حوارات عامة
حوار أدبي مع ماغراس ماريا فنوك ودافيد بول فنوك (1-3)
جولة سريعة في حاضر وماضي الأدب الروماني
إعداد وترجمة: صالح الرزوق
تعيش السيدة الرومانية ماريا فنوك MuguraȘ Maria Vnuck مع زوجها الأمريكي دافيد فنوك Dvid Paul Vnuck في الولايات المتحدة التي وصلت إليها قبل أربع سنوات فقط. وهما الآن يعملان بشكل فريق من اثنين على مشروع مشترك هو تعريف أمريكا بواقع الأدب الروماني في حاضره وماضيه. ولحينه لديهما رصيد جيد بهذا الخصوص، وهو عبارة عن حوالي ثلاثين كتابا. ويضاف له أخيرا إصدار مجلة وليدة رأت النور في مطلع عام 2020 وهي “مجلة الأدباء الدولية” التي تنشر النصوص من مختلف أرجاء العالم لأدباء شباب ومعروفين على حد سواء، مع زاوية فنية تهتم بالتشكيل البصري.
لتكوين فكرة عامة عن المشهد الأدبي الروماني وذاكرة رومانيا الثقافية توجهت للسيدة ماريا بمجموعة من الأسئلة الخاصة والعامة.
س1: هل يمكن أن تقدمي لنا فكرة عامة عن المشهد الأدبي والثقافي في رومانيا. على سبيل التمهيد؟..
جواب: من المعروف أنه في تاريخ كل بلد هناك كتّاب يكتبون عن أنظمتهم السياسية. ولا يمكن أن تكون رومانيا استثناء من القاعدة. وكان هذا الاتجاه سائدا خلال 45 عاماً من الشيوعية التي تحملها شعب هذا البلد الفقير. خلال الحقبة الشيوعية كان هناك ثلاث فئات مختلفة من الأدباء:
الموالون للجمهورية الشعبية (ويمثلها العمال والفلاحون فقط) ويعملون دون تعويضات مالية وبالمجان وبحجة بناء مجتمع جديد. وتتلخص وظيفتهم في التأثير بعقول فئات الشعب وغسلها وتجهيزها لتكون من روافد ومصادر السلطة فقط. وقد احتلوا الواجهة وكل المناهج والكتب التدريسية ورابطة الكتاب الرومان. وقد أشبعونا بمعزوفاتهم عن الوطن والشيوعية الفاضلة وذلك بأقل ما يمكن من الموهبة والكفاءة رغم توفير كافة الإمكانيات لهم، ابتداء من ما يسمى “فيلا الإبداع”، وهي مساكن من الدرجة الأولى ومنتجعات في الجبال وعلى شواطئ البحار، ومخصصة لمنح التفرغ التي تتحكم بها الدولة حصرا، ويديرها حزب الشعب الروماني (تحول لاحقا للحزب الشيوعي الروماني).
الفئة الثانية ضمت أدباء معتدلين أخذوا دور الكاتب المحايد الذي يميل للمداهنة والنفاق. وكان ديدنهم تمرير بعض الأفكار بين السطور للتهرب من أداة الرقابة الرهيبة.
الفئة الثالثة والأخيرة هي من المنشقين والأصوات الناقدة المكروهة من كل الأنظمة الشيوعية السابقة. وكانوا يعانون من شتى أنواع التهديد الدائم مثل نقص فرص العمل والاعتقال والسجن، تشويه السمعة، وفقدان أبسط الحقوق المدنية، تبديل مضمون كتاباتهم بالإكراه أو إيداعها مخطوطة في أدراج مغلقة. حتى أنها شكلت ظاهرة عرفت باسم “أدب الأدراج السرية”. ولم تنشر مثل هذه الأعمال إلا بعد كانون الأول / ديسمبر 1998.
بالعودة إلى الأسماء اللامعة يلفت الانتباه حالة قسطنطين جورجيو وروايته “الساعة الخامسة والعشرون”. فقد كانت ضربة مؤلمة ضد الشموليات العسكرية من كل نوع ومنها الشيوعية. ولذلك باعت أكثر من 10 ملايين نسخة في غضون ما يقارب 50 عاما. وترجمت لأكثر من 40 لغة. ولم يكن ممكنا نشرها في رومانيا. وبذلت مونيكا لوفينيسكو جهدا جبارا لترجمتها إلى الفرنسية ونشرها أولا في باريس عام 1949. والقائمة المماثلة تطول. وللأسف لن نتمكن من ذكرهم جميعا. ويمكن للمرء أن يكتب أطروحة كاملة حول هذا الموضوع. لكن باختصار إن فرانز كافكا (1883 - 1924)، وميلان كونديرا (1929) وجيسلاف ميوش (1911 - 2004)، وفيسوافا شيمبورسكا (1923 - 2012)، وألكسندر إساييفيش سولجينتسين (1918 2088) قد ولدوا جميعا في الكتلة الشرقية. وكان لأعمالهم الأدبية تأثير قوي على العقلية الإنسانية. واضطر معظمهم للفرار إلى بلدان غربية بسبب قناعاتهم السياسية وهربا من تبني الواقعية الصارمة أو البيروقراطيات المعقدة أو لاعتبارات مفروضة من أعلى دون أي مجال للاختيار لا بالفلسفة ولا الإيديولوجيا. ناهيك عن القلق والهواجس والخوف، وانعدام الأمن ومعسكرات العمل القسري، وتدهور كرامة الإنسان الخ.
س2: أرى أنك تختارين أمثلة من خارج رومانيا. ما سبب الاهتمام بأدباء تشيكيين وبولونيين على حساب أدباء رومانيا؟. ما هي المشكلة برأيك؟..
جواب: أولا وقبل كل شيء، أود أن أفرق بوضوح بين الفكرة العامة للأدب الروماني والممثلين البارزين للأدب الروماني. بطريقة أو بأخرى قد تكون على حق حول الأدب الروماني، ولكن العديد من الكتاب الرومان المشهورين الذين عاشوا أساسا في الخارج نجحوا في إحداث الفرق. هناك جانب مهم جدا هنا: الأدب الروماني قدم دائما أعمالا أدبية هامة، ويمكن بسهولة أن توضع في نفس المستوى مع أعظم الروائع العالمية. ومع ذلك كان هناك دائما شيء يجره إلى أسفل. وفي الذهن ثلاثة أسباب رئيسية: سوء إدارة تمثيل الأدب الروماني في الخارج، والترجمات السيئة إلى اللغات الأجنبية، وسوء إدارة الأموال. من أجل إلقاء المزيد من الضوء على سؤالك أود أن أذكر فقط عددا قليلا من الأسماء البارزة: ديمتري كانتمير (1673-1723)، وهو قائد عسكري مشهور من مولدافيا، وكان فيلسوفا، ومؤرخا، وملحنا، وكاتبا غزير الإنتاج، وعالما موسيقيا، ولغويا، وإثنوغرافيا، وجغرافيا. وكانت كتاباته مشهورة في جميع أنحاء أوروبا. هناك أيضا ميهاي أمينيسكو (1850-1889) وهو أعظم شاعر روماني. كما كان روائيًا وصحفيًا، ولا يزال يعتبر أحد أعظم ممثلي الرومانسية الأوروبية. ولوسيان بلاغا (1895-1961) الذي أعتبره من أعظم الشخصيات الرومانية: فهو فيلسوف، وأستاذ، ودبلوماسي، وشاعر، وكاتب مسرحي، ومترجم أدبي. وتم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب. ثم إميل سيوران (1911-1995)، وهو فيلسوف وكاتب مقالات شهير هرب إلى فرنسا وكتب باللغة الفرنسية معظم نتاجاته. ويوجين أيونيسكو (1909-1994) الكاتب المسرحي ثنائي الجنسية (روماني وفرنسي) والذي كتب أساساً باللغة الفرنسية. كان شخصية دولية بارزة في المسرح الطليعي الفرنسي. وميرسيا إلياد (1907-1986) الصحفي المشهور وكاتب المقالات والسير الذاتية. أما أعظم إنجاز له على الإطلاق فهو احتلال كرسي أستاذ في جامعة شيكاغو باختصاص مؤرخ للأديان (تاريخ الأفكار الدينية). وقد أرسى نماذج في الدراسات الدينية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. وله نطرية تؤكد أن الهيروفان تشكل أساس الدين، وعمل على تقسيم التجربة الإنسانية في الواقع إلى مقدس ومدنس، ومكان وزمان. وهذه واحدة من أكثر مساهماته المؤثرة في الدراسات الدينية. ولا يمكن أن ننسى نظريته عن العودة الأبدية، والتي ترى أن الأساطير والطقوس لا تحتفل ببساطة بالهيروفانات، ولكن على الأقل تشارك بعقول المتدينين الذين يتحثون فعليا" كما ورد في المقدمة التي كتبتها ويندي دونيغر لكتاب إلياد عن السحر والشعوذة.
ومن الأسباب التي أساءت للأدب الروماني أذكر بعض المواقع الأجنبية، والطريقة المهينة التي تناولت بها الكتب المترجمة. فهي لا تفرد بندا خاصا بالأدب الروماني، أو أنها ببساطة تكتب تحته "0". ومن الغريب أن نفس هذه الإحصاءات تشير إلى الأعمال الأدبية المترجمة من وإلى اللغات الميتة أو إلى أندر اللغات، وتنسى رومانيا. أضف لذلك أن اختيار الترجمات لا يمثل تماما الأدب الروماني، ويحتفل بأعمال غير تنافسية، أو لأن رومانيا ليس لها علاقات شراكة فعالة في الخارج. وبطبيعة الحال النصوص غير الجيدة ستبقى على الرف. إن وصول المؤلفين والقيم الأدبية الشابة الحقيقية أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً في بعض الأحيان. ثم إن المؤسسات المسؤولة عن اختيار الكتاب للترجمة ستفضل دائماً التعامل مع "المشهورين" بدلاً من إعطاء فرصة للآخرين، ويطمح آخرون، ممن أسميهم "الكتاب الهواة" إلى كتابة "روايات حياتهم"، بشكل سيرة ذاتية يصفون فيها المغامرات التي مروا بها من أجل الفرار من رومانيا الشيوعية. ومعظم الكتاب لا يملكون الشجاعة الكافية للاقتراب من دور النشر الأجنبية بذريعة التكاليف الباهظة. أما دور النشر الغامضة فهي لا تكلف نفسها عناء تدقيق الترجمة وتساهم في توسيع “السمعة الرديئة” للكاتب عوضا عن أن تفيده. والنتيجة النهائية هي أنه بعد إنفاق الكثير من المال، فإنها ستبقى في نفس المستوى المنخفض من "السمعة السيئة".
س 3: ما هي اتجاهات الأدب الروماني اليوم؟ نحو الواقعية أم الحداثة؟...
جواب: على المستوى العالمي ظهر هذان الاتجاهان كضرورة لكسر القواعد القديمة المفروضة على الأدب والموسيقى والفلسفة والفنون البصرية. وكان لهما تأثير قوي في طريقة تفكير الشعوب، وقدما في الأدب أسماء عظيمة لكن الواقعية سبقت الحداثة. ومثلها في الأدب الروماني نيكولاي فيليمون، إيوان سلافيتشي، إيون كرينغا Ion Creangă، ليفيو ريبرينو Liviu Rebreanu، جورج كالينسكو George Călinescu، مارين بريدا، وغيرهم. لقد وضع هؤلاء الكتاب شخصياتهم في سياق المواضيع الاجتماعية، ومن بداية طبولوجية مختلفة: مثل مفهوم الهاوية والجشع والفجور والعزلة، إلخ. واستندت معظم كتاباتهم إلى قصص حقيقية مع اهتمام دقيق بالتفاصيل. أما الحداثة، المستمدة من الرمزية، فقد برزت في أدب القرن العشرين. واختلفت مع التقاليد القديمة، وحاربتها، بل واستفادت في بعض الأحيان من أشكال التعبير المتطرفة التي تم التأكيد عليها من خلال موضوعات حساسة جدا مثل المرض، والحنان، والضعف والذل. وأشهر من تبنى الحداثة في رومانيا أذكر يوجين لوفينيسكو، جورج كالينكو، كاميل بيتريسكو، هورتنسيا بابادات- بنغيسكو، أيون باربو وغيرهم. وقد عرّفوا الحداثة من خلال كتاباتهم التي أثقلتها لهجة متشائمة، ومحاولة لإيجاد إجابات عن معضلات البشر، وأجبروا شخصياتهم أن يكونوا ممثلين لتجربة اجتماعية ذات أفق مختلف ومتجدد. ولم يكن يوجد في الحداثة بطل رئيسي واضطرت الرموز لأن تصارع وجودها وفق قواعد اكتشاف وبحث تبدأ وتنتهي داخل النفس.