أوركسترا

عدنان حسين أحمد: تراتيل السومري.. قصائد مليئة بالعاطفة ومطعّمة بالشجن الرقيق

يُصنّف فيلم "تراتيل السومري" للمخرج هادي ماهود بأنه وثائقي ثقافي يتمحور على حياة الشاعر غيلان حوشي علي الذي غادر العراق مُضطرًا بحثًا عن الحرية والعيش الكريم. ولا غرابة في أن يختار هادي ماهود هذا التصنيف لأنّ الثقافة والفن هاجسان مُلحّان يلازمان ذهنيته منذ يفاعته وتعلّقه بهما حدّ الهوس والجنون. ولعل هذه الصعقة الثقافية والفنية قد انتقلت إليه سواء من أخيه الكاتب والمخرج عبدالحسين ماهود أو من خلال قراءاته الأدبية أو مشاهداته الشخصية للأعمال المسرحية والأفلام السينمائية التي عزّزت هذه الهواجس الفنية وعمّقتها خلال السنوات التي تفتقت فيها موهبته ووجدت طريقها إلى الدراسة والتطبيقات العملية التي أفضت إلى إنجاز كمٍ كبير من الأعمال المسرحية والسينمائية كتابة وتصويرًا وتمثيلًا ومَنتجةً وإخراجًا،.1231 ghaylan

ولعله من بين الفنانين العراقيين القلائل الذين أتقنوا كل هذه التخصصات الفرعية في مضمار السينما تحديدًا فاستحق لقب المخرج المنغمس في "سينما المؤلف". وبما أنّ الهاجس الثقافي والفني يتقدّمان على هواجسه الإبداعية الأخرى فلقد ارتأى أن يخوض في مضمار الفيلم الوثائقي الثقافي وكان يتمنى دائمًا أن يحقق أكبر قدر ممكن من هذه الأفلام التي ترصد وتوثِّق حياة الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين عمومًا الذين يتوزعون في مشارق الأرض ومغاربها ولا غرابة في أن تكون أستراليا، البلد المُضيّف له ولأسرته الكريمة، هي أولى هذه البلدان التي تَلقى باهتمام وعناية المخرج نفسه خاصة وأن فيها عدد كبير من الأدباء والفنانين والمفكرين والمعنيين بالشأن الثقافي العراقي. وربما يكون الشاعر غيلان حوشي علي أوّلهم، ليس لأنه الأفضل شعريًا ضمن فصائل الشعراء العراقيين الذين غزوا الأمم والأمصار الأوروبية والغربية على وجه التحديد، وإنما لامتلاكه النزعة الجنونية المُحبّبة التي تميّزه عن شعراء عراقيين كثيرين لا يدورون في فلك شطحاته المجنونة و فلتات مخيلته الجامحة. فثيمة هذا الفيلم الذي تبلغ مدته (32) دقيقة لا غير قال فيها غيلان أشياء كثيرة تتعلق بحياته وتجربته الشعرية ورؤيته لنفسه وللعالم في الوقت ذاته. كما أنّ المخرج هادي ماهود لم يترك شيئًا من الجانب الأُسري إلّا وتوقف عنده أو لامسهُ ملامسةً جادة فيما يتعلق بـ "زهرة" كزوجة لغيلان تؤازره في همّه الثقافي والإبداعي، وترعى أبنائها الخمسة؛ بضمنهم غيلان الذي لم يغادر طفولته حتى اللحظة الأخيرة التي تلقفتهُ فيها يد المنون. يعتمد هذا الفيلم على أربع قراءات شعرية لغيلان إضافة قراءة قصيدة واحدة من قِبل زوجته زهرة. أمّا الشق الثاني من الفيلم فيتكئ على ثمانية متحدثين وهم غيلان، وأنيس غانم، رئيس تحرير صحيفة "التلغراف" العربية في أستراليا، وزهرة، والمصورة الفوتوغرافية الأسترالية كارين هاو، والأطفال الأربعة وهم كاني ونهار وصيف وأميلين الذين تحدثوا باقتضاب عن والدهم كإنسان وشاعر في الوقت ذاته.
يستهل المخرج هادي ماهود فيلمه الوثائقي الثقافي بقصيدة للشاعر غيلان، وهذا هو اسم شهرته، يقول فيها: "في صباحات كهذه أتجوّل مصحوبًا مما لا يألفه العالم / كالجنون والمخدرات وأعمدة القلق التي لا أعرف كيف شيّدها الانتظار في مخيلتي رغم صغر سني/ قفوا بعيدًا أنا القادم من النهرين يحرسني التاريخ والبلاد والتمرد / لأبي علاقة بانطفاء المصابيح / وحين مات الضوء خرج جيش من الأطفال يعلنوا البراءة عن ترتيبي العائلي / فكنتُ وليس صدفة الناطق باسمه لا لشيء إلّا لأنني بلا مُرضعة".
أمّا أول المتحدثين في هذا الفيلم فهو الصحفي اللبناني أنيس غانم رئيس تحرير صحيفة "التلغراف" الناطقة باللغة العربية بسيدني حيث قال: "إنّ حضور غيلان قد أضاف إلى المشهد الثقافي العربي في أستراليا ألقًا، وهذا فاق توقعي، وأنا أقوله ليس انتقاصًا من المبدعين الموجودين في المشهد الثقافي العربي في أستراليا، ولا من غيلان نفسه ".1232 anees ghanom
خُذ كأسي أيها الفرح
انتبه المخرج هادي ماهود إلى أهمية القراءات الشعرية لغيلان فأكثرَ منها كلّما وجد الفرصة مناسبة ليشنّف سمع المتلقّين بنمط شعري مغاير للمألوف حيث يقول:"خُذ كأسي أيها الفرح إذن / سأعمّد الطريق بحزن الجنوب / بحَيرة الحمام أمام تهدّل النساء / بالقدور المقلوبة حزنًا / بالطين الذي على الرؤوس / بالنهر الذي يشتكي ثقل النائحات/ خُذ كأسي إذن أيها الفرح / هذه مياهي؛ مياه تستقبل الغريَن المنتمي للرحيل/ ومياه تصافح مياهً من بين أضلع السدود/ مياه تُدِلّ الحروب التائهة / ومياهٌ لأجراس الذئاب / مياهٌ لأرملة زفّت جمالها للعبيد / لا تستريح الذئاب وجدي يقيمُ وليمة للمياه بين أفئدة الضيوف / خُذ كأسي أيها الفرح فهذا ليس فجرًا أتوسّل فيه العصافير إعلان صحوي / سأغيّر طعم الليلة بأخرى / ولا أستبدل انتظاري يا ذاك الجنوب".
تركز زهرة، وهي المتحدثة الثانية، على قصة زواجها من الشاعر غيلان وارتباطها به منذ سنة 1986م، ولم تقف اللغة حائلًا بينهما فهي تجيد اللغة العربية نُطقًا وكتابة على الرغم من انتمائها إلى القومية الكوردية الكريمة. وهي قبل هذا وذاك، فهي فنانة تشكيلية ترى العالم بمنظار كوني واسع يلمّ القوميات واللغات والأديان كلها. تختصر زهرة في حديثها عن العائلة بأنها تتألف من خمسة أطفال مُدرِجةً زوجها غيلان ضمن هذا التوصيف الدقيق لأنّ غيلان لم يغادر طفولته، ولم يتخلَ عن هوسه وجنونه الشعري أو الإبداعي بالمعنى الأوسع. تختلف ذائقة الأطفال وتوجهاتهم، فـ "صيف" الذي يحتلّ التسلسل الثالث يعزف على البيانو، وأميلين ما زالت في أولى الخطوات ولم تكتشف طريقها بعد، وهم جميعًا يتحدثون اللغة الإنكليزية ما عدا بعض الكلمات العربية التي لا تُسعفهم بشيء وسرعان ما يغادرونها إلى اللغة الجديدة التي يعبّرون بها عن أنفسهم ومشاعرهم الداخلية العميقة.1233 ghaylan
الأب هو الأسوأ في الترتيب العائلي
يُنظِّر الطفل الخامس غيلان لمعنى الطفولة ويرى أن العديد من المفكرين قد حاولوا إيجاد تعريف مُحدد لمستوى النضج عند الكبار من خلال الطفولة، وتوقّف عند جان بول سارتر في مقدمته التي دبّجها لكتاب بودلير وتتمحور حول تعريفه للعبقرية التي وصفها بأنها "استعادة الطفولة قسرًا". وإذا كان مشوار العبقرية يتطلّب استعادة الطفولة قسرًا فلا بد لهذه الطفولة أن تجد مساحتها الخلّاقة في كل فنان أصيل، وفي كل شاعر، وفي كل أب. ويصف أكثر العوائل نجاحًا أو تماسكًا هي العوائل التي يمثّل فيها الأب مستوىً متميزًا من الطفولة. فالطفل الذي يرى في أبيه طفلًا آخرَ هو الطفل الأكثر نجاحًا وقدرة على الخلق. وقد يسأل سائل عن السبب فيأتي الجواب بعد تأمل وتمحيص:"لأن الأب هو أسوأ ما في الترتيب العائلي، ليس لأنّ سارتر قال ذلك، بل لأنّ الكثير من الآباء يتصرفون ويسلكون سلوك السلطان الشبيه بالقائد والحاكم في العالم الثالث مع الأطفال في البيت. ويتوصل غيلان إلى نتيجة منطقية مفادها "أنّ الأب الناجح هو الطفل الناجح، وأنّ الطفل الناجح هو أب من أجمل الآباء الذين يتناغمون مع السؤال الإنساني الذي يبحث عن أبينا الذي في السماء".
يُتحفنا غيلان في قراءة شعرية ثالثة يقول فيها:"ها أنا ذا أنتظركَ على الحافة / نعم، على الحافة تمامًا إن امتدّ بي نظري نحو الفرات سقطتُ في الأبد / وإن شجّعني خوفي صرتُ في الغابة ومنها إلى الأبد / وليس غيرَك يَدركُ الانتظار على حافة مثلي / نعم، مثلي أنا بالضبط يتكسّر الخبز وهو يقبّل التراب".
يتبادل غيلان مع زوجته الأدوار فتقرأ له واحدة من قصائده الجميلة بلسان عربي فصيح:" الغروب يجمع الطفولة من المدى / يخاف عليها من الاستقلال / في الغروب الأشجار تعلن استقلالها / الجبال تبدو أكثر انفصالًا / العُشاق ينحنون لبعضهم / البيوت تستعيد وحدتها / أمّا أنا في ركن سريّ / أجمع أعضائي لنبكي على بعضنا".
إذا كان رأي زهرة بأنّ غيلانَ هو طفلها الخامس الذي تحمله في قلبها فلنسمع رأي غيلان بهذه الفنانة الكوردية التي تجاوزت حدودها القومية وانصهرت في الإنسانة الكونية حيث يقول عنها:"زهرة هي القارئة الأولى لكل نتاجاتي ومشاكساتي. وأعتبرها هي المتلقّي الأول، والرحم الأول، والفضاء الأول الذي تنتقل إليه القصيدة أو الرأي. زهرة أكثر حكمة مني، وأكثر عقلًا مني لذلك أُلقي عليها بما أراه، وحينما تؤكد أنّ هذا الشيء جميل وجديد أفرح وساعتها أُقيمُ احتفالًا".
لعل أهم ما قاله الصحفي اللبناني أنيس غانم في إطلالته الثانية أنّ غيلان هو حالة فريدة فلن تجد كثيرين في هذا الكوكب ممن يؤخّرون دفع إيجار منزلهم في سبيل دفع كلفة "جسور"، المجلة الفصلية التي يُصدرها من رصيده الشخصي المُخصص للعائلة أصلًا. وهذا هو دأب المبدع الحقيقي الذي يشعر أنّ الثقافة هي هاجسه الأول والأخير.1234 ghaylan
منشورات خارج المُصادفة
لم تكتفي زهرة بالحديث عن أطفالها أو قراءة واحدة من قصائد غيلان وإنما تذهب أبعد من ذلك حينما تتحدث عن أول مشروع ثقافي عربي لهما بعنوان "منشورات خارج المُصادفة". فمنذ وصولهما إلى أستراليا سنة 1993م كان غيلان يفكر بتأسيس مشروع يُعنى بالنتاج الثقافي العربي الذي تُبدعه الجالية العربية في أستراليا وأن يصنع منه جسرًا بين ثقافته الأم الغنية بإبداعاتها وبين الثقافة الموجودة في أستراليا.
حسنًا فعل المخرج هادي ماهود حينما زجّ المصورة الفوتوغرافية الأسترالية كارين هاو لتدلو بدلوها وأن كان حديثها مُقتضبًا جدًا لأنها ركّزت في كلامها على دورها الفني المحدود في رسم التخطيطات الفنية لقصائد غيلان أو تصوير قراءاته الشعرية في بعض الندوات والأمسيات الثقافية التي تُنظّم في مدينة هيزلبروك. والغريب أنّ كارين كانت تنظر إلى غيلان الشاعر كطفل بريء أيضًا يتحدث بلغة مفهومة من قِبل الجميع، وترى أن قصائده مليئة بالعاطفة الإنسانية والشجن الرقيق.
يبدو أن الصحفي والناقد اللبناني أنيس غانم ملمّ بطريقة تفكير غيلان مثلما هو متبحر في قصائده فلا غرابة أن يصفه بالگلگامشي الذي لم ينسَ بصماته التي ما تزال محفورة على أرصفة بغداد كشرائع حمورابي. وأنّ غيلان حينما يطرح السؤال السياسي في شعره فهو يلامسه ملامسة خفيفة لكنه يكون فجًا حينما يسمّي الأشياء بمسمياتها ويقول "أمريكا" من دون خوف أو تردد أو مواربة. ورغم أنّ هذه القصيدة تبدو تقريرية ومباشرة إلّا أنها مؤثرة جدًا ومنطقية إلى حدٍ بعيد ينفّس بواسطتها ما يدور في ذهنه وعقله الباطن عن الصورة البشعة التي رسمتها أمريكا في ذاكرة الناس الجمعية حيث يقول:"أمريكا صانعة الجذام والندم / يا فايروس الخراب / يا حشرة الكراهية /أمريكا يا آلهة الجريمة / في فجر ما سيحدث ذلك / طبولٌ ونارٌ في الجبال / في السهول / في الكهوف / في الصحارى / في الأهوار / في المدن على الضفاف / وفي البحار / أمريكا جرذانكِ / كلابكِ / ذبابكِ كلها ستتخلى عنكِ / أقراطكِ التي أصغت لعرائنا / ستكون طعامًا لثقوب سوداء / ناطحاتكِ التي تتقزز من فندقنا الرخيص / مقهى للسواق ستكون / أسلاك الكهرباء تستقيل من الخجل / البرامج تستسلم للضحايا / وإلى مدارس الحضانة تعود الإليكترونات / أمريكا وحدكِ ستقرأين جذور الندم / ستذكرين بابل، أرميا، قصور روما / ولكن لا شبيه ولا عزاء لمثل ذلك الفجر / لغات الأرض ستمنع التوبة عن فمكِ / ستولولين مُصغيةً إلى أطفال العصور / أطفالكِ أطفالنا أطفال سومر / أمريكا ماذا تريدين؟ / أريد غفرانكم".1230 ghaylan
الخيال السمعي
في إطلالته الرابعة والأخيرة ينقل لنا الصحفي اللبناني أنيس غانم بعضًا مما جاء في حوارات أدونيس الذي سمّى بها غيلان في مرحلة سابقة بـ "النبتة الشيطانية في الشعر العربي" كما أشار إلى واحدة من ومضات أدونيس التي قال فيها عن غيلان جملة مهمة "اعتنوا بغيلان لأنكم لا تُدركون ماذا تملكون هناك"!
يميل المخرج هادي ماهود إلى صنع نهايات رصينة أو منطقية تفتح أفق المتلقي على خيال جامح قد يستدعي الماضي سواء بـ "أبوذيّاته" أو بأغانيه التراثية الفلوكلورية التي تثير فينا ذكريات الزمان والمكان والأحداث التي جرت وقائعها على بقعة ما من أرض الرافدين التي يحملها معه حتى المُقتلع من جذوره ويضعها في قارورة يشمّها بين آوان وآخر فيشعر ببعض الراحة والاسترخاء. يقدّم لنا غيلان قصيدة من شعر "الأبوذية" العراقية التي يقول فيها الشاعر:"يا حادي الطور بلله عليك غَمجة / ولك بِري اللي ما درى بالجرح وشكُثر غُمجة / يا حفّار هذا الگبر غَمجه / عسى ما أسمع بعد منهم رديّة(1) أمّا مسك الختام لهذا الفيلم فهي أغنية "للناصرية، للناصرية / مرّ بي وأمشي وياك للناصرية / عنّت عليّ / والديرة يا محبوب عنّت عليّ " إلى أن يتلاشى صوت الأغنية تدريجيًا مثيرة فينا الخيال السمعي هذه المرة.
لا بد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى براعة الفنان التشكيلي أدور هيدو، وجمالية موسيقى منير بشير التي أشاعت في الفيلم مناخات حميمة مختلفة تتماهى مع مزاج كل شخصية من شخصيات الفيلم على انفراد.
***
عدنان حسين أحمد - لندن
.......................
1- الأبوذية هو ضرب من الشعر الشعبي يتألف من أربعة أبيات فقط تنتهي الأبيات الثلاثة الأولى منها بالكلمة نفسها أمّا الرابعة فتنتهي بـ "يّة" ويشتهر بهذا النمط أهل المناطق الجنوبية من العراق.

في المثقف اليوم