أوركسترا
عدنان حسين أحمد: ظل الكونكريت.. تقسيم بغداد وإذكاء الاحتراب الطائفي
"أمّاه لمَ اختفيتِ خلفَ سورٍ من حجار
لا بابَ فيه أدقُّ ولا نوافذَ في الجدار؟"
بدر شاكر السيّاب
***
لا تكتفي المخرجة إيمان خضيّر بالفيلم الوثائقي الذي يعتمد على الوثيقة ويعوّل عليها وإنما تذهب أبعدَ من ذلك في بعض الأفلام فتلامس مشاعر الناس الداخلية وأحاسيسهم الجيّاشة، ولا فرق لديها إن كان الشخص المتكلم صحفيًا أو مهندسًا أو أستاذًا جامعيًا أو ضابطًا عسكريًا برتبة كبيرة أو صاحب محل أو امرأة بسيطة متواضعة تفكر بمدرسة أولادها، واحتياجاتهم اليومية، وسيارة الإسعاف التي تنقل مريضها. وفيلم "ظل الكونكريت" هو من هذا النمط من الأفلام الذي يستثير الذهن والتفكير العقلاني ويراهن في الوقت ذاته على المشاعر الإنسانية المُرهفة التي تُقدّم الإنسان الأصيل بأبهى صوره حينما يتحدث بهُويته الوطنية العراقية التي يقدّمها على مختلف الهُويات الفرعية سواء أكانت قومية أو دينية أو مذهبية، ولعل أجمل ما في هذا الفيلم حينما تكون المتحدثة سيدة عراقية تخاطب الجميع بلسان فصيح لا إعوجاج فيه بأننا عراقيون جميعًا قبل أن نكون عربًا وكوردًا وتركمانًا، وبأننا مسلمون قبل أن نكون سُنّة وشيعة، وبأننا شركاء جميعًا في هذا الوطن لا تفرِّقنا الأعراق والأديان والمذاهب، وأنّ صفة العراقي هي الحاضنة الدافئة التي تضمّ العراقيين جميعًا من دون تفرقة أو تمييز.
القوت العراقية تختار أسوأ الحلول
تتمحور ثيمة فيلم "ظل الكونكريت" على الحواجز الكونكريتية أو الجدران العازلة أو "الصبّات الإسمنتية" كما يسمّيها غالبية العراقيين بنبرة لا تخلو من القرف والاشمئزاز فهي غريبة عليهم وطارئة على ذاكرتهم الاجتماعية الحميمة. فهي التي قسّمت بغداد على أسس مذهبية إثر اندلاع الحرب الأهلية الطائفية بعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين في 22 فبراير / شباط 2006 فاختارت الحكومة العراقية آنذاك بالتنسيق مع الأمريكان أسوأ الحلول وهو تقسيم مدينة بغداد وعزل مدنها عن بعضها بعضًا على أساس طائفي مقيت لم يُرِده أتباع هذين المذهبين الكريمَين الأمر الذي أذكى الاحتراب الطائفي بدلًا من أن يُخمده.
يبرّئ الفريق الركن عبد الكريم العزي القوات العراقية من قرار وضع الحواجز الكونكريتية ويلقي باللائمة على قوات التحالف التي اتخذت قرار تقسيم بغداد على وفق مبدأين، الأول: وضع حواجز كونكريتية للمشاريع المهمة والدوائر الرئيسة، والثاني الفصل بين مناطق بغداد على أساس مذهبي.
لا بدّ من الإقرار أولًا بأنّ كتابة التعليقات الصوتية الستة Voice over كانت دقيقة ومشذّبة وتكاد تختصر ثيمة الفيلم برمته على الرغم من كثرة المتحدثين الذين جاوزوا العشرين متحدثًا من مشارب وخلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة تجمع بين الصحفي، والضابط، والمهندس المعماري، والأستاذ الجامعي، وعالم النفس، والباحثة في علم الاجتماع، والفنان التشكيلي، والمقاول، وصاحب المحل، وربة البيت. وقد عزّز بعضهم الفيلم بالمعلومات مثل الكاتب والمحلل السياسي سرمد الطائي، والمقاول صباح الشمّري اللذين تحدثا بلغة الأرقام وهي ضرورية جدًا في الفيلم الوثائقي الاستقصائي. ورغم أنّ غالبية العراقيين يتمنون رفع هذه الحواجز الكونكريتية إلّا أنّ بعض الناس كانوا يريدون الإبقاء عليها لأنها كانت توفر لهم الحماية من الاغتيالات وعمليات التفجير التي تضاعفت في فترة الاحتراب الطائفي.
لم يحظَ المشاركون في الفيلم بأوقات متساوية في الحديث، فهناك من أطلّ علينا ثماني مرّات مثل الصحفي سرمد الطائي، وسبع مرات مثل الباحثة في علم الاجتماع د. أسماء جميل رشيد، وهناك من أطلّ مرة مثل الصحفي يوسف الحسيني أو غيره من الشخصيات الثانوية التي أدْلَت بفكرتها وتوارت عن الأنظار.
ورغم أنّ التعليق الصوتي الأول قد تأخر كثيرًا قبل أن يتناهى إلى سمعنا بحدود الدقيقة العشرين من الفيلم الذي تبلغ مدته 45 دقيقة إلّا أنه سوف يساعدنا كثيرًا في تقسيم الفيلم إلى ستة أقسام رئيسة تبدأ باختفاء الأشجار والبيوت والشوارع خلف الحواجز الكونكريتية، ثم تأتي مرحلة الرسم على هذه الجدران العازلة في محاولة لتجميلها وتزيينها، أو اتخاذها مأوىً ومَسكنًا قد يفتقدهُ الفقراء والمُعدمون ويحنّون إليه ذات يوم على الرغم من مأساوية المشهد وغرائبيته. أو يُحصِّنون أنفسهم بالعزلة القسرية في القسم الرابع من الفيلم ويستعيدون لقاءاتهم الأليفة سواء في مقاهي الحي الجديدة أو محلاته ودكاكينه القديمة التي فقدت زبائنها. وبما أنّ هذه الجدران العازلة مؤقتة ولا يمكن أن تدوم إلى الأبد فلا بدّ أن تُرفع ذات يوم وسط أهازيج العراقيين وهتافاتهم وأفراحهم بفشل تكريس العزلة والقطيعة واختفاء الجدران الكونكريتية إلى الأبد. أمّا المرحلة السادسة والأخيرة فتنطوي على سؤال مهم مفاده: أين سنذهب بهذه الكميات الكبيرة من "الصبّات" أو الكتل الكونكريتية الضخمة التي جثمت على صدور العراقيين لسنوات طوالا وحرمتهم من متعة الاستمتاع البصري بالمشاهد الجميلة والمناظر الخلّابة لعاصمة الرشيد، منارة العلم، وقِبلة المتعلِّمين والمتنوِّرين؟
حيرة الأمريكان وفشلهم في تعريف العنف
لم يكن سرمد الطائي مجرد كاتب صحفي وإنما هو محلل سياسي يتمترس وراء رؤية فكرية واضحة وقدرة على التحليل المنطقي المدروس ولهذا منحتهُ المخرجة مساحة أوسع من الآخرين. فبعد احتلال قوات التحالف لبغداد عام 2003 بلغت الحيرة الأمريكية ذروتها وسقطت في مأزق تعريف العنف الذي تجري وقائعه ببغداد حتى أنّ أمريكا كانت تسأل نفسها: إن كانت تواجه تمردًا أم انتفاضة أم ثورة عراقية ضد الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأنّ بغداد هي ساحة المعركة الأساسية؟ فعمدت إلى تقسيم أحياء بغداد على طريقة تقسيم الكعكة لكي تتمكن من السيطرة على حركة الناس والجماعات المسلحة التي تخوض معارك طائفية بين المكونَين الرئيسين ببغداد. وثمة سؤال آخر مفاده: هل أن تقسيم العاصمة يعني أنّ الحرب لم تضع أوزارها بعد؟ وأنّ أمراء الحروب الذين يتواجدون في سدة السلطة لم يقرروا نهاية لهذه الحرب التي بدت طويلة وطاحنة لأعصاب العراقيين؟ غالبية المسؤولين العراقيين، وربما كلهم، لا يمتلكون الإجابة على هذا السؤال، فطارق الهاشمي الذي كان نائبًا لرئيس الجمهورية يُخبر سرمد الطائي في حوار صحفي بأن عمر الحواجر الكونكريتية ثماني سنوات ويتمنّى أن تُرفع بعد ثماني سنوات قادمة. كانت الأحزاب السياسية، من وجهة نظر سرمد الطائي، هي الأقدر على الوصول إلى الأمريكان وإبرام الصفقات الكبيرة التي تسفر عن أرباح فلكية لا عهد للعراقيين بها من قبل حيث صرّح السفير الأمريكي في العراق في لقاء حضره الطائي بأنّ أمريكا لم تنفق أموالًا طائلة على بلد كما أنفقت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وعلى العراق بعد غزوه عام 2003 حيث بدّدت أمريكا 60 مليار دولار أمريكي كان ممكنًا أن نبني بها 60 محطة كهربائية تنتج كل واحدة منها 1000 ميغا واط تسد أربعة أضعاف ما يحتاج إليه العراق من طاقة كهربائية على حدّ المعلومة الدقيقة التي أوردها الطائي. السؤال الذي أثارته المخرجة إيمان خضيّر في التعليق الأخير عمّا سنفعله بهذه الحواجز الكونكريتية يجيب الطائي عليه: "ليفعلوا بها أي شيء شرط ألّا يدَعونا نتذكّرها أو نلمحها" لأنها تثير شجون العراقيين جميعًا ما عدا المنتفعين من الاحتلال والمُصطفين معه. وتمنّى الطائي مثل زملائه المشاركين في الفيلم أن يرى هذه الحواجز الكونكريتية وهي تتحول بطريقة هادفة إلى نُصب فني لكي لا ننسى ثمن الاحتراب الأهلي".
يعتقد الصحفي عدنان حسين، نائب رئيس تحرير صحيفة "المدى" في حينه بأنّ حمّام الدم والإرهاب لم يتوقف على الرغم من وجود الحواجز الكونكريتية التي يُقدّر عددها بالملايين ولا يجد مبررًا أو مسوِّغًا قويًا لوجودها. وذات مرة بحث عن مقهى البرازيلية مدفوعًا برغبة رؤية كبار المثقفين والأدباء مثل جبرا ابراهيم جبرا لكنه لم يستدل إليها لأن الحواجز العازلة غيّرت معالم المدينة بشكل عجيب. يلوم عدنان حسين النخبة السياسية التي أوصلت البلد نتيجة صراعها على السلطة والمال والنفوذ إلى الحرب الطائفية ولم تستطع أن تقدّم أي إنجاز يُذكر فلم تكافح البطالة وتردّي الخدمات والفساد الإداري والمالي. ويرى بأنّ هذه الكتل الكونكريتية حتى وإن رُفعت من أماكنها فإنها لن تُرفع من أرواحهم ونفوسهم ومشاعرهم. أمّا الصحفي يوسف الحسيني فيختصر مخاوفه من هذه الحواجز الكونكريتية بالقول البليغ: "أخشى أن يأتي يوم نحتاج فيه إلى دليل أو خارطة سياحية كي نميّز بين الطرق السالكة والمُغلقة".
يُدلي خمسة أكاديميين بآرائهم في هذا الفيلم سنتوقف عند ثلاثة منهم بينهم باحثة في علم الاجتماع وهي د. أسماء جميل رشيد بأنّ المنطقة التي تسكن فيها تعجُّ بالاغتيالات رغم وجود الجدران العازلة وهي تنفي أن تكون هذه الجدران قد حدّدت أو قيّدت أو كانت سببًا في تحسّن الأوضاع الأمنية. وأنّ الأماكن التي قضت فيها نصف حياتها مثل الوزيرية وباب المعظم وشارع المتنبي قد أصبحت الآن أماكن بعيدة جدًا وغير قادرة للوصول إليها، وأنّ بغداد قد أُختزلت في داخلها وصارت تقتصر على هذا السور الذي يحيط بها فحدثت غربة بينها وبين المناطق الأخرى في المدينة التي أضعفت انتمائها بالتدريج. وبدأت تشعر بأنها لا تنتمي إلى هذا المكان المسوّر، كما أنّ بغداد أصبحت بعيدة عنها ولا تنتمي إليها.
السجن داخل الأدوار التقليدية
تشعر الدكتورة أسماء بأنّ هذا المكان المسوّر قد سجنها مكانيًا لكن الأخطر من ذلك أنه سجنها داخل أدوارها التقليدية كأن تُعدّ الطعام، وتنظّف البيت وما إلى ذلك، فهي لا تنمو ولا تتطوّر ولا تكتسب أشياء جديدة. تعتقد أسماء أنّ هذه الحواجز الكونكريتية قد أضعفت التواصل الاجتماعي بين مناطق بغداد وأحيائها السكنية. وهي لا تعرف ما الذي يمكن أن نفعله بهذه الكتل الكونكريتية الشوهاء سوى أن نخفيها حتى نطوي صفحة مؤلمة من حياتنا وذاكرتنا. أمّا حلمها الوحيد فيتمثّل بقدرتها على التنقّل بسهولة والتخلّص من هذه الجدران الكونكريتية إلى الأبد.
أمّا الدكتور موفق جواد الطائي وهو مهندس معماري يدرّس في جامعة النهرين فقد تناول أكثر من منطقة ببغداد، فالسيدية التي تُعتبر قُرّة عين الإسكان في العراق بوصفها منطقة سكنية كبيرة ترسّخت فيها روح الجيرة وتكوّنت فيها طبقة اجتماعية معينة سوف تهتزّ بعد التقطيع وتٌفضي إلى هُوية مشوّهة بعد أن تقطّعت العلاقة التاريخية والزمنية في آنٍ معًا. كما يورد مثالًا آخر على تقطيع مجمّعات البيّاع، فحينما فصلوا بين السوق والشارع والحديقة تشوّه المجمّع برمته لأن الحديقة أصبحت مع الكراجات وليس مع البيوت. فعندما تقطع أي جزء كان سالكًا في يوم من الأيام سوف ينتهي إلى ما يسمّى بـ "الطريق المسدودة" التي سوف تكون مكانًا لتجميع القاذورات وبؤرة للجريمة والفساد. وساق مثالًا على منطقة "الميدان" أو "الأحمدي" التي أراد الإنكليز أن يغيّروا طبيعتها الدينية فأغلقوا العديد من المنافذ السالكة فتحولت إلى بؤرة للجريمة والفساد. وإجابة على سؤال ماذا نفعل بهذه الكتل الكونكريتية الضخمة دعا الدكتور موفق جميع المعماريين لكي يقدّموا حلولًا لهذه الكتل ويصنعون منها صرعة قد لا تخطر على بال الكثيرين.
يرى الدكتور عبدالجبار محمود فتّاح وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد أنّ يافطة الإرهاب الأمريكية التي عُلّقت في أعناق العالم جعلتنا معرّضين لأن نكون إرهابيين وبالتالي يُفترض أن نقف أمام هذه الصبات الكونكريتية بانحناء لأنهم جعلوا منها مقدسًا أمام المولوخ، إله الإرهاب المزعوم. فالناس تُتهم بالإرهاب في ظل غياب أي تعريف موضوعي وقانوني واضح للإرهاب. يتساءل الدكتور عبدالجبار باستغراب: أليس مفارقة في عصر الحكمة أن يُطرح هذا التدمير الخلّاق الذي سيفتح شهية المستثمرين ويستوعب رؤوس الأموال في القطاع المُبيد للعنصر البشري؟ أمّا الأرقام الرسمية للحواجز الكونكريتية فتعرفها القوات الأمريكية التي دخلت إلى العراق واجتاحته في عام 2003. ويعتقد بأنّ هذه الصبّات الكونكريتية يمكن أن تُستعمل على شكل نظام الدومينو لتثبيت التربة.
اشترك أربعة فنانين تشكيليين في هذا الفيلم سنتوقف عن اثنين منهم وهما قاسم سبتي وأحمد نصيف اشتركا بكرنفال تزيين الجدران الكونكريتية بالرسومات والألوان. وتبيّن أنّ هناك عشرات الفنانين التشكيليين الآخرين الذين اشتركوا في هذه المغامرة رغم صعوبة الأوضاع الأمنية ليزيّنوا هذه الجدران القبيحة من وجهة نظرهم مدفوعين بشغفهم للحياة وحبهم لبغداد فلا غرابة أن يتجاوزوا فكرة المجازفة أو الخشية من الموت.
الرسم على الجدران الكونكريتية تزيّين للقبح المؤقت
ربما يكون قاسم سبتي هو أكثر الفنانين التشكيليين المشاركين في هذا الفيلم صراحة وصدقًا حينما قال: "إنّ الأعمال المرسومة على هذه الجدران الكونكريتية هي ليست أعمالًا فنية بالمعنى المتعارف وإنما هي أعمال تزيّينية مؤقتة نريد أن نزرع بواسطتها نوعًا من الأمل بدلًا من أن نلعن الظلام. وقد رُسمت بالأكريلك أو البنتلايت ولو كنّا نروم تزيّين القبح إلى هذا الحد لاستعملنا موادَ ثابتة مثل الموزاييك أو السيراميك".
أمّا الفنان أحمد نصيف الذي نظّم أول معرض تشكيلي على الجدران الكونكريتية فهو يرى "أنّ الحواجز الكونكريتية التي عزلت الشوارع والأزقة والمدن قبيحة ومن غير المعقول أن نقوم بتزيّين القبيح وتجميله وإنما يجب أن يُلغى تمامًا".
يتحدث المقاول صباح الشمّري بلغة الأرقام وهي مفيدة جدًا في الفيلم الوثائقي الرصين الذي يجب أن يبتعد عن الثرثرة الكلامية حيث قال: "إنّ هذه الصبات الكونكريتية بيعت للمتعهد أول مرة بسعر 1500 دولار للصبّة الواحدة ثم هبطت الأسعار حتى بلغت 800 دولار عندما كثُرت المعامل وتضاعف المتعهدون". ويقدّر الشمري عدد الحواجز بين مليون ونصف إلى مليونيّ صبّة كونكريتية وعندما يكون سعر الصبة الواحدة بألف أو ألف وخمسمئة دولار فإن المبلغ الإجمالي يصل إلى مليار ونصف المليار دولار. وهذا يعني أنّ بإمكاننا أن نبني 70 مجمّعًا سكنيًا يضم كل مجمّع سكنًا لـ 500 أو 600 عائلة ولكم أن تتخيلوا حجم الأموال الطائلة التي صُرفت على الجدران الكونكريتية التي قسّمت جسد العاصمة بغداد وشوهّت ملامحها الجمالية الآسرة. علمًا بأن كلفة الصبّة الواحدة هي 250000 دينار عراقي أي قرابة 220 دولار أمريكي كما يذهب صاحب معمل آخر لم يرد اسمه على الشاشة.
يختم صلاح الدين مصطفى، وهو قائد عمليات الرصافة بالإجابة الحاسمة على السؤال المحوري عمّا سنفعله بهذه الحواجز الكونكريتية الضخمة ويقول بضرس قاطع: "سيتم الاستفادة منها لبناء السور حول مدينة بغداد، وأسيجة للبنايات الرئيسة، وقد يُستفاد منها أيضًا لحماية الحدود العراقية".
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المخرجة إيمان خضيّر قد اعتمدت في هذا الفيلم الوثائقي الرصين على تقنية "الرؤوس المتكلمة" وتوسعت بها حتى شملت ذوي الاختصاص والناس البسطاء العاديين الذين تُعبتَر أحاديثهم وثائق شفهيّة لا تُدحض بسهولة. وكنت أتمنى على المخرجة لو أنها توصّلت من خلال بحثها إلى العدد الفعلي للصبّات الكونكريتية التي يعرفها الأمريكيون من أصحاب القرار أكثر من غيرهم لنعرف الكلفة الحقيقية لهذه الجدران الكونكريتية التي أثقلت كاهل الخزينة العراقية، وهي خزينة الشعب قبل أن تكون خزينة للساسة العراقيين الذين تحوم حولهم الشُبهات والفساد الإداري والمالي منذ أن جاء بهم الأمريكان إلى سدة الحكم وحتى الوقت الحاضر.
أنجزت المخرجة الدؤوبة والحاذقة إيمان خضيّر عشرة أفلام حتى الآن وهي على التوالي:"أنيس الصائغ .. حارس الذاكرة الفلسطينية"، "تاريخ طوابع فلسطين"، "الملك فيصل الأول"، "ظل الكونكريت"، "مقاهي بغداد الأدبية"، "عاملات الطابوق"، "صفر"، "جواد سليم وسمفونية البرونز"، "الأهوار" و "جدارية المطر".
***
عدنان حسين أحمد