنها)، وذلك في معرض نشر خبر اصدار كتاب جديد بعنوان (المنطق الموحد- تحديث المنطق الأرسطي) على صفحاتها الثقافية والذي تناول فيه مؤلفه مباحث منطق ارسطو بمنهج جديد وغير مسبوق، دحض فيه خمس قواعد استدلالية قال بها ارسطو، واشتق بدلا عنها تسع قواعد، كما تضمن الكتاب مباحث مستحدثة منها طرق استدلال مباشر، هذا الكتاب القيم الفريد في بابه يمثل اضافة معرفية وفكرية وثقافية غير مسبوقة بما ضمه بين دفتيه من كنوز وطروحات وافكار جديدة وجريئة في ذات الوقت وقد اثرى المكتبة العربية ولاريب ومثل اضافة في غاية الاهمية سينهل من معينها الثر الدافق الباحثون ولأمد طويل مقبل، الكتاب من تأليف الباحث العراقي المعروف عبد الرحمن كاظم زيارة، الذي التقيناه بناء على الحاح القراء عامة، واصرار الكتاب والمثقفين خاصة، لنحاوره عن الكتاب والسيرة الذاتية وعلم المنطق في آن واحد، فرحب بنا مشكورا وكان سؤالنا الأول له في رحلة شائقة عبر محطات ماتعة تنقلنا خلالها بين حدائق غناء عدة فقطفنا من كل بستان زهرة لنرفل بعبقها ونشم اريجها الفواح:

* لنتحدث بداية عن بطاقتك الشخصية ومسيرتك التربوية، ماذا تقرأ؟

- أنا مواطن عراقي عربي من قبيلة شمر وهو وسام اعتز به أيما اعتزاز، ولدت في ظهيرة يوم جمعة من شهر رمضان عام 1960 في مدينة السماوة مسقط رأس والدي وأجدادي، على بعد 25 كم من مدينة أوروك التاريخية التي اكتشف فيها العراقي لأول مرة في التاريخ أبجدية الكتابة في الألف الثالث قبل الميلاد، وكنت أصغر الأبناء الذكور الثمانية، جميعهم متعلمون، منهم الاستاذ الجامعي والمعلم والمهندس والمدرس، وكان لهم دور في الحركة الوطنية والحركة الثقافية . تخرجت من الجامعة المستنصرية، كلية التربية، قسم الرياضيات (بكالوريوس رياضيات) عام 1986. انتدبت من الخدمة العسكرية للعمل في دائرة الاذاعة والتلفزيون من عام 1987 حتى عام 1991، مذيعاً ومحرراً في اذاعة صوت الجماهير للبرامج السياسية وبرامج التنمية (غير معين وبراتب الجيش) . لم أكن استسيغ العمل في التعليم الثانوي بصفة مدرس، إذ كنت ابحث عن أفق أوسع فحصلت على فرصة عمل في المعهد التقني / السماوة بصفة محاضر غير معين، ثم دخلت بمنافسة مع عشرين مدرسا من حملة البكالوريس للظفر بالتعيين كتدريسي بتخصص الرياضيات في المعهد وبلقب مدرس مساعد بحسب قانون هيئة التعليم التقني وحصلت على الدرجة عام 1992، وبدأت مسيرتي العلمية بنشر البحوث الاكاديمية في المجلات المحكمة وكانت الحصيلة قبول ثلاثة بحوث في مجال الرياضيات، أضافة الى العديد من البحوث والدراسات الأخرى ذات الصلة بواقع التعليم التقني في العراق . وعلى خلفية انتشار أحد بحوثي التخصصية باللغة الانكليزية انتدبتني بعض المجلات الاجنبية المحكمة بإجراء التقييم على البحوث التي ترد إليها للنشر، لقبولها أو رفضها، وهذه حالة نادرة أن يكلف من يحمل درجة بكالوريوس بتقييم بحوث يجريها اساتذة من حملة شهادة الدكتوراه في الرياضيات والاحصاء ليقرر صلاحية قبولها للنشر أو رفض قبولها.

* قبل أن نخوض في غمار هذا البحر اللجي، متلاطم الامواج، وقبل أن ننهل من هذا العلم الضارب في القِدم، عالي الكعب، راسخ القَدم، والذي قد يبدو عصيا على فهم الكثيرين، لابد لنا من أن نمهد للقراء الكرام ونقدم لهم تعريفا ولو موجزا عن ماهي علم المنطق وفوائده ودوره في تطور مجمل الفلسفات والمعارف والعلوم عبر التأريخ؟

- لا يمكن الاحاطة بفكرة موجزة تنفع القارئ الكريم عن ماهية المنطق، لكن دعنا نرسم اطارا عاما للمنطق. المنطق هو علم الفكر، يقرر صدق أو كذب القضايا التي تواجه المنطقي، ويستخرج قضية صادقة من أخرى صادقة، ويستنتج قضية صادقة من قضايا عدة صادقة هي الأخرى . وله طرق للوصول الى ما ذكرت تسمى طرق الاستدلال، التي تخضع جميع المقولات سواء كانت خطابا إنسانيا كالفلسفة والفقه وعلم الاجتماع وغيرها، الى قواعده فتقرر صدق أو كذب المقولات . ولي تعريف خاص للمنطق وهو أن المنطق بنية علاقات، وكان هذا التعريف منطلق أساس لبحوثي المنطقية . يقسم الاستدلال الى مباشر وغير مباشر، أما المباشر فله طرقه الخاصة وهي: أحكام القضايا (التناقض والتضاد)، فالمتناقضتان هما القضيتان المختلفتان بالسور والكيف، نحو؛ (كل جوهر ثابت) و (بعض الجوهر ليس بثابت) متناقضتان، أما التضاد فهو اختلاف الكليتين بالكيف، نحو (كل حواء متشاكل) و (كل حواء ليس بمتشاكل) متضادتان . وهنالك الدخول تحت التضاد . أضف الى طرق العكس المستوي والنقض وعكس النقيض، فلكل طريق من هذه الطرق قاعدة عامة وقواعد للمسورات الأربع (الكلية الموجبة، الكلية السالبة، الجزئية الموجبة، الجزئية السالبة) . كل ما تقدم يدخل في حيز متبنيات المنطق الأرسطي التقليدي. أما الاستدلال غير المباشر فيشمل الاستقراء والقياس، وهما طريقان يعملان على مجموع قضايا . فالاستقراء هو استنتاج قضية كلية من قضايا جزئية، وعكسه الاستنباط فهو استنتاج قضية جزئية من قضية كلية . أما القياس فإن أهم اقسامه بحسب أرسطو هو القياس الحملي الاقتراني، تتألف هيأته من مقدمتين تنتجان قضية واحدة هي نتيجة القياس.

والمنطق بصفته علم التفكير يشمل أيضاً متبنيات المنطق الرياضي، والفرق بين المنطق الأرسطي والرياضي هو أن مادة الأول القضايا الحملية البسيطة وأمثلتها كما تقدم ذكره، بينما مادة المنطق الرياضي القضايا المركبة، وتتألف من قضايا حملية عدة تربط بينها أدوات ربط وليس علاقات كما في القضايا الحملية .

2424 عبد الرحمن زيارة 2

*متى اختمرت الفكرة في رأسك، وأعني هنا فكرة دحض خمس قواعد استدلالية قال بها فيلسوف الاغريق الكبير ارسطو طاليس، وتابعها شراحه، لتشتق بدلا عنها تسع قواعد في العكس المستوي والنقض وعكس النقيض لاسيما وانك قد طرزت كتابك بمباحث، تطرق لأول مرة في تأريخ المنطق، حدثنا عن ابرز ما نقضته بمنهج استدلال ارسطو وأهم ما اضفته ولماذا؟

- قبل سنين خلت وقع بين يدي كتاب المنطق للشيخ العراقي محمد رضا المظفر (ثلاثة أجزاء)، وهذه أول مرة أطلع فيها على المنطق الأرسطي، وفيما سبق درست المنطق الرياضي أثناء دراستي الجامعية في كورس واحد فقط، والمنطقان مختلفان في مادتيهما وبأسلوبيهما. ولا أخفيك سرا وجدت صعوبة في فهمه لسببين: الأول، لم اعتد على لغته . والثاني، الخلط بين الفلسفة واللغة من جهة وقواعد المنطق من جهة أخرى . انتبهت الى السبب الثاني ومنه حددت موضوع المنطق بالضبط، وشرعت بكتابة سلسلة من المقالات بعوان (نقد المنطق الأرسطي) ونشرتها في موقعي الثقافي (فضاء أوروك) وفي مواقع أخرى. كانت أوجه النقد محدودة وليست بالشمول الذي أدى الى نقض قسم من قواعد أرسطو ومنهجه . وبعد عامين من قراءتي لكتاب الشيخ المظفر حصلت على كتاب المنطق لأرسطو باللغتين العربية والانكليزية وعكفت على مطالعتها، فوجدت أن جميع كتب المنطق الأرسطي هي في الحقيقة شارحة لمتن كتاب أرسطو، ولم تضف شيئاً، سوى التفنن بطرق العرض، وهذا لا يقدح في العلم كما هو معروف. قررت عندئذ أن انهض بتأليف كتاب يعرض المنطق الأرسطي بفك التداخل الفلسفي واللغوي معه، وفي أثناء تأليفي للكتاب أخذت باكتشاف الاحالات المنطقية (الاخطاء) في منطق أرسطو، ووضعت قواعد جديدة وأضفت مباحث وطرق استدلال غير مسبوقة في تاريخ المنطق.

* وماذا عن كتابك الثاني (منطق القضايا الحملية) هل لك ان تحدثنا عنه قليلا؟

- ضم منطق القضايا الحملية – قواعد الاستدلال المنطقي – نتائج المباحث التي ضمها الكتاب الأول (المنطق الموحد – تحديث المنطق الأرسطي) بطريق عرض غير موغلة بالتحليل المنطقي والمناقشة والاختبارات والاستقراء، ولم أتطرق فيه إلّا الى القضايا الحملية البسيطة دون القضايا المركبة . وقد ألفته لتكون قواعد المنطق ميسرة للقارئ المتعلم . والفرق بين الكتابين أكثر من هذا .

* قلت في معرض تقديمك لكتابيك بأنك انهيت تأليف الكتابين منذ زمن بعيد الا ان طبعهما قد تأخر لأسباب تتعلق بالنشر داخل وخارج العراق ما جعلك تلجأ الى المطبعة مباشرة بعيدا على الوسطاء وبجهد خاص، نرجو من جنابك الكريم ان تلخص لنا مجمل معاناتك مع دور الطباعة والنشر والتوزيع واسباب تأخر صدور الكتابين المهمين كونها تلخص معاناة المثقفين العراقيين والعرب مع تلكم الدور حتى بات الكثير منها يشكل عبئا حقيقيا على كواهلهم وعائقا كبيرا امام نشر ابداعاتهم وطباعة مؤلفاتهم ما تسبب في تلكؤ اصدار عشرات العناوين المهمة .

- للأسف لا توجد في العراق دور طبع ونشر بالمعنى الذي تتولى طباعة المخطوطات وتوزيع ونشر وبيع المطبوع، بل تكتفي بدور الوسيط بين المطبعة والمؤلف، وعلى المؤلف القيام بتوزيع نسخ كتابه وبيعها بعد تسلمها من (الدار) مطبوعة ومعبأة بكراتين، ناهيك عن عدم الاشتراك بمعارض الكتاب، أي أن المطبوع يولد ميتاً . هنالك ثلاثة انواع من (دور الطبع والنشر) في العراق والدول العربية، كلها تتقاضى كلفة الطبع كاملة من المؤلف، أولاها تكتفي بكلفة الطبع ولا تطبع عدداً آخر من النسخ المطلوبة، وثانيها تنهج اسلوب النشر المشترك حيث يطبع الناشر ضعف عدد النسخ التي يطلبها المؤلف، تسلمه النسخ التي طلبها وتقوم هي ببيع النسخ الأخرى لحسابها . وثالثها تكتفي بعدد النسخ المطلوبة للمؤلف وتطبع ما يحلو لها من النسخ فتبيعها لحسابها . لاحظ في كل الأحوال ليست هناك ضمانة لنشر وتوزيع وبيع الكتاب وعرضه . في تجربة سابقة صدر لي كتاب في الفلسفة من قبل (دار طباعة ونشر) مقرها مكتبة وهذا هو حال هذه الدور، وفي زيارة للمكتبة لم أجد نسخة واحدة من كتابي في رفوف المكتبة ! وفي أشهر لاحقة وجدت كتابي أضافة الى كتب أخرى قمت بتأليفها تباع في بسطيات شارع المتنبي بسعر أقل من كلفة طباعتها !

حقوق التأليف، ونشر المطبوع غير متاحة في العراق للأسف . وما يهمني هو نشر أعمالي وايصالها الى من يهمه أمرها، ويبدو أن هذا الأمل بعيد للأسف . ولكي لا تبقى أعمالي العلمية طي النسيان اضطررت للتعامل المباشر مع مطبعة، وعليّ أن أوزعه بنفسي، ومن المؤكد سأوزع أغلبه مجاناً داخل العراق !

2424 عبد الرحمن زيارة 3

*ماهي رؤيتكم للمناهج الدراسية الحالية للمراحل المتوسطة والاعدادية والجامعية، العربية والعراقية، هل لديكم مقترحات ما لتحديثها أو تطويرها بما يتماهى مع التطور المعرفي ويتناغم مع السمو الثقافي الحديث لنحلق معها الى مديات ارحب، لاسيما مع تراجع العالم العربي على مستوى التربية والتعليم الى مستويات متدنية حتى صار معظمها يتذيل قوائم التصنيفات الدولية بهذا الشأن، وآخرها وليس أخيرها قطعا خروج العراق اسوة بسورية وليبيا واليمن والصومال والسودان من التصنيف العالمي لجودة التربية والتعليم اساسا؟

- للأسف مخرجات التعليم لم تعد كفوءة كما كانت سابقة، وهنالك مشاكل ذات أوجه متعددة تتعلق بأركان العملية التعليمية:المدرس والمنهج والطالب. وفي تقديري أن المشاكل المتعلقة بالمنهج هي أهون بكثير من المشاكل التي تتلبس طرفي العملية التعليمية: المدرس والطالب . فيما سبق كان تقييم المعلم في المدارس الابتدائية والمدرس في المدارس المتوسطة والثانوية يستند الى نسبة النجاح والدرجة المعيارية التي تقيس التحصيل الدراسي للطلبة بدلالة الدرجات، فليس لأهمية نجاح الطلبة بنسبة عددية متقدمة إذا كانت درجاتهم أقل من متوسط، فهذا خلل في العملية التعليمية، وبالعكس إذا كانت نسبة النجاح منخفضة ودرجات الطلبة فوق المتوسط، فهو خلل أيضاً في العملية التعليمية . يتحدد مستوى اسئلة الامتحان بأنواعها ومنح الدرجات وطرق تعامل المعلم والمدرس بضوء أوجه تقييم أداءه . وأرى أن يعاد النظر بمعايير تقييم الأداء . لقد استجدت عوامل أضافية أضعفت المعلم والمدرس هي من تداعيات الاحتلال الامريكي للعراق وهي معروفة للقاصي والداني . والأمر مشابه في التعليم الجامعي .

يمكن أن نلخص مسار انخفاض مستويات التعليم بعبارة السلوك الجمعي السلبي للطلبة . فعندما يكون أغلب الطلبة لا يلون أهمية لتحصيلهم الدراسي والتفوق العلمي يضطر المعلم والمدرس الى خفض معايير النجاح .

وبصدد المناهج قمت بتأليف بحث علمي، بأدوات رياضية، كشفت فيه أن درجات الدروس العملية في المعاهد التقنية هي التي تقرر نجاح الطالب، أما درجات الدروس النظرية فمكانتها متدنية جداً في تقرير نجاح أو رسوب الطالب، وبالرغم من الأهمية النسبية لدرجات العملي إلا أن الطالب الذي يتخرج من قسم الكهرباء مثلاً غير قادر على تأسيس نقطة كهرباء في بيته !

* هل في جعبتكم مؤلفات قيمة أخرى في طريقها الى النور؟

- نعم لدي كتابان جاهزان للطبع: الأول، (علم البنى – التأصيل الرياضي للبنيوية)، أرد فيه المقولات البنيوية الى أصلها الرياضي، والكتاب يجمع بين علم اللغة – علم اللسان بالمعنى السوسري – والثاني، مجموعة ومنطق الحواء، يهتم بالكشف عن مجموعة جديدة غير مسبوقة ومنها نؤلف منطقاً يستوعب المنطق الأرسطي والمنطق الرياضي والمنطق الضبابي والمنطق البوولي . وهنالك أعمال أخرى تتعلق بالفلسفة .

* لو لم تكن انت الان، ماذا كنت تتمنى أن تكون؟

- لا اتمنى غير ما أنا عليه الآن، فأنا راض عن وضعي الاجتماعي فأولادي ثلاثتهم أطباء يحظون باحترام الوسط الصحي والوسط الاجتماعي، أما عن وضعي العلمي فإني عملت وانتجت بأكثر مما تتيح له درجتي العلمية ولقبي العلمي، سوى أني كنت اتمنى اكمال دراستي العليا ولم تسمح الظروف العامة بذلك .

* حكمة تؤمن بها؟

- أعمل لدنياك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبد الدهر .

 

* شخص تدين له بالفضل لما وصلت إليه؟

- والدي رحمه الله، رغم أنه توفي وأنا بعمر السابعة، إلّا أن صورته تحفزني لكل ما هو ايجابي في الحياة .

*ماذا تحب وماذا تكره؟

- في الفنون أحب الموسيقى والرواية والشعر، وأحب الشطرنج. وأكره الكذب لأنه عدم، معه لا تستقيم الحياة، وتزعجني المسكوكات الكلامية المتكررة التي يتداولها هواة الكلام من الناس .

* ماذا تشكل المرأة في حياتك؟

- المرأة هي الأمومة والحب، واناقة الحياة .

* كلمة توجهها الى ابنائك الطلبة وللمراحل الدراسية كافة؟

- اقول لهم: أنتم صورة المستقبل فانظروا كيف يكون مستقبل بلادكم، واعلموا أن ديدن الانسان الناجح هو الصدق والاخلاص، واجعلوا القيم السامية والاخلاق الحميدة قاعدة سلوك ومنهاج حياة، ولا تخوضوا مع الخائضين وإن كثروا، واتقوا الله تعالى حق تقاته .

* كلمة أخيرة لمحبيك ولمتابعيك؟

- في العراق مبدعون في جميع حقول المعرفة وفي العلوم والفنون والآداب، إلا أنهم لا يحصلون على فرصة للإفصاح عن اعمالهم، وتطبيقها في بلدهم . العراقيون في البلدان المتقدمة فيهم من أمهر الاطباء، وأمهر الاساتذة والمهندسين والعلماء، ويديرون حلقات مهمة ويؤدون اعمال تخصصية عالية المستوى في الدول المتقدمة، فأين بلدهم عنهم؟

 

حاوره / احمد الحاج

 

2397 فهمي الشيخو 1نواجه الواقع بالكتابة ونهرب منه أحياناً.. الرّوائي التّركماني فهمي سعيد الشيخو: من الصّعب جدّاً على الكتّاب الجدد الإتيان بالجّديد أو خلق اضافة نوعية

لم يقتصر ابداعه على مجاله الهندسي، بل كان صاحب قلم وقضية وانموذجا للسعي والمشاركة في إشاعة ثقافة الإبداع في مشهد القراءة من خلال تنظيم مهرجان القراءة الأول والثاني في مدينة تلعفر، فهمي سعيد الشيخو من مواليد محافظة نينوى تحديداً قضاء تلغفر 1992، الحاصل على بكالوريوس في الهندسة جامعة الموصل 2014، وعلى الماجستير في الميكانيك التطبيقي جامعة تكريت 2021، كاتب وروائي وعضوا في الأكاديمية الدولية للقيادة والتنمية في اسطنبول، صدر له روايتين أولى بعنوان "كل ذكرى ذائقة الموت" عن دار سطور للنشر والتوزيع في بغداد سنة 2017، والثانية بعنوان "جينوسايد" عن دار ماشكي في الموصل سنة 2020.

عن بداياتك بمن تأثرت من الأدباء وكانوا يعيشون في مكتبك؟

- في الحقيقة بداياتي كانت بالتأثر في اللغة نفسها، لأن اللغة العربية ليست لغتي الأم .. فسحرتني هذه اللغة وسحرني جمالها وعمقها وغناها المفرداتي ومدلولاتها الواجدانية التي تمكن الانسان في ايصال ما لا يمكن ايصاله بأي لغة اخرى باعتقادي ..

بعد تعلمها كتابةً وقراءة بدأت اتأثر ببلاغة شعراء الجاهلية والاسلام كأُمرؤ القيس وزهير بن ابي سلمى والمتنبي والحطيئة وقيس بن الملوح وغيرهم الكثير .. ومن ثم بدأ التأثر بالكتّاب منهم بالتأكيد إليف شافاق و نجيب الكيلاني ورضوى عاشور وعلي الوردي و غيرهم ..

هل الكتابة هروب من الواقع ام مواجهة الواقع؟ ماذا يقول للعالم فهمي سعيد الشيخو عندما يكتب؟

- باعتقادي لا يمكن تحديد غاية الكتابة.. فاحياناً تكون هروباً من الواقع واحياناً اخرى مواجهة له وكذلك لربما تكون لغايات اخرى، كأن تكون اصلاح الافكار الخاطئة الشائعة بين الناس او توضيحها او محاولة التركيز على الجوانب المظلمة للمجتمع او البيئة او حتى الانسان نفسه.

بصفتك كاتب رواية أيهما الأقرب إليك الرواية العربية اما الغربية ولماذا؟

2397 فهمي الشيخو 2- الحقيقة هنالك نوع من الظلم للرواية العربية عند مقارنتها بالرواية الاجنبية، لعدة اسباب يمكن اختصارها بالتالي: يجب ان ندرك ان الروايات الغربية لا يتم ترجمتها الا اذا كانت روايات لها صيتها وتأثيرها على مستوى بلدانها لأن المترجمين لا يصرفون اوقاتهم لترجمة الروايات الرديئة وبالتالي نحن عندما نتكلم عن الرواية الغربية فنحن نتكلم عن الروايات الجيدة التي استحقت الترجمة ومن ثم نأتي لنقارنها مع الروايات العربية التي تداخلت فيها الرديئة مع الجيدة او كست الاولى على الثانية فنرى هذا الفارق الكبير بين الرواية العربية والرواية الغربية بالتالي المقياس غير عادل كأننا نقوم بمقارنة بضاعة مختارة بعناية مع بضاعة مختارة بعشوائية فنقع في الاشكال ونظلم الرواية العربية.. هذا جانب، في الجانب الآخر الروايات الغربية هي نتاج بيئات ولغات وثقافات مختلفة كالادب الانكليزي والروسي والاسباني والياباني والامريكي بمقابل الروايات العربية التي تتشابه بيئاتها وثقافاتها تشابهاً كبيراً .. بالنهاية لابد ان تتميز الروايات الغربية على العربية وتشد القارئ اكثر وانا منهم بالتأكيد لكنني اقرأ الروايات العربية ايضاً دون مقارنتها مع غيرها..

كل ذكرى ذائقة الموت الرواية الاولى التي صدرت عام 2017،كانت وليد المعاناة والحروب، هل استطاعت ان تنقل في روايتك ماحدث في مدينك؟

هي كانت محاولة لنقل المعاناة جراء الحرب ضمن قصة حقيقية حدثت قبل داعش وتأثرت بالاحداث المصاحبة له وتداخلت فيه. كما حاولت فيها طرح و معالجة الافكار الاجتماعية الخاطئة كالطبقية والمناطقية والقومية ونظرة المجتمع لبعضها البعض اعتماداً على مكان الولادة او اللغة المختلفة او الثقافة المغايرة.. وكذلك تطرقت الى فكر داعش والمغالطة الكبيرة بين احكامها المنسوبة للاسلام وتطبيق تلك الاحكام تطبيقا خاطئاً في اصولها وغاياتها، وكذلك الموقف الحرج لابناء الموصل في تلك الفترة الذين عاشوا ما بين المطرقة والسندان فهم في نظر داعش خونة ومرتدين ومنافقين لانهم لم ينضموا اليهم وفي نظر آخرين هم دواعش!!

جينوسايد مصطلح يطلق على الإبادة الجماعية بكافة مسمياتها، مالذي أردت توظفه في روايتك التي أطلقت عليها (جينوسايد)؟

جينوسايد هي رواية ثلاثية تتحدث عن مجازرٍ ثلاث وقعت في النصف الاول من القرن الماضي، الاولى مجازر الارمن على يد العثمانيين سنة ١٩١٥ والثانية الهولوكوست المحرقة اليهودية على يد النازيين ابان الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩- ١٩٤٥ والاخيرة مجزرة دير ياسين على يد المجاميع الصهيونية سنة ١٩٤٨.. حاولت في هذه الرواية توظيف مسألة ان المسلمين والمسيحيين واليهود قاموا بهذه المجازر ضد بعضهم البعض والكل اصبح ظالم ومظلوم ومهجِّر ومهجَّر ومجرم وضحية في الآن نفسه، وآن للاطراف اجمع ان يتوقفوا عن المجازر والقتل ويعيشوا حياتهم مع بعضهم البعض بسلام و وئام.

برأيك ساهمت الرواية العراقية بالتسليط الضوء على الواقع المزري الذي عاشه الإنسان العراقي؟

- الى حدٍ ما الروائيين العراقيين قد كتبوا كثيراً عن معاناة الانسان العراقي منذ بداية الثمانينات اي بداية الحرب الايرانية العراقية الى السقوط والاحتلال وايام الطائفية ولربما لا أبالغ ان قلت لا يوجد كاتب عراقي معروف إلا وقد كتب عملاً واحداً على الأقل عن هذه الحقبة، بالتالي نستطيع القول انهم ساهموا كثيرا بتسليط الضوء على معاناة الانسان العراقي لكن في حقبة معينة بتركيز كبير ..

الروائي العراقي يعيش ليكتب ولا يكتب ليعيش، هل تؤيد هذه المقولة ولماذا؟

2397 فهمي الشيخو 3- لا يمكن الجزم ان الروائي العراقي يعيش ليكتب او العكس لأن الروائيون من مشارب مختلفة وثقافات واراء متنوعة تجد فيهم النوعين وهذا حسب نظرة كل منهم على ما يقدم من نتاجات ادبية وكذلك على الهدف او الغاية من الكتابة لديه سواءً كانت مادية بانواعها او معنوية بتشعباتها ..

مواقع التواصل الاجتماعي اتاحت للمثقف والكاتب زاوية واسعة من التنقل في نقل ابداعاته، مالذي إضافته هذه المواقع لنتاجتك الأدبية وعلاقاتك مع الأدباء والمثقفين؟

- بالتأكيد المساحة التي توفرها هذه الوسائل تعطي فرصة للكاتب بتسويق كتاباته ونتاجاته الادبية التي لولاها لربما واجه الكثير من الصعوبات في الوصول الى القارئ، وكذلك وفرت للكاتب والقارئ على حد سواء معرفة الطرفين فالقارئ يطرح اراءه عن الكتاب الذي قرأه ويقدم العمل باختصار مفيد للقراء الاخرين وهذا مما يعطي عادة دوافع كبيرة للكاتب بالاستمرار وتجعله ايضا قريباً منهم يعرف معاناتهم واهتماماتهم ومشاكلهم ثم يعكسها في كتاباته فيحصل التجانس الجميل بينهما..

ما الدوافع التي تعجل الروائي يكتب ويبحر في الرواية؟ مالطابع الذي يغلب عليه في رواياته؟

الدوافع كثيرة لا حصر لها، احيانا تكون عاطفية واحيانا فكرية او عقائدية دينية او فلسفية او حتى مادية كما يُذكر عن الكاتب الروسي الشهير ديستوفيسكي عندما كتب احدى رواياته في غضون اشهر قليلة لانه كان في ضائقة مادية ..

كذلك الطابع لا حصر له، ويعتمد على فكرة الرواية واحيانا على الراوي نفسه ..

 ما الذي أضافهُ كتّاب الرواية الجدد في رواياتهم وهم بين يقطنون في فوضى الحروب والصراعات؟ وهل استطاعو خلق تجربة جديدة؟.

- الحقيقة من الصعب جداً ان الكاتب الجديد يكون قادراً على الاضافة او خلق مجال جديد الا ما ندر، هم بالعادة يحاولون قدر الامكان الوصول الى مستوى الكتّاب المؤثرين في الساحة الثقافية ومن ثم يكونوا باعتقادي قادرين على أن يضيفوا شيئاً او يخلقوا تجربة يحتدى بها .. الكتّاب الجدد يواجهون عادة صعوبات في تقبل القراء لكتاباتهم فترى اغلب القرّاء يبتعدون عن قراءة نتاجات الكتاب الجدد ويرون في ذلك مضيعة للوقت؟! وعبور هذه المرحلة وكسب ثقة القراء لمهمة صعبة يحتاج فيها الكاتب الى الكثير من الصبر والاصرار والتحمل والاستمرار دون ان يُحبط من التجربة الاولى عندما يتكدس النسخ لديه ولا يجد من يقرأ له!

 

حاوره عمر الصالح

 

2388 فاطمة بوهراكةيغيب صاحب المنصب المحارب وتبقى الأعمال الشاهقة

شاعرة وأدبية معاصرة... تنبش في القديم.. تحفر في التراث.. لا تيأس من البحث والسؤال، آثرت التعريف بالآخرين من الأدباء والشعراء من كل بلدان العالم العربي على خدمة نفسها هي الشاعرة فاطمة بوهراكة من مواليد 1974 بفاس المغربية، اقتحمت الساحة الأدبية اقتحاما فعرفت من المحيط إلى الخليج.... كما عرف اسمها لدى العديد من الأدباء المعاصرين الأجانب بحكم ترجمة أشعارها إلى لغات عديدة كالفرنسية، الإسبانية، الانقليزية، الألمانية، التركية والكردية وحتى العبرية.. غير أن اسمها مازال مخفيا نسبيا عن الكثيرين من الأدباء والشعراء، اخترتها أن تكون شخصيّة اللقاء لجملة من الحوارات التي أجريتها مع بعض المبدعين.. فتوجّهت إليها بالأسئلة التّالية:

السؤال الأول: الشاعرة فاطمة بوهراكة سألت عن اسمك في الوسط الشعري التونسي وحتى العربي من خلال علاقاتي فكان نسبيا معروفا... هل لك أن تعرّفي بنفسك أكثر للقراء وذكر ما سبب عدم شهرة اسمك بالرغم من انجازاتك وتكريماتك والشهادات العديدة التي نلتها والمحبّة التي حصدتها..؟

فاطمة بوهراكة

- من مواليد فاس في 13 فبراير 1974 م .

- رئيسة دارة الشعر المغربي منذ عام (2007 - 2019 م)

- مديرة مهرجان فاس الدولي للإبداع الشعري (2010م إلى 2018 م.)

- معدة ومقدمة برنامج رنين الكلم بإذاعة فاس الجهوية عام 2013 م .

- مشرفة نادي المكتبة التابع للمركب الثقافي والاجتماعي والرياضي عين النقبي (2013-2014 م) .

- مديرة عامة لمؤسسة صدانا الثقافية في الفترة الممتدة مابين (2008 – 2018م)

- عضو اتحاد كتاب المغرب .

- شاركت في العديد من الملتقيات والمهرجانات الشعرية والفكرية منذ عام 1996م وإلى يومنا هذا في كل من: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، العراق، لبنان،الإمارات، البحرين، سلطنة عمان، فرنسا،الهند .

- شاركت إلى جانب الشاعرة الدكتورة الشيخة سعاد الصباح في إنجاز مسرحية شعرية تحت عنوان '' فيتو على نون النسوة '' عرضت بالمركب الثقافي بمدينة فاس المغربية يوم السبت 28 يوليوز 2007م .

- معدة الموسوعة الكبرى للشعراء العرب التي انطلق العمل عليها بتاريخ 1 يوليوز2007 وتم إصدارها كمجلد شمل 2000 شاعرا وشاعرة عام 2016 م .

- معدة كتاب 100 شاعرة من العالم العربي / قصائد تنثر الحب والسلام 1950/2000 صدر عام 2017 م بأربع لغات هي: العربية , الفرنسية (ترجمة الأستاذة فاطمة الزهراء العلوي) , الإنجليزية (ترجمة الدكتورة سعاد السلاوي) الإسبانية (ترجمة الأستاذة ميساء بونو).

- معدة كتاب77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج 2007 /2017 صدر عام 2018 م .

- معدة كتاب شعراء سياسيون من المغرب (1944/2014م) صدر عام 2019 م.

- معدة موسوعة الشعر السوداني الفصيح (1919/2019 م) صدر عام 2019 م .

- معدة كتاب 50 عاما من الشعر العماني الفصيح في ظل السلطان قابوس (1970/2020) . صدر عام 2020 م .

- ساهمت في إنجاز أربع مجموعات شعرية مشتركة رفقة ثلة من الشعراء وهي:

- احتراقات عشتار 1995م،غدائر البوح 1996م، وشم على الماء 1997م، بهذا وصى الرمل 1998م .

- لها ديوان شعر تحت عنوان: اغتراب الأقاحي طبع عام 2001 م مترجم للغة الفرنسية .

- لها ديوان شعر يحمل عنوان: بــوح المــرايا طبع عام 2009 بثلاث لغات: العربية، الفرنسية، الاسبانية .

- لها ديوان شعر تحت عنوان نبض طبع بسبع لغات هي: العربية،العبرية ،الإنجليزية،الفرنسية، الإسبانية، الكردية، التركية طبع عام 2012م.

- لها ديوان تحت عنوان جنون الصمت طبع بالرباط ثم بالقاهرة عام 2015 م .

- تم ترشيحها لنيل لقب أفضل شخصية ثقافية لعام 2012م ضمن جائزة الشيخ زايد للكتاب .

- تم تكريمها من قبل المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسائي بقسنطينة الجزائرية تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في 13 أكتوبر 2012 م.

- أنجزت على دواوينها الشعرية العديد من الدراسات النقدية منها دراسة باللغة الفارسية من قبل الدكتور جمال نصاري طبعت عام 2014 م في كتاب تحت عنوان فاطمة بوهراكة تتكلم بصمت .

- كتبت عنها العديد من الشهادات والأشعار من قبل شعراء ونقاد جمعت وطبعت في كتاب تحت عنوان: شراع المحبة عام 2014 م .

- صاحبة مبادرة (تبرع بكتاب ... تحمي الألباب) والتي جمعت من خلالها أكثر من 5000 كتاب قدمت هبة لبعض المكتبات العمومية التابعة لجمعيات فاس والتي انطلق العمل عليها مند عام 2014 م .

- فاعل جمعوي لأكثر من عشرين عاما حيث خلقت العديد من الأفكار والمشاريع الثقافية داخل وخارج المغرب نذكر منها:

ملحمة في حب السودان عام 2019 م

ملحمة في حب لبنان عام 2020 م

- اشتغلت على تحقيق عدة أفكار ثقافية منها: مشاكسة الشعر للفن التشكيلي عام 2001 ومشاكسة الشعر للغناء عام 2013 م كما سجلت عدة حلقات تعريفية لرائدات الشعر العربي من حيث طباعة الدواوين في لقاءات معهن عبر اليوتوب تحت عنوان: رائدات لازلن على قيد الحياة .

- أجريت معها عدة لقاءات إذاعية وتلفزية نذكر منها: القناة الأولى المغربية، قناة الثقافية السعودية، قناة عشتار العراقية، قناة النيل المصرية، قناة النيل الأزرق والشروق السودانية .

- أجري معها حوار صحفي عربي عبر قناة اليوتيوب شارك في إنجازه ثلة من الصحفيين المتميزين: الدكتورة فاطمة برودي وسعيد معواج (المغرب) الدكتور عبد البديع فهمي وشرين نبيل (مصر) غادة أبشر ومحمد آدم بركة وأحمد خضر (السودان) ضحى عبد الرؤوف المل (لبنان) عبد الوهاب العريض (السعودية) زهراء غريب (البحرين) يوليوز 2019 م .

- تم اختيار مسارها في مجال التوثيق الشعري للحديث عنه في العديد من القنوات الفضائية منها: قناة الظفرة الإماراتية في برنامج الرقم 1 وقناة TRT التركية من خلال برنامج قصتي .

- كتب عن مسارها الإبداعي الأديب المغربي حميد بركي كتابا أطلق عليه اسـم: فاطمة بوهراكة امرأة من ذهب طبع عام 2018 م .

- ضيف شرف ملتقى الخرطوم لنقد الشعر السوداني في دورته الثانية بتاريخ 25،26 غشت 2019 م المنظم من قبل بيت الشعر بالخرطوم إلى جانب الأديب المصري أحمد فضل شبلول .

- تم إدراج بورتريه لها ضمن معرض (بورتريهات لشخصيات مهمة) في كلية الفنون بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا بريشة الفنان والأستاذ السابق بالكلية بدر الدين محمد النور، يناير 2020 م .

أما ما يتعلق بعدم انتشار إسمي بشكل كبير عربيا ووطنيا فأعتقد أن السبب الأول يرجع لطبيعة شخصيتي التي تحب العمل في صمت وثانيا أنني لست صديقة مقربة للإعلاميين حتى أكون مادة دسمة في مجلاتهم وصحفهم .

2388 فاطمة بوهراكة

السؤال الثاني: بدأت صغيرة بكتابة الشعر.. لكنك اشتغلت على البحث في أسماء الشعراء والشاعرات ليس في المغرب فقط.. ألمْ يُؤثّر هذا على موهبتك كشاعرة..

الجواب: هذا الاختيار كان صعبا للغاية لكنه مهم بالنسبة لي وللساحة التوثيقية العربية فهناك شعراء كثر لكننا نحتاج لمن يوثق لهم بكل مصداقية وحيادية حتى لا تضيع أثرهم الشعري والنتيجة أن إنتاجي الشعري تراجع بشكل كبير بعد دخول مجال التوثيق .

السؤال الثالث: هل واجهت عراقيل وأنت تنجزين أعمالك الكبرى كتلك الموسوعة التي ضمت 2000 شاعر وشاعرة وأخذ من عمرك ووقتك الكثير.؟

الجواب: هناك العديد من الصعاب والعراقيل التي لا تعد ولا تحصى أوجزها فيما يلي:

- غياب الدعم المالي لهذه الأعمال التوثيقية فتبقى الطباعة شخصية محدودة الانتشار .

- التواصل مع عدد كبير من الشعراء مختلفي الطباع والثقافات .

- اختلاف الثقافات المجتمعية بين الدول مما يؤثر سلبا على الظهور الشعري لدى النساء .

- ضرورة السفر للبلد الذي سيتم التوثيق لشعرائه بعد اختيار الفترة التاريخية لذلك .

- وجود قصائد مسروقة بين الشعراء .

- فبركة بعض السير الأدبية من قبل أصحابها .

- خلق مجموعة عراقيل من قبل بعض الجهات أو الشخصيات لظهور هذه الأعمال .

- تقديم أسماء شعرية دون غيرها من قبل الشعراء أو النقاد الذين أتوجه إليهم كمتقرحات فيفضلون إرسال أسماء تربطهم بهم علاقة دينية أو مذهبية أو شللية على حساب الشعر نفسه .

السؤال الرابع: كيف كنت تحصلين على المعلومات التي قمت بتجميعها في موسوعاتك.؟

الجواب: أنا لا أعمل على تجميع المعلومات وإنما التنقيب عليها من خلال التواصل المباشر مع الشاعر الحي أو مع عائلته وأصدقائه في حالة وفاته وهذا ما مكنه لي وجودي في الساحة الشعرية العربية لحوالي ثلاثين عاما ومعرفتي الشخصية بالشعراء والشاعرات .

الشيء الذي جعلني أكتشف أسماء شعرية مهمة بالساحة العربية لكنها مغيبة ولم تذكر في أي كتاب من قبل .

السؤال الخامس: اهتممت اهتماما خاصا بالشعر السوداني الفصيح فأعددت موسوعة له من 1919 إلى 2019، كذلك اشتغلت على الشعر الفصيح العماني خمسين عاما... كيف جاءتك الفكرة أن تبحثي في تراث شعري ليس من بلدك؟

الجواب: انطلاقتي الأولى في مجال التوثيق الشعري كانت عام 2007 م من خلال الموسوعة الكبرى للشعراء العرب بين سنوات 1956 و2006 م حيث اشتغلت على شعراء العالم العربي بمختلف جنسياته وعرقياته ودياناته بعدها جاءت فكرة الاشتغال على توثيق وترجمة الأعمال الشعرية لمائة شاعرة من العالم العربي بهدف التعريف بالانتاج الشعري النسائي عالميا ثم اشتغلت على كتاب 77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج بطلب من عدة باحثين بالجامعيات العربية بعدها عملت على كتاب مغربي مخض هو شعراء سياسيون من المغرب ثم انتقلت للعمل على مستوى الأوطان فكانت فكرة الاشتغال على الشعر السوداني الفصيح بعدما زرته عام 2018 م بدعوة كريمة من بيت الشعر بالخرطوم بعدها جاءت فكرة الاشتغال على التوثيق لشعراء سلطنة عمان في عهد السلطان قابوس رحمه الله باني نهضة عمان الحديثة في ذكراه الخمسين وحاليا اشتغل على موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر بين سنوات 1950و2020 م .

السؤال السادس: كل المنجزات التوثيقية التي قمت بها تتطلب منك جهودا جبارة مادية وجسدية وفكرية... إلى غير ذلك.. ماذا حصدت منها؟

الجواب: إذا كنت تقصدين الجانب المالي فلا شيء يذكر باستثناء مبلغ 500 دولار مع تكريم ببيت الشعر بالخرطوم .

أما إذا كنت تتحدثين عن الجانب المعنوي فهناك أشياء كثيرة على رأسها محبة الناس .

السؤال السابع: كل بحوثك ودراساتك نخبويّة... موجّهة إلى فئة معينة من القراء أو الأدباء والباحثين في الغرض.. ألا توافقينني أن كل من رام اليوم بحثا توجّه إلى الشّيخ ڨوڨل أو اليوتيوب أو المواقع الإلكترونية.. فهل سيبحث عن الورق في المكتبات؟

الجواب: هناك فرق شاسع بين ما يقدم لنا بالعالم الافتراضي من بيانات وبين ما هو موجود على أرض الواقع وشخصيا لا أميل للبحث عن أكاذيب منشورة بالانترنت حيث تجدين العديد من السير الأدبية المزورة.

فما يقدمه الانترنت لا يجب الوثوق به وعلى الباحثين أن يحتاطوا منه ويبحثوا عن المعلومة من أصحابها مباشرة ثم التحري عنها من غيرهم .

السؤال الثامن: لو سألتك عن شأن بحثك في الشعر النسائي.. من هي أقدم شاعرة في التاريخ؟ في أي عصر ظهرت..؟

الجواب: الشاعرة أنخيدوانا ابنة الأمير سرجون الأكدي ببلاد الرافدين عاشت في الألفية الثالثة قبل الميلاد .

السؤال التاسع: بعد النتائج المبهرة التي حققتها في موسوعاتك هل باستطاعتك ان تقدمي لنا قائمة بأسماء أول الشاعرات العربيات من كل بلد أو كنّ صاحبات أول ديوان؟

الجواب: أول الإصدارات الشعرية النسائية العربية جاءت على الشكل التالي:

وردة اليازجي / حديقة الورد، عام 1867م / لبنان .

مريانا مراش / بنت فكر،عام 1893 م/ سوريا .

جميلة العلايلي / صدى أحلامي،عام 1936 م/ مصر.

نازك الملائكة / عاشقة الليل،عام1947م/ العراق.

ثريا ملحس / النشيد التائه،عام 1949 م/ الأردن .

فدوى طوفان / وحدي مع الأيام، عام 1952م / فلسطين .

سلطانة السديري / نداء عبير الصحراء،عام1956م / السعودية .

سعاد الصباح / ومضات باكرة،عام 1961 م / الكويت .

كوثر نجم / فجر وغيوم،عام 1965 م / ليبيا .

صفية الشيخ الأمين / إيحاء،عام 1966 م / السودان .

زبيدة بشير / حنين،عام 1968 م / تونس .

مبروكة بوساحة / براعم،عام 1969 م / الجزائر .

فاطمة الزهراء بن عدو الإدريسي / أصداء الألم،عام 1975 م / المغرب.

حمدة خميس / اعتذار للطفولة،عام 1978 م / الإمارات .

ميمونة أبو بكر الحامد / خيوط في الشفق،عام 1978 م / اليمن .

إيمان أسيري / هذي أنا القبرة،عام 1982 م / البحرين .

زكية مال الله / في معبد الأشواق،عام 1985 م / قطر .

سعيدة بنت خاطر الفارسي / مد في بحر الأعماق،عام 1986 م / عمان.

مباركة بنت البراء / ترانيم لوطن واحد،عام 1991 م / موريتانيا .

و قد ورد ذلك في كتابي 100 شاعرة من العالم العربي: قصائد تنثر الحب والسلام الصادر عام 2017 م .

السؤال العاشر: كيف تقيّمين الحركة الشعرية في العالم العربي؟

وما نسبة حظوظ المرأة الشاعرة المبدعة من ذلك؟

الجواب: إذا تحدثنا بشكل عام فهي في تراجع كبير مقابل الرواية التي تجد دعما من قبل المؤسسات والشخصيات حتى كدنا نؤمن أن الرواية ديوان العرب اليوم عوض مقولة الشعر ديوان العرب . لكن هذا الأمر ليس عاما فهمنا ك بعض الدول لازالت متشبثة بالشعر وتحتفي به يوميا على أساس أنه مرجع الفرد تاريخا وحضارة .

أما المرأة الشاعرة فوجودها التوثيقي ضعيف مقارنة بالرجل الشاعر وهذا أمر طبيعي بالنسبة لي ورجع لسبيين إثنين:

- أولا عملية التوثيق ظلت حكرا على الرجال فوثقوا لأنفسهم بشكل أكبر.

- ثانيا التعليم لدى المرأة جاء متأخرا جدا مقارنة مع الرجل باستثناء بعض الأسر الغنية والعريقة التي علمت بناتها في وقت مبكر .

السؤال الحادي عشر: في أي بلد عرفت حركة الشعر النسائي نهضة أكبر؟ وماذا تعرفين عن الشاعرات التونسيات وحركة الشعر النسوي في تونس؟ .

الجواب: هناك العديد من الدول التي ظهرت فيها المرأة الشاعرة بشكل قوي منها لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وسلطنة عمان والسعودية ومصر.و هذا ما انعكس إيجابا على بدايات الظهور الفعلي لدواوينهن المطبوعة .

أما المشهد الشعري النسائي التونسي فبخير ويعتبر من الدول الرائدة في الطباعة بشمال إفريقيا من خلال الشاعرة الراحلة زبيدة بشير صاحبة ديوان حنين الصادر عام 1968 م لتسلم المشعل بعدها للعديد من الشاعرات أمثال: جميلة الماجري، فوزية العلوي،رقية بشير وغيرهن كثير .

السؤال الثاني عشر: هل سمت كتابات المرأة في الشعر إلى مستوى نقول صارت تزاحم صوت الشعر الذكوري وتخيفه؟

الجواب: الشعر منتوج إنساني كلما نضج فكر صاحبه بثقافة سامية وقراءة خاصة جعلته أكثر قوة ولا يمكننا الحكم القطعي أن التجربة (الذكورية) أهم من التجربة النسائية على اعتبار أن الشعر آت من الشعور وهو فضاء يحتمل الجودة وقلتها بالنسبة للطرفية .

السؤال الثالث عشر: ماذا تفضلين أن تكوني مستقبلا فاطمة بوهراكة الشاعرة، أم فاطمة بوهراكة الباحثة في مجال التوثيق الشعري؟

الجواب: لا أذكر السنة الحقيقية لمعانقتي الحرف لكني أذكر أول نص شعري نشر لي بجريدة الميثاق الوطني عام 1991 م حيث كانت الانطلاقة الفعلية لي كشاعرة بعدها تم نشر العديد من النصوص الشعرية في منابر وطنية وعربية عدة كما شاركت في ملتقيات كثيرة إلى أن جاء عام 2001 م عندما رغبت أن أطبع أول ديوان شعري لي تحت اسم اغتراب الأقاحي والذي أنجزت له المقدمة الشاعرة المقتدرة أمينة المريني في طبعته الأولى حيث أثنت على التجربة ومدحتها مما جعلني أختار في الطبعة الثانية قلما نقديا صارما هو قلم الدكتور الشاعر والناقد محمد السرغيني الذي يصعب على المبدع إرضاء ذائقته الشعرية فكان هذا الإختيار بالنسبة لي تحد كبير نجحت فيه والحمد لله حيث قبل كتابة المقدمة وأشاد بحرفي الشعري هذا الحرف الذي ستؤثر فيه عملية البحث والتوثيق سلبا وتجعله يصبح جافا ونادر الظهور .

أعشق الشعر الذي انطلقت به ومنه لكني أفضل مهمة البحث والتوثيق لبقية الشعراء لما لها من مسؤولية تاريخية يصعب ركوبها

السؤال الرابع عشر: ما هي المواضيع التي تتناولينها في قصائدك أكثر.. هل هي قضايا تهم الإنسان والإنسانية أم هي قصائد وجدانية؟

الجواب: أعتقد أنني توغلت أكثر في الجانب الوجداني الشخصي مع وجود بعض النصوص الشعرية الإنسانية التي تحدثت عن هموم وأحزان البشرية لكنني لم أستطع أن أصل على مستوى صناعة الشعر ومجاراة البقية بسبب اعتكافي التوثيقي الذي يحتاج إلى عقل دائم التساؤلات والعمل بدل الشعر الذي يجنح إلى الخيال والعاطفة .

السؤال الخامس عشر: لقد جربت المسرح من خلال مسرحية "فيتو على نون النسوة" سنة 2007.. لماذا لم يتكرر عرض هذا الحدث في عدة مدن وبلدان؟ كيف وجدت هذه التجربة؟

الجواب: كانت تجربة مميزة وناجحة جدا وقدمت لي دعما نفسيا مهما في مساري الشعري لكن الجهة التي احتضنتها تنظيميا لم تفكر مع الأسف الشديد بإخراجها خارج أسوار فاس حيث تم عرضها للمرة الأولى والأخيرة .

لكني حاليا اشتغل على تنسيق عمل مسرحي شعري لشاعرات عربيات مجيدات يشتغل عليه باحترافية كبيرة الدكتور إدريس الذهبي مشكورا رفقة طلبة جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس .

السؤال السادس عشر: نالت فاطمة بوهراكة عدة جوائز وكتبت عنها العديد من المقالات والدراسات والشهادات وكتب منها: فاطمة تتكلم بصمت الصادر بإيران وكتاب فاطمة بوهراكة امرأة من ذهب طبع بالمغرب وحصدت عدة ألقاب منها: فاطمة بوهراكة = المرأة المؤسسة، وجمعت الآراء التي قيلت في حقك في كتاب شراع المحبة 2014 م ما هو الاسم أو الدرجة التي تطمحين الوصول إليها…؟

الجواب: في السابق كنت أطمح للوصول إلى منصب وزيرة الثقافة ظنا مني أن الكفاءة وحدها تقدم لنا هذا الحق الذي يخول لنا الاشتغال من خلاله على الحياة الثقافية الوطنية بشكل جيد وفق رؤية واضحة وعميقة لتقوية المشهد الثقافي بالبلد وبعدما أصبحت أكثر نضجا علمت أنه مجرد حلم بعيد المنال وعليه أشتغل حاليا في صمت وبطاقة إيجابية رغم سوداوية الحياة ..

السؤال السابع عشر: ما هي مشاريعك المستقبلية؟

الجواب: أشرفت على نهاية كتابي التوثيقي السابع: موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر بين سنوات 1950 و2020 م والذي يضم 1011 شاعرة من عالمنا العربي ليكون قيمة حقيقية للمشهد الشعري النسائي وطنيا وعربيا .

السؤال الثامن عشر: ألا توافقينني أن الشاعر أو الشاعرة يصل صوته إلى قلوب الجماهير والقراء عامة بمشاركاته في المهرجانات والفضاءات الثقافية هنا وهناك أكثر من الباحث والدكتور والأكاديمي؟

الجواب: الباحث أيضا يمكنه المشاركة في ملتقيات وطنية ودولية متخصصة في مجاله .لكن ملتقيات الشعر تبقى الأكثر حضورا على ارض الواقع وعبر المنصات الاجتماعية . وأعتقد أن الغاية ليست هي كثرة المشاركات بل نتيجة هذه الأعمال وعددها بالإضافة إلى تأثيراتها حاضرا ومستقبلا .

السؤال التاسع عشر: ما هي نصيحتك لجيل اليوم عامة وللشاعرات بصفتك شاعرة معاصرة وصوت أنثوي خاصة؟ .

الجواب: علينا أن نشتغل أكثر على ذواتنا وأن ننصت للغير بشكل أكبر قبل أن نعمل على المجازفة وإظهار العمل في أي مجال أدبي أو علمي فالمهم هو أن تنمو تجربتنا بشكلها الطبيعي لا بولادة قيسرية .

سؤال: نرى أن البعض قد استطاع الظهور والنجاح دون أي دعم مادي للمؤسسات الثقافية فما تحليلك لهذا الأمر؟:

الجواب: العزيمة وحدها من تصنع المشاريع الكبرى والمال تابعا لها قد يقويها ولكنه لا يطمسها ومن هنا أقترح على رؤساء المؤسسات الثقافية بالعالم العربي أن يكونوا أكثر ذكاء ويعملون على ضم مثل هذه الكفاءات المؤمنة بمشاريعها بدل تهميشها لأن هذا التهميش لن يبق مدى الدهر أكيد يغيب صاحب المنصب المحارب وتبقى الأعمال الشاهقة .

شكرا جزيلا الأستاذة الباحثة الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة على رحابة صدرك في تقبّل مساءلتك التي أردت بها التقرّب منك كمبدعة وكفاطمة بوهراكة المرأة والإنسان المكافح الناشط عربيا ودوليا في حقل الثقافة عامة والشعر خاصة.. على أمل اللقاء بك قريبا في تونس لتكريمك والاستمتاع بشهاداتك حول الشعر النسائي العربي المعاصر..

 

حاورتها الأديبة سونيا عبد اللطيف

تونس 2021

 

2378 محمد النابتالكلام عن الشاعر المغربي محمد النابت

"محمد النابت من مواليد مدينة زايو إقليم الناظور، شاعر عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو مؤسس لجمعية أصدقاء الشعر، عضو الصالون الأدبي التابع لمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة حاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية بجامعة محمد الأول بوجدة. حاز جائزة الشعراء الشباب لاتحاد كتاب المغرب والمديرية الجهوية للثقافة بوجدة سنة 2012. وجائزة القلم الذهبي الوطنية سنة 2014،وجائزة حسان في مدح خير الأنام سنة 2015 وجائزة الصالون الأدبي الوطنية سنة 2016 شارك في مجموعة "أنداء تنيسان" الجماعية 2016، وديوان "تنطفئ الأيقونات لكنها لا تموت" سنة 2020، ووردت نصوصه في موسوعات شعرية منها "موسوعة الشعراء الألف التاريخية". كما شارك في مجموعة من الملتقيات الوطنية والبرامج الإذاعية."

محمد النابت في كلام أثير، كونوا معنا .

س- ورطة، نُسجت لك عمداً، أو نسجتها الأيام لك، وكيف تخلصت منها؟

-  الحجر الصحي، بالنسبة لي كانت بمثابة موجّه لي -

ج- كل ورطة تخلصت منها فهي درس مهم في الحياة لا تقدمه المدارس والمناهج التعليمية، أما آخر ما عشناه جميعا فكان ورطة الحجر الصحي، بالنسبة لي كانت بمثابة موجّه لي في كل ما تبقى من حياتي، فالمعروف أن الانسان لا يفرغ من وتيرة الحياة المتسارع ولا يحصل له الفراغ التام إلا عندما يعجز، وينتهي به العمر على كرسيه المتحرك إن أطال الله في عمره، فكان طارئ الحجر الصحي بمثابة درس تطبيقي لما سيؤول إليه الأمر إذا تقدم بنا العمر، فشخصيّا وجدت أن لا شيء يسلي ويذهب ضيق الوحدة مثل التعلم والبحث وقراءة كل شيء كتب، خاصة السّير وأخبار السابقين، وهذا جعلني أدرك أني إذا عجزت عن السفر والاستمتاع بالحياة في الخارج فإن هناك حياة موازية لا تقل متعة بين دفتي الكتب، وفي أحضان المكتبة.

س- هل حصل أن استيقظت، صباح يوم ما، وأنت تنظر في المرآة، فمددت لنفسك لسانك ساخراً من خطأ ارتكبته؟

- "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"-

ج - عدد الأخطاء التي أرتكبها مع الأيام أكبر من أحصيها ساخرا، لكن لا أخفيك سرّا أني  أذاكر أخطائي وزلاتي قبل أن أنام، أما فترة الصباح فهي مقدسة عندي وكثيرا ما أحاول أن أبدأ كأني شخص جديد، وكأنها ولادة جديدة، بل وهذه هي الفلسفة التي علمتنا إياها أذكار الصباح "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".

س‌- أسوأ تعليق عما تكتب، أو رأي غريب وطريف، عنك، سواء سمعته مباشـرة، أو كُتب عنك في تدوينة،أو مقال،أو حوار؟

-  أنا لمن أشهد بداياتك، لكنك ولدتَ شامخاً -

ج- حقيقة أسوأ تعليق عما كتبت كان في أول بداية لي حرفيا، عندما فزت بالمرتبة الأولى في جائزة للشعراء الشباب على المستوى الجهوى، فوجدت مقالا في اليوم الموالي يسخر من تسليم الجائزة لشاعر يكتب العمودي، في إشارة إلى أن شعر التفعيلة أو النثر أولى، وأقول هنا أسوأ تعليق ليس لأن كاتب المقال جرح مشاعري، أو أنني استأت من هذا النقد، بل لأنه الرأي الوحيد الذي على الأقل أشار إلي بشكل سلبي ربما، أما الآراء المشجعة فما أكثرها، وكان آخرها من العلامة الشاعر حسن الأمراني حفظه الله وقد خاطبني بعد إحدى الأمسيات قائلا :"أنا لم أشهد بداياتك، لكنك ولدت شامخا".

س‌- ما هو القرار الذي اتخذته بعد تفكير عميق، أو بعجالة، فندمت عليه ندماً شديداً؟

ج- أنا على استعداد لتقبل كل خيبة آتية -

كثيرة هي قراراتي الخاطئة وأكثر منها أخطائي، لكني لا أندم على أي منها، لأني أعتقد أن كل خطأ وكل فرصة ضيعتها، هي التي جعلت مني هذا الشخص الحريص على التطور، والقابل للتغيير، والمنفتح على النصح، فعلا أخطأت وخاب أملي مرات عديدة، وأنا على استعداد لتقبل كل خيبة آتية.

س‌- سر  تكشفه، لأول مرة؟

- أتحرج بشدة عندما أدعى لأي لقاء صحفي أو نقدي أو غير ذلك، فيطلب مني أن أقول شيئا آخر غير الشعر -

إن كان سرا فيجب ألا يقال، أما السرّ الذي لا يعرفه أحد وأريد أن يعرفه الجميع هو أنني أتحرج بشدة عندما أدعى لأي لقاء صحفي أو نقدي أو غير ذلك، فيطلب مني أن أقول شيئا آخر غير الشعر، وأنا زادي قليل، وتربتي محدودة، ومسيرتي في أولها، فأشعر بالخجل الشديد، وأشعر أني أخوض فيما ليس لي به شأن، وأحاول جاهدا حتى في الأمسيات الشعرية أن لا أنطق إلا بالتحية ثم أبدأ في إلقاء الشعر.

س‌- كلمة استثنائية منك.

ج - بل هي القاعدة وكل ما قلته من قبل استثناء، تقبل تحيتي الصادقة أخي المبدع ميمون حرش، وشكراً لأنك فكرت أني أستحق أن أكون من ضيوفك ولو كان رأيي معاكسا لذاك، كما أحيي كل من سيمر من هنا، ووقعت حروفه على هذه الدردشة الحميمة بيننا، أسعدكم الله وأسعد بكم أحبابكم، وجعلكم مباركين أينما كنتم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

سلسلة "كلمني عن" الجزء الثاني_

الحلقة الثالثة – إعداد ميمون حرش

 

 

اتساع المشهد الثقافي الموصلي بعد التحرير...

يولد الإبداع من أنين المعاناة ولعنات الحروب، ولايقتصر على فئة أو أخرى، من حقبة الظلام وركام المنازل المدمرة والتشريد، استطاعت الكاتبة والروائية الموصلية علياء عبد الباري الحاصلة على شهادة البكالوريوس من كلية الهندسة جامعة الموصل، من اصدار مجموعة قصصية بعنوان (العلياء) عام 2018 وتلتها رواية بعنوان (لعنة اسراء) عام 2021.

2374 علياء عبد الباري 3

* البدايات دائماً تبهر الكل سواء كتّاب او أناس عاديون. حديثنا عن بداياتكِ؟

** بداياتي كانت منذ الطفولة حيث اني اتمتع بخيال صاخب والقابلية على تأليف السيناريوهات، فقد تكون مجرد جملة قالتها معلمتي او مجرد رسمه صغيرة على حائط احدي البيانات تثير مشاعري وتلهب حواسي وتحفزني للكتابة.

كنت حريصة على أن يكون لي دفتر مذكرات وأكتب فيه مختلف المواقف والمشاهد الحقيقية التي حصلت لي او لغيري حتى تطور الأمر في أن أمزج ما بين الواقع والخيال والقدرة على السرد في صفحات متعاقبة حتى صقلت موهبتي بالقراءة في مختلف العلوم حتى تكون لكتاباتي رسالة عميقة مفيدة للقارئ، الى ان وصلت مرحلة التأليف والنشر.

* بمن تأثرتِ من الأدباء في بداياتكِ؟

** تأثرت بالمفكر والأديب اللبناني "ميخائيل نعيمة" والكاتبة السورية غادة السمان اضافة الي الدكتور مصطفى محمود والدكتور علي الوردي والكاتب البرازيلي باولو كايلو .

* لكل كاتب قضية يحاول الوصول اليها من خلال نتاجاته؟ فما هي قضيتك ِالأولى؟

** تبنيت في كتاباتي مختلف القضايا، فمجموعتي القصصية (العلياء) تحتوي على ثمان قصص لكل قصة تتبنى قضايا منها قضية عمالة الاطفال في قصة "النجم الثاقب" وضحايا الحرب في قصة "الخوف من المطر" وقيمة الثقة بالنفس وتقبل الذات في قصة "البنت المتذمرة والبالونات" وقصة "اليرقة الخضراء " و"ملكة جمال" وقضية مساعدة الفقراء والمحتاجين في قصة "ندى والفئران" وقيم اخرى كالصبر والاجتهاد في قصتي "بائع المصابيح" و"الباب السحري".

أما في رواية لعنة اسراء فالأمر مختلف فكانت تجسيداً لقضايا الوطن وركزت على الوحدة والترابط بين أبناء الشعب وقضايا الخير والشر والحب اضافة كنت فيها كالمؤرخة الحقبة الزمنية ما بين 2003 الى 2017 بعد التحرير من تنظيم داعش فالبعض عندما سيقرأها خصوصاً القارئ العراقي سيتذكر معي مراحل وأمور كثيرة مماثلة حصلت في حياته وسيشعر بشخصيات الرواية!.

2374 علياء عبد الباري 1

* الكتابة عالم فيه من التشويق والآثار والمتعة، كيف يمكن للكاتب ان يجعل القارئ يبحر في هذا العالم؟

** أعتقد أن هذا يعتمد على أسلوب الكاتب في الكتابة وكيف يمكن أن يوصل أفكاره للقارئ، وكلما كان أسلوب الكاتب حقيقي غير متصنع وغير مقلد لغيره من الكتاب ممكن أن يجعل القارئ يشعر بالتشويق وسيتأثر بكتاباته، اضافة الى الثقة بالنفس والقدرة على اتقان المحاورة والمناورة بين شخصيات الرواية بمهارة وفن والتحدي والاستمرار، عن نفسي عندما أكتب أكتب من كل قلبي حيث أستطيع أن انقل المشاعر الإنسانية المختلفة للقارئ ففي نفس الرواية سيشعر بالحب والكراهية واليأس والأمل وغيرها من المشاعر.

أغلب القراء أخبروني أن مجموعتي القصصية (العلياء) ورواية (لعنة إسراء) تحمل افكار جديدة لم يسبق لهم أن وجودها في أي عمل ادبي أخر.

* في عام 2018 صدرت مجموعتك القصصية الأولى (العلياء)، ماذا أرادت ان تقول علياء عبد الباري عبر مجموعتها؟

** مجموعتي القصصية كانت تجربتي الاولى في عالم النشر، تحتوي المجموعة ثمان قصص كل قصة تقول رسالة مختلفة ففي قصة "بائع المصابيح "نجدها تحث الشباب على الابداع والصبر من أجل التميز في اعمالهم، اما في قصة "اليرقة الخضراء "و"البنت المتذمرة والبالونات" و"ملكة جمال "توضح اهمية الجمال الداخلي والثقة بالنفس بأسلوب خيالي ابداعي، اما قصة "الباب السحري "فهي قصة نابعه من الخيال تجعل القارئ يسافر عبر سطورها الى عالم ثان واحداث شيقة، اما قصة "النجم الثاقب "و"الخوف من المطر" ففيها رسالة أمل للأطفال الذين فقدوا احباءهم واجبرتهم الحروب والارهاب على ترك الدراسة وشردوا ودمرت مدنهم، أما قصة "ندى والفئران "فهي قصة طريفة وخيالية توضح وراء كل شيء يحصل رسائل ربانية خفيه.

2374 علياء عبد الباري 2

* أيهما الأقرب إليكِ القصة ام الرواية ولماذا؟

** القصة القصيرة، لأننا في عصر السرعة وعالمنا يركض مسرعاً في اتجاهات مختلفة، وهناك أسرار كثيرة في هذا العالم والاحداث المتسارعة فيه فمن الرائع تجسيد كل حدث بقصة قصيرة مع رسائل جوهرية.

* ترفض الكاتبة المصرية إيمان البكري فكرة أن الكتابة كانت ذكورية في الأساس، برأيك ما الذي اضافته المرأة الكاتبة للمجتمع في كتاباتها؟

** أعتقد أن المرأة والرجل وتران لسمفونية واحده وكلاهما يكملان الاخر في عالم الكتابة والثقافة، المرأة الكاتبة ممكن تضيف للمجتمع الجمال والحب والرحمة والصبر عندما تتحدث عن قضايا الوطن والمجتمع والوجود.

* (لعنة اسراء) الرواية التي صدرت في عام 2021، إلى أين تأخذنا هذه الرواية، وهل هي وليدت الحروب والدمار؟

** فكرة رواية (لعنة إسراء) كيف ممكن ان يتحول الظلم الذي يتعرض له الانسان الى لعنة تلاحق الظالمين وفيها خيال خصب قد يأخذكم الى الميتافيزيقية والواقعية، كانت أوراقها بمثابة مساحة لسرد الذكريات والصدمات لشخصيات مختلفة حتى نظمت في فصول ابتدأت بالبصرة وصولاً الى نينوى ومن تاريخ 2003 م الى 2017 م سيعيش معها القارئ الموت والقتل والتعذيب والحب والفرح والأمل والعدالة والظلم.

* ماذا عن الموصل ومشهدها الثقافي بعد تحريرها؟ وهل اتساع المشهد الثقافي المرأة الموصلية واتاح وسائل الدعم والمشاركة؟.

** الموصل تشهد تطور ثقافي متجدد وواسع بعد التحرير، حيث كثرت منتديات القراءة واقبال الناس لاقتناء الكتب والكتابة، فبعد سنوات ظلام جاء التنوير بالثقافة.

سأتحدث لك عن اتساع المشهد الثقافي للمرأة العراقية بصورة عامة، هناك العديد من الاقلام الشابة العراقية التي تنتج اعمال ادبية رائعة سواء تتعلق بالشعر والخواطر او فن القصة القصيرة والرواية التي اقف احياناً عندها مذهولة من روعة سردها وابجديتها المنتظمة.

* الكاتب او الشاعر مترجم الكلمات، ماذا تترجم علياء عبد الباري هذه الكلمات (الايام، الام، الموصل، ألم، الفراق، الكتابة)

الايام : هي مساحتنا لعيش ادوارنا المختلفة في هذهِ الحياة.

الام: هي مصدر طاقتي الايجابية ومعلمتي الاولى لكيف اعيش بسلام بهذا العالم المعقد!

الموصل: سأكون صريحة معك بالرغم من اني ولدت في البصرة وزرت وعشت في مدن مختلفة حتى استقريت بالموصل. الراحة التي اشعر بها عند دخولي لحدود مدينة الموصل لا يمكن وصفها اعتقد السبب ان للموصل سحراً واسراراً تجعلها مختلفة وغير قابلة للترجمة!.

ألم: هو ذلك الصوت الذي يجعلني أستيقظ من عالم الوهم لأكون أكثر قوة!

الفراق: كابوس واسوء ما يمكن ان يوجهنا بهذه الحياة !

الكتابة: وسيلة للوصول الى حالة النقاء والسلام الداخلي وترجمة افكاري ونقلها للعالم.

 

حاورها: عمرالصالح

 

2365 نبيل ياسين 2هذه الأسئلة يوجهها الأستاذ الدكتور نابي بوعلي (استاذ فلسفة جامعة مصطفى اسطمبولي، معسكر،الجزائر) الى د. نبيل ياسين

س - ماهي الأسباب التي دفعتكم للأهمام بفلسفة الأخلاق؟ ومن هي المذاهب والنظريات الأخلاقية التي أثرت في تفكيركم سواء الاتفاق معها او نقدها، اقصد مثل مذهب المنفعة، أخلاق الواجب، مذهب التطورية الأخلاقية، مذهب النسبية في الأخلاق، المذهب البرغماتية، وهكذا...؟

ج- فلسفة الأخلاق موضوع تم اغفاله في عالمنا العربي. وحتى لو عدنا الى تراثنا العربي والإسلامي سنجد ان موضوع الاخلاق قد توقف باغلاق باب الفلسفة بحجج دينية منذ عصر الوزير السلجوقي نظام الملك. وحتى على المستوى الديني فان الاخلاق والعدالة والحق لم تبحث بالمستوى المطلوب. وما تفضلت به من ذكر المذاهب والنظريات الأخلاقية هي جهود غربية ماتزال معزولة عن واقعنا العربي والإسلامي. فمن يبحث اليوم، من الباحثين الإسلاميين، أخلاق الواجب، باعتبارها جزء من نظرية الأوامر الإلهية على الأقل.

الاهتمام بفلسفة الأخلاق يقتصر على الأقسام الفلسفية في الجامعات باعتبارها درساً. ونادرا ما قدم لنا هذا الدرس تيارا مهتما بفلسفة الاخلاق، او انتج تطويرا لفلسفة الاخلاق بعيدا عن شرحها وشرح ما قدمه الفلاسفة الغربيون. ولكن لا يمكن الاهتمام بفلسفة الأخلاق بمعزل عن الفلسفة نفسها، الفلسفة التي يفتقر اليها عالمنا العربي والإسلامي على صعيد ترابطها مع شبكة منظمة ومتواصلة مع التطور الإنساني سواء في النظام السياسي الحديث او في المبادئ الليبرالية او في القوانين الأخلاقية التي تحقق المساواة والعدالة والتسامح الديني والتعايش الاثني بعيدا عن (الفرضيات) الدينية والايديولوجية التي تروج لمثل هذه المبادئ دون ان تحققها.

لا استطع ان انتمي لمذهب محدد او نظرية بذاتها لسبب بسيط جدا وهي انني باحث في فلسفة الأخلاق. كما انني لا أحبذ الإنتقائية والميل الى أفكار محددة او نظريات، وانما أسعى لمعرفة ظواهر الوجود بما في ذلك الوجود الغيبي الذي اوجدته الفلسفة في تاريخها لما اسمته الميتافيزيقا. ان الاخلاق الميتافيزيقية ليست نقيضا للأخلاق الطبيعية من حيث كونهما افتراضا، وانما تتحدد الفروق بما بعد هذا التصنيف قدر تعلق كل من الاخلاق الميتافيزيقية والأخلاق الطبيعية بالحقوق وموقع الفرد في كل منها، إما باعتباره فردا مستقلا يملك الارادة او فردا يتطوع في سياق الأيمان بواجب الخضوع لإرادة خارجية.

هذا يتعلق أيضا بالدين باعتباره ملزما لفرض الأوامر الإلهية التي يعطي ضرورة بسطها لسلطة مشتركة من السلطة السياسية وسلطة رجال الدين، لنصل الى مفهوم للدولة مرتبط بهذه الأوامر بغض النظر عن جوهر الفضيلة والخير.

ينطلق ارسطو من مفهوم الخير ويعتبر الدولة اجتماعا خيـرا او اجتماعا من اجل الخير

(كل دولة هي بالبديهة اجتماع، وكل اجتماع لا يتألف الا لخير مادام الناس، أيا كانوا، لايعملون ابدا شيئا الا وهم يقصدون الى ما يظهر انه خير، فبين إذن ان كل الاجتماعات ترمي الى خير من نوع ما) (ارسطو، السياسة، ترجمة احمد لطفي السيد، المركز العربي للابحاث، الطبعة الاولى للمركز ٢٠١٦ صفحةً١٣٥).

في هذه الحالة تنطلق الدولة من الفضيلة، وهذا افتراض لأن الخير في الدولة، على الصيد الواقعي. قليل او معدوم. هكذا نتوصل الى إن الاخلاق افتراض يسعى الى الخير ويفترض الالتزام بهذا الافتراض من اجل ان يعم الخير وبالتالي ان تتقلص الى اقصى حد الشرور والآثام.

س ـ هل تنكرون أم تؤيدون أن هناك معرفة أخلاقية موضوعية، وإذا كان الأمر هكذا ما هو تبرير ذلك أوما هو ردكم على من ينكرها أو يؤيدها؟

ج- الأخلاق فعل. ولكن هذا الفعل ليس إلزاميا. انه سلوك طوعي طبيعي للفرد يتناسب مع العرف الاجتماعي السائد عن الأخلاق باعتبارها خيرا وفضيلة لصالح ضمان تفوق الخير على الشر. لكن ذلك الفعل يحثنا على التساؤل المشروع عن ميزان قوى الخير مقابل ميزان قوى الشر. إذ يبدو، من خلال تأثير الأخلاق على الواقع البشري إن الأخلاق كانت وماتزال حالة دفاع ضد قوة الشر السائدة في الحياة. سواء في مؤسسات الدولة أو في مؤسسات المجتمع.هذا، ربما يجعلنا نعتقد ان هناك معرفة أخلاقية موضوعية بما في ذلك تقييم اخلاق المنفعة.

الوظيفة الأساسية للأخلاق هي فعل الخير كذلك؟ أي ان تكون الدولة أخلاقية، لا تنتج القيم الأخلاقية، وإنما تلتزم بها وتحرص على ان تكون سياستها ضمن الخير الأخلاقي. لكن ما هو الخير بحد ذاته أيضا؟ هل هو كل مظهر او فعل مقبول من اغلبية الناس، باعتباره يعود عليهم بالفائدة؟ فهل تكتسب الأخلاق مشروعيتها من إجماع إجتماعي، يشبه ما نطلق عليه العقد الإجتماعي المختلف عن عقد روسو؟

لماذا نبدأ بالدولة ونحن نتحدث عن الاخلاق؟ لأن الدولة نتاج تجمع بشري، وهذا التجمع او الاجتماع يكشف لنا طبيعة التوظيف الأخلاقي بشكل أوضح. فالمجتمع، في هذه الحالة، هو الذي يعطي الأوامر الأخلاقية. ولذلك فان العقد الاجتماعي هو عقد أخلاقي ملزم. وروسو حين يصف التحول من دولة الطبيعة الى الدولة المدنية بانه علامة بارزة على التحول في الانسان (jean -Jacques Rousseau. On The Social Contract.Dover Thrift editions.2003.p12) فإنه يفترض ان الخروج من حالة الطبيعة هو خروج الى أخلاق مرتبطة بالعقد، أي مرتبطة بالتاريخ الملازم لتحول الانسان. لكن التاريخ اذا كان ثابتا ويسير على هيئته المستقرة فان الاخلاق تصبح خارج التاريخ، وبالتالي لا يمكن ان ترتبط بالدولة لان الدولة، باعتبارها تجربة تاريخية ثابتة لم ترتبط بالأخلاق، فالتاريخ باعتباره محركا للحاضر لا يتطلب حضور الأخلاق، لأنه كان لا يملك فلسفة أخلاقية.

لكن ما هو معيار التمييز بين الخير والشر في الأخلاق؟ هل هو العقل أم الأوامر الإلهية التي توجه نحو الخير؟ هل الاخلاق (عدوى) على حد تعبير نيتشه (نيتشه. جينالوجيا الاخلاق. ص ٨٤) وان هناك (فعل) لبث عدوى الاخلاق؟ بمعنى أن هذه العدوى هي فعل توافقي مشترك لعقد بين الناس لفعل ما هو خير قدر ارتباط الأخلاق بالخير. ان (العيب) هو نقيض الأخلاق

في هجائية نيتشه المسماة (جينالوجيا الأخلاق) لا يصف الأخلاق الا بكونها (كل ما احتفي به على الأرض بوصفه أخلاقا)(ص٣٣). ورغم تهكم نيتشه فالأخلاق هي الاحتفاء بالخير باعتباره عقدا مشتركا بين الناس وبين مجتمعهم.وهو يميز بين حكمين مسبقين: الحكم المسبق اللاهوتي، والحكم المسبق الأخلاقي (ص٣٤). وبمان الحكمين سابقين للإطلاق على السلوك الإنساني المرتبط بقيم مسبقة فانهما حكمان افتراضيان، نبعا من اتفاق افتراضي عن (منظومة) معيارية.

س ـ هل تعتقد أن مشكلة المعيارية ستُحل إذا تمكنا من إيجاد مبادئ تفسر حقيقة وحال أحكامنا التي تعبرعن أفكار مهمة من الناحية الأخلاقية. ولكن ماذا لو فشلت المبادئ التي تفسر بشكل أفضل حقيقة وحال أحكامنا في تجسيد الأفكار المهمة من الناحية الأخلاقية؟

ج- بما ان المعيارية ليست مطلقة، وفي بعض الأحيان فإن المعيارية اذا ما تعلقت بأخلاق المنفعة، فإنها لا يمكن ان تقيس لنا مدى الشرعية الاخلاقية التي ترافق الحرب والغزو والاحتلال. والمعيارية هنا هي قاعدة تبريرية، وهذه القاعدة تقوم عليها (مبادئ العنف) اذا جاز لنا هذا الاستخدام. ليست الأديان وحدها ما تتحمل المنطقية المعيارية، فالأنسان يشن الحرب ثم يقوم بالسبي والقتل والاغتصاب واباحة ما نعتبره اخلاقا خيرة وعامة، اي الاخلاق التي احتفينا بها كأخلاق بتعبير نيتشة او كأخلاق باعتبارها امرا إلهيا. وفكرة نيتشة واقعية وهي تحيل الى أنساب الاخلاق، باعتبارها صناعة انسانية، او عقد بين افراد المجتمع للإتفاق على منظومة معيارية. ومن هذا الاتفاق تنشأ مشكلة المعيارية. اما الأخلاق في الدين فتحصل على معيارية مزدوجة، فما هو احتفاء دنيوي بالأخلاق يتحول الى احتفاء ديني. وتتحول الأخلاق من معيارية خيرية فضائلية الى معيارية تجارية.وموضوع الاستعباد او الاسترقاق وبيع الانسان الحر كعبد لقاء المال لا يجد استهجانا او تحريما دينيا تبريرا لهذه المعيارية.

تنطوي العدالة في المنظومة الاخلاقية باعتبارها خيرا يحقق المساواة ويحفظ الحقوق. وبذلك تدخل الاخلاق، من هذا الجانب، في مقاصد الشريعة. لكن ما نراه هو العكس، فما هو موقع المعيارية في هذا الشأن؟ فالشريعة في هذه الحالة تتحول الى معيار فضفاض. فالمقاصد موجودة بمعيار الشريعة ولكنها ليست موجودة كمبادئ قادرة على حل شرعية واخلاقية احكامنا.

يحفظ لنا تاريخ الاسلام ورقتين مهمتين سميتا محنة القضاء في الإسلام. الأولى في العهد الاموي حين رفض كثير من المثقفين المسلمين تولي القضاء للأمويين باعتبارهم يمثلون سلطة غاشمة لا تحترم استقلال القضاء وتتدخل فيه، منهم سفيان الثوري والحسن البصري وإياس بن معاوية وعامر الشعبي وغيرهم. والثانية في زمن مزدهر هو العهد العباسي حين تعرض القضاة، بسبب الفكر الإعتزالي، الى ان يقبلوا شرط المعتزلة، الذين تبنى المأمون افكارهم، بالإيمان بخلق القرآن. فأين دور المبادئ القادرة على تحسين أفعالنا او دور المعيارية في تحسين العدالة واستقلال القضاء؟

فحين نقول عن فعل ما انه عمل انساني فنعني انه عمل أخلاقي. وحين نقول لا انساني نعني انه لا أخلاقي. وبذلك نحيل الاخلاق الى الطبيعة الإنسانية. فالإنسان مصدر الاخلاق الطبيعية.

هنا نعثر على (معيار). فالأخلاق معيارية (ثابتة عند الغزالي). فلا يمكن ان يرتبط الشرف بالطغيان، ولا يمكن ان يرتبط الانسان النبيل بالسرقة والاستيلاء على حقوق الاخرين ولا بالتمييز والعنصرية وممارسة عدم المساواة بأي شكل. فمن الاخلاق ومن العدالة معا احترام الهويات رغم أهمية اندماج المهاجرين مثلا في المجتمعات التي هاجروا اليها. وهناك انشغال بهذا الشأن من قبل المفكرين المعنيين بسياسات الاختلاف

(Brian Barry. Culture &Equality.. Polity.Cambridge-Oxford 1998.P77)

ليس هناك تجزئة بين عناصر المنظومة الأخلاقية في الفكر الليبرالي المعاصر. انها منظومة مترابطة إلزامية للنظام السياسي بالدرجة الأولى، باعتباره مسؤولا عن الالتزام بالعقد الاجتماعي. وفي الوقت الذي ماتزال (الاحكام) الدينية تمارس التمييز في المجتمعات الدينية الإسلامية، مثل حكم (الذمي) و(الردة) وزواج القاصر، فان الاخلاق الدينية نزلت الى الحضيض تجاه الكرامة والحرية والاعتبار الإنساني وانعدام العدالة والمساواة وممارسة التمييز والاحتفاظ بأشكال مختلفة من العبودية والقهر وتعظيم وتمجيد الاستبداد والدكتاتورية بمختلف مصادرها العائلية والعشائرية والعصبوية المدنية والعسكرية والحزبية وتصرف الزمر بمختلف أنواعها بالقانون وفق مصالحها اطماعها وأهوائها..

س ـ كيف يبدو لكم سؤال الأخلاق في عالمنا اليوم؟

ج- اعتقد ان سؤال الأخلاق سؤال أنطولوجي اذا صح التعبير. لنأخذ ورطة آدم في السردية الدينية ودلالتها الأخلاقية.. اراد آدم ان يصنع بشرية وأن يواصل النمو البشري فوقع في المحظور الأخلاقي. فقد كانت البشرية مكونة من آدم وحواء وابنائهما، ذكورا وإناثا. يخبرنا الفقهاء، وليس القرآن، انه زوّج ابناءه وبناته من بُطُون مختلفة. بمعنى انه زوج الإبن من البطن الأولى للبنت من البطن الثانية، وهكذا. اي انه جعل فارقا زمنيا لا غير. ويكون الزمن بهذا التسلسل قد حل الورطة الأخلاقية بسبب الضرورة. ومعيارية آدم هذا انتفت الحاجة لها فيما بعد. لكننا لا نعرف على وجه الدقة، وفق نظريات الأنثربولوجيا، ما اذا كان زواج الاخوة قائما قبل التاريخ الأمومي؟ فاذا كانت البشرية بحاجة الى أخلاق فان المزاج النفسي في هذه الحالة قد لعب الدور الحاسم، اي الشعور النفسي بانه ليس هناك انتهاك، أو فعل لا أخلاقي. اي ان الأخلاق الآدمية هي للتخلص من الشعور بالذنب الناتج عن الدنس. اي فعل الفضيلة. ومن جهة اخرى، نعلم، من السردية الدينية ذاتها، إن آدم قام بانتهاك الوصية الإلهة، او الأمر الإلهي، وارتكب معصية. اي انه لم يلتزم بالأوامر الالهية ونواهيها، انه انتهك الجانب الأخلاقي. وبموجب هذا الانتهاك استحق العقوبة. فالأخلاق من ناحية، شعور بالراحة النفسية لعدم الشعور بالذنب، ومن الناحية الأخرى فان العقوبة هي تكريس الشعور بالذنب.

يبدو اننا نعيش ورطة آدم اليوم. وعلينا ان نجتهد لخلق معيارية من نوع ما. فنحن ورثنا معيارية الاستبداد باعتباره أساس الحكم، وباعتباره الذي يحقق مقاصد الشريعة. فكيف نجمع معيارية الاستبداد ومعيارية الاخلاق ونحن نتحدث عن ضرورة الدخول في الحداثة التي وضعت الاخلاق في وظيفة ضميرية وقانونية. أي ان الحداثة جمعت بين الطوعية الاخلاقية والالزامية الاخلاقية. وفي الحالين تربط الحداثة بين الأخلاق والقانون. سواء كان القانون الطبيعي او القانون الوضعي.اذ يذهب عدد من فقهاء القانون الى ان القانون مجموعة من النصوص المتعلقة بسلوك الانسان والتي يفرضها الله او الطبيعة، وان الهيئات البشرية التي تضع القواعد المعينة وتنفذها ينبغي ان تقترب من الأسس الأزلية والثابتة عن الخير والشر (اوستن رني. سياسة الحكم. ترجمة د. حسن علي الذنون. المكتبة الاهلة. بغداد ١٩٦٦. ج٢ ص٢٠٧).

ولذلك تضمن الدستور الأمريكي في ديباجته الحرية باعتبارها هبة إلهية. أي معطى أخلاقي لا يجوز انتهاكه دنيويا. الحرية جوهر أخلاقي. وبهذا يكون انتهاكها فعلا لا أخلاقيا. يدفعنا هذا التفكير الى أهمية الأخلاق ومكانتها الجوهرية في عصرنا باعتبارها (معيارا) لحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والإقتصادية. فصكوك فيينا الخاصة بهذا الشأن والصادرة عام ١٩٦٦ ملزمة أخلاقيا للجميع. لكن هذا الإلزام كان في ذهن المشرع وفي فكره وتفكيره، ولكننا لم نشهد مرحلة، خاصة خارج حداثة الغرب، قد التزمت بالمسؤولية الأخلاقية، بما في ذلك توفير المستلزمات الأساسية للعيش مثل الطعام، وللطفال، بشكل خاص، في زمن السلم فكيف بتوفيرها في زمن الحرب؟

ان مكانة الأخلاق في عصرنا متدهورة. هي موجودة في النصوص ولكن ليست هناك ضمانات متوفرة لتحقيقها وتطبيقها. فلا يكفي النص في القانون (والقانون هنا بمثابة الأخلاق) على الحق دون ان تتوفر الضمانات اللازمة لتحقيق القانون، مثل سيادة القانون واستقلال وعدالة القضاء، والأيمان بالتعددية والتسامح وقوة الرأي العام وسلطته وقوة المجتمع المدني بدون هيمنة المجتمع السياسي على نشاطاته كما يحدث في عدد من تجاربنا العربية. فمجال المجتمع المدني ضرورة قصوى لجعل المجتمع السياسي ملتزما بالقانون والأخلاق.

أليست صفات الاخلاق هي صفات القانون أيضا؟ ولكن ماذا يعني ذلك؟ ان علينا دراسة الاخلاق والتخصص بها مثل دراسة القانون والتخصص به. فنحن مازلنا، على كثرة من درسوا القانون وتخصصوا به نفتقر الى العدالة. مثلما نفتقر الى الأخلاق.

2365 نبيل ياسين

س - لماذا لا يزال الإنسان يعاني من المآسي بالرغم من كل هذا الإرث الأخلاقي الذي خلفه التاريخالبشري؟

ج- في دراسة سابقة لي عن التاريخ والفرد تبحث في هيمنة التاريخ، بما يمكن ان اسميه The Hegemony of History بمفهوم الهيمنة الغرامشي والذي تبناه فوكو حول الهيمنة الأيديولوجية في اجهزة الدولة الأيديولوجية، فأننا، في المنطقة التي تعيش خارج الحداثة، مازلنا نعيش في التاريخ. ونعاني من القدسية التي يتمتع بها التاريخ. فالتاريخ لا يتركنا ويهيمن على وجودنا، بحيث يتم محاكمتنا وتصنيفنا وفق منطق التاريخ. ان احد اهم أسباب رفض الحداثة، بما فيها النظام السياسي، الديمقراطي والعلماني، هو التاريخ. وخاصة تاريخ الخلافة الذي كرس نفسه في النظام السياسي العربي الحديث من خلال شخصية الخليفة المتسلطة والاستبدادية والمتفردة والذي يملك، دينيا وسياسيا، حق السلطة التنفيذية وحق السلطة التشريعية معا. وهذا مجسد في نظام الطغمة الحزبية والعشائرية والعائلية والعسكرية، وهذا، بذوره، كرس ما اسميه (الأخلاق الطغيانية) في الحكم وامتدت الى العائلة والمجتمع الذي يملك سلطة الاخلاق الطغيانية في فرض الاخلاق.

ان موضوعية الأخلاق او ذاتيتها موضوع نسبي. لنأخذ امثلة واقعية وتاريخية. في اثينا كما يذكرمونتسكيو هناك اخلاق ذاتية فرضتها الأرستقراطية اليونانية. وفي عالمنا المعاصر، وبعد الحرب العالمية الاولى والثانية ظهرت مباديء القانون الدولي، وهو يعتبر قواعد أخلاقية بين الأمم والدول. في اتفاقيات جنيف لعام ١٩٤٩ وضعت قواعد أخلاقية، لنأخذ واحدة منها وهي اتفاقية الحق في مشاركة المصادر الطبيعية بين المتحاربين، ومنها حق الحصول على مياه الشرب. هذه الاتفاقية تنتمي للأخلاق الذاتية التي تطورت لتكون أخلاقا موضوعية. وقد ظهرت في معركة صفين حين استولى معاوية وجيشه على مصادر المياه في نهرالفرات لاستخدام التعطيش كسلاح إبادة جماعية ضد جيش الخليفة علي بن أبي طالب. وحين علم الخليفة بذلك طلب من أحد قواده، وهو مالك الأشتر، ان يقود خمسمائة من المقاتلين لإجلاء جيش معاوية عن مشرعة الفرات. وقد نجح الأشتر في اجلاء جيش معاوية وقرر حرمان الجيش الأموي من الماء، مستخدما سلاح الإبادة الجماعية نفسه الذي استخدمته الأخلاق الذاتية. ولكن الخليفة علي بن أبي طالب استخدم الأخلاق الذاتية كأخلاق موضوعية فقرر حق جيش معاوية في الحصول على المياه.

لكن هذا لا ينفي الموضوعية عن الأخلاق. فموضوعية الاخلاق قاعدة، وذاتية الاخلاق استثناء يحدث في مراحل معينة ولدوافع معينة لا تتصل بدوافع نيتشه عن القيمة الاخلاقية.

ولكن لا توجد في الحروب قيمة أخلاقية رغم التمجيد بالأبطال والمآثر العسكرية. فالحرب هي (بؤس)، وهذا البؤس ينتج عن انعدام الاخلاق وفقدان وظيفتها كرادع للشر.

إن هيجل مثلا، لم يكن يملك الشجاعة دائما مثل معظم رجالات عصره. لقد ارتضى أحيانا بالأوضاع القائمة آنذاك، ومثال ذلك الموضوع المتعلق باقطاعيات البكر Majorads والذي كان يرفضه مبدأيا، لكنه كان يقبله لأسباب ترتبط بالسياسة العليا، ولم يركز دائما على النقاط التي كانت تسبب له المضايقات والمشاكل من قبل وزارة العبادات (هيجل والدولة. آريك وايلي. المكتبة الهيجلية ١٣٣. ترجمة نخلة فريفر. ار التنوير. بيروت. الطبعة الثالثة ٢٠٠٧ ص١٩)

يقول توماس بين في كتابه (Rights of Man)، وهو من كلاسيكيات الحقوق المدنية وفلسفة حقوق الانسان منذ القرن الثامن عشر، وبين اشترك في الثورة الامريكية وفي حركة الاستقلال وفي تقديم المساعدات الامريكية للثورة الفرنسية (لقد رأيت في الحرب ما يكفي من البؤس بحيث صرت ارغب بان لا تجد الحرب اية امكانية للحدوث في العالم، وان يكون هناك اسلوب اخر لتسوية الاختلافات التي لابد ان تحدث بين مدة واخرى بين الامم).

يعتقد ارسطو ان الدولة هيبتها، وبذلك كون الدولة اخلاقا، ولكن متى كانت الدولة، على مر التاريخ، دولة اخلاقية؟ فتاريخ الاستبداد، وهو طابع غير اخلاقي، كان الممارسة الأكثر شيوعا للدولة في التاريخ،

دعنا نأخذ مصير اثنين من الفلاسفة فيما يتعلق بالأخلاق، ديكارت ونيتشه.

هل يتناسب الطغيان، بأساليبه المختلفة ومنها التخطيط للإغتيال مع الاخلاق باعتبارها السعي لوصول الإنسان الى الخير لتحقيق سعادته كما يعتقد اوغسطينوس مع كثير من فلاسفة الاخلاق، وبضمنهم المروجون لنظرية الأوامر الالهية؟

هل التقبيح والتحسين الأخلاقي من فعل البشر وإرادتهم وهم يقومون بها مع ايمانهم بالله وأوامره؟ رأينا كيف قام الفقهاء ورجال الدين المحيطون بالملكة كرستينا، ملكة السويد، بتدبير عدد من المكائد، وآخرها كانت خطة لقتل ديكارت بفعل الطبيعة،لا بفعل الإنسان المباشر. فقد طلبت الملكة من ديكارت ان يعطيها دروسا في الفلسفة. فدبر له الفقهاء، الذين يطلبون من المؤمنين اتباع الأوامر الإلهية والإبتعاد عن غوايات الدنيا،، مكيدة فحواها ان تكون الدروس في الساعة الخامسة صباحا وفي شتاء جليدي قاس جدا وفي قصر بعيد جدا عن مكان اقامته. فأصيب بذات الرئة ومات بعد تسعة أيام. (معجم الفلاسفة.. إعداد جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الأولى ١٩٨٧ص٢٧٥).

س - لقد دعا المفكر المغربي في كتابه "سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الحداثة الغربية" إلى تخليق الحداثة، بمعنى البحث عن أخلاق تتجاوز سطحية الحداثة الغربية لتمتد إلى أعماق الإنسان، فكيف يتسنى ذلك؟ وهل ذلك ممكن في ظل هيمنة الحضارة الغربية؟

ج- كان الفيلسوف طه عبد الرحمن قد طرح شرطا دينيا لنقد الحداثة بينما كانت الحداثة طرحت آفاقا لنقد الدين. ان النقد الديني الحداثة محدود ومقيد بينما النقد الحداثي جدلي وله خصوصية الاختلاف Argument. لاشك ان طه عبد الرحمن فيلسوف عقلاني وينطلق من اسلاميته، وهذه الإسلامية تتميز بعيب كبير هي انها تعتقد ان الحل للمشكلات الانطولوجية يكمن في هذه الإسلامية وحدها. ولذلك نجد دائما مفردة (نقد) في اغلب ما ينتجه المفكرون العرب عن الغرب. نعم يجوز نقد العلمانية بالإسلام. كما جاز نقد الإسلام بالعلمانية. لكن الأمر يتجاوز الشعور بالحق في النقد الى محتوى هذا الحق وراهنيته.

ان الحق في (نقد) الغرب لم ينقطع منذ ظهور حركة الإصلاح الديني. وهذا النقد موجه من خير الدين التونسي الى محمد عبده مرورا بالأفغاني وليس انتهاء بمحمد رشيد رضا. ان هذا الحق في النقد حق متعسف. فنقد الغرب لا يزيل عن تراثنا القروسطي جماده وعدم راهنيته وانعدام فعاليته في مجتمعاتنا العربي والاسلاية. وقد اشرت في دراستي عن (تألق وتدهور حركة الإصلاح الديني) الى عجز لغة الإصلاحيين عن تقديم محتوى عقلاني وواقعي في التجديد الديني. فقد اجمع الإصلاحيون تقريبا على استبدال لغة الحداثة الغربية بلغة سلفية فقدت محتواها منذ زمن بعيد. فاستبدلوا الديمقراطية بالشورى، والبرلمان باهل الحل والعقد والانتخابات بالبيعة. وفي الوقت الذي كانت وماتزال المفاهيم الغربية في الحداثة السياسية فاعلة ومقررة لطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمواطنة وحقوقها دستوريا وقانونيا وثقافيا فان مفاهيم الخلافة لم تعد حية وقد ماتت خلال عهود الخلافة منذ الأمويين مرورا بالعباسيين وانتهاء بالسلاطين العثمانيين، وهم الأقرب لظهور حركة الإصلاح. لقد اختصرت (الحداثة) لدى خير الدين التونسي وغيره بتحديث الأسلحة ونظام الجيش فحسب.

لقد ارتبت حركة الإصلاح إثما قاد الى تدهورها وانتهائها على يد رشيد رضا الى ان تكون مشاريع الإصلاح فردية لم تشكل تيارا او جبهة منذ علي عبد الرازق، لذلك يأتي مشروع طه عبد الرحمن فرديا هو الآخر رغم بهاء أفكاره.

ان شغب العرب والمسلمين بمفردة نقد قادت ان توضع قبل عنوان هيغل (فلسفة الحق) فاصبح العنوان (نقد فلسفة الحق) وكأننا لانريد من فلاسفة الغرب سوى انتقاد انفسهم. ومن ذلك نقد مفاهيم الحق والعدالة والأخلاق.

الأخلاق هي عقد قانوني بين الدولة والمجتمع. في كتابه (Philosophy of right) يستعرض هيغل بعد الفقرة الرابعة والسبعين من الفصل الثاني المعنون (Contract) فكرة العقد قائلا: عام 1821، (انها رؤية شائعة في الازمنة الحديثة ان الدولة هي عقد الجميع مع الجميع، الجميع يعقد ويتفق , وبعد هذا تنطلق منظومة التعاليم للعمل). اطلق روسو مصطلح العقد الاجتماعي على مثل هذا العقد. لكنه في الواقع عقد أخلاقي ملزم قانونيا. ينطلق من المسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الدولة تجاه الطرف الأول من العقد. هذه المسؤولية هي ضمان وحماية حقوق الطرف ا لأول من العقد وهو الشعب الملزمة للطرف الثاني وهو الدولة.

يغيب هذا الالتزام في العقد الديني. ان المدونات الفقهية الإسلامية تستنتج بنفسها من نفسها. انها تعيش في دائرة مغلقة من التراكم الزمني خارج الزمن الذي تعيش فيه. وصلت هذه المدونات الى طريق مسدود ومغلق بفقه (الاحكام السلطانية) الذي يوجب حقوق السلطان بدلا عن حقوق البشر. وقد تراكمت هذه المدونات المغلقة، والتي استمرت منذ القرون الوسطى، فأخذت طابع التشريع المقدس. وهي مدونات ادعت اخذ احكامها من الشريعة بحيث أصبحت هي الشريعة. وهذه الشريعة تعيش خارج النص رغم انها تدعيه.

ليس لدينا، في التاريخ الإسلامي، مدونات عن الحقوق. الحقوق الوحيدة هي الواجبات. وحين كانت اوروبا تقدم لوائح الحقوق منذ القرن الثالث عشر، على شكل اتفاقات ومساومات بين السلطة والطبقات، كان العالم الإسلامي يقدم مزيدا من القيود عازيا كل ازمة الى ضعف التمسك بالشريعة دون إعادة النظر أصلا بتعريف الشريعة. كان التدهور قد تكرس قبل سقوط بغداد بيد المغول عام ١٢٥٨ فقد كان هذا السقوط الفاجع نتيجة لتدهور استمر ثلاثة قرون بدأت منذ خلافة المتوكل وتغلب الطابع العسكري على السلطة واهمال الجوانب العلمية السابقة منذ منتصف القرن التاسع وتغلب القادة الاتراك على السلطة، هذا التغلب الذي اضعفها وجعلها مسرحا للغزوات والاحتلالات البويهية والسلجوقية وفروعهما المختلفة فيما بعد.

س -هل يمكن الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره...؟

ج- كانت العولمة مشروعا يقدم نفسه أخلاقيا في البداية. بدأت العولة مبشرة بأخلاق عالمية معززة بالإعلان العالمي لحقوق الانسان.

الواضح ان الأديان سعت الى تحويل الحقوق الطبيعية الى أوامر فأحالتها الى مصدر إلهي. لكن توما الأكويني أعاد إحياء فلسفة الحقوق الطبيعية التي أخذت تظهر، في قراءات دينية على ضوء الفلسفة اليونانية، وهو ما فعله الفلاسفة العرب بشأن اتباع خطى أرسطو.

وضع اتحاد أوتريخت أساسا لانطلاق حقوق الانسان من جديد بالتأكيد على الحرية الدينية. في عام ١٥٧٩ تم الإعلان عن (إن كل مواطن سيكون حرا في أن يقيم على دينه)، وكان والد سبينوزا اليهودي البرتغالي الذي تعرض للاضطهاد قد احتمى بهذا الإعلان حين انتقاله الى هولندا. وحرية المعتقد هذه أصبحت المادة ١٨ من الإعلان العالمي لحقوق الانسان(لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته او عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا ام مع الجماعة).(موقع الأمم المتحدة. إدارة شؤون الاعلام ٢٠٠٣)

هل جاء الإعلان العالمي لإلغاء الاستلاب عن البشر؟ اعتبر فويرباخ الاستلاب فاعلا لتأسيس الظاهرة الدينية. أما جورج لوكاج (يلفظ باللغة المجرية لوكاج، بجيم فارسية ويلفظ بالعربية لوكاتش) فقد اطلق على الاستلاب مفردة (تشييء)، وفي كلا الحالين فان الاستلاب شعور سلبي يقود الى فعل سلبي. انه الشعور بعدم القدرة على اتخاذ قرار واضح وحر وإرادي. والاستلاب، سواء كان دينيا او اجتماعيا- اقتصاديا أو سياسيا هو ظاهرة يمكن ان تنشأ عن مختلف الأسباب ومنها الخضوع لاحتلال او سجن او تعذيب أ عجز من مختلف الأنواع. بمعنى نزع القدرة على التصرف الحر والارادي، وبهذا المعنى تكون نظرية الأوامر الإلهية تكريسا للاستلاب وفاعلا لجعل الانسان مأسورا من قوة غيبية. وبهذا الشكل يتشيأ الانسان ويتصرف كأسير لأوامر عليا بدون إرادة وتفكير عقلي.لأن الفاعل الأخلاقي أمر إلهي يصدر لائحة إلزامية غامضة الأصل والمنشأ ولكنها مقررة بالقوة العليا التي كشف عن جبروتها أنبياء ورسل زعموا انها هي من أمر بهذه اللائحة التي تحتاج الى حراس للآلهة كي يتم تطبيقها، وانيطت مهمة حراسة هذه الأوامر لتنظيمات متعسفة بصفة دينية.

يقود الاستلاب الى التعصب لتعويض حالة الاستلاب بفعل عنيف متى ما شعر الفرد بان الدين هو قوته الوحيدة. فالتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء هو أمر إلهي كما ورد في القرآن مختصرا هذا التفاوت بانه إرادة الهية، كما ورد في الآية ٧٠ من سورة النحل (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فُضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيها سواء أفبنعمة الله يجحدون). فالفقر الطبيعي هو استلاب فكيف اذا اصبح قرارا يلغي إرادة وطموح الفرد بأمر الهي؟

يأتي الإعلان العالمي لحقوق الانسان تتويجا لأخلاق العالم الحديث، ويبشر بأخلاق جديدة تكاد تكون ملزمة حالها حال الأوامر الإلهية. وقد وقعت الدول كافة تقريبا، ومنها دول عربية وإسلامية على الالتزام ببنود وفقرات الإعلان العالمي، ولكن لم يتحقق هذا الالتزام. فقد مارست الدول الديكتاتورية طغيانها المطلق على الرغم من توقيعها على الإعلان.

والاعلان العالمي لم يظهر فجأة، فقد كان عمل ثلاثة قرون تقريبا منذ الثورة الفرنسية التي أصدرت حقوق الإنسان والمواطن، التي عاد اليها الحقوقي الفرنسي رينيه كاسان لاختصار مسودة الإعلان الطويلة التي اعدها الكندي جون همفري. ومواد (العهد الأعظم) الماكنا كارتا الذي أصدره نبلاء بريطانيا مع الملك وليم عام ١٢١٥والثورة الامريكية ولوائح الحقوق البريطانية اللاحقة، وساهم في الصياغة الإنجليزية اللبناني شارل مالك الذي كان مقرر لجنة إعداد الإعلان وكان وقتها يشغل وظيفة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. والإعلان هو نتاج العلمانية والليبرالية في تجلياتها الحقوقية.

الإعلان العالمي لحقوق الانسان عمل غربي. أوروبي وامريكي. انه عقل غربي أيضا. انه نتاج المستوى العقلاني لليبرالية. لم يأت من فراغ، وانما كان نتيجة لتطور فلسفي وسياسي كان متجانسا مع التطور في البنى الاجتماعية -الاقتصادية التي انتجت الرأسمالية. لذلك يبدو عملا غربيا، خاصة وانه يقف من الدين موقفا حياديا لضمان الحريات الدينية. ان الاعلان العالمي هو اعلان الحداثة التي تسعى لأن تكون عالمية.

يتكون الإعلان من ثلاثين مادة سنرى انها الحقوق الطبيعية قبل التدخل التعسفي للسلطة والدين.

وهذا سيكون عائقا إمام تبني الدول الإسلامية للإعلان العالمي خاصة في ما يتعلق بحق حرية العقيدة، وحرية الرأي، كما أقرته المادة ١٨ المذكورة آنفا والمادة ١٦ الفقرة (١) التي تلغي أي قيود دينية او جنسية على الزواج. والفقرة (٢) التي تنص على عدم ابرام الزواج الا برضى الطرفين. والمادة الثانية التي تنص على (حق كل إنسان التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي، أو أي رأي آخر.أو الأصل الوطني أو الاجتماعي او الثروة او الميلاد او أي وضع اخر، دون اية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عن ذلك فلن يكون هناك تمييز أساسه الوضع السياسي او القانوني او الدولي لبلد او البقعة التي ينتمي اليها الفرد سواء كان هذا البلد او تلك البقعة مستقلا او تحت الوصاية او غير متمتع بالحكم الذاتي او كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود)

صوت لصالح الإعلان ثماني واربعون دولة وامتنعت ثماني دول هي الاتحاد السوفياتي وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية وجمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا وجنوب افريقيا والمملكة السعودية.

هذا الامتناع يعني شيئا واحدا وهو سيادة النظام الشمولي في تلك الدول. وبذلك تضل موضوعة الاخلاق الكونية امرا مشكوكا به وربما متعذر التحقيق. فكم دولة إسلامية او قومية ستعارض اخلاقا كونية ينتقل فيها الانسان وفق حريته من دين لآخر وفق رؤيته واختياره؟

هل يتطلب الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره المضي بفصل الدين عن الدولة في اغلب دول العالم؟ قد يكون ذلك أمرا مستبعدا بعد فشل أوروبا وامريكا في فرض نظام عالمي يقوم على احترام حقوق الانسان من جهة، ومن جهة أخرى، ماتزال معظم الدول العربية والإسلامية تضع الرسلام في مواجهة العولمة وتعتبر الدين حارسا للدولة، والدولة ضامنة لتطبيق الشريعة.

كرس الإعلان العالمي لحقوق الانسان علمانية الدولة وحياديتها تجاه الحرية الدينية.كما كرس حيادية الدولة تجاه الأعراق والثقافات. كان هذا الامر قد تحقق فعليا قبل الإعلان العالمي. وهو أمر واجه حركة الإصلاح الديني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت الحريات السياسية والاجتماعية والدينية قد أمام أعين الإصلاحيين خاصة الذين زاروا وتعلموا في باريس مثل رفاعة. الطهطاوي وخيرالدين التونسي، اللذين رأيا عيانا اختلاط الجنسين ووجود الملاهي الراقصة وشرب الخمر، هي رفض الشريعة الإسلامية لهذه الممارسات غير الأخلاقية، وكانت النتيجة هي رفض الشكل الحداثي للدولة والمجتمع والإبقاء على الاستبداد والعودة للسلفية التي كان عمرها آنذاك ثلاثة عشر قرنا واعتبار الخلافة الشكل الوحيد المرتبط بالأخلاق.

سعت لين هانت في كتابها المؤثر Inventing Human Rights الى العثور على تاريخ العمل الفلسفي والثقافي لحقوق الانسان. انها تتابع مبدأ المساواة في رواية، تعتقد، هي لين، إنها مهدت للعقد الاجتماعي لروسو. وهي رواية روسو نفسه التي تعيد قصة حب من القرن الثاني عشر بعنوان (جوليا)، فصل بعنوان جمالي هو (سيول العاطفة: قراءة روايات وتصور مساواة) يتابع موقف النقاد في القرن الثامن عشر من الرواية ومن القيم الانسانية الكبرى التي اسهمت في تحول القيم الثقافية الانسانية إلى قيم حقوقية وقانونية. فالرواية ارست مبدأ المساواة كحق اساس من حقوق الانسان.

2365 نبيل ياسين 2

س - ما وظيفة الأخلاق أمام التحديات مثل الحروب وخطاب الكراهية والتعصب والطائفية الدينية والمذهبية؟ وهل هناك فهم متطابق وموحد لوظيفة الأخلاق؟

ج- في الحياة الواقعية فان الاخلاق معزولة عن القرارات السياسية، وهي ضحية لها. لذلك لا تملك الاخلاق وظيفة مادية قادرة على مواجهة التحديات. فالحروب تتكاثر رغم كثرة منصات الحديث عن الأخلاق. فالدول الديمقراطية، التي تقوم على أسس أخلاقية، تنتهك هذه الأسس خارج حدودها القومية. بدءا من فرنسا التي عبرت حدودها الى الجزائر على سبيل المثال، الى بلجيكا التي عبرت حدودها الى الكونغو، مرورا ببريطانيا التي عبرت حدودها البحرية متجهة الى الهند وامريكا التي اجتازت حدودها على المحيط الأطلسي لتتجه الى قارات العالم الأخرى.

فالعولمة، الكولونيالية التقليدية سابقا، والأمبريالية الألكترونية الحديثة، تؤديان دورا موحدا في نفي الاخلاق عن العالم. فالأخلاق النفعية هي اخلاق مصالح متغيرة، وهي السائدة الآن في حقل الاخلاق.

طبيعي ان لايكون هناك فهم متطابق لوظيفة الأخلاق. ويظهر ذلك في تكييف الأخلاق لنظرية الأوامر الإلهية من جهة ونظرية الأخلاق الطبيعية من جهة أخرى.

لنتساءل، ايهما كان في أولويات إنسان الكهف، التنظيم العائلي ام اكتشاف الأخلاق؟، من المرجح جدا ان التنظيم العائلي وتوفير الطعام للأسرة عن طريق الصيد كان يتفوق على الاهتمام الأخلاقي، الا اذا اعتبرنا ان توفير الطعام للأسرة هو مسؤولية أخلاقية دون ان يتم اظهارها كمسؤولية أخلاقية.

قبل ان تظهر الحروب وتظهر الكراهية والتمييز الديني والمذهبي والعرقي كانت الأولوية هي العيش بسلام، سوى شن الحرب على الطرائد الحيوانية من أجل توفير لقمة العيش. قد يكون اكتشاف الزراعة بداية للخلاف البشري (هناك تفسير للصراع بين قابيل وهابيل بانه صراع بين الرعي والزراعة) وظهور الحرب والكراهية والتمييز بين الآلهة التي ظهرت بداية من أجل توفير الحماية لممتلكات الإنسان. لذلك فإن ارتباط الأخلاق بالأوامر الإلهية يقوم بفعل سلبي وليس إيجابيا. لنلقي نظرة على وظائف الآلهة في بلاد الرافدين فقد كان للسومريين آلهة مختلفة من أجل الحماية. فهناك إله الصيد وإله الرعد(الإله أدد) وإله المطر وإله الرعي (سموقان) وإله المياه(أنوناكي) وغيرها من ثلاثة آلاف إله تم ذكرها في الحوليات الرافدينية. وقد كانت هذه الآلهة تشن الحروب بعضها ضد بعض مقلدة أفعال البشر.

إن تأويل الدين يعتبر مصدرا من مصادر الحرب وبث الكراهية بين الأديان والمذاهب والقوميات. وبدل ان تقوم الاخلاق الدينية بنشر السلام ومنع الحروب ونبذ الكراهية، فإننا نعثر على احد مصادر العنف الشائعة اليوم في الاخلاق الدينية نفسها الناتجة عن التأويل. ان تاريخ الأديان والعنف الذي رافقه يجعلنا نشكك بأصل نظرية الأوامر الإلهية باعتبارها من اختراع الفقهاء ورجال الدين في كل الأديان. فاذا كانت هذه الأوامر مشتركة،وهي من الله، فلماذا تتعطل بين الأديان المؤمنة بهذه الأوامر وأصلها الإلهي واعتبارها دافعا لفعل الخير؟ بينما تمارس الأديان فعل القتل، وهو فعل غير أخلاقي ورد النهي عنه في الوصايا العشر. ان القتل هو عنف ينتهك الاخلاق. وتكسب التأويلات الأخلاقية اعمال العنف بطابع عقلاني وحيد مفتعل على الرغم من انه ينافي العقلانية. ذلك ان المنطق الأخلاقي مختلف عن المنطق الديني، وإن المنطق العقلاني ينفصل عن المنطق العقلي.

يحاول الفيلسوف الأخلاقي بيرنارد جيرت  Bernard Gert الذي قضى خمسين عاما في فحص احدى النظريات الأخلاقية المرتكزة على المفهوم المعتدل للحيادية وتوضيحها وتطويرها، الإجابة على سؤالين محددين: ماهي اعمال العنف وكيف يتم تبريرها؟. وفي تعريفه لأعمال العنف يصفها بانها الانتهاك المتعمد لخمس قواعد أخلاقية أساسية تجاه الأشخاص الذين ليست لديهم رغبة عقلانية لخرق القوانين لصالح نفسه او نفسه وتنحصر تلك القواعد في : لا تقتل. لا تتسبب في إحداث ألم. لا تحدث إعاقة. لا تحرم شخصا من حرية اغتنام الفرصة. لا تحرم شخصا من السعادة (فيتوريو بوفيتشي. العنف. مختارات فلسفية. ترجمة ياسر قنصوه.المركز القومي للترجمة. ٢٠١٧ ص١٣١)

لكن التبرير، يرتكز على مفهوم السبب (ولهذا فأن التبرير في صورته الأساسية – تبرير أحد الأعمال -هو إيضاح ان ذلك العنف يعد عقلانيا (نفس المصدر والصفحة). لكن هذه العقلانية لا تكمن في جوهر الفعل وانما في تسويغه وتبريره.

 

س -هل تعتقد أن الأخلاق تلعب دورا في الفضاء العمومي من أجل التأسيس لديمقراطية حقيقة في العالم العربي، وتعمل على إعادة ترميم انهيار منظومة القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية؟

ج- خلال سنوات طويلة، وبدافع من اهتمامي بالعدالة لم اجد مؤلفا عربيا إسلاميا بهذا الموضوع في تراث الفكر الإسلامي. واذا كانت الفلسفة المعاصرة تتحدث عن العدالة بتفاصيل جديدة وتسوية عقلانية من أجل الإنصاف مثلما يشير رولز في كتابه نظرية العدالة (A Theory Of Justice.الصادر عن The Belknap Press Of Harvard University Press. Cambridge. Massachusetts. 1999)، والصادر بالعربية بعنوان نظرية في العدالة) حين يؤكد في التفاتة مهمة وكأنها شرط قائلا: من احدى خصائص العدالة إنصافا ان نفكر بالأطراف في الوضع المبدئي على انهم عقلانيون ولا توجد مصالح متبادلة بينهم (جون رولز. نظرية في العدالة. ترجمة ليلى الطويل. الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق ٢٠١١)، فإننا نفتقر تماما الى نظرية في العدالة وبالتالي نفتقر الى دور الأخلاق في انشاء مثل هذه النظرية. فتاريخنا لا يفكر بأطراف وانما بطرف واحد ونتيجة لذلك نفتقر الى العقلانية. لان العقلانية وفق رولز بحاجة الى عقد او تعاقد.

إن ما وردنا عن الأخلاق في الفلسفة الإسلامية يشكل فهما عميقا، ولكن مشكلتنا اننا توقفنا عن انتاج الفلسفة، واعتبر الفقهاء، عموما، ان انتاج الفلسفة لا يتوافق مع الشريعة، ونحن نعرف النكبات التي تعرض لها الفلاسفة المسلمون، ففي زمن المعتضد على سبيل المثال، تم تحليف الوراقين على عدم استنساخ كتب الفلسفة في اسواقهم. فقد كان الفلاسفة المسلمون يؤكدون على العلاقة بين الفلسفة والشريعة للوصول الى الحقيقة، وهو ما رفضه الفقهاء.

س - من الشائع أن يتقاطع القانون والأخلاق ويتداخلان في جميع مجالات صنع القرار القانوني؛ فيجبمن أجل فهم مسائل الدستور أو التشريع أو القانون العام، على القضاة وغيرهم من صانعي القرارالقانوني أولاً حل بعض القضايا الفلسفية التي تشمل الأحكام الأخلاقية للصواب والخطأ. يتضح هذا بشكلخاص فيما يتعلق بالتفسير الدستوري، ولاسيما عندما تعطي الدساتير تفويضًا لحماية المعاير أو القواعدوالقيم الموضوعية - الجوهرية كحقوق دستورية في هذه المواقف، كما لاحظ ذلك رونالد دوركينالفيلسوف القانوني المعاصر الرائد في كتابه " أخذ الحقوق على محمل الجد"، يدمج الدستور القضاياالقانونية والأخلاقية، من خلال القضايا أو المشاكل. بالطبع لا تقتصر الحاجة إلى توضيح القيًمالموضوعية الجوهرية على التفسير الدستوري بموجب وثائق أو مشاريع قوانين الحقوق فقط. يثير هذافورًا معضلة متأتية من التنوع الأخلاقي والتعددية في المجتمعات الحديثة. كيف يمكن أن يظل القانون حساسًا لهذه التعددية ومع ذلك يقدم إجابات واضحة للمشكلات التي تتطلب حلًا قانونيًا؟

ج- يدين مونتسكيو الترف باعتباره ينتهك الاخلاق في الجمهورية. (فحين فسد الرومان اتسعت شهواتهم ويمكن تقدير ذلك مما وضعوه ثمنا للاشياء ٠ومن ذلك ان دن خمر فالرن كان يباع بمئة دينار روماني،.. وان ثمن الطاهي الماهر أربعة تلنتات، ولا ثمن للخدم.واذا ما اقبل جميع الناس على الملاذ بصولة شاملة فماذا تصبح الفضيلة؟(مونتسكيو. المجلد الأول. الباب السابع. الفصل الثاني. ص١٤٧). وهو الاعتقاد الذي سبق اليه ابن خلدون بقوله ان الاخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لان الانسان انما هو انسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك، والحضري لايقدر علـي مباشرته حاجاته، اما عجزا لما حصل له من الدعة، او ترفعا لما حصل له من المربـي في النعيم والترف، وكلا الامرين ذميم. ابن خلدون. المقدمة. ج ٣ ص ٨٨٠-.نقلا عن جوامع الاخلاق والسياسة والحكمة. ج ١. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.١٩٩٣ ص٦٨.

لدى شرائع مونتسكيو نعثر على مفهوم للأخلاق يرتبط بالقانون الوضعي. ومن ذلك كيف تدير قوانين المصالح الأخلاق ادارة متعسفة لصالح افراد او مجموعات.

فالربا، على سبيل المثال، انتقل من فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي عن طريق تشريعه ضمن قوانين المصارف. فالربا لم يعد، أخلاقيا، خرقا او تصرفا مذموما.فقد تحول الى خرق أخلاقي مشروع.

لقد تطورت أوروبا الى الديمقراطية بصعود البرجوازية. وكان الربا شائعا، ولكنه كان يواجه معارضة أخلاقية. وكانت البرجوازية التي تسعى الى السيطرة بحاجة الى تشريع الربا وجعلة مقبولا أخلاقيا، وتم هذا عن طريق تأسيس البنوك وجعل الربا مشروعا، وتحول الربا الى (فائدة) قانونيا.

ان المرابين الذين كانوا يُنظر اليهم نظرة لا أخلاقية اصبحوا يحكمون عن طريق الربا القانوني، وتحول حكم النهي عن الربا في سفر التثنية (لا تقرض أخاك بربا. ربا فضة. أو ربا ذهب، أو ربا طعام. أو ربا شيء مما يقرض بربا. لأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك)(التثنية.٢٠:١٩:٢٣). وورد مثل ذلك في سفر المزامير،(السالك بالكمال، والعالم بالحق والمتكلم بالصدق في قلبه، فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة في البري)(مزمور ٥:٢:١٥) وكذلك في سفر حزقيال ونحميا.

وحرم القرآن الربا في ثلاث مواضع في السور الطوال الجامعة لكثير من الاحكام، هي البقرة وآل عمران، والروم. (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(البقرة ٢٧٥، ثم تتبعها الآيات ٢٧٦و ٢٧٧و٢٧٨).

قامت فكرة البنوك اذن على خلق تسويغ مقبول لتحويل فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي يرعاه القانون.

يقوم المؤمنون من اتباع الأديان الثلاثة، بالطقوس الجسمانية كالصلاة والدعاء اكثر بكثير من الالتزامات الروحية الأخرى ومنها السلوكيات الأخلاقية. لقد عبر الغرب والمجتمعات المسيحية التي كانت تشهد نمو عمليات الربا عبر مرابين يهود في الغالب، الذين يؤمنون، حسب التثنية، بإقراض الأجنبي بالربا، هذه المشكلة بأن حولتها الى عملية شرعية وقانونية، فيما لاتزال المجتمعات الإسلامية تناقش حتى الآن الطريقة التي يمكن فيها تشريع الربا عبر ما يطلق عليه البنوك اللاربوية. ويحضر في هذا الشأن محاولة الفقيه الإسلامي محمد باقر الصدر (البنك اللاربوي في الإسلام: أطروحة للتعويض عن الربا ودراسة لكافة أوجه نشاط البنوك في ضوء الفقه الإسلامي).

لقد أصبحت البنوك إدارة أساسية من مستلزمات الاقتصاد العالمي، الذي يقوم على الإقراض والفائدة ولذلك لم تعد مشكلة الربا في العالم غير الإسلامي مشكلة معوقة للنمو الاقتصادي. فما هو الدور الأخلاقي الذي انهى التحريم بتحويل الربا الى مؤسسات بنكية كبرى تدير اقتصاديات العالم؟ هل هي الأخلاق الجديدة أم ان الوصايا الإلهية يمكن تكييفها وتسويغها بتغيير شكلها والإبقاء على اسلوبها؟

ما يشير الى طبيعية الاخلاق قبل ان يأتي دور الفقهاء والمفسرين. وقبل ان يقدم لنا الفقهاء اوامرهم باعتبارها أوامر الهية يشددون فيها على العفة للمرأة باعتبارها (لقلق الخلاص) على حد تعبير ماكس فيبر حين بث الكالفينيون المذاهب الطهرية من اجل النجاة من الهلاك.

تخضع المرأة في الأديان الى سلسلة طويلة من الأوامر والنواهي تنبع من منطلقات متعددة ومتناقضة. فالعفة لا تخص الرجل في الأديان بقدر ما تخص المرأة. وتسربت هذ الإشكالية الى المجتمعات المختلفة، ليس بالضرورة كالتزام ديني وانما كترسبات اجتماعية تقوم بتأويل الفضيلة ونقلها من الدين الى الفرد والمجتمع. فالأخلاق، في جوهرها اجتماعية.. يقول جون ستيورات ميل في كتابه The Subjection of Women)) الى ان كثيرا من القطاعات الاجتماعية والدينية نالت حقوقها عدا المرأة التي لم تنل حقوقها بسبب الدين والإخضاع الاجتماعي في المؤسسات الحديثة وبقيت تعاني من الحرمان والعزلة حتى لو تم انتهاك ما اصبح قانونا أساسيا (Penguin Classic 2006. p153) فهل هذا الإخضاع إخضاع اجتماعي آم إخضاع ديني؟ في كلا الحالين يعتبر هذا الإخضاع خرقا وانتهاكا مشتركا بسبب الترسبات الدينية والاجتماعية المنافية للحق الطبيعي التي كرستها الأديان.

 

............................

د. نبيل ياسين

* دكتوراه فلسفة من أكاديمية العلوم الهنغارية عام ١٩٨٦ عن اطروحته (التشكيلات الاجتماعية -الاقتصادية وتأثيرها على الدولة والمجتمع في العالم العربي ١٨٠٠-١٩٨٠

* عمل باحثا في معهد العلوم الاجتماعية في اكاديمية العلوم الهنغارية ١٩٨٦-١٩٨٩

* عمل أستاذا لدراسات الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الانسان في العراق ٢٠٠٨-٢٠١١

* كاتب وشاعر نشر العديد من الدراسات حول الدولة والدستور والعولمة في صحف مثل (الحياة) اللندنية خلال أعوام ١٩٩٢-٢٠١٨ وفي صحف ومجلات أخرى

* مؤلف كتاب (الأصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة). لندن ١٩٩٤

* مؤلف كتاب (التاريخ المحرم) دراسة في الفكر السياسي. العراق نموذجا. لندن ١٩٩٨

* صدرت اعماله الشعرية في مجلد عام ٢٠١٧ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

* له مؤلفات أخرى في الشعر والسيرة والتاريخ.

 

 

2230 علي الربيعي ومحمد ابو العلاحوار مع الأستاذ الدكتور محمد أبو العلا يجريه علي رسول الربيعي

الدستور وكيف يعالج مسألة العلاقة بين الدين والدولة، وكذلك قضية الفضيلة، أيً قضية العلاقة بين الفضيلة والدستور. هذا هو محور الأسئلة المتواترة وأن بصوغ مختلف في الفلسفة السياسية التي نتوجه بها الى الأستاذ الدكتور محمد ابو العلا لنستطلع رايه فيها أو جوابه عنها.

د. علي رسول الربيعي س//: هناك خمسة نماذج مختلفة لإدارة العلاقة بين الدولة والدين بموجب الممارسة الدستورية الحالية. وهي (1) النموذج العلماني المتشدد المصمم على إبقاء الدين خارج المجال العام تمامًا (مثل اللائكية/ العلمانية الفرنسية؛ (2) النموذج العلماني اللا أدري، الذي يسعى إلى الحفاظ على موقف محايد بين الأديان ولكنه لا يخجل من تفضيل الاعتماد على الإلحاد وغيره من المنظورات غير الدينية (نجد هذا، على سبيل المثال، قريب من الفقه الدستوري الأمريكي الحالي). (3) النموذج العلماني "المذهبي" المعترف بالنظم العقائدية، الذي يتضمن عناصر من دين الأغلبية السائدة في النظام السياسي، وذلك لأغراض  الهوية في المقام الأول، ويعرضها كجزء من مراسيم الدولة الدستورية بدلاً من كونها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدين الرئيسي للبلاد (مثل إيطاليا أو بافاريا، كاعتماد الصليب كرمز علماني للهوية الوطنية)؛ (4) دين رسمي مع التسامح المؤسسي لنموذج أديان الأقليات (على سبيل المثال، المملكة المتحدة والدول الاسكندنافية واليونان)، و(5) النموذج القائم على الملل حيث يتم إعطاء أولوية للحكم الذاتي الجماعي من قبل كل مجتمع ديني داخل النظام السياسي (مثل الكيان المغتصب لفلسطين إسرائيل).  هل يمكن ان يكون أيً من هذا النماذج الدستورية حلا لإدارة العلاقة بين الدولة والدين؟

د. محمد أبو العلا: ج// أعتقد أنَّ الفصل الجذري بين الدين والحياة العامة محاولة مستحيلة أو شبه مستحيلة؛ لأن الدين جانب أصيل لا يمكن إنكاره من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافة الإنسانية، فضلا عن أنه جزء لا يتجزأ من مكوِّنات الشخصية الإنسانية، إلا إذا أنكرنا البُعد الروحي في الإنسان، الذي يمثِّل الدين أحد تجلياته. وبالنسبة لمن يرددون أنَّ الدين شأن فردي خاص، فأعتقد أنَّ هؤلاء ينسون حقيقة مفادها أنَّ الحياة الفردية الخاصة لا يمكن فصلها عن الحياة الاجتماعية العامة. وبالتالي، حتى لو كان الدين تجربة ذاتية، فهذه التجربة الذاتية تؤثر وتتأثر بالحياة العامة بكافة جوانبها. فما المانع أنْ يؤثر الدين في الحياة السياسية والفقه القانوني والدستوري طالما أنَّ هذا التأثير تأثيرا إيجابيا، أيْ يخدم تطور وازدهار الاجتماع الإنساني. فكما يمكن توظيف الدين بطريقة خاطئة تخدم مصالح وأيديولوجيات ضيقة، فمن الممكن توظيفه توظيفا صحيحا يخدم الصالح العام وتطبيق حقوق الإنسان. أليست هناك قيم وفضائل مشتركة بين جميع الأديان السماوية يرضى عنها الجميع، بما في ذلك الملحدون أنفسهم؟! أعتقد أنَّ السبب الحقيقي الذي يقف وراء اعتراضات الملحدين ليس هو الدين ذاته، بل الممارسات المشينة للمتدينين، والأهم من ذلك الممارسات المنحرفة للسلطة السياسية باسم الدين. فهل بوسع أيّ إنسان، حتى لو كان ملحدا، أنْ يرفض أو يعترض على المحبة في المسيحية، وحق الحياة في اليهودية، والعدل والتكافُل في الإسلام. والدين الإسلامي نفسه أقرّ بحوار الحضارات والثقافات من خلال التأكيد على العيش المشترك مع الآخر واحترام خصوصيته وحريته في الاعتقاد. ويشهد على ذلك العديد من الآيات القرآنية، مثل:

- (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنِّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليمٌ خبير) [الحجرات: 13].

- (وَلَوْ شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعًا أفأنت تُكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس: 99]

- (وقُل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29].

وهكذا يمكن أنْ يكون الدين، بالمعنى الواسع، مجالا لتماسُك وازدهار المجتمع السياسي. والدين بالمعنى الواسع الذي أقصده هنا يقترب من الدين بمفهومه عند كانط في كتابه "الدين في حدود العقل فقط" أو عند الأب شاتل في كتابه "قانون الإنسانية". فالدين، بحسب كانط، هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية. وبحسب الأب شاتل، هو مجموعة الواجبات التي تقع على عاتق الإنسان نحو الإله، ونحو الجماعة، ونحو نفسه.

إذا نظرنا إلى الدين من هذا المنظور الواسع والمنفتح، فمن الممكن أنْ يكون الدين جزءا مما أطلق عليه جون رولز العقل العام public reason، ذلك العقل الذي يمثِّل عند رولز الأساس الذي يجب أنْ تقوم عليه الدولة العلمانية. فبحسب رولز، يقبل جميع الناس العقلاء في المجتمع العلماني المتسامح الخضوع لبنود، أو قيود، العقل العام، تلك البنود التي يمكن لكل واحد منهم أنْ يفهمها ويقدِّر قيمتها مهما كانت معتقداته الشمولية، سواء أكانت تنتمي للأخلاق الشخصية، أم الأخلاق العامة، أم الدين.

يمثِّل هذا، من وجهة نظري، تصوُّرا عريضا جدا للدولة العلمانية في صورتها المثالية؛ وهو تصوُّر لا ينطبق، بالطبع، على أيٍّ من النماذج العلمانية التي تفضَّلتْ حضرتك بذكرها. ومع ذلك، فهناك بعض النماذج التي تقترب منه كثيرا، مثل النموذج العلماني في المملكة المتحدة، ثم النموذج العلماني في الولايات المتحدة الأميركية.

2230 علي الربيعي ومحمد ابو العلا

د. علي رسول الربيعي: س//  إن ما تدعو إليه الفضيلة المدنية هو احترام الناس من كل نوع، وتقدير إنسانيتهم وحقهم في تنمية واستخدام مواهبهم والاستفادة منها مهما تنوعت تلك الاستخدامات والمواهب الجيدة. "هل تشمل الفضيلة المدنية احترام وتقدير التنوع؟" إذا كان "التنوع" هنا هو رمز للاستعداد للانخراط في السلوك الجنسي المثلي وتعزيزه، كما هو الحال في المجتمعات العربية/ الإسلامية، فإن الإجابة، كما أرى، هي: لا. إن احترام مثل هذا الاستعداد، أو رغبة أي شخص في الانخراط في أي شكل آخر من أشكال الأفعال الجنسية غير الزوجية، هو أمر سيئ مهما كانت هناك ايً ادعاء انها جيدة للإنسان، ثم أنه يساهم في انهيار الزواج كمؤسسة مدنية المؤسسة وواقع شخصي، وإيذاء الأشخاص الذين سيعانون كالأطفال وبالتالي كبالغين من خلال تربيتهم في بيئات غير زوجية.

وعليه، بما أنه من المنطقي التفكير في الغايات قبل النظر في الوسائل لها، فقد يكون من الأفضل أن نبدأ بتوجيه السؤال اليكم: ماهي الفضيلة أو ما هو مضمونها الذي يتطلب غرسه وتنميته في ظروف الخلاف الأخلاقي، وكيف يرتبط بالفضيلة الأخلاقية التقليدية؟ كيف يتأثر مضمونها بظروف التنوع؟

د. محمد أبو العلا: ج//  أعتقد أنَّ الفضيلة التي يجب أنْ تسود في ظل التعددية الثقافية والتنوع العرقي والديني، باعتبارهما السِّمتين الأساسيتين لأي مجتمع علماني ديمقراطي، هي فضيلة التسامح. وأقصد بالتسامح هنا قبول العَيْش مع الآخر الذي نختلف معه في الرأي، أو الدين، أو العرق؛ هذا فيما يتعلق بمبدأ التسامح على المستوى الأخلاقي. أما على المستوى السياسي، فإن التزام الدولة بالحياد إزاء التصورات الفردية المختلفة للحياة الكريمة، أو الخيِّرة، هو نتيجة حتمية لمبدأ التسامح، ذلك المبدأ الذي لا يمكن تصور مجتمع عادل بدونه. فتحيُّز الدولة لطرف دون آخر، حتى لو كان هذا الطرف يتمثل في الأغلبية، هو تصرف غير مشروع ولا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، لأنه يتعارض مع حق الجميع في المساواة في الاهتمام والاحترام، على حدّ تعبير رونالد دوركين.

د. علي رسول الربيعي س// هل يتطلب الدستور أو يفترض مسبقا، أو يحبط أو حتى يمنع، تشكيل مشروع للحكومة لتغرس أو تنمي عند المواطنين الفضيلة المدنية اللازمة لتعزيز وإدامة مجتمع جيد التنظيم؟

د. محمد أبو العلا: ج//  بالطبع، فالدستور هو أبو القوانين التي تنظِّم كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، والذي منه تستمد الحكومات صلاحياتها، بل وشرعيتها أيضا (هذا على افتراض أنَّ الدستور يمثِّل تعبيرا حقيقيا عن الإرادة العامة؛ على حدّ تعبير روسو). فالمبادئ الدستورية العامة يجب أنْ تُلزم الحكومات بالفضيلة المدنية، بل يجب أنْ تكون جميع مبادئ أيّ دستور علماني ديمقراطي بالمعنى الحقيقي تعبيرا واضحا عن هذه الفضيلة. فالفضيلة المدنية بالمعنى الذي ذكرته حضرتك هي فضيلة أخلاقية بالمعنى الخاص والمعنى العام في آن واحد. وغرس هذه الفضيلة في نفوس المواطنين يتطلب التزام الدولة أولا بهذه الفضيلة كأساس للحُكم.

د. علي رسول الربيعي س// إلى أي مدى يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تدعم أو حتى تحل محل الحكومة في غرس وتنمية الفضيلة المدنية برأيكم؟

د. محمد أبو العلا: ج// لا يمكن ولا ينبغي لمؤسسات المجتمع المدني أنْ تحلّ محل الدولة في الاضطلاع بهذه المهمة، لأن الاضطلاع بهذه المهمة هو وظيفة الحكومة في المقام الأول. بل أرى أنَّ تفعيل دور المجتمع المدني بشكل عام، سواء في هذا الأمر أو غيره، مرهون بمدى التزام الحكومة (أو الدولة) ذاتها بالفضيلة المدنية في ممارساتها وسياساتها العامة.

د. علي رسول الربيعي س// هل ينبغي أن يتضمن تشكيل المشروع تشجيع المواقف التي تنتقد الممارسات التي تنكر الحرية والمساواة؟

د. محمد أبو العلا: ج// نعم، ينبغي، بل يُعَدّ ذلك أمرا ضروريا، وإلا اِنْهارَ المشروع بأكمله.

 

2314 حسين الهنداويعندما يمتزج الشعر بالفلسفة حتما ستكون الحصيلة نوع خاص من السمو في المعاني والتنوع في الاغراض الشعرية والتعمق في الذات والمحيط .وحتما ستكون الفلسفة معيارا حاكما في فهم مايصوغه من درر.. بعيدا عن السياسة وكل تعقيداتها ومتطلبات الانتخابات وصراعاتها.. التقينا اليوم الاستاذ الدكتور حسين الهنداوي مستشار رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات وحاورناه حول منجزه الادبي والفكري.. ففي البداية نرحب به ضيفا عزيزا على صحيفتنا . ونحب ان نعرّف القرّاء الكرام بضيفنا الكريم.

- اسم الشهرة: الدكتور حسين الهنداوي

- الاسم الكامل: عبد الحسين يعقوب عزيز الهنداوي

- مكان وتاريخ الولادة: (الهندية - العراق 1947)

- البلد الأصلي: (العراق)

- التخصص الجامعي: الفلسفة الحديثة.

- اللغات: العربية والفرنسية والإنكليزية وبعض الكردية..

- التحصيل الأكاديمي:

دكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الحديثة (باشراف البروفيسور جاك دونت)، فرنسا، جامعة بواتيه،1987.

ماستر في الفلسفة الحديثة، فرنسا، جامعة بواتيه، 1982.

دبلوم في اللغة الفرنسية، جامعة بواتيه، فرنسا، 1977

بكالوريوس في الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1970.

اكمل دراسته الابتدائية في الهندية (طويريج) والاعدادية والجامعية في بغداد.

شاعر وكاتب عراقي،

التخصص الأدبي: شاعر ومفكر.

المؤلفات المنشورة

“هيغل والاسلام”، (باللغة الفرنسية)، منشورات دار (Orients Éditions) باريس 2021. 320 صفحة. وهذا الكتاب اول دراسة اكاديمية موثقة حول منظور الفيلسوف الألماني الشهير هيغل عن الاسلام كما عن الاصول الاسلامية لبعض الافكار الهيغلية الاساسية.

“التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (الساقي، بيروت 1996). طبعة ثانية قيد النشر

“هيغل والفلسفة الهيغلية” (الكنوز الادبية، بيروت 2004).

“على ضفاف الفلسفة”- (بيت الحكمة، بغداد 2005).

“اخاديد” (مجموعة شعرية، منشورات عراق للابداع، اربيل 2012).

“محمد مكية والعمران المعاصر” (دار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012).

“فلاسفة التنوير والاسلام“: فولتير، جيبون، مونتسكيو، روسو، هيردر، غوته، هيغل، ونابليون..” (منشورات دار المدى، بيروت 2014)

“الهندية طويريج، بيتنا وبستان بابل” (منشورات دار المدى، بيروت 2015)

“استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟” (منشورات دار المدى، بيروت 2016)،

و”لبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق“، (منشورات دار المدى، بيروت 2018)،

“الفلسفة البابلية“، (منشورات دار المدى، بيروت 2019)،

“مظفر النواب، تأملات وذكريات“،(منشورات دار المدى، بيروت 2021) قيد النشر.

“ولادة الكون لدى طائفة “اهل الحق” او العليّلاّهيّة” (تأليف محمد مكري) ترجمة عن الفرنسية، (أصوات- 1994) لندن، المملكة المتحدة.

كتب قيد الصدور بالعربية: “في الفكر الفلسفي العراقي المعاصر“، “دولة اللادولة في الفكر الحديث“، “في نقد العقل الامريكي“، “المفكر البابلي بيروسا”، “علي الوردي والمنهج الجدلي”.

له عشرات المقالات والمحاضرات والمقابلات الفلسفية والادبية والصحفية منشور معظمها في دوريات ومجلات رئيسية اهمها “الاغتراب الادبي” و”نزوى” وصحيفة “الحياة” و”دراسات شرقية” و”الصباح” و”الصباح الجديد” والحكمة” “اضافة الى مجلة “أصوات” التي اسسها مع ادباء وفنانين عراقيين آخرين في فرنسا عام 1976. كما ترجمت له عشرات المقالات الى لغات اجنبية ابرزها الانكليزية ونشرت في عدد من ابرز الصحف الامريكية من بينها (الناشيونال انترست) و(الناشيونال رفيو) والواشنطن تايمز والعديد غيرها.

الجوائز التي رشح لها:

الجائزة السنوية لعامي 2001 و2002 المخصصة لأفضل مقال لصحفي اجنبي مقيم في المملكة المتحدة.

الاتحادات الأدبية والفكرية المشارك فيها:

1- مؤسسة (عراق للإبداع)، رئيس المؤسسة منذ 2005 ولحد الآن،

2- الجمعية الفلسفية العراقية في الخارج، عضو مؤسس.

3- نقابة الصحفيين البريطانية. عضو دائم.

4- جمعية الصحفيين الاجانب في بريطانيا. عضو 1997-2002.

اهم الخبرات والمواقع المهنية:

مستشار دولي أقدم لدى الامم المتحدة واليونسكو بين 2008و2015، واول رئيس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق بين 2004 و2007، ورئيس تحرير القسم العربي لوكالة يونايتدبرس العالمية للانباء(UPI) لتسع سنوات بين 1995 و2004، وعضو بعثة منظمة الامم المتحدة لحقوق الانسان الى هايتي بين 1993 و1995. ومبعوث منظمة العفو الدولية الى لبنان واليمن بين 1991 و1993، ثم عضو وفدها الى اليمن خلال الحرب الداخلية في 1994، وقبلها مؤسس القسم العربي في جامعة بواتيه الفرنسية والمحاضر الاساسي فيه بين 1982 و1985، وكاتب في ابرز الصحف العربية (الحياة، السفير، المدى، القدس العربي..) منذ 1980 الى الآن.

نشاط سياسي:

مستقل سياسيا منذ خروجه من العراق في منتصف السبعينات. انتقل مع عائلته من الهندية الى بغداد في نهاية 1960. واشتغل منذ نهاية 1962 عامل في مطبعة الهلال ثم في مطبعة ثنيان ببغداد، عمل بعدها مراجعا لغويا في مجلة “العاملون في النفط” حيث نشر عددا من القصائد والمقالات الادبية بموازاة النشر في عدد من الصحف العراقية. بعد ايام من تخرجه من جامعة بغداد عام 1970، اعتقل من قبل اجهزة السلطة البعثية في 10/5/1971، وتعرض للتعذيب اثناء التحقيق. وقد اضطر بعد اطلاق سراحه، الى الهرب من بغداد والتخفي داخل العراق لنحو اربع سنوات ملتحقا بالحركة الثورية العراقية المعارضة قبل ان يتسلل الى سوريا ثم الى لبنان في 1975، ومنه لاجئا سياسيا الى فرنسا حيث درس اللغة الفرنسية واشتغل عاملا في الزراعة والبناء ثم مترجما ثم مدرسا في جامعة بواتيه الفرنسية بعد اكمال الماجستير والدكتوراه فيها كما اسس القسم العربي لكلية الآداب في الجامعة نفسها والموجود لحد الآن وعمل فيه لسنوات قبل ان ينتقل عام 1990 الى العمل الصحفي اولا ثم مستشارا دوليا لحقوق الانسان لدى منظمة العفو الدولية وبعدها مستشارا لدى الامم المتحدة منذ 1993 في هايتي وجمهورية الدومينيكان قبل ان ينتقل الى منصب رئيس تحرير القسم العربي في وكالة انباء عالمية لثمان سنوات انتهت بعودته الى العراق بعد سقوط النظام السابق واختياره من قبل الامم المتحدة للاشرف على انشاء مفوضية الانتخابات في العراق ورئاستها لسنوات، واخيرا عودته مستشارا دوليا اقدما لدى الامم المتحدة من جديد.

2314 حسين الهنداوي

س: عند قراءة سيرتك الذاتية المشرقة، ألا ترى أنك تحبس قدراتك بجلوسك في هذا الموقع، أي كمستشار رئيس الوزراء للانتخابات؟ وهل يستحق منصبكم الحالي كل هذه التضحية؟

- هذا السؤال يطرح دائماً لا سيما من الأصدقاء والمعارف. وقد طرحته انا نفسي مرارا. حتى رئيس الجمهورية سألني هذا السؤال المحرج قبل أسابيع: “مكانك ليس هنا! ألا ترى معي بانك تضيع وقتك في مهنة الانتخابات..” قال لي د. برهم صالح بمودة عالية امام مشاركين في اجتماع بمكتبه بينما كان يقلب صفحات كتاب لي عن “الفلسفة البابلية” اهديته نسخة منه آنذاك. وهو على حق بلا ريب. ولكن، ومع اعتزازي البالغ بهذا التثمين، لا اعتقد بان حسم الاختيار بين الفلسفة والحياة العملية سهل او ممكن كمجرد خيار شخصي لا سيما في بلد كالعراق حيث على الكاتب ان ينخرط في شلال الحياة بما فيه من تناقضات واخطار اذا قرر مقاومة العزلة ورفض التحول الى مجرد متقاعد او مجرد مثقف يعد أوراقه الأخيرة وهو في طريقه الى الانقراض. وفي كل الأحوال، لا اترك فرصة سانحة دون ان اوظف فيها الطاقة المعرفية التي امتلكها سواء في كتابة نص او في نشاط جامعي او في فعاليات حيوية لمنتديات فكرية او أدبية في العراق او مع الجاليات المغتربة. وعلى العموم، ان أي منصب لا يستحق التضحية ولا قيمة له امام جلال الشعر او الفلسفة ومهما كان.

س: هل تسمح لك مهماتك الوظيفية في الانتخابات بامتلاك الوقت والتركيز اللازم لمواصلة الاهتمام بالفلسفة والادب؟

- يعتمد الامر على مواسم العمل والاولويات والظروف. لكن على العموم لدي دائما الوقت اللازم لمتابعة اهتمامات الفكر والكتابة. انا موظف انتخابات دولي منذ عقود. وهي عمل يدوي او عضلي اذا جاز القول ولا تحتاج الى طاقة ذهنية كبيرة على عكس الكتابة الأدبية والفلسفية. لكنني لست موظفا عاديا. فهنالك في عملي بالانتخابات العراقية لا سيما المقبلة عوامل جذب وتحديات فكرية وسياسية تغرينا بالعمل من اجلها ولو جزئيا. فمن جهة هناك قناعة بامكان تقديم خدمة ولو بسيطة من خلال المساهمة في دعم اجراء انتخابات مبكرة وعادلة وحرة ونزيهة. بالتأكيد لا توجد ضمانات كافية كما ان هناك كثيرون لا يؤمنون بواقعية هذا المشروع. الا انه لا خيار لنا سوى المحاولة وتصحيح المحاولة وكل التجارب العالمية في دول العالم النامي مرت بهذا الطريق الوعر ونجحت غالبا. العامل الآخر هو انني امتلكت معرفة تقنية وسياسية مطلوب مني توظيفها اليوم. ولا ضير ان يلتقي هذا مع طموحنا طموح اغلبية العراقيين باجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة.

س: هل سيتمكن العراق من انجاز هذه المهمة؟

- العراق وطن حقيقي فضلا عن انه يمتلك ما لا يمتلكه غيره في المنطقة من طاقات بشرية وطبيعية وحتى روحية تجعله قادرا على تجاوز حالة الرجل المريض التي يعانيها حاليا الى حالة القوة الإنسانية البناءة وحتى القيادية. بلا شك، هناك اليوم صراع ينبغي الانتصار فيه، ومعركة ينبغي الفوز بها. نعم يمكننا اجراء انتخابات ديمقراطية نظيفة وعادلة اذا وفرنا الشروط اللازمة لها وقدمنا كل الدعم للمفوضية لتمكينها من تحقيق النجاح في تعميم الاعتماد على النظام البايومتري حصرا في كل مراحل العملية الانتخابية الى جانب توفير المراقبة الوطنية والدولية الفعلية وقيام الدولة بتوفير بيئة آمنة وحرة للانتخابات عبر كافة الإجراءات الممكنة وحظر السلاح المنفلت والمال السياسي المنفلت ورفض التدخلات الخارجية والداخلية المسيئة لنزاهة العملية الانتخابية فضلا عن تفعيل تنفيذ العقوبات القانونية على كافة الجرائم الانتخابية وتشديدها دون اغفال لزوم قيام القوى الجديدة والشابة بتنظيم نفسها ومضاعفة استعدادها لضمان تحقيق فوز حقيقي ولو نسبي في الانتخابات.

س: كيف ستسمح له الحيتان التي تحيط به بتحقيق هذا الهدف؟

- إرادة الشعب يجب ان تحترم باعتباره مصدر السلطات والانتخابات لن يكون لها أي معنى اذا لم تكن حرة ونزيهة. بلا شك هناك عقبات وصعوبات وحيتان لكن العراق بحاجة مصيرية الى التغيير والخروج من حالة الخطر التي يمر بها الآن وعلى الجميع الاستجابة لإرادة الناس بحياة كريمة اقتصادية وسياسية أيضا لا سيما واننا امام مجتمع كبير قوامه حوالي اربعين مليون نسمة في بلد عريق بالحضارة والثقافة والثقة بالنفس لكنه يعاني في نفس الوقت من مرارة الفشل ومن معاناة كبيرة جدا وعميقة. وانا اعتقد ان هذه الوضعية لا يمكن ان تستمر طويلا. فحتى من وجهة نظر فلسفية لا يمكن لها ان تستمر كونها غير عقلانية وخرجت من كل الاطر تقريبا. على العكس اعتقد ان القوى القديمة خسرت المعركة مع الشعب أصلا وهي تدرك ذلك كما تدرك انها فقدت السيطرة على مقاليد الامور رغم كل المظاهر ولذلك فهي تحاول الان ان تتكيف مع الحقائق الجديدة.

س: الا تعتقد بانك تتبنى نظرة متفائلة جدا؟

- قد يكون ذلك وهو ضروري. هناك اليوم قوى قديمة تلفظ انفاسها ولكنها ما زالت تقاوم. هناك تقييمات مختلفة وهذا صحيح. البعض وصفها بانها أصبحت نمورا من ورق فيما يرى أخرون ان اوراقها انكشفت واسلحتها باتت قديمة لكنها ما زالت نمورا. انا اعتقد ان هذه القوى استهلكت نفسها ولم يعد لديها ما تقدمه للمواطن. الا ان غياب البديل الجديد هو المعضلة الأساسية الآن. ومن وجهة نظر ديالكتيكية أرى ان هناك امل قوي بتغيرات إيجابية كبيرة في العراق خلال السنوات المقبلة ولدي الثقة الكاملة بأن الوضع لا يمكن ان يستمر على هذه الصورة بعد الآن ولذلك اشعر ان هناك مجال لدي لتقديم عمل مفيد من خلال الانتخابات وهذا يتيح لي التواصل مع الناس.

س: لماذا اخترت الفلسفة هل كانت طموحك الشخصي ام فرضتها عليك رغبات القبول المركزي؟

- فرضتها رغبات القبول المركزي الجامعي بالفعل. فعند التقديم الى جامعة بغداد في العام الدراسي 1966 -1967، اردت الالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية التربية لأنني كنت اطمح ان احصل على وظيفة مدرس بعد التخرج، وكانت وظيفة تضمنها الدولة لخريجيها دون الكليات الأدبية الأخرى. لكن الحظ لم يحالف حفنة طلاب حفاة كنت احدهم، اذ رمونا وملفاتنا في لحظة حرجة اسرعت اثرها الى كلية الآداب لأجد ان كافة الأقسام “البرجوازية” قد أغلقت أبوابها ولم يعد امامي سوى اقسام الاجتماع والصحافة والاثار والفلسفة فتشبثت بهذا الأخير رغم تحذيرات كثيرين من التورط باختيار هذا القسم “التعبان” بنظرهم. واتذكر عندما دخلت الى الصف الأول في قسم الفلسفة اننا كنا ستة عشر طالبا مبعثرين في القاعة لا يعرف احدنا الآخر كما لو انهم جميعا جاءوا الى قسم الفلسفة مرغمين هم ايضا وربما بنفس الطريقة التي اوصلتني اليهم لكننا سرعان ما بنينا علاقات تعاون طيبة.

س: لو عاد بك الزمان، وأعطيت لكِ فرصة ثانية للاختيار، هل كنتَ ستختار قسما آخرا غير الفلسفة؟

- لن يعود الزمان الى الوراء طبعا. لكن اذا خيرت من جديد افتراضا لأخترت قسم الفلسفة دون تردد. فقد صرت افضله على كافة الأقسام الأخرى في كلية الآداب والتربية أيضا مع احترامي لهما. لكنها كانت مسيرة طويلة وعسيرة قبل الوصول الى هذا الاستنتاج. وللحقيقة كنا محظوظين ان نعاصر تلك الحياة الجامعية الجميلة في كليات جامعة بغداد في منتصف الستينات وقبل الانقلاب البعثي في تموز 1968 الذي كانت اعتداءات جلاوزته على الهيئات التدريسية والطالبات والطلاب كارثة على المستوى العلمي ما تزال الجامعات العراقية تدفع ثمنها الى الآن. فقبل ذلك الانقلاب كان الكليات زاهرة بالأنشطة الثقافية والعلمية ولا سيما كلية الآداب التي اشتهرت بمهرجانها الشعري السنوي الذي تنافس فيه شعراء الكلية وكنت المضطهد دائما بينهم نظرا الى انني من قسم الفلسفة بينما كانت اللجنة التحكيمية متكونة من أساتذة اللغة العربية المنحازين الى تلاميذهم بشكل فاضح غالبا. اما قسم الفلسفة فقد اشتهر بنخبة من الأساتذة لعلهم الأفضل في كل تاريخ القسم ما منح تلك الفترة تسمية “الفترة الذهبية” لتدريس الفلسفة في العراق وكان ابرزهم المفكرون الراحلون مصطفى كامل الشيبي وحسام الالوسي وياسين خليل ومدني صالح كما تميز القسم بجريدة جدارية باسم (الفكر الجديد) كانت تستقطب الطالبات والطلاب وكنا نحررها كاملة واتذكر انني نشرت فيها أولى كتاباتي وقصائدي.

س: قال تعالى (يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ. وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا..) سورة البقرة الآية 269.. ومعنى كلمة فلسفة هو حب الحكمة. وهذا يجعل من الفلاسفة اشخاصا حكماء ومفكرين والاهم من ذلك رساليين أي بمعنى اصحاب رسالات.. فهل انت كذلك .؟ وماهي رسالة حسين الهنداوي؟

- انا لا زلت تلميذا بسيطا ونقطة صغيرة في بحر الفلسفة المترامي. الفلسفة نور عظيم. وحب الفلسفة نعمة بكل المعاني. وهذا ما صرت اتيقن منه يوما بعد آخر. وهذه هي الرسالة. وهي موجودة تلقائيا وربما فطريا لدي الا ان تجلياتها تسمو وتتجدد يوما بعد يوم. ولم يكن هناك تخطيط لها ولم يكن هناك مشروع. خلال فترة الدراسة الجامعية في بغداد كانت هناك نبتة بالفعل لكنها ذبلت بفعل طغيان الشعر على معظم الاهتمام والعنفوان، ثم اهملت تماما ونسيت لصالح هموم السياسة والأيديولوجيا وكذلك الشعر الذي ظل يقاوم. لكن الفلسفة عادت بشكل اقوى من أي وقت مضى بعد الانتقال الى فرنسا والعودة الى الدراسة الاكاديمية وخاصة الفلسفية في جامعة بواتيه حيث مركز دراسات هيغل وماركس الذي انشأه وظل يديره استاذنا الراحل البروفيسور جاك دونت عالم الفلسفة الفرنسي العالمي الأهمية في دراسة الفلسفة الهيغلية. وهكذا ومع مرور الزمن والتجربة صارت الرسالة هي جعل الفلسفة تلعب دورا اساسيا في خدمة ثقافتنا الوطنية قدر المستطاع.

س: هل تواكب الثقافة العرقية تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة في نظرك وكيف تدعم ذلك؟

- اعتقد ان الثقافة العرقية الراهنة بين انشط الثقافات العربية في مجال التفاعل الحيوي والبناء مع تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة. وهذا ليس جديدا وان كان يتم بشكل عفوي وغير منهجي في الغالب. لكنني أرى ضرورة العمل أيضا على تأصيل العلاقة بين الفلسفة وثقافتنا التاريخية على أساس علمي لأن الثقافة ومنها الفلسفة هي البعد الأساسي في الهوية الوطنية العراقية وهو ما يميزها ويغنيها منذ البداية وعلينا مواصلة تغذيته وفق شعار (زرعوا فأكلنا..) وتعميق النزعة الإنسانية العالمية فيها ومن هنا تعاملي مع الفلسفة البابلية كالأصل البعيد للعقلانية الكونية الحديثة واعتقد اننا كلما توغلنا اكثر في البحث كلما اكتشفنا مناطق خصبة جديدة في الثقافة العراقية الاصلية وايضا في الفلسفة، وهذا ما حاولت تأكيده في كتابي عن الفلسفة البابلية غبر تقديم دلائل مؤكدة تقريبا على ان كلمة فلسفة اصلها بابلي ومعناها “حب الحكمة” أيضا وهذه الاطروحة أصبحت متداولة جدا حاليا حتى خارج العالم العربي. ونفس الشيء حول موضوع الدولة الذي نعمل على تعميق الحوار الفلسفي حوله في سلسلة مقالات عن نظرية الدولة ما بين هيغل وابن خلدون كشفنا فيها عن عمق فكرنا الفلسفي السابق واصالة اطروحاته في بناء الدولة وهيكليتها وشكل الدول وهذا الحوار مطلوب الآن في التعامل مع النظريات الفلسفية حول الدولة سواء كانت اسلامية كالتي يمثلها ابن خلدون او غربية كالتي يمثلها هيغل او غيرها.

س: اين تكمن قوة فكرة الدولة لدى هيغل في رأيكم؟

- تكمن في التأكيد على ان الدولة هي العقلاني والمطلق والثابت الذي تبلغ فيه الحرية سموها الاقصى. لكن للوصول الى الدولة التي يجد فيها الفرد نفسه حراً تماماً يتوجب على الانسان تطوير عدة اشكال من الدول، بموجب عدة مبادئ وعبر عدة حقب تاريخية ابتداء من اللحظة التي يبدأ فيها قطيعته مع حالته البدائية على المستوى الحضاري العقلاني. أي ان الدولة هي الاساس والاطار التي تنمو به الحضارة ككل بما فيه الفن وضروبه المختلفة مثل الشعر والموسيقى والعمارة والمسرح وكل الامور الاخرى وايضا بالنسبة للفلسفة نفسها والتيارات الفلسفية، تحتاج الى هذا الاطار الذي يحميها وايضا يوفر لها الحريات الأساسية. وبالنسبة للفكر الهيغلي ان الدين هو مصدر الدولة، وان شكل العلاقة بين الله والانسان في أي دين هو الذي يخلق شكل الدولة وهذا ينطبق حتى على ابسط اشكال الدول. فحتى في دولة الطبيعة في افريقيا مثلا هناك علاقة روحية تشعر بها الإنسان بسموه.

اما سر صمود الفلسفة الهيغلية فتلخصه ببساطة جملة واحدة وهي: لا يمكن ان تكون هيغليا بعد هيغل. أي أن الهيغلية مفهوم متحرك كالحياة. لان الديالكتيك يغذي بل يفرض ديمومة الصراع والفكر المتجدد وانا اعتقد ان اهم ما تعلمته من الفلسفة هو لا دوغمائية ولا عقائد جامدة بعد اليوم. أي انه ليس هناك حي الا هذا الصراع الذي يبدو بمثابة ينبوع الحياة المتجدد والمستمر والذي نحاول ان نكون جزءا منه لكن الجزء الحي في نفس الوقت وليس فقط مجرد تكرار باهت او تكرار ميكانيكي لما يحدث. وهذا التكرار نجده في الايديولوجيات والشعارات، وانا خلال تجربتي في العمل السياسي او الحزبي وجدت نفسي اصطدم غالبا مع المسؤولين الحزبيين وخاصة هؤلاء الذين نطلق عليهم (الأيديولوجيين) اذ غالبا ما يكون هؤلاء اكثر قمعا حتى من شرطة القمع كما لو أن الأيديولوجي يشعر الرغبة بالانتقام كلما شعر بالهزيمة الفكرية او كلما شعر بلزوم التخلي عن فكرة لديه.

س: بعد كل هذه الدراسة والبحوث التي اطلعنا على الجزء اليسير منها فوجدناها غنية بالمعرفة والحكمة وخصوصا في مجال بناء الدولة هل كانت لكم رؤية في هذا المجال منفصلة عما يطرح الان؟ وهل آمن بكم احد؟

- الفكرة الجوهرية هي رفض الاستبداد بكل اشكاله لأن الاستبداد قد يبني أقوى بلاطٍ او سلطة قمعية لكنه لا يستطيع ان يبني الدولة لا سيما دولة الحقوق التي نطمح الى بنائها وهي نقيض الاستبداد بالطبع. نعرف جيدا وهذا ما ركزنا عليه بالتفصيل في كتاب (استبداد شرقي ام استبداد في الشرق) ان القوى الاستعمارية الاجنبية اتهمت كل الدول الشرقية والإسلامية على مر التاريخ بالطغيان والاستبداد لتبرير احتلالها لبلداننا. الا ان كل هذا وغيره لا ينبغي ان ينسينا حقيقة ان تاريخ الدولة في الشرق لم يكن الا سلسلة لا تنقطع من الأنظمة الاستبدادية وغالباً البشعة. ومن هنا استنتاجنا المعروف بحقيقة ان هناك استبداد في الشرق والغرب على حد سواء وهو ما يؤكده التاريخ السياسي الغربي، حتى الثورة الفرنسية على الأقل، حيث توالت على الحكم سلسلة من الانظمة الاستبدادية والمطلقة غالباً الأمر الذي يعني ان من الخطأ القول بوجود علاقة قدرية بين الاسلام والطغيان أو بين الشرق والعبودية تماماً كما انه محض وهم القول بوجود علاقة قدرية بين الغرب والحرية أو بين المسيحية والديموقراطية.

س: طبيعي هذه حاجة الانسان الى دين تفرض عليه هذه الحالة اذا لم يجد الله ليعبده تجده يضع حجارة ليعبدها ولكن دعنا نناقش بناء الدولة في الفكر الاسلامي ..هل حدد الدين الاسلامي شكل الدولة او نوع الاقتصاد؟

- في كل الاديان هناك موقفان او تياران يمكن ان نطلق عليهما يساري ويميني، المحافظ والمنفتح وهذا يشمل الإسلام الذي يركز على فكرة العدالة والمساواة دون ترويج نموذج محدد او ثابت لشكل الدولة. على المستوى العملي، واذا استثنينا الفترة الراشدية، فان كل السلطات المنتسبة الى الإسلام بدءا من السلطة الاموية حتى السلطة العثمانية هي أنظمة قمعية لا علاقة لها بمفاهيم العدالة والمساواة وغيرها التي دعا لها الإسلام. وهذه العلاقة البعيدة عن مفاهيم الإسلام وحتى المضادة له هي ما تستند اليه بعض الجماعات المتطرفة والارهابية بزعم التفسير الاصولي للنص وامثال هذه الجماعات الأصولية الاعتباطية وجد بشكل مبكر في الواقع ونعرف الاعتداءات التي تعرض لها مفكرو المعتزلة في بغداد وغيرها من قبل الجماعات الأصولية المتطرفة لمجرد انهم سعوا الى التأويل على أسس عقلية دعا اليها القرآن الكريم ذاته وفي اطار المحافظة على الاصول الاساسية وخاصة التوحيد والعدل وغيرها من مسائل أساسية ترسم العلاقة بين الله والانسان وبين المجتمع والافراد وانعكاس ذلك في الدولة سواء كانت اسلامية او غير اسلامية، وانا اعتقد من الضروري جدا الآن العودة الى احياء وتطوير الأفكار والجوانب العملية غير المكتشفة لحد الان في فكرنا حول الدولة وعبرالعمل على عزها دون السقوط في حبال المصلحية النفعية او التعصب او الابتعاد عن جوهر مبادئ العدالة والمساواة والتضامن والتسامح التي يبشر بها الدين نفسه.

س: معروف عن المؤسسة الدينية بكل اشكالها ايمانها بالنظم الثيوقراطية وهذا يتعارض مع اراء المفكرين والفلاسفة والحكماء وغالبا ما تكون نهاية الفلاسفة على يد رجال المؤسسة الدينية على مر العصور.. هل عانيت من هذا الموضوع وما هو موقف المؤسسة الدينية مما تطرحه من افكار تنويرية؟ ام انت متصالح معها فيما تطرحه من افكار في بناء الدولة؟

- هذا سؤال مهم جدا لكن الامر لا يخص هذا الدين او ذاك او هذه المؤسسة الدينية ام غيرها خاصة وان الأديان والقادة الروحانيون الحقيقيون يؤكدون جميعا الآن على العدالة والمساواة والحقوق الفردية وحرية المعتقد وحتى حقوق الانسان. المواجهة بين المفكر والمؤسسات الدينية ليست حتمية كما كان الامر في الماضي لكنها ستكون مواجهة عبثية لمن يصر عليها وضارة بالجميع. مشكلة المفكر الحقيقية هي مع السلطة السياسية وليس الدينية في الواقع. وعلى اية حال فان قدر المفكر ان يمشي بين ألغام ليس له يد في صنعها. كل مؤسسة تعتبر نفسها عليا تنظر الى المثقف بارتياب وهذه بديهية. حتى في الأحزاب الأكثر أيديولوجية وديمقراطية في العالم لا سيما الثالث هناك مواجهة ما لا مفر منها تنتظرك.

في بداية حياتي السياسية والفكرية وعندما كنت في حركة يسارية جيفارية الهوى واجهتنا هذه الحقيقة بشكل صادم. الصدام مع القيادة العليا كان قدرا تتفاقم خطورته مع الأيام في تجربة قاسية جدا لنحو ثلاث سنوات ونصف في أعالي جبال تكاد تلامس السماء لم يكن يهم الزعيم خلالها الا تكريس سلطته العليا وعصمته. لكن مع ذلك كانت تجربة عظيمة في جوانب عديدة منها لا سيما في هدفها النبيل بالخلاص من النظام البعثي الفاشي الذي عاث في الأرض فسادا ما بعده فساد. ان تجربة حركة الكفاح المسلح التي شهدها العراق في نهاية أعوام الستينات الماضية تحتاج الى وقفة طويلة جدا لسرد دروسها ومجرياتها التي هي صفحة نيرة من تاريخ العراق الحديث وشارك فيها عدد كبير من العراقيين المناضلين وبينهم شعراء وكتاب وعمال وفلاحون من كل انحاء البلاد. ومع ذلك كنا دائما نصطدم بالقيادة التي بدت لنا كمجرد دكتاتورية مصغرة كان علينا أحيانا ان نتجنب التصادم معها كي نواصل الحياة من جانب ونواصل عملنا الثوري ضد النظام الدموي من جانب اخر.

س: للشعر حصة ايضا في حديثنا ..كيف تمكن الشعر واقتحم عالم الفلسفة الذي تعيشه ؟ كيف كانت البدايات؟

- في البدء كان الشعر وقبل الفلسفة لدي في الواقع. فقد بدأت كتابة الشعر منذ أعوام الدراسة في المتوسطة اذ كانت اول قصيدة وتحديدا في منتصف 1963 ثم تطور الامر خلال الدراسة الإعدادية اذ كتبت قصيدة في رثاء الشاعر بدر شاكر السياب وأخرى وجدانية اردت ايصالها الى ام كلثوم كي تغنيها وكانت مستلهمة من قصيدة الاطلال وقصائد أخرى احداها عن استشهاد الامام الحسين (ع) وكنت آنذاك طالبا في الصف الرابع بثانوية الشعب بالكاظمية وكان عمري حوالي 17 عاما. وقد ساهم في بلورة قدراتي الكتابية اهتمام مدرس اللغة العربية في ثانوية الشعب آنذاك وهو الاديب والشاعر مظفر بشير وكان استاذا كريما جدا كان يحول درس المحادثة في كل يوم اربعاء الى درس لابراز مواهبنا البسيطة بالسماح لكل طالب بالقاء خاطرة او قصيدة امام التلاميذ ثم يدعو التلاميذ الى مناقشتها وهذه كانت تجربة مبكرة وجديدة ربما في ذلك الوقت. وكنت مع تلميذين او ثلاثة آخرين نتفرد في قراءة القصائد والخواطر كل أسبوع تقريبا وفي احد المرات اخذ مني الأستاذ قصيدة ونشرها في بريد القراء بجريدة البلد البغدادية وكان ذلك في حوالي عام 1965 وقد مثل منعطفا في حياتي الشعرية. وبالفعل فقد نظمت الكثير من القصائد العمودية القصيرة لأغراض شتى. وحين انتقلت الى الدراسة في كلية الاداب في صيف 1966، كانت مهاراتي الشعرية قد تبلورت بشكل افضل ما سمح لي بنشر نصوص منها في صحيفة جدارية خاصة بطلاب قسم الفلسفة توليت تحريرها وكان مما نشرته قصيدة غزلية بسيطة سرعان ما شاهدت احد الطلاب ينقلها ويرددها باعجاب اثار فرحي، وقد شجعني ذلك على مواصلة كتابة الشعر العمودي قبل ان أتقدم للمشاركة في مهرجانات كلية الآداب السنوية بانتظام ونلت عدة جوائز تشجيعية كما نشرت العديد من القصائد في الصحف والمجلات العراقية وقد جمعتها لاحقا في مجموعة شعرية باسم (رمال) اجازت وزارة الثقافة آنذاك نشرها الا انها لم تر النور ابدا. بيد انني نشرت عددا من القصائد والمقالات في مجلة (العاملون في النفط) اثارت اهتماما ومكافآت واشهرها ربما قصيدة (بيادر الصمت) التي لحنها الفنان نامق اديب.

س: ماهي حصيلة هذه الرحلة مع الشعر ؟ هل كانت غنية مثلما هي الفلسفة ام شيء عابر ؟

في عام 2013 صدرت لي مجموعة شعرية أولى بعنوان (اخاديد) وهناك مجموعة أخرى في الطريق الى النشر قريبا. وهناك قصيدة عن بغداد لحنها الموسيقار نصير شمه وانتظر ان يتم اطلاقها قريبا. وهناك عشرات القصائد الأخرى غير منشورة. الشعر في نظري اصعب واقرب الى الروح من الفلسفة برغم ان قصائدي المتأخرة اهتمت بالبعد الفلسفي بشكل خاص. منها قصيدة: الأيّامُ..

حمَلتْنا في رحمِها كالسّلاسلْ،

وأرضعتنا مرارةَ المحبّة، وهشاشة القصبْ..

الأيّامُ.. الأيّامُ..

أوصدت أبوابها بالحجارة

وأعطتنا مهبَّ الريح.. وأعطتنا..

صهيلاً لأجسادنا.. ومنافذَ.. وأوديةً سحيقة

فركضنا كالدخان الأبيض

نحو فضاءاتٍ متعالية..

ركضنا.. مطهّمين

بجنونٍ.. يقطننا.. كالنور..

س: للوطن مسكن في قلب الشاعر فهل حل هذا الوطن في قلب شاعرنا ام جرفت الغربة هوى الوطن بعيدا؟ ام مازال الوطن يسكن في قلبه ؟

 - في الثالثة والعشرين من العمر تركت بغداد فجر يوم 12/5/1971 هربا من الاعتقال بتهمة معارضة النظام البعثي وكان علي قطع المسافة طولا من بغداد الى ناحية كلالة الواقعة قرب اقصى الحدود الشمالية مع ايران. وهناك واصلت عملي مع المعارضة العراقية من اجل اسقاط النظام كما ذكرت. وفي السادسة والعشرين من العمر قطعت العراق عرضا من الحدود الإيرانية الى الحدود السورية وذلك في شهر آب من عام 1974، حيث قطعت الطريق بالسيارة لبعض الوقت مرة ثم على ظهر بغل لفترات او سيرا على الاقدام في الغالب اذ كان علي التسلل الى الأراضي السورية هربا من الجيش العراقي الذي كان يتقدم سريعا باتجاه احتلال المنطقة باسرها.

في سوريا بقيت سرا لفترة قصيرة قبل ان احصل على فرصة الذهاب الى لبنان بغرض العمل الا انني فوجئت باندلاع الحرب الاهلية اللبنانية ومن هناك ذهبت الى فرنسا بجواز قديم وذلك في العام 1975 الامر الذي سمح لي بالتسجيل في الجامعة لاستئناف دراسة الفلسفة من جديد. العراق كان معي دائماً في كل المحطات كما ان العودة الى العراق كانت هدفا معلنا بالنسبة لي ولكثير من المناضلين اليساريين. وفي فرنسا لم اتوقف يوما عن عملنا المعارض للنظام العراقي الا ان الصحافة والثقافة غدت الميدان الأساسي لنا وكانت مجلة (أصوات) التي اصدرناها في فرنسا ثم في لندن شاهدا قويا على مواصلة عملنا من اجل العراق. وفكرة العودة الى الوطن كانت تعيش معنا الى درجة رفضنا في البداية ان نطلب اللجوء السياسي والذي لم احصل عليه الا بعد مضي اثني عشر عاما كنت اعيش خلالها بصفة طالب مقيم وبدون جواز عراقي. والحقيقة لم اكن الوحيد على تلك الحال بل كان كثيرون من الوسط اليساري العراقي يحملون ذات التعلق الرومانتيكي بالعراق .

س: يعني رغم معاناتكم من قياداتكم في الحزب والدولة من ابتزاز وبقيت ثابتا على هذا الموقف من الوطن؟

- الفلسفة كانت تعطينا قوة غير طبيعية في التحرك وفي الرغبة بان تكون بعيدا عن القيود التسلطية لحزب او لفئة او لقائد مهما كان. وقد عزز هذا التوجه اننا لم نجد قائدا يمتلك قيمة فكرية او تاريخية يستحق ان تمنحه رئاسة او سلطة عليك. وبالنسبة لي كنت اشعر باسترداد حريتي كلما ابتعدت عن التنظيمات الحزبية وعملت كمعارض او مثقف مستقل بل كنت اشعر بالقدرة على خدمة عراقيتي بشكل او بآخر افضل لا سيما وان التعرف على الفلسفات والثقافات الأخرى تمنح الثقة بالنفس والثقة بان انقاذ الشعب العراقي ما عادت قضية جغرافية محددة او جماعة دينية او عرقية ولكنها ثقافية أساسا ولها امتدادات في كل الجوانب كما عززت علاقتنا الروحية بالعراق الذي لم يعد مجرد انتماء جغرافي انما صار أيضا بالنسبة لنا هوية ثقافية نحتاجها في هذا العالم الواسع. هذا قادنا أيضا الى ان نتعامل مع العراق كفكرة جميلة رحنا نستحضر ذكريات ووجوه اناسه الطيبين ومدنه الجميلة مثل طويريج وكربلاء وقد شجعني هذا التوجه على تأليف كتاب محبة عن طويريج علما بانني غادرتها يافعا فقد أصبحت هوية هي أيضا مثل العراق الذي انتماء جماليا ولذا لم يعد هناك تعصب ومصالح.

س: تدخلت الفلسفة في شتى انواع العلوم والحقول المعرفية والمعروف عن الشعر لغة تتحدث في شتى الاغراض هل كتبت في الشعر الفلسفي؟

نعم كتبت عن علاقة الشعر العراقي بالفلسفة وهناك دراسة واسعة عنوانها (بلند الحيدري واغراء الفلسفة) واخرى عن (مظفر النواب) والعشرات من الشعراء العراقيين والعرب كما كتبت عن الشعر الفلسفي عند الشاعر الكاتالاني رايمون لول وتأثره بفلسفة وحدة الوجود عند الحلاج وهناك دراسات كثيرة فضلا عن محاولات عديدة لكتابة قصائد تحوم حول الفلسفة احاول ان انشرها كلها دفعة واحدة في اقرب وقت وأنني اعتقد ان الشعر الفلسفي هو قمة الشعر كما أنه يمتلك خصوصية على صعيد المضمون وكذلك بخصوص البناء كالكثافة والقصر ضربات الموسيقى الداخلية الموازية للضربات الفكرية وهي جميعا توفر خاصية جمالية مكملة للخاصية الفلسفية.

س: هذا سؤال افتراضي وليس له على ارض الواقع من اساس : لو خير حسين الهنداوي بين الشعر والفلسفة ايهما سيختار؟ ولماذا؟

- لم ولن افضل احدهما على الآخر. ورغم ان الشعر هو البداية وهو الأخير ليس بالإمكان التخلي عن الفلسفة وخاصة في هذه المرحلة من التكوين. وكما اخبرتك، ان الفلسفة افادتني كثيرا ليس فقط علميا انما حياتيا ايضا بفضل ما كان لها دور اساسي في هويتي الانسانية. لكن من يعمل في الفلسفة عليه ان يعرف بانه لن يكون غنيا في يوم من الأيام كما اخبرنا مرة استاذنا وكان احد كبار المفكرين الفرنسيين لمته توفي قبل عشر سنوات وكتبت عنه. وانا فخور جدا بالعمل معه فقد علمني الكثير جدا. وقد علمت مؤخرا انه وضع اسمي بين افضل عشرة طلاب عملوا تحت اشرافه حيث كتب في مذكراته ان اطروحتي عن (هيغل والإسلام) بين افضل واهم عشر اطروحات اشرف عليها خلال نحو نصف قرن من عمله أستاذا للفلسفة الهيغلية.

س: انت عملت في الاعلام .ممكن تحدثنا عن تجربتك الاعلامية؟ .

- تجربتي الإعلامية والصحفية طويلة جدا في الحقيقة لأننا كمثقفين وشعراء في العراق منذ البداية لدينا تواصل مع الصحف على وجه الخصوص وانا كنت اشتغل حتى لما كنت في جامعة بغداد كنت اعمل في مطبعة ثنيان في باب المعظم كما كنت اصحح الاخبار السوفيتية واصحح مجلة (العاملون في النفط) التي كانت تصدرها شركة نفط العراق. وهي مفارقة طبعا ان تصحح في نفس الوقت آنذاك مجلة تصدرها الدولة السوفييتية وأخرى تصدرها شركة نفط امبريالية. وكانت هناك أيضا مطبوعات اخرى من مختلف التيارات كنت اصححها لكوني عاملا في تلك المطبعة الا انني تعلمت منها ومن قراءتها الكثير كما تعلمت منها أهمية النشر وبالفعل نشرت الكثير في مجلة (العاملون في النفط) وفي صحف عديدة اخرى ولم اكن تجاوزت العشرين آنذاك. وهكذا وعندما غادرت العراق للخارج كانت الصحافة المهنة الاساسية التي امامي عند البحث عن عمل وهذا ما حصل في بيروت عام 1975 حيث كتبت في مجلة الهدف الفلسطينية وكذلك في صحيفتي السفير والنهار وفي منشورات أخرى. وحينما غادرت الى فرنسا كانت مهنة الصحافة اداتي الأساسية وبفضلها عملت في عدد من المؤسسات العربية والفرنسية كما قمت مع أصدقاء باصدار مجلة اصوات في عام 1976 وعملت في دار نشر للترجمة وكنت مترجما لمدة عشر سنوات من الفرنسية الى العربية وقد ترجمت نصوصا كثيرة من بينها دراسة مهمة عنوانها “ولادة الكون عند طائفة حركة اهل الحق العليلاهية) فضلا عن ترجمة كتاب (هيغل والفلسفة الهيغلية) من تأليف استاذي البروفيسور الفرنسي الراحل جاك دونت وهو كتاب مهم اذ يعد مرجعا أساسيا في موضوعه وهو مترجم الى عدة لغات أيضا.

ختاما ولعل اللقاء يتجدد معكم دكتور نتمنى ان نكون قد سلطنا الضوء على جوانب ثقافية مهمة في حياة الدكتور حسين الهنداوي وعلى منجزة الثقافي والادبي ...شكرا لسعة صدركم ولقبول دعوتنا .

 

اجرى الحوار: طارق الكناني

 

2180 علي الربيعي ونابي بوعليهذا الجزء الثاني من الحوار الذي اجراه الأستاذ الدكتور نابي بوعلي مع الأستاذ الدكتور علي رسول الربيعي حول الأخلاق والمعايير.

س11: أ.د. نابي بوعلي: من بين المعايير التي نناقشها مع الآخرين، بالطبع، المعايير الأخلاقية. وجدتك تقول من خلال نقاشنا أن الأخلاق تنطوي على معايير للشعور بالذنب والغضب. يكون الفعل، وفقًا لهذا التفسير، يكون فعل ما خاطئًا من الناحية الأخلاقية إذا وفقط إذا كانت المعايير التي يقبلها المرء تنص على أنه من المنطقي الشعور بالذنب حيال القيام بذلك ومن المنطقي الشعور بشكل من أشكال الغضب - مثل الاستياء أو السخط - إذا فعل ذلك شخص آخر. لكنك – وفي سياق النقاش- تعترف أيضًا بمجموعة واسعة من المشاعر الأخلاقية- الكبرياء والعار والرحمة، على سبيل المثال لا الحصر. فلماذا التركيز على الشعور بالذنب والغضب؟

ج11: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، حسنًا، لقد كنت مهتمًا بهجمات برنارد ويليامز ونيتشه على الأخلاق، وخاصة على الشعور بالذنب والاستياء. ثم فكرت في وجهة نظر جون ستيوارت ميل بأن الأفعال المتعلقة بالذات، بغض النظر عن مدى ضررها، ليست مسائل أخلاقية، على الرغم من أن بعض الناس يقولون إنها كذلك. كتب ميل عن الأخلاق بالمعنى الضيق أنها تتعلق بما هو خطأ أو ليس خطأ وأن القول بأن الفعل خاطئ يعني أنه يجب أن تكون عليه عقوبة - عقوبة من القانون والرأي العام، أو الضمير، الآن، بدا لي أن ما إذا كان يجب أن تكون هناك عقوبة للقانون ليست القضية الحقيقية. فقد نعتقد، على سبيل المثال، أنه يجب تغريم الأشخاص بسبب وقوفهم فوق عدادات وقوف السيارات مع الاعتقاد بأن الأفراط في الوقوف ليس خطأ أخلاقياً. لذا، أعتقد أن الأخلاق بالمعنى الضيق تتعلق ببساطة بما إذا كان يجب أن يكون هناك إقرار بالرأي والضمير.

س12: أ.د. نابي بوعلي: إذن ما هو الذنب بالتحديد؟

ج12: د. علي رسول الربيعي: أعتقد أنه يجب علينا تعريف الشعور بالذنب على أنه الحالة العاطفية التي تنطوي على متلازمة الميول التالية.  نعتقد أن الشعور بالذنب مبرر عندما نعتقد أن الآخرين سيشعرون بحق بالغضب - الاستياء أو الغضب - تجاه أفعالنا. لذلك، يندمج الشعور بالذنب مع استياء أو غضب الآخرين. نعتقد أنه من الطبيعي الشعور بالذنب عندما يكون من المنطقي أن تغضب من الآخرين إذا فعلوا ما فعلناه. بعبارة أخرى، ينطوي الشعور بالذنب على الاعتقاد بأن الغضب سيكون مبررًا، لذا فهو ينشأ بشكل أساس في الظروف التي يتعرض فيها مكاننا في الترتيبات التعاونية للتهديد من ردود فعل الآخرين على أفعالنا. يقودنا الشعور بالذنب إلى اتخاذ خطوات من شأنها، عادةً، تجنب هذا التهديد. عندما نشعر بالذنب، ناسف ونشعر بالسوء حيال أفعالنا، ونتحرك لإظهار هذا الأسف والألم. كما أننا متحمسون للعمل بطرق تؤدي إلى المصالحة. لذلك يميل الشعور بالذنب إلى الأفعال التي تهدئ الغضب.

بالطبع، قد يعتقد المرء أن "الذنب" هو ببساطة مفهوم نستخدمه للإشارة إلى مجموعة كاملة من المشاعر السلبية تجاه أنفسنا. لكن يبدو أنه يختلف عن المشاعر السلبية الأخرى المتعلقة بأنفسنا، مثل الخجل (أو العار). على عكس الشعور بالذنب، لا يبدو أن الخجل يركز بشكل ضيق على حقيقة أن أفعال الشخص كانت خاطئة. بدلاً من ذلك، يبدو لي أن الخجل يركز على أشياء أخرى مثل - مهارات المرء وممتلكاته.

س13: أ.د. نابي بوعلي: لست متأكدًا من أن وجهة نظرك بالذنب تتطابق مع كل ما نشير إليه باسم "الذنب". ماذا عن ذنب الناجين، والذي يمكن فهمه بشكل أفضل على أنه رد فعل لإدراك أن المرء عرضة لحسد الآخرين بدلاً من غضبهم؟

ج13: د. علي رسول الربيعي: أعتقد أن الاستجابة العاطفية لإدراك المرء أن المرء عرضة للحسد ليست الشعور بالذنب، بل الشعور بالخجل. أعتقد أن ذنب الناجي هو رد فعل على الاعتقاد بأن المرء منفتح على استياء الآخرين. يبدو لي أن الأشخاص الناجحين من مجتمع فاشل هم موضع استياء، ويكون رد فعلهم بمشاعر تستجيب لحقيقة أنهم يتعرضون لهذا النوع من الغضب. الآن، أعتقد أنه لا يوجد ما يبرر ذنب الناجين ولا استياءهم. علينا أن نميز السؤال عما إذا كانت هذه المشاعر مبررة من السؤال عما إذا كان من المفهوم أن يشعر الناس بها. ينطبق الشيء نفسه على المشاعر المتعلقة بحالات أخرى، مثل الإخلال بوعد مع مبرر مقبول، قد يشعر المرء بالذنب لفعل ذلك، لكن يمكن للمرء أن يقول لنفسه أن هذا الذنب لا مبرر له وبعد ذلك، عادة ما يتلاشى هذا الشعور.

س14: أ.د. نابي بوعلي: من وجهة نظرك، إذا انتهك شخص ما معيارًا أخلاقيًا يقبله، فسيشعر أن الذنب له ما يبرره، وسيؤدي ذلك عادةً إلى الشعور بالذنب. يثير هذا تساؤلات حول كيفية تعامل تفسيرك مع الأشخاص الذين يبدو أنهم يقبلون قاعدة أخلاقية ولكنهم لا يشعرون بالذنب لخرقها، ولا يعتقدون أنهم يجب أن يشعروا بالذنب.

كنت قبل فترة، على سبيل المثال، اشاهد فيلم "In Cold Blood"، يقول ديك هيكوك، أحد الشخصيات الرئيسة فيه، وهو قاتل ومتعلق جنسيا بالأطفال: " أعرف ما اقوم به خطأ. لكن في الوقت نفسه لم أفكر أبدًا فيما إذا كان هذا صحيحًا أم خاطئًا، ". ولا يظهر أي علامات على شعوره بالذنب ولا يبدو أنه يعتقد أنه يجب أن يشعر بالذنب. هل تقول إنه لا يقبل المعايير الأخلاقية حقًا؟

ج14: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، إنه يتحدث بلغة عامة، لذا فإن أحد الاحتمالات هو أنه قد تعلم اللغة ولكن ليس لديه المسؤولية التي لدينا نحن الآخرين. أعتقد أنه قد يكون هناك من بين الناس العديد من الأشخاص الذين ليس لديهم رد فعل عاطفي طبيعي أزاء الأحكام الأخلاقية. في حالة المعتل اجتماعيا أي الشخص المصاب باضطراب في الشخصية يتجلى في مواقف وسلوكيات معادية للمجتمع وانعدام الضمير. فيكون استيعاب اللغة الأخلاقية أمر غير طبيعي عنده. علينا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا ما إذا كان يجب علينا تفسير مثل هذا الشخص على أنه شخص لا يفهم الفكرة ولكنه يعرف كيفية استعمال العبارة أو الكلمة، أو كشخص يفهم الفكرة ولكنه لا يهتم ولا يبالي. لا يبدو أنه يهتم كثيرًا بالطريقة التي نفسر بها السلوك. إذا قلنا، "حسنًا، لديه الفكرة ولكنه لا يهتم"، أنه قادر على استعمال اللغة العامة، ولكنه لا يتمتع بتلك الذهنية التي يتمتع بها معظم الناس عندما يستخدمون اللغة. ربما اختار هيكوك بعض السمات التي تُنسب عمومًا إلى "الخطأ الأخلاقي"، مثل أن القتل والاغتصاب يعتبران خطأ.

2180 علي الربيعي ونابي بوعلي

س15: أ.د. نابي بوعلي: لنفترض أنني مقتنع بالحجج التي تقول بأن لدينا واجبات صعبة وتتطلب الكثير من المهارة والجهد حتى نتمكن من المساعدة، لكنني مع ذلك لا أشعر بالذنب عندما أفشل في توجيه مواردي أو ثروتي لمساعدة الغرباء البعيدين المحتاجين. هل تقول إنني لا أقبل حقًا المعيار الأخلاقي الذي أعترف بها؟

ج15: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، أعتقد أنه من المعطيات المثير للاهتمام أننا تم سحبنا من كلا الاتجاهين في هذا الشأن. يبدو لي أنه من الصعب معرفة ما إذا كنت تعتقد حقًا أن الفعل خاطئ عندما لا يكون لديك ميل لتجنبه. إن السؤال، في رأيي، هو ما إذا كنت تعتقد أن الذنب والغضب وارد. يمكنك الاعتقاد بأن الذنب له ما يبرره ولا تشعر بالذنب، ولكن، من وجهة نظري أنت بحاجة إلى آلية تعمل بشكل طبيعي تجعلك تشعر بالذنب. وهذا يعني أن الاعتقاد بأن هناك شعور له ما يبرره هو أن يكون لديك آلية نفسية تعمل بشكل طبيعي على توليد الشعور المعني.

س16: أ.د. نابي بوعلي: أنت ترى إنه من أجل الاعتقاد بأن الذنب مبرر، يجب على المرء أن يندم على القيام بالفعل. لكن قد تكون هناك حالات لا نشعر فيها بالذنب بشكل ينسجم مع ما قمنا به، وأننا نعتقد أننا يجب أن نفعل الشيء نفسه في ظروف مماثلة؟ على سبيل المثال، في "الجرائم والجنح"، أن شخص قتل عشيقته عندما هددت بكشف علاقتهما وكشف مخالفاته المالية. يبدو من المنطقي بالنسبة له أن يشعر بالذنب حيال هذا - وأن يعتقد أن تصرفه سيثير غضب الآخرين اللا أنه لم يشعر بالذنب على ما فعل ولم يندم أبدًا على فعلته. في الواقع، لقد قتل عشيقته ولم يندم أبدًا على فعلته.

ج16: د. علي رسول الربيعي: إنه لأمر محير ما ينطوي عليه العثور على عاطفة غير متماسكة. أعتقد أن الشعور بالذنب يمكن أن يكون مرتبطًا بفكرة: "في موقف مماثل، دعني أفعل الشيء نفسه مرة أخرى". ومع ذلك، أرى أنه من غير المتماسك أن يشعر شخص ما بالذنب عندما لا يندم على فعله. الا يبدو غير متماسك إذا كان يفكر أنه يشعر بالذنب عندما لا يندم على فعله، و"كيف سيكون مستحق اللوم والإدانة!، وايضًا يقول "دعني أفعل ذلك مرة أخرى!". فكر في قصة داود وبتوشيبا في سفر صموئيل الثاني. داود على علاقة مع بتوشيبا زوجة أوريا. حملت بتوشيبا بطفل من داود، ومن أجل التغطية على هذه الفضيحة قتل داود أوريا. بعد ذلك أرسل الله النبي ناثان ليخبر داود بحالة قام فيها رجل غني بسرقة شاة فقير فقط من اجل ان يذبحها لضيفه على العشاء، فالغني بخيل ولئيم جدا وبدلا من ان يذبح من قطيعه الكبير ذبح شاة الفقير الذي لا يملك غيرها. اشتعل داوود غضبا على الغني، وقال لناثان: إن الرجل الذي فعل هذا يستحق أن يموت!  فقال ناثان لداود: "أنت مثل الرجل، وكما تعتقد انه من الصواب أن يموت الرجل الغني في هذه الحالة فكر في نفسك وفيما قمت به.  وفي القول “اسمحوا لي أن أفعل ذلك مرة أخرى".

س17: أ.د. نابي بوعلي: ينطوي الشعور بالذنب على فرض الألم على أنفسنا. ألن نكون أفضل حالًا دون أن نكون عرضة لمثل هذا الجلد الذاتي؟

ج17: د. علي رسول الربيعي: إن خصائص الشعور بالذنب التي تركز على الفعل الاختياري وأنه يتشابك مع الغضب يعني رغم كونه مؤلمًا، إلا أنه عاطفة مفيدة. لأنه إذا كانت معايير الذنب تنص على ذلك عندما ينتهك المرء معايير العمل التعاوني، فعندئذ يكون لدى الناس حافز مشترك لتجنب السلوك الذي يهدد الترتيبات التعاونية. كما أنه يحث على المصالحة عندما يتصرف الناس من أجل تعريض هذه الترتيبات للخطر. لذا فهي تساعد على التعاون. أنا مهتم جدًا بالفرضية القائلة بأن تكيفًا بيولوجيًا هو آلية نفسية تم تكييفها للمساعدة في عدم الاتساق بالذنب. هذا يعني أن الذنب عام وشامل للكل. ومع ذلك، فإن الأدلة من الأنثروبولوجيا مختلطة ومتفاوتة. يبدو أن الغضب على الأشخاص الذين يخالفون الأعراف أمر عام، وقد لا يكون الشعور بالذنب كذلك. لكن الطرق التي يكون فيها الدليل مفيدًا تعطينا أسبابًا لتفضيل الأخلاق على الذنب.

 

 

صالح الرزوقحوار أدبي مع ماغراس ماريا فنوك ودافيد بول فنوك

إعداد وترجمة: صالح الرزوق

س 5: هل تعتقد أن الأدب السوفياتي ترك ندوبا عميقة في جسم الأدب الروماني؟. هل تعتقد أن الروس أخذوا مكان السوفييت بأي معنى؟. وبرأيك هل مدرسة الواقع الاجتماعي لا تزال تعمل في الأدب الروماني؟.

جواب: كان تجريف الأدب الروماني واحدا من أكثر الأمور المحزنة في تاريخ رومانيا. في ذلك الوقت ترجم دستور الاتحاد السوفياتي إلى اللغة الرومانية، وقدم مجانا بآلاف النسخ من أجل الاطلاع والدراسة. وكما ذكرت أعلاه كان هناك الكثير من الكتاب الذين استغلوا هذا الوضع السياسي. منهم ميخائيل سادوفيانو (1880-1961) وهو كاتب نثر بارز برع في كتابة الروايات التاريخية. وبعد عام 1945 أصبح رجل دولة عظيم وتأثر عمله الأدبي بقوة بالاتجاه السياسي الجديد. وكان مدافعاً قوياً عن "ثقافة البروليتاريا". في روايته "ميتريا كوكور" تحول لدعم الواقعية الاشتراكية ومنحها "هيبة وعمقا". ثم أصبح عضوا في الجمعية الرومانية للصداقة مع الاتحاد السوفياتي، وبعد ذلك ترأسها، وأيد نشاط دار نشر الكتب الروسية في بوخارست. واحتشد مع الستالينية في روايته (الضوء يبزغ في الشرق)، وهو شعار مؤيد للسوفيات، وقد وضع تعارضا بين الضوء والظلام، الأول للسياسات السوفيتية والأخير للرأسمالية. وهكذا تحدث سادوفيانو عن "تنين شكوكي" هزمته "شمس الشرق".

ومثله زاهاريا ستانكو (1902-1974) كاتب نثر، شاعر، مدير عام للمسرح الوطني في بوخارست، صحفي، رئيس اتحاد الكتاب في رومانيا، عضو في أكاديمية جمهورية رومانيا الاشتراكية، عضو في الحزب الشيوعي الروماني وفي لجنته المركزية، وعضو مجلس الدولة لجمهورية رومانيا الاشتراكية. في عام 1971 حصل على وسام بطل العمل في جمهورية رومانيا الاشتراكية. بعد عام 1945 أصبح مناضلا نشطا لصالح اليسار. وعكست كتاباته الحركات الأدبية الواقعية والطبيعية. ترجمت روايته الأولى الهامة “حافي القدمين”  إلى ما يقرب من 30 لغة. وقد تم الترويج لها بشكل مكثف عام 1948 (عندما تم نشرها)، وطوال فترة الشيوعية (حتى نهاية كانون الأول / ديسمبر 1989). وخلال الحربين العالميتين التزم بالاشتراكية. وبسبب قناعاته السياسية وكونه مناهضا للنازية، سُجن في معسكر الاعتقال في ترغو جيو (رومانيا). ولمدة عشرة أيام أضرب عن الطعام. وقد دفعته هذه التجربة من حياته لكتابة “أيامي في معسكر اعتقال”. وفي عام 1951  نشر “رحلة إلى الاتحاد السوفياتي - ملاحظات وانطباعات”. وكتب عن المباني الهامة في "الحركة الشيوعية الدولية"، وسار على جدران الكرملين، وزار متحف وضريح لينين، ومعرض تريتياكوف، ومكتبة  ف.إ. لينين، النصب التذكاري لثورة أكتوبر العظيمة، شارع غوركي، الساحة الحمراء. مع احترام كبير وفي مناسبات عديدة أكد حبه العميق تجاه "القوة السوفيتية العظمى" و"جوزيف فيساريونوفيتش ستالين، الأب العظيم والعبقري للشعوب". وطغى عليه الانفعال خلال وقفته لبضع لحظات أمام نعش لينين، الزعيم الذي ينام بعمق بعد حياة من الاضطرابات المستمرة والنضال، والعمل الجاد والانتصارات" بتعبيره.

س 6: من كان أكثر تأثيرا، الكاتب الوطني الملتزم أم المنشق؟ أمثلة مع ذكر الأسباب من فضلك.

جواب: كلاهما. والفرق الوحيد هو أن بعض الكتاب المنشقين الذين يعيشون في رومانيا اعتادوا على كتابة أدب "مخفي وسري"، في حين أن أولئك الذين يعيشون في الغرب كانوا من "المدفعية الثقيلة".

س 7: أين  يوضع أدب رومانيا المعاصرة على خريطة العالم؟.

جواب: هذا سؤال صعب ويتضمن العديد من الأجوبة المعقدة والمتشابكة. في الواقع الأدب الروماني المعاصر موجود في كل مكان وربما هو غائب أيضا عنه. وهو أول وآخر كهف من كهوف اللغة الرومانية (باعتبار أنها ليست لغة محادثة على نطاق عالمي). لكن قيمته المعاصرة لا يمكن إنكارها. إنما من دواعي الخجل والعار أن الأسباب المالية تمنع وصول هؤلاء الكتاب وأعمالهم للساحة الدولية أو لمؤسسات الترجمة التي لها حضور وسمعة. وفقط بعد تحقيق هذه المهمة يمكن تقدير مكانة الأدب الروماني فعليا. الحقيقة المؤسفة أن أدبنا في الوقت الراهن غير ممثل بقوة، وربما يحتل المرتبة الأخيرة بهذا الخصوص. وفي معظم الحالات، ستظل الجهود الشاقة التي يبذلها الكتاب الرومانيون ليكونوا منشورين ومعروفين محدودة بحدود بلدهم وواقعهم المحلي. أما النشر في الخارج والجوائز الدولية فهي عشوائية ودون أي صدى. حتى الأسماء الهامة تفشل بعبور هذه العوائق. وبرأيي لا تفيد قيمة المشاهير الحقيقية والأصيلة إذا اختنقت في الداخل، ولا بد من إشادة دولية. وبالتالي، وعلى الرغم من الوجود الهادئ، فإن سعي الأدب الروماني لفرض نفسه على خريطة العالم لن يكون ناجحا، إذا استمر في السير على نفس الطريق القديم.

أما لماذا ذكرت أن الأدب الروماني ليس في أي مكان أو أنه في آخر القائمة؟. سأقتبس هنا عبارة من فاسيلي ألساندري (1821-1890) يقول فيها: "الرومانيون كانوا شعراء بالفطرة".

في الواقع هو كان يتحدث عن الجيل الذهبي من الكتاب الكلاسيكيين الرومانيين. ولكن هذه العبارة المنصفة التي تناسب تلك الأوقات، يفصلها مسافة واسعة عن واقع الأدب الروماني في المهجر والمنفى. إن الصورة من ناحية القيمة الأدبية غير واضحة ومشكوك بها.  من وجهة النظر هذه يمكن أن تفهم أن أي شيء مكتوب على ورقة له قيمة أدبية. وقد بلغ التكبر من جراء تصنيفك بين الأدباء “الجيدين” مستويات خيالية. ففي بعض الحالات يتجلى في الكتابة جهل لا يغتفر، مع عجز في فهم معرفة اللغة الرومانية والنحو والإملاء (حتى دور النشر ترفض تحمل مسؤولية التدقيق اللغوي لأنها لا تفكر إلا بتحقيق أعلى ربح ممكن ولا تكلف مصححين بغاية التدقيق)، وعدم احترام اللغة الرومانية التي يدعون لحمايتها يأتي من عدم وجود قراءة واسعة لما سوف يكتب، وعدم وجود مفاهيم مستقرة للنظرية الأدبية، وفقر بمخزون الكلمات بشكل غير لائق ومؤسف، مع أساليب سيئة وغير دقيقة وتفاصيل زائدة عن الحاجة إلخ. وعلى الرغم من كل هذا ووفقا لمصالح مختلفة، من الجماعات وبقية الزمر، يمكن توفير مبالغ معتبرة من النقود لشراء “مفتاح السعادة”.  حتى هنا الفساد يحكم. وبصفة عامة إن السياسيين وممثلي النظام المالي الإداري لا يهتمون كثيرا بالأدب، وهكذا، هنا أيضا، وكذلك في أي مجال عمل آخر، تسود المصالح الشخصية والعشائرية. ومن الناحية الإحصائية، تشير التقارير إلى أن الخطط الثقافية قد أنجزت (تماماً كما حدث في العصور القديمة الطيبة للشيوعية). القيمة لا تقودنا لأي مكان. ومصير الكتب هو أن يتم توزيعها أساسا في رومانيا أو على حلقات مغلقة في الخارج. لكن نشر كتاب أو مقالة عابرة في مجلة لا يكفي لشطب بند من قائمة المهام المؤجلة. والآن أخبرني كيف يمكن للأدب الروماني المعاصر أن يفرض قيمته الحقيقية على أساس فضاء دولي مفتوح ومتصل؟... 

2260 romania

س 7: هل تعتقد أن سقوط سياسة الستار الحديدي ساعد الأدب الروماني بأي شكل من الأشكال؟. وبعبارة أخرى هل تعتقد أن الغرب والعولمة ساعدا الحياة الفكرية لرومانيا المعاصرة بأي شكل من الأشكال؟

جواب: لا، لا أعتقد ذلك. برأيي تلك الأحداث لم تغير، ولم تساعد، الأدب الروماني الذي ظهر بعد عام 1989. وأفضّل أن أقول كان هناك تضامن قوي من الكتاب المنشقين الموجودين في البلدان الأوروبية قبل سقوط الشيوعية. أما الأدبيات التي ظهرت بعد عام 1989 فقد سجلت انقطاعا معرفيا أساء لخلفيات مشتركة كانت موجودة في جذور الأدب الروماني.

س 8: أخيرا. أنتما مترجمان. ما هي طبيعة الإضافة التي تقدمتما بها وباختصار. كيف تكون الترجمة؟ من؟ على أي أساس يكون اختيار المادة / النص؟ وكيف تكون آلية العمل؟ كلمة بكلمة أم أن الالتزام يكون بالمضمون والمعاني؟.

جواب (من دافيد بول فنوك): إذا كانت ترجمة عمل مهمة سهلة هذا يعني أنه يمكن لأي شخص أن يفعل ذلك باستخدام جهاز كمبيوتر. لقد رأيت مثل هذه المحاولات من قبل "المترجمين"، وهذا شيء يسبب الخزي خاصة عندما يكون الكاتب غير معتاد على اللغة الجديدة. الكاتب يدفع دون أن يعرف ما هو المردود. وهذا يمكن أن يدمر المؤلف في الخارج. عند ترجمة الشعر يجب أن تبقى القافية والإيقاع قريبين قدر الإمكان من النص الأصلي. وهذا يتطلب في كثير من الأحيان الاتصال بالشاعر، ومناقشة الموضوع العام لعمله، وكيفية ارتباط كل سطر بالهدف منه (مضمونه). وهو تحد حقيقي للمترجم. وعندما يتم كتابة قصيدة، يوجد الكثير من المعاني في بضع كلمات. ويجب على المترجم دراسة كل سطر لاكتشاف معناه ووضع ذلك في الترجمة. ولاحقا يجب أن تحتوي الترجمة على كل ذلك. وضمنا نفهم أنه يجب البحث عن الكلمة المناسبة لتنسجم مع اللغة المضيفة. وهنا يأتي دور الخبرة والموهبة. لقد أمضيت أنا وماريا أسابيع في ترجمة قصيدة لتكون بشكل مثالي، ولا سيما أن الشاعر لا يعرف اللغة التي ستستضيفه.

جواب (من ماغراس ماريا فنوك): سأبدأ بالقول إنه بالإضافة إلى الموسيقى أو أي فنون أخرى، كان الأدب دائماً وسيظل على مستوى لغة كونية. وفي معرض الحديث عن الثقافات الأخرى، قد نقول إن الناس قد رغبوا دائماً في قراءة واكتشاف أشياء جديدة وغير معروفة. لهذا السبب، زوجي ديفيد وأنا، اعتبرنا أن التعامل مع الترجمات الأدبية مهمة متميزة. والكتب التي قمنا بترجمتها من الرومانية إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو العكس قد تجاوزت منذ فترة طويلة حدود بلدان الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، فرنسا، الهند، تركيا، جمهورية تشيك، ورومانيا.

أما كيف نترجم؟. غني عن القول إنه فيما يتعلق بالترجمات لا توجد قاعدة ذهبية. وفقا للتقارب الروحي، كل مترجم يختار الكتاب أو المؤلف الذي يناسبه. ولن أتمكن أبدا من ترجمة نص لا يروق لي أو لقلبي. وكان علينا مرات عديدة أن نتقن النصوص، للقضاء على الكلمات اللغوية الغريبة، التكرار، عدم الصراحة إلخ. وميزة عملنا المشترك هي أنني وديفيد متحدثان أصليان باللغتين الإنكليزية والرومانية. في مناسبات عديدة نناقش بعض التعبيرات التي هي محددة للنص الأصلي، وبالطبع، نحن نحاول إيجاد أفضل حل لغوي للغة المضيفة. لا يمكن ترجمة بعض السونيتات كلمة بكلمة (ومن المدهش أن المؤلفين يرفضون في كثير من الأحيان أن يفهموا أن بعض التعابير ليس لها مرادف باللغة المضيفة، كما أنه ليس لتراكيبهم معنى بها). وهم يعتقدون أن كل شيء يمكن ترجمته. لكن الأمور لا تسير هكذا. هناك الكثير من الكلمات والتعابير التي لا يمكن ترجمتها. وسيكون على المترجم دائمًا البحث عن الحل الذي يجعل، من خلال احترام النص الأصلي، الصيغة المترجمة مناسبة للقارئ الأجنبي. وفيما يتعلق بالنص المترجم، فإن موقف المترجم يجب أن يكون دائماً على مسافة محايدة. على الرغم من أنه يقع في بعض الأحيان في موقف أسميه „حالة سندريلا“، فالمترجم ليس قاموساً، أو أنه شخص يعرف الكثير من الكلمات بلغة أجنبية. بل إن براعته وفنه بالترجمة يوضحه التعبير الشهير „استلمه، هو لك“  traduttore ، traditore!. الترجمات هي مثل عمل الصائغ، إنه انصهار مثالي مع النص. يجب على المترجم دائمًا أن يقرأ الكثير ويواكب النصوص الفلسفية والتاريخية والفنية والدينية وغيرها من أنواع النصوص. وبذلك فقط سيتمكن من معرفة ما يدور في ذهن صاحب النص على وجه الدقة، حتى عندما يستخدم كلمة واحدة أو تعبيراً في نصه. بالنسبة لي الاتصال المباشر مع المؤلف مهم جدا. وقد تكون مناقشاتنا لا نهاية لها، ومتنوعة، ويبدو أنها قد لا تكون لها صلة بما يفترض أن أترجمه. ولكن بالتالي أستطيع أن أكتشف بعض أسرار المؤلف، وطريقة تفكيره، وبعض نبضات ومكنونات قلبه.

وفي كثير من الأحيان أقرأ الآراء التي أعرب عنها أشخاص بلا ثقافة، ويدعون أنهم على إلمام بالترجمة، مع أنهم دون أي علاقة بهذا العمل. أو أنهم يشتكون من تكلفة الترجمة. وهنا سأدافع عن المترجمين المحترفين وسأقول إن جميع الذين أدلوا بمثل هذه البيانات لم يكن لديهم أي فكرة عما كانوا يتحدثون عنه. لماذا تدفع لمترجم مزيف لا يعرف عمله، وتتسبب بضرر فادح للمؤلف المعني أو للأدب الذي ينتمي إليه، في حين يمكنك إجراء نفس الصفقة مع المترجمين المؤهلين والموهوبين للغاية؟. ربما أولئك الذين يرغبون في أن يترجموا إلى اللغات الأجنبية ويتجاوزون حدود أدب وطنهم، عليهم تقدير العمل الشاق للمترجم، وبدلا من دفع المال لقاء خدمات لا قيمة لها، من الأفضل التعامل مباشرة مع مترجم محترف. أحيانا قد تبدو الترجمات في بعض الأحيان أفضل من نصوصها الأصلية لدرجة لا يمكن تصديقها.  معظم النصوص التي ترجمناها كانت مصحوبة بتعليقاتنا ومقالاتنا النقدية التي عبرت عما شعرنا به عندما عملنا عليها. وقد نُشرت تفسيراتنا وآراؤنا إما في تلك الكتب أو في المجلات الأدبية الدولية، وفي عدد لا يحصى من الكتب، أو المؤتمرات التي عقدت في جامعات مرموقة أو في معارض دولية حيث كانت الفنون البصرية والموسيقى والأدب متطابقة لحسن الحظ مع بعضها بعضا.

 

 

صالح الرزوقجولة سريعة في حاضر وماضي الأدب الروماني

إعداد وترجمة صالح الرزوق

س 4:  ومن هو أهم كاتب روماني اليوم؟ لماذا؟ وما هي أهم إنجازاته؟..

جواب:  من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، أن تسمّي كاتباً واحداً فقط، وأن تقول إنه الأفضل في تاريخ أدب أمة عظيمة مثل رومانيا. كان هناك دائماً "أفضل ممثل" في حركة أدبية أو حقبة معينة. من بين الأفضل في الأدب الروماني المعاصر أذكر نيشيتا ستانيسكو، شتيفان أوغستين دوينش، إيون باربو، مارين سورسكو، بولا رومانيسكو، أدريان بونسكو، ترايان ت. كوفي، غابرييل ستانيسكو، يوجين إيفو، جورج الخامس. أنا آسفة حقا لأنني لا أستطيع التحدث عن كل منهم. لا شك في أن ميهاي أمينيسكو بالنسبة للأدب الروماني أبرز شخصية أدبية في جميع الأوقات. قد يقول المرء بحق إنه كان ممثلاً للرومانسية، ولكن دقة وسلامة أفكاره وأعماله لا تشوبها شائبة حتى الآن. وجدير بالذكر أنه خريج جامعتي فيينا وبرلين. بمعنى أنه يمثل ظل الثقافة الجرمانية الثقيلة وعقلها المتمرد والإبداعي والثائر على مر العصور. 

وسأذكر بعض الشعراء الرومانيين المعاصرين الذين تركوا بصمة على جدار التاريخ، وجمعتني بهم صداقة أعتز بها. وقد ترجمت نماذج من أشعارهم إلى اللغة الإنكليزية الحديثة. ومن هؤلاء الشاعر والكاتب المسرحي، والصحفي، والناشر سيزار إيفانيسكو (1941-2008). وقد برز في منتصف الستينات في بوخارست، في لحظة مواتية للأدب الروماني، وكان بعمر 25 عاما. وتميز بشخصية بوهيمية فريدة مع خصال أرستقراطية موروثة من نبلاء روسيا، مع نغمة تشبه نغمات التروبادور (الشعراء الجوالون). فقد كان يحمل الغيتار بيد والكتاب بيد (وليس المطرقة والمنجل كما جرت العادة في زمن الرعب). وأنتج لنا سيلا جارفا من قصائد مشاغبة غريبة لا يوجد مثلها في عصره. ويعتبر هذا الشاب حتى الوقت الحالي من الشعراء الأكثر تميزا في الأدب الروماني. وقد كان معاديا للشيوعية، وتعرض للضرب على أيدي عمال المناجم في 14 حزيران / يونيو عام 1990. ودخل بعدة دورات إضراب عن الطعام حتى الموت تقريبا. وبعيداً عن ما يتميز به من إحساس دائم بالخطر، يبدو كل شيء في شعره متماسكا ومتجانسا، ويمكن أن تقول إن لديه تدرجا من البسيط وحتى التصور المقدر autarchical. وأخيراً، قد نقول إن نثره مونولوجي، غنائي، وشاعري. وفيه تعتمد الأشكال التقليدية على بعضها بعضا. فهي لا تقدم أفكارا بسيطة بل شعرا "أصليا" يحتفظ بمسافة عن الأشياء القريبة والتي هي بمتناول اليد. أضف لذلك التناسق العميق المتجانس في إبداعه بأكمله والذي أعده نتيجة أحلامه الرؤيوية. فهو شاعر لا يطوّر أحاسيس غيره، ولا يصور الحالات الطبيعية، ولكن الأحاسيس الميتافيزيقية. كما أنه يصف الأحلام المرعبة، ومجازات العصر الوسيط وجاذبية الباروك الرهيبة التي لا يمكن تحليلها بأساليب عقلانية وميكانيكية. هنا لا شيء يمكن تعريضه للقياس. وكل شيء متجاور. ونواته الغنائية ليست "واقعية" بل أسطورية. ومع ذلك، وراء أشكاله المختلفة، يهدر دم  متميز وضمن نظام دورة دموية خاصةبه.  ويحدد الشاعر رؤيته برمزية غامضة أولية، مما يعطيها وحدة لا تنم عنها. والتأثير الغنائي لديه دائمًا استثنائي، ومنابعه من مصدر يصعب تفسيره. وكما هو الحال في رمزية الباروك، التي كتب بها جيوفاني بيليني، كل شيء يتكون من أجزاء صغيرة، ومع ذلك إن شعره واضح لكن بخلفيات مبهمة من وجهة نظر عامة. وغالبا ينتصر العقل عنده مع أنه يذهب لما هو أبعد من الاعتراف بالمنطق الذي يؤمن بالمسائل الحيوية والكبيرة. ومن أجل فك ألغاز مثل هذا الشعر، على المرء أن يدرس رمزه المجازي. كما أن عالمه العاطفي شديد الإفراط وهادئ وله مسحة كلاسيكية لا تخطئها العين.  كما أن الوعي الغريزي موجود في كل مكان. مغرق بالغيبيات وكل شيء ملوث وقلق. ويبدو العالم كله تحت وطأة رعب باروكي محرض. وتنخفض الروح إلى عتبة الميتافيزيقيا، وتهددنا كما أنها تغرينا دون توقف. والعبارة الأخيرة لآرثر سيلفيستري في مقدمة كتبها للشاعر عام 1985. وجميع كتب سيزار ايفانيسكو من الروائع. وقد نجح في تجاوز حدود بلاده.

2257 رومانيا

ولا بد من أن أذكر جورج ستانكا (1947-2019) الذي ظهر لأول مرة في عام 1978. وتخصص بكتابة قصائد الحب، وكان مولعاً بتاريخ الصحافة الرومانية. وانتقد وأدان في كتبه كل ما هو سيء في المجتمع المحلي. وكان توبيخه قاسياً ولكنه بناء وأبوي. وبدأ مباشرة من هذه النقطة، وأحيانا اعتمد على العناصر الفولكلورية الرومانية المفرحة. وأفضل مجموعة تمثله برأيي هي “كان الملاك”، وقد ترجمتها للفرنسية والإنكليزية. وكان يكتب مثل سابقه على غرار التروبادور،  وقد ضاعف التجوال من كلماته ومنحه حساسية خاصة مع مسحة ساخرة ومتوازنة تضع معانيه على ”أقصى درجة من درجات الحنان”. وأستطيع أن أؤكد أن أسلوبه واضح وموجز ومنبه وديناميكي. ويعبر عن أفكاره بإيجاز  وحب وببالغ الدفء النابع من قلبه.  وتشعر كأنه شاعر موجود أينما كان ويهتم بالجميع وبكل شيء. ودعمته السخرية  بمزيج من الكلمات التي أضافت له معنى جديدا يكشف عن الجانب اللعوب من قلبه. وساعده ذلك على التأرجح بسهولة بين الواقع والشعر، وبسعادة غامرة وخجولة في نفس الوقت. ولذك ترى أنه يلقي نفسه  بلعبة خطيرة في عالم يخلقه لنفسه ويتوق إليه. وهو ما يعطي الانطباع بأنه قادر على امتلاك عالمه دون أن يمتلكه فعليا. وكما ذكرت في مقدمة ترجمتي له: إن عالم جورج ستانكا هناك، ولكن لا يوجد منه شيء غير حلم منظور بعيد.

وأخيرا وليس آخرا أود أن أذكر شاعرة رومانية هي باسيوناريا ستويسيكو  Passionaria Stoicescu، التي ترجمتها أنا وزوجي ديفيد بول فونك. تختار بويسيكو أن تلف نفسها بالغموض والسخرية إلى حد ما - مما يجعل المرء يفكر في الكون الذي تنتمي له. وتبدو كأنها تجري لمسافات بعيدة أو أنها تفتقد للإضاءة. وهي تسيطر على كتاباتها مثل "أن تكون أو لا تكون". وفي السيدة بونساي تبدو اللغة حقيقية من لحم و دم. وترى الأخيلة نفسها مسقطة في الحقيقة ويعاد إسقاطها في القصائد.  وعند قراءتها تتساءل:  كم تستعير بوسيوناريا من السيدة بونساي المتخيلة؟. ويأتي الجواب مع كل قصيدة بطريقة مختلفة وبسيطة جدا وتدريجية. ومن المفارقات أنه يتجسد في رجل (عريس، ولكن ليس الشخص الذي خلق كما يقول الكتاب المقدس "من غبار الأرض"، إنما من الوهم والرماد). جواب القصائد هو الحب والعاطفة والمصير.

ولكن الأدب الروماني لا يننتهي عند هؤلاء وتوجد أسماء متعددة ممن هرب من الجحيم. ومعظمهم من المنشقين. وبرأيي إن ثيودور داميان هو الكاتب الأكثر تمثيلا للشتات الروماني. وهو شاعر روماني أمريكي رائد وشخصية دولية معتبرة. ويعيش في نيويورك منذ أكثر من 30 عاماً. وهو كاهن أرثوذكسي وأستاذ فخري يدرّس الفلسفة والأخلاق في كلية متروبوليتان نيويورك. وهو المدير المؤسس لـ Lumină Lină / الضوء المقدس، ورئيس المعهد الروماني للاهوت والروحانية الأرثوذكسية، ورئيس الأكاديمية الأمريكية الرومانية. وبمجرد وصوله إلى نيويورك، أسس داميان نادي الكتاب "ميهاي أمينيسكو" الذي قام مع Lumină Lină / الضوء المقدس ببناء جسر دائم وناجح بين المجتمع الروماني وأبناء الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الجاليات.  إن ثيودور داميان ليس المبشر بالأدب الروماني فحسب، بل هو أيضاً حركة ثقافية ليس لها حدود. لقد كان دائماً فاتحة لآفاق جديدة في ثقافتنا العالمية. وقد نشر كتبا لا تحصى في الشعر والمقالات. وحصل على العديد من الجوائز بما في ذلك لقب الدكتور الفخري. و هو يؤمن أن الشعر "مفتاح عالمي" يمكنه فتح أبواب جميع النفوس مثل الموسيقى. ولطالما عبر عن إيمانه الشعري بصيغ مكثفة جداً. وأسلوبه الأدبي فريد من نوعه. إنه موجز ومفاجئ وساحر لأنه يرسل القلب والعقل من الفراغ إلى الله ومن ثم، من أجل إغلاق الثالوث، يعود ليلتهب ويحترق من خلال الشعر. وشعره مليء بالعناصر الفلسفية المطرزة بالمكونات الدينية والمفارقات والعناصر الغنائية. وهو يعتبر أن الـ "ما وراء" يمكن أن يكون هنا، وكذلك على الجانب الآخر من السماء. ويمكن الوصول إليه بسهولة. قصائده رحلة طويلة وصعبة من الظلام إلى النور. و"في عالم عادي مسكون بشكل دائم ومعذب من قبل جميع أنواع المتاعب، والتي تكثر بشكل ساخر يتأرجح بين التناقضات والشكوك". يقول:

لأنني طوال حياتي كنت أمشي / إلى الوراء / إلى الوراء أفهم الأشياء / ولكن إذا كان هذا الوراء هو الأمام / ستنبثق فكرة غريبة في ذهني. وفي عالم نستنتج منه أنك منذ أول لحظة ضائع / ولا تعرف شيئا، من الأفضل أن تختار طريقك للاختفاء والرحيل مع عقيدتك "بنسختها الأكثر مصداقية" لأنه إذا كنت لا تريد المضي قدما إن "ترددك سوف يسمرك بمكانك“.

وفي عالم عليك أن تؤمن فيه بالمضي قدما "إذا كنت ستموت على أي حال / يجب أن لا تتوقف أبدا / والموت سوف لا يصلك إلا بصعوبة / وعندما تتابع لشوط أبعد /  متشبثا بالإصرار والعقيدة / في بعض الأحيان سيحل الإرهاق بالموت“.

 وفي عالم نتعلم فيه طوال حياتنا كيفية الاستمرار واكتشاف أشياء جديدة داخل الكون، سنصل لاستنتاج مفاده "الشفاء يأتيك وأنت مستلق على ظهرك / وتنظر لما وراء الأفق".

 وفي عالم "تكون فيه القيامة مضمونة بهيئات وصور"، يمكنك أن تفهم شعر تيودور داميان.  فهو مقتنع أنه من أجل أن تكتب "قصيدة ملهمة فعلا/ عليك أن تحترق عدة مرات / متمسكا بواجبات هذا الصمت / وأنت تحمل قطعا متوهجة من الفحم / ثم تجلس مجللا بالتوقعات المقدسة والإيمان / بالكلمة / وتعلم كيفية الانتظار / سوف تتلقى صوتا ضعيفا وخافتا وهامسا / من الرياح / ولكي تحيا / لأنه إذا لم يكن هناك رياح ليس هناك فحم / وعندما يصلك الصوت / ليس عليك أن تنام / ولكن اخلع صندلك / من قدميك / وكن متواضعا وحانيا / عندئذ فقط تكون جاهزا للاستماع / فقط بحلول ذلك الوقت تكون مستعدا/ لتنفذ ما تؤمر به / هكذا تكتب القصيدة / كلمة بعد كلمة / وتصبح صلاة خاشعة".

ويمكن أن أنوه أيضا بالشاعر جورج فيليب وهو الشاعر الكندي “الأكثر اغترابا" بأصوله الرومانية والذي واتاه الحظ ليعبر الجسر الذي يصل بين الألفية الثانية والثالثة. وبصرف النظر عن عمله الأدبي لا بد من التطرق لروحه التي أعرف تفاصيل دقيقة عنها من ماضيه. لقد عقد العزم وأقسم أن لا يتعاون مع الشيوعيين، وأن يتحدى القوانين الماركسية الحمراء، وأن يضرب قلعتهم بما أوتي من قوة. كان الشاعرواحدا من ستة أبناء لوالده بانديلي وأمه فلوريا. ولكنه التزم بعزلة موحشة تسكنها الأسرار والأحلام. ورفض أن يبكي عند وفاة ستالين “والد الأمم” كما كان يقال. وفي شعره نوع من التحدي للمصاعب. حتى أنه يقول:" ببساطة متناهية أنا غير قادر على الاستنتاج من سيكون قادرا على الاستمرار في كتابة الشعر بطريقتي؟".

جورج فيليب هو واحد من الشعراء الأكثر إثارة للقلق لمجرد أنه لا يكتب بطريقة تقليدية، لكنه يستفيد من الوجوه المجهولة التي تظهر من عالم غريب وتختفي في عالم غير محدد، وهو يتلاعب بها كما لو كانت بعض الدمى البشعة، التي كانت فيما مضى جميلة. والسؤال الآن: هل هذا الجمال لا يزال موجودا؟. وإذا حدث ذلك، فمن يضع المعايير وعلى أي أساس، وعندما يكون كل شيء ليس سوى قناع في كرنفال نعبر عنه شعريا، فإن وجهه الحقيقي يتخفى متنكرا.

ويبدو من السهل أن تقرأ فيليب.  ولكن في معظم الحالات يكون فهمه مهمة مستحيلة،  هذا غير مواكبته بتفاصيل لعبته الشعرية، بما فيها من ألحان غنائية وراقصة وعابثة.  فهي جزء لا يتجزأ من بين ألعابه اللغوية الصعبة والمسلية.  وهذا كله تدعمه حقائق يعبر عنها بأسلوب يرفضها. رفض جورج فيليب الكتابة والعمل لصالح النظام الشيوعي. وقد أطلق عليه زملاؤه الصحفيون لقب "ريشة المرتزق". عمل لمدة عامين تقريبا كمحرر في فلوتا باتري (البحرية في البلاد). ثم تعرضت شقته للمصادرة، فهاجر إلى بوخارست وصادق فانوش ناغو، وميرسيا مفو، وروساليم موريانو، وبوكا، وغيرهم من “الأدباء المخمورين” كما يقال. ثم عمل في اللجنة المركزية لاتحاد الشباب الروماني. وفتح له موقعه الباب على مصراعيه إلى إذاعة رومانيا الرسمية. ثم لاتحاد نساء بوخارست. وطوال الوقت كان تحت المراقبة. ثم بدأ بكتابة عمود يومي بعنوان „الرجل الخفي“ في جريدة فيتورول (المستقبل). وقد أسر عموده انتباه القراء، حتى كتب زاوية بعنوان „مصنع الموت في توبلي“ وتناول فيها الأسباب الحقيقية لوفاة 13-14 عاملا.  ودافع عن حقوقهم بالحياة استنادا لمقولة لينين „الإنسان هو أغلى رأس مال موجود“. وبالنتيجة فتح النار على أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في المنطقة، وعلى رأسهم أمين الحزب (الذي كان آنذاك صهر نيكولاي تشاوشيسكو). في الواقع هذا ما فعله قسطنطين فيرجيل جورجيو في روايته ذائعة الصيت „الساعة الخامسة والعشرون“. ولم يكن من المقدر للهجة فيليب أن تمر مرور الكرام، في وقت كان فيه شاوشيسكو يتقرب من الصين وفيتنام وكوريا الشمالية ويفرض الواقعية الاشتراكية الصارمة، على أساس من شمولية ستالينية تركز على عبادة شخصية القائد المزعوم. ثم أضاف في وقت لاحق سلطات غير محدودة لزوجته، وأد بها الحريات المحدودة لعقد الستينات، وأسدل بها الستار على فهمه الدكتاتوري للحياة في فترة السبعينات والثمانينات.  وهكذا صدر قرار باعتقال فيليب، ويقول عن ذلك:“ قادوني مغلولا بالأصفاد كالوحوش / ولم أكن قد بلغت أربعين عاما / مع ذلك شتمت قصرهم الأحمر / وزرعت الرعب في رأس الضابط / هناك صمت عميق في أرجاء سيفرين / وفي زنزانتي الرمادية رقم 7 / كان لي حق برؤية سماء زرقاء وصافية ومشمسة / فاستلقيت مريضا بالسلاسل والأصفاد الثقيلة / داخل جحيم مظلم من تورنو سيفرين / أما جسمي الشاب والقوي المعتاد على الحرية / لم يسمح للتعذيب أن ينال مني / جورج فيليب - التروبادور / لم يتعلم في حياته كيف يموت “ (من شذرات).

السؤال هو: متى يتحدث جورج فيليب بجدية ومتى يبتسم؟ دومًا الحوار مع الشاعر هو تحد دائم، مثل قراءة كتبه. عقله، حاد، متحفظ، مرح ولكن في بعض الأحيان حزين، وبروح كئيبة ومريرة. وبعض الأوقات يبدو متعبا. وكلما قرأته أكثر، كلما أدركت أنه على حق في طريقته في التعبير عن نفسه كرجل قوي يعرض أفكاره بشكل تيارات محورية تقريباً. هناك أوقات تشعر نحوه بالكراهية، وتود أن تحاربه، ولكن في النهاية عليك أن تعترف بأنه على حق. أما ما يسمى اللامبالاة والإحساس الذي ينقله لك أنه مستعد دائما لتجاهل الجميع وكل شيء، ليس سوى انطباع مضلل. وفي الواقع، هو يفتح للجميع باب العالم بل الكون. ومن المستحيل ألا تجد نفسك معه. إذا نجحت في أول مرة تكون قد ربحت الرهان، وإن فشلت كرر المحاولة حتى تصل. وتجد أين يختبئ صديقك فيليب من نفسه.

يقول دافيد فنوك عن المتمرد جورج فيليب: في “قصائد راقصة” يضع فيليب نفسه سيدا للكلمة والاستعارة. وعواطفه مصنوعة بالمنجل والمطرقة ومن نار ماضي رومانيا، التي تعرضت للغزو السوفييتي. وتسيدتها حكومة هزيلة مارست القمع الذي لا يمكن تصوره. ومن لم يمر عمليا بهذه الظروف يمكن أن يشعر بها من قصائد فيليب ويعايش العجز والرعب والخسارة، ونعم، قدرته على اختراع حلم أفضل سواء في الحياة أو الممات.  أسلوب جورج فيليب الحر يتدفق بسلاسة دون أن يكون بالضرورة ملحنا. وترسم كلماته في عقل قارئه صورا حية، وتدعونا للاحتراس عندما يتعلق الأمر بالجو السياسي سواء داخل حدودنا أو خارجها.

 

 

2250 interviewجولة سريعة في حاضر وماضي الأدب الروماني

إعداد وترجمة: صالح الرزوق


تعيش السيدة الرومانية ماريا فنوك  MuguraȘ Maria Vnuck مع زوجها الأمريكي دافيد فنوك Dvid Paul Vnuck في الولايات المتحدة التي وصلت إليها قبل أربع سنوات فقط. وهما الآن يعملان بشكل فريق من اثنين على مشروع مشترك هو تعريف أمريكا بواقع الأدب الروماني في حاضره وماضيه. ولحينه لديهما رصيد جيد بهذا الخصوص، وهو عبارة عن حوالي ثلاثين كتابا. ويضاف له أخيرا إصدار مجلة وليدة رأت النور في مطلع عام 2020 وهي “مجلة الأدباء الدولية” التي تنشر النصوص من مختلف أرجاء العالم لأدباء شباب ومعروفين على حد سواء، مع زاوية فنية تهتم بالتشكيل البصري.

لتكوين فكرة عامة عن المشهد الأدبي الروماني وذاكرة رومانيا الثقافية توجهت للسيدة ماريا بمجموعة من الأسئلة الخاصة والعامة.

س1: هل يمكن أن تقدمي لنا فكرة عامة عن المشهد الأدبي والثقافي في رومانيا. على سبيل التمهيد؟..

جواب: من المعروف أنه في تاريخ كل بلد هناك كتّاب يكتبون عن أنظمتهم السياسية. ولا يمكن أن تكون رومانيا استثناء من القاعدة. وكان هذا الاتجاه سائدا خلال 45 عاماً من الشيوعية التي تحملها شعب هذا البلد الفقير. خلال الحقبة الشيوعية كان هناك ثلاث فئات مختلفة من الأدباء:

الموالون للجمهورية الشعبية (ويمثلها العمال والفلاحون فقط) ويعملون دون تعويضات مالية وبالمجان وبحجة بناء مجتمع جديد. وتتلخص وظيفتهم في التأثير بعقول فئات الشعب وغسلها وتجهيزها لتكون من روافد ومصادر السلطة فقط. وقد احتلوا الواجهة وكل المناهج والكتب التدريسية ورابطة الكتاب الرومان. وقد أشبعونا بمعزوفاتهم عن الوطن والشيوعية الفاضلة وذلك بأقل ما يمكن من الموهبة والكفاءة رغم توفير كافة الإمكانيات لهم، ابتداء من ما يسمى “فيلا الإبداع”، وهي مساكن من الدرجة الأولى ومنتجعات في الجبال وعلى شواطئ البحار، ومخصصة لمنح التفرغ التي تتحكم بها الدولة حصرا، ويديرها حزب الشعب الروماني (تحول لاحقا للحزب الشيوعي الروماني). 

الفئة الثانية ضمت أدباء معتدلين أخذوا دور الكاتب المحايد الذي يميل للمداهنة والنفاق. وكان ديدنهم تمرير بعض الأفكار بين السطور للتهرب من أداة الرقابة الرهيبة.

الفئة الثالثة والأخيرة هي من المنشقين والأصوات الناقدة المكروهة من كل الأنظمة الشيوعية السابقة. وكانوا يعانون من شتى أنواع التهديد الدائم مثل نقص فرص العمل والاعتقال والسجن، تشويه السمعة، وفقدان أبسط الحقوق المدنية، تبديل مضمون كتاباتهم بالإكراه أو إيداعها مخطوطة في أدراج مغلقة. حتى أنها شكلت ظاهرة عرفت باسم “أدب الأدراج السرية”. ولم تنشر مثل هذه الأعمال إلا بعد كانون الأول / ديسمبر 1998.

بالعودة إلى الأسماء اللامعة يلفت الانتباه حالة قسطنطين جورجيو وروايته “الساعة الخامسة والعشرون”. فقد كانت ضربة مؤلمة ضد الشموليات العسكرية من كل نوع ومنها الشيوعية. ولذلك باعت أكثر من 10 ملايين نسخة في غضون ما يقارب 50 عاما. وترجمت لأكثر من 40 لغة. ولم يكن ممكنا نشرها في رومانيا. وبذلت مونيكا لوفينيسكو جهدا جبارا لترجمتها إلى الفرنسية ونشرها أولا في باريس عام 1949.  والقائمة المماثلة تطول. وللأسف لن نتمكن من ذكرهم جميعا. ويمكن للمرء أن يكتب أطروحة كاملة حول هذا الموضوع. لكن باختصار إن فرانز كافكا (1883 - 1924)، وميلان كونديرا (1929) وجيسلاف ميوش (1911 - 2004)، وفيسوافا شيمبورسكا (1923 - 2012)، وألكسندر إساييفيش سولجينتسين (1918 2088) قد ولدوا جميعا في الكتلة الشرقية. وكان لأعمالهم الأدبية تأثير قوي على العقلية الإنسانية. واضطر معظمهم للفرار إلى بلدان غربية بسبب قناعاتهم السياسية وهربا من تبني الواقعية الصارمة أو البيروقراطيات المعقدة أو لاعتبارات مفروضة من أعلى دون أي مجال للاختيار لا بالفلسفة ولا الإيديولوجيا.  ناهيك عن القلق والهواجس والخوف، وانعدام الأمن ومعسكرات العمل القسري، وتدهور كرامة الإنسان الخ. 

س2: أرى أنك تختارين أمثلة من خارج رومانيا. ما سبب الاهتمام بأدباء تشيكيين وبولونيين على حساب أدباء رومانيا؟. ما هي المشكلة برأيك؟..

جواب: أولا وقبل كل شيء، أود أن أفرق بوضوح بين الفكرة العامة للأدب الروماني والممثلين البارزين للأدب الروماني. بطريقة أو بأخرى قد تكون على حق حول الأدب الروماني، ولكن العديد من الكتاب الرومان المشهورين الذين عاشوا أساسا في الخارج نجحوا في إحداث الفرق. هناك جانب مهم جدا هنا: الأدب الروماني قدم دائما أعمالا أدبية هامة، ويمكن بسهولة أن توضع في نفس المستوى مع أعظم الروائع العالمية. ومع ذلك كان هناك دائما شيء يجره إلى أسفل. وفي الذهن ثلاثة أسباب رئيسية: سوء إدارة تمثيل الأدب الروماني في الخارج، والترجمات السيئة إلى اللغات الأجنبية، وسوء إدارة الأموال. من أجل إلقاء المزيد من الضوء على سؤالك أود أن أذكر فقط عددا قليلا من الأسماء البارزة: ديمتري كانتمير (1673-1723)، وهو قائد عسكري مشهور من مولدافيا، وكان فيلسوفا، ومؤرخا، وملحنا، وكاتبا غزير الإنتاج، وعالما موسيقيا، ولغويا، وإثنوغرافيا، وجغرافيا. وكانت كتاباته مشهورة في جميع أنحاء أوروبا. هناك أيضا ميهاي أمينيسكو (1850-1889) وهو أعظم شاعر روماني. كما كان روائيًا وصحفيًا، ولا يزال يعتبر أحد أعظم ممثلي الرومانسية الأوروبية. ولوسيان بلاغا (1895-1961) الذي أعتبره من أعظم الشخصيات الرومانية: فهو فيلسوف، وأستاذ، ودبلوماسي، وشاعر، وكاتب مسرحي، ومترجم أدبي. وتم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب. ثم إميل سيوران (1911-1995)، وهو فيلسوف وكاتب مقالات شهير هرب إلى فرنسا وكتب باللغة الفرنسية معظم نتاجاته. ويوجين أيونيسكو (1909-1994) الكاتب المسرحي ثنائي الجنسية (روماني وفرنسي) والذي كتب أساساً باللغة الفرنسية. كان شخصية دولية بارزة في المسرح الطليعي الفرنسي. وميرسيا إلياد (1907-1986) الصحفي المشهور وكاتب المقالات والسير الذاتية. أما أعظم إنجاز له على الإطلاق فهو احتلال كرسي أستاذ في جامعة شيكاغو باختصاص مؤرخ للأديان (تاريخ الأفكار الدينية). وقد أرسى نماذج في الدراسات الدينية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. وله نطرية تؤكد أن الهيروفان تشكل أساس الدين، وعمل على تقسيم التجربة الإنسانية في الواقع إلى مقدس ومدنس، ومكان وزمان. وهذه واحدة من أكثر مساهماته المؤثرة في الدراسات الدينية. ولا يمكن أن ننسى نظريته عن العودة الأبدية، والتي ترى أن الأساطير والطقوس لا تحتفل ببساطة بالهيروفانات، ولكن على الأقل تشارك بعقول المتدينين الذين يتحثون فعليا" كما ورد في المقدمة التي كتبتها ويندي دونيغر لكتاب إلياد عن السحر والشعوذة.

ومن الأسباب التي أساءت للأدب الروماني أذكر بعض المواقع الأجنبية، والطريقة المهينة التي تناولت بها الكتب المترجمة. فهي لا تفرد بندا خاصا بالأدب الروماني،  أو أنها ببساطة تكتب تحته "0". ومن الغريب أن نفس هذه الإحصاءات تشير إلى الأعمال الأدبية المترجمة من وإلى اللغات الميتة أو إلى أندر اللغات، وتنسى رومانيا. أضف لذلك أن اختيار الترجمات لا يمثل تماما الأدب الروماني، ويحتفل بأعمال غير تنافسية، أو لأن رومانيا ليس لها علاقات شراكة فعالة في الخارج. وبطبيعة الحال النصوص غير الجيدة ستبقى على الرف. إن وصول المؤلفين والقيم الأدبية الشابة الحقيقية أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً في بعض الأحيان. ثم إن المؤسسات المسؤولة عن اختيار الكتاب للترجمة ستفضل دائماً التعامل مع "المشهورين" بدلاً من إعطاء فرصة للآخرين، ويطمح آخرون، ممن أسميهم "الكتاب الهواة" إلى كتابة "روايات حياتهم"، بشكل سيرة ذاتية يصفون فيها المغامرات التي مروا بها من أجل الفرار من رومانيا الشيوعية. ومعظم الكتاب لا يملكون الشجاعة الكافية للاقتراب من دور النشر الأجنبية بذريعة التكاليف الباهظة. أما دور النشر الغامضة فهي لا تكلف نفسها عناء تدقيق الترجمة وتساهم في توسيع “السمعة الرديئة” للكاتب عوضا عن أن تفيده. والنتيجة النهائية هي أنه بعد إنفاق الكثير من المال، فإنها ستبقى في نفس المستوى المنخفض من "السمعة السيئة". 

س 3: ما هي اتجاهات الأدب الروماني اليوم؟ نحو الواقعية أم الحداثة؟...

جواب: على المستوى العالمي ظهر هذان الاتجاهان كضرورة لكسر القواعد القديمة المفروضة على الأدب والموسيقى والفلسفة والفنون البصرية. وكان لهما تأثير قوي في طريقة تفكير الشعوب، وقدما في الأدب أسماء عظيمة لكن الواقعية سبقت الحداثة.   ومثلها في الأدب الروماني نيكولاي فيليمون، إيوان سلافيتشي، إيون كرينغا Ion Creangă، ليفيو ريبرينو Liviu Rebreanu، جورج كالينسكو  George Călinescu، مارين بريدا، وغيرهم. لقد وضع هؤلاء الكتاب شخصياتهم في سياق المواضيع الاجتماعية، ومن بداية طبولوجية مختلفة: مثل مفهوم الهاوية والجشع والفجور والعزلة، إلخ. واستندت معظم كتاباتهم إلى قصص حقيقية مع اهتمام دقيق بالتفاصيل. أما الحداثة، المستمدة من الرمزية، فقد برزت في أدب القرن العشرين. واختلفت مع التقاليد القديمة، وحاربتها، بل واستفادت في بعض الأحيان من أشكال التعبير المتطرفة التي تم التأكيد عليها من خلال موضوعات حساسة جدا مثل المرض، والحنان، والضعف والذل. وأشهر من تبنى الحداثة في رومانيا أذكر يوجين لوفينيسكو، جورج كالينكو، كاميل بيتريسكو، هورتنسيا بابادات- بنغيسكو، أيون باربو وغيرهم. وقد عرّفوا الحداثة من خلال كتاباتهم التي أثقلتها لهجة متشائمة، ومحاولة لإيجاد إجابات عن معضلات البشر، وأجبروا شخصياتهم أن يكونوا ممثلين لتجربة اجتماعية ذات أفق مختلف ومتجدد.  ولم يكن يوجد في الحداثة بطل رئيسي واضطرت الرموز لأن تصارع وجودها وفق قواعد اكتشاف وبحث تبدأ وتنتهي داخل النفس.

 

 

2251 حميد لحميداني 1- الأدب يَحتفظُ بسلطته التأثيرية وقدرته على خِدمة الثقافة

- ليس هناك ضرورة للاهتمام بالأدب الرقمي

يعد الناقد المغربي حميد لحمداني أحد أبرز الوجوه النقديّة في المغرب لما قدّمه من جهود ثريّة في مجال الإبداع والنقد ونقد النقد، فقد صدرت له روايتان هما "دهاليز الحبس القديم"1979، و"رحلة خارج الطريق السيّار" 2000 . وفي النقد أصدر أعمالًا مهمة منها "من أجل تحليل سوسيوبنائي للرواية"، "في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية"، "كتابة المرأة من المونولوج إلى الحوار"، "الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم". وفي مجال نقد النقد صدر له "سحر الموضوع"، "النقد النفسي المعاصر.. تطبيقاته في مجال السرد" وغير ذلك من الأعمال والترجمات.

حنان عقيل* لك كتابات في الإبداع كما في النقد، فقد صدرت لك روايتان: "دهاليز الحبس القديم"1979، و"رحلة خارج الطريق السيّار" 2000 هذا بالإضافة لأعمالك النقديّة الثريّة.. هل من الممكن القول إن الإبداع هو الذي قادك إلى دراسة النقد في البداية؟ وهل من سؤال مُلِّح فرض نفسه عليك في كتابتك الإبداعية؟

- لا أظن أن الأمر بهذه الصورة تماما، فاهتمامي بالنقد كان اختيارا أكاديميا بالدرجة الأولى وميولا إلى تنمية معرفتي بالمناهج النقدية التي كانت وضعيتُها في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي لا تزال يلفها بعضُ الغموض. وكان السؤال عن ما هي أصلح المناهج لدراسة الأدب يكاد يكون محوريا و مُحيِّرا في نفس الوقت. هذا بالذات ما قادني في المقام الأول إلى الاهتمام بالنقد الأدبي وبعد ذلك بدأتُ اشتغل في حقل نقد النقد وهو مجال معرفة المعرفة.

وأرى أن العلاقة بين تخصصي النقدي وإبداعاتي السردية برزت لاحقا إلى حد ما في روايتي رحلة خارج الطريق السيار. فقد أفادني النقد البنيوي المتخصص في معالجة الحيل السردية وفي بلورة بعض إمكانياتي الإبداعية وتطويرها. وتجلى ذلك في هذه الرواية بالذات التي نالت جائزة الرواية العربية من عمالة عمان الكبرى بالأردن سنة 2002 وأشارت لجنة التحكيم وبعض النقاد الذين قاموا بتحليلها إلى الجانب التحديثي للبنية الروائية فيها، وخاصة مظهر التقطيع الزمني والتشطير السردي، وتعدد زوايا النظر إلى جانب حضور البعد الترميزي .. الخ.

أما السؤال الملح الذي فرض نفسَه دلاليا في هذا النص المتأخر في الصدور، فهو متعلق بمدى قدرة المجتمعات العربية على الالتحاق بركب التقدم الحضاري بالنظر إلى ما هي عليه من وضعية مضطربة ومن تأخر في مجالات متعددة ، وفيما يخص الرواية الأولى وهي "دهاليز الحبس القديم" فكانت لها خصوصيتها لأنها كُتبت في مرحلة مبكرة يوم كان عمري لا يتجاوز 22 سنة واستغرقتْ الكتابةُ سنة واحدة، لذا أرى أن دواعي كتابتها كانت إلى حد ما ذاتية، وحتى لو افترضنا أن تأليفها كان تعبيرا عن ميل طبيعي إلى الحكي الروائي، فهي ذات علاقة خفية ببعض ملامح السيرة الذاتية ولكن جميع شخوصها من صياغة تخييلية، كما أنها في بنيتها العامة تبدو مُتحررة إلى حد كبير من العنصر الذاتي، وقد عالجت بشكل شبه رمزي الوضعية الاجتماعية والسياسية الحرجة في مرحلة السبعينات، وحاولت بلورة موقف انتقادي لما كان سائدا في الواقع من سلبيات وخلل في القيم. 

* تنقّلت في دراساتك النقدية بين عدد من المراحل من النقد السوسيولجي إلى النقد الأسلوبي ثم الاهتمام بنظريات التأويل وأخيرًا الجمع بين المناهج المتنوعة.. في هذا الصدد أود سؤالك حول جدوى استناد الناقد الأدبي في الوقت الراهن إلى منهج يطبقه بحذافيره على النص الأدبي.. هل يُنتج ذلك برأيك قراءات نقدية واعية ومضيئة للنص؟ وإلى أي مدى نجحت في مسألة الإفادة من مناهج شتى في قراءة النصوص الأدبية؟

2251 حميد لحميداني 2- جميع المناهج النقدية الأدبية لا تخرج عن غايات ثلاث بخصوص دراسة النصوص الأدبية:

أ - فإذا تم تركيز التحليل النقدي على البنيات الشكلية لمحاولة إثبات القيمة الفنية والجمالية أو توصيف التركيب النصي من خلال علاماته الخاصة، أو دراسة المضامين النصية وتركيباتها، فإننا نقول عندئذ بأن المنهج إما أن يكون بلاغيا أو فنيا أو شكلانيا أو بنيويا أو سيميائيا، فكل هذه المناهج تُعالج النصوص الأدبية من حيث طبيعتُها التأليفية ومحتوياتُها الدلالية المتفاعلة نصيا مع بعضها البعض. وأفرق هنا بين المحتوى الذي ينتمي إلى البنية الدلالية النصية وبين ما يسمى " المعانى " التي يجتهد القراء والنقاد في بنائها حسب طبيعة فهمهم أو تأويلاتهم، وهذا يشير الى تدخل ما في النص من الخارج بواسطة التأويل.   

ب - حين يركز التحليل النقدي للنصوص الأدبية على تحديد المؤثرات الذاتية والنفسية، سواء كان ذلك متعلقا بعلامات حضور المؤلفين في نصوصهم أو دراسة الخلفيات النفسية لشخصيات تمثيلية ،كما هو الحال في شخصيات الروايات أو مُمثلي المسرحية، يكون المنهج القائم بهذه المهام إما نفسيا أو نفسانيا.

ج - وعندما يتجه الاشتغال النقدي نحو تفسير المحتويات والأحداث النصية تاريخيا أو اجتماعيا أو سياسيا فستكون الممارسة النقدية تتجاوز النص الأدبي لربط النصوص بالمسارات التاريخية أو أحدات وتطورات اجتماعية أو مواقف سياسية. ويكون المنهج هنا إما تاريخا أو اجتماعيا. ونعتقد أن ما يُدعى عادة بالمناهج التأويلية لها ارتباط وثيق بالنوعين (ب، ج) المشار إليهما. 

لكل هذا نرى أن الاتجاهات النقدية المشار إليها ليس من اليسير استيعابُها ولا التفوق في تطبيقها إذا لم تكن لمن يقوم بتحليل النصوص معرفةٌ منهجية تؤهله للقيام بهذه المهمة. ومعظم المعارف التي مَكَّنَتِ النقاد من هذا التأهيل مُستمدة كما رأينا من مجموعة من العلوم الإنسانية وهي : المنطق واللسانيات وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، وبعضها له سند فلسفي.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المناهج تم دمجُها ضمنيا في نطاق السميائيات المعاصرة المعتمِدة على أرضية لسانية تقتضي الرجوع الدائم في كل اجتهاد تحليلي للنصوص أو أي تأويل لمعطياتها، إلى ضرورة إثبات ذلك عيانيا من خلال العلامات اللسانية الشكلية ووحدات المحتوى الدلالية. لذا نرى أن استخدام المناهج في تحليل الأدب هو عمل مُستنير ومعرفي، بعيدٌ عن الإسقاطات الذاتية أو الميل مع الأهواء والتسيُّب في التحليل.

كما أنه إذا جعلنا الأذواق الذاتية كافية لمعالجة النصوص الأدبية سيَعتبِرُ كلُّ قارئ عادي نفسَه في مستوى كل من كابد المحن في تحصيل المعارف المنهجية. وهذا عين الدعوة إلى " الشعبوية " في التفكير والسلوك والتي تعتمد مبدأ أن " غير العارف مُساو للعارف في المؤهلات، إن لم يتم الادعاء بأنه متفوقٌ عليه، وهذه بلية لا تَسود عادة إلا في المراحل التاريخية التي تَظهر فيها علامات الانحدار الحضاري لدى شَعبٍ ما.

ليس المُهم في دراسة الأدب أن نقول هذا النص رائع أو غير مَسبوق، بل ينبغي إثبات ذلك بالتحليل والمعاينة. وليس من السهل أن نقول مثلا بأن مدلول هذه الحكاية هو كذا أو كذا ولكن أن نُثبت بالمعاينة والإقناع الحِجاجي والمنطقي أو الترجيحي بأن هذا النص يوجهنا نحو هذا التأويل أو ذاك الفهم. هذا هو جوابي على قولكِ ما جَدوى أن يَستخدِم الناقدُ اليومَ مَنهجا مُحددا لدراسة العمل الأدبي؟ لذا أقول بأن جدوى ذلك كما رأينا هي أن يُقرِّب الناقدُ للقراء فهما أو تأويلا مُبرَّراً ومُعززا بالحجاج والمنطق والمعاينة النصية المُتشابِكة، وأن يجعلنا نقتنع بأن العمل المدروس يُضاهِي في قيمته التعبيرية والمدلولية ما هو موجود من النصوص سلفا.

ولا يكون ذلك في نظري مُنحصرا بالضرورة في تطبيق مَنهج مُحدد بحذافيره كما جاء في سؤالكِ، فالمعارف المنهجية متداخلة ومُتطورة على الدوام في هذا الاتجاه، وإمكانياتُ الدمج بينها مُثبتةٌ سيميائيا، كما أشرتُ سابقا. لا نجد خارج هذا الإطار المعرفي إلا معالم نقض المعرفة والارتجال والادعاء والغموض والأحكام العامة، وأحيانا المبالغة والتيهان في البحث عن الأنساق المضمرة، وهذا مِمَّا يُسهِّل تَعمُّد تَبخيس جهود النقاد الذين نذروا حياتهم لاكتساب المعارف المنهجية.

ما شرحتُه حتى الآن يُبين نظير ما سلكتُه في أعمالي النقدية الأدبية الخاصة فشِعارها التطوير الدائم للمناهج، وإحداث إمكانيات مُستمرة لــ " تفاعلٍ سيميائي" بينها. وهذا يناقض ما يُدعى بــ " بالنقد التكاملي" الذي يقوم على أساسٍ تلفيقي كما هو معلوم. أما إحداث التفاعل بين بعض المناهج أثناء التحليل فيكون مشروطا قبل الشروع في ممارسة تحليل الأعمال الأدبية باستيعاب الناقد للمعارف المتعددة، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية والبنيوية والسيمولوجية...وهذه بالتأكيد مُهمَّةٌ صعبة لا تقوم إلا على غزارة الطلاع والتحصيل.       

* هل يمكن القول إن المناهج الأدبية مترابطة بوشائج لا يمكن فصلها أو إهمال جزء منها، لا سيما المناهج البنيوية وما بعدها. بمعنى آخر، هل من الممكن أن ينجح الناقد الذي يدرس منهجًا واحدًا ويطبقه ولا يمتلك سوى معرفة ضئيلة بالمناهج السابقة أو التالية له.. ما الإشكالية التي قد تواجهه في تلك الحالة؟

- في الإجابة عن السؤال السابق حاولتُ إثباتَ أن المناهج ظهرت مُوزَّعة على تَخصصات مُحددة، كل واحد منها يهتم بجانب من الظاهرة الأدبية، لكن الظاهرة الأدبية هي بنية واحدة تجتمع فيها كل اهتمامات المناهج، لذا فمن الطبيعي إذا ما تخصص ناقد ما مثلا في النقد النفساني الفرويدي، فإنه غالبا ما يكون شحيح المردودية في تحليل الجانبين البنيوي والاجتماعي في النص الأدبي، لأن تركيزه سينصب على الأبعاد النفسية والنفسانية، سواء كان ذلك من خلال استحضار شخصية المؤلف، إذا كان النص المدروس شعريا أو من خلال كشف المشاكل والعقد النفسية للشخصيات المُتَخيَّلة إذا ما كان ما كان النص الخاضع للتحليل سرديا. غير أننا وجدنا بعض النقاد في العالم العربي حاولوا التركيب بين بعض المناهج لضمان استيعاب ظواهر متعججة في النص الأدبي، وتجربة الناقد جورج طرابيشي بارزة في التركيب التفاعلي بين المنهج النفساني والاجتماعي. وقد أثمر مجهودُه في دراسة الرواية على الخصوص نتائج مُمَيَّزة.

على أنه بالرغم من ذلك، فالتخصص في النقد والتركيز على جانب مُحدد قد يقود إلى اكتشاف مُعطيات جديدة، كما حصل مثلا مع الأبحاث والتحليلات التي أنجزها الشكلانيون والبنائيون. وقيمة الأبحاث النقدية على العموم، لا تقاس فقط بمسألة تخصص النقد في منهج واحد أو تركيبه التفاعلي مع مناهج أخرى، وإنما  بمهارات الناقد التحليلية وما يُسنِدُها من معارف واسعة النطاق وموثوق بها، أما المعارف الضئيلة فلا تكون لها في أغلب الأحيان مردوديات تحليلية ملموسة النتائج.         

* اعتبرت في كتابك "سحر الموضوع" أن النقد الموضوعاتي بدرجة ما شكّل نواة للنقد الثقافي.. كيف تنظر إلى فكرة استبدال النقد الثقافي بالنقد الأدبي؟ وإلى أي مدى يُمكن أن يُقدم ذلك قراءة واعية وفارقة للنصوص الأدبية؟

- نعم أشرتُ إلى هذا فعلا في كتابي: " سحر الموضوع "، لأنني عندما دَرستُ النقد الموضوعاتي وأصولَه المعرفية في هذا الكتاب تبين لي أنه في عمقه ليس منهجا مُحددا، فمبادئه شديدةُ العمومية، لأنه يلتقط في تحليلاته كل الموضوعات والثيمات، كما أنه مُنفلت العقال في تجواله عبر النصوص وخارج النصوص على السواء مُجمِّعا، في غير نظام مُحدد، كلَّ إمكانيات المناهج الأخرى بما في ذلك ما هو خارج عن المناهج كالتذوق والمهارات الذاتية. ومبدأه الأساسي هو الحرية التامة في الحركة من النص إلى المعارف المختلفة.

هذه الخصائص تلتقي مع النقد الثقافي الذي يَعتبر النص الأدبي مجرد ذريعة لاكتشاف أنساق خارج نصية مُتحكِّمة في الإنسان. والفارق الأساسي بينهما هو أن النقد الموضوعاتي يحترم أدبية الأدب ودور الأدب الفاعل في حياة المبدعين والمجتمع على السواء، على عكس النقد الثقافي الذي لا يهتم بالأدب في حد ذاته، وأحيانا لا يكن له تقديرا، وإنما ينظر إليه كظاهرة ليس لها من وظيفة إبداعية ودلالية ذات قيمة سوى ما تكون دالة عليه من أنساق رمزية تتحكم في المبدع وغيره من أفراد المجتمع، وهذا ما يجعلُ النقد الثقافي منشغلا بالبحث عن علامات تلك الأنساق الخارجية أكثر مما يَعتبر الأدب إبداعا متعدد الوظائف الإيجابية بالنسبة للمبدعين والقراء على السواء. وأنا أتحدث هنا فقط عن الاتجاه الغالب في النقد الثقافي.          

* في إطار متابعتك لما كُتب عربيًا في مجال النقد الثقافي على مستوى التنظير والتطبيق.. ما أوجه التميز وكذلك الخلل فيما قُدم في هذا المضمار؟ وكيف يمكن تجاوز مشكلاته؟

2251 حميد لحميداني 3- من الضروري القول بأن الأدب في معظم الأبحاث الغربية والدراسات العربية المُنتمية إلى النقد الثقافي تَعتبِرُ الأدبَ ظاهرة "شاذة " يُجرِّبها الأدباء على أساس أنهم يبدعون شيئا مفيدا لهم ولمجتمعاتهم، ولكن واقع الحال أنهم من وجهة المنظرين للنقد الثقافي والتفكيكيين أيضا إنما هم ضحايا غير واعين بأنهم يعززون الأنساق الفكرية والثقافية التي تكون عادة مُدعَّمة من قبل مراكز سلطوية في المجتمع.

ونرى أن مثل هذا التصور ليس جديدا على كل حال، فهو مشروح في الكلاسيكيات الثقافية للمناهج السوسيولوجية الجدلية، لكن برغم إثباتها ارتباط الأدب بالايديولوجيات والسلط فإنها أكدت من جهة ثانية، وهذا هو المهم، أن الأدب يَحتفظُ بسلطته التأثيرية وقدرته على خِدمة الثقافة التي يُعبر عنها والتي تتفاوت قيمها بين شريحة اجتماعية أو أخرى، بمعنى أن الأدب في المجتمع ليس خاضعا في كليته لسلطة واحدة بحيث لا يكون له أيُّ دور ايجابي في انتقاد الواقع. وهذا على عكس تصور النقد الثقافي الذي ينظر إلى السلطة كنسق واحد في أي واقع اجتماعي على أنها ذات هيمنة تامة على الكل، ولا يفلت من إخضاعها أي نتاج أدبي مهما كانت قيمته الإبداعية ومهما كان لديه من أفكار وانتقادات جريئة وتحليلات جديدة.

ونرى أن واقع الحال يخالف هذا التصور، فحينما تُصادَرُ بعضُ الأعمال الأدبية، على سبيل المثال، بحجة أنها تمثل تشويشا على هيمنة النسق المهيمن فهذا يعني أن النسق لا يتحكم في جميع الأعمال الأدبية، ويترتب عن ذلك أن للأدب سُلطتَه الخاصة التي تنجح أحيانا في الانفلات من تحكم الأنساق الرمزية، وهذا ما لا يعترف به بعضُ النقاد الثقافيين بسبب أن لهم منظورا واحدا عاما ومُطلقا، كما أنهم يستبعدون حوارَية وجدلية الأفكار التي تُساهم في إثرائها الأعمالُ الأدبية ويكون لها دور في انتقاد سلطة أو تعزيز أخرى . وأعتقد أن مشكلة منظور النقد الثقافي عسيرة التجاوز إذا لم " يَعترف " نُقاده بأن للأدب دورا فَعالا في حياة الإنسان ومساهمةً مؤثرة في تطوير المُجتمعات إلى ما هو أفضل.                  

* كتبت العديد من الأعمال في مجال نقد النقد متعرضًا للحديث عن التطبيقات النقدية لعدد من المناهج مثل البنيوية والموضوعاتية والنقد التاريخي والنفساني. أود سؤالك حول رؤيتك لواقع نقد النقد في عالمنا العربي.. إلى أي مدى يحظى هذا المجال بدراسات جادة ومؤثرة؟ وما الذي يُكسبه أهمية أساسية في تطوير الدراسات النقدية؟

- أشرتُ سابقا إلى أن نقد النقد هو مَجالٌ ثري، لأنه ينتمي إلى الحقل الابستيمولوجي (أي مجال معرفة المعرفة) وهذا مَعناه أَنه يمثل معرفة تبحث في الكيفيات التي يَبني ِبِها نقادُ الأدب مَعارفهم  في تبني المناهج وتحليل النماذج النصية. وناقدُ النقد من هذا الموقع يبوء نفسَه ما يشبه منزلة " عارف العارفين في الحقل النقدي" على أن بلوغ هذه المنزلة ليس بالأمر البسيط، فالمفروض أن تكون معارفه أوسع نطاقا وأكثر تدقيقا، لأنه مُلزم بأن يتبحر في استيعاب جميع المناهج الأدبية وأصولها المعرفية والفلسفية، وأن تكون مصادره أصلية في معظمها وأن يُلِمَّ بتاريخ تطور المناهج النقدية قديمها وحديثها، كما أن معرفته ببعض اللغات ستُعَدُّ سندا أساسيا في تقريب المعارف الغيرية.

وإلى جانب كل هذا من الضروري أن يخضع إنجازُه في نقد النقد إلى منهجية عامة، لها ارتباط بالمبادئ التي تُدرس بها مُختلف العلوم الإنسانية، ومنها التَّجرد من التحيز، بمعنى ألا يتبنى ناقد النقد أي منهج من المناهج المدروسة، فخلاف ذلك يلغي الحياد المعرفي. هذا فضلا عن ضرورة استحضار الضوابط المنطقية والتحليلية والاستنتاجات التمييزية بين المنهاج من حيث وضوح التصور النقدي وفعاليته وغاياته من تحليل النص الأدبي، وهل هناك فعالية منتجة في معالجة واستيعاب البنيات النصية واستنطاقها وكشف ما هو متوار من مدلولاتها الاحتمالية.. الخ .       

* هل من نقاد عرب في الوقت الراهن ترى أن تجاربهم النقدية أصيلة وقادرة على تجذير اتجاه نقدي يُفيد من الجهود النقدية العربية القديمة فضلًا عن التشبع والفهم الجيد للأدوات المنهجية الغربية؟

- هذا سؤال يكاد يَطْلبُ ضمنيا في هذا الحوار تعيين أسماء نُقاد الأدب المُمَيَزين، بعيدا عن الإثباتات الملموسة التي لا يتم تفعيلها كما أسلفتُ إلا من خلال دراسات عملية تحليلية في مجال نقد النقد. وعلى كل حال يمكن أخذُ فكرة عن جملة من رواد النقد الأدبي من البلدان العربية في عدد من كتبنا التي عالجَتْ واقع النقد العربي من خلال تحليل بعض النماذج  خلال فترة طويلة نسبيا من تاريخ النقد الأدبي العربي الحديث، وقد ساعدنا  ذلك، إلى حد ما، في الكشف عن المجهودات الأساسية عند جملة من النقاد مع التمييز بينهم، لذا نحيل القراء على  كُتبنا التالية: " بنية النص الأدبي "  و" النقد النفسي الأدبي المعاصر"، و" النقد الروائي والاديولوجيا " و" سحر الموضوع" ليتعرف على كثير من الأسماء.

أما في الفترة الحالية فنرى مجموعة واسعة من النقاد العرب والمغاربة، من ثلاثة أجيال، يواكبون باقتدار مُعظَم الإنجازاتِ المتطورة في النقد الأدبي وخاصة في مُستجدات التحليل النفسي والنفساني والمعالجة الشكلانية والبنيوية وتطبيقات نظرية التلقي وكذا التحليل السيميائي للأدب. هذا دون ننسى كثيرا من المجهودات التي اهتمت بإعادة تأهيل تصورات النقد العربي البلاغي القديم مع إخضاع النصوص الأديية العربية القديمة والحديثة على السواء للتحليل بالمناهج الغربية. وعلى العموم نرى أن الكتب والمجلات الصادرة في العالم العربي في هذه الحقبة الحالية ناطقةٌ بأسماء المُساهمين في هذا العطاء النقدي المُميَّز بما فيه من محاولات جادة لاستعاب المناهج والنظريات والنقدية وتطويعها لتحليل النتاجات الأدبية العربية.

* كيف يمكن للنقد الأدبي في الوقت الراهن أن يتغلب على العديد من التحديات مثل: ظهور أشكال جديدة من الكتابة الأدبية الرقمية، النقد الأدبي الجماهيري ممثلًا في مواقع تقييم الكتب والبوكتيوب، بزوغ نجم النقد الثقافي مع عدم ثبات أقدامه بشكل مؤثر؟ 

- ليس هناك ضرورة مُلحَّة، في اعتقادي، تجعلُ النقد الأدبي الأكاديمي والمتخصص ينشغلان بما سمَّيتِه التَّغلُّب على العديد من التحديات المتعلقة بالكتابة الأدبية الرقمية والنقد الجماهري ثم ما أُفضِّل تسميتَه بظاهرة الكُـتــْيـُوبيَّة، وأصل التسمية اللاتيني المتداول هو booktUb، وأعزو ذلك إلى ما يلي: لم تُبرهن الكتابةُ الرقمية حتى الآن مُمَثَّلةً بنموذجها المشهور في العالم العربي وهو : رواية " شات " لمؤلفها الأردني محمد سناجلة.. أقول لم تبرهن هذه الكتابة الرقمية عن قدرتها على الاستمرارية أو إغراء مؤلفين آخرين باحتذائها لتحقيق تراكم يؤسس لنوع أدبي راسخ الحضور.

 ولعل سبب هذا التعثر راجعٌ إلى الاعتماد على آلية النص التشعبي  hypertexteالتي لا تقف عند استخدام اللغة بل تتعدى ذلك إلى الصورة والحركة والصوت والحوار والتنقل افتراضيا عبر المواقع التواصلية، فضلا عن أن المُغامرة التأليفية في هذا النمط الرقمي تقتضي امتلاك معارف أخرى متعددة غير الموهبة الأدبية، مثل البرمجة والإخراج الالكتروني والشبه سينمائي، مع توفر خبرات دقيقة في الصوت والصورة والإضاءة. كما نرى أنه حتى الآن لم يتم في العالم العربي رصدُ ناشرين مُشجِّعين، يتبنون نشر الكتابات الرقمية التشعبية. ورغم أن هذه الظاهرة " الإبداعية " خلقَت في بداية ظهورها اهتماما من قبل بعض المتتبعين والنقاد، فإننا نرى الآن أن الحماس في هذا الاتجاه قد خبا بشكل ملحوظ.

أما عن النقد " الجماهري "، فإسمه دالٌّ عليه، فهو نقدٌ عام مفتوح للجميع ومرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي، كما أنه في جميع الأحوال يتشبث بالتحرر من أي ضوابط. ومع أننا لا ننفي كليا بأن بعض الآراء والصيغ النقدية الواردة فيه قد تكون دالة على ذكاء في الملاحظة والتقدير لأعمال أدبية يدور حولها النقاش، لكن هذه الآراء تكون غارقة وسط حوارات غير مُنظَّمة وتدخلات كثيرة خارجة عن الموضوع أو غير مُلتزمة بالشروط المعرفية، وأحيانا نراها تخرج عن نطاق اللياقة وربما تقع بكلامها في محذورات قانونية وأخلاقية. وهذا لا يؤسس مشروعا لتطوير النقد الأدبي بالشكل المطلوب.أما الظاهرة النقدية الكُتْــيُوبيَّة، فهي مجال يَميل إلى الدردشة المُنظمة حول الكتب تكون مفتوحة بالطبع لمشاركة المتخصصين وغيرهم، ويمكن اعتبارها أحيانا آراء شخصية سريعة أو انطباعية عن الكتب المقروءة أكثر مما هي تحاليل دقيقة أو مُوثَّقة عن تلك الأعمال.

ويبقى أن ما قد يشغل اهتمام وبال النقاد الأكاديميين والمتخصصين هو ما يُسمى بالنقد الثقافي الذي أشرتُ سابقا إلى طبيعته وأهدافه الأساسية، فكثير من المنشغلين به لهم فعلا بعض المعارف التي يدافعون بها عن تصوراتهم التي يكون هدفُها الأساسي هو إخراج النقد الأكاديمي والمتخصص من دائرة الاهتمام والأهمية، مع أنهما يجعلان الأدب في نطاق ما هو ايجابي باعتباره نتاجا له قيمة مُزدوجة، جمالية ومدلولية ذات علاقة حميمية بواقع الإنسان وأحلامه القادرة على مواجهة متاعب الحياة والبحث عن سبل التغلب عليها.

النقد الثقافي في معظم اتجاهاته لا يرى في الاهتمام بالأدب حاجة مرتبطة بوجود الإنسان وصيرورته بل يعتبره إنتاجا يُبَرهَنُ من خلال بنياته ومدلولاته على أن الإنسان خاضعٌ لأنساق اجتماعية تهيمن عليه وتتحكم فيه وأن فائدة الأدب الوحيدة عند التحليل هي أنه يسمح لنا بالكشف عن تلك الأنساق. هذا التصور الغالب في النقد الثقافي غايته الأساسية هي سحب البساط من تحت أقدام النقاد والأدباء على السواء، لذا يحق لهؤلاء أن يشعروا فعلا بالقلق على انشغالاتهم الهادفة.

على أنه من حسن الحظ أن الأدباء لم ينصرفوا أبدا عن خوض غمار تجاربهم الأدبية، لأنها مرتبطة بكينوناتهم وأحلامهم في تجاوز عقبات وأحزان الحياة ومواجهتها بصلابة ، كما أن النقد المؤسَّس على القيمة الإيجابية للأدب لا يزال يجد في النتاجات الأدبية بجمالياتها وأفكارها البناءة المُشاكسة لما هو مهيمن، ذريعة مشروعة لمزيد من الاهتمام بها وبوظائفها المتعلقة بتحسين الوجود الإنساني وتجاز كل ما يعرقل مساره نحو الأفضل. ولعل هذا بالذات هو ما جعلكِ الفاضلة حنان تقولين ضمن سؤالك الأخير هذا، بأن النقد الثقافي بِسبب عدم ثبات أقدامه لم يعد مُؤثرا ،كما كان عليه الأمر سابقا عند بزوغ نجمه. وهذا بالفعل ما هو حاصل في وقتنا الحاضر، فقد واصل النقد الأدبي أيضا حضوره الراسخ في أحتضان الأدب بشتى تجلياته الإبداعية والدلالية.  

 

حاورته: حنان عقيل

 

حنان عقيلنبيل ياسينالشاعر يتمرّد باسم الصامتين ولا يمكن له أن يكون شاعرا سياسيا ويكتفي بذلك

ترتحل تجربة الشاعر العراقي نبيل ياسين الشعريّة ما بين فضاءات عدّة، من الخاص إلى العام، ومن السياسي إلى الجمالي والكوني.. تجربة ثريّة بدأت منذ أكثر من أربعة عقود وقد أثمرت العديد من الدواوين التي جمعها الشاعر في مجموعة أعماله الكاملة، ورصد تفاصيل ميلادها في سيرته الشعريّة والذاتيّة “أوجاع الوردة”.

عقود طويلة قضاها الشاعر العراقي نبيل ياسين متنقلا ما بين المنافي، إلا أن شعره ظل قابعا هناك في العراق، ظل طيلة مسيرته الشعرية قابضا عليه في قصائده خشية أن يفلت منه وتهمله ذاكرته، إلى أن جاءت الفرصة ليعود إليه عام 2007 بعد ثمانية وعشرين عاما من المنفى. كان ما سجّله في ذاكرته عن بلده قد اندثر ولم يعد له وجود، وجد أنه قد انتقل من منفاه إلى منفى آخر إلا أنه ظل مُتمسكا بألا تلفظ ذاكرته الوطن. كتب: "هذا العراق، عراقي الشخصي، لا ملك عليه، ولا رئيس سواي، أعطيه أغنيتي ومنفايٓ الكبيرٓ، وأصطفيه خليلٓ أيامي، وما ملكت يداي".

إلى نص الحوار:

- في "أوجاع الوردة" سيرتك الشعرية والذاتية، نلحظ مزجك ما بين فصول حياتك وعملك السياسي والشعري وفيها توضح ظروف ميلاد قصائدك وخروجها إلى النور.. كيف تشكّلت فكرة هذا الكتاب لديك؟ وماذا كان الدافع وراءه؟

- أوجاع الوردة، سيرة لمنابع ومصادر قصائدي وأفكاري، كل قصيدة تتدفق من مواد، المدينة،البيت، الطبيعة، التاريخ، الأسطورة، المرأة وغير ذلك من مواد تخلق الشعر، ولذلك فإن أوجاع الوردة هي الوعي واللا وعي، المحسوس واللا محسوس الذي يحول الكلام إلى شعر.

الشعر فيض، وهذا الفيض ينبع من الموجودات، من النهر الذي يخترق المدينة معطيا لها السحر في الليل حيث كل الحيوات والكائنات تحت سطحه في المياه المتلألئة بفعل مصابيح الجسر، حتى الجنيات اللواتي يسبحن ثم يخرجن إلى سطح الماء ليمشطن شعرهن الأسود بأمشاط خشبية، الأبواب، والشبابيك والشرفات التي تمد القصائد بالصور والأشكال والإلهامات المتحركة، الأشجار والطيور والطفولة والأزقة، الناس والأشياء، كل ذلك مصادر ومنابع للشعر، للسحر الذي يمارسه الشعر.

هكذا تكونت أوجاع الوردة لتكون تأويلا، تأويلا روحيا لما هو مادي وموجود ليكون روحيا وعاطفيا في الشعر. هناك أيضا حياة العراق اليومية، المؤسسة على الحضارة والتاريخ القديم والحديث، الحياة بعد ثورات الطلبة في فرنسا وأوروبا، الحياة بعد موت جيفارا، الحياة بعد العواصف والاضطرابات التي جعلت من الثورة والوجودية أحد العناوين الجديدة للحداثة، الحداثة التي مضت بها الفلسفة الحديثة على يد فوكو وألتوسير وغيرهما إلى تأسيس مفاهيم جديدة عن الدولة والإنسان، والعدالة والحرية والأخلاق.

ربما كان الدافع وراء كتابة أوجاع الوردة هو استرجاع الألم الذي كان يتدفق أثناء كتابة كل قصيدة، الألم المشارك مع كل عنصر مادي من عناصر الحياة، الميلاد والموت، الألم واللذة، المدينة والطبيعة، الروح وما بعد الطبيعة، الاستماع مجددا إلى أبواق وصيحات قبائل الستينيات الشعرية وهي تخفق برايات العالم الخارج من السجون والهزائم إلى ماراثون جديد للوصول إلى الحياة.

كنت أحمل رأسي على كتفي قلقا مهتزا في لجة الفيض المتسع من الشعر والأسطورة والأدعية والمناجاة صارخا:

هاكموا رأسي خذوه

واصلبوه

هائما في شوارع بغداد وأزقتها وفي دروبها وسككها القديمة أنشد الشعر المتدفق من الينابيع

وأركب مهرة الاحلام من بلد ٍ الى بلد ِ

وفي رأسي قصائدُ من شجونٍ بعد لم تلدِ

كنت أمشي وأنثر الشعر على الطرقات مغنيا قصائد (البكاء على مسلة الأحزان) واحدة بعد الأخرى وهي تفيض مع الفيض الشعري المتدفق من شعراء كنت أقرأهم دون أن أعير اهتماما بمكانهم.

صعد الشهداء من التاريخ ودخلوا سحر اندفاعي اللا متناهي مثل سهم مارق بسرعة الضوء، صعد إلى قصائدي، صوفيون وصعاليك وثوار، صالح بن عبد القدوس، البشار،الحلاج.

إنني الشاعر يامولاي

ضلعي ريشةٌ، وجبيني الورقة

وأنا الحلاج يامولاي

والحلاج في كل العصور

عالق بالمشنقة

١٩٦٩

- ما مدى انطباق هذه المقولة للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي على لحظات ميلاد القصيدة عندك: "الشاعر يبدأ غالبًا من القصد، ثم لا يلبث أن تسحبه تداعياته إلى المعنى أو المعاني التي طالما حبسها في قمقمه الخاص الذي هو لا وعيه، فإن هو قارب اللغة التي هي فضاء الجماعة المشترك انطلقت معانيه الحبيسة ترفرف في هذا الفضاء بالرغم منه"؟

- الشعر هو اللا وعي الناتج عن الوعي، كل ما قبل كتابة الشعر هو وعي ومادة، محسوس ومرئي، معاش ومجرب، ولكن ما إن تبدأ كتابة الشعر حتى تذوب كل تلك المحسوسات والمجربات والمرئيات والموجودات وتنحل مثل قطرات الندى وتتحول إلى شعر، ينتهي دورها حالما تبدأ الكتابة، تتحول إلى مصادر وليس إلى أصل. الشعر لا تصنعه القراءات فحسب، فهذه القراءات تشبه تعلم اللغة في الطفولة، فبعد ذلك لا يعود تعلم اللغة ذا شأن وإنما كيف تكتب وتفكر وتقرأ.

أؤمن بأن الشعر إلهام كما أقر بذلك أرسطو، وأوافق ارشيبالد ماكليش في أن الشعر تجربة، وأوافق كوكتو بأنه ضرورة، وأوافق على التعريف العربي الشائع بأنه الكلام الموزون المقفى، وأوافق أبا هلال العسكري بأنه صناعة وأوافق الجاحظ بأنه التقاط الساقط وتحويله إلى ذهب، ولكن كل ذلك يرتبط بزمكان الشاعر ورؤيته وقدرته على ممارسة السحر والعيش في فيض يختص به وحده.

ليس هناك وعي لحظة كتابة الشعر، الوعي بالحياة والعالم والتاريخ والفلسفة والميلاد والرحيل، والإقامة والمنفى وعي ما قبل البدء بالكتابة، استعدادات ومؤن ووسائط لكتابة القصيدة، لا وعي لحظة الكتابة، جربت أن أكون واعيا لدى كتابة القصيدة، فلم أستطع الرحيل في طريق القصيدة فأهملت كل لحظة واعية، لأن ما يأتي من هذا الوعي ليس سوى تصميم سيئ وهندسة عشوائية مشوهة، فلنقبل بما قاله أرسطو عن الإلهام في الشعر، أيا كانت صورة هذا الإلهام وتأويله.

حين منعت وزارة الثقافة ديواني الشعراء يهجون الملوك عام ١٩٧٤ كان الأمر طبيعيا، أنت تهجو سلطة تريد أن تجيز هجاءك، كان (الخبير) شاعرا بلا وعي قبل القصيدة وبوعي كامل ومضلل لحظة الكتابة، إنه شاعر عقائدي يملك فرن صمون إلى جانب كونه موظفا في الوزارة، لا يعرف معنى التمرد ولا معنى الفوضى ولا معنى العبور في هذا العالم، إنه يأخذ وظيفته كأحد الرجال الضفادع لحراسة العالم السفلي الذي تحكمه آلهة الجحيم ارشكيجال أخت عشتار آلهة الحب والجنس.

- هل يمكن القول إن تجربتك السياسية كانت رافدًا رئيسيًا في اختياراتك وكتاباتك الشعريّة ولولاها ما كتبت كثير من القصائد؟ وما هو الحد الذي تراه فاصلا وواجبًا بين الهم الشعري والهم السياسي؟

- ليس لي تجربة سياسة بالمعنى الحزبي والأيديولوجي. كنت دائما أصرح بأننا مثقفون تنويريون في بلدان يمارس فيها السياسيون أدوراهم الظلامية في السلطة وخارجها، لذلك وقعت علينا مهمة التنوير الفكري والسياسي. الغريب أن كل الذين يروجون عني تهمة العمل بالسياسة هم أدباء حزبيون ملتزمون بالعقائد الديماغوجية الشمولية الإقصائية.

مع هذا مَنْ من الشعراء نجا من ثورية الستينيات والسبعينيات؟ كانت كل قضايا ما أسميناه حركة التحرر الوطني مشتعلة ويتصاعد دخانها من فلسطين إلى فيتنام ومن نيكاراغوا إلى أنغولا. ألم يكن أكثر الشعراء العالميين حضورا لدينا هم نيرودا وأراغون وأيلوار وناظم حكمت. الشعر مقيم والسياسة مترحلة، لا يمكن لشاعر أن يكون شاعرا سياسيا ويكتفي بذلك. حتى نزار قباني، شاعر المرأة كما أشتهر عنه كتب القصائد السياسية التي يحفظها العرب أكثر من بقية قصائده.

نعم، ما عشناه من تقلبات سياسية: ثورات، انقلابات، انتفاضات، ديكتاتوريات، استبداد، سجون، أفكار، عقائد، لم تحصن أي شاعر عربي من تحويل هذه التقلبات إلى مادة شعرية، إلى مصدر وينبوع، حتى في استعارة الأقنعة من التاريخ. فالشعر جزء حيوي من الصراع في الحياة. والشعر إنساني بقدر ما هو نتاج المرحلة التي يعيشها الشاعر. وحين دخلت الفلسفة في شعري تبدلت القصيدة لتكون أكثر كونية وأكثر عمقا في الرؤية،هذا إذا كان من حقي أن أتحدث عن شعري.

- كيف تنظر إلى ديوانك الأول "البكاء على مسلة الأحزان" الآن بعد عقود من كتابة الشعر خصوصًا وأن أعمالك الأخيرة جنحت نحو قصيدة النثر؟ وهل يمكن الحديث عن تطورات وتغيرات كبيرة في نصوصك الشعرية ظهرت بمرور الزمن واتساع التجربة؟

- البكاء على مسلة الأحزان كان فيضا من فوضى الاإقامة في الشعر يوميا. لا أتذكر أن يوما مر، قبل صدور الديوان، دون أن يكون يوما شعريا، قراءة وكتابة وإلقاء، كانت الكليات العراقية، بما فيها كليات الطب والهندسة تقيم احتفالات شعرية، كنا ندعى إلى قراءة الشعر، وكم مرة وجدنا أنفسنا على سبيل المثال، أنا ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وآخرون، ندعى لمهرجانات الجامعة لنقرأ شعرا.

في عام ١٩٦٩ دخل علينا، بينما كنا على المسرح في قاعة الحصري في كلية الآداب، والشاعر حميد الخاقاني يلقي قصيدته، شعراء مؤتمر الأدباء فكان ممن دخل أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي الذي شاركنا نحن شعراء الجامعة آنذاك وقرأ قصيدة كما شاركنا يوسف الصائغ فقرأ قصيدة أيضا بينما كان هناك عشرات الشعراء العرب يسمعون.

كانت الجامعة آنذاك مسرحا للحياة الشعرية وميدانا للإنتاج الثقافي. وكانت نازك الملائكة وعاتكة الخزرجي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وإبراهيم السامرائي، وهم شعراء وأدباء وأساتذة معروفون، في تلك المرحلة والآن أيضا، هم من يشرف على مهرجان كلية الآداب بحيث صار يثير شهية شعراء من خارج الجامعة للمشاركة، كما كان الشعراء العرب يتوافدون على بغداد والبصرة والموصل. كنا نلتقي محمود درويش ونزار قباني ومحمد الفيتوري وعبد الله البردوني وغيرهم في مهرجانات المربد في البصرة وابي تمام في الموصل في مطلع السبعينيات إضافة إلى الشعراء العراقيين، الجواهري والبياتي وبلند الحيدري وآخرين قبل أن تتحزب الحياة الثقافية وتنحط الثقافة وتتحول إلى أيديولوجيا ودعاية سياسية

في "البكاء على مسلة الأحزان" كانت هوامش لأغلب القصائد التي استعارت أقنعة الحلاج، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وغيرهم من الشخصيات التي واجهت مصائر ثوراتها وقناعاتها، وكانت تلك الهوامش معتمدة على مصادر ومراجع الشعر والتاريخ والسير، وربما كانت تلك التجربة أول تجربة في استخدام المراجع للقصيدة.

لكن ما هي أهمية ذلك الديوان في حياتي الشعرية؟ إنه الأهم رغم أنه لم يعد سوى التجربة الأولى، حيث الثورية الشعرية والغنائية العالية والاحتجاج والتمرد والرفض والصراخ بصوت عال ضد فقدان الحرية وضد غياب العدالة. إنه فتح طريقا طويلا جدا وصعبا جدا للسير في الحياة المضطربة التي صعدت مع قصيدة الشعراء يهجون الملوك التي نشرت في مجلة مواقف عام ١٩٧٢ التي كانت ممنوعة في العراق، ومع قصيدة الاخوة ياسين (١٩٧٤)، وكلا القصيدتين تحولتا إلى عناوين لمجموعتين شعريتين.

- ما الأبعاد التي يضيفها توظيف الأسطورة على شعرك؟ وهل تمثلها يتم بقصدية أم أنها تسعى إليك أثناء الكتابة؟

- لكن ما هي الأسطورة؟ هل هي طفولة البشرية؟ غالبا ما أشبه الأسطورة بأفلام ديزني الكارتونية، ففيها يحدث ما لا يمكن أن يحدث في الواقع، ولو لم تنشأ الاساطير ما كنا استطعنا الحياة بدونها، ليس لأنها تصنع مخيلتنا فحسب، ولكن لأنها بالضبط الحياة الأخرى التي كان علينا أن نحياها مع من عاش فيها آنذاك. الأسطورة السومرية أو البابلية، أي الأسطورة الرافدينية ليست فقط مهد البشرية الثقافي والحضاري وإنما هي قدرة الانسان على خلق عالم آخر كما يريده هو لا كما تريده الآلهة فقط.

تجلت الأسطورة في شعري، خاصة في ديواني (صهيل في غرفة) الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب في القاهرة عام ٢٠٠٢، باعتبارها مادة حياتية وليست إعادة إنتاج لها، فالحياة في الأسطورة هي الحياة في الفيض البشري الذي تجلى وفاض في مواجهة العالم غير المفهوم وغير المحتمل.

الأسطورة مصدر حالها حال المصادر الاخرى للشعر. وهي حيوية لدي ربما أكثر من غيرها. ففي قصيدة "بلاد الرافدين" المنشورة في كراس عام ١٩٩٥ بعنوان مناحة على بلاد الرافدين، يمكن القول إن جزءًا كبيرا منها كان إعادة إنتاج لأساطير بلاد الرافدين. فالمرأة في مطلع القصيدة إلى نهايتها هي امرأة عراقية تتغير بتغير الآلهة من سومر إلى نفر إلى الوركاء إلى أريدو، لكنها في نهاية الأمر، امرأة من هذا الزمن، خرجت عبر أزمان طويلة جدا من المآسي والحروب والموت والحزن والبلاء، مرت عبر العصور والحقب الزمنية لتكون في نفس المكان، مكان السحر والفيض، مكان الولادة والخصب من إينانا إلى عشتار إلى كل إمرأة عراقية يخرج ابنها من رحمها ليذهب مباشرة إلى الحرب ويسقط هناك.

كيف يمكن لي، على المستوي الفردي، أن لا أرى الاشياء كما رآها الشاعر الرافديني من قبل وطاف بها في العالمين، العلوي والسفلي، ليفهمني معنى السحر والخلق. خلق عالم نصفه إله ونصفه بشر ليمزج الحياة الأرضية بالحياة السماوية. والآن علينا التفكير بجدية في قدرة إنسان دويلات المدن في سومر ونفّر والوركاء ولكش وأريدو وغيرها أن تخلق عالمين متصارعين في الفضاء بين الأرض والسماء لتشكل من هذا الصراع قدرة البقاء والعيش على الأرض.

- ما الذي يُمثله الزمان في شعرك؟

- هذا موضوع أساسي في الشعر. عام ١٩٩٨ كانت لي أمسية شعرية في مدينة لايبزغ الألمانية. بعد القراءة كانت هناك أسئلة. طرح الشاعر السوري المقيم في المانيا عادل قرشولي سؤالا عن الزمان في شعري. كان السؤال يستدعي السؤال عن المكان أيضا. وكانت ملاحظته مهمة بالنسبة لي خاصة مع غياب النقاد وتراجع النقد. في شعري يرتبط الزمان عادة بالمكان. إنه زمكان يملأ فضاءات كثير من قصائدي. الزمن يتجمد ويتحول إلى جسور كما في مقطع

جسور الرصافة والكرخ أزمنة جامدة

وبغداد آخر أمكنة الله حين تقوم القيامة

ويعلو الضجيج

وفي قصيدة نزهة :

والجسورُ زمان تجمد في لحظة ٍ

في قصيدة (الاخوة ياسين.. مرة ثانية) يبدو الزمن متوحدا مع المكان:

في الطريق ِ إلى قبر ياسين، َ

أوقفني الزمنُ المتمد عند الضفاف

الزمانُ قصيرٌ

وأنا أهرم في وحدتي

وتكتهل الروحُ في ورطتي

وأنا والطريقُ إلى العائلة

كلانا وحيد

وكلانا انتهى عند وحدتِهِ

واتحدنا معاً وانتهى في خطاي

- ما أهمية القارئ بالنسبة لك في أثناء كتابتك للقصيدة؟

لا تفكير في لحظة الكتابة الشعرية، التفكير قبل القصيدة لخلق الرؤية الشعرية، لكن أثناء الكتابة هناك رؤيا وليس رؤية. بالنسبة لي،كما قلت، الوعي يتحول إلى اللا وعي لحظة الكتابة. حين اعود لقراءة بعض قصائدي بعد سنوات، اتساءل كيف كتبت حقا هذا الذي كتبته؟ وحينئذ اكون متأكدا انني لم اع ماكتبت، كما لو انه كتب نفسه بنفسه،كما لو انه عمل خارج وعيي وادراكي

حينذاك لا أكون الشاعر وإنما المتلقي الذي ربما لم أفكر به أو فكرت به باعتباره جزء من اللاوعي، ففي نهاية المطاف تتوجه القصيدة لقاريء، ولابدأن يكون التفكير في القاريء جزء من خلق الرؤية الشعرية ليغيب معها حين تغيب وتتحول إلى رؤيا، تبدأ ملحمة كلكامش ببيت ماوراء طبيعي، إلهي غيبي :

هو الذى رأى كلّ شيءٍ

فغني بذكره بابلادي

ربما يختصر هذا المعنى تحول الرؤية المحدودة إلى رؤيا شاسعة تعبر حدود العالم المرئي. اليوم يقل الشعر ولكن مصادره تتسع. لذلك يصبح اكثر صعوبة رغم هذا الكم الهائل من الكتابة، النمطية، التي يقلد بعضها بعضا وكأنها قالب، قالب لصب اللغة فيه، تماما كطين في قالب لإنتاج طابوقة، هذا وعي زائف عن الشعر مهما كثر الكلام عن الحداثة. وماهي الحداثة وماهي ما بعد الحداثة؟ ليس هناك مجانية في تناول المصطلحات كما في بلداننا. واذا مضينا مع ماكس فيبر لنزع السحر عن العالم حي نتحدث عن الحداثة والعلمانية فاننا سنكون قد مارسنا الضحك على انفسنا وعرضناها للسخرية اذا اعتبرنا ما نكتبه من شعر اليوم هو البرهان الوحيد على (حداثتنا) فيما نغرق حتى أعناقنا في قداسة سحرية تمتد من السياسة حتى نمط العيش المغلق، إذ تحدد القداسة حتى طريقة دخولنا إلى الحمام.

- بدا منذ ديوانك الأول "البكاء على مسلة الأحزان" ثم "الشعراء يهجون الملوك" الذي منع من النشر لفترة، وكأنك الشعر نفسه مادة مشغولة من مواد مختلة تختلط فيها الاحلام والاوهام، الميثولوجي بالواقعي، الطبيعي والماوراء الطبيعة، السحر والالم، الميلاد والرحيل، الوطن والنتفى،المرأة والالهات القديمات قررت أن تكتب شعرًا ينتهج التمرد (إنني الشاعر يا مولاي/ ضلعي ريشة وجبيني الورقة/ وأنا الحلاج/ والحلاج في كل العصور عالق بالمشنقة).. هل كان الشعر وسيلتك للتمرد والرفض حينما بدأت كتابته؟

- نعم، الشعر وكل الفنون الجميلة، التي تشتغل في البحث عن الجمال والمعنى الجميل للعالم،هي وسائل للتمرد على ماهو قبيح في هذا العالم. لماذا تنتمي العدالة إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الظلم. ولماذا تنتمي الاخلاق إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الفساد. ولماذا تنتمي الحرية إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الاستبداد

الشعر محاججة، بكل ما تتضمنه من اختلاف وبرهان ونتيجة. ولذلك يكون الشعر تحديا للتحديات الشمولية القبيحة التي تطرد الجماليات من موقعها لتستولي عليه، التمرد في الشعر هو تمرد في الحياة، لا يمكن أن يكون التمرد في الشعر منفصلا عن التمرد في الحياة، أو أن يكون التمرد من الأغراض الشعرية كما كان في القديم، الهجاء أو المديح، النسيب أو الحماسة، التمرد على النمط يعني رفض القاعدة السائدة وهي قاعدة القبول بالأمر الواقع، وهو واقع غير إنساني، لذلك فإن الشاعر يتمرد باسم الصامتين.

- سنوات من الاغتراب والإقامة ما بين المنافي ولم تغادر العراق ذاكرتك وشعرك.. ما السبب؟ هل المنفى يُرسخ صورة الوطن ويُكثف الأحزان على فراقه؟ أم أن ذاكرتك هي التي لا تزال عالقة هناك في العراق؟

- قبل أن أعود إلى العراق لاول مرة عام ٢٠٠٧ بعد ثماني وعشرين سنة في المتفى، كنت اعيد تشكيل العراق في الشعر، من الذاكرة. وحين عدت من العراق سألني مذيع البي بي سي عن نهاية المنفى،فقلت له انني ذهبت إلى العراق من المنفى وعدت إلى لندن من المنفى، فالعراق تحول إلى منفى ثان. دافعت عن بقاء العراق فيّٓ، في قلبي،في وجداني، وفي ذاكرتي، دافعت عنه ككيان وجودي لايتحطم، وقد عانيت كثيرا حتى انني كتبت

هذا العراق،عراقي الشخصي

لاملك عليه

ولا رئيس سواي

اطيه اغنيتي ومنفايٓ الكبيرٓ

واصطفيه خليلٓ أيامي

وماملكت يداي

كم هو صادم أن يكون شعرك قد فقد الامل بسحره، وكم هو فاجع أن يكون الوطن حطاما على الارض وحلما في ذاكرتك؟ ما أزال منفيا. المنفي هو ذلك الانسان الذي ينتظر العودة إلى وطنه. المنفى يعيد بناء الوطن البعيد. والوطن في الذاكرة يقاوم معاول المنفى. تلعب اللغة دورا عميقا ضد المنفى فيما يلعب المنفى دورا تخريبيا ضد اللغة.

 لم يكن سهلاأن يكون المنفى تنقلا مستمرا، فهذا هو معناه الجوهري لغويا وحياتيا. المنفى يجعل الانسان أرقّ كلما فكر بالوطن الذي يصبح امتن واقوى. ليس للمنفى سوى قاعدة واحدة يقوم عليها، إنه يعمل عليها يوميا، وهي أنه يلقيك في صراع مع فقدان الذاكرة عن الوطن، المنفى عالم مغلق ينهي انفتاح الوطن. واقامتي في المنفى كانت جهدا يوميا لكي لا يقتلعني المنفى من وطني.

قاومت من أجل البقاء في الجماليات مقاومة عنيفة للمنفى رغم أنها صامتة في أغلب الاحيان تتجلى في الشعر. المنفى يريد من المنفيّ أن يبقى وحيدا لكي يبتلعه، يأخذ منه القارب الوحيد الذي يبحر فيه المنفيّ وهو ذاكرته. وربما ليس غريبا أن يكون لي أربع أو خمس قصائد بعنوان البيت، يتكرر العنوان دون وعي.

في قصيدة "حدثني يا أبتي" التي كتبتها عام ١٩٩٧ ونشرت في الحياة آنذاك، فوجئت وتفاجأت بانبثاق كل التفاصيل الصغيرة التي شكلت موضوع القصيدة وصياغتها. نعم،فوجئت بها لأني لم أكن أفكر بأن كل تلك التفاصيل كانت في ذاكرتي منذ الطفولة حتى وطأت قدماي أرض المنفى، للمفارقة فإن أول كائن أزعجني وأزعج ابني الصغير في المنفى كان كلب سائقة التاكسي الذي ظل ينبح في وجوهنا طوال الطريق، ومنذ ذلك الوقت، وبعد ثمانية وثلاثين عاما، ما زال ذلك الكلب ينبح في وجهي.

 

حاورته: حنان عقيل

 

 

علي رسول الربيعيهذا حوار هو نتيجة نقاش مع مجموعة من الأساتذة (الزملاء) عن قضية التعليم والاستقلالية والفضيلة المدنية. وقد وجهت لي هذه الأسئلة في سياق النقاش وكانت إجاباتي بعد تحريها وإعادة الصوغ لبعضها كالآتي:


س/ ماهي التربية في علاقتها بالتعليم من وجهة نظرك؟

ج// التعليم هو أن تكون هناك طريقة واضحة لمحاولة تنمية ميول مثل الإيثار المشروط. فالتعليم يعني القيادة أو الاستنتاج، وينطوي على تطوير الإمكانات داخل الشخص. ويمكن أن يتكون هذا من نشاط استخلاص قدرة معينة، مثل القدرة على أداء بعض المهارات أو الحرف. ومما له أهمية جدا هو ترسيخ الفضيلة المدنية الاستقلالية.

فكثيرًا ما جادل المنظرون بضروري ترسيخ الفضيلة المدنية في "تعليم وتربية الرغبة". يعني هذا أننا يجب أن "نسعى لتأمين أولويًة الخير العام على الخاص ولكن ليس من خلال إخماد أو تبعية الرغبات الشخصية وتشكيلها بدقة. إذا كان الإيثار المشروط مكونًا رئيسيًا فيبدو الدفاع عن "تربية الرغبة" مهما ايضًا. طبعا ليس من الممكن ولا من المرغوب فيه أن نأخذ تفضيلات الناس كما هي معطاة، لكن هذا لا يعني تشكيل الرغبات والعواطف بدقة وضبط.

س/ ما هو هدف التربية والتعليم؟

ج// بالنسبة لي، إن جزءًا من هدف التربية والتعليم هو مساعدة الناس على العيش بشكل مستقل. فالتعليم كما أرى تمكين الناس من التحكم في رغباتهم وشغفهم حتى يتمكنوا من العيش كأفراد مستقلين في مجتمع مع أفراد مستقلين آخرين.

س/ ماذا يعني تنمية الاستقلالية في التربية والتعليم؟

ج// الاستقلالية، هي القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم، وتشمل قدرة المرء على التفكير في معتقداته ورغباته وظروفه؛ ولقيادة الطلاب إلى مثل هذا التفكير يكون من خلال اطلاعهم وتعليمهم، في الوقت المناسب وبطرق مناسبة، لمعتقدات وممارسات مختلفة، وهذا يعني تنمية الذات ايضًا.

س/ ماذا تعني الفضيلة المدنية في التربية والتعليم؟

ج// الفضيلة المدنية هي النزعة للعمل لصالح المجتمع ككل؛ لا يمكن لمثل هذا التصرف أن يتطور في مجتمع متنوع ثقافيًا إلا إذا اكتسب الطلاب إحساسًا واقعيًا بكيفية اختلاف أعضاء مجتمعهم عن بعضهم البعض.

س/ إذا كان ادعاءاتك تقدم تفسير مقنع لأهداف التعليم وهي كما تقول: تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. ألا يفترض هذا الادعاء أنه يجب أن يكون هناك غرض أو مجموعة من الأغراض التي تحدد التعليم؟

ج// يبدو أن المدارس مثل المؤسسات الأخرى بحاجة إلى أدراك الهدف والاهتمام بفكرة عما يفترض أن تفعله والذي يوجه أنشطتها ويضع معايير لتقييمها. أن المدارس العامة، مُوجَّهة لمتابعة التميز الأكاديمي. وكذلك فيما يتعلق بمهمتها التربوية، ولكن دون إصدار أي أحكام قيمية؛ ودون اتخاذ موقف بشأن القضايا الجدالية في كل مجتمع.

س/ كيف يكون الحل الواضح لهذه المشكلة؟

ج// يكون الحل الواضح لهذه المشكلة في إيجاد أو صياغة إجماع على الغرض أو الأغراض المناسبة للتعليم. هذا هو المسار الذي أراه مناسبا.

س/ ولكن ألاً ترى أن هناك طريقة أخرى لحل المشكلة متمثل في التوجه نحو السوق من قبل أولئك الذين يتصورون المواطنين كمستهلكين؟

ج// نعم هذا نهج معروف وشائع التعليم ويسمى بنهج او مقاربة الاختيار وهو يتألف من ثلاث خطوات: (1) التخلي عن الأمل في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن غرض (أوضاع) التعليم؛ (2) السماح لكل مدرسة بتحديد غرضها (أغراضها)؛ و(3) تشجيع المنافسة بين مجموعة متنوعة من المدارس التي تسعى إلى مجموعة متنوعة من الأهداف.

فكما يرى ممثليه: ليس للمدارس هدف ثابت. يعتمد ما يفترض أن تقوم به المدارس على من يتحكم فيها وما يريد هؤلاء المتحكمون منها القيام به. وبالتالي، فإن الحل الأساسي للمشكلات التعليمية هو اعطاء الحرية للمدارس لمتابعة أي أهداف تراها مناسبة، وبالتالي منح الحرية للآباء والطلاب من اختيار المدارس التي تناسب تفضيلاتهم. بعبارة أخرى، يجب أن تتنافس المدارس على العملاء في السوق، وستجد المدارس الناجحة مكانها المناسب.

س/ بما أنك شرحت هذا النهج في التعليم، فهل يمكنك ان تشير ولو الى بعض مزاياه؟

من المؤكد أن هذا النهج في التعليم له مزاياه، إنه فقط في أكثر أشكاله تطرفاً، فإن "الاختيار" التعليمي يفلت حقاً من الحاجة إلى التوصل إلى نوع من الاتفاق حول أغراض التعليم.

س/ وإذا كنا لا نرغب في اتباع عقلية السوق إلى هذا الحد ماذا علينا أن نفعل؟

ج// يتعين علينا مواجهة مهمة إبرام اتفاق بشأن أغراض التعليم، أو بشكل أكثر تحديدًا، ما نريد أن تقوم به المدارس. ليست هذه مهمة سهلة في مجتمع حديث تعددي لكنها ليست مشكلة مستعصية أيضًا. هناك أهداف تعليمية، وإن كانت عامة، تحظى بدعم واسع النطاق. يتضح هذا في التمييز الضمني الذي يتم رسمه بشكل فردي بين مختلف المدارس المتخصصة - مثل كليات إدارة الأعمال، وما إلى ذلك. بالطبع الغرض من هذا الأخير ليس إعداد الناس لمهنة أو نشاط معين فقط ولكن بطريقة ما إعدادهم للحياة. بعبارة أخرى، هناك فرق بين التدريب، وهو عمل المدرسة المتخصصة، والتعليم، وهو عمل المدرسة على هذا النحو.

س/ ألا تشير هذه الفروق إلى أن مهمة التوصل إلى إجماع حول أهداف مدارسنا ليست ميؤوس منها؟

ج// نعم ولكن حتى لو أضفنا أن الغرض من التعليم هو بطريقة ما إعداد الناس للحياة، فلا يزال يتعين علينا التوصل إلى اتفاق بشأن ما يستتبعه "إعداد الناس للحياة". نظرًا لتنوع الآراء حول كيفية عيش الحياة، فليس من السهل رؤية كيف يمكن القيام بذلك. اقتراحي هو على الإجابة أن تكون بدون تحديد طريقة معينة للحياة بوصفها الطريقة التي يجب على الجميع اتباعها. المهم أن يكون الناس مستعدين لممارسة الاستقلال الذاتي ولعب دور المواطن النشط. لذلك يجب أن نفكر في أغراض التعليم، أو الإعداد للحياة، على أنها تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية.

نعم أتفهم قد يتفق الناس على أن المدارس يجب أن تعزز كلاً من الاستقلالية والفضيلة المدنية، ولكن قد يقعون في خلافات مريرة تتعلق بالضبط في كيفية محاولة المدارس تحقيق هذين الهدفين.

س// هل يمكن التمييز بين التعليم والتدريب، على أساس يهتم التعليم في حد ذاته بتنمية الفرد بأكمله، وبالتالي تطوير تلك السمات البشرية التي تجعل الحياة ذات القيمة ممكنة؟

ج// نعم. إنه من الواضح يتوافق هذا المفهوم للتعليم مع الرأي القائل بأن الاستقلالية هي القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم. تبدأ الاستقلالية، مثل القدرات الأخرى، كإمكانات يجب تحقيقها، قبل أن يصبح الشخص مستقلاً. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا تم استخلاص الإمكانات من خلال التعليم من نوع ما. ليس من المستغرب إذن أن تجد بعض المعلمين والفلاسفة يصرون على أن الغرض من التعليم - أو على الأقل أحد أهم أغراضه- هو تعزيز الاستقلالية.

س/هل يمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين الفضيلة المدنية والتعليم؟

ج// إن الفضيلة المدنية مثل الفضائل الأخرى، هي سمة شخصية أو نزعة لا يرجح أن تزدهر بدون تشجيع وتنشئة. يمكن أن تحدث هذه التنشئة بعدة طرق، ولكن هناك توقعًا واسع النطاق، بأن ستكون المدارس مسؤولة عن الكثير من التعليم المدني الذي يتلقاه الشخص. لذلك ليس من غير المألوف بالنسبة للمعلمين وغيرهم أن يعتبروا الاستقلالية الشخصية أو الفضيلة المدنية بمثابة قدرات أو تصرفات تقع على المدارس مهمة تطويرها.

أدعو الى تشكيل "جمعية التربية الوطنية" للنظر في: إعادة تنظيم التعليم الثانوي ( في عديد بلدان عربية) تحت عنوان: المبادئ الأساسية للتعليم الثانوي، تدعو إلى التركيز على أهداف التخصص، حيث يمكن للأفراد أن يصبحوا فاعلين في مختلف المهن والمجالات الأخرى من المسعى البشري، "والاتحاد،" لتحقيق تلك الأفكار المشتركة، والمثل المشتركة، والأنماط المشتركة للفكر والشعور والعمل التي تجعل من التعاون والتماسك الاجتماعي والتكافل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن" التخصص لا يتصل الاستقلالية تمامًا، ألا أن الفكرتين متقاربتان بدرجة كافية لمحاولة تأسيس الاستقلالية والفضيلة المدنية كأهداف للتعليم ليست بعيدة المنال.

س/ كيف يمكن للمرء أيضًا أن يفسر أو يبرر الكثير مما ذكرت أن يحدث، أو يفترض أن يحدث، في المدارس العامة من حيث الاستقلالية والفضيلة المدنية؟

ج// يبدأ المنهج من المدرسة الابتدائية بشكل عام من خلال التأكيد على المهارات الأساسية، ثم ينتقل لتقديم المزيد من الخيارات والاختيار الفردي في المدرسة الثانوية، ثم يقدم المزيد من الخيارات في الكليات والجامعات. تمكن المهارات الأساسية الأطفال من "العمل"؛ ليكون لدى الطفل فرصة أن يصبح مستقلاً، فمن شبه المؤكد أن أي شخص يفشل في الحصول عليها سيظل معتمداً بشكل كبير على الآخرين. تساعد هذه المهارات الطفل، من خلال تعزيز القدرة على التعبير عن الذات، وعلى التغلب على الإحباط وتقوية تقدير الذات. وكما توحي كلمة "أساسي"، توفر هذه المهارات أيضًا قاعدة يمكن للطلاب من خلالها المضي قدمًا لتقدير الخيارات المتاحة لهم وما تنطوي عليه اختياراتهم.

س/ هل المطلوب تعزيز الاستقلالية الفضيلة المدنية، أو المواطنة (بالمعنى الأخلاقي) ودمجها أيضًا في مناهج العلوم؟

ج//المفروض أن يُطلب من الطلاب دخول في دورات في الدراسات الاجتماعية و"التربية المدنية، ودراسة التاريخ، واجتياز الاختبارات في الدساتير الوطنية، ويمكن ان يساهم في الفضيلة المدنية حتى الوقت المخصص للمهارات الأساسية للقراءة والكتابة والحساب. إن أولئك الذين يفتقرون إلى هذه المهارات من المرجح أن يظلوا معتمدين على الآخرين للحصول على المعلومات والتوجيه السياسي وكذلك للحصول على سبل العيش وأشكال أخرى من المساعدة. تعزز المدرسة كل من الاستقلالية والفضيلة المدنية بالمعنى المناسب من خلال مساعدة الطلاب على اكتساب هذه المهارات وتطويرها.

قد تظهر الرغبة في تعزيز الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية أيضًا في "المنهج الدراسي غير المباشر". هذا، بالإضافة إلى المنهج الدراسي المباشر، حيث يمكن أن تقوم المدار بالتدريس بالقدوة، ولاسيما مثل تنظيم وإدارة المدرسة والفصول الدراسية؛ وعلى سبيل المثال، من المفترض أن يمثل سلوك المعلمين بعضًا من الفضائل، مثل "التعاطف والثقة والإحسان والإنصاف" التي تجعل التعاون بشكل عام والديمقراطية على وجه الخصوص ممكنة. يساعد المعلمون الذين يشجعون الطلاب على طرح الأسئلة والتفكير بأنفسهم لتطوير استقلاليتهم.

س/ ولكن ومع ذلك، هناك جانب آخر لهذه القصة. أليس بسبب التركيز داخل معظم المدارس على النظام والتنظيم - عادة، التنظيم الهرمي- غالبًا ما يثبط المنهج غير المباشر التفكير النقدي ويعلم المفهوم السلبي للمواطنة فقط؟

ج// نعم يمكن أن يكون وجود منهج غير مباشر في المدارس الثانوية يعطل بشدة التعليم السياسي للديمقراطيين المستقبليين. وأضيف أيضا يمكن إلا يعزز "الجو الاستبدادي" للنظام والانضباط فقط مواقف السلبية، والتبعية غير الصحية، والخضوع، وعدم المساواة التي يمكن نقلها إلى النظام السياسي، ولكنه يمنع أيضًا التدريس الفعلي للقيم الأساسية للسلوك السياسي الديمقراطي إذا ترك هكذا بذاته دون الوعي بهذه المخاطر دون معالجتها من خلال قيًم بالاستقلالية والفضيلة المدنية، يبدو أن هناك مساحة كبيرة للتحسين. من المهم أن يدرك مديري المدارس والمعلمين أن الترويج للاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية من بين مسؤولياتهم الرئيسية. إن قيامهم بهذا بالفعل يدعم ادعائي بأن تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية يجب أن يكون، ويمكن أن يكون، الأهداف المعترف بها للمدارس العامة. كما أنه يعطينا سببًا وجيهًا لمحاولة تحسين المدارس في هذه النواحي.

س/ في زمن صعود فكرة الجمهورية الليبرالية كيف يمكن للاستقلالية والفضيلة المدنية تقديم نقاط توجيه مهمة في التعامل مع المسائل التربوية؟

ج// يرغب أولئك الذين يأخذون اتجاهاتهم من الجمهورية الليبرالية في البحث عن طرق لتعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية دائما من خلال برامج المجتمع أو الخدمة العامة التي من المفترض أن تدرجها بعض الكليات والجامعات والمدارس الثانوية في مناهجها.

أن هدف الجمهورية الليبرالية الأكثر عصرية هو تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. تحاول الليبرالية الجمهورية من خلال التأكيد على هذه الأهداف تحقيق التوازن بين الحقوق والمسؤوليات. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، تعليم المواطنين، أولاً، حقهم في الإصرار على أن تحافظ حكومتهم على مستوى أساسي من الأمن والازدهار للفرد والمجتمع، وثانيًا، مسؤوليتهم في الدفاع عن هذه المصالح إذا فشلت الحكومة توفيرها لهم. مثل هذا التعليم ليس مسألة "تشكيل" المواطنين؛ ولكنها طريقة لربط الحقوق الفردية بالمسؤوليات العامة.

أسأل ما الذي يجب أن تقوله الجمهورية الليبرالية حول المشكلات التي تطرحها التعددية الثقافية للتعليم؟ وأسأل هو ما إذا كان من الممكن ابتكار نظام تعليمي يحترم التقاليد والتنوع مع تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية؟

ج// هذه المشاكل صعبة لأن تبدو روابط التقاليد الثقافية المتنوعة متعارضة مع كل من الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية. ويبدو أن هناك شيئًا ذا قيمة في كل تقليد وشيء ذي قيمة في التنوع أيضًا.

تعتمد الإجابة على ما يرغب المرء في اعتباره "احترامًا" للتقاليد والتنوع. إذا كان هذا يعني أن أعضاء كل مجموعة لغوية أو قومية أو ثقافية أو دينية أو غير متدينة يجب أن يكونوا قادرين على تربية أطفالهم كما يحلو لهم تمامًا، دون التعرض للأفكار والمعتقدات التي يعتبرونها مهددة في المدارس، إذن تكون الإجابة لا. وإذا كان "احترام" التقاليد والتنوع يعني أن الأطفال يجب أن يتعلموا طرق الحياة وأنظمة المعتقدات المختلفة عن تلك الخاصة بهم، فإن الإجابة هي نعم.

قد يعتقد المرء أن الغرض من التعليم هو تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية، وكذلك الاعتقاد بأن المصالح أو الاهتمامات أو الحقوق الأخرى لها الأسبقية. ومن مهام المدرسة هي تنمية هذه الصفات. لكن تكمن المشكلة في أن بعض الناس لا يعتقدون أن الاستقلالية أو الفضيلة المدنية تستحق العناء. وتتعارض ادعاءات الاستقلال والمواطنة مع ادعاءات الأشخاص الذين يتمثل التزامهم الأساس في حياة تقوم على التكريس الديني، حياة لا تتطلب السعي وراء الحقيقة، بل الالتزام الصارم بما يقبله دينهم على أنه الحقيقة.

 

 

عزالدين عنايةالبلاد العربية تفتقر إلى أرضية معرفية عميقة للفكر الديني

- في كتابك "العقل الإسلامي.. عوائق التحرر وتحديات الانبعاث" قلت إن "تيارات الإسلام السياسي هي الكارثة الصامتة التي هزّت وعي الفرد في العالم العربي"، ودعوت إلى فحص آثارها على الواقع العربي.. في ظل ما آلت إليه الأوضاع العربية جراء تصدر تلك التيارات.. هل يمكن القول بأن ثمة وعيًا مُدرِكا لإشكالات تلك التيارات قد نما في العالم العربي بما يؤذن بتجاوز أطروحاتها ومجافاتها؟

- يعود ارتهان التصورات الدينية لدى العرب، في الحقبة المعاصرة، لباراديغم الإسلام السياسي، إلى وهن الطروحات النقدية في الفكر الديني. وسيظلّ هذا الارتهان ما ظلّ الفكر النقدي والتفكير العقلاني واهنين في الساحة الثقافية العربية. والحال أنّ الاختزال الأيديولوجي للإسلام قد مثّل ضربة قاصمة لرحابة الدين الحنيف. ولذلك يبقى الإسلام الحضاري بأبعاده الشاملة هو الردّ الواعي على محاولات الاختزال. فمعضلتنا الدينية الكبرى في البلاد العربية أن الإسلام السياسي الذي يناهز حضوره في أوساط المجتمعات القرن قد جرّب كل تجارب التغيير (الانتفاضات، الانقلابات، الاغتيالات، اغتنام السلطة واحتكار تسييرها، صناديق الاقتراع، التحالفات، الوفاقات) إلا تجربة الرهان على التغيير الفكري والروحي البعيد الغور. وحين نقول الفكري والروحي نقصد التعويل على مرجعية تراهن على الطروحات المعرفية القادرة على إحداث نقلة نوعية في عمق المجتمعات بعيدا عن التجييش والتحشيد الخاويين.

فما من شك أنّ ثمة عوامل موضوعية بدأت تفعل فعلها في المجتمعات العربية، بما يؤذن بتجاوز أطروحات الإسلام السياسي، وتتمثّل تحديدا في الإدراك الجمعي أن عملية النهوض أكبر من قدرات الإسلام السياسي، لأن كل عملية نهوض -وببساطة- تقوم على مخطط عقلاني وعلى مسار واقعي وعلى استراتيجيا مقاصدية، وهذا دونه خرطُ القتاد -كما نقول- إذا ما عوّلنا على الإسلام السياسي.

- في هذا الصدد، ما توقعاتك لمستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي انطلاقًا مما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة؟

- طَبعت البلاد العربية مع الإسلام السياسي حالة صراع دورية، امتدّت على مدى عقود، هُدرت فيها طاقات جبارة وأُتلفت فيها جهود هائلة وقد طالت جل البلدان تقريبا. يشبه العود المتكرّر للسقوط في دائرة الصراعات مع الإسلام السياسي العود الأبدي الذي يتحدث عنه كلود ليفي ستروس. وقد كان بالإمكان تلافي تلك الانشقاقات الاجتماعية لو تسنى شيء من النقد الذاتي لدى الأطراف المتصارعة.

وقد تسنّى في العشرية المنقضية، بعد طول صراع، وضْع تجربة الإسلام السياسي في تونس والمغرب على المحك. خاض فيها تجربة مخبرية، عبر المشاركة في اللعبة السياسية، وهي ذات دلالات عميقة ليس في البلاد المغاربية فحسب بل في بلاد العرب بأسرها. حيث أدركت الأطراف السياسية على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية في ذينك البلدين عبثية النفي المتبادَل، والعيش في مناخ مأزوم محكوم بالغلبة والاحتدام الدائمين، إلى محاولة إيجاد حد أدنى لأرضية مشتركة تضع نصب عينيها المصلحة الوطنية وتقدّر الحاجة الماسة إلى السلم الاجتماعية لغرض التوجه للتنمية والنهوض الاجتماعي. استطاع فيها الإسلام السياسي أن يتطهّر من عديد المساوئ، إن لم نقل الأوهام والأحلام، في النظر للحياة السياسية وللأطراف الشريكة في العملية السياسية ولمفهوم التغيير الاجتماعي برمّته. وليس من الهين بلوغ تلك المعادلة، لأن الأمر يتطلّب تنازلات من جميع الأطراف للنجاة بأوطاننا من التفتت في ظرف عصيب تمرّ به البلاد العربية.

إذ بَيّن حصاد السنوات العشر الماضية التي شارك فيها الإسلام السياسي في اللعبة السياسية، في بلدان مختلفة وبأشكال متنوعة، أن الإسلام السياسي على مثال غيره من التوجهات هو نتاج بنية مهترئة، وأنه لا يتميز كثيرا عن غيره من طروحات التغيير السياسي. الأمر الذي جعل جملةً من المتابِعين الغربيّين لظاهرة الإسلام السياسي يتقاسَمون توصيفه "بالقلق البنيويّ" (Stress strutturali) في حديثهم عن الظاهرة. وما جعل الشارع يستفيق على خفوت بريق الإسلام السياسي وعلى تراجع آمال التغيير الملقاة على عاتقه. فهو تجربة سياسية عرضة للنجاح والفشل مثل سائر التجارب، العلمانية والقومية والاشتراكية. وربما السنوات القادمة ستثبت بشكل أوضح انتهاء طهرانية الإسلام السياسي، ودخول المجتمعات العربية حقبة نزع القداسة ونزع الأسطرة عنه.

- هل يمكن القول إن الخطاب الديني السائد حاليًا يستند إلى أيديولوجيا الإسلام السياسي بدرجة ما؟ وكيف يمكن تصحيح مساره؟

- نفتقر في البلاد العربية إلى أرضية معرفية عميقة للفكر الديني، تستند إلى الطروحات العلمية والمعرفية المتأتية من حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولذلك غالبا ما نغرق في الجدل الأيديولوجي بشأن الدين وفي منظور لاهوتي أثناء التعامل معه. وسرعان ما يقع الخطاب لدينا في براثن التأدلج والتوظيف والتلاعب من سائر الأطراف الساعية لاحتكار الرأسمال القداسي. إذ لا يزال الفكر الديني -في مجمله- في بلاد العرب مرتهنا للنظر الكلاسيكي، وهو ما يقلّص من قدراته. إذ تبدو القطيعة التي يعانيها الفكر الديني العربي مع نداءات التجدد الداخلي جلية وواضحة. كان لفيف من المفكرين المسلمين والعرب قد تطرّقوا للأمر، على مدى القرن الفائت، بحزم وعمق، سواء مع محمد إقبال، أو مع علي شريعتي، أو مع مالك بن نبي، أو مع حسن حنفي، أو مع احميدة النيفر وغيرهم، ولكن الآثار لا تزال ضئيلة ودون ما هو مأمول. فما من شك أن خطورة الأدْلَجة حين تتحكّم بالخطاب الديني، أن تطبع العالم بثنائية مانَوية مؤثرة، نحن وهم، حقّ وباطل، صواب وضلال، والحال أن ساحة الفكر وتعقّدات الواقع هما أوسع من تلك الثنائيات وأشمل.

قلت إن تحرير العقل الإسلامي من الغيبية والأسطورية والعاطفية شرط أساسي لتطوير العقلانية الإسلامية.. لِم عجز العقل الإسلامي على مدار قرون عن التخلص من ذلك المثلث رغم الأطروحات الفكرية الجادة في هذا الصدد؟

ليس ثالوث الغيبية والأسطورية والعاطفية المتربص بالعقل الإسلامي بالشيء الهين، فهي مكونات متجذرة بقوة في تمثّل الدارس المؤمن للدين ووعيه بالعالم، وكما يتشبع المرء بها من خلال درس العلوم الشرعية يستبطنها أيضا من خلال الرؤية المؤسطَرة عن الكون. نحن أمام حاجة ملحة إلى إقامة ورشات للنقد الديني للتخلص من براثن اللامعقول المستحكم بالعقل الإسلامي، وهو ما يمكن بلوغه سوى بإعادة ردّ الاعتبار إلى ما بين الشريعة والحكمة من اتصال على النمط الرشدي. فقد تسنّى للفكر الديني الخامل، على مدى القرن الفائت، إحداث فرز خطير، حوَّلَ بموجبه، كل من لا يقبل بالتفكير  الغيبي والأسطوري والعاطفي، إلى خارجي، وصنّف منجزات التيار العقلاني وأعلامه ضمن ما هو ضال وهدّام ومنحرف. وهكذا فقد عقل المسلم تواصله مع الحداثة، ومع العقلانية، ومع المقاربات العلمية، وهو يحسب أنه يحسن صنعا.

ولو شئنا لقلنا إنّ المسألة أبعد من ذلك، فالعقل الإسلامي في رحلته المترنّحة منذ عصر النهضة، بين الانغلاق والانفتاح، لم يراهن بما يكفي على عَلْمَوَة الفهم الديني. أقصد الاعتماد على المقاربات العلمية في فهم الوقائع الدينية وتحليل الظواهر بتجرّد وإعطاء سند منطقي للمقول الديني. الأمر الذي جعل الفكر الديني لدينا تكراريا اجتراريا ومنفعلا لا فاعلا. إن إعادة بناء العقل الإسلامي ليتواصل مع منجَز الفكر العالمي في وعي قضايا الدين والاجتماع هو مما يتطلّب إيمانا عميقا بسموّ طرحنا الحضاري وأصالته. أحاول من جانبي، بوصفي ابن جامعة دينية عربية قبل التحاقي بالغرب، أقصد جامعة الزيتونة في تونس، أن أرسخ تقليد المناهج العلمية الحديثة في قراءة الظواهر الدينية بالترجمة والكتابة، وتحديدا المنهج السوسيولوجي. فسوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان يمكن أن تسهم كلتاهما في مقاربة الأوضاع الدينية لدينا، وأن يكون لهما إسهام في دمج الوعي الديني في سياق فاعل ومسئول، لا مغترب ولا مضطرب.

- إلى أي مدى يمكن القول إن الفكر العربي مُكبّل بسؤال الموقف المفترض من التراث لا سيما الديني دون أن يُنتج ذلك تغييرًا على أرض الواقع فيما يتعلق برؤية حضارية للدين وموقعه في الحياة؟

- نحن على الأغلب نعيش برؤى السلف في فهم تمثّلاتنا للدين، ولذلك سرعان ما نهرع للمقايسة والمقارنة مع ما مضى مع كل طارئ يطرأ على حياتنا. وفي ضوء ذلك من الصعب أن نخوض عملية تفكيك حقيقية لموروثنا في غياب توظيف أدوات جديدة. ففي كثير من الأحيان نعيش علاقة مغتربة مع التراث، نحاول أن نبذل قصارى جهدنا في إبراز أنّ موروثنا قائم على الكمال، في حين يطالعنا حاضرنا الطافح بشتى أنواع النقص. ونصرّ على أنّ لدينا من الرصيد الكافي والشافي في سائر المجالات، وبما يفوق تجارب أُمم أخرى، والحال أن مجتمعاتنا الراهنة من أكثر المجتمعات تردّيا على كثير من الأصعدة. والواضح أن الفكاك من دوّامة الالتباس تلك مشروط بقراءة نقدية للأمور تتقلّص منها النظرة الطهرية للتاريخ.

وبالإضافة إلى ذلك لدينا عطلٌ مستشرٍ في الفكر الديني وهدرٌ للطاقات في مسالك كلاسيكية غير مجدية، كان من الأحرى تحويل القدرات فيه باتجاه مسارات فيها نفعٌ للناس، لأن المعرفة معنية بأن تواكب حاجات الناس لا أن تغترب عنهم، وكمْ لدينا من حاجات ملحة ولكنّنا نتلهى في كلياتنا الدينية بفنطازيا الغيبيات؟! أضرب أمثلة سريعة حتى لا نبقى في نطاق العموميات (الباحثة فرانشيسكا روزاتي خبيرة في حاضر الإسلام وماضيه في الصين، والباحثة باولا بيزّو خبيرة في المسيحية الفلسطينية، والباحثة أريانه دوتوني خبيرة في المخطوطات اليمنية، ويمكن الاطلاع على أبحاثهن القيمة في الشأن وهنّ من الباحثات الإيطاليات الشابات) فهل في البلاد العربية ثمة انشغال في جامعاتنا بهذه المجالات وغيرها مما يمسّ حضورنا في هذا العالم؟ لا شك أن لدينا تراث عظيم بَيْد أن ذلك التراث ينبغي ألا يَحُول بيننا وبين اندماجنا في هذا العالم، وألا يشكّل عقبة لدينا أمام إعادة بناء تمثلاتنا للقضايا والمفاهيم وانطلاقتنا المستمرة في الكون.

فما نتطلّع إليه وهو أن تقوم علاقتنا بالتراث ضمن إطار جدلي لا إطار حميمي، وتتأسس على منهج موضوعي لا على نزعة قدسية، أقصد ذلك المنهج القائم على الوعي بآليات تشكّل المعرفة وبشروطها الاجتماعية. فنحن حين نستعيد الحديث عن مؤسسة "أهل الذمة" -على سبيل المثال- لا نعيد النظر فيها ضمن التطرق للشروط الاجتماعية والدينية التي ولّدتها، ومدى مشروعية حضورها وغيابها اليوم، وضمن أي تعقل تاريخي؟ بل نستعيد أفكار الماضي ومؤسساته وتنظيماته بنوع من القداسة. بإيجاز ثمة تاريخانية في النظر للمؤسسات والوقائع والأفكار والفتاوى تغيب عن ذهن الدارس المسلم.

- كيف ترى التوجهات الأوروبية لتحجيم ومحاربة الإسلام السياسي؟ هل يتزامن مع تكثيف تلك التحركات تعزيز الإسلاموفوبيا؟ ولِم؟

- ينبغي ألا نهوّل الأمور بشأن الإسلام السياسي في الغرب، وأن يأخذ الموضوع حجمه الحقيقي لدينا. فنحن كأوروبيين مسلمين لا نَعدّ الإسلام السياسي عنصرا شاغلا بالنسبة إلينا، لأننا تعيش وضعا مغايرا لأوضاع البلدان العربية فيه "السوق الدينية" مشرّعة الأبواب على العديد من العارضين، ويتقلّص فيها الاحتكار والمونوبول من أي طرف كان. صحيح يطبع هوية المسلم الأوروبي مَلْمح شفّاف عربي أو إسلامي، يطالب من خلاله بحقوقه الثقافية على غرار سائر التقاليد الدينية الأخرى، ومن داخل ما تسمح به قوانين تلك البلدان. ومن ثَمّ هناك مساحة مدنية ينشط فيها الإسلام المهاجر تُمثّلها الجمعيات والمراكز والمساجد والمصليات، بَيْد أن تلك المساحة المدنية بدأت تتسرب إليها الشكوك والريبة تحت مبررات أمنية وتهديدات إرهابية وهجرة فوضوية، وهو ما قاد بالنهاية إلى أشكال من التضييق والنفور والتخوف تلخّصت في ما يُعرف بالإسلاموفوبيا. وهي بالأساس نتاج تقصير المسلمين الغربيين في الحضور في المجال العام، وعدم إيلائهم الجانب الثقافي أهمية. فلا ننسى أن السواد الأعظم من المسلمين في الغرب هم من الشرائح العمالية الكادحة التي لا يعنيها كثيرا العمل الثقافي والمعرفي والفني. وبالتالي يسهل الإيقاع بتلك الحشود. ومما لا ريب فيه أن الإسلام الأوروبي ينطوي على العديد من عناصر الوهن بداخله، وأنه لا يزال إسلاما فولكلوريا، على الأغلب، ولم تشقه تحولات فكرية وتلونات ثقافية، تسمح له ببناء منظور منسجم مع مجتمعات معلمَنة وذات مخزون ثقافي كِتابي ترعاه جامعات ومؤسسات أبحاث ووسائل إعلام مؤثرة.

- تعرّضت في كتابك "الدين في الغرب" لإشكالية الإسلاموفوبيا وشددت على أهمية بناء تعددية ثقافية حقيقية لمواجهة تلك الظاهرة ولمجابهة "الاستعلاء الغربي" كذلك.. كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل القراءات الدينية الإقصائية؟ ما السبيل للخروج من ذلك المأزق؟

- ما من شك أن هناك توجهات متصلّبة في الغرب ما فتئت تنكر أن الغرب قد اخترقته التعددية الدينية والثقافية، وباتت المجتمعات فيه ذات طابع كوسموبوليتي، وهي بالأساس توجهات يمينية وكَنَسيّة، وعادة ما تحرّض على المسلمين أو تختلق المبررات لتعطيل اكتسابهم حقوقهم، مثل الاعتراف بدينهم على غرار سائر التقاليد الأخرى، أو حصولهم على عائدات الخصوم الضريبية مثلما يُعرف بـ "الثمانية من الألف" في إيطاليا لتطوير أوضاعهم الثقافية والتعليمية، مع أنهم يمثلون الديانة الثانية في كثير من البلدان.

تساهم تلك العناصر وغيرها في خلق مناخات الإسلاموفوبيا وتدفع للتوتّر، ولكن يبقى الشرط الرئيس للخروج من تلك الأجواء هو في إقامة شراكة ثقافية حقيقية بين مسلمي الغرب والمجتمعات الحاضنة، ويمكن أن ينضمّ إليها الساعون بصدق إلى حوار الحضارات والثقافات من خارج. ولكن أن تُحارَب الإسلاموفوبيا بالتعنت والتناقض مع الغرب على مستوى الزي والمظهر والهيئة إنما ذلك ينمّ عن سطحية في فهم أبعاد الدين الحضارية.

- هل يمكن اعتبار الحل العلماني، العلمانية الشاملة كما طرحها المسيري، ركيزة يمكن من خلالها تجاوز أزمات الواقع الديني في العالم العربي؟ أم أن ثمة إشكاليات تحول دون تحقيق ذلك؟

- العالم العربي قادر على أن يشقّ مساراته في التاريخ بيسر إن آمن بقدراته الحضارية، في صوغ مخارج وحلول لقضاياه السياسية والاجتماعية والدينية، لأن الاتكال على تجارب الغير واستيرادها، من علمانية شاملة أو ناقصة ومحاكاتها، مدعاة لمفاقمة حالة الاغتراب. وحتى لو توهّم الساعون أنّ الحل في العلمانية، فالعلمانية علمانيات، وقد بلغنا إلى ما بعد العلمانية بحسب عبارة أرباب التنظير لها: شارل تايلور وجوزي كازانوفا وبيتر لودفيغ بيرجر. ولذا من المجدي ألا نعلّق آمالا كبرى على تجارب الآخرين، لأن العلمانية في فحواها العميق هي نمط عيش، -سمّه ما شئت علمانية أو حكمانية- تواضَعَ عليه القوم ليحفظوا السلم الاجتماعية في مجتمعاتهم.

وبالتالي العلمانية لها أوجه متعددة، ونحن كمسلمين في الغرب نعيش في كنف العلمانية وننعم بمزاياها. ولْنَكن صرحاء، نحن كشريحة اجتماعية ذات أصول عربية وإسلامية، أقرب إلى العلمانيين الغربيين منه إلى المتديّنين، في اختياراتنا الحزبية والانتخابية، ولله في خلقه شئون!

- كيف تقرأ مواقف الإسلاميين من القضية الفلسطينية لا سيّما في ظلّ تأرجح مواقفهم حاليّا إزاء توجه بعض الدول للتطبيع مع إسرائيل؟

 الإسلاميون على غرار غيرهم من التيارات السياسية العربية لديهم رصيد هائل من العواطف الهوجاء تجاه فلسطين وإسرائيل، ولا يحرّكهم - في غالب الأحيان الوعي بالقضايا التاريخية والسياسية والدينية للمنطقة، بل الحماس وردود الأفعال. والواقع أنه ليست هناك مواقف ثابتة ما إن تدخل الأحزاب معترك التنافس والحكم. تتحول المبادئ إلى مواقف براغماتية وتتراجع الشعارات الكبرى أو تغدو جوفاء. وأحزاب الإسلام السياسي إن دخلت اللعبة السياسية صعب أن تثبت على مواقفها التقليدية من التطبيع وإسرائيل، وربما تلك التي تبقى منها خارج العملية السياسية يمكن أن تتابع التواصل مع الجماهير بخطاب طهري رافض للتطبيع.

صحيح لو تتبّعنا تحولات الخطاب الإسلاموي خلال العشرية الأخيرة نلحظ الطابع الوطني الجليّ في ثناياه، ناهيك عن خفوت نزعة الأمة الواحدة منه، لكن ذلك لا يعني أن الروابط الروحية الجامعة قد امّحت بين سائر مكوّناتهم. ما نستشرفه، حتى وإن جرف التطبيعُ مع إسرائيل الإسلاميين ورضوا به، فإنّ ذلك لا يعني تفريطا في الحق الفلسطيني أو تنازلا عن القدس الشريف، في ظل موازين القوى المختلة. وأقدّر أن الإسلاميين وغيرهم من المكونات السياسية الفاعلة في الساحة العربية لن يقبلوا بإسقاط ذلك الحقّ.

 

حاورته حنان عقيل

 

الصفحة 5 من 5

في المثقف اليوم