حوارات عامة

حوارات عامة

3575 طارق سعيد احمدلا وجود لرؤية دون استقلال فكري مطلق

دعا إلى تأسيس ثقافة المراجعة

***

المتأمل في حوار الشاعر والإعلامي المصري طارق سعيد أحمد أنه مُتَحَرِّرٌ من صفات المُجاملة التي تضرّ ولا تنفع إذ نجده يطرح رؤاه النقدية بصراحة تامة ويحرص على إثارة قضايا فكرية، لا يريد بها تسخين الدف كما يقال بل وضع النقاط على الحروف والوقوف على تحولات الفكر والسياسة وما منيت به الأمّة من هزائم، الأمر الذي أدى إلى تشخيص الواقع العربي الراهن على كل المستويات السياسية الفكرية والثقافية ومختلف المشكلات وتأثيراتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبخاصة ما يجري في الساحة الدولية والحرب الروسية الأوكرانية التي اثرت سلبا على الإقتصاد العالمي ككل، كنت أتابع كتابات الشاعر وأفعلامي طارق سعيد أحمدج عبر فضائه الأزرق وكنت أعتقد أنه شخصية معقدة، من تلصعوبة بمكان أن تعرف مذهبته وغيديولوجيته، ولكن بعدما التقيت به (افتراضيا) وأجريت معه هذا الحوار تبين لي أن الشاعر طارق سعيد أحمد متفتح الذهن وجريء في حواره مع الآخر وهو بذلك يدعو إلى تأسيس ثقافة المراجعة، في هذا الحوار يبين الشاعر طارق سعيد أحمد مواقع الخلل بعقلانية محاولا ربط المجال الثقافي بالبعدين الفكري والسياسي وبحكم مهنته كإعلامي يتبين مدى اطلاعه على أحداث الساعة ومتابعته مجرياتها وإعادة صياغتها من جديد، هي رسالة وجهها طارق سعيد أحمد إلى المثقف العربي ودوره في احتوائه القضايا العربية على درجة كبيرة من الإهتمام والإلمام والتزامه الواقعية، ولاشك أن القارئء سوف يجد في حواره نكهة خاصة.

من هو طارق سعيد؟

طارق سعيد أحمد من مواليد القاهرة 1982، حاصل على بكالوريوس إعلام جامعة القاهرة، شاعر صدر له ديوان بعنوان "تسيالزم، اخناتون يقول" وله تحت الطبع 4 دواوين شعرية ورواية بعنوان "المخبأ"، كتب المقال النقدي والسياسي، كما عمل في العديد من الصحف المصرية والعربية والعالمية منها: صحيفة الدستور، صوت الأمة، البوابة نيوز، المقال، الجريدة، مجلة الدانة الدولية، الصدى نت، الحوار المتمدن، الشرق الأوسط اللندنية، يعمل حاليا رئيس قسم الثقافة بصحيفة الديار.

علجية عيشحدثنا عن تجربتكم الإعلامية وموقفكم من قضايا الساعة؟

- من حين إلى آخر أرى نفسي أقف في ميدان واسع جدا – مثل ميدان التحرير- ومن كل حولي تنبثق الشوارع، وصحيفة "الديار" طريق لم أمشي فيه من قبل، السنوات الـ7 الفائته كنت كاتبا حرا، قبل أن أتولى رئاسة القسم الثقافي ضمن باقة من رؤساء أقسام الصحيفة، وتحت مظلة رئيس تحرير مغامر وذو رؤية صحفية وهو الأستاذ سيد الضبع، وإدارة رشيدة للمهندس أحمد عامر رئيس مجلس إدارة الصحيفة، قبل ذلك بقليل كنت مراسلا لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية وكنت أكتب المقال في صحيفة "المقال" بجانب مقالي في موقع "الحوار المتمدن" وغيرها من الصحف، أما الآن فأنا لست مسؤولا فقط على ما أكتبه وذلك عبء - بمذاق القرنفل - أتمتع به بقدر الإمكان، محاولا أن أصنع صحافة ثقافية تليق بمصر، ما يجعلني مدفوعا بقضايا ثقافية كثيرة مثل "الفساد الثقافي" الفردي والمؤسسي لأنه يحجب خلفه أرقى العقول المصرية الأصيلة ويطمس تجارب إبداعية هامة

كيف تقيمون العلاقات الجزائرية المصرية؟

- أحترم الشعب الجزائري وأقدر تجربته ونضاله الذي علم ومازال يُعلم معنى الحرية، أؤمن بأن علاقات الشعوب هي الأبقى والأروع إذ قورنت بالعلاقات الرسمية بين البلاد، الأنكى من ذلك أتصور أن الأنظمة والحكومات تعوق انصهار الشعوب وتذويب الثقافة وتبادل الخبرات، كان مدخلي الأول إلى الرقعة الجزائرية في طفولتي هو فيلم "جميلة بوحيرد" ومازالت تتحرك داخلي معاني الإصرار على الحرية كلما جاءت سيرة الجزائر أو تم عرض الفيلم، أود أن أقول أن الإبداع هو الباب الأرحب للولوج إلى العوالم كان ومازال، ولست راضيا كل الرضا على العلاقة بين الشعبين، الآن هي مستقرة لكنه استقرار سلبي لا حراك فيه، أقول ذلك ولي أصدقاء الآن أصحاب دور نشر مشاركون في معرض الجزائر للكتاب، ولكن هذا لا يكفي فالفرص الضائعة كثيرة وعلى المجتمع المدني مد الجسور أكثر بين الشعبين

استيقظ العالم كله على الحرب الروسية الأوكرانية، كيف تعامل الإعلام العربي مع هذه الحرب؟

- أغلب الإعلام العربي غير مستقل بالمعنى الذي يقربه من فكرة الحيادية والموضوعية، فانحيازاته الضمنية تعوق المتلقي في تكوين رأي موضوعي عن ما يحدث لكنه يتلقى الأخبار –أي المتلقي – وهي مشبعة بالإنحياز الضمني هذا، ويضعفه أيضا تبعيته السياسية الواضحة لذلك يصعب التقييم الدقيق

هل ممكن أن تؤثر الحرب على الدبلوماسية العربية مع أوربا؟

- تأثرت الشعوب اقتصاديا بالحرب الروسية الأوكرانية وبالتالي ستتأثر العلاقات الدبلوماسية لكن بشكل طفيف - بمعنى آخر - التأثير الدبلوماسي سيكون أقل وطأة من التأثير الاقتصادي على الشعوب، الضامن في ذلك هي توازنات الأنظمة والمصالح المشتركة بين الحكومات

التطبيع يشكل خطرا على المصالح العربية فماذا عن القضية الفلسطينية؟

- القضية الفلسطينية.. لها الله

كيف يمكم تجاوز التراكمات لإعادة إحياء القومية العربية أو ما تبقى منها؟.. ولماذا نعيد احياء أكذوبه مرة أخرى؟

يدور جدل كبير حول الحداثة والإسلام ماذا تقولون في هذه المسألة؟

- تتسع مساحات الجدل كلما نشبت مقارنة بين ما هو ثابت ومتحرك، وتحل نسبية آينشتين في هذه المساحات الشاسعة وتحتلها، وما اندهش منه هو تعطيلها خلال ممارسة الجدل، رغم أنها مفتاح سحري للهبوط على أرض الواقع بعدما ينتهي الفكر من ترتيب السياقات وكتابة توصياته ومقولاته، الحداثة فكر انساني حضاري بإمتياز انتجه الإنسان بعد هضم موروثه وانتج من خلاله حزمة من المصطلحات الخاصة به وفي بلدان كثيرة تم اختباره ومن ثم أقره المواطن العالمي ولم تقره الأنظمة العربية إلى وقتنا هذا!، لأن العلمانية على سبيل المثال تقلص نفوذ الساسة ورجال الدين أيضا، أرى أن الوعاء الحداثي مثلا يتضح بالعلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني، مثلا، أليست هذه الكلمات ما راح ضحيتها آلاف الشباب خلال الثورات والإحتجاجات على مستوى العالم قديما وحديثا لتحقيق العدل على الجميع دون تمييز، إذًا هذا الصدام أو الجدل الدائر بين الحداثة والإسلام هي حلقة من حلقات الجدل الأشمل وهو علاقة الإنسان بالعالم وقد سبقها الوجودية والإسلام والماركسية والإسلام إلخ.. لكن السؤال الأهم هو.. ما الإسلام الذي نتحدث عنه؟

ألا تلاحظون أن غياب الحوار قتل فكرة التعايش مع الآخر؟

نضع أيدينا الآن بهذا السؤال على مأساة الإنسان المعاصر

بالمناسبة رفعتم شعار أن المختلف معكم لا ترونه شيطان، ككاتب وشاعر ماذا تقول في أدب الاختلاف؟ وكيف يجد طارق سعيد أحمد ذاته مع الآخر؟

- خلاصة فهمي لأدب الإختلاف أضعها في مقولة "المختلف معي لا أراه الشيطان، لا لكرم أخلاقي، إنما احترم فيه الإعتراف باختلافي"، وفي حقيقة الأمر لا أبحث عن ذاتي في الآخر، فمازلت أبحث في ذاتي

بعض المثقفين لا يتفاعلون مع الأحداث بحجة التخصص، كيف ترون رسالة المثقف العربي؟ وهل هو غائب أم مغيب؟

- يختبئ المثقف خلف حجة التخصص منذ القدم – في هذه اللحظة – لا يمكن أن تحميه لفترة طويلة من السؤال عن رأيه واستفزازه وهذا فضل يحسب لمواقع التواصل الاجتماعي، والفضل الآخر – وهو فضل سلبي – أنها أذابت الفواصل بين الصفوة والعوام فلم تعد الآراء رأسية تنهمر من أعلى إلى أسفل بل أصبحت أفقية ويطفو من هذا المنسوب شبه المستقر الأفكار الراسخة كالجبال والفقاعات أيضا، ولا يمكن الحكم عليه – أي المثقف – بأنه غائب أو مغيب قبل أن يكون حرا بما يكفي.

كشاعر هل تؤمنون بالاستقلالية الفكرية، وأين نجد طارق سعيد أحمد في عالم الشعر، هل يكتب بوجدانه أم بعقله؟

- الشاعر رؤية ولا وجود لرؤية دون استقلال فكري مطلق، منذ قرار نشر ديواني وأنا أحلم بأن أكتب اسمي على مساحة سنتيمتر مربع على خريطة الشعر الإنساني/ الكوني، ولا أطمع بأكثر من ذلك، وكتابة الشعر هي حالة أنتصف فيها بين الواقع وبين الحلم أو بمعنى آخر الوعي واللاوعي، لذلك تنصهر كل مكوناتي وخصائصي أثناء الكتابة، فلا أعرف إن كنت وجدانيا أم عقلانيا أم شيئا آخر، وكتبت الشعر قبل أن أتلقاه من كل ما صادفني من نصوص لشعراء أو بحثت عنهم لأنهل من حلو شعرهم مصريا وعربيا وعالميا، لكنني لم أتأثر بأحدهم على مستوى النص لكن لا يمكن انكار فضل ما قرأته على

في ديوانكم "تسيالزم" لماذا اخترتم إخناتون بالذات؟ هل هذا له ارتباط بالحضارة الفرعونية؟ وما تقصدون بـ: تسيالزم؟

- لا شك في أنني أحاول الربط بين الحضارة المصرية القديمة واليوم باستحضار "اخناتون" واختياري له أسباب منطقية كثيرة، لكن السبب الأهم هو سبب لا منطقي على الإطلاق أحب الاحتفاظ به حتى لا أتهم بالجنون، أما بالنسبة لـ "تسيالزم" فهو نحت لغوي لجأت إليه للإشارة إلى مشروعي الشعري دون إلتباس فهو عبارة عن حرفان من اسمي "t.s" والباقي آخر حروف من كلمة "سريالزم"، وسوف أنشر إصداراتي كلها تحت نفس العنوان مرقمه 

كيف تفسرون انتقال الهايكو الياباني إلى القصيدة العربية؟ وماهي مواطن الاتفاق والاختلاف بينهما؟

- أكثر من ثلاثة قرون كافية لانتقال الهايكو الياباني منذ نشأته على يد الشاعر "باشو" إلى كل زوايا الكوكب، وهو أسلوب يليق بالشعر حيث الإختزال إلى أعمق كثافة ممكنة للدلالة، مصريا وعربيا هناك خلاف على مستوى الشكل، إنما على مستوى المضمون الكثير من الشعراء تكتبه، وأفضله ونشرته نثرا في ديواني "تسيالزم، اخناتون يقول" وأتعامل معه معاملة الأحجار الكريمة النادرة.

في ظل الحصار الذي تفرضه بعض الأنظمة، يعاني الناشرون من أزمة النشر ماهو السبيل لتحرير الناشرين من هذا الحصار؟

- حتى يتشكل العالم من جديد، تحرر الكاتب من قيود الكتاب الورقي – السياسية والإقتصادية – بنشر أفكاره على مواقع التواصل الاجتماعي فأطلق سراح أفكار الناشر وبالتالي ظهرت دور النشر الإلكترونية والكتاب الصوتي، رغم أنها وسائل عصرية يستخدمها الجميع لكنها أنقذت الأفكار من الجفاف والتحجر

كلمة أخيرة

- "قطرة الماء تثقب الحجر لا بالعنف ولكن بتواصل السقوط"

***

التقت به علجية عيش

 

3568 علي الامارة

الشاعر علي الامارة:

* يكون الشعر بطعم الحلويات حين يكون صادقا كتجربة

* المشتركات بين الشاعر والفيترجي كثيرة اهمها الدقة

* اخر الارتحالات كان الموت فالموت ابو الارتحالات

* لا اريد ان اخسر الفيترجي والقصاب وعامل النظافة وربة البيت

* كانت سفرتي تلك الى الموصل سفرة الى القمر

* يحيى السماوي لوحده قادر ان يجعل وجه الصحراء اخضر

* (غلس) على الجواب فرحمة شيبته وسكت

***

هو قامة ادبية شعرية بصرية بصراوية اجتمعت فيه كثير من ملامح الاسلاف ومن هؤلاء الاسلاف الفرزدق والاصمعي والجاحظ والفراهيدي وحتى له شيئا من رابعة العدوية.. يتفرد في العمود ويعوم مع الناثرين ويحاور الساردين ولايخلو حديثه من طرفة ولا يومه من رسالة وله مساهمات وتفرد في الشعر المحكي من خلال (الابوذيات) جمعني به اكثر من مجلس ورافقته في اكثر من سفر وكان جليس لذيذ ورفيق سفر لا يمل واليوم قررت مقاجأته بدردشة رمضانية لم تكن في حساباته فتعالوا معي الى هذا الفيض البصراوي من الشعر والطيبة في حضرة الشاعر علي الامارة..

* ماهي قصة أذان (حجي) طوينه؟

* السؤال الاول ترك لانه يثير الطائفية.. هههه

* متى يكون الشعر بطعم (الحلويات)؟

* يكون الشعر بطعم الحلويات حين يكون صادقا كتجربة حياتية وتجربة فنية اي ان يتوازن بين الفن والتجربة.

* ارسلت (المره) للحج ولم تذهب انت.. هل هي امتناع عن رجم الشيطان؟

* (المرة) ام تمام حجية وانا عمري هي طلع لها القبول للحج وانا حصلت على عمرة رأيت من خلالها اجواء النبوة ونزول القرآن الكريم بل انا القيت محاضرة على بعض الشبان العرب في غار حراء.. ووقفت عند جبل احد وجبل الرماة فتذكرت موقعة احد وتصورتها تاريخيا بمساعدة الجغرافيا.. تأملت المكان وقرأت من خلاله التاريخ..

* ماهي المشتركات بين الشاعر و(فيتر) السيارات؟

* المشتركات بين الشاعر والفيترجي كثيرة اهمها الدقة فحتى لا تصبح سيارة الشاعر الشعرية عاطلة عليه ان يأخذ الدقة من الفيترجي.. وعليه ان يصلح قصائده ويفحصها قبل النزول بها الى الشارع.. الشاعر والفيترجي كلاهما يصححان اخطاء العالم.

* كتبت عن الراحل حسب في حياته.. بماذا ابنته بعد الموت؟

* كتبت عن الراحل حسب الشيخ جعفر قصيدة عام ١٩٨٦ ونشرتها في حينها في جريدة القادسية وحين التقيت به مرة اعجب بها وشكرني ولا سيما اني كتبتها بطريقته في القصيدة المدورة.. والقصيدة تصلح للموت والحياة لذلك نشرتها بعد موته رحمه الله.. وعنوان القصيدة (ارتحالات) وهي عن ارتحالاته الكثيرة في الحياة والشعر واخر الارتحالات كان الموت فالموت ابو الارتحالات

* هل انت شاعر نخبوي؟

* انا شاعر شعبي اكثر مني نخبويا لأني لا اريد ان اخسر الفيترجي والقصاب وعامل النظافة وربة البيت و لا اريد ان اخسر حبيباتي شعريا لانهن يردن شعرا واضحا.. ألم يقل ابو نواس:

* جنان ربة البيت تصب

* تصب الملح في الزيت

* فقيل له ما هذا الشعر.. فقال: انه عندها اهم من قفا نبك.

* ولكن عندي قصائد مثيرة نخبوية ولكني مع هذا اضع فيها مفاتيح للجميع لأن شعاري (الفن للجميع)

* ارسلت للموصل (55) رسالة هل لرقم خمسة علاقة بالامر؟

* جاء رقم قصائدي الى الموصل عفويا فقد كتبت الديوان وطبعته خلال شهر واحد من احتلال الموصل.. فقد احسست بأن الموصل هي العراق كله لانها الكفة التي يتوازن بها العراق مع الجنوب.

وحين تحررت الموصل كنت اول اديب ذهب لها وقرأت ال ٥٥ قصيدة على جمهور الادباء والمثقفين وسط اصغاء عجيب ومهيب.. لا ادري كيف قرات ٥٥ قصيدة في جلسة واحدة.. كان الموصليون يريدون ان يسمعوا هواجسنا ومشاعرنا ازاء نكبتهم فعرفوا من خلال القصائد بأنها نكبتنا مثلما هي نكبتهم لأن الوطن جسد واحد اذا اشتكى منه عضو تداعت له الاعضاء الاخرى بالسهر والحمى.. فعلا كنت محموما الى ان تحررت الموصل.. والديوان كان قصائد حمى وموت.. كانت ليلة عظيمة اقمت فيها جلستين شعريتين واحدة عصرا لاتحاد الادباء والثانية ليلا لنادي الكتاب

وثاني يوم اخذني رئيس اتحاد ادباء الموصل الشاعر عبد المنعم الامير الى الخراب كانت الجثث تحت البنايات المنهارة ووقفت عند منارة تلحدباء وقبر النبي يونس وجامع النوري وكل المكانات التي كنت كتبت عنها في الديوان

لقد كانت سفرتي تلك الى الموصل سفرة الى القمر..

* هل تبحث عن سلفة من مصرف الرافدين؟

* لا ابحث عن سلفة لا احب ان اكون مطلوبا فانا مطلوب نوم فقط..

* يشيع البعض انك عند حصولك على قطعة ارض تريدها (ركن) لماذا؟

- اشاح بوجهه عندي فتاكدت عندي الاشاعة انه يرغب ببناء فرن صمون

* اين تقع (كردلان)؟

* كردلان في البصرة وهي من الفراديس المفقودة في الوطن.

* من هو (بشار) صاحب الشارع في البصرة القديمة؟

* بشار هو بشار بن برد من المجددين في الشعر العربي والرواد وان كان زنديقا.. لذلك لم تمش وراء جنازته سوى أمة سوداء تصيح وابشاراه وكانها تصيح واشعراه.

* من اين جاء لقب (الامارة)

* لقب الامارة جاء من امارة ربيعة فجدي السادس والسابع وما قبلهم كانوا يسمون بالامير.. وانا اكتفيت بأمارة الشعر لاني اراها ابقى واهم.١٢ اجد نفسي في كل اشكال القصيدة لاني اراها فضاءات شعرية متعددة وان القصيدة عندي تختار شكلها وفضاءها الذي يليق بها..

* اين تجد نفسك.. في قصيدة العمود او في رحاب قصيدة النثر؟

* وقد فزت بجوائز عراقية وعربية بكل اشكال الشعر.. المهم ان تحافظ القصيدة على روح الشعر.

* اشتهرت بصنع المقالب واطلاق النكات.. ماهو اصعب مقلب شربته؟

* ١٣ الحياة في كثير من الاحيان تشبه النكتة تنتهي بمفارقة مضحكة او مبكية واهم المقالب التي شربتها هي في الحب لأني ينطبق علي قول المتنبي:

فلا امر برسم لا اسائله      ولا بذات خمار لا تريق دمي

فذوات الخمار والجمال ارقن دمي في ازقة الحب وشوارعه العريضة.

* متى قلت اخر نكتة وماهي؟

* النكتة يا صديقي تشبه قصيدة الومضة لذلك هي من اختصاصنا نحن الشعراء.. فلو تتبعت مصادر النكات ستجد انها خرجت من افواه الشعراء او الغاوين الذين يتبعون الشعراء.

* هناك خمسة اسماء صارحني برايك في كل واحد من اصحابها:

* جبار الكواز؟

* جبار الكواز تاريخ من الشعر يحمل سحر بابل بين اكتافه او عليها.. منذ ان فرشوا بيتهم القديم باحجار من بابل القديمة سحره المكان والتاريخ والشعر.

* زكي الديراوي؟

* زكي الديراوي ترتسم فيه طيبة البصرة فعندما نراه في مشروع ادبي او ثقافي نطمئن لأن البصرة ستكون حاضرة في المشروع بطيبتها.

* عبد السادة البصري

* عبد السادة البصرة بقيت الفاو عالقة على احداقه واصابعه رغم خروجه المبكر منها.. ظل قميصه الفاوي اجمل قمصانه الشعرية.

* داود الغنام؟

* داود الغنام عرف ان يقف بين القصيدة الشعبية وبين الاغنية التي اقرب الى شفاه الناس.. لقد قال ارسطو للاسكندر حين اراد ان يغزو العالم قال له: حين تدخل مدينة اسأل عن كتاب اغانيها فهم اعرف الناس بها.. داود يعرف من اين يفتح قلب المدن.

* كاظم الحجاج؟

* كاظم الحجاج ضمير المدينة والوطن ايضا فحين يقرا قصيدة في مهرجان ما.. فان الجميع يصغي بعمق له لان الجميع يحب ان يستمع الى الضمير الجمعي للوطن.

* ماذا وجدت في السماوة عندما زرتها؟

* السماوة سحرتني كنت اتصور انني ساواجه الصحراء عندما زرتها حاملا سلة قصائدي اليها ولكنها فاجاتني بأنهارها واشجارها واشعارها فوجدت صحراءها مزروعة بالقصائد.. لقد خدعتني الجغرافيا فصحح التاريخ خديعتي.. يحيى السماوي لوحده قادر ان يجعل وجه الصحراء اخضر بالشعر والحضور الابداعي الخصب.. انا مغرم بهذه المدينة.

* من هي الملهمة؟

* ملهماتي كثيرات ومثيرات واولهن البصرة.

* متى كان اخر عهدك بالصبا والشباب؟

- (غلس) على الجواب فرحمة شيبته وسكت

* في حضرة من انت تلميذ مطيع؟

- همس باذني بتودد قائلا: في حضرة (الحجية)

***

حوار: راضي المترفي

 

3560 طارق الكنانيطارق الكناني:

- تدخن علبتي سجاير وهي على فراش الموت

- الكل يعشق لغة الجسد بما فيهم الوعاظ

- كلاهما تشم فيه رائحة الشواء

- العرق موجود في العراق مذ كان العراق عراقا

- كل مازرت السليمانية ذهبت إلى ذلك التمثال

- كلهم دمج لم تعد الصفة تطابق الموصوف

- صديق طفولة ولكنه غير مستقر عاطفيا

***

من يتمعن بملامحه يتصوره مستفز لكنه هاديء في حقيقته مع ميل طفيف للملل وهبه الله بسطة في الجسم وبشرة مشربة بحمرة مارس الحياة المصرفية حتى وصل الى درجة مدير وعمل في الصحافة حتى تزاحمت مشاكساته وتعددت الدعاوي المقامة ضده من المسؤولين حد طلب احدهم تعويص يقدر بمليار دينار لكنه كان يخرج منها سالما كونه لم يطلب يوما شيئا لنفسه انما كان يمارس واجبه كعين مبصرة واصبع يشير دائما الى موطن الخلل لذا احبه من زامله وخشى قربه كل مسؤول قريب من هوة الخطأ وبطبيعته ساخر يحب المرح و النكته ويحب السفر ويعشق البحر واليوم تعالوا لندردش معه من دون حذر ..

* قبل ان اجيب لابد لي ان اشكر العزيز المترفي على هذه المقدمة الجميلة واقول لك انك قد وضعت اصبعك على مكان في نفسي لم يزل محل صراع بيني وبينها ولم استطع ان الجمها يوما عن قول الحقيقة مما سبب لي المتاعب مع المسؤولين .

* هل انت من احفاد حسقيل؟

- حسقيل هو الأب الروحي لكل من عمل في مجال المال فهو ارسى قواعد مالية كثيرة.. نعم بودي ان اكون من احفاده فأنا اعشق سيرته وانجازاته .

* عدد ثلاثة انواع من التقارير واشرح الرابعة منها؟

- فعلا التقارير متعددة الانواع، وحسب عملي هناك تقارير مالية تقدم يوميا، وشهريا، وسنويا وتقارير كيدية، هذه ليس لها موعدا ثابتا، وتقارير حزبية، وهذه هي الاخرى مستمرة منذ قيام الساعة ولحد الآن، وهناك تقارير صحفية . وأنا اعشق التقارير الصحفية ودائما ما اكتبها عند حضوري لمهرجان او زيارتي لمواقع ومدن فيها روح الماضي وهذا النوع من التقارير يطلق عليه احيانا ادب الرحلات وقد كان لي في الايام الماضية تقريرا حول رحلتي الى جزيرة كيش او قيس وشيراز عاصمة الاخمنيين والسلاجقة .

* ما هو الفرق بين النصاب والانتصاب في حالة عدم الاكتمال؟

- الحقيقة كلاهما يوسع الشق العراقي ولا فرق بينهما سوى بعدد الحروف والمفردة الاخيرة استخدمها بدلا من الاولى للتعبير عن الاستياء .

* هل ماتت كرجية ماسوفا على شبابها؟

- رحمها الله كانت لنا اما بعد وفاة الوالدة وكنت كلما اشتقت للوالدة ذهبت الى النجف لأرى كرجية وقد جاوزت المائة بقليل ولكنها تحتفظ بذاكرة حديدية ولسان طلق وسريعة النكتة وكثيرة المزاح رحمها الله كانت تدخن كثيرا ففي اخر زيارة لها كانت تدخن علبتين من الدخان يوميا فكنت اتحمل هذا الدخان مرغما لأنه دخان كرجية ...وجكايرك يذكرني بيها .

* ماهي علاقة (الشورت) بالحب؟

- لعلك تشير الى بعض المنشورات التي احاول من خلالها ان استشف اراء المتابعين. ارى ان الكل يعشق لغة الجسد وحتى المعترضين والذين يحاولون الظهور بمظهر الواعظ لم نجدهم بالمنشورات الهادفة ولم يعلقوا ولم يضعوا بصمتهم ولكنهم حين تضع هكذا صور يكون حضورهم وفيرا ..وآخر منشور كانت هناك صورتان الاولى لعشاقين والحقيقة هم زوج وزوجته كانوا يقضون شهر العسل على سواحل الخليج صورتهم بعدستي،ووضعت الصورة الثانية لعارضة ازياء ولكن للأسف لم ينتبه احد لصورة البحر والعشاق والكل علق على صورة الشورت .

* ماذا يكتب حمودي؟

- يكتب الحياة ومفارقاتها وما فيها من الخيبات والآمال والطموحات .

* ما هو الفرق بين المعارك والمطابخ؟

كلاهما تشم فيه رائحة الشواء

* من هم (فراخ المدس)؟

- كل من حاول اغتيال نخلة عراقية او جرّف شجرة عراقية أو مس شعرة من جديلة عراقية،وكل من روع فاختة على شجرة وسلب طفلا عراقيا حقه في الرضاعة كل هؤلاء فروخ المدس .

* كيف نميز المجاهدين من غيرهم؟

- لا بد لنا بداية ان نعرف من هو المجاهد: المجاهد من يردع نفسه عن كل فعل من شأنه ان يضر بالآخرين (واقصد بالآخرين ابناء شعبه)، والوطن ويمنع الاضرار بهما ...اذا طبقنا هذا المعيار سنعرف من هو المجاهد .

* ايهما أشد عقوبة بيع المشروبات الروحية او الاتجار بالمخدرات؟

- اعتقد ان المخدرات هي الداء الذي لا ينفع معه أي دواء ويمكن من خلالها هدم البنية الفوقية للبلد من خلال تشجيع الشباب على الادمان عليها،المشروبات لم تفعل هذا الفعل فهي موجودة في العراق مذ كان العراق عراقا ولازالت وتأثيرها غير مؤذي ويكفي قول عمرو بن كلثوم فيها:

مشعشعة كأن الحص فيها .... إِذَا مَا الْمَاُء خَالَطَهَا سَخِينَا

* لم تحصل على الشهادة في العراق هل تبحث عنها في أوكرانيا؟

- درست في عدة دول منها بولندا والاردن ولي شهادات منها ....ولم ارغب بالدراسة في اوكرانيا فقد اكتفيت تماما من الدراسة .

* هل اطلعت على النظام الداخلي لحزب الحمير؟

- سمعت مرة الامين العام للحزب يتحدث عنه، ولكني كنت مستغرقا بالضحك لما يقول، ولم انتبه للتفصيلات الدقيقة، ولكني كلما زرت السليمانية ذهبت الى ذلك التمثال لالتقط له الصور وقد فعلتها قبل اربعين يوما تقريبا مع اولادي وقبل وصولنا الى سوق مولوي للتسوق كانت لنا وقفة مع التمثال الخاص بالحزب .

* أين يقع حي البعث؟

- مازال في مكانه يحد كربلاء من جهة الغرب . صامدا لا يوجد شيء تفتقده عند التسوق الا وهو موجود هناك . وبقي على نفس الاسم رغم استبداله بعدة اسماء منها العروبة واكد واليرموك واخيرا الغدير .

* من هو عمر بن العاص المعاصر؟

- لا اعتقد ان هناك شخص من ساسة العراق يستحق او يتمكن من اللحاق بعمرو بن العاص بن وائل فهو سفير قريش لدى النجاشي وامبراطور الروم وهو الساعد الايمن لمعاوية في بناء الدولة الاموية وهو من انقذه في آخر لحظة في معركة صفين ... وهو صاحب القصيدة الجلجلية.. ولكن ربما يشبهون عورته يوم كشفها في صفين.

* متى كان آخر عهدك بالوكاحة؟

- لم اعد اتذكر فقد طال بنا العمر، ولكن انا متأكد بأني لم اعد وكيح .

* أين يجد الباحث أثار العراق؟

- في كل الدول عدا العراق

* منهم منتحلوا الصفة في العراق؟

- كلهم دمج، لم تعد الصفة تطابق الموصوف في العراق واولهم المحللون .

* متى تتوقع تنتهي (طلايب) الجماعة؟

- بهلاكهم جميعا

* عدد أسماء سبعة شوارع؟

- شارع ام الهوى،شارع الصد مارد، وشارع محرم عيشه،واربع شوارع باليرموك ..اعتقد صارن سبعة .

* من قال لك دع القلق وابدأ بالحياة؟

- لم اكن قلقا يوم ما فالأمور عندي بعواقبها .. واتمثل دائما قول الشافعي دع الايام تفعل ما تشاء .

* لدي خمسة اسماء لك ان تصفهم مدحا او هجاء ..

* ناصر الياسري؟

صديق الطفولة ولكن غير مستقر عاطفيا

* علي حرز؟

حقيقة لم اعرف الرجل

* جواد غلوم؟

الميمك الحزين ..شاعر وجداني وصديق صدوق

* اياد خضير الشمري؟

قرأته فامتعني ..فيه يتجسد الوفاء

* احمد الجنديل؟

روائي واعلامي احترمه كثيرا وقرأت له الكثير يدهشني بتواضعه

* اذا فاتني شيئا اخبرني به؟

- لم تبق ولم تذر يا مترفي نبشت التاريخ بأ برة حتى كرجية لم تخلص منك .شكرا لك على هذه الدردشة التي اخرجتني من عزلتي الرمضانية .

***

حاوره: راضي المترفي

 

3555 عدنان النجمحوار راضي المترفي مع الأديب الأستاذ عدنان النجم..

- ربة البيت أكثر ازعاجا

- لهذا سمي بعلقمة الفحل

- النظام العراقي يعاني من عدم الثبات على فكر معين

- الصلع لا ميزة ولا مثلبة لأنه ليس اختيارا

- قضيت ثلاثة سنوات جنديا في ميسان وتكريت والغزلاني

- على الإعلامي امتلاك الكثير من الأقنعة

- بحثت عن (اليواخين) في عدة لغات ولم أجد لها أثر

- أفتخر كوني ابن الهور العظيم

- في الماضي كانوا يمارسونها باستحياء اليوم كلهم (مطيرجيه)

***

سميت الفهود بهذا الاسم كما قيل نسبة إلى شيخ أو شخص يدعى فهد وهو أول شخص سكن المدينة وتعتمد في اقتصادياتها على الزراعة وصيد السمك ويعتمد قسم كبير منها تربية الجاموس والأبقار والأغنام، وتتواجد فيها صناعات أولية يدوية كصناعة البسط والسجاد. ومن هذه المدينة المعطاء مضيفنا اليوم وهو قاص وشاعر وتربوي يجيد الصمت حتى تظنه اخرس لكنه ما ان يتاكد ان الجلسة لاتشتمل على غير المحبين حتى يندفع كشلال يتطاير رذاذ محبته ونكاته وصدى ضحكاته في كل الاتجاهات.. يحب الحسين ويعشق كربلاء لكنه لايبات ليله الا في بيت حمودي الكناني حيث يمارس (خباثه) لذيذة لايتذوقها الا من عرفه عن قرب وللامانة فالرجل يخاف الله وربة البيت ولايبدي اعتراضا حين تامره بزيارة سيد (يوشع) وكان قبل سنوات ضحية خداع فيسبوكية بعدما طلبت صداقته شابة جميلة تزين صفحتها بصورة اجمل من صور هيفاء وهبي لكنه اكتشف بالصدفة انها شاب صغير ويعمل سائق (ستوتة) تعالوا لندردش معه ونشاكسه ما استطعنا..

- أين يقع مقهى صالح؟

* مقهى صالح سمة خالدة من سمات المدينة، هو لم يكن قديما كمقهى (سيد رحم) او مقهى (مظلوم).. بل تم افتتاحه في اوائل التسعينيات، لكنه ملتقى مهم لأبناء المدينة هو وليس غايتها ومناها.. نظرا لافتقار الفهود لملتقى أدبي أو ثقافي يرتاده الكتاب والشعراء والمثقفين وحتى المسؤولين، بالمناسبة صاحبها يصنع شايا وقهوة فاخرين تذوقها كل من حمودي الكناني وحميد الحريزي وصباح محسن كاظم وجواد غلوم.. واتمنى ان يتذوقه راضي المترفي..

- ماهي قصة حبك لأم جندب؟

* أحبها كامرأة ناقدة، وهي تدرك ان حكمها بين شاعرين احدهما زوجها والاخر لا تعرفه سيولد مسألة خلافية اكبر من كونها نقدا أدبيا، ابها لأنها مثال العربيات الاصيلات، لديها ذائقة أدبية مبنية على التعليل والاقناع والشجاعة في نطق النقد الفني، ويراها النقاد انها خرجت عن النقد الجاهلي المبني على الذوق الفطري الخالي من التعليل.. وحكمها هنا افقدها حياتها الزوجية، اذ طلقها امرؤ القيس كنتيجة لهذا الحكم، ولم يتنكرها علقمة بن عبدة هو الاخر فتزوجها بعد امرؤ القيس، فسمي بعلقمة الفحل..

- ماهي العلاقة بينك وبين الفارابي؟

* الفلاسفة والانبياء كلاهما يحملان رسالة واحدة إلا ان الفرق بينهما هذا وحيه العقل، وذاك عقله الوحي.. يعني ان الفيلسوف هو نبي من غير وحي والهام بل أن عقله هو المرشد، والفارابي المولود بعد افلاطون بثلاثة عشر قرنا وضع أسس المدينة الفاضلة، تلك المدينة التي صورها افلاطون في جمهوريته الشهيرة بطريقة متخيلة بعيدة جدا عن الواقع البشري، الا ان الفارابي اختصر الممرات للوصول الى حلم تلك المدينة من خلال تجسيد الواقع الانساني وبسط النفس البشرية فكانت مدينة الفارابي اقرب للواقع من جمهورية افلاطون، وعليه فهو ليس فيلسوفا فحسب وانما رجل اجتماع متمكن، وعلاقتي به اوجدتها الظروف التي تمر بها بلادنا، فنحن بحاجة لاصلاح اجتماعي قبل ان يكون هناك اصلاح سياسي، فالسياسي يجب ان يصلح ذاته البشرية اولا حينذاك يجد نفسه امام سياسي مصلح..

- كيف تعين الدولة شعبها؟

* احدهم استهزء بهذا السؤال قائلا (هل تعين الدولة الشعب ام ان الشعب من يعينها؟) بالتأكيد هناك علاقة تواصلية بينهما، لكن كل شعوب العالم تريد من حكوماتها ما يمكّن تلك الشعوب من مواجهة الحياة، ودولتنا في الحقيقة لايحكمها نظام عالمي حديث ولا تسير وفق ايديولوجية معينة، فهل هي دولة اشتراكية ام انها رأسمالية، وهي هي علمانية ام انها دينية؟، وهل هي حكومة ليبرالية أم انها مزيج بين هذا وذاك؟ واعتقد ان احدى اهم المشاكل التي تواجه النظام السياسي في العراق هو عدم ثباته على فكر معين، وانا كمواطن لكي أفهم ماهي حقوقي وماهي واجباتي يجب أن اعلم ماهية النظام السياسي في البلاد حتى اتمكن من معرفة حقوقي وواجباتي، وعندما نطالب الحكومة بان تعين شعبها فهي يجب ان توفر له حقوقه الانسانية من خلال بناء وتطوير القطاعات (الخاص والعام) والمختلط، وسن قوانين تحكم هذه الانظمة وهذه القطاعات بحيث لا يجد المواطن فرقا شاسعا بين قطاع وآخر وتتبقى له حرية الاختيار في كيفية خدمة بلاده من اجل ان ينال حقوقه كاملة.

- هل الصلع ميزة ام مثلبة؟

* هو لا ميزة ولا مثلبة لأنه ليس اختيارا، هو علة او شكل يفرضه تكوين الانسان وراثيا او مرضيا، وانا أراه مجرد علامة كالبياض والاسمرار، يعني انت (عندك شامة بخدك) وانا اريد ان اصفك لشخص آخر فنقول صاحب الشعر الطويل او الخفيف او الاصلع..

- لماذا تفيض غيضا من الاعلام؟

* الاعلام هو السلطة الرابعة وهو ما يقود الجماهير باتجاه الاهداف المرسومة، الاعلام عندنا للاسف وسيلة لتقويض الاخر القوي والصالح ولرفع قيمة الوضيع والطالح، والامر كله يعتمد على المؤسسة التي تدير الاعلام عملت في عدة مؤسسات اعلامية واكتشفت ان الاعلامي لكي يكون موجودا في الساحة يجب عليه ان يمتلك عدد كبير من الاقنعة، فالوجه الواحد في الاعلام يتم تشويهه بسهولة، وحاولت ان اجرب الاقنعة لكني فشلت وانسحبت الى الزاوية، والاعلامي في العراق مرة تجده شاعرا ومرة كاتبا ومرة أديبا ومرة سياسيا ومرة تجده صحفيا، هذه الوجوه لايمكن أبدا ان تتواجد في شخص واحد الا اذا كان خارقا.

- هل تم اكمال السدة بين ال عريثم والفهود؟

* كانت المنطقة المحصورة بين ال عريثم (وهي العشيرة التابعة لناحية الاصلاح) وبين الفهود كناحية هي اراضي زراعية تابعة للشيوخ، وحينما يأتي خطر الفيضان يبدأ الشيوخ ببث الرعب بين الاهالي بأن الفيضان سوف يقضي على البيوت والمزارع وان الغرق قادم لا محالة، مع ان الفهود بالاساس هي جزء من هور الحمار الكبير ومعظم المنازل والدور بالاساس هي غاطسة في الماء ومحاطة به من جميع جهاتها، فينتفض الاهالي لوضع السدود الترابية بالطرق التقليدية فيمضون كل وقتهم يحاولون ايقاف مد الماء القادم من هور ابو زرك بينما هو بالاساس غارقين من جهة الشرق من هور الحمار، وكتبت منشورا حول اشاعة انهيار سد الموصل وربطت تلك الاشاعة بما يقوم به الشيوخ والسراكيل..

- اي الصداقة اجمل تلك التي تختارها لك الظروف او التي تسعى انت لها؟

* الصداقة ان تحققت هي جميلة سواء سعيت لها او اوجدتها الظروف، لكن التي تسعى لها ستكون أجمل بالتأكيد لأنك تشعر بمكسب عظيم، اما التي اوجدتها الطروف اعتقدد انها ستكون اقوى لانها جاءت عبر مخاض او تجربة، فهناك صداقة جميلة ولكنها ليست قوية، وصداقة قوية وان كانت ليست جميلة، وجمال الصداقة يبدأ بالرفقة وينتهي بزوالها، وقوتها في وجودها بكل الاحوال.

- هل أديت خدمة العلم؟

* نعم، قضيت ثلاث سنوات جنديا مراكز تدريب ميسان ومن ثم تكريت ومن ثم الغزلاني، ومن ثم جنديا في قيادة قوات الامن الداخلي الثانية حتى تسريحي.

- أيهما اثقل على قلبك، معيدي أو شروكي؟

* كلاهما لا يعنيان لي شيئا، وان كانت صفة المعيدي احيانا تحفز بي خاصية الانتماء لأنها تسمية غلبت على ابناء الهور وانا افتخر كوني ابن الهور العظيم.

- من هو غالب السلمان؟

* في منطقتنا اشتهر شخص عمّر طويلا اسمه (محمد ال مطرود) يحفظ غالب السلمان؟ في منطقتنا اشتهر شخص عمّر طويلا اسمه (محمد ال مطرود) يحفظ التاريخ كما انه جغرافيا المدينة يعلم كل حدود الارض الزراعية والبساتين وغالبا ما يجعلونه حكما في كثير من الخلافات في مثل هذا النوع وله صوت جهوري وقوي جدا، غالب السلمان ورث من محمد ال مطرود صوته فقط ولم يرث منه شيئا رغم انه معلم في نفس المدرسة التي انا مديرها، لكنه مبدع في تدريس الصف الاول الابتدائي ومبدع في النكتة والحوارات الساخرة، وسخر حياته لتربية الدجاج البياض والطيور النادرة كهواية، يسميه زملائه من المعلمين (غالب ابو البشوش).

- كانت الفهود ملاذا لكل الخارجين على النظام.. ماذا عملوا لها بعدما استلموا السلطة؟

* كانوا خارجين على النظام وظلوا خارجين عن النظام للأسف.. لم ينفعوا مدينتهم بشيء اطلاقا، وتنكروا لها نكرانا عظيما..

- العرب في تاريخهم كانوا لا يقبلون شهادة معلم الصبيان.. كيف تفسرها؟

* اولا دعنا نثبت صحة هذه الرواية !! حيث انها مقولة لم تثبت تاريخيا، وان ثبتت فأنهم يعتقدون ان معلم الصبيان نظرا لاتصاله الكثير بالصبيان وتأثره بهم فان ذلك يؤثر على طبيعته وبالتالي فهو صبي لا تقبل شهادته، ولكنه تفكير ساذج بعيد كل البعد عن العقل والمنطق اذ لو كان هذا التأثير أو التأثر موجودا لكان الاباء أول من تأثر وهم فيهم القاضي والملك.

- هل يوجد في الفهود مربي حمام (مطيرجيه)؟

* هي واحدة من كل مدن العراق فيها ما في المدن، ولكن كل شيء مبالغ فيه، حينما كان (المطيرجي) على استحياء، اليوم صار مباحا للجميع. حتى ان لهجة (مطيرجي) انعدمت واختفت، أعرف شيخا او رئيسا لحمولته يمتلك برجي حمام فوق سطح داره،و حينما انكروا عليه ذلك تحجج بأنها لولده.

- من يحكم مناطقكم.. الدولة او سنائن العشائر؟

* تحكمها المزاجات والقوة، ولا أعرف قصدك بـ (من يحكم...)، الحكم ادارة وتنفيذ قوانين، ام تقصد (تحكّم)، تنفيذ القوانين وادارة الدولة وفق السياقات المرسومة هي عدالة، لأنها رغم ما بها عيوب ستسود على الجميع، أما ان تتحكم النزعات بالحكم هنا ستكون الكارثة.. والنزعات : هي العشيرة والدين والحزب.

- من أين تأتي بأبطال قصصك؟

* هم يأتون انا لا أأتي بأحد، حيث لكل قصة ولادة وتجيء الى الورق تحمل بطلا وفكرة، مهمتي انظم طريقة وصولها الى القارئ، أما حين تسألني عن صفاتهم فأقول لك كل ابطال قصصي أخيار.

- الضابط يحمل العصا للتبختر والمعلم لتأديب التلاميذ.. انت لمن تحملها؟

* لم احمل العصا قط لا للتبختر ولا لتأديب لتلاميذ، لست مؤمنا بوجود العصا في حياة الانسان. وان كانت هناك دعوات اصلاحية اجتماعية يجب ان تلغي وجود العصا لا للتبختر ولا للتلاميذ ولا حتى لأولياء الامور، اعتقد انها سبب مأساتنا اليوم، فان تربية مجتمع على العصا ينتج شعبا متمردا على القوانين والانظمة وهو ما نراه واضحا وجليا.

- الناصرية يطلق عليها محبوها (الشجرة الطيبة) ومبغضوها بالخبيثة من هم مبغضيها؟

* ابناءها للاسف.

- اسأل حمودي الكناني !! الخبث والطيبة يحكم بها الاخرون (عمرك سمعت واحد خبيث يعترف بذلك؟)

- ماهو رأيك كمختص بالمناهج التربوية؟

* جيدة جدا.. بل رائعة، ولكنها ليست لدولة كالعراق، واضعو المنهج التربوي يعتمدون سياقات عالمية في حين ان العراق ليس عالميا، فهم مثلا يبنون خطط التدريس لبيئة مثالية ويريدون تطبيقها في صف لا توجد فيه مروحة سقفية، أو انهم يتحدثون عن الورد في مدرسة ليست فيها حديقة، أو انهم يتحدثون عن الوطنية في دولة يؤمن بعض اطفالها بأن علم الدولة يجب ان يكون فيه هلال ونجمة كعلم العشائر، المناهج ليست واقعية ولا تمت للواقع بصلة.

- متى تضطر للكذب أو ما يطلق عليه (المجاملة)؟

* الكذب هو كذب لا يوجد ابيض واسود، ولست مضطرا للمجاملة وان اضطررت لذلك على اتخاذ الصمت.

- هل تحبذ الزواج بواحدة؟

* جدا جدا

- ايهما اكثر ازعاجا مدير المدرسة ام ربة البيت؟

* انا مدير مدرسة واظن أن ربة البيت اكثر ازعاجا، ما تريده ربة البيت هو معظمه يقع في اطار المزاج والرغبة، ومدير المدرسة ملزم بقوانين وانظمة، بعض ربات البيوت تكتفي بما تقدر عليه هي ولا تطلب شيئا آخر، وبعضهن يوفرن جميع الاحتياجات دون اللجوء للرجل، وبعضهن لو وفرت لها كل الدنيا فتطلب دنيا أخرى.

- هل تنتظر ظهور المصلح ولماذا؟

* لا انتظر أحدا، سأصلح ما اقدر عليه دون انتظار من يتكفل بذلك، انتظار المصلح كأمنية أو أمل لا بأس لكن الجلوس بانتظاره هو مضيعة للحياة.

- ماهو الفرق بين الديكتاتورية والفوضى؟

* الفوضى هي الحرية بلا قانون، والديكتاتورية هي العدالة بلا قوانين وانظمة.. فحينما نتطرف بتطبيق القانون تلك هي الديكتاتورية، وحينما نبالغ بالحرية فتلك هي الفوضى..

- هل انتميت لحزب أم اكتفيت بصداقة (الشيوعيين)؟

* لم انتمي ابدا، وان كنت في يوم ما على حافة ان اكون دعوجيا، لكني تريثت لأجد إني محق بذلك، اما صداقتي للشيوعيين، فأني لم اعلم بانهم شيوعيون الا بعد وقت طويل، فكانوا صراحة ودودين للغاية وأمناء جدا ولا يبخلون بالسؤال عنك عند غيابك، يتابعونك ويحثونك على النجاح، يفرضون عليك صداقتهم بشتى الطرق، والاكثر من هذا كله انهم جديون في العمل ولا يضيعون الوقت.

- ماذا تعني اليواخين في لغة اهل الفهود؟

* اليوخان عبارة عن محل داخل معظم البيوت او المنازل خاص فقط بجمع التمور في نهاية موسمها وهنا تدار في اليوخان عملية كبسها داخل آنية خاصة صنعت من خوص النخيل تسمى (الكوصرة) او عمليات طبخ التمور لانتاج الدبس عادة ينتهي العمل من اليواخين نهاية ايلول من كل عام. وعند سقوط أول زخة مطر فأنها تغسل اليوخان من بقايا التمر حتى ان تلك الزخة يسمى بـ غسالة اليواخين، وبحثت عن معنى المفردة في عدد من اللغات منها الفارسية والتركية فلم اجد له معنى، لكنها وبحسب مصادر ليست مؤكدة فارسية تعني حاوي التمر.

- هل شاركت بانتخابات من غير قناعة؟

* لم اشترك بانتخابات أبدا، كنت مرة أحد العاملين في المراكز الانتخابية رميت الورقة فارغة وغطست اصبعي في الحبر.. مرة واحدة فقط.

- من يحمل لواء الشعر في الناصرية اليوم؟

* في الناصرية ألوية للشعر، ليس لواء واحدا، وكل يحمل لواءه بنفسه..

- من هو ابرز كتاب القصة القصيرة من وجهة نظرك؟

* من وجهة نظري ابرزهم عالميا تشيخوف وعربيا يوسف ادريس وعراقيا عبد الرحمن مجيد الربيعي، ولكن اليوم لا تحيطنا الاسماء، وانما المنجز، كثيرة هي الاسماء بعضها لامع جدا وبعضها مازال تحت الاضواء، حقيقة حتى اننا تختلط علينا المسميات، لكن القصة القصيرة تزداد متانة وقوة ولعل اجمل ما يكتب هو البصري سمير غالي، مدهش هذا الرجل يجعلك تسافر معه منذ اول حرف بسرده اللذيذ المميز.

- لدي خمسة أسماء اريد خمسة آراء بهم..

وجدان عبد العزيز:

ناقد شطري رقيق بالنص لطيف بالكاتب

ابراهيم سبتي:

معلم حكيم وسارد متين افتخر به علما من اعلام ذي قار

علي لفته سعيد:

سقشخي مشاكس مع الحق، يكتب بألف اصبع، وفي احشاءه همايين من الهم الادبي

هيثم محسن الجاسم:

صقر يقتنص الفكرة ويسردها بهدوء

صباح محسن كاظم:

الوديع الحنون، قلمه لم يغادر احدا الا ورسمه مبتسما.

جميع هؤلاء اساتذة لي الفخر بمعرفتهم.

- هل حاولت زرع شعر فوق رأسك..؟

* لم ولن احاول، خلقت هكذا وراض عن كل شيء.

- هل تجيد الغناء..؟

* أحبه ولا أجيده.

- هل جمعك (مشحوف) واحد مع حبك الأول وبماذا أخبرتها؟

* جمعتني معها غرفة الزواج فقط.

- ماهو حديث سارة والستوتة؟

* هي قصة من نسج الخيال كتبتها في فترة سادت فيها كثير من القصص عن الابتزاز الالكتروني، وكيف انهم جميعا انتشرت صورهم وهم عراة او انهم دفعوا مزيدا من الاموال.

- كم مرة فازت قصصك بمراكز متقدمة؟

* لم أشترك في المسابقات القصصية وغيرها من اجل الفوز صراحة، كل مشاركاتي من اجل ان اعرف سلامة ما اكتبه من قصص، وقد فزت كثيرا في المركز الاول والثاني والثالث ولم استلم أي جائزة منها سوى نصا مسرحيا فاز كاحد افضل عشرة نصوص في كربلاء بمسابقة المسرح الحسيني واستلمت مبلغا من المال انفقته كله وحضرت محملا بالهدايا والصوغ الى العائلة، اما المسابقات الاخرى اكتفي بالشهادة التقديرية ولا أسأل عن الجائزة ابدا. اتذكر اني فزت بمسابقة قصصية في الجزائر وحينما فازت قصتي بالمركز الثاني كانت الجائزة عبارة عن مبلغ من المال طلبت منهم ارسال الشهادة وتبرعت بالمبلغ للمؤسسة.

- ماذا تعني لك كربلاء؟

* أرى اني كربلائي.

- ماهي اجود انواع الاسماك في الهور؟

* والله السمك بجميع اصنافه لذيذ، ولكل واحد ذوقه ورغبته، لكن (البني والقطان) لا يرقى اليهما نوع اخر.

- كيف تزف العرائس في الفهود؟

* حاليا تزف العروس بأرقى سيارة وبأحدث الموديلات، أما سابقا السفن والمواطير، حيث تخصص أحد الزوارق على ان يزين وتوضع بداخله (جباشة) لجلوس العروس الى جوارها تجلس الزافوفة ويجب ان تكون (علوية) وفي الجانب الاخر امها وبعض النسوة من الجوار والاقارب، وتحيط بزورق العروس سفن ومواطير محملة بالرجال والنساء حتى تصل الى دار زوجها.

- ماهي قصة ام محمد وسيد يوشع؟

* لكل امرأة هنا قصة مع سيد يوشع سواء كانت متزوجة ام عزباء، فهي ان مرض طفلها تحمل سيد يوشع مسؤولية ذلك وان تأخر نصيبها بالزواج، او تلك التي لا تنجب اطفالا او تلك التي تلد البنات، وأم محمد واحدة من تلك النسوة وهي الى اليوم مؤمنة بوفاة طفلنا الاول بسبب شارة سيد يوشع لأنها يوما اقسمت به بأن لا تغسل الاواني هذا الصباح لكنها حنثت باليمين، لكنها تضحك كثيرا على اولئك الذين يسجدون لأمون في قصة سيدنا يوسف الصديق وعندما تعلق تقول (ذوله مخابيل)

- هل تعطي دروسا خصوصية؟

* هناك فرق بين التدريس باجور او مجانا، نعم اعطي دروسا خصوصية بالمجان.

***

راضي المترفي

3550 موسى فرجدردشة رمضانية مع من له القدرة على شم رائحة الفساد ولو من بعيد

موسى فرج..

- تاريخ العراق القديم بدأ من السماوه منذ ما يزيد على أربعة آلاف عام

- أنا عاشق للنزاهة حد الوله واقتفي أثرها كما تفعل الفراشة في سعيها خلف الزهور

- وجاءها في المنام شيخ يلبس الأبيض من هامته الى أخمص قدميه وقال لها: نبشرك بغلام أسمه عيسى أو موسى

- من لا أخوة لها سحقتها سنابك التخلف والاضطهاد

- صحيح آنا ما (شكَيت حلوكَ) لكني كنت أقرب الى موسى اليهودي

- ما جاع فقير الا وبجانبه فاسد قد سرق حقوقه

- العلماني الذي ينادي بفصل الدين عن السياسة هو الفاسد.

قال سلام كاظم في ليلة التاسع من رمضان بعد صلاة التراويح: (كل قصير فتنة والدليل موسى فرج). وقد يصدق هذا المثل كثيرا لو حصرناه بمن اصبح دليلا للفتنة خصوصا ونحن نعيش زمنا فاسدا حد مضرب المثل بعد ان كان الفلاحون في القرى والارياف يضربون المثل بفساد ليلة الشتاء لما تحمل من مجاهيل برد ومطر وعواصف وظلام وسيول وغيرها من المعكرات فيقولون: (افسد من ليلة الشتاء) وبما اننا في زمن فاسد استلم فيه الفاسدون زمام الامور اصبح التعرض لهم او كشف فسادهم هو الفتنة الكبرى وبما ان موسى فرج ولد وفي رأسه (حساس) يشير دائما الى مواطن الفساد اصبح يعني في نظر الفاسدين هو الفتنة الكبرى والتي يجب القضاء عليها.. تعالوا لندردش مع موسى بعيدا وقريبا من انف الفاسدين..

صديقي العزيز الأستاذ الصحفي المخضرم العاشق والأنيق والودود راضي المترفي.. هلا.. وألف هلا.. لكن قبل فتحت الباب ما هذه الـ:" (كل قصير فتنة والدليل موسى فرج)..؟ من أوحى لكم بهذا الانطباع..؟

شوف عيني: آنا من خلال قراءاتي أو سماعي عن الموروث قد وقفت على قولهم: "كل طويل احمق الا عمر وكل قصير فتنه الا علي".. وهو حديث موضوع لا أساس له من الصحة بل هو من بنات أفكار المخيال الشعبي وإلا فإن سعداً الذي فداه النبي بأمه وأبيه بقوله (ص) "ارم سعد فداك أبي وأمي" طويل القامة والدليل انهم اختاروا عزت العلاليلي لتمثيل شخصيته وليس توفيق الدقن.. فهل يعقل إن النبي يفدي أبوه وأمه لأحمق..؟

ولأن الشيء بالشيء يذكر فأتذكر قبل أشچم سنه چنت أتابع التلفزيون السوري وطلع بيه معلق يحاول النيل من حمد جاسم آل ثاني أبو قطر فقال وبالحرف الواحد وعلى الهواء: حمد بن جاسم بن نعجه آل ثاني وأضاف متهكماً عندنا في اللغة العربية يقولون كل طويل أبله.. وكررها ثانية كل طويل أبله.. لكنه أنتبه فجأة فتذكر إن رقبة رئيسه بشار طولها وحدها 70 سنتمتر فاستدرك قائلاً: طبعاً عندنا دكتور بشار الأسد طويل لكنه ذكي..

ومره وفي مثل هذه الأجواء الرمضانيه كانت الحملة الإيمانية في أوج طغيانها وكان عبد الغفار العباسي فقيه الأمة في عهد صدام يقدم برنامجه التوعوي ظهيرة كل جمعه ولثقته بنفسه وبحب صدام له كان لا يهيئ البرنامج مسبقاً إنما يقرأ الرسائل الواردة من المشاهدين مباشرة ويرد عليها على الهواء فحصل إن أحد أبناء الفلوجة قد ارسل رسالة للبرنامج يقول فيها: إن أباه رجل يملك ثروة طائله وله من الأبناء 18 لكن الأب ينفق ثروته في بناء المساجد ويحرم أبنائه منها وهم جميعا مستحقين للزواج ويسعون اليه حتى ان بعضهم يصعد لسطح الدار يتلصلص على بنات الجيران.. فهل ان فعل الأب مطابق للشريعة السمحاء أم انه مجانب لها..؟ فما كان من سماحة الفقيه حتى انهال على الأب لوما وتقريعاً وخاطبه قائلاً: لك قشمر ليش العراق ناقص جوامع..؟ يا هافي البخت حارم الأولاد من الزواج وچماله يباوعون من أزروف التشاريف على بنات الجيران.. وفي هذه الأثناء حانت منه انتباهه للمصور الذي كان يغمز له بعينه من خلف الكاميرا ينبهه الى أن المقصود بالرسالة هو صدام وان ابنائه الـ 18 الذين بالغ بحرمانهم من متطلبات العيش لصالح بناء المساجد في حملته الايمانية هي المحافظات.. ! فما كان من العباسي حتى زاغت عيناه وارتجفت شفتاه وأطرق برأسه طويلاً وعندما رفع رأسه كان أول ما نطق به: الله لا يوفقك يا كاتب هذه الرساله.. ! هسا آنا بالله بيها عليها..

بالمناسبه عدنا واحد من حمايلنا توفت زوجته قبل اشهر وربعه ما كَاموله كَومة خوان وهسا احتمال يباوع على المارات من فتحة مفتاح الباب الخارجي لأن ما بيه يصعد للسطح ويباوع من زروف التشاريف..

نرجع للقصير والطويل.. في لبنان يقولون: كل طويل هبيل "خبل" وكل قصير في الأرض فتنه.. وفي فلسطين يقولون: كل طويل أهبل وكل قصير خبير.. لكنهم في الأردن يقولون: الطويل مثل صابونة الميت منين ما قبضتها تمزط..

ومع إن شيعتنا عندما يدافعون عن علي ع في هذا الجانب فإنهم يستشهدون بما ذُكر عن الحافظ محب الدين الطبري قوله: "وكان عليه السلام ربعة من الرجال يعني لا هو بالطويل ولا هو بالقصير ".. مع ذلك فأنا لا أقول غير ما قاله الغلام الهاشمي في مجلس عمر بن العزيز: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه.. ويكفيني أن أكون في المنطقة التي يكون فيها علي قصيراً كان أم ربعه وليهنأ غيري بسعد وحفيد سعد وبشار وحمد بن جاسم وذاك الذي منين ما تقبضه يمزط..

أما عن وصفك لي بالذي يشم رائحة الفساد ولو على بعد ألف ميل وطسه ، فأختلف معك كثيراً في هذا الجانب فأنا عاشق للنزاهة حد الوله واقتفي أثرها كما تفعل الفراشة في سعيها خلف الزهور وكاره للفساد كرهي للظلم ورائحته الكريهة تستفزني بوحشية مع فارق طفيف هو ان الفراشة في سعيها خلف الزهور عندما تصطدم رائحة الفساد بأنفها الدقيق تتجنب المنطقة الموبوءة فتطير بخط متعرج بغية الوصول الى غايتها في حين أني بشر وقد حباني الله بامكانات كبيره ولا يليق بي سلوك الطرق المتعرجة بل مواجهة مصدر السوء والاشتباك معه بإصرار ودون كلل، وما معاداتي للفساد إلا حباً بالنزاهة والدفاع عن قيم النبل..

وأما عن قولك:" وبما اننا في زمن فاسد استلم فيه الفاسدون زمام الامور اصبح التعرض لهم او كشف فسادهم هو الفتنة الكبرى وبما ان موسى فرج ولد وفي رأسه (حساس) يشير دائما الى مواطن الفساد اصبح يعني في نظر الفاسدين هو الفتنة الكبرى والتي يجب القضاء عليها.. "

بما أني اسكن على مرمى حجر من مملكة جلجامش وموطن ملحمته الشهيرة "أوروك" فدعني استعير بعض مما جاء فيها.. تقول القصة: "إن خومبابا كان بمثابة الشر في الأرض وكانت ألسنة اللهب تندفع من فمه، وتجلب أنفاسه الموت" لسكان الغابة والمناطق المحيطة بها، لكن جلجامش ومعه انكيدو وبمساعدة الإلهة شمش إلهة الشمس والعدل تمكنا من قتل خمبابا الشرير.. العراق المعاصر لم يتسن له مثل جلجامش وانكيدو لمواجهة خمبابا الشرير الذي إلتهم معظم الرجال بدلاً من ذلك استعانت آلهة العهر عشتار لتستجلب الثور الأسطوري من خلف المحيطات لينشر الموت والرعب والفزع في ربوع موطنها..

المترفي: رمضان كريم..

موسى: كريم ولكن على طريقة محمد عبده القائل عندهم مسلمين بدون اسلام وعندنا اسلام بدون مسلمين.. فرمضان كريم بما ميزه الله عن بقية الأشهر لكني لم اسمع عن احد من أولي الأمر عندنا من الصائمين القانتين من فعل مثلما فعل علي بن يقطين الذي تخلى عن متاعه وراحلته على مشارف بغداد لأرملة فقيرة كانت تلتقط من القمامه ما تسد به رمق صغارها وعاد دون أن يكمل رحلته التي بدأها قاصداً حج البيت المعمور، انما الذي بلغني هو أن 50 مليار دولار أمريكي راحت على بعضهم من جراء اعلان افلاس الجهاز المصرفي اللبناني وربما مثل ذلك حصل في أوكرانيا..

المترفي: هل انت يهودي؟

موسى: في ريفنا العتيد أيام زمان كانت المرأة تقبع في قعر أكثر الفئات هشاشة، وعزوة الزوجة اخوتها فمن لا أخوة لها سحقتها سنابك التخلف والاضطهاد، حتى تبلغ الزوجة من العمر عتيا وتصبح جده فتتحول الى ملكة متوجة بروس

"الچناين" فيخطب الأبناء رضاها ابتغاء للجنة التي تقبع تحت أقدامها ويتراجع سعر الأب في البورصة الى أدنى مستوياته إلا "النچر" منهم.. وحصل ان أمي كانت العينة المثلى لهذه الحالة فكانت يتيمة الأبوين لها أخ واحد اسماعيل مات وهو في مقتبل شبابه فكانت تتقاذفها سنابك خيول التتر من أبناء عمومتها وكان النواح على الأخ الحامي ديدنها وتجري خلف كل مناسبة وفاة في المنطقة لتشبع غليلها بكاء ونواحاً على أخيها وليس على المتوفى صاحب المناسبه وحصل ان احد الشيوخ من عشيرتنا توفاه الله فسارعت أمي لحضور المأتم للنواح على شقيقها وليس الشيخ المتوفي.. وعندما لاحظت بنت المتوفي ان أمي قامت بالواجب وزياده وانها بالغت حتى كادت تختنق بعبرتها انحنت عليها قائلة: هذا أمر الله يخيتي وكفيتي ووفيتي.. فرفعت أمي رأسها وصوبت عينيها المخضلتين الى عيني بنت الشيخ قائلة بكبرياء وشمم: چا آنا أبچي على أبوچ..؟! أبوچ حظ دبان..؟ آنا أبچي على أخوي فأسقط بيد المرأة الثلاثينية بنت الشيخ الذي اختاره الله الى جواره..

في تلك الأجواء المحيطة بأمي والتي تنتظر الغيث والفرج بقدوم الأخ الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت جوراً كانت أمي حاملاً بي وجاءها في المنام شيخ يلبس الأبيض من هامته الى أخمص قدميه وقال لها: نبشرك بغلام أسمه عيسى أو موسى.. فردت عليه بعجالة: لا يمولاي أشصخم بعيسى هذا اللي اذا سطره واحد على خده يدير له خده الثاني ويكَله أخذ بعد.. آنا اريد موسى اليشكَ حلوكَ فدوه أروحلك وأخليه يصير قاري على الحسين..

وبعد أشهر وفدت الى الحياة فخيبت أملها لجهة أن أكون روزخون لكني والحق يقال طيبت نفسها لجهة مشاكستي لأبناء عمومتها بما فيهم أبي رحمه الله ولم يبقى منهم فرداً الا وشيعته الى دار حقه وهو لا يحتفظ من صورتي في نفسه إلا الازدراء والعنت.. صحيح آنا ما شكَيت حلوكَ لكني كنت أقرب الى موسى اليهودي من عيسى أبو خد وخد وهذه يهوديتي..

المترفي: من هو فرعونك؟

موسى: وداعتك من فتحت عيني على الدنيا لم يتناه الى علمي همساً وانما كنت اسمع ذلك وعلى نطاق واسع من أبي وأعمامي ان شيخ عشيرتنا وكان طاغية وأرعن قد مرَّ وأتباعه يوما على جدهم وهو يقلّب بيدر الحنطة تمهيداً لدرسه فقام الشيخ وأزلامه بتوجيه إهانة منكرة لجدي لا لذنب إلا لأنه عزيز النفس ولا يخضع له وتمادى الشيخ وزبانيته يومها حتى انهم حلقوا جانب من شاربه.. وعندما عاد الى بيته كسيراً وتحلق عليه أبناءه يستقبلونه بعد يوم عمل حافل بالعناء تمتم بينهم: لو كنتم بنات وزوجتكم لكان اليوم نسابتي ياخذون ثاري من الشيخ.. فما كان منهم إلا ولبسوا عبايات نسائيه وتسللوا الى ديوان الشيخ تحت ذريعة البحث عن شاة مفقودة لهم وبعد ان اقتربوا لمسافة أمتار عن الديوان اتخذوا وضع البروك واخرج الأوسط منهم بندقية والده نوع أم فتيله وكانت مهيأة للإطلاق وصوب على منطقة ما بين الحاجبين في وجه الشيخ فأرداه قتيلاً في الحال.. وكان من جراء ذلك أن يجلوا لبضعة فراسخ بعيداً عن سكن الشيخ ومن ثم تم حل القضية بدفعهم الدية لأهل القتيل وكانت سبع أو ثمان نسوه فصليات ومعظم جداتي انتهكت حقوقهم المدنية من جراء ذلك ولعبت بطروكَهن الزلم.. وبعد ذلك غصب جدي المشيخة عنوة مثلما فعلها معظم حكام العرب أبان النصف الثاني من القرن العشرين فدخل التاريخ من باب كتاب عشائر العراق الذي ألفه المؤرخ والمحامي عباس العزاوي بوصفه شيخ العشيره..

ومن طرائف حياة جدي هذا الذي يحمل اسم راضي وهو نفس اسمك المبارك أنه عندما يدخل الى مجلس ويفسحون له المكان يرسل طرفه سريعاً لمعرفة وجود خصم على يمينه او يساره فإن رصد خصماً رفض الجلوس على يمينه ويصر على جلوسه على يساره، وعندما سألوه عن سبب اصراره على ذلك قال لهم "ألوَّح للدچه " ويقصد أنه وتحسباً لتطور الحال الى حرب مفاجأة فإن جلوسه على يمين الخصم يعيق استلاله لخنجره وغرسه في خاصرة غريمه بينما اذا كان يجلس الى يسار غريمه فإن مهمة سحبه لخنجره وغمسه في خاصرة الخصم أسهل ولا تحتاج الى وقت طويل..

المترفي: كيف تهتدي مجساتك الى مواقع الفاسدين؟

موسى: مرات كثيرة قلتها يا صديقي مخاطباً الفاسدين في العراق قائلاً: لو كان حال الناس عندنا معاشياً وخدمياً مثلما هو عليه حال الناس في الكويت أو في قطر أو الامارات فعاتبوني لو سمعتم مني أي تقريع لكم بسبب الفساد ولكن أن يفتقد الناس في بلدي لما يسد رمقهم ويلفهم الحرمان من الدواء والخدمات والمدارس ويكتوون بالبطالة وانتم تسرقون أموالهم وتغتصبونها فذاك هو الذي لا استطيع معه قعوداً أو التوقف عن مقارعة الفساد إن بالفعل أو القول وقد كتب أحد الصحفيين العراقيين المرموقين يوما: "موسى فرج لا يهمه في مقارعته للفساد إن وقع على صخرة الحق أو وقعت صخرة الحق عليه".. فأنا لست متاجراً بهذا أو هاوٍ انما يكفيني ردم الهوة في تمتع العراقيين بخيرات بلدهم وهذا كل ما في الأمر..

المترفي: هل للفساد رائحة؟

موسى: ما جاع فقير الا وبجانبه فاسد قد سرق حقوقه فأسأل عن الفقير والمحروم والعاطل عن العمل تعرف الفساد وتجد الفاسدين أخي الكريم هل تعلم إن موازنات العراق السنوية تحتل المرتبة الثانية بعد الموازنة السعودية كأضخم موازنة في المنطقة العربية وشمال أفريقيا وهل تعلم إن حجم الموازنات السنوية في العراق يفوق موازنات خمس من الدول المجاورة في حين تفوق معدلات الفقر في العراق معدلاته في كل الدول الخمس مجتمعة.. وهل تعلم ان حجم الايرادات النفطية للعراق للشهر الفائت وحده أكثر من 11 مليار دولار أمريكي وهو ما يفوق الموازنات السنوية للأردن وفلسطين مجتمعتين ولسوريا ولبنان مجتمعتين أفبعد هذا تسألني عن رائحة للفساد..؟

المترفي: ماهي المسافة بين الشيخ والراعي؟

موسى: ألم أقل لك إن والدتي كانت مشروع فصليه من بين الفصليات اللاتي بذلها أجدادي كدية عن قتلهم الشيخ المرحوم لولا انها كانت بنت أخت الشيخ فقالوا حينها: بنت أختنا تحسب على المعسكر الصديق ولا يمكن ان نقبلها فصلية نسعى للانتقام منها ثأراً لفقيدنا ولولا ذلك لكنت اليوم ابن شيخ واحتمال ألبس عباءه شغل الحي مثل عباءة حمودي الكناني لكنها مزينة بالكَلبدون..؟ الطريف بالأمر أن حفيد المرحوم وكان رحمه الله صديقي وشيخ عشيرتي تنبه في السنوات القليلة التي سبقت عام 2003 الى قضية النقص في تأدية أجدادي لدية جده فطالب بأختي تعويضاً عن أمي فما كان مني الا وقد أغرت بحركة التفافية بالغة الدقة على بنت أخته وتزوجتها فتغديت به قبل ان يتعشى بي..

لقد عاصرت الجيل السابق من شيوخ العشائر في المثنى وكانوا في معظمهم أفذاذ وأدركت الجيل الحالي من شيوخ العشائر في المثنى فتحديت يوماً ومن على شاشة احدى الفضائيات أي منهم يزعم أنه بلغ كاحل أباه.. أنا لا أكره الشيوخ بل أكره منهم المتسلط والفاسد وهذه هي المسافة بيننا بوصفي ما زلت احمل في بطاقة الأحوال المدنية خاصتي وفي حقل المهنة بالذات "راعي"..

المترفي: ما رأيك بمن يستطيب الترمل وهو قادر على الزواج؟

موسى: شوف عيني خوب آنا حداثوي وتقدمي ومناصر لقضايا المرأه منذ نعومة أظافري وبتأثير مباشر من أمي التي كانت تلقنني مظلوميتها من الرجال قساة القلوب كما يلقن رجال الدين الشيعة مظلوميتهم من الحكام الجائرين لكن المفارقة هي ان أمي عندما شعرت بتحقق العدالة لها من الرجل باتت راضية وغمرتها السعادة وانقطعت عن ممارسة عادتها القديمة بالذهاب الى فواتح الناس كي تبكي أخاها وتنتظر الموعود الذي يأخذ بثأرها منهم ، في حين ان هؤلاء الأدعياء من بعض رجال الدين الشيعة باتوا هم الحاكم بأمره فاستباحوا كل شيء الى الحد الذي انقلبت فيه مقولتهم العتيدة "تالله ما فعلت بنو أمية معشار ما فعلت بني العباسِ" عليهم هم بالذات فصاحت الناس منهم الويل لأن كل ما اجترحه الحكام خلال الأزمنة الغابرة لا يعادل ما اجترحه ساستهم وحكامهم ومع ذلك ما زالوا سادرين

بسرد مظلوميتهم من الحكام الجائرين.. مع ذلك ورغم اصطفافي المبدئي مع قضايا المرأة لكني أرفض ثلاثاً وأؤيد واحده..

أرفض خلو حياتي من المرأه رفضاً قاطعاً لأهميتها القصوى في حياتي ومن يطلب مني الصبر على فراقها أسبوع عليه أن يخرج سمكة من الماء لأسبوع ويخبرني إن كانت باقية على قيد الحياة ، وأرفض المعاملة الخاصة للمرأه بوصفها العنصر الأضعف فلا أؤمن بالكوتا بتاتاً بل أقف بجانبها على طريقة " بدلاً من أن تمنحها سمكة أعطها سنارة وعلمها فنون الصيد واطلب منها نتائج"، وارفض توقف الحياة للزوج أو الزوجة من جراء الترمل أو أي شكل من أشكال الافتراق حتى أن صديقي الأرمل عندما شاورني يريد رأيي قبل اسابيع بوضعه الراهن قلت له: كل اليصير وياه مثل الصار وياك وماعنده غيرها يتصخم وجهه ووجه الخلفوه.. قال ألا يعد ذلك ذكورية فجة من جانبك..؟ قلت ابداً لأني أؤمن بتكافؤ الفرص.. هيه همين لا بأس ان تحط عينها بحياتك على واحد بس مو تروح ويّاه زايد واذا حاول اغواءها تقول له: اريدك للشده يا الغالي.. ومن يتصخم وجهها ووجه الخلفوها تروح عليه وتكَله كَوم ليا هذا يومك..

أما الحالة التي أؤيدها في من يستطيب الترمل وهو قادر على الزواج فهي الحالة التي افتى بها المرحوم المهداوي في محكمة الشعب عام 1959 يوم سأل احد أركان الحقبة الملكية عن عمره فأجابه خمسين.. وعندما سأله عن الحالة الاجتماعية له وقال أعزب لحظتها انتفض المهداوي كمن لدغته عقرب فصاح في وجهه قائلاً: كل من تجاوز الأربعين ولم يتزوج فإنه شاذ.. لكن ماجد محمد أمين بادر لتنبيهه بشأن أمر حساس فاعتدل المهداوي سريعاً في جلسته وجاء صوته مجلجلاً: إلا الزعيم الأوحد فقد تزوج الثوره.. هسا يابه اذا صاحبك اللي "يستطيب الترمل وهو قادر على الزواج" بيه يفجرها ثوره بوجه طغمة الفساد والمحاصصه عمي نقبله ونؤيده ليمضي عمره بيننا بتولا ويلق ربه دون أن يمسسه بشر..

المترفي: هل سبحت ضد التيار؟

موسى: يمكن سنتين أو ثلاث كنت خلالها من ضمن التيار وهي سنوات عبد الكريم قاسم وفيما عداها كل سباحتي ضد التيار ليومك..

المترفي: ماهي اهمية الاطار؟

موسى: ان كنت تقصد التيار التنسيقي فأهمية انبثاقه تكمن في ان ذلك يشكل بداية تهشيم أطر المكوناتية والطائفية والمحصصاتية في العراق إن استمر التعتعت بينه وبين التيار.. ورغم إن قولي هذا يزعج القائلين بالمذهب لكن بعض العلاقات علاجها في هدمها على رأي فيكتور هيجو ونأمل أن تنحو "المكونات" الأخرى هذا المنحى أيضاً ايذانا للمباشرة في بناء صرح المواطنة والعراق الواحد ولو استغرق انجاز ذلك عقوداً بسبب الركام الهائل الذي يتعين رفعه من على وعي الناس..

المترفي: على ماذا يبكي يحيى السماوي؟

موسى: يحيى.. طال بكاءه يا حبة عيني كثيراً، أبان انتفاضة آذار 1991 ضد دكتاتورية وقمعية واستبداد نظام صدام فلن أنس هيئة يحيى وهو يلوح بقميصه في الهواء صارخاً: اخلعوا قمصانكم الحزبية والتئموا على العراق.. ولكن بدلاً من أن يتحقق له ذلك جاءت السنوات لتفصح عن جبب طائفية وشراويل عرقيه ويشاميغ عشائريه ودشاديش مناطقيه الى جانب بقاء القمصان الحزبية يلتفع بها عشاقها.. فامتد بكاء يحيى وطال أمده لكن عزاؤه بوجود الطيبين من ابناء بلده العراة الا من حب وطنهم وشعبهم..

المترفي: لمن يكتب صالح الطائي؟

موسى: بل قل الأثير والنبيل والمفكر التنويري الدكتور صالح الطائي العائش في غير زمانه وجريرته أنه يدعو لربه وعراقه وقيمه بالتي هي أحسن في وقت يتسيد فيه السراق والقتلة وقطاع الطرق ولا يفيد منهج الدعوة بالتي هي احسن لكني ألحظ ان تحولاً طرأ عليه فقد بات مواجهاً السوء عنيداً وكثيراً ما يردد الآية الكريمة: فبأي آلاء ربكما تكذبان..؟يولاد الوسخه..؟

المترفي: على ماذا (يون) حمودي؟

موسى: في وصيته لنجله الحسن قال علي ع ليلة استشهاده "أحب لأخيك ما تحب لنفسك" حمودي الكناني أنا أحب له أن ينسجم مع تسميتي له ابو عليا.. ليأخذ سهمه من بين فكي الذئب لكنه يأبى ذلك ويصر على اعتماد منهجه المسالم مغلفاً ذلك بنزعة وفائيه عقلائيه مستهلكاً ذاته مثل شمعة تذوب ويترفع عن قرص هذه أو تلك من النسوة اللاتي يتجاذبن الدراميات معه وأيضا يرفض أن يكون انتهازيا كما يريد له العزيز سلام كاظم فرج ذلك فيحل الثوب عن نهدي محدثته على ان يختارها خمسينية فاح الألق من عينيها.. وان يعلق في صدر مهجعه قوله طاب ثراه: حزن اليموت اسبوع وحزن العدل دوم..

المترفي: هل انت تدري او مثل الدكتور لاتدري؟

موسى: لو ما أدري چان انفرت مرارتي مثله بس آنا أدري شوَّكت آكل دسم وشوَّكت أحجم..

المترفي: لماذا يمارس الاختفاء سلام كاظم؟

موسى: الله يطول بعمر أختنا الأديبه سنيه عبد عون فقد يكون لها في ذلك رأي.. لكنه أخبرني انه في هذه الأيام مهتم بالحديقة وكنت قبل ذلك أحسب أني بين القلة في هذا المنهج وأنا أؤيده في هذا بحراره بعد إن وقفت على ديدن الناس خارج البيوت هذه الأيام فوجدته لا يتعدى التكنك بالموبايلات..

المترفي: من هو الفاسد؟

موسى: في أوساط الفقه الاسلامي بعضهم ذهب الى إن خروج المرء على الحاكم عادلاً كان أم جائر فساد ومن يرتكب تلك الكبيرة فاسد وبعضهم ذهب الى ان شارب البيرة هو الفاسد وفريق ثالث قال العلماني الذي ينادي بفصل الدين عن السياسة هو الفاسد والأنثى التي لا تلبس الحجاب هي الفاسدة.. وفي أوساط الفقه في ربوع الرافدين يعتبرون من يحلق لحيته مثلك ومثلي بالموس فاسق وآخرين اعتبروا الفن والرسم والنحت والموسيقى هي الفساد ومن يزاولها فاسد وبعضهم اعتبر عدم لبس الحجاب بالنسبة للمرأة فساد فهي فاسدة.. لكن كل ذلك خزعبلات وعاظ السلاطين فالقرآن الكريم حدد الفاسد بقوله: "اذا تولى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"، وأراد من الانسان أن يكون سلوكه نقيض سلوك الفاسد فأصدر أمره الحاد والحازم والقطعي: "فاستقم كما أُمرت.. "

وبالنسبة لي الفاسد هو من يجنح عن الاستقامة في الفعل والقول وسواء تم تجريم الفعل أم لم يجرّم..

المترفي: كيف تصنع مقالبك؟

موسى: عندما أحب شخصاً أقالبه وسواء عندي أكان الشخص ذكراً ومقالبته تكون بالمزاح المحبب أو أثنى ومقالبتها تكون بطرق تكنيكية أعمق..

المترفي: عندما دخل الانكليز العراق قاد اهل السماوة الثورة.. لماذا لم تكرروا فعل اباؤكم مع ابناء العم سام؟

موسى: يوم 9/ 4/ من كل عام يتصاعد الخلاف ويحتدم الجدل بين العراقيين فالبعثيين وانصار صدام ونظامه يرون فيه يوم احتلال العراق ليس الا ويتجنبون النظر الى انه يوم سقوط نظام صدام الدكتوري القمعي الدموي المستبد أيضاً وهؤلاء يشجبون المناسبة ،وبين الغالبية العظمى من العراقيين الذين يرون فيه يوم سقوط نظام صدام الدموي القمعي المستبد الذي استباح كرامتهم ودماءهم وارواحهم وسحق حريتهم ومستقبلهم وتسبب في تهشيم بلدهم وفتح مصراعيه للإحتلال.. فهم يحتفلون بالمناسبة باعتبارها يوم الخلاص والانعتاق من ربقة نظام قمعي قاتل مستبد جائر.. فإذن الفيصل بين الفئتين ليس العراق كما يدعي كل منهما بل نظام صدام أنا من بين الذين ينظرون الى الأمر من زاوية مختلفة فأرى فيه يوم سقوط نظام جائر ظالم ويوم احتلال غاشم فأنظر لهذا الجانب على حقيقته وانظر لذاك الجانب على حقيقته أيضاً.. وكنت مره قد كتبت في يوم 9/ 4 مستعيراً حالة واجهتها شريحة من العراقيين وهم تحديداً الأيزيدين عندما احتلت داعش ديارهم فواجهوا منهم القتل والسبي وانتهاك الكرامة والأعراض والدمار وتساءلت يومها: لو ان تحرير الايزيدين من داعش جاء على يد الامريكان أو الاسرائيلين في تلك اللحظة هل يكون موقف الأيزيدين رفضه بحجة ان الخلاص لم يأتي بفعلهم المجرد وحده أم انهم يفرحون بانعتاقهم ويعدون العدة للعودة الى قراهم وتعميرها ومواصلة حياتهم من جديد بعيداً عن داعش والطرف الذي حررهم من داعش.. موقف العراقيين عموماً بعد يوم 9/ 4/ 2003 كان يجب أن يكون هكذا لكنهم ابتلوا بالانحشار بين حجري رحى حجر البعثيين وانصار صدام الذين لا يشفع لهم إلا فساد ومحاصصة وفوضى الحكام الجدد وحجر حكام الفساد والمحاصصة والفوضى الذين لا يشفع لهم إلا سوء ودموية واستبداد ودكتاتورية صدام ونظامه..

فالناس في السماوة يا صديقي شأن الغالبية العظمى من العراقيين كان وضعهم يوم 9/ 4/ 2003 مماثل لوضع الأيزيدين أبان احتلالهم من قبل داعش.. كانوا يتوقون للخلاص ولكن كان عليهم وكل العراقيين ألا يستسلموا كلياً للفساد والمحاصصة والفوضى بل يبادرون للانخراط في بناء نظام الحكم الصالح في العراق.. وهذا مالم يحصل مع الأسف حتى تغول نظام الفساد والمحاصصة والفوضى وباتت معالجته شبه مستحيله..

المترفي: هل (صوفتك حمره) حقيقه او صبغ؟

موسى: أنا أعشق النبل والجمال في السلوك والطبيعة والأنسان والنبات وأحب الحياة ومغرم بالثقافة وأذوب في المرأه المتوازنة جميلة الخُلق والخلقه ولا أطيق المرأة سيئة الطباع.. وأنا مجبول على التمسك بسجايا محدده: انساني لا قومي ولا طائفي ولا عشائري ولا مناطقي ولا فئوي، منفتح وغير منغلق، تقدمي وليس رجعي، حقيقي وليس مظهري، ودود وليس ذيلي، مولع بالإباء حد الخبل وأمقت الظلم والسلطوية وأميل الى المجابهة وأمقت الإذعان.. لا أدعي إن ذلك متوافر كله فيَّ لكني متمسك بأهدابه تمسك الغريق بـ كَشايه..

مره كنت وصديق لي نتجاذب أطراف الحديث في احدى المقاهي في السماوة واراد أن ينتقدني ولكنه كان متردد حباً بي أو تجنباً لردة فعلي فقال متمتماً ومتعتعاً بعد تردد: أنت تدور طلايب.. فضحكت حتى أدمعت عيناي وقلت له: شوف أبو علي وداعتك هسا أحنا مو كَاعدين على هاي القنفه نسولف..؟ أفرض ثنين كَاعدين بالقنفه المجاوره وأحدهم يشكو لصاحبه من ظلم وقع عليه وسمعته، وداعتك أعوف السوالف وياك وأكَوم يمه أسأله منو الظالمه فاذا تبين أنه شخص فرد أكَله كَوم وانا وياك نكَدرله يكَدر علينا مو مهم.. واذا الظالمته سلطه "بوكتها صدام" وبهاي الحاله ما نكَدر عليها أكَله ألك عندي أشتّم بيها مناه لمثل هيچي وكت باچر.. وهذه الخصلة سجلتها عني رسمياً هيئة النزاهة قبل أن أكون رئيساً لها في تقريرها الموجه الى رئيس الحكومة والخاص بتقييم المفتشين العموميين يوم

كنت مفتش عام فقد كتبت أمام اسمي عبارة: جيد جداً ولا يجامل.. وكانت أعلى درجة تقييم بينهم..

آنا هاي صوفتي حمرا خضرا ما أعرف.. أنت شلون تصنفها براحتك..

استدراك.. طبعاً آنا أعرفك عليمن تبحث.. تريد تعرف انتمائي السياسي تحديداً ومن عظمة لساني وحتى ليروح بالك أني اتهرب من الإجابة على سؤالك أقول لك الآتي: بسنة 1960 وكنت في الثالث الابتدائي ويومها التنافس بين الشيوعيين والبعثيين على اشده والمعلمين من كلا الطرفين يتعاملون معنا نحن التلاميذ تعاملهم مع الطين الإصطناعي كل يريدنا على الهيئة التي يريد كان واحد من المعلمين طويل القامه مثل بشار الأسد وشايل خيزرانه أطول مني من يطلع من الإدارة بعده بالممر قبل لا يدخل لصفنا يباشر بترديد قصيدته المعتاده " بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان.. " ويثبرنا شفته العليا طايره ولازكَه بمناخيره ويضرب بالخيزرانه على السبوره فأمتعض منه أيما امتعاض.. بالحصه الوراها يجينا معلم ودود حبوب هيئته تشبه هيئة عبوسي بمسرحية تحت موس الحلاق يبدأ على بركة الله: صداقه سوفيتيه ويا الصين الشعبيه.. ضد الاستعمار.. أصبحنا أحرار.. سجل يا تاريخ.. فيأسرني المعلم بسلوكه الودود وكلماته.. بعد إن رن الجرس لانتهاء الحصة ألتفت الى زميلي نزار الذي يشاركني الجلوس على الرحله الخشبية وسألته: أنت شنو..؟ كَال بعثي.. سألته ليش..؟ كَال مو أبوي بعثي.. النوب هوه ألتفت عليَّ وسألني: وانت شنو..؟كَلتله شيوعي.. كَال ليش..؟ كَلتله هذا ابو تطوان ما أحبه.. ومن يومها وانا انتمي للسجايا والخصال وليس المسميات ويساري على طول الخط وما بدلت تبديلا.. وصوفتي بينتها وانت وضميرك..

المترفي: السماوة تتعرض لحملة من ابناء الــ.. لماذا؟

موسى: لم ألتفت حقيقة الى تلك "الحملة التي تتعرض لها السماوة من أبناء الـ.. " بما يكفي ولكني قرأت بعض الردود عليها وهي تشيد بالسماوة وأهل السماوة من عراقيين ينتمون الى محافظات مختلفه، لكن الذي آلمني حقاً هو تعليق لأحدهم لا أدري هل هو مجرد قارئ ومراقب أم انه احد عناصر تلك الحمله والذي تساءل فيه قائلاً: اذا كان أهل السماوة كما تصفون لماذا تتصدر محافظات العراق في الفقر والحرمان والبطالة وانعدام الخدمات..؟ وفي هذه الحالة لا أجدني منساقاً للتغني فقط بخصال السماوة وأهل السماوة المعروفة لكل العراقيين من حلو المعشر والثقافة والكرم والإباء والتاريخ التليد لكني أحاول إنكاء الجرح لعل القوم يستفيقون..

منذ ما يزيد عن 10سنوات قلت في الفضائيات وكتبت في وسائل الاعلام مسلطاً الضوء على الظلم الفادح الذي لحق بالسماوة واهلها سواء كان ذلك الظلم صادراً من الحكومة المركزية أو المحلية بحقها وأهلها مستنهض فيهم روح الشمم والإباء التي طبعوا عليها فأشرت الى الآتي:

أولا: مكانة السماوة وسبق فضلها:

1. تاريخ العراق القديم بدأ من السماوه منذ ما يزيد على أربعة آلاف عام وهذه الوركاء "أوروك" على مرمى حجر تُسمِع من به صمم..

2. تاريخ العراق الحديث بدأ من السماوة وحاضنتها المثنى منذ ما يزيد على المئة عام ونيف في ثورة العشرين وهذه الرميثه والسوير وحسيچه ومحطة قطار السماوة تشهد وتُسمع من في سمعه وقرُ..

3. بعد عام 2003 المثنى هي السباقة في خلع رداء الاحتلال عنها فهي أول محافظة من محافظات العراق تسلمت الملف الأمني وغادرتها القوات الأجنبية..

4. السماوة كانت محطة انطلاق لأحرار العراق طيلة النصف الثاني من القرن العشرين الى نكَرة السلمان وهي محطة استقبال قطار الموت الرهيب عام 1963 الذي حشر فيه خيرة احرار العراق والذين أريد لهم الموت فيه اختناقاً..

5. والسماوة رفدت العراق كل العراق بمواقف أبناءها في الإباء والشرف والرجولة وبكل ما هو جميل من ثقافة وأدب وفن ونبل وكرم وطيب المعشر حتى ان المقولة الأكثر تداولاً عنها إن من يفد اليها من موظفي الحكومة منقولاً يبكي من جراء بعدها ولهيب صيفها لكن الذي يفارقها عائداً يبكي أيضاً ولكن بحرقة أكثر لأنه سيفارق طيب المعشر والنبل والشهامة وكرم الأخلاق الذي يتجسد في سجايا وسلوك أهلها..

ثانياً: لكن السماوة وحاضنتها المثنى نكبت بعد عام 2003 أيما نكبه وباتت:

1. تتصدر محافظات العراق في معدلات الفقر والحرمان والبطالة وانعدام الخدمات حتى بلغت نسبة الفقر على مستوى المحافظة 52% وعلى مستوى الريف 75%..

2. لم يذكر اسم المثنى تحت قبة البرلمان وعلى مدى 10 سنوات قط..

3. اذا كان بعض من أبناء وبنات الـ.. قد تنمر على السماوة في الأسابيع الأخيرة فإن رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني سبق الجميع الى ذلك عندما قال متهكماً بمناسبة تسمية أحد احزاب المحاصصة لعضو بديل من ديالى حل بديلاً عن عضوة مجلس نواب متوفاة من السماوه فقال المشهداني متهكما: اذا زلم ماكو بالمثنى نسوان همين ماكو تعوضون التموت من نوابها بواحد من ديالى..؟؟

ثالثاً: من ارتكب الخطيئة بحق السماوة..؟

1. احزاب المحاصصة أهملت السماوة وحطت من قدرها لا لسبب انما فقط لأن عدد نوابها قليل قياساً بالمحافظات الأخرى فبخسوا قدرها ولم يحترموا مكانتها وتاريخها ففقدت فرصتها من جراء غلبة الكثرة على الشجاعه حتى ان نوري المالكي وفي ذروة الترويج لانتخابات عام 2014 وضع هو والشهرستاني حجر الأساس لمصفاة نفط في كربلاء بكلفة 6 مليار دولار وفي نفس اليوم اصدر قرار بإلغاء مصفى النفط في السماوه والديوانيه فقلت وقتها "وقولي موثق على أكثر فضائية" المثنى أولى لأنها تملك مصفى منذ عشرات السنين والخبرات متوفرة فيها أكثر من غيرها ثم ان كربلاء فيها معدلات الفقر والبطالة أقل فلماذا يُبخس حق المثنى..؟

2. الحكومة المركزية: قلت تكراراً وفي لقاءات متلفزه ان الحكومة المركزية تمارس التعسف بحق المثنى وتسببت في افقارها لأنها بتخصيصاتها الشحيحة للمثنى تخالف الدستور الذي نص على ان التخصيصات توزع بين المحافظات طبقاً لعدد السكان زائداً المحرومية وليس عدد السكان فقط وما دامت المثنى تتصدر بقية المحافظات في معدلات الفقر والحرمان والبطالة فإنها تستحق تخصيصات بنسبة مضاعفه ولكن لم يلتفت الى ذلك أحد..

3. سبب عدم اهتمام الحكومة المركزية بالمثنى والسماوه هو تركيبة اعضاء مجلس النواب المحسوبين على المحافظة فولاءهم محسوم لقيادات أحزابهم في بغداد وليس لأهل المثنى ولم اسمع نائباً عنها استقال احتجاجاً على تفشي الفقر والبطالة فيها..

4. الفساد والفشل في الحكومات المحلية المتعاقبة في المحافظة..

5.توزع شيوخ العشائر في الولاءات لقيادات أحزاب السلطة بدلاً من الولاء لمحافظتهم وابناء عشائرهم خلافاً لمنهج آباءهم.

6. حتى المثقفين من ابناء المحافظة كثيرون منهم بات يغلب انتماءه العشائري على انتمائه للمثنى والسماوة ومع ان الانتساب الى العشيرة لا يشكل حالة مستنكرة ولا مرفوضة ولكن فرق بين ان تقول أنا مسلم من المذهب السني او المذهب الشيعي وبين أن تقول سني أو شيعي مغلبا الفرع على الأصل..

فإذن نصرة السماوة بوجه المتنمرين عليها لا تكون بتعداد فضائلها فقط بل معالجة الداء الذي أتاح للمتنمرين التربص بها..

المترفي: كم موسى في السماوة؟

موسى: من حيث البصمة فقد خص الله كل واحد من عباده ببصمة خاصة به وأما من حيث المشتركات فالسماوة تعج بهم..

المترفي: اين يقع جامع وشارع موسكو في السماوة؟

موسى: في قلب السماوة النابض هذا بالنسبة لجامع وعزا موسكو أما بالنسبة للشارع فلا أعرف شارعاً بهذا الاسم في السماوة.. وجاءت التسمية لأن معظم الذين يشاركون في هذا الموكب في موسم عاشوراء وخصوصاً في حلقات اللطم يتبنون الفكر اليساري ومعظمهم شيوعيين وكان من أقوى المواكب في السماوة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي واتذكر أني كنت في احدى الليالي واقفاً بين المتفرجين فنزل عزا موسكو في بطن السوق المسقف بالچينكو فإرتج السوق لصوت اللطمية المهيب وفي هذه الأثناء أحسست أن يداً تمسك بذيل بنطلوني وتسحبه للأسفل فتنبهت الى ذلك فاذا بها عجوز جالسة لا تقوى على الوقوف تسحبني من بطلوني تريد مكالمتي وعندما انحنيت برأسي لأتبين ما تريد قوله: قالت: يمه هذا عزا موسكو..؟ قلت نعم يا خاله عزا موسكو فقالت: چا خل أكَوم.. فعرفت انها من قدامى المحاربين.

وحقيقة كان عزا موسكو بمثابة بيت للثقافة السياسية ففيه تسمع الموقف من السلطة ومواقفها من قضايا الشعب بل وتسمع حتى الأخبار فمثلاً كنت في الأول متوسط وسمعت في ردتهم مفردة الرميلة فحسبتهم أول الأمر يتكلمون عن الرملة الفلسطينية ولكن عندما أصغيت بانتباه وجدتهم يتحدثون عن تنازل البعثيين عن حقول الرميلة لحكومة الكويت عام 1963 مقابل رشوة مقدارها 30 مليون دينار كما ورد في مذكرات القيادي في تلك المرحلة حردان التكريتي التي كتبها قبل ان تغتاله عناصر مخابرات صدام في باب المستشفى الكويتي..

المترفي: يتهمك كناني بالنكوص عن وعدك بتوريط حمودي كيف تدافع عن نفسك؟

موسى: لم انكص انما حببت له الزواج بأربعينية أو خمسينيه لتحل محل المرحومة زوجته المتوفاة ورغّبته فيه واخبرته ان روح المرحومة ستبارك هذا الزواج لأن من يحب لا يريد لمن يحبه أن يكون حبيس الماضي بل الانطلاق في رحابها ما دامت الحياة مستمره فحسبني وعدته بتدبير زوجة له من عشيرتي وكتب من عرينه في كربلاء انه يفضل الزوجة من بني أحچيم "عشيرتي" لأن الحچيميات مال عر وجر على حد وصفه فكتبت له محتجاً: هو انت ورهطك من الأصدقاء بما فيهم المتكلم مال عرّ وجرّ..؟ يمعود واحدكم ينراد يقرون نص ديوان المتنبي عد راسه بلكي يحرك جفونه.. وينكم ووين العر والجر انتظرني أجيلك لكربلا ومناك نروح نزور الحر بلكي نلكَيلك لبنانيه فاهيه تتحملك قربة لوجه الله..

المترفي: كيف تخطط للفتنة؟ كنت مفتش عام فقد كتبت أمام اسمي عبارة: جيد جداً ولا يجامل.. وكانت أعلى درجة تقييم بينهم..

موسى: آنا هاي صوفتي حمرا خضرا ما أعرف.. أنت شلون تصنفها براحتك..

استدراك.. طبعاً آنا أعرفك عليمن تبحث.. تريد تعرف انتمائي السياسي تحديداً ومن عظمة لساني وحتى ليروح بالك أني اتهرب من الإجابة على سؤالك أقول لك الآتي: بسنة 1960 وكنت في الثالث الابتدائي ويومها التنافس بين الشيوعيين والبعثيين على اشده والمعلمين من كلا الطرفين يتعاملون معنا نحن التلاميذ تعاملهم مع الطين الإصطناعي كل يريدنا على الهيئة التي يريد كان واحد من المعلمين طويل القامه مثل بشار الأسد وشايل خيزرانه أطول مني من يطلع من الإدارة بعده بالممر قبل لا يدخل لصفنا يباشر بترديد قصيدته المعتاده " بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان.. " ويثبرنا شفته العليا طايره ولازكَه بمناخيره ويضرب بالخيزرانه على السبوره فأمتعض منه أيما امتعاض.. بالحصه الوراها يجينا معلم ودود حبوب هيئته تشبه هيئة عبوسي بمسرحية تحت موس الحلاق يبدأ على بركة الله: صداقه سوفيتيه ويا الصين الشعبيه.. ضد الاستعمار.. أصبحنا أحرار.. سجل يا تاريخ.. فيأسرني المعلم بسلوكه الودود وكلماته.. بعد إن رن الجرس لانتهاء الحصة ألتفت الى زميلي نزار الذي يشاركني الجلوس على الرحله الخشبية وسألته: أنت شنو..؟ كَال بعثي.. سألته ليش..؟ كَال مو أبوي بعثي.. النوب هوه ألتفت عليَّ وسألني: وانت شنو..؟كَلتله شيوعي.. كَال ليش..؟ كَلتله هذا ابو تطوان ما أحبه.. ومن يومها وانا انتمي للسجايا والخصال وليس المسميات ويساري على طول الخط وما بدلت تبديلا.. وصوفتي بينتها وانت وضميرك..

المترفي: تشتاق لمن؟

موسى: لزوجتي ومن ثم أصدقائي.. هذا على صعيد الأشخاص ، اما على صعيد الاعتباريات فحقيقة أشتاق لناس الستينيات والقيم المجتمعية السائدة وقتذاك، واشتاق للنبل في المواقف والسلوك..

المترفي: تحب من؟

موسى: أحب أبنائي حتى يكبروا وأطفالهم حتى يكبروا بدورهم والطفولة بشكل عام.. واحب النبات وأقضي فيه جل يومي فليس مثل عالم النبات عالم..

المترفي: تبحث عن ماذا؟

موسى: ابحث عن السعادة الفردية الناتجة عن رخاء وسعادة مجتمعية والناتجة بدورها عن نظام حكم صالح مبني على المواطنة وعدم التمييز بين العراقيين أيا كانت جذورهم الأثنية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية فأنا قد شهدت الدكتاتورية والاستبداد بأبشع صوره وشهدت المحاصصة والطائفية والفساد بأحلك مظاهرها وأتوق لأدراك عهد الرخاء والتآخي في ربوع أرض السواد..

المترفي: هل نسيت شيئا؟

موسى: نعم.. نسيت أن تحث أصدقائنا وأحبتنا إن التئموا على بعضكم ايها الاصدقاء فليس في طبع الليالي الأمان ولا تفوتوا الفرصه فنحن على مشارب شتى ولسنا جميعاً من الفئة الناجية فنضمن اللقاء في الدار الأخرى..

***

حوار: راضي المترفي 

مرورا بالمسيب وإختفاءً في سدة الهندية.. دردشة رمضانية مع الأديب الناقد الأستاذ سلام كاظم فرج.

- سلام كاظم:

يبدو إنه قد أراح ركابه أخيرا عند مشارف ناحية أبي غرق في حلة صفي الدين..

- ماركس وانجلز أكثر مما استفاد الشيوعيين

- الاممين لم يكونوا مخلصين للماركسية

- التحقت بالحزب الشيوعي وانا في الرابع اعدادي وقرأت الكثير من الكتب الحزبية

- اعتقلت وعذبت وخسرت حب صباي الأول

- الشيوعيون بعضهم مزيف وبعضهم مخلص

- الانتهازي الذي توفرت له حبيبة ان لم ينتهز الفرصة ويحل الثوب عن نهديها سيندم ندامة السياب وليس الكسعي

***

المترفي: نقطة الخلاف بين الأمميين والقوميين هي الجغرافيا ولا شيء آخر غيرها حيث يحاول الأمميون مد نفوذهم على الكوكب من خلال الاقناع والشعارات البراقة والكلام المعسول والأحلام وإن عجزت كل هذه الاسلحة فإنهم على استعداد لتكرار ربيع براغ أو الإتيان بشتاء كابل على ظهور الدبابات وقد لاتكون اوكرانيا آخر المثابات ولا فرق عندهم بين أحمر واسود وأبيض وليذهب المخالفون إلى الجحيم أو إلى صقيع سيبريا..في حين يسعى القوميون إلى فرض سيطرتهم على البقاع التي يقطنها من يماثلونهم في اللون ويشاركونهم في العرق واللغة والتاريخ وقد يكون القوميون أكثر وضوحا من غيرهم إذ لايحبذون سلاحا غير البندقية والدبابة ومهاجمة القصر الحكومي بعد أن تعد الطبخة أو المؤامرة خلف أبواب مغلقة وفي النهاية يلخص هدف الطرفين.. أحد الأعراب سألوه.. ماذا تتمنى؟ قال: الجلوس على السريروالسلام عليك ايها الأمير.. واليوم تعالوا ندردش مع درويش ذي صوفة حمراء..

ــ أما أن تخبرني كم يوم بقي من رمضان أو تقسم بالعباس إنك شيوعي..

سلام: تحية لك عزيزي الاستاذ راضي المترفي الكاتب والإعلامي والمحاور القدير وتحية لمقدمتك الرائعة والتي لن أدعها تمر بسلام وسأختلف معك عليها إختلافا كبيرا.. فهمت من مقدمتك أن ثمة تشابها بين ما يسمى بالقوميين ومايسمى بالأممين في الأهداف والمبررات بمعنى ان الطرفين إمبرياليين.. لنتعرف اولا على الأممي ثم القومي.. ومن خلال ذلك ستعرف موقفي.. وهل انا قومي أم أممي أم إسلامي... الأممي كما أفهمه ذلك الانسان الذي يقدم الإنسانية على ما عداها من الإعتبارات.. ذلك الإنسان الذي يعتبرنفسه إبن الكرة الأرضية ويعتبر نفسه معنيا بمصير كل البشر بل كل الكائنات في الكون من نبات حيوان.. ويسعى للتخفيف من التمايز الطبقي والعرقي والجنسي..

أما القومي فهو ذلك الانسان الذي يكرس حياته من أجل خدمة بني جلدته..والسعي للإرتقاء بهم.

مقدمتك صحيحة لكنك تتحدث عن النتائج الكارثية التي حدثت في القرن العشرين نتيجة الصراع بين الرأسماليين والشيوعيين وشتان بين من يسعى لإستغلال الشعوب ومن يسعى لتحررها وانعتاقها..

المفارقة ان الأممين لم يكونوا مخلصين للماركسية بجوهرها الانساني والمفارقة ان الرأسمالية استفادت من إطروحة ماركس وانجلز أكثر مما استفاد الشيوعيون فعالجت الثغرات في طبيعة انظمتها وتخلصت من بعض مظاهرها الإستغلالية البشعة وصارت اكثر انسانية وقدمت منظومة قيم انسانية افضل مما كان يحلم به يساريو القرن التاسع عشر.. فيما أنكفأت الانظمة الشيوعية على مايشبه الدين في تقديس بعض القوالب الجامدة في النظرية.. لقد حفظ الرأسماليون دروس ماركس اكثر مما حفظها الشيوعيون..وهنا تكمن المفارقة..

المفارقة التي أدت الى انتصار المعسكر الرأسمالي.. ولكني أقول لولا الماركسية لما استطاعت الرأسمالية ان تنزع عنها ثوبها الوحشي وتقدم نموذجا جيدا ومقبولا في حقوق الانسان والتقدم العلمي الباهر في مضمار التكنولوجيا وسبر غورالفضاء والطب والعلوم.. ذلك التنافس الشريف وغير الشريف بين المنظومتين قدم كل ذلك التقدم الهائل في اوربا واميركا واليابان والصين...

والان سأحاول ان اجيب على اسئلتك الجميلة وإن كانت ملغومة...!!

المترفي: أما تخبرني كم يوم مضى من رمضان او تقسم بالعباس انك شيوعي؟؟

سلام: القسم بالعباس عليه السلام صعب.. ولكني سأخبرك وبكل ثقة انني تعرفت على الشيوعيين منذ ان كنت في الاول الابتدائي..عرفتهم طيبين حالمين بوطن حر معافى وشعبه مثقف وهانيء وسعيد.. والتحقت في صفوف الحزب الشيوعي العراقي وانا في الرابع الاعدادي واشتريت بما ملكت يميني عشرات بل مئات الكتب وقرأتها بتشجيع من الشيوعيين.. قرأت البيان الشيوعي الذي كتبه ماركس وانجلز وعشرات الكتب في التراث الاسلامي وفي الشعر والادب العربي والعالمي لكي تتسع مداركي ولكي افهم..

اعتقلت وتعذبت وخسرت عشرات الفرص في مناصب رفيعة وخسرت حب صباي واحلامي الجميلة...

المفارقة.. وانا على عتبة السبعين إكتشفت ان اللبرالية والديمقراطية هي الأنجع للشعوب.. وفي الختام أذكر مقولتين للينين الاولى اثبت التاريخ خطأها والثانية اثبت التأريخ صحتها..

المقولة الخطأ: بمزيد من التضحيات والصبر ستتحقق الشيوعية في روسيا ومستعمراتها..

المقولة الصحيحة.. ويل لروسيا ولكل الشعوب ان فشلت التجربة السوفيتية وانهارت...ويل روسيا والعالم من ضواري الرأسمالية هكذا صرح لينين في عام 1919

المترفي: هل الحمران طوائف؟؟

سلام: سؤالك ملغوم.. ولكني سأجيب نعم.. الشيوعيون انقسموا الى طوائف شتى... بعضهم مزيف وبعضهم مخلص..لقد صرخ ماركس ذات يوم لست ماركسيا !! احتجاجا على حدة الانقسامات.. هناك الماوية والتروتسكية والجيفارية والغرامشية والاوربية.. نعم هم طوائف..

المترفي: دعا لك صديق بالحشر مع ماركس فشكرته.. هل ماركس وستالين في مكان واحد في العالم الآخر

سلام: شتان بينهما.. ماركس لم يعرف كيف يذبح دجاجة في حياته.. اما ستالين ها ها ها.. ولكن اليقينية في معرفة مصائر البشر بعد الموت ليس من العلمية بشيء.. لنحسن الظن بربنا الكريم وهناك لا عين رات ولا اذن سمعت

المترفي:هل كتب عليكم الصيام؟

سلام: من نحن؟؟ الصيام كتب على اليهود والنصارى والمسلمين والبوذيين. وعليه الجواب نعم لقد كتب علينا الصيام ,

المترفي: اتهمك احدهم بالإنتهازية ماهو ردك؟

سلام: لا اعتبر الانتهازية وصمة.. ثمة فرق بين الانتهازي والوصولي..

الإنتهازي الوسيم مثلا إذا توفرت له حبيبة تحت ظل تينة إن لم ينتهز الفرصة ويحل الثوب عن نهديها سيندم ندامة السياب حين أضاع شباك وفيقة..

يا عزيزي الانسان مجبول على الانتهازية ومنذ ان وعى وجوده على هذه الأرض كانت الانتهازية ملاذه ومن اهم اسباب بقاءه وانتصاره كان يقتنص الطير ويصطاد النمور والأسود لكي يقدمها لحبيبته طعاما ولباسا وغطاءا..

وكان يسرق النار ويسرق الافكار ويوفرها ليوم لا شك فيه..يوم العوز العظيم.

الانتهازية أمر مقبول.. لكن الوصولي هو الذميم..

المترفي: إن تقدم قومجي ويساري لطلب صداقتك على الفيسبوك من تفضل اولا؟؟

سلام: المعيار ليس في يمينية او يسارية من يطلب الصداقة.. المعيار في قبول الصداقة ما يمكن ان يضيفه لي من وعي معرفي او معلومة او إبداع او طرائف.. صدقني لقد طلب صداقتي من كان يتلقى التقارير ضدي وضد رفاقي في السبعينات وقبلت صداقته مرحبا به ووافقت على نشر مقالة لي في صحيفته وهو الان محلل سياسي مرموق..

الكل مرحب به بمقدار ما يمكن ان يحقق من إضافة معرفية لي..

المترفي: كيف تقضي سحابة نهارك؟

سلام: بالتسوق وسماع اغنية ما.. ومداعبة احفادي بل اللعب وتبادل النكات معهم.. والتفكير بتطوير حديقة المنزل..

المترفي: هناك اسماء لا اريد مديحا بل صفة كل واحد منهم من وجهة نظرك؟؟

ابراهيم الجنابي.. قلت صفة واحدة.. أشم من الطراز الاول...

صباح الجاسم: رفيق الأيام الصعبة...

صائب خليل: ماركسي يوشك ان يرتدي عمامة الاخوان المسلمين..

أسعد البصري: لبسها..

سامي العامري.. هو الشعر يمشي على الأرض شاعر مطبوع لا مصنوع..

ماجد الغرباوي.. مفكر تنويري مجدد وصديق عزيز جدا..

سعد الحجي: أفتقده..

المترفي: من صاحب السلطة في البيت..؟

سلام: زوجتي السيدة سنية عبد عون لها السلطات البسيطة مثل كيفية الانتقال من دار لدار او شراء تلفاز جديد او طقم قنفات او اختيار طبيب العيون

اما انا فلي السلطات العظمى مثل إبداء الرأي في احتمالات دخول الناتو في حرب مع روسيا او امكانية نجاح الثلث المعطل في لبنان او الثلث الضامن في... العراق وانخفاض الليرة التركية والروبل وما شابه..

المترفي: من يستطيع ان يخرجك من عزلتك؟؟

سلام: أحفادي... أنت نجحت قليلا في حوارك الممتع هذا.. ولكنه نجاح مؤقت..

المترفي: من يزورك في محبسك؟؟

سلام: اولادي وبناتي واحفادي..

المترفي: تشتاق لمن؟؟

سلام: لصبية عشقتها منذ اعوام موغلة في القدم..

تزورني في منامي كلما ضاقت الدنيا وتلك من ألطاف الله التي ينكره الدهريون..

المترفي: آخر مرة زرت مسجدا؟؟

سلام: عام 2014 وكدت ألق حتفي..فقد فجره الدواعش قبل وصولي بدقائق واستشهد كل من فيه.. ( وتقول لي يا راضي ليش انت معتكف؟؟) هو بقي شيء يستحق ان نتأسى به؟؟

المترفي: لمن تقرأ؟؟

سلام: ماعدت أقرأ مثل ما كنت.. الان بين يدي كتاب عن تأريخ ناحية أبي غرق للفقيد المحقق الدكتور عبد الرضا عوض..

المترفي: انت مع من في حرب اوكرانيا..؟

سلام: ضدهما معا.. حرب غير مبررة ومدمرة ويدفع ثمنها الناس الابرياء في كل من اوكرانيا وروسيا والعالم كله..

كتب المعري في محبسه رسالة الغفران انت ماذا ستكتب؟؟

لن أكتب بعد اليوم حرفا واحدا.. نضوب تام..

المترفي: أين ستذهب في العيد؟؟

سلام: لن أذهب.. هم سيأتون..

المترفي: آخر مرة فقدت اعصابك حد التهور؟؟

سلام: منذ عام.. نادرا ما افقد اعصابي وأفضل الابتسام عند كل جائحة... ولكن لي انتفاضة بمعدل مرة واحدة في كل عام..

من يزورك في عزلتك..؟؟

بعض الاصدقاء الطيبين حين يصادف مرورهم قرب دار سكني..يمرون كالشهب ويمضون كما تمضي النجوم..

السؤال الأخير. لو افترضنا ان ابن سلام الجمحي صاحب طبقات الشعراء قد بعث من في رأيك سيكون في الطبقة الاولى من الشعراءالعراقيين في لحظتنا الراهنة؟؟

سلام: حسب الشيخ جعفر عن مجمل الشعر العراقي

وفي العمود يحيى السماوي والدكتور ريكان خلف وعبد الستار نور علي واحمد الشطري

وفي قصيدة النثر إبراهيم البهرزي ونصيف الناصري من شعراء الطبقة الاولى

...............

والان اسمح لي ان أسأل: يا استاذ راضي سؤالين

لماذا لا ترشح في انتخابات الصحفيين العراقيين؟؟

* سارشح في اللحظات الأخيرة لأني اعرف النتيجة سلفا

والسؤال الثاني: ألمح في منشوراتك روحا خضراء.. هل هو حب واحد بعينه يتجدد؟؟ ام في كل فترة حب جديد؟؟؟

* انا جبلت من حب لذا لا أتوقف عند الخسارات

منشوراتك احيانا تثير الريبة؟؟

* انا ارى الشك أصدق الطرق المؤدية لليقين

***

حوار راضي المترفي

 

دردشة رمضانية مع القاص والكاتب الأستاذ حمودي الكناني، يقول:

- قومي خيالة (العرمات) يجوبون الصحراء ليل نهار

- بين حمود وحمودي ضاع محمد

- هناك من يملك خاصية جذب النساء

- أخبر موسى البائع بحاجتي إلى حزام فتصورني البائع طفلا

- نشأت في مضيف كان مثابة للسالكين

* * *

في طفولته كان يحلم ان يرث ابيه وينادى بكلمة (محفوظ) لكن هذا الحلم تبخر مذ قادته اقدامه الصغيرة الى الصف الاول في مدرسة ابتدائية ريفية لكنه اصر على تعلم ركوب الخيل وقضاء الساعات بين مزارع العنبر والجلوس مع رجال العشيرة في المضيف في ليالي الشتاء الطويله وكان الله قد من عليه بقلب عقول ولسان سؤل فحفظ ماشاء الله له من الحكايات والامثال والقصص وورث عن اهله الكرم والترحيب بالضيوف من دون ان يكون بشوشا مثلهم وسارت به الايام بعيدا عن حلم المشيخة والمضيف حتى اجلسته على مقاعد كلية التربية ليتعلم فيها (رطانة) الانكليز ثم غادرها مدرسا لقرابة خمسة عقود تخرجت على يده اجيال واجيال وعلاقات وصداقات لاحصر لها حتى احيل على التقاعد قبل سنوات قليلة ثم تفرق الابناء وارتحلت الزوجة الى دار البقاء ليعيش عزلة الدروايش من غير دروشة لكننا استطعنا اقتحام عزلته في هذه الدردشة

رمضان كريم

* الا ترى ان اسم (حمودي) اصبح لايناسب شيخا عبر السبعين برهاوة؟

- فعلاً، معك كل الحق فالامر كما ترى يا صاحبي ولندخل فيما لا تعرفه عن (حمودي): لا اتذكر متى فقط اتذكر أني كنتُ مع أمي وأبي داخل باص خشبي قاصدين (سيد محمد) ومعهما خروف أبيض ربطه السائق على ظهر الباص وعندما نزلنا من الباص سمعت (جوري آل محسن) تقول بأعلى صوتها (رايتك بيضه ما قصرت يسيد محمد هذا محمد الذي نخيت الله بجاهك عنده أن يرزقني بولد اسميه (محمد) لكن محمد هذا كان يحلو لوالده أن ينادي عليه حمود لأنه كان يحب الاحاديث التي تذكر سيرة شيخ الخزاعل (حمد آل حمود) حتى اصبح حسين آل نعيمة يكنى بـ (أبي حمود) لكن المفارقة أن ابي عندما ادخلني مدرسة القادسية الابتدائية سنة 1957 سجلني (محمد) فاصبح اسمي الثلاثي (محمد حسين نعيمة) ولما انهيت السادس الابتدائي كان علي ان اذهب الى دائرة الاحوال المدنية ولدهشتي قال لي الموظف لايوجد محمد في صفحتكم وانما الموجود هو حمود فوقعت في حيرة فقلت للموظف وما العمل؟ قال أمامك طريقان إما تذهب الى المحكمة وتشتكي علي اضافة لوظيفتي أو أن تذهب الى المدرسة ليعطوك كتاب الى مديرية تربية لواء الديوانية ليغيروا اسمك من محمد الى حمود بناء على دفتر نفوسك، كانت مراجعة دوائر القضاء صعبة في ذلك الزمان فاستسهلت مراجعة المدرسة ومديرية التربية واستبدلت محمد بحمود لكن اغلب ابناء عمومتي وحتى امي ينادونني محمد، أما حمودي فهو الاسم الادبي الذي اصبح لازمة لي بين كل اصدقائي وحتى زملائي وطلابي وللنكتة صادف أن كنا في بغداد انا وموسى فرج وطارق الكناني وبراهيم الجنابي وأخرين و انقطع حزامي فذهب موسى وطارق يشترون لي حزاما فقال موسى للبائع بلهجته التي تعرفها (رايدين حزام حلو لحمودي فاعطاهم حزام اطفال فقالا له عمي حمودي ذاك الواكف اللازم بنطرونه خاف يخرط)

 * نشات في الريف وانتقلت للمدينة لكنك ذو ميل واضح لحياة البداوة مالسبب؟

- لم تغير فيّ المدينة شيئا فالقرية التي ترعرعت فيها تجمع بين حياة الريف والبداوة ولذلك تجد لهجتي تجمع بين الاثنين، القرية تختلف عن المدينة في الحميمية والالفة والترابط الاسري، انا نشأت في مضيف كان مثابةً لكل سالكي الدرب في تلك الايام وكنا (حمولة) مهابة لها وزنها وسمعتها بين العشائر في تلك المناطق ومازال الناس هناك يستقبلونني عندما اذهب بالمناسبات بـ (أهلا ابن نعيمة) ويفردون لي مكانا مميزا في صدر الديوان .

* (قادس) موقع المعركة الكبرى بين الفرس والعرب .. انت من بقايا الفرس او من القادمين من صحراء العرب؟

- لا يا شيخ لا أمتُّ للفرس بأي علاقة لا من قريب ولا من بعيد فقومي هم (خيالة العرمات) كانوا يجوبون صحراء العرب عرضا وطولا .

* خلال العشرين عاما الماضية كم عدد النساء اللواتي عرضت عليهن او عرضن عليك الزواج؟

- للأمانة ولا واحدة .

* لماذا تنتهي علاقاتك النسائية بالفشل غالبا؟

- هناك من الرجال من له خاصية انجذاب النساء له وهذه الخاصية افتقدها حتى أن احداهن قالت شكلك عليه هيبة ووقار فتهابك النساء بس آني اقول هاي ينراد لها حظ هههههههههه .

* يقول احد الخبثاء انك بلا صديق في السر ولا عدو في العلانية .. هل صدق ولماذا؟

- طالما هو خبيث فلا تتوقع انه صادق.

* ايهما اطول نهار الصوم او ليل الترمل؟

- ليل الترمل لا يطاق. كل ليلة تمر تعادل شهر صيام أو أكثر.

* لماذا انقطعت عن كتابة القصة؟

- لم انقطع ولكني ماعدت انشر قصصا اونصوصا، اشغل نفسي بالقراءة اومتابعة المواقع الادبية الاجنبية والدوريات الرياضية الاوربية .ولي خربشات كثيرة غير متحمس لنشرها .

* هل انت غير محظوظ وكيف؟

- ظاهريا هناك من يراني محظوظا لكني في الحقيقة رجل غير محظوظ واشبه تماما حطام سفينة غطاها الرمل على ساحل بحر .

* غالبا ما يتزوج سكان الريف اكثر من واحدة وقد يفضلون ابناء هذه على تلك بسبب محبتهم لهذه او بغضهم للاخرى .. هل عانيت من هذا؟

- نعم، تزوج الوالد بأمرأة ثانية من اقاربه وبالتدريج بدأت المفاضلة لا بين الابناء ولكن بين المرأتين .

- لدي خمسة اسماء من اصدقائك هل تستطيع ذكرهم بمافيهم؟

* موسى فرج

- نزيه في غير اوان النزاهة

* صالح الطائي

- لايوجد فيه ما يُشتم سوى الوفاء وحبه للاصدقاء

* علي لفته سعيد

- ينافس القمي في تأليف الأدعية

* سلام كاظم

- حشره الله مع كارل ماركس

* سعدي عبد الكريم

- الله يشفيه من شخيره ومن غليونه

* كيف يقضي الارمل يومه؟

- في اعادة شريط الذكريات

* ماهو الافضل لك .. العيش عازب او تتزوج؟

- أعز ب

* منهم اصدقاء السوء؟

- لا أعرفهم

* لو كنت مكان بوتين هل تقدم على غزو اوكرانيا؟

- نعم

* لمن تقرا؟

- لله عز وجل، فكتابه لا يفارقني

* على من تبكي؟

- على عراق الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي

* من يدخل السرور على قلبلك؟

- اصدقائي حينما يطرقون بابي.

***

 حوار/ راضي المترفي

 

- لا فرق بين التنور ومنضدة الكتابة

- اول ناقد كتب عني هو المرحوم ناظم سعود

- لا أجيد التعبير لكني أجيد الاشتغال

- لا اعرف كيف يكون شكل الحياة بلا دموع

- جنون الكتابة يجتاز حدود العقل ويمسك السماء

***

هو مصداق للحديث الشريف (كونوا بلها كالحمام) وذو قلب خالي من الضغينة والبغضاء والانانية ولايحمل غير الحب.. نعم الحب الخالي من الانانية والمصلحة والغايات ولا تشي تعابير وجهه الا بأمرين الفرح واشراقة شمس الابتسامة والحزن وامطار الدموع خلقه الله فرحا لنجاح طفل وتفوق اخر عليه وعند الشعور بأنه اعطى واعطى واعطى ويبكي لعوز فقير وحاجة مسن للمساعدة وعوق شاب وفشل انثى.. هو غني وثراؤه فاحش اذ يملك (دشداشة) ارتداها كل من دخل العتبة العباسية المقدسة زائرا من احبته الادباء والشعراء والكتاب والمثقفين عرفته منذ قرابة عقدين من السنين يوم عمل سادنا لثقافة (صدى الروضتين) وخلال هذه المعرفة لم يخاصم احدا ولم يختلف مع زميل او صديق وكان مصدر فرحه يوم يجد نفسه في عناق مع زائريه من الاحبة رغم انهم يقدمون عليه سيده صاحب العتبة المقدسة عليه السلام في الزيارة ولكي لا اطيل عليكم تعالوا معي الى دردشة رمضانية خفيفة الظل مع المبدع والاديب علي الخباز رئيس تحرير صدى الروضتين التي تصدر عن اعلام العتبة العباسية..

- رمضان كريم

* رمضان كريم على الجميع ان شاء الله

- اين تجد تفسك وانت تمتطي صهوة التنور وتصنع ارغفة الخبز او خلف منضدة الكتابة لصنع ارغفة الابداع؟

جواب السؤال (1): لا فرق بين التنور ومنضدة الكتابة، كنت اكتب قصائدي ومسرحياتي على فوهة التنور وعندما تكتمل اعيدها اليه، واليوم أخبز على منضدة الكتابة، النظر الى الموضوع بجدية، او التأمل في صياغة الفكرة، كم جميل ان نخبز في التنور أرغفة تشبع العقول قبل البطون، وكم جميل ان نصنع من الكتابة أرغفة الامل والحياة، واما الابداع فهو أمل مدروس وتعبت عليه حقيقة لكنه قد لايكون حقيقيا، الحقيقة عند الغد.

- ما علاقتك بالنار؟

جواب السؤال (2): أول ناقد كتب عني هو الناقد المرحوم ناظم السعود، عام 1995م، كتب عن علاقة الخبازة بالكتابة والابداع، ملاحظة ذكية أكتشف بها وجود علاقة قوية بين الشعر والتنور.. اعذرني قد لا أجيد التعبير لكني أجيد الأشتعال

- كيف تولد الدموع؟

جواب السؤال (3): سألت عيني هذا السؤال لمرات عديدة، ذكية تلقي لهاثها على القلب، القلب هو من يلهب الدمع حنينا، أو حزنا، على نبضاته يحتكم الانين، كل شيء له دمع / الولادة ـــ الموت / الفرح ــــ الحزن / الصلاة والحب / لاأعرف كيف شكل الحياة بلا دمع، والدمع يولد من كل شيء حي.

- متى تشرق شمس الابتسامة؟

جواب السؤال (4): شمس المحبة والجمال، الشمس التي خلقها الله في القلوب، المسألة عندي ليست كلمات أو شعر، اقسم....بان الله سبحانه خلق الروح مبتسمة متفتحة للحياة، وأما من لايملك الروح لا يعنيني أمره.

- من يغيظك من احبابك؟ وكيف؟

جواب السؤال (5): من لا يعرف معنى الحب، ومن يجهل صدق الكلمة، من لا يعرف الفارق، بين الرأي في المنجز والرأي في الانسان،، المنجز مهما كان ابداعه هو من صنع الانسان قابل للنقد والرأي ووجهات النظر حتى لو تنسفه، لكن الانسان خلقه الله سبحانه، واما الكيف هي الكيف الذي يتقبله الانسان لنفسه وتلك معاناة البشرية

- هل تجيد صنع المقالب؟

جواب السؤال (6): أطلاقا،، انا لاأحب المقالب لذلك ابتعد عن برامج الكاميرا الخفية، والمقالب التي تصنع الخوف، وتسخر الأنسان لمرح المتلقي

- ماهو الفرق بين المبيت في المخبز والمبيت في السجن ان كنت جربت المبيت هناك؟

جواب السؤال (7): رغم تعب المخبز، وقساوة السجن، هناك لذة الشعور بالانتماء، المخبز أبن البيوت، أبن الناس يوصيني،أبي يوما لاتعد ربح العمل بل فكر كم عائلة وضعت رغيفك على سفرتها، أما السجن جعلنا نستلذ بالشعور بالمظلومية وهذا بحد ذاته أنتماء،ذات يوم أخبرنا السجان، بان الدنيا تمطر خارج السجن، شعرنا بنداوة المطر على اجسادنا وبالسعادة لأن السماء مازالت قادرة على المطر، ومادامت قادرة على المطر فهي قادرة على ان تغسل الوطن

- تكتب النثر وتمارس الومضة الشعرية وتعمل في النقد وعلاقتك بالمسرح واضحة وتعشق الصحافة وتكتب التاريخ.. هل انت مجنون؟

جواب السؤال (8): سؤال مجنون مثلي، جنون الكتابة يجتاز حدود العقل ويقدر ان يمسك السماء، ويقدر ان يضع النهر في قربة مبجل، ويرى الشمس في ليل كربلاء، انا ابن جيل مارس الجنون لحد الجنون بكل انواعه، لذلك ليس غريبا ان يكون لجنوني العين التي تبصر ما لا يبصره انسان لذلك أكتب

- هل استخدمت يدك يوما في شجار؟ ومن هم اعدائك؟

جواب السؤال (9): أعتقد أني تجاوزت مرحلة الشجار، وصرت احاذر على وقار شيبتي، الشجار ليس من منطق الحكمة أما اعدائي فلن اسميهم باسمائهم كي لا اجعل لهم اعتبار.

- من هو اسوء صديق عرفته؟ ومن هو الاكثر سوء منه؟

جواب السؤال(10): أسوء صديق هو الذي لا يفهمني والاسوء منه من يصور له جرحي غرورا أو تجاوزا، وفي عالم الصحافة هناك طلايب كثيرة ومنها ان البعض يعتقد ان الكتابة تعني بهرجة لغة ولا يعرف ان الانجاز الحقيقي هو ما تحت الكتابة، الكتابة ليست بما تقوله وانما هي بما تشير اليه

- هل تعشق النساء؟ وماهي مواصفات حبيبتك؟

جواب السؤال (11): أعتقد ان الأمر اختلف عندي الآن فانا لغير دور الأب لا اصلح، وأنا لا أعرف الا المبدعات وجميعهن بناتي نمتلك اليوم مجموعة مكونة من 47 كاتبة بعنوان (هؤلاء بناتي) ومجموعة اخرى بعشرات الكاتبات بعنوان بنات الخباز، واما لو استجد السؤال لماذا نساء فقط لذلك كنت مكلفا بدورة نسوية وتشكيل مرصد نقدي وتطور الامر الى التزام.

 - لو من عليك الله ومنحك الحرية واصبحت ارملا ماذا تفعل؟

جواب السؤال (12): (اللهم لاتريني تلك الساعة يارب) ومن المؤكد أني سأحزن كثيرا لأني سافقد أمرأة مميزة في كل شيء ولاأمرأة غيرها تحتمل جنون شاعر.

- ماذا تقرا؟

جواب السؤال (13): كان لدينا في ايام زمان مكتبات تعرض كتب للبيع بلا تعيين (كل كوشر يحتوي على عشرات الكتب وانت تشتري لتقرأ كتب متنوعة، لهذا انا اقرأ كل ما يقع بين يدي.

- لمن تكتب؟

جواب السؤال (14): كتبت لذاتي وأنا الذي زرعتها بين الناس، أكتب للوطن للناس، وأدرك تماما أن أول من يقرأ ما تكتب هو الله سبحانه، لذلك لايزعلني من لايعجبه ما أكتب تلك حريته، اما أنا علي أن أراهن كيف أجعله يتقبل ما أكتبه بمودة، وهذا هو التحدي

- ساذكر لك خمسة اسماء اذكر لي ابشع مافيهم من صفات؟

جواب (15)

- المترفي

الجرأة الواعية التي تعرف خطوتها جيدا

- الكناني

صعوبته في تقبل الأصدقاء رغم انه ينفتح على الجميع

- السماوي

يطير الى حد لااستطيع ان أبصره

- البناي

أليف لا يطاوله بالفته أحد

- الصائغ

علمني كيف أحرص على قلبي من الفتنة

- لو لفظتك العتبة العباسية خارج اسوارها ماذا تفعل؟

جواب (16): العتبة المقدسة لم تلفط احدا من قبل لتلفظ احبابها اليوم، وان حدث ذلك لاسمح الله فانا كيف الفظها وهي في الروح ربما ساعيش حينها بلا روح

- هل لك عقيدة؟ وماهي؟

جواب (17): كيف يكون الانتماء بلا عقيدة،، الدين أساس الحياة

- قل ماتريد فالختام لك

سلامتكم.

***

حاوره: راضي المترفي 

أدناه حوار أجراه الأستاذ الدكتور علي رسول الربيعي مع الأستاذ الدكتور محمد عبده أبو العلا، حول كتابه:  مقالات في الثقافة السياسية.

س1: بالنسبة لكتابك الأخير الذي يحمل عنوان مقالات في الثقافة السياسية، ما نوعية القارئ الذي تخاطبه في هذا الكتاب؟

ج1: الحقيقة أنني أحاول دوما أنْ أكتب بطريقة يفهمها الجميع وتؤثر في وجدان الجميع مهما كانت صعوبة أو عُمق الفكرة التي أتناولها أو أطرحها. وهذه الطريقة اتِّبعها حتى في كتابة المقالات والدراسات الأكاديمية المتخصصة، وهي بكل تأكيد طريقة شاقة، لكنني أذكِّر نفسي دوما بأن الفكر لا تكون له قيمة، وبالتالي لا يعيش ولا ينتشر، إلا بقَدْر اتساع قاعدة مَنْ يحملون هذا الفكر أو يؤمنون به. باختصار، إنني أبذل ما في وسعي لكي أصل من خلال كتاباتي إلى عقول، بل وقلوب،  القاعدة  العريضة من القرَّاء، سواء من المتخصصين، أو المثقفين، أو القارئ العادي.3504 سؤال الدولة والعدل ابو العلا

س2: ما أهمية هذا الكتاب في هذا التوقيت؟

ج2: أزعم أنَّ هذا الكتاب له أهمية كبيرة في هذا التوقيت الذي يعجًّ بالأحداث السياسية والعسكرية المتلاحقة، سواء على الصعيد المحلي، أو الاقليمي، أو الدولي، والتي كان آخرها الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد أصبج الناس منشغلين بالسياسة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس في ديسمبر 2010، وهذا الكتاب، في جانب منه، محاولة لتعريف الناس بحقيقة ما جرى، فضلا طبعا عن حقيقة بعض الأحداث المهمة الأخرى التي جرت قبل هذا التاريخ، سواء في الماضي البعيد أو القريب. هذا طبعا فيما يتعلق بالجانب العملي من الكتاب، أما بالنسبة للجانب النظري، فيشتمل الكتاب أيضا على جُملة من الرؤى والنظريات الفلسفية التي تدور حول أهم وأبرز القيم السياسية التي يحتاجها ليس المثقفون والمتخصصون فحسب، بل وعامة المواطنين أيضا باعتبارهم فاعلين سياسيين بالضرورة.

س3: ماذا تقصد بمفهوم الثقافة الساسية؟

3505 مقالات في الثقافة السياسية ابوالعلاج3: بادئ ذي بَدء، الثقافة السياسية بطبيعتها ثقافة عامة من ناحيتين مترابطتين: أولا، لابد أنْ يتحصل عليها جميع المواطنين باعتبارهم فاعلين سياسيين، أو يُفترض أنهم كذلك في الدول التي تحترم مواطنيها وليس في الدول يحكمها لصوص. ثانيا، هي ثقافة تتعلق بالأمور التي تمسّ من قريب أو بعيد الشأن العام. وعلى هذا، تمثِّل الثقافة السياسية بالنسبة للمواطنين حقا من حقوق المواطنة قبل أنْ تكون حقا من الحقوق الثقافية والاجتماعية. والثقافة السياسية من هذا المنظور لا تتوفَّر إلا في ظل إتاحة ما أسماه يورغن هابرمس ’’المجال العام‘‘ Public Sphere، أيْ في ظل فضاء ديمقراطي يُسمح فيه للناس بحرية التجمُّع وحرية النقاش والتعبير.

في هذا السياق، يمكن تعريف الثقافة السياسية بأنها جُملة القيم والأفكار أو الآراء السياسية العامة التي يحتاجها الناس بوصفهم أعضاء أو شركاء في مجتمع ما يتقاسمون فيه مصيرا مشترك. والثقافة السياسية بهذا المعنى تجمع بين البُعد المحلي والبُعد العالمي، وذلك على اعتبار أنَّ أي مواطن هو عضو في مجتمع محلي وفي الوقت ذاته عضو في مجتمع عالمي.

ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ الثقافة السياسية تشتمل على ما أسماه جون رولز ’’الأفكار الحدسية‘‘، وهي عبارة عن بعض الأفكار السياسية التي تكون محلّ اتفاق جميع المواطنين بحكم العقلانية المشتركة بينهم (أو ما يسمِّيه رولز ’’العقل العام‘‘ Public Reason). ومن أهم هذه الأفكار:

- المجتمع نظام من التعاون الاجتماعي المنصف.

- المواطنون المنخرطون في التعاون الاجتماعي يمثلون أشخاصا أحرار ومتساوين.

- المجتمع المنظم تنظيما جيدا يتم تنظيم شؤونه وفق تصور سياسي معيَّن للعدل.

وهكذا، بحسب رولز، تمثِّل الثقافة السياسية، بما تشتمل عليه من أفكار حدسية تلقى قبول جميع المواطنين العقلانيين، شرطا ضروريا لقيام المجتمعات الليبرالية الديمقراطية.3506 الحرية والمساواة ابوالعلا

س4: إذا كان لا يمكن التنكُّر لاتصال الديني بالسياسي في تجربة الحُكم التاريخية للأمة الإسلامية وإنْ كان اتصال وظيفي كما وصفتْ، هل يمكن أنْ تبقى هذه الصلة في الحاضر بشكل وظيفي آخر، أيْ أنْ تكون الشريعة الإسلامية موجِّها ومرشدا قيميًا للسياسة؟

ج4: نعم دكتور على، بكل تأكيد. بشكل عام، من جانبي أرفض أيّ حُكم سياسي باسم الإله أو باسم الله سبحانه وتعالى، سواء في الإسلام، أو المسيحية، أو اليهودية. ليس هذا فحسب، بل أرفض أيضا إضفاء أية صِبغة دينية على أية ممارسة سياسية كما هو الحال في إيران والكيان الصهيوني المحتل. فتوابع الحُكم باسم الدين وخيمة للغاية، فهذا معناه عدم مساءلة الحاكم عما يفعل على اعتبار أنَّ قراراته وسياسته تمثِّل تعبيرا صادقا عن إرادة الإله؛ وهذا من وجهة نظري يُعَدّ اجتراءً على الله وأُلوهيته، من ناحية، واستخفافا بعقول الناس وكرامتها، من ناحية أخرى.

الواقع أنَّ التجربة التاريخية الإسلامية والنصوص الدينية ذاتها يشهدان بل ويؤكدان على أنَّ الحاكم بشر، يُخطئ ويصيب وقد ينحرف في قرارته وسياساته، ومن ثم تجب مساءلته ومحاسبته، بل والثورة ضده أو قتاله إذا استلزم الأمر.

لكن رفضي للحُكم باسم الدين، لا يعني تأييدي لاستبعاد الدين عن السياسة والحياة العامة، حيث أنَّ للدين بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص، بُعدا أخلاقيا يتضح جليا من خلال التأكيد على قيم أخلاقية عامة هي في الواقع قيم أو مُثل سياسية تطمح  إليها كافة المجتمعات الإنسانية، وبالتالي لا سبيل إلى تحقيق التقدَّم والرخاء، وبالتالي الاستقرار، للمجتمعات بدونها، وعلى رأس هذه القيم العدل، والحرية، واحترام الكرامة الإنسانية.

فإذا كان الإسلام لم يُحدِّد نظاما أو شكلا معيَّنا للحُكم أو آلية معيَّنة لاختيار الحاكم وما إلى ذلك، إلا أنه حدَّد مقاصد سياسية عُليا يجب على ولي الأمر أن يتوخَّاها، وإلا سقطت شرعيته.

وهكذا، يمكن للدين الإسلامي، من خلال بُعده الأخلاقي المعياري، أنْ يكون ’’موجَّها ومرشدا قيميا للسياسة‘‘ على حدّ تعبير حضرتك.3507 محمد عبده ابوالعلا

س5: ما موقفك من العلمانية أجمالا، اذا كنت لاتؤيد حُكم سياسي باسم الإسلام لأنه يؤدي الى الاستبداد، كما وصفت في دراسة سابقة،  ويبدو أنك لا تؤيد الحُكم السياسي الليبرالي، إذ أنك مهتم في النظر في حدود الليبرالية أيضًا ، فمن حقنا أنْ نسأل: أيّ حُكم تراه مناسبا في الدولة العربية الحديثة؟

ج5: في الواقع هناك علمانيات وليس علمانية واحدة، ويظهر ذلك بالنظر إلى التطبيقات المختلفة للعلمانية في عالمنا المعاصر. على سبيل المثال، تختلف العلمانية في أميركا عن العلمانية في انجلترا، وكلتاهما تختلفان عن العلمانية في فرنسا، فضلا طبعا عن العلمانية في تركيا التي تختلف عن هذه العلمانيات الثلاثة.

فالعلمانيات بشكل عام تتراوح بين العلمانية المرنة المجردة من الأيديولوجيا والعلمانية الصلبة التي تفصل تماما بين الدين والمجتمع، وبالتالي تُنكر أية أهمية للدين في الحياة العامة كما هو الحال في فرنسا. وأنا من جانبي ضد الصِّيغة الصَّلبة أو المتطرفة للعلمانية وأميل في المقابل للصيغ المرنة التي تعترف بالتدين وطقوسه كجانب مهم لا يمكن إنكاره من جوانب الحياة الاجتماعية. فالدين من وجهة نظري هو أهم تجلي من تجليات الرُّوح التي تشكِّل جزءا لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية.

والعلمانية المرنة أو المحايدة لا تتعارض مع الإسلام، بل يدعمها الإسلام من خلال العديد من النصوص التي تؤكد مرارا وتكرارا على احترام حرية الاعتقاد، وضرورة إعمال العقل في التفكُّر والتدبُّر، فضلا عن أهمية، بل وضرورة، الأخذ بالأسباب المادية في الدنيا.

أما بالنسبة لقولك أنه يبدو أنني لا أؤيد الحُكم السياسي الليبرالي، فهذا طبعا غير صحيح، فأنا من أشد المؤيدين للحُكم الليبرالي ودولته المدنية العلمانية.

س6: هل فعلا هناك حاجة في هذا السياق التاريخي السياسي- الاجتماعي المشخص سواء على مستوى المجتمع المصري أو مجتمعات الدول العربية الى تحجيم ووضع الحدود لليبرالية السياسية (فكريا واجتماعيًا) بينما يتفشى فيها ايديلوجيات قروسطية الرؤية والتوجه والخطاب؟

في رأيي الشخصي، أنَّ الليبرالية الحقيقية التي تحترم فعلا الديمقراطية وتحترم فعلا حرية وكرامة الإنسان لا تعادي الدين والمتديين بأي حال من الأحوال. فالحرية لا تتجزأ، ولا يجب أنْ تتجزأ، وبالتالي يجب تطبيقها بالمعنى العام والشامل من دون استثتاء لأية صورة من صورها، بما في ذلك حرية الضمير، أيْ حرية الاعتقاد الديني. فضلا عن ذلك، فإن الدعوة الليبرالية إلى الحرية الفردية يجب أنْ تبتعد تماما عن فكرة استئصال كافة الحدود أو القيود. فالحرية بدون حدود تصبح خطرا يهدد الجميع من دون استثناء، فهناك حدود أخلاقية وإلهية وطبيعية يجب احترامها من أجل الحفاظ على الحرية الفردية ذاتها. ففي رأيي أنَّ الحرية المطلقة تؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض الحرية ذاتها. 

***

حاوره: الدكتور علي رسول الربيعي

 

معاداة الإمبريالية في عصرنا

ترجمة: علاء اللامي


توفي يوم 9 آذار- مارس الجاري، الباحث والمنظر الاشتراكي الماركسي الهندي البارز إعجاز أحمد. عُرف أحمد بكتاباته النظرية التحليلية حول الإمبريالية والثقافة والاستعمار. وله عدة مؤلفات من أهمها وأشهرها ستة كتب - في النظرية: الطبقات، الأمم، الآداب وهو مترجم إلى العربية، وأنساب الحاضر: الأنساب الأيديولوجية والسياسية لجنوب آسيا المعاصرة والعراق وأفغانستان والإمبريالية في عصرنا. وله كتاب مهم آخر ومترجم إلى العربية بعنوان "الاستشراق ومابعده: إدوارد سعيد من منظور النقد الماركسي.

أدناه ترجمة المقابلة التي أجراها معه توم كيفر في تورنتو بكندا في يونيو 2006 وقام إيدان كونواي بتحرير النص. سأضع نجمة واحدة في بداية السؤال أو التساؤل ونجمتين في بداية الجواب للتفريق بينهما:

 ** *

* ذكرتَ أن الجماهير لا تستطيع أن تصنع ثورة دائمة بمفردها، وأن الحزب الثوري الجماهيري يظل حيوياً لتطوير السياسات الراديكالية. هل يمكن أن تشرح ما تعنيه بهذا الكلام؟

** أولاً، أعتقد أننا يجب أن نتحدث عما يعنيه المرء بالثورة. أعني بالثورة تحولاً جوهرياً في سلطة الدولة، وانتقالها من طبقة أو تحالف طبقي إلى طبقة أخرى أو تحالف طبقي آخر. إنه أمر يتعلق بطبيعة الطبقة ورأس المال وكذلك بطبيعة الدولة. إذا من الواضح أنه لا يمكن القيام بالثورات بدون الجماهير، فإن الجماهير بمفردها قد تخلق انتفاضات اجتماعية واسعة النطاق، ولكنها لا تستطيع ترسيخ الثورات، أو على الأقل عدم نشوب الثورات الدائمة. لنلقي نظرة على بعض الأمثلة.

المثال الأكثر شمولاً هو الثورة الإسلامية في إيران. أنا أسميها ثورة لأنها، أولاً، أطاحت بورجوازية معينة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالملكية - ما كان يُطلق عليه "البرجوازية الملكية"- ولم يقتصر الأمر على النظام المَلَكي فحسب، بل هربت أكثر ألفي عائلة من إيران بالفعل. تحولت السلطة بشكل دراماتيكي من سلطة طبقة واحدة إلى سلطة طبقة مختلفة تماماً. الجانب الثاني المهم لهذه الثورة، هو أنها كانت أول ثورة حضرية في تاريخ الثورات. ثالثاً، تغيرت سلطة الدولة بمعنى أن جهاز الدولة - داخل الجيش على سبيل المثال - قد تحول من المَلَكية إلى السلطة الصاعدة الجديدة التي ضمنت استقرارها.

ما كان دور الجماهير؟ إن الجماهير تصنع الثورة، ولكن بمجرد أن تبدأ العملية الثورية، لا يمكن إلا لمنظمة قادرة على قيادة الجماهير أن تضمن انتصارها. في حالة إيران، كانت هناك منظمات يسارية مثل حزب توده "الشيوعي" شاركت أيضاً في صنع الثورة، ولكنهم أخرجوا من المناورة من قبل رجال الدين الشيعة، ولم ينجحوا في النهاية.

الآن، رجال الدين الشيعة لديهم هيكل محدد للغاية. في الواقع، فإن مصطلح "شيعة علي"، وهو الاسم الصحيح للشيعة، يعني حزب علي، ومن المفارقات أنها تعني في الواقع "حفلة"- يشير المتحدث هنا إلى كلمة (PARTY) التي تعني أيضا حلفة. ع.ل-.

لدى الشيعة هيكل هرمي يربط جميع المساجد في القرى والبلدات - ستون ألفاً منهم في إيران - عبر درجات دينية عليا مختلفة، وهناك بين خمسة عشر أو عشرين رجل دين بدرجة "آية الله" وهؤلاء يشكلون قيادة هذا الهرم الديني. إن هذا التنظيم الهيكلي هو الذي مكّن المؤسسة الدينية من تولي الثورة وقيادتها إلى تطورها الناجح.

عندما تتحرك الجماهير وينهار السوق ويكون هناك حظر تجول، فمن الذي سيحافظ على النظام؟ من الذي سيقدم الطعام للعائلات؟ وعندما تبدأ الجثث في الوصول وتستخدم الجنازات لأغراض الدراما السياسية، من سينظم تلك الجنازات، ويحافظ على النظام، ويستمرون في البناء؟ أنت تحتاج إلى منظمات. جماهير الشعب تصنع تمردا. مرت الأرجنتين بثلاثة منها. كان كيرشنر قادراً على الخروج منها إلى حالة استقرار. وهذا هو المثال الثاني لما أسعى إليه.

المثال الثالث، الذي سأقدمه هو أفغانستان، في أواخر السبعينيات حيث صنعت منظمة صغيرة ما يمكن تسميته "ثورة" ففيها، مرة أخرى، انتقلت السلطة من طبقة إلى أخرى وتغيرت شخصية الدولة. إنَّ السمة البارزة لما حدث في أفغانستان هي أنها كانت ثورة بدون الجماهير، على شكل انقلاب عسكري. وقد دفعت أفغانستان ثمن ذلك. ودفعت القوى الثورية في أفغانستان ثمن ذلك. ثم فشل التدخل السوفييتي في النهاية، لأن الجماهير لم تكن حاضرة في العملية الثورية، وكان الأمريكيون قادرين على تنظيم كل من البرجوازية والجماهير بواسطة آليات مختلفة. وهذا ما أعنيه عندما أقول إن الجماهير في حد ذاتها لا تقوم بالثورات على الرغم من أنها توفر الاحتمالات للقيام بها.

هذه النقطة لها بعض التداعيات المهمة على الطريقة التي ننظر بها إلى نضالات أمريكا اللاتينية اليوم: بوليفيا لم تشهد ثورة، بل شهدت انتفاضة جماهيرية هائلة أدت إلى قيام تشكيل سياسي مختلف تماما في الحكم. لكن طبيعة سلطة الدولة تظل كما كانت. إن البرجوازية بقيت سليمة تماما، وتمتلك نفس القدر من القوة كما كانت دائماً. لذلك فهي ليست ثورة بالمعنى الموضح أعلاه. كانت الجماهير هي من تسبب في ذلك وأنت تعرف كيف حدث ذلك.

ثم هناك فنزويلا، حيث شهدنا انقلاباً فاشلاً شارك فيه شافيز، وبعد ذلك أصبح يتمتع بشعبية كبيرة ثم يأتي إلى السلطة فيما بعد من خلال الانتخابات. وحدثت محاولة انقلاب ضده، وقد هُزمت، وكانت النتيجة تأمين سلطته. حتى يومنا هذا، فإن أقوى ميزة في نظام شافيز هي أن الجيش ظل مخلصاً له. حشد شافيز الجماهير واستمرت الجماهير في انتخابه في الاستفتاءات والانتخابات. لكن قوة البرجوازية باقية. البرجوازية في موقف دفاعي لكن قوتها لا تزال سليمة. ينتقل تشافيز من خلال استراتيجية معقدة للغاية تتمثل في منحهم تنازلات كافية لإبقائهم مدمجين في النظام، بينما يحاول في نفس الوقت تغيير طبيعة المؤسسات مثل ( PDVSA) شركة النفط الحكومية وما إلى ذلك؛ لإبقاء الجماهير في حالة حركة أثناء إنشاء أجهزة معينة للسلطة الشعبية. لن أسمي هذه ثورة بل عملية. إلى أين ستؤدي هذه العملية في المستقبل، لا نعرف حتى الآن. لكن هذه ليست كوبا، كما أكد البعض. على المرء دائماً أن ينظر إلى كل حالة من حيث ظروفها وخصوصياتها التاريخية.

إذا لم تكن واضحاً بشأن موقفك النظري فيما يتعلق بكيفية حدوث الثورات، وإذا كنت لا تولي اهتمامًا كافيًا للعملية التاريخية، فسوف ينتهي بك الأمر ببساطة إلى إصدار أحكام أخلاقية. على سبيل المثال، "هذا شعبوي لا بد أن يخون"، كما يقال عن موراليس. بالمناسبة، أصبحت "الشعبوية" كلمة سيئة للغاية. هناك شعبوية يسارية وهناك شعبوية يمينية وهناك حركات مثل البيرونية - في الأرجنتين - التي كان لها جناح يساري ويميني. لهذا فإن فهمنا لكيفية عمل الشعبوية في المواقف المختلفة يجب أن يُفهم ويُحكم عليه تاريخيًا، وليس أخلاقيًا.

 * أحد الانتقادات الموجهة لما تقوله، هو أن المنظمات التي حشدت الجماهير وبنت قوة معارضة للدولة القائمة سينتهي بها الأمر إلى تكرار أنماط الهيمنة أو القمع داخل تلك الثورات بمجرد نجاحها.

 ** بدءاً، كنتُ حريصاً على القول ببساطة إنَّ التحول في السلطة الطبقية يشكل ثورة. من المهم أن نتذكر أن الثورات تصنع من اليمين وكذلك من اليسار. لا أعتقد أنه كان هناك أي انحطاط في إيران، كانت دائماً هناك حركة "فاشية دينية" وكانت دائماً يمينية. كانت ثورة من اليمين. ما حدث تاريخياً هو أنه خلال الخمسينيات من القرن الماضي، تم القضاء تماما على اليسار الشيوعي ويسار المعارضة البرجوازية الوطنية الليبرالية من قبل جهاز الأمن الإيراني (السافاك) ووكالة المخابرات المركزية الأميركية بحيث تحول ميزان القوى. لم يعد من الممكن صنع الثورة المناهضة للملكية من اليسار. كان رجال الدين قادرين على القدوم والاستفادة من ذلك. لسوء الحظ، يمكن تحريك الجماهير من اليمين بقدر ما تتحرك من اليسار.

الآن، يجب على المرء أن يدرك أن هناك نوعاً قوياً من التقاليد الشعبوية في هذه الثورة، وقد أنجزت وسلَّمت أشياء معينة، وخصوصا لبعض النساء. ستخبرك النساء الإيرانيات القادمات من الطبقة الوسطى الدنيا بمدى تأثير هذه الثورة عليهن. تكره النساء القادمات من الطبقات الوسطى الغربية والطبقات الوسطى العليا الثورة في إيران، لكن النساء القادمات من الطبقات الدنيا تميل إلى دعمها. لقد أرسلتهن إلى الجامعات والوظائف عالية الأجر وتصاعدت مشاركة المرأة في المجتمع.

ثم أن هناك صراعا مستمرا داخل النظام؛ حيث يمثل محمود أحمدي نجاد شخصية متزمتة للغاية، رغم أنه هو نفسه ليس رجل دين. إنها أول حكومة في إيران منذ الثورة لا يرأسها رجال دين. وبصرف النظر عن جميع أنواع الأشياء الأخرى التي قد يقولها المرء، فهو يمثل اتجاه داخل الثورة يلتزم بإعادة توزيع جذرية للثروة.

لكنها كانت ثورة من اليمين، ولم يكن مقدرا لها أن تصبح حركة يسارية. كان الأمر يتعلق بتكوين نخبة مضادة، حول إنشاء دولة ذات طابع يمت بصلة للطبقة الوسطى وأساس اجتماعي في رأس المال التقليدي في مواجهة البرجوازية الملكية. في ذلك الوقت، كان لديك هذا الوضع الغريب حيث تحول ميزان القوى فعلياً مع الانتفاضة البروليتارية في قطاع النفط، لكن هذا الانفتاح تم إغلاقه وعزله وكان ذلك هزيمة اليسار وترسيخاً للطابع الإسلامي للثورة.

 * ألا ينتهي موقفك بتأييد فكرة أن ما يجري في العالم اليوم هو حرب بين الإسلام والغرب، وأن هناك صراع حضارات، يتم فيه حشد العالم الإسلامي خلف منظمات مثل حماس وحزب الله والدولة الإيرانية التي تقاوم القوى المنظمة للصهيونية والإمبريالية الأمريكية؟ ألا يوجد بديل للطبقة العاملة العلمانية يمكننا أن ننظر إليه بدلاً من ذلك؟ ألستم تضعوننا في موقف يتوجب علينا فيه دعم الحركات الإسلامية التي قد يكون لها بعض الصدق التاريخي ولكن نجاحها استند إلى تهميش اليسار؟ 

** انظر، أعتقد أنه لا توجد سوى حضارة واحدة في العالم. إنها عالمية وهي رأسمالية. لا توجد حضارة أخرى. نظراً لوجود حضارة واحدة فقط، فلا يمكن أن يكون هناك "صراع حضارات". ثانياً، حتى لو كنت تتحدث عن أشياء مثل الإسلام والغرب، فإن الحضارات لا تتصادم لأسباب بسيطة وهي أن الحضارات ليس لديها جيوش. الحضارات ليس لها دول. لقد تغلغلت الحضارات تاريخياً في بعضها البعض من خلال التبادل الثقافي والمادي. الحضارات لا تتصادم، ولم تتصادم أبداً. ولهذا فهذه فرضية خاطئة تمامًا

ولا أعتقد أن هناك شيئًا مثل "الإسلام مقابل الغرب". هناك أكثر من "إسلام". هناك الإسلام السعودي، على سبيل المثال، وهو سعيد للغاية بما يسمى بالغرب. أعتقد أن ما عليك القيام به هو تحديد الجماعات الإسلامية التي تتحدث عنها. في العراق، الإسلام الشيعي يعمل مع الأمريكيين، والإسلام السني يقاتلهم. الإسلام السني الكردي يعمل مع الأمريكيين بينما الإسلام السني في العراق ضدهم. لذلك، إذا بدأتَ في النظر إلى الأشياء بعناية أكبر، فلن تجد "إسلاما" واحدا. يجب أن يكون لديك نوع مختلف تماماً من التحليل، مع ترك تاريخ "الإسلام" جانباً والنظر في كيفية استخدام الإسلام لإضفاء الشرعية على هذا وذاك.

بالنسبة للجزء الآخر من سؤالك، يجب على المرء أن يؤسس تحليلاً ضمن مجال القوات "ميزان القوى" الحالي. النظامُ الإيراني يمثل العاصمةَ الإيرانيةَ كما هي الآن، ويريد إقامة تحالفات مع رأس المال الروسي والصيني كما هي الآن. لذلك يتحدث المرء عن مجال القوة هذا. في إيران، لا توجد فعلياً حركة منظمة كبيرة للشيوعيين يمكن أن تكون - بشكل معلن - شريكا في النضال أو عنصراً في الصراع على السلطة. لذلك يتحدث المرء عن الطريقة التي يتم بها تشكيل ميدان القوة الآن بعد هزيمة اليسار الشاملة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وبالمثل، إذا كان المرء يتحدث عن حماس، فإن خلفية تحليلنا يجب أن تكون هذه الهزيمة الشاملة لليسار. ما يتبقى منه اليوم، فالإسرائيليون يواصلون سياسة "الانتقاء والقتل". لقد قُتل كل زعيم وصل إلى قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم يأتي جديدون ويقتلون. علينا أن ننظر إلى حقائق الصهيونية والإمبريالية وننظر إلى أولئك الذين قد يكافحون ضدهما.

إحساسي أن النظام الإيراني في منتصف الطريق هناك، وفي منتصف الطريق نحو التوصل إلى تسوية شاملة مع الأمريكيين. الأمريكيون يحكمون العراق برضى الإيرانيين بالتأكيد. لذلك ليس لدي أوهام حول النظام الإيراني كقوة مناهضة للإمبريالية. هؤلاء ليسوا معاديين للإمبريالية. هؤلاء هم الأشخاص الذين يريدون بناء دولة رأسمالية قوية في إيران والتوسع مثل أي دولة رأسمالية أخرى. إن رجال الدين الشيعة في العراق وإيران أوغاد متسترون: إنهم يتعاونون مع الأمريكيين.

بالانتقال إلى مثال العراق المعاصر، أعتقد أن المنظمة الوحيدة التي لديها أي قدرة حقيقية هي المنظمات الشيعة، الذين سلمهم الإيرانيون للأمريكيين. فالمعارضة السنية المزعومة ليست قادرة على القيام بثورة على مستوى العراق. عاجلاً أم آجلاً، سنرى ما إذا كان الشيعة سينضمون إلى التمرد، وفي هذه الحالة ستنهار القوة الأمريكية، أو سيظلون جزءًا من القوة الأمريكية، وفي هذه الحالة سيتم هزيمة التمرد خلال الأشهر والسنوات المقبلة. في سياق السلطة الطبقية ككل، أقدم هذه الصياغة. نأمل مع تطور هذا التعقيد، ستظهر بعض القوى الأخرى من اليسار. لكن هناك أزمة حادة على اليسار. انضم الحزب الشيوعي العراقي الرسمي إلى النظام الأمريكي، لذلك، في هذه المرحلة، نتحدث عن إمكانيات محدودة للغاية.

إلى حد كبير، إيران حالة فريدة من نوعها. انتصر الإسلاميون في أفغانستان بسبب القوة الأمريكية والقوة السعودية. كانت القوات العسكرية الباكستانية تقودهم. لقد كانت ثورة مضادة منظمة، نظمتها كل هذه القوى من خلال مرتزقة إسلاميين من دول مختلفة. الأفغان أنفسهم لم يصنعوا ثورة ومن غير المرجح أن تقوم المعارضة الإسلامية نفسها، كما نراها الآن، بثورة أخرى.

* كيف تفهم حركة المقاومة بقيادة "حماس" في فلسطين أو "حزب الله" في لبنان؟ من جهة، أهي حركات تحرر وطني تحارب الاحتلال؟ من ناحية أخرى، غالباً ما يرتبطون بالسياسات الإسلامية الرجعية.

 ** إنه تاريخ معقد للغاية. في كلتا الحالتين لديهم أصول يمينية للغاية، وكان ذلك عن عمد. كان الشيعة في جنوب لبنان هم القاعدة التاريخية للحزب الشيوعي اللبناني، وفي نقطة معينة في السبعينيات، تم إنشاء منظمة بدعم وتحريض كاملين من ياسر عرفات وآخرين للاستيلاء على تلك القاعدة لتنظيم ديني. كان المسار الأساسي يمينياً جدًا. في فلسطين، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن دولة إسرائيل كانت لها دور فعال في رعاية حماس في تطورها المبكر، مرة أخرى، ضد اليسار الفلسطيني.

كان اليسار الفلسطيني، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على وجه الخصوص والجناح اليساري لحركة فتح، قويين للغاية في الأراضي المحتلة ذات يوم. كان الهدف من تهجيرهم والقتال ضدهم هو أن حركات مثل حماس قد تم إنشاؤها، من قبل النخبة الفلسطينية، ولدينا سبب للاعتقاد، بوجود دعم من الإسرائيليين. بعد هزيمة اليسار في لبنان خلال الحرب الأهلية، بفضل التدخلات السورية التي رعتها إسرائيل والولايات المتحدة، تم محو اليسار من الخريطة كقوة منظمة. على الرغم من وجود جيوب كبيرة، إلا أن اليسار المنظم هزم إلى حد كبير.

كانت نقطة التحول المهمة هي الغزو الإسرائيلي واحتلال جنوب لبنان عام 1982، والذي اعتقدوا أنه سيكون دائمًا، تماماً كما يعتقدون أن احتلالهم لمرتفعات الجولان في سوريا دائم. أرادوا ضم جنوب لبنان. في ذلك الوقت، شكل حزب الله وعدد من القوى اليسارية الوطنية جبهة موحدة ضد إسرائيل. كانت هذه هي المرة الوحيدة في تاريخ إسرائيل التي أجبرت فيها إسرائيل خلال الكفاح المسلح على إخلاء منطقة ما. لقد تحول "تغير تكوين" حزب الله في هذه العملية.

بعد انتصار حزب الله دخل البرلمان وأصبح الآن قوة برلمانية قوية للغاية. ضمن التشكيل الجديد للقوى، ومقارنة بالعناصر الأخرى في السياسة اللبنانية، فإن حزب الله هو في الواقع اليسار داخل ذلك البلد. إن التزام حزب الله بأن يصبح حزباً سياسياً في دولة متعددة الطوائف وأن يشغل حيزاً فقط في البرلمان تمنحه دائرته الانتخابية يجعله من الناحية السياسية نوعًا مختلفًا جدًا من التنظيم عن أي من المنظمات الإسلامية الموجودة في أي مكان آخر. بهذا المعنى، فإن حزب الله هو نوع مختلف تمامًا من القوة. لقد عمل حزب الله والعديد من المنظمات اليسارية معاً في الواقع. الكفاح المسلح ضد الإسرائيليين خاضه اليسار وحزب الله معا.

حماس لها تاريخ مختلف. وهي من أصول "الإخوان المسلمين". كانت جماعة الإخوان المسلمين المصرية قوية للغاية في غزة حتى قبل الاحتلال الإسرائيلي. إن معارضتها للشيوعية والعلمانية جعلتها قريبة جداً من الإسرائيليين في مرحلة ما. لذلك، كانت حماس معارضة بشدة لفتح وحركة عرفات. مع هزيمة اليسار، التي بلغت ذروتها بهزيمة الانتفاضة الأولى، لم يبق سوى لاعبان مهمان. لقد استخدم عرفات الانتفاضة الأولى للحصول على اتفاقيات أوسلو، وفي اتفاقيات أوسلو بيعت المنصة اليسارية لحركة التحرير الفلسطينية. هُزمت قوى اليسار وعُزلت خلال تلك العملية. لم يبقَ سوى ما يسمى بالسلطة الفلسطينية وحماس في الميدان، لأن حماس لم تكن أبداً جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية. كانت تعارض منظمة التحرير الفلسطينية.

عززت حماس أساسها في البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة من خلال الانخراط في خدمة الشعب، وتقديم ما لا تستطيع السلطة الفلسطينية تقديمه وما لا تستطيع تقديمه، ويرجع ذلك جزئياً إلى فسادها. إن الطابع الاجتماعي لحماس مختلف تماماً عن طابع منظمة التحرير الفلسطينية. كانت حماس قادرة ليس فقط على توجيه انتقادات للاحتلال والسلطة الفلسطينية، ولكن جعل الحياة اليومية تحت الاحتلال ممكنة. ومن هذا المنطلق شرعية حماس وشرعية الفكر الإسلامي.

أعتقد أن الأمر بسيط للغاية. ليس عليك الاتفاق تماما مع حماس لكي تراها قوة، هي في الوقت الحالي، في طليعة المقاومة لإسرائيل.

 * لنَعُد إلى مسألة التنظيم. ما هو الفرق بين الثيوقراطية الشيعية التي وصفتها والحركة الشيوعية التي قد تدعمها؟ هل أن شكل هذه الحركات متطابق في كلتا الحالتين على الرغم من تضمنهما محتوى سياسياً مختلفاً تماما؟

 ** لا أعرف ما الذي يعنيه البعض بالشكل، لأنه لا يمكن تمييز الشكل عن العلاقات الاجتماعية التي يندمج فيها. لا يمكن أن يكون شكلاً بلا جسد. كان للعلامة التجارية الخاصة للشيعة الإيرانيين تسلسل هرمي جاهز ذو طبيعة دينية. على سبيل المثال، لكل مسجد وكل إمام موظفين يتقاضون رواتبهم من المؤسسة. إنه تسلسل هرمي للاعتقاد والإيمان وكل ذلك. الشيوعيون ليس لديهم مثل هذه الميزة. يجب على الشيوعيين أن يبنوا قواعدهم، وهم في طور بنائهم سيكتسبون الولاء والشرعية بين الجماهير.

إنها مسألة فعل عملي، وليست مجرد مسألة إنشاء المنظمات. لا تفعل المنظمات شيئاً ما لم تقدم شيئًا للناس. نقابات العمال هي مجرد شكل واحد من هذه الديناميكية. لطالما كان "العمل الاجتماعي" للشيوعيين هو الذي منحهم الأرضية بين الجماهير. لقد فعل الشيوعيون دائماً ما تقول الحركات الاجتماعية إنهم يفعلونه: الصرف الصحي والمجاري، والمنظمات النسائية، وحل مشاكل الناس في القاعدة. لم يكتشف ذلك ما يسمى بالحركات الاجتماعية "الجديدة". هذا ما فعله الشيوعيون دائما. هذا ما فعله غاندي. أي حركة تريد تضرب بجذورها بقوة بين الجماهير تنهض على هذا الأساس.

عندما تأسست دولة باكستان وجاءت هذه البروليتاريا المهاجرة من الشمال، لم تكن هناك نقابات عمالية في كراتشي. كان أحد مخاوف العمال هو أنهم سيموتون ويدفنوا بعيداً عن منازلهم. أول منظمة شيوعية نشأت في كراتشي كانت "لجنة توابيت ودفن". كانت هذه أول منظمة شيوعية. وعليه، فمن خلال هذه الأنواع من الأنشطة يمكنك بناء شرعيتك. هذا ما عليك القيام به في أي بلد. الآن، يجب أن يكون لديك أشكال متجذرة في حقائق حياتك. لهذا، فإن الشخص الكندي مثلا لا يهتم كثيراً بمكان موته ودفنه. ستكون القضايا مختلفة، لكن علينا القيام بعمل مماثل.

هذا هو الشيء الذي تفعله معظم الحركات الاجتماعية. أنا أدعمهم تماماً لأنه نوع مألوف جداً من العمل. حيث إنني أفصل الشركة مع معظمهم في أيديولوجيتهم الضيقة جداً للسياسة الجزئية، حيث يفترض المرء أنك ستتقدم بالتدريج في الممارسة من هذه الأنشطة إلى المؤتمرات والمنتديات الاجتماعية السنوية، وقد يحدث بعض التنسيق وسيتغير المجتمع بطريقة ما. هذا التركيز الحصري على السياسة الجزئية هو الشعبوية من الدرجة الأولى، وأنا لا أجده مقنعًا للغاية.

 * إحدى الحجج التي يطرحها العديد من الناس هي أن المنظمات اليسارية من النوع القديم لم تعد ضرورية أو مرغوبة، وأن هناك شبكات أفقية يتم تطويرها، وأن الحركة المناهضة للعولمة هي مثال على "حركة الحركات" التي تقدم بديل للطريقة القديمة في ممارسة السياسة. ما رأيك في حجج الزاباتيستا أو جون هولواي "محامٍ وفيلسوف وعالم اجتماع ذو توجه ماركسي، يرتبط عمله ارتباطًا وثيقًا بحركة زاباتيستا في المكسيك. ع. ل؟

 ** نعم، هذا هو السؤال. أعتقد أن مسألة سلطة الدولة قضية مركزية تماما. في قلب سلطة الدولة توجد آليات العنف، ليس العنف القومي فحسب، بل العنف الإمبريالي. الثورات من الأسفل، التي لا تعالج مسألة سلطة الدولة لن تنجح أبدًا. حركة زاباتيستا لن يقوموا بثورة. قد تغير هذه الحركة ظروف الشعوب الأصلية المكسيكية في بعض أجزاء المكسيك - وهو أمر يستحق القيام به وأنا أؤيدهم بالكامل - لكنهم لن يقوموا بثورة ما لم يغيروا أنفسهم.

من وجهة نظري، فإن الزاباتيستا يرتكبون خطأ بالبقاء خارج الميدان الانتخابي وعدم إلقاء دعمهم وراء المرشح أوبرادور (مرشح اليسار في انتخابات الرئاسة سنة 2018 وقد فاز فيها أوبرادور، ومن الواضح أن المقابلة مع أحمد قد أجريت قبل هذا التاريخ ببضع سنوات. ع.ل). في أي بلد يكون المجال الانتخابي مفتوحًا فيه، لا يمكنك ببساطة إخلائه. يمكنك القيام بالعديد من الأمور الأخرى، ويجب عليك التعامل معها. هذا هو سبب تفوق الحركات الاجتماعية في بوليفيا: لقد اندمجوا خلف موراليس من أجل تغيير الحكومة على الأقل ومنحها فرصة. يمكن للحكومة أن تزود الحركات الاجتماعية بميزة كبيرة فيما يتعلق بما يمكنها فعله. إنه ليس وضعًا ثورياً ولكنه يوفر ميزة فنية معينة.

للثورات من الأسفل سقف لن تتجاوزه. هذه هي المشكلة. أنا لا أتبع التفكير الأناركي المعاصر (نسبة إلى الأناركية أو اللادولتية وهي تيار شيوعي غير ماركسي يسمى أحيانا الفوضوية أو النقابية الثورية. ع. ل) بإهماله الخاص للدولة ومسألة حل الدولة كمجال متناقض للقوة. أعتقد أن هذه نقطة ضعف كبيرة من الناحية النظرية، وأعتقد أن باكونين "ثوري أناركي من أصل روسي ساهم في بعض الثورات الأوروبية ومنها كومونة باريس. ع.ل" كان في الواقع أكثر دقة. هناك سؤال لا مفر منه حول بناء دولة معاكسة.

 * جادل سيرل جيمس (مؤرخ وصحفي ماركسي من ترينيداد، وصف بأنه جدلي مناهض للستالينية. ع.ل) وبعض منظري التقليد الماركسي الإيطالي المستقل الذاتي بأن المراحل المختلفة للرأسمالية (تنافسية، احتكار، فوردي، ما بعد حداثي / مصنع اجتماعي) أنتجت أشكالًا معينة من التنظيم الذاتي البروليتاري (من الاتحاد الحرفي إلى الحزب الطليعي إلى الجمهور). هل تشير الطبيعة الخاصة للإمبراطورية الأمريكية والرأسمالية المتأخرة إلى أطر جديدة للتنظيم الثوري في القرن الحادي والعشرين؟

 ** أعتقد أننا نتحدث عن عدة أشياء مختلفة هنا. عندما تتحدث عن حزب طليعي، عندما كان سيرل جيمس يتحدث عن حزب طليعي، فإنك تفكر في الشكل اللينيني للمنظمة الثورية المحترفة على نموذج "ما العمل- كتاب لينين الشهير "، يبدأ استجواب هذا النموذج من قبل أشخاص مثل غرامشي. ماذا تفعل في وضع لا توجد فيه دولة قيصرية بل جمهورية برجوازية مستقرة؟ عندما يكون شكل الحكم السياسي مختلفًا جذرياً، ماذا يحدث لهذا النوع من الأحزاب الطليعية؟

في الخمسينيات من القرن الماضي، جادل المنظِّرون الشيوعيون في الهند بأنه لا يوجد التفاف حول الشكل البرلماني. نظراً لأن الوعي البرجوازي يتم إنشاؤه باستمرار على نطاق واسع من خلال الشكل البرلماني، وتعود الدولة إليه لإضفاء الشرعية عليه، يمكنك ويجب عليك تمثيل نفسك في هذه الساحة البرلمانية. أعتقد أن هذه هي الأزمة الأولى لتشكيل حزب الطليعة. في بلدان مثل نيبال ليس لديك جمهورية برجوازية. في هذه الحالة، كان الشيوعيون قادمين من الريف، ومع ذلك يتعين على الشيوعيين النيباليين الآن التعامل مع هذا السؤال بالضبط. في معظم الحالات، لم يعد نوع الطليعة المقترح في "ما العمل" قابلاً للتطبيق. لا أعتقد أن الأمر يتعلق كثيراً بمراحل الرأسمالية. أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بالشكل السياسي للحكم في ظل الرأسمالية.

* كيف تختلف الشيوعية البرلمانية في الهند عن الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا؟

** هذا سؤال جيد جدا. في الأساس، كانت الديمقراطية الاجتماعية ملتزمة بفكرة أن تحول الرأسمالية يمكن أن يتحقق من خلال سلسلة من الإصلاحات التدريجية التي يتم تحقيقها من خلال بناء دولة الرفاهية. كان يُنظر إلى بناء دولة الرفاهية وتعميقها على أنه مشروع الديمقراطية الاجتماعية. وقد وصل هذا المشروع إلى حدوده مع أزمة الكينزية. لا يتوهم الماركسية الهندية أنها ستكون قادرة على بناء دولة رفاهية مناسبة. هذا اختلاف واحد.

في هذا الصدد، بمجرد انفصالها عن الماركسية في أوائل الخمسينيات (على أقصى تقدير)، لا أرى الاشتراكية الديموقراطية كما لو كانت قوة مناهضة للرأسمالية. تعتبر الشيوعية البرلمانية الهندية نفسها في الواقع قوة مناهضة للرأسمالية. مرة أخرى، لا يمكن النظر إلى مسألة الإصلاح بشكل تجريدي. أنت تعمل من أجل الإصلاحات إذا فزت بالانتخابات في ولاية معينة، كما يفعلون في ولاية البنغال الغربية. لكن الوهم لا يوحي أبدا بأن هذه هي الطريقة التي سنبني بها الاشتراكية. هذا الوهم ليس هناك.

ما يقولونه هو أنك، بما أنك انتخبتنا، سنفعل لك أفضل ما في وسعنا. لهذا فإن ما يفعلونه عملياً في هذه الحالة لا يختلف كثيراً عن الإصلاح الديمقراطي الاجتماعي في مجتمع فلاحي إلى حد كبير. الفرق هو أنه لا يُنظر إليه على أنه لبنة أساسية. إنهم واضحون بشأن حقيقة أنه لا يمكنك بناء اشتراكية في مقاطعة تابعة لدولة ما، وأنه يتعين عليك بناء منظمات ثورية جماهيرية. إنه ثوري بمعنى أن العمل البرلماني يُنظر إليه على أنه نوع واحد فقط من العمل، وأنت تخطط باستمرار لمواجهات مع الدولة خارج البرلمان تماما.

إنها مسألة بناء الحركات الجماهيرية التي ستخرج منها، من ناحية، تأثيرات مفيدة على السياسة البرلمانية ونوع الانتخابات التي تمر بها الجماهير، ولكن من ناحية أخرى، يتعلق الأمر في الواقع ببناء أجهزة للسلطة السياسية الشعبية في القاعدة. على نطاق أوسع، يتعلق الأمر ببناء ما أطلق عليه سام جيندين وليو بانيتش، بشكل غامض للغاية "القدرات". على سبيل المثال، لديك حركة نسائية تتناول جميع أنواع الأشياء، من الكهرباء إلى الطاقة إلى الإسكان، وهي ليست مجرد خاضعة للآلة الانتخابية. وعلى هذا، فهناك مفهوم مختلف تماماً في الهند عن نظيره في أوروبا.

بالعودة إلى سؤالك حول الفترة الزمنية وأشكال التنظيم: حقيقة الأمر هي أنه في جهودهم التنظيمية داخل الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، لم تلق كلمات الشيوعيين آذاناً صاغية، باستثناء الثلاثينيات عندما فعلوا ذلك. تصبح قوة سياسية بارزة إلى حد ما. أسباب ذلك متنوعة، لكنها ليست مسألة فترة زمنية أو فوردية وما إلى ذلك.

ومع ذلك، فإن الشيء الذي لا بد من قوله هو أنه كان هناك تحول في تكوين الطبقات نفسه يتطلب تحولاً في فهمنا للتنظيم. استندت الماركسية الكلاسيكية إلى فكرة أن غالبية السكان سيصبحون بروليتاريين، وستكون الطبقة العاملة الصناعية الكبرى في قلب هذه العملية. إذا استخدمت مصطلح "بروليتاري" أو "طبقة عاملة" بالإشارة إلى العلاقة الدقيقة للغاية بين العمل المأجور ورأس المال، فإن الغالبية العظمى، وبالتأكيد في البلدان الرأسمالية المتقدمة، قد أصبحت طبقة عاملة بهذا المعنى. لكن ثقل الطبقة العاملة الصناعية، إذا كان هناك أي شيء، يتدهور مع الأتمتة -التشغيل الذاتي الآلي ع.ل -، إلخ. ولهذا السبب، فإن الجزء الأكبر من الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة ليس البروليتاريا الصناعية. في الواقع، لم تشكل الطبقة العاملة الصناعية في أي وقت أكثر من ثلاثين بالمائة من السكان. لم تكن أبدا أغلبية.

إن ما يشكل الأغلبية هو الناس من فئة العمل المأجور، فلقد انتشرت أنواع مختلفة من العمل المأجور - في قطاع الخدمات بشكل عام- ولكن حتى داخل قطاع الخدمات، انتشرت أنواع العمل المأجور. هذا له عواقب لأشكال التنظيم. هناك عواقب سلبية على الأشكال التقليدية لتنظيم الطبقة العاملة، لكن من الصحيح أيضاً، كما أواصل القول، أن عدد وتنوع العملاء الثوريين المحتملين قد تضاعف. يطالب السكان الأصليون الآن بحقوقهم في الأمريكتين، ويدخلون المجال السياسي بطريقة لم يسبق لهم القيام بها في الماضي.

هذا سؤال يجب أن يعالجه اليسار بشكل صحيح وعلى نطاق واسع للغاية. وإلا فإننا محكوم علينا بتكرار الماضي. على سبيل المثال، كان جزء من فشل الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة مبنياً على عدم معالجة مسألة العرق بشكل صحيح في أيام سيريل جيمس.

لقد دخلت النساء في جميع أنحاء العالم المجال السياسي خلال الثلاثين عاماً الماضية بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل. وبالتالي، فإن فهمنا للمرأة كعنصر أو عامل مستقل بحد ذاته يجب أن يتغير. لقد قامت النساء دائمًا بمعظم الأعمال المنتجة وليس العمل الإنجابي فقط. أصعب عمل في مجتمعات الفلاحين تقوم به النساء، وهو أمر لم نأخذه بعين الاعتبار عندما فكرنا في الفلاحين. كنا نفكر في الفلاح الذَّكر الذي يخرج للعمل في الحقول. لقد تغير فهمنا للبروليتاريا وهو يحتاج إلى التغيير.

إنَّ قضايا من هذا النوع ترتبط ارتباطًا طفيفاً بفترات الرأسمالية. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى مسألة الفترة الزمنية في سياق الاقتصادين العظيمين من حيث الوزن الديموغرافي، فإن الهند والصين في خضم فترة بَلْتَرَة "تكوين طبقة بروليتارية. ع.ل" واسعة النطاق على نطاق غير معروف في تاريخ البشرية. بالضبط في اللحظة التي يوجد فيها نوع من "ما بعد التحديث" للعمل في الولايات المتحدة، كانت هناك بلترة هائلة تحدث. لذلك، إذا كانت هناك فترات، فمن الواضح أنها ليست متزامنة. في الهند ما يقرب من 78 بالمئة من السكان لا يزالون يعيشون في القرى. إنهم لم يعودوا يمارسون زراعة الكفاف، وينضم السواد الأعظم منهم إلى البروليتاريا الريفية والبروليتاريا الرثة. يوثق كتاب مايك ديفيس الرائع "كوكب الأحياء الفقيرة" ما يحدث مع التحضر العالمي. اليوم، لا يمكن فهم أنماط الحياة الاجتماعية بأكملها بالطريقة نفسها التي فكرنا بها في المدن، على سبيل المثال.

 

* ما هي احتمالات إعادة بناء اليسار عالميا؟ هل أنت متفائل بالعقود القادمة؟

 ** أولاً، على المرء أن يبدأ بحقيقة أن العالم لا يزال من الناحية السياسية تكتلاً من الدول القومية. الدولة القومية هي شكل حقيقي للغاية ولا يمكنك ببساطة تجاوزها. لذلك، فإن نوع اليسار الذي يتطور في أي جزء من العالم سيكون له خصائص وطنية قوية جداً، أعني بذلك الخصائص المتجذرة بشكل موضوعي في واقع الدولة القومية المعينة التي تعمل ضمنها. يظل هذا صحيحاً على الرغم من حقيقة أن وسائل الاتصال الحديثة، وخاصة بالنسبة لليسار الغربي، القدرة على السفر كما هي، يمكن أن يكون هناك تنسيق عالمي أكبر بكثير بين الحركات مما كان ممكناً في الماضي.

ثانيًا، كما كنت أجادل لبعض الوقت نحن في فترة تجارب رائعة. باختصار "نحن" أعني اليسار بشكل عام. هذا اليسار نفسه له توجهات كثيرة، القليل منها اشتراكية أو ثورية، بالمعنى الدقيق للكلمة. في سياق ما يمكن أن أسميه الجبهة الموحدة العالمية، وجدت ما أطلقوا عليها الحركة المناهضة للعولمة فكان ذلك بمثابة تقدم كبير. في أي حالة وطنية، ستكون نواة هذه الحركات مختلفة للغاية. في البرازيل، كان أقوى عندما كان الجناح اليساري لحزب العمال في قلبه. لم يكن من أجل لا شيء أن المنتدى الاجتماعي العالمي حدث في البرازيل. لا يمكن أن يحدث ذلك في العديد من الأماكن حول العالم. كان حزب العمال محوريًا جدًا في ذلك. عندما حدث المنتدى الاجتماعي العالمي نفسه في مومباي، كان له طابع مختلف تمامًا فقد كان في قلبه اليسار الشيوعي. لأول مرة على منصة المنتدى الاجتماعي العالمي، كان لديك حوالي عشرين حدثًا نظمته الأحزاب الشيوعية بشكل مباشر، وهو ما لم يُسمح به مطلقًا في مدينة بورت أليغريالبرازيلية.

لهذا، يتغير مركز الثقل أيضاً، وإلى هذا الحد أعتقد أننا - وأنا أتحدث هنا عن اليسار الاشتراكي أو الماركسي - نحتاج إلى فهم واضح جداً لمدى أهمية بناء هذه الجبهات الموحدة. ما مدى أهمية الجمع بين جميع أنواع الميول المعارضة في العالم!

من بين كل هذه الأشكال التنظيمية المختلفة، ستتقدم حركاتنا.

 ***

........................

* تُرجمت المقابلة عن النص المنشور في موقع (upping the inti).

2916 علي اليوسف ومراد غريبيحوار فلسفي اجراه الباحث الجزائري مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف

الاستاذ مراد غريبي: قرات لك انك لا تؤمن بوجود جدل تاريخي يحكم المادية التاريخية لا ماركسيا ولا هيجليا، كيف توضح لنا هذه الانتقالة الفكرية لديك؟

الباحث: علي محمد اليوسف: نعم في الفترة الاخيرة كان لي رأيا مفاده كلا المنهجين الجدل المثالي والجدل الماركسي لا يمتلكان التحققات العلمية التجريبية الحادث حصولها على صعيدي المادة والتاريخ واقعيا أو التحققات غير الفلسفية المتشككة في عدم حدوثها. والتاريخ تحكمه العشوائيات والمصادفات والصراعات التي لا يحتويها قانونا ولا يستستوعبها نظرية تقوم على الزامية الضرورة الافتراضية في وجوب تقدم حركة التاريخ الى امام على الدوام.

فالحتمية الضرورة هي تصورات نظرية فلسفية واحكام تلزم التاريخ بها كقانون وهي ليست من حركة التاريخ بشيء يكون قانونا مستقلا طبيعيا عن رغائب الانسان. ليس مهما بنظري البحث عن هل التطور الذي يحكم الحياة البشرية موزّعة على تطور الظواهر المادية وتطور مسار التاريخ تتم في منهج مثالي إعتمده هيجل أو منهج مادي إعتمده ماركس بقدر أهمية الجواب على التساؤل: هل الجدل حقيقة قائمة تاريخيا حصلت وتحصل وتقود حركة التاريخ أم هي فرضيات نظرية إبتدعتها ايديولوجيا اليسار والفلسفتين المثالية والمادية على السواء.

من المسائل العديدة الواجب الوقوف عندها هي كيف نجزم حصول الجدل بقوانينه الديالكتيكية الثابتة التي قادت التطور التاريخي عبر العصور، خير مثال يعزز أن قوانين الجدل تبقى تقديرات افتراضية نظرية تتطلب منهج التحقق الحصولي المادي لها هو أن الراسمالية تطورت ووصلت مرحلة العولمة في نهاية التاريخ ولم تعتبر الجدل سوى منهج غير واقعي وهمي يهم المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي القديم. وليس معنى هذا النفي الاختلافي أن النظام الراسمالي يمتلك نظرية منهجية للتاريخ قادت الى مراحل الديمقراطية الليبرالية وتحسين ظروف العمل حيث كانت تنبؤات هربرت ماركوزة وغيره من فلاسفة أنه لم يعد هناك تنازع مصالح طبقات بالنظم الراسمالية تتصارع بين مصالح الطبقة العمالية وطبقة الراسماليين بعد تحديد الاجور وساعات العمل وتامين الضمان الصحي والتقاعد للعمال والشغيلة وغيرها من مكاسب وامتيازات اذابت جبل الجليد الفاصل بين الطبقات الكادحة المحرومة من الحياة الكريمة والطبقات الراسمالية التي تمتلك كل رفاهية الحياة وتوريثها لابنائها من بعدها.

الاستاذ مراد غريبي: كيف ترى التطور التاريخي خارج مفهوم الجدل المثالي والجدل المادي؟

الباحث: علي محمد اليوسف: ما ارغب تاكيده هنا أن التاريخ مجموعة من المتلاحقات العشوائية القائمة على الفعل ورد الفعل وأن التاريخ لايتقبل منهجا يستوعبه. وقبل طرح تفاصيل وجهة نظري أن التاريخ غير غائي ولا يستوعبه منهج ولا تحكمه ضرورة نظرية أمهّد قليلا بالتالي بعد اسطر. لكني ارغب الاستدراك أن حاجة حماية بقاء الجنس البشري من الانقراض المحتوم هو بالعودة الى نظم اشتراكية منهجية تؤمن مستقبل اجيال البشرية في توفير الغذاء والقضاء على الفقر وتوفير كرامة الحياة للجميع في جعل تحديد النسل قانونا من قوانين حقوق الانسان.

ولا يشترط ان يكون المستقبل الاشتراكي المنشود الغاءا ولا ارتباطا في الاستفادة من التجارب الاشتراكية القديمة واعتماد اكثر المناهج الاشتراكية مقبولية انسجامية مع المعاصرة التي يعيشها العالم المحتاج الى يسار غير تقليدي غير راديكالي يحتذي التجربة الصينية كنموذج يحمل الكثير جدا من مستقبلية انسانية داحضة تماما لمفاهيم عولمة الراسمالية الزائلة لا محال حتى لو عاشت فترات تاريخية طويلة.

الاستاذ مراد غريبي: بضوء وجهة نظرك الجدل الديالكتيكي التاريخي وهم فلسفي تنظيري وليس قانونا طبيعيا يحكم المادة، ما توضيحك لذلك؟

الباحث: علي محمد اليوسف:

التناقض الجدلي وهم الحقيقة

يرى هيجل أن الواقع في حقيقته الوجودية (جدليا) لأن العقل نفسه الذي يدركه ذو طبيعة جدلية – هنا يقصد هيجل بالعقل هو الفكر -  بخلافه ارجع ماركس جدلية الفكر الى جدلية الواقع الذي نعيش فيه. 2. هذا الخطأ الذي وقع به هيجل إعتباره جدل الواقع حقيقة موضوعية قائمة لأن العقل ذاته ذو طبيعة جدلية فهو أخذ بسببية هيوم على صعيد جدل الفكر في تجريديته غير الانفصالية عن جدل الواقع. بتعبير آخر جدل العقل الخاص الذي يسبق جدل الواقع حسب فرضية هيجل سببا لان نقوم بتفسير التاريخ جدليا. وهو مارفضه ماركس بشدة حيث اعتبر جدل الواقع سبب لتفكير جدل العقل بالتفكير الواقعي.

الشيء الاكثر اهمية في خطأ هيجل ان جدل الواقع لا يداخل جدل الفكر. وهذا ما شكل ركيزة غاية بالاهمية اعتمدها ماركس ان الجدل يتم بموضوعية واقعية مستقلة لاعلاقة لها برغائب الانسان ولا قدرة لجدل الفكر تسيير جدل الواقع ولا جدل التاريخ.

لتوضيح هذا الاختلاف الذي تم وصفه بالاختلاف المنهجي المثالي بالضد من المنهج المادي حول الجدل أو الديالكتيك يرى هيجل فيه أن الوجود الواقعي – الاجتماعي إنما يستمد (وجوده) من الذات المدركة له الذات العارفة.

خطأ هيجل في هذا التعبير  هو في خلطه بين ادراك الشيء في موجوديته الطبيعية المستقلة عن ادراك موجوديته الجدلية مع الذات التي تدركه وبغير ذلك اي بغير وجود الذات المدركة لا يكون هناك للاشياء وجودا مستقلا سواء ادركته الذات ام لم تدركه حسب مثالية هيجل ومن جاء بعده. الوجود الشيئي بالواقع لا يحدده الادراك له بل وجوده المستقل السابق على الادراك.

الذات لا تدخل جدلا ديالكتيكيا مع الواقع بسبب انتفاء المجانسة النوعية بينهما، وحتى لو قلنا أن الفكر يدخل بجدل ديالكتيكي مع المادة فهذا لا يغّير من حقيقة الامر شيئا في إنعدام المجانسة النوعية مع المادة في وحدة الماهية والصفات بينهما.

من هذا الخطأ الفلسفي الذي إعتبره ماركس مثاليا لا حقيقة له في الواقع الذي يراه ماركس وجودا موضوعيا مستقلا ولا يستمد موجوديته من ادراكية الذات له. واذا ما ترجمت هذه المقولة اسقاطيا على حركة التطور التاريخي، نجد ماركس محقا قوله " وعي الانسان لا يخلق الواقع، بل الواقع يصنع الوعي" 3 .ويعتبر بعض الفلاسفة والمفكرين ان مقولة ماركس تلك كانت ثورة لا تقل اهمية وتاثيرا عن ثورات كل من سقراط، بيكون، هيجل. ومن السخرية أن نجد المثاليين ينكرون هذه الحقيقة قولهم لا وجود مادي خارجي لا يدركه العقل.

الملاحظة التي برأيي تم غفلها تاكيد أن ماركس لم يقل وعي الانسان يخلق جدل الواقع. فالجدل في حال التحقق من حدوثه على صعيدي المادة والتاريخ فهو جدل وقانون طبيعي يعمل بمعزل عن وعي الانسان له وبمعزل عن تلبية رغائبه.

ملاحظات تعقيبية:

- اصبح اليوم مراجعة دراسة كيف تطور التاريخ ليس مهما اسبقية المادة على الفكر أو بالعكس؟ بل الاهم مراجعتنا هل جدل المادية التاريخية هو التفسير العلمي الوحيد الذي نادت به الماركسية صحيحا؟ لا توجد براهين ثبوتية لا على صعيد المادة ولا على صعيد التطور التاريخي تثبت لنا أن قوانين المادية التاريخية الكلاسيكية الثلاث التي وضعها ماركس وانجلز(قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول الكم الى كيفيات، والثالث قانون نفي النفي) هي قوانين جدل اكتسبت علميتها بالتجربة الميدانية الحقيقية اجتماعيا وعلى ارض الواقع بالحياة التي نعيشها وعاشها آخرين من قبلنا على مر العصور. ربما تكون حقيقة تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي صحيحا لكنه لا يكون ولا يمتلك بمفرده إحداث جدل على مستوى التاريخ يمكن التحقق منه، انما تصح هذه التحولات من كمية الى كيفية أن تكون واحدة من قوانين الطبيعة التي لا يدركها الانسان مباشرة وتحدث ليس في توليد جدلي بل في توليد (سببي).

- الجدل المثالي او المادي على السواء الذي بحسب المنادين به والادعياء له والذي بضوئه نعرف تطورات المادة وتطورات التاريخ لا يقوم على اساس من تناقض نوعي تجانسي في الماهية والصفات يجمعهما داخل الظاهرة الواحدة. فانت لكي تجد جدلا ديالكتيكيا يجمع بين الفكر والمادة في تعالقهما التخارجي لا بد من اشتراكهما في مجانسة نوعية واحدة تشمل وحدة الماهية مع وحدة الصفات لكليهما في تعالق جدلي يجمع نقيضين متضادين ينتج عنهما إستحداث الظاهرة الجديدة أو ما يسمى المركب الثالث.

فالواقع بكل موجوداته وتنوعاته الذي يشكل مصدرا للوعي يمتلك مجانسة نوعية في كل ظاهرة فيه منعزلة تختلف عن غيرها بعيدا عن مدركات الفكر لهذا التناقض الداخلي في وحدة المجانسة النوعية.

بمعنى كل ظاهرة حركية تطورية لكي يحصل جدلا داخلها منفردة لوحدها لا بد أن يمتلك النقيضين المتضادين فيها مجانسة نوعية واحدة التي هي الماهية والصفات التي تجمعهما في وحدة كليّة، وعندما لا يمتلك الواقع بظواهره المجانسة النوعية في داخل ظواهره لا يحصل جدلا داخلها بمعزل عن الفكر أو بتداخل تخارجي للفكر معه. الشيء الذي اراه مهما أن لا نقع في خطأ إعتبار الجدل في المادة مرادفا لا فرق بينه وبين إعتبار علاقة الفكر بالمادة علاقة ( معرفية ) تكاملية وليست علاقة جدلية ديالكتيكية تقود بالحتم إستحداث ظاهرة جديدة أو مركب ثالث.

- ليس مهما صحة أو عدم صحة مقولة هيجل أن الوجود ذاتي يستمد موجوديته من الذات المدركة أو العارفة. التي رغم وصمها بالمثالية الفكرية الا انها تشير الى منهج (مادي) في حقيقتها. وبغير هذه العلاقة التي اشار لها هيجل لا يبقى معنى للواقع أن يكون مؤثرا بالوعي، ولا معنى للوعي أن يكون نتاجا للواقع حسب ماركس. هنا نجد هيجل يؤكد على أن الوجود هو ادراك ذاتي لذات عارفة وهو منطق فلسفي سليم لا علاقة ترابطية له مع الجدل الواقعي الموضوعي الذي يجري خارج ادراك الذات لحصوله..علاقة الذات مع مدركاتها المادية علاقة تخارجية تكاملية معرفية بينهما وليست علاقة جدلية.

- عندما يرى ماركس العكس من ذلك أن الوعي هو ناتج ادراك الواقع المادي الذي نعيشه في اسبقيته على تفكيرنا، فهذا ليس معناه ضرورة ربط المادة بالفكر على مستوى تناقض جدلي يجمعهما يقود لناتج حصول متغيرات جديدة وإنما هنا الاختلاف بين هيجل وماركس على مستوى (وعي) و (معرفي) للواقع وليس على مستوى الجدل بينهما.

- الجدل المزعوم بين الواقع والفكر هو وهم غير قائم للاسباب:

1- الواقع والفكر ليسا قطبي تناقض تجمعهما مجانسة ماهوية واحدة تدخلهما في تناقض جدلي بمعزل عن ارادة الانسان. فالجدل في حال اثباته قانونا طبيعيا ثابتا كمثل قوانين الطبيعة الاخرى فهو يعمل باستقلالية تامة عن ارادة الانسان وإدراك الذات. وحضور العوامل الموضوعية كعامل مساعد في عملية جدل ديالكتيكي هي الاخرى تكون فاعليتها ليست مستمدة من رغبة انسانية سابقة عليها بل من حاجة جدلية تتطلبها.

2- قوانين الجدل في حال جرت البرهنة عليها على صعيدي المادة والتاريخ. عندها تصبح وقائعا يتم الجدل فيها خارج ارادة الانسان، ولا معنى لتخارج الوعي المعرفي مع الواقع في خلق الجدل. حينما يعبر هيجل " الجدل وعي ذاتي " فهو كان يرغب خلق جدل فكري غير متأكد من إمكانية حصوله ماديا أو تاريخيا. لتوضيح سبب رجحان مثالية تفكير هيجل أن الجدل يحصل بالفكر فهو ربما كان يدرك أو لا يدرك هيجل أن الفكر لا يجانس المادة بالماهية والصفات كي يرتبطان بعلاقة جدلية وليس بعلاقة تخارج تكاملية معرفية.

3- الجدل يتسم بحقيقتين اثنتين هما أنه يحصل خارج الادراك الذاتي له، وأنه لا يحتاج الذات الانسانية في إستكماله عملية الجدل في داخله لإنتاج مركب ثالث أو ظاهرة جديدة.

لذا إدانة هيجل أن الفكر أو الوعي ليس بمقدوره تغيير الحقائق المادية على الارض هي في حقيقتها صحيحة تمثل قمة المادية وليس المثالية. وهي لا تعطي الجدل جواز مرور حينما لا تعتبره أي الجدل قائما حينما يكون هناك للذات إمكانية ادراك الاشياء والموجودات في العالم الخارجي.

4- لا يوجد مؤشر برهاني حقيقي تجريبي واقعي مدّعم برهانيا أن هناك جدلا يجري داخل ظواهر وقائع العالم الخارجي بغية وجوب تطورها، كما وليس هناك ما يدلل تجريبيا قاطعا، أن يكون هناك جدلا طبقيا يحكم التاريخ، وليس هناك علاقة جدلية تربط الفكر بالمادة أو بالتاريخ طالما الجدل قانونا طبيعيا موضوعيا يجري بمعزل عن الارادة الانسانية، وأن الجدل هو أحد القوانين العلمية والتاريخية المكتشفة بالطبيعة وليست المخترعة تنظيرا فلسفيا.

5- كما المحت سابقا مقولة هيجل التي مررنا عليها " الجدل وعي ذاتي" يمنحنا برهانا حقيقيا أن الجدل هو وهم افتراضي يحكمه التنظير الفلسفي، وهو ليس قانونا طبيعيا مثل بقية قوانين الطبيعة التي اكتشفها الانسان وبنى علها ثوابت علمية بعد تاكده من حصولها في الطبيعة وفي الكوني، وهذا مالا ينطبق على الجدل الذي بني عليه ماركس وانجلز تطورات التاريخ البشري بشكل إعتسافي لأنه كانت التنظيرات الفلسفية سابقة على قانون الجدل الموجود على صعيد الفكر فقط  كما قال هيجل وليس على صعيد تطور التاريخ الانثروبولوجي المادي كما اراد ماركس.

 

حاوره: ا. مراد غريبي

الباحث: علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

الهوامش: الحداثة ما بعد الحداثة /د. طلعت عبد الحميد، د. عصام الدين هلال، د. محسن خضر هوامش 1- 3 ص 35

 

3123 بشرى البستانيفي الطريق إلى بيتها عليك أن تعبر دجلة الذي يُجاورها والذي تحبه بشغف، وأن تجتاز غابات الموصل بجمالها العريق وشجرها وعبيرها الخالد. على بابها نخلة وشجر زيتون، وفي الداخل تستقبلك كتب، أديان، تفاسير قرآنية،تصوف، دواوين قديمة، حديثة، معاجم،موسوعات فنون،رسم، نحت، سمفونيات،، نقد، فلسفة، تاريخ،علوم، ومعارف شتى، ومكتبة خاصة لأطاريح ورسائل طلبة الدراسات العليا،بيت هو في الحقيقة مكتبة شاملة تعيش فيها باحثتان شقيقتان أد.بشرى البستاني في النقد العربي والدكتورة.منال البستاني في النقد الفرنسي هناك كان لنا معها هذا الحوار:

1 – لا يزال الواقع العربي، الثقافي خاصة، يحاصر بقوالبه وقيوده حياة المرأة العربية عامة، عبر تاريخٍ ٍ منح الذكورة سلطة شبه مطلقة على المستويات كافة . والمرأة الشاعرة بوصفها ذاتا واعية ثقافة وحضورا، هل تمكنت برأيك أن تؤسس لنص شعري أُنوثي من شأنه تفكيك هذا الواقع، وتحطيم هذا الإطار، أعني نصا له حضور فاعل وقيمة شعرية انثوية في الخطاب الشعري العربي؟

ج1: د. بشرى البستاني: الواقع العربي الثقافي لا يشكل نفسه من فراغ، فالثقافة ومحمولاتها القيمية ومفاهيمها ببنيتها الفوقية هي الإفراز الحقيقي للبنى التحتية وللحراك المادي الإنتاجي الذي يرتكز عليه المجتمع. وإذا كانت هذه البنية التحتية استهلاكية متخلفة تابعة وغير منتجة فمن غير الطبيعي أن تنتج حراكا ثقافيا تقدميا. فالديمقراطية التي تحتل مركز الصدارة في العالم اليوم ؛ما يزال الوعي بها وبالحرية محاطا في المجتمع العربي بأقسى أنواع القهر على المستويين الذاتي والجمعي وعلى مستوى الهوية الوطنية والقومية والاستقلال وحرية الرأي والفعل، لكن المرأة في هذه المنظومة البالغة التعقيد تتحمل القهر مركبا، مرة من المجتمع وأخرى من الأسرة ومن الرجل الذي يفرغ عليهما ردود فعل استلابه هو الآخر، ولما كان الإبداع ثورة ضد الظلم لأنه وليد الحرية، وثورة ضد التقليد والموروث المتخلف لأنه ابن المستقبل، فإن المرأة المبدعة تحتاج لمقومات عدة وأسلحة وعي ثقافية نشطة من أجل أن تكون قادرة على مواجهة هذا القهر المركب والواقع المعقد، ونحن نظلم الشعر والفنون حين نسند إليهما مهمة تفكيك عُقد هذا الواقع الذي يحتاج تغييره لفعل جهادي اقتصادي وسياسي واجتماعي وتخطيط حضاري ينسف البنى التحتية التي وطدتها القرون وتعهدتها قوى خارجية وداخلية من أجل إدامتها لإدامة منظومات المصلحة وكراسي الذرائع المرتبطة بالقوى الأجنبية. لكن البنى الثقافية وهي تتشكل من إفراز تلك القواعد، ستظل في جدل دائم معها، فالكتابة شيء والواقع شيء آخر،الأدب كلمات على ورق والواقع مجابهات حقيقية بين فكر يحمله أناس على الأرض وفكر آخر مضاد، ولذلك فإن الحراك الثقافي الواعي بمنجزات الحرية وقيم الإبداع وهو يعمل على تفعيل خياراته لابد له من تنشيط أجواء التفكيك بإشاعة روح التذوق الجمالي الحر لدى القارئ والاستجابة للجديد الثائر على الأطر القديمة، وتهيئة الأجواء لتشكيل قيم جديدة تقتلع قيم التخلف لا لتزيحها فحسب، بل لتعمل على إزاحة كل نتائجها وما نجم وينجم عنها من استمرار الركود والسكونية وعلاقات القمع في المجتمع. وإذا علمنا أن هذه المحاولات محاطة أكثر الأحيان بالرفض والتصدي والنكوص والردات المتكررة كما حدث في "الخريف العربي"، فإن المبدعة الحقة تحتاج لشجاعة مبهرة وتضحيات جمة من أجل تحقيق هذه القضية. وهذا الأمر ليس في الوطن العربي حسب، بل في كل أرجاء العالم.

إن الشاعرة العربية وقياسا بالأجواء القسرية التي تعيشها ومجتمعها تمكنت من فتح الأبواب التي كانت موصدة على موضوعاتها الخاصة بها مرة،والتي كان الشاعر يقولها نيابة عنها لصمتها وتغييبها أخرى. كما تمكنت لحد لا بأس به من التعبير عن مشاعرها الخاصة وإطلاق صوتها في الأمور العامة وتدوين رأيها فنيا على كل المستويات الثورية والوطنية والإنسانية، وقول أحاسيسها في الرجل إيجابا وسلبا وفي الوطن وقضايا الإنسان عموما، مجربة في ذلك كل الأشكال الشعرية. لكن لا أخفيك حقيقة أن كل ذلك لا يكفي. فالشعر لم يعد (وما كان الأصيل منه من قبل) ذلك الغناء الذي يُطرب بايقاعاته العالية فحسب. الشعر الحقيقي كان وما يزال فناً ذا حساسية خاصة وروح مرهفة تمتزج فيها المعرفة وجوهر الحضارة بالجمال. وهل بقي من جهد الانسان وحضاراته الماضية غير بهاء الجمال. إنه فن يحتاج لحس نقدي ومعارف متنوعة راقية وعميقة تراثية ومعاصرة معا. وعلوم تغذيه وذوق رفيع يجيد تنسيقه وتجارب حياتية حادة تتطلب خوض غمار الحياة بعنفوان، وبما لا يتاح لمجمل الشاعرات العربيات لأسباب لا مجال لذكرها هنا، لعلَّ في طليعتها عدم توفر الظروف الموضوعية في الأسرة والمجتمع التي تساعدها على تحقيق هذا الهدف. وإذا كانت المبدعة الأوربية النمساوية الفائزة بجائزة نوبل للآداب الفريدة جلينيك تقول: "أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية وليس معادلا أنثويا مكافئا"، فماذا تقول المرأة العربية ..!

إن الشاعرة العربية يعوزها الكثير من الجرأة والعلوم والمعارف والفعل والخبرة المعمقة كي تقول كل ما يجب قوله شعرا. وقصور هذه الجرأة ليست جبنا ولا ضعفا أو انكفاء على الدوام، لكنه في الغالب اشتراط قسري وموقفُ تحسّبٍ واع لما يحيط بها من سلطة ثقافة ذكورية وقيم عشائرية وقبلية ما زالت للأسف تهيمن على المجتمع يؤازرها تطرف المد المتدين المؤدلج الذي حل بنا مع أجندات الواقع العربي الأخير وارهاصاته الممتدة الى قرن مضى او يزيد.

2- المراة كائن يهب الوجود معنى، كونها رحِمٓه ومستقبله، تهبه معنى الحياة نفسها، أو كما يعبر نيتشة : الحياة امرأة. فالشاعرة إذاً وجود لذات تصنع حياتين، حياة تنتج وجودا لا يمكن أن يقوم بدونها، وحياة ثانية ليس أقل أهمية تنتج عالما ثقافيا خاصا من خلال نص ينتج انوثة بتمام القصد والمعنى،نص يعمل على تغيير واقعها ويؤسس لوجودها ..؟

ج2: د. بشرى البستاني: نعم، المرأة كائن يهب الوجود معنى بطريقتين، الأولى تواصل إنساني لا يتم إلا بمعاناتها التي تصل حد التضحية بحياتها، فهي رحم الكون ومستقبله،كونها منتجة الحياة ؛لأنها تضمر الرجل والأجيال القادمة في دمها أولاً،وهي قدوة الطبيعة والكائنات الحية في الخصب والديمومة وإشاعة قيم الايثار والعطاء ثانيا. والمرأة في هذه العملية التواصلية تحتاج لطاقة تعينها على الاحتمال والصبر،وعلى الاستمرار، لذلك كانت الحياة أنثى قوية وبهية لأنها القادرة على الحضور والبذل بما يمنح الوجود قيمته الإنسانية والجمالية الحافزة على تحقيق قيمته الواقعية، كون الأمومة لديها ليست سمة بايولوجية ميكانيكية، بل هي طبيعة فيها تمكنها من القدرة على الاحتواء بشمولية، حتى احتواء مَنْ هم أكبر منها سنا من الرجال والنساء واحتواء محن الحياة وعذاب الفقدان، ولذلك كانت الحياة امرأة ولذلك أكد أراجون "أن المستقبل امرأة"، لكني أصر على أنها امرأة تضمر رجلا كما يضمرها الرجل. فالكون لا يستكمل بهاءه في رؤية المرأة الواعية والمتصالحة مع أنوثتها إلا بوجود الرجل الواعي المؤازر والمشارك،والوجود لا يكون متوازنا الا بوجودهما معا، إنهما منتجا الحياة، بوعيهما الفاعل يشكلان الجمال ويمنحان الطبيعة معناها، والأشياء الجميلة قيمتها. أما الحياة الثانية التي تنتج عالما ثقافيا من خلال نص ينتج أنوثة بتمام القصد والمعنى، نص يعمل على تغيير واقعها ويؤسس لوجودها، فإن السؤال الذي يُثار حول هذا الموضوع سؤال ذو أبعاد شتى وهو: هل يستطيع النص الأدبي أن يغير حياة ذات أبعاد واقعية متشابكة ..؟ لا أعتقد ذلك، لكن لمثل هذا الطرح مقاصد عدة،منها الرجوع لما ذكرنا في الجواب الأول من نسف البنى التحية لتحويلها من استهلاكية إلى منتجة ومنها ما يعود لطروحات النسوية على اختلاف مرجعياتها ولا سيما المتطرفة منها. فالثقافة انتماء للحرية واحتفاء بالطاقات الكامنة التي تستفزها حركية الملامسة، ملامسة الحياة بصفائها وهوائها النقي وبكل نتائج معتركاتها الايجابية والسلبية، والكتابة حضور وهوية وانتماء، حضور في قلب الحياة وتفجير للمقموع والمسكوت عنه وكشف عن الإشارات الذاهبة إلى الداخل والمتمركزة في الخفايا،وغرفٌ من مرجعيات لم تستطع المختبرات بأنواعها: التشريحي والنفسي والنقدي والابداعي الكشف عن كيفية تفاعلها واشتغالها لتظهر فيما بعد بأشكال لغوية ترميزية منزاحة هي الشعر والفنون اللغوية الأخرى. وإذا كان الإبداع لا يتشكل الا في جو من الحرية، وكانت الحرية ما تزال مفقودة ومحاصرة في الوطن العربي ليس على النساء حسب، بل وحتى على المبدعين والمفكرين والعلماء عموما، فكيف ستكون المرأة حرة في التعبير وفي إنتاج عالم ثقافي خاص يغير ويؤسس لوجود. إن نظرة متأنية لحجم المبدعين والعلماء العراقيين والعرب وشتاتهم في المنافي تجعلنا ندرك حجم القهر الذي يعيشه الإبداع والمبدعون، وحجم القيد الذي يجثم على الفضاء الإبداعي الذي لا يمكن ان يعيش إلا في صميم الانفتاح والحرية . ألا يوحي إنتاج نص أنثوي خالص بعزل وفصل ..؟ وأنا لا أومن بفصل الأنثى عن رفيق عمرها وصديق مكابدتها حتى لو كان منه ما كان عليها من قسوة وما يزال،وهذا الغفران يجعلني مؤمنة بلغة إبداعية تنتج نصا يسمو ويتعالى على التمييز الجنسي القسري للطرفين رجالا ونساء. نص كلما فارق النوع المحدد انتمى لكينونة الإنسان بشموليتها وهذا منتهى الرقي الإبداعي،كون المرأة بانتمائهاالإنساني هذا تثبت وجودها الأنثوي المتسامي ولا تلغيه،لأن إلغاء وجود الرجل يعني إلغاء وجودها وإلغاء سيرورة الحياة وتغييب تواصل الإنسانية مع المستقبل. إن محاولة عزل قضية المرأة عن قضية المجتمع باعتقادي من أخطر القضايا التي يمكن أن تواجهها الإنسانية في الوقت الحاضر، لأن المجتمع الإنساني اليوم يواجه أخطار إبادة حضارية من قبل حضارة استعلائية متغطرسة مادية وعدوانية لا بد من التكاتف رجالا ونساء ومجتمعات من اجل التصدي لها وإحلال مبادئ التوازن والانسجام محلها. إن وجود أدب انوثي خالص بالرغم من حضور المصطلح تداوليا يقتضي افتراض وجود أدب ذكوري خالص، وهذا لا يمكن أن يتحقق ضمن حياة مشتركة وعلاقات مشتبكة من غير الممكن فصلها على الاطلاق. لان هيمنة النص الانثوي يعني خلق تمركز جديد ليس هو المطلوب في المجتمع الانساني الذي نبغيه.3124 بشرى البستاني

3 – يقع النص الأنوثي تحت طائلة مظلة من الألم والقنوط والانا المقهورة والحس المفرط بالانجراح، بمعنى أن نصها كثيرا ما يكون تهريبا للذات إلى النص،وممرا لأناها وذاتها القلقة المستلبة بتجل جمالي من ناحية أن " الشعر هو الشكل الجمالي للأسئلة القلقة كما يرى الناقد محمد العباس .."

ج3: د. بشرى البستاني: نعم، يقع النص الانوثي تحت طائلة كل ما طرحه السؤال صحيح، لكنه ليس حكما خاصا بالمرأة الشاعرة حسب، بل هو الحكم العام الذي ينطبق على الشاعرات والشعراء في مجتمع يفتقد التوازن عموما ولا يختلف إلا بحجم المكابدة، كون معاناة المرأة فيه أشمل وأكبر من معاناة الرجل نتيجة الشروط القهرية التي عاشتها وتعيشها فنصها فسائل لتجذر تاريخي يعيش داخلها بوعي شديد الشقاء، ولأن الجروح كثيرة وقد مرت عليها دهور طويلة ولما يزل كثير منها للأسف ماثلا في الواقع حتى اليوم، فإنها تحتاج زمنا طويلا كي تشفى، يُضاف لذلك أسباب مهمة يمكن تلخيصها بأن مشكلة المرأة الحقيقية في الأمس واليوم هي أن الحب والاهتمام المتاحين لها من الرجل ومعه الأسرة لا يكفيان حاجتها، نعم، الحب الممنوح لها لا يكفيها، سواء كان هذا الرجل أبا أو أخا أو حبيبا أو زوجا وإبنا، وأنها تحتاج لقدر أكبر من الحب يوازي ما أعطت وتعطي لتتمكن من إحداث توازنها النفسي المطلوب وانسجامها مع ذاتها ومع الآخر، وهذه الحاجة شكلتها عوامل وأسباب عدة ليس لأن الرجل مهموم بذاته ومصالحه حسب، بل لأن أسبابا أخرى نفسية واقتصادية واجتماعية وتربوية تتواشج لتبعد الرجل عن الاهتمام بتخصيص زمن حميم تستحقه المرأة . فضلا عن كون نشأتها الاجتماعية تحتم عليها أن تكون مرغوبةعلى الدوام مما يلغي حاجتها وحقوقها الإنسانية الفاعلة في أن تكون راغبة وأن تكون رغبتها موضع تقبل واحترام واهتمام، فعلى المرأة في العرف الجمعي ألا تُقبِلَ ولا تختار، ليس لها أن تكون فاعلة ولا مبادرة،وهناك فرق شاسع بين الفاعل والمفعول، الفاعل منتج والمفعول مستهلك، الفاعل مثابر والمفعول به ساكن متلقٍ، ينجم عن ذلك قضية مهمة هي شعورها بأن جسدها هو المطلوب وليس فكرها ومشاعرها ومعارفها وروحها النبيلة، بل على العكس قد تكون مواهبها ومعارفها وإقبالها على تطوير ذاتها عقبة في طريق تحقيق حياتها الشخصية، فبينما تفخر المرأة بالرجل الموهوب وتؤازره نجد الكثير من الرجال يبتعدون عن المرأة الموهوبة، فهي للحوار والزينة والزمالة فقط ؛ كونها غير قادرة على التفرغ كليا للخدمة ومتطلبات البيت والأطفال في مجتمع لم يُدرج في إعتباره أصلا أن هناك بيتا وأسرة وطفولة تحتاج لخدمات توكل للدولة ولمؤسساتها . فضلا عن أن المرأة وأخص الشاعرة هنا بما لها من حس مرهف تدرك بعذاب هذا الاضطراب وانعدام التناسق والجروح التي تنزف من حولها بشدة في مجتمع انعدام العدالة على كل المستويات، مما يجعل البحث عن الحلول يثقل كاهلها في ضرورة الاعتماد على الذات ؛ وذلك بأن تعمل بكل مثابرة على تفعيل طاقاتها الكامنة من أجل تشكيل قوة حصينة في داخلها تستمدها معينا وقت الحاجة . كل ذلك جعل المدى بين واقع المرأة الشاعرة وحلمها شاسعا، وربما مستحيلا مما جعل الحاجات الروحية التي تعاني من فقدانها ما تزال تحفر في روحها خنادق للألم والقنوط لتكبر الأنا المقهورة ويتسع الجرح .

نعم، الشعر هو الشكل الجمالي للأسئلة القلقة منذ أول قصيدة كتبها الإنسان وحتى اليوم، ومنذ أن وقف الإنسانُ مرتلا خوفه أمام قسوة الطبيعة، ومذ وقف الشاعر العربي القديم على الأطلال وحتى آخر طلل إنساني، إنه جواب امرئ القيس وطرفة وعروة بن الورد والمتنبي وابي العلاء وسواهم على الجراحات الداخلية التي كرسها ويكرسها الاغتراب والفقدان وألم المصير، فما الشعر في صيرورته إلا السؤال الوجودي الآخر الذي يتشكل لغةً جماليةً داخل تلك الأسئلة الوجودية الجارحة ليمرَّ عبرها في رحلة انعتاق نحو الخارج. إنه محاولة للتخفيف من عذاب المسكوت عنه وترويض تناقضاته. وإذا كان الرجل الشاعر قد عانى ويعاني من هذه المكابدة المُرة فكيف للمرأة المرهفة بكل استلابها وما ورثته من رواسب العلاقات التراثية القامعة أن تواصل الحياة دون عملية تسريب لاشتباكات الحزن والحرمان وضيق الفضاء المفروض عليها والشعور العميق بالغبن الذي يلازمها. إن الشعر وبقية الفنون التي صنعها الرجال والنساء معا ما هي إلا وسائل تسريب ومقاومة ثقافية وجمالية ليس لمكبوتات الداخل حسب، بل لمشاكل الرصد التي تقف أمامهما متمثلة بالرقيب النفسي والثقافي والمجتمعي والسلطوي، مما يجعلها تعيش معاناة أخرى هي كيفية إلباس نصوصها طاقية الإخفاء والتقنع بأقنعة لانجاز أدب يجيد الترميز بحيث يعبِّر عن معاناتها ويخفي، ويقول ولا يصرح معا. إن اندماج الأنثوي بالشعري أمر بغاية الأهمية في شعر المرأة، إنه أبلغ خطورة من نصوصها الأخرى سواء الروائية أو القصصية، ذلك لعمودية الفن الشعري واشتغاله السري وسطوته على المكبوت وما خفي في الضمير أكثر من الأنواع الأدبية الأخرى .

 4 –حسب مقولة مدام دي ستال " الحب هو كل حياة المرأة " بمعنى أن المرأة لا تبلغ كمالها الأنثوي إلا عندما تحب، فكيف برأيك تتحرك نصوص المرأة – الشاعرة وفقا لهذا المفهوم .؟ وهل الحب لديها مجرد فكرة افتراضية؟. أو هو المعنى المثالي الخيالي في واقعية حياتها ..؟ من يقرأ نصوص بشرى البستاني يجد وثيقة حضورها في مفردات الحب (للوطن، للحبيب، للمكان، للطبيعة، للجمال ..) .

3129 بشرى البستانيج4: د. بشرى البستاني: الذين اتخذوا من مقولة مدام دي ستال هذه منطلقا لتجريح المرأة لم يفهموا للأسف مرامي المقولة الشاملة والعميقة التي أوجزت فلسفة المرأة كأنثى في الحياة، لأنهم ما كانوا يؤمنون بان الحياة بشموليتها – اقتصادا واجتماعا وسياسة وثقافة ومحمولات متنوعة - هي الحب لو كانت منطلقات الحياة إنسانية، جمالية حقا، وذات رؤىً إيجابية فعلا، وأن الحب برحابته هو الحياة كلها. إنهم فسروا المقولة على أنها شهادة امرأة بأن المرأة لا تصلح إلا للمنح العاطفي وعطاء المشاعر والجسد كونها قاصرة عقل وما ينتج عن العقل من فعل وقرارات. ولما كانت القرارات تحتاج لعقل متأنٍ بعيدا عن الانفعالات، فما على المرأة إلا أن تترك الحياة العامة وتتفرغ في البيت لتمنح العاطفة للرجل وأولاده. من الطبيعي أننا لن نحاور مثل هذه الآراء التي دحضتها الحقائق العلمية والعملية معا، إذ لا توجد مشاعر مجردة ولا انفعالات خالصة ومنفصلة كليا عن العقل كما لا يوجد عقل خالص لا تلامسه الانفعالات والمشاعر ولو بنسب متفاوتة. تلك الأقاويل التي كرستها أساليب التنشئة الاجتماعية التي ربت أجيالا من النساء في ظل الرعب والخوف وتكريس الشعور بالضعف والتبعية للرجل القوي عضليا. لكن بالرغم من كل ذلك يمكن القول إن من الفخر الشديد للمرأة أن يكون الحب كل حياتها، ولو تسنى لها بهذا الحب النبيل أن تحكم العالم لما تعرض لهذا الدمار الفادح والحروب الإجرامية على يد الطغاة من الرجال. وهنا بودي أن أصلح المقولة التي وردت في السؤال لأقول : المرأة لا تبلغ كمالها – الإنساني - الخلاق وليس الأنثوي حسب، ولا تتجلى إبداعيا إلا عندما تحب.أليس الرجلُ كذلك.؟ لكن كلام الناقد محمد عباس لا ينطبق بالضرورة على كل الشاعرات، بل هو حكم قد نجده موقفا لدى بعضهن،ويكمل العباس معقبا على هذا الحكم " وهنا سرُّ الوله المؤدي بها إلى الرهبنة، أو منع ذاتها من التداول، فهي كذات عشقية مغالية في النرجسية لا تهب نفسها إلا لذات تشبهها وتستحقها، أو تموت دون ذلك " نعم، الحب لدى الشاعرة البالغة الرهافة ليس فكرة افتراضية،بل هو فعل إبداعي يسمو بها نحو الإيثار والإبداع والسمو والتعالي على مجرد الرغبة. إنه دافع لها نحو التقدم وتطوير الذات والعمل على تطوير الآخرين من حولها والارتقاء بمنجزهم والحرص على تنمية فعل القيمة لديهم من أجل تطوير الحياة وتعزيز بنائها. كما تعمد الشاعرة وهي في حالة الحب إلى توظيف أسمى قيم الجمال في الحياة لتكون بهيةً بفرح الإنسان وسعادته. وما تعبير " منع ذاتها من التداول " إلا تمجيد لبهاء موقف حميم من الحب واحترام خصوصية الجسد والروح إلا للحبيب. لكن الباحث محمد عباس نسي حقيقة مهمة هي أن الرجل النبيل كذلك لا يبلغ كماله الرجولي والإنساني الخلاق ولا يتجلى إبداعيا وجماليا وعملياً إلا عندما يحب بأصالة وصدق.

نعم، تشخيصك لحركية الحب في شعري تشخيص يقترب من الموضوعية كثيرا، لأن كل منجزي الإبداعي والأكاديمي والثقافي والإنساني لم ينجز منذ طفولتي وحتى اليوم إلا في حالة حب دائم مندمج بوعي كان وما يزال يشتغل اشتغالا مكابدا ومتواصلا لتطوير جوهر أدواته بالعلم والمعرفة والخبرة والوعي بالضعف الإنساني القائم للأسف على العجز والحسد والترصد للتفوق الأصيل. والحب عندي شبكة متألقة من العلاقات لا أستطيع الحياة إلا في فضائها، بدءاً من أفراد أسرتي ومَنْ حولي من طلبة وزملاء وناس وطبيعة ووطن وأمة وأشياء، ثم كبرت موجات الحب واتسعت بتطور المعرفة لتشمل الإنسانية المسالمة في أطراف الكون كله، فالشعر لا يعيش إلا في جدلية حب دائم، وعبر اشتباك هذه الجدلية ينتج نصوصه عارمة بالحياة والجمال ومفعمة بحوارية لا تكف عن التطور والاشتعال .

5– قصيدة النثر العربية منذ أكثر من ستين عاما ويزيد تحولت بقوة الى نوع شعري،وهناك آراء كثيرة تقول بان اصول هذه القصيدة عربية، ويستشهدون بنصوص للنفري والتوحيدي وعدد من شعراء وناثرين متصوفة، لا بل هناك من يذهب أبعد من ذلك ويقول، أصولها عراقية المنشأ، مستندا إلى النصوص البابلية التي كانت تتلى في المعابد القديمة فضلا عن الشعائر الدينية . ماذا تقولين في هذا النوع الشعري؟

ج5: د. بشرى البستاني: من الطبيعي أن تتطور الأنواع الفنية، وأن تولد من خلال عملية التجريب الواعي أنواعٌ جديدة، فتلك طبيعة الحياة الحرة السليمة وطبيعة الثقافة والإبداع غير المقيد بأغلال الموروث، وطبيعة التراكم الفني الذي لا بد أن يؤول للتجاوز. وإذا كانت مرحلة الشعر العمودي قد طال انفرادها في الساحة الشعرية العربية زمنا، فإن هذا شأن الفنون الكلاسيكية التي استغرقت هيمنتها أمدا طويلا، وما ذلك الاستغراق في الحالين الا نتيجة طبيعية لسمات الزمن الذي عايشته وخصائص إيقاعه، والذي يختلف اختلافا جذريا عن زمننا المعاصر الذي انفجرت قواه وصارت المعرفة تتطور فيه تطوراً هائلاً وبتسارع مدهش مما جعل للفنون حوافز متوثبة على مواكبة ذلك التطورالمتصل بمنظومة المعلومات في زمن سريع التقدم، فكان شعر التفعيلة ثم قصيدة النثر الأكثر جرأة على كسر القواعد والأطر. وإن كنا على قرب من بداية هذا الفن عربياً فإن المرجعية الغربية التي نقلت لنا نصوص الشعر الغربي وترجمت لنا كتاب سوزان برنار الذي ظل زمنا مصدر الثقافة العربية في تأصيل وتعريف قصيدة النثر حتى استطاعت طروحاته أن تهيمن على ما كتب عنها في الربع الأخير من القرن العشرين. وكان لتأخرنا في التنظير والتأصيل أثر كبير في سلب حق النثر العربي القديم وجمالياته التي اصابها غبن كبير على مر العصور، تلك العصور التي انهمكت بدراسة الشعر وابراز صوره الجمالية وتحليل رؤاه. بينما كان الاهتمام بذلك النثر الرائع مركونا في الظل،صوفياً وأدبياً وتوقيعاتٍ والتماعاتٍ زاخرةً بالشعرية، وخطباً ووصايا. وحتى هذا اليوم لا أجد الاهتمام بهذا التراث العظيم موازيا لأهميته وروعة مراميه. وهذا القول ينطبق على النصوص العراقية القديمة التي تفوق الكثير مما يكتب تحت عنوانات قصيدة النثر. ولنعد الى ملحمة جلجامش والتراتيل الدينية العراقية ونصوص الرثاء والحب البابلية لنجد أروع البُنى الشعرية في أجمل رؤاها. لكن - وكما أسلفت قبل قليل وفي أجوبتي لكتاب في (الشعر والنقد والسيرة) - تأخر تنظيرنا الموضوعي لقصيدة النثر العربية ؛ فسادت تنظيرات برنار، بينما كانت النماذج الاولى لمحمد الماغوط رائد قصيدة النثر العربية لا علاقة جذرية لها بقصيدة كتاب برنار، بل كانت عربية الروح، عربية الرؤى إنسانية المرامي. ومن يقرأ نصوص ملحمة جلجامش والنصوص البابلية سيجد بُنى شعرية تفوق الكثير الكثير مما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر. إن كل نوع أدبي جديد يولد لن تكون ولادته شرعية الا حين تكون طالعة من صميم التغيرات التي اشتبكت وانتجت في مخاضها هذا الوليد الذي حمل تغيرا صميميا في طرائق تشكيل النص وفي جوهر مخاضه. نعم للأثر الخارجي تأثيره حين تفتح الابواب على الثقافات الاخرى، شرط أن يكون الارهاص الاول أو الناتج ناهضا من الداخل. إن مشكلة رفض الجديد بشدة لدينا في واحد من جوانبها هي أن الحداثة الشعرية لم ترتبط بحداثة شمولية ثقافية وسياسية واجتماعية حقيقية، حداثة تعمل بجد على تغيير الحساسية ورفع مستوى الذوق وتغيير وجهة التقبل من الصوت العالي والإيقاعات المتدفقة إلى الخافت والهادئ الذي يحتاج التأمل الصامت أكثر مما يحتاج الضوضاءَ والتصفيق. علما أن النص الجديد الأصيل لا يدير ظهره للتراث بل يتعامل معه باحترام رصين حين يستوعبه ويعبر عن ذات الأهداف الجمالية والإنسانية بمهارة..

6 –وهل يمكن في المسار المزدوج لقصيدة النثر في شكلها وتناقضاتها الخطيرة والعميقة من نثر وشعر،حرية وصرامة، فوضى وتنظيم .... سر تألقها وخطورتها ومستقبلها معاً ..؟ هل تعتقدين أن العقلية الثقافية العربية ستنصرف بقوة الى قصيدة النثر مستقبلا ..؟

3125 بشرى البستانيج6: د. بشرى البستاني: قلتُ في مدخل كتابي " الحب واشكالية الغياب " الذي صدر عن دار "التنوير" في الجزائر ما معناه أن الحرية المتاحة لقصيدة النثر وغياب المعايير التي تشكل لها منظومة نقدية قضية ذات حدين، الأول سلبي، جعل الباب مفتوحا لكل من أعجبه دخول عالم الأدب بلا مواهب ولا مؤهلات ولا معارف ولا أدوات، ساعده على ذلك إتاحة النشر ورقيا وألكترونيا وغياب الخبير الأدبي المسؤول فامتلأت الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، الفيس بوك والتويتر وغيرهما من وسائل الإعلام بجمل مفككة وعبارات سائبة ونصوص لا تنتمي إلى أي معيار لأي نص أدبي بصلة مما أساء كثيرا لقصيدة النثر وجعل مهاجمتها أمرا مبررا من قبل الحريصين على علوم العربية أولاً، والمصرّين على المعايير الشعرية المتعارف عليها وزناً وقافية، أو تشكيلا ورؤى.أما الحد الايجابي فذلك الذي هيأ للموهوبين الواعين باشتراطات الشعرية الحقة المؤمنين بأن الحرية الأدبية مسؤولية كبيرة تُلزم الأديب باحترام اللغة وعلومها، والفنون واشتراطاتها، أقول، تلك الحرية هيأت لهم فضاء مفتوحا للتجريب الواعي والتعبير الرؤيوي والالتزام بضرورة تحويل الحرية لمنجز فني فيه من الجدة والابتكار ما يعمل على اكتشاف مديات جمال أبعد وبهاء أوفى وعلاقة جديدة وجديرة بتراثنا الابداعي، بحيث نجد لكل قصيدة نثر يكتبونها معاييرها الشعرية الخاصة بها فهي تخلق ايقاعها الجديد بذاتها، وتشكل تحولاتها الترميزية برؤاها، وتفعّل تناقضاتها المزدوجة في الشعرية والنثرية والحرية والالتزام والتنظيم والفوضى لصالح جوهر الشعر تشكيلا،وليس لصالح انفراد مفهومها وعزلتها وانفصامها وانغلاق إبهامها داخل النص، لأن في تلك العزلة وذلك الانفصام يكمن مقتل هذا الفن حقا. أماعن الشطر الأخير من السؤال، فإن الحاضر المعاصر بما يكتنفه من تطور معرفي وإشكالي معا يجعلنا غير قادرين على الاستشراف ولا التكهن بما سيكون، لأن التحولات أسرع من تأملاتنا والمفاجئات خطيرة تبزغ دون توقع. ولا بد من الإشارة إلى أن قصيدة النثر الجيدة هي فن النخب الثقافية، فأين سيكون مصير هذه النخب غدا،وما المانع من بزوغ نوع فني لغوي جديد الى جانب قصيدة النثر ما دامت مصطلحات النصوصية والكتابة وانهيار الحدود بين الأجناس تشتغل باطراد، وما دام الحوار سيبقى قائما بين الفنون فإن التعايش بين الاجناس صار أمرا واقعا. المهم أن على قصيدة النثر ومبدعيها وعلى كتاب كل الأشكال الأخرى أن يقبلوا الحوارية مع الفنون التي تلتزم بالقيمة الفنية هدفا. على أنها اليوم وإن استطاعت أن تحضر وتتواصل وتهيمن على جوانب من الساحة الثقافية في الوطن العربي إلا أنها مع تطور الحياة والثقافة والإبداع لابد من تطور الأنواع الأدبية والفنية،و تطور الاساليب التي تشتغل داخل مصطلحي النص والكتابة، والانفتاح على فنون وتسميات جديدة. المهم في الأمر كما أسلفتُ هو القيمة الأدبية لكل نص جديد. ذلك هو ما سيبقى للمستقبل، القيمة المستندة على مواهب وأسس معرفية وعلمية وانسانية جمالية خالدة .

 

7- هل تؤمن بشرى البستاني بابتكار ما يسمى بـ "المخيلة الانثوية" المستقلة القادرة على الفكاك من سطوة التصور الذكوري ..؟

ج7: د. بشرى البستاني: لا شك أن المصطلحات الخاصة بما تكتبه المرأة من أدب ونقد تعددت وتنوعت حتى أصابها الكثير من التشتت؛ كونها لم تصدر عن مرجعية بينة ووعي محدد وواضح الهدف. وفيما يخص قضية أي مصطلح، أجدني مؤمنة بكل مصطلح يولد من صلب الحاجة اليه وفي صميم ما يبرره، لأن المفاهيم واسعة وحالما تنضج وتقرّها الأعراف الثقافية وتتمتع بما يقرب من إجماع الجو المعرفي المختص، في ذلك الحين تنتج رمزا يعبر عنها. هذا الرمز المعبر عن المفهوم والمبلورله والمُقرّعلمياً من قبل المختصين هوالمسمى بـــ"المصطلح". وحين يكون للنص خصوصية أنثوية تتعلق في شأن من شؤون الأنثى الخاصة بأنوثتها وبجسدها وتحولاته ومشاعرها وهواجسها ومعاناتها فإن مخيلتها حتما ستشتغل اشتغالا خاصا يختلف عن اشتغال مخيلة الرجل لو عبر عن ذلك الموضوع ذاته؛ لأنه اشتغال يتصل بالإحساس المباشر.هنا لا بد من الحاجة إلى مصطلح المخيلة الأنثوية، أما في الموضوعات العامة أو المشتركة وطنية وانسانية واجتماعية، فإن الاختلاف قائم حتى لدى الجنس الواحد بما يسمى الأسلوب، ولكل أديب أو شاعر أسلوبه، كما أن لكل شاعرة أسلوب صياغتها. إن العزل في مؤسسة يعمل فيها اثنان يحتم وجود أحدهما وجود الآخر أمر لا يمكن أن يكون موضوعيا على أرض الواقع، وإن صح حضوره تداوليا في الأدب والنقد والثقافة. لكن لو حدث وفاجأنا التقدم العلمي بسمات خاصة بالمخيلة الانثوية تباين سمات المخيلة الذكورية لتغيرت موجهات البحث كما حدث في قضية القدرات اللغوية وقدرة الانثى على مزجها بالعاطفة أكثر من الرجل .

8– فيما يخص اللغة نجد اغلب الكاتبات والشواعر واقعات تحت وطأة ضمير المذكر في كتابتهن دون ان يشعرن وهذا على ما يبدو هو الذي دفع غادة السمان الى القول : ما أروع وما أسوأ أن تكون امرأة ..

ج8: د. بشرى البستاني: يهمني التأكيد هنا على أن الرؤى هي التي توجه اللغة وهي التي تشكلها. وامرأة تمتلك رؤية حرة ووعيا فاعلا بقضية الإنسان لابد من امتلاكها اللغة التي تعبر بامتياز عن قضيتها. مرة أخرى أقولُ ليس العزل وفصل قضية المرأة ولغتها عن الرجل هو الهدف، بل الهدف المهم هو بناء مجتمع إنساني حر وخالٍ من العقد والاستلابات التي تهدد سعادة الإنسان رجلا وامرأة وأسرة. تقول جوليا كرستيفا " اللغة مفتاح التغيير " لكن الخلاف ما يزال قائما حول قدرة اللغة على إحداث تغيير حقيقي بدون الموجهات الأخرى. ذلك ان الإمساك بالواقع الاجتماعي من خلال اللغة امر ليس من السهولة بمكان، إذ يؤكد باختين أن أي عضو من الجماعة الناطقة بلغة واحدة لا يجد أبداً كلمات من اللغة تكون محايدة، معفاة من تطلعات وتقويمات الآخرين، وغير مسكونة بصوت جمعي، وهذه الكلمة المحملة بماضيها الدلالي باقية فيه. إنها تتدخل في سياقه الذاتي انطلاقاً من سياق آخر هو سياق الجماعة واهتماماتها، ولذلك قيل إن اللغة متحيزة لأهلها. إن تحويل اللغة إلى أداة جامدة يقيدها ويفقدها الكثير من حيويتها وطاقتها الحركية فضلا عن كون الجمود دليلا على سكونية الفكر. فالعلاقة جدلية بين اللغة والتفكير لأنها لا تتشكل إلا بإشارات من الفكر الناجم عن التفكير الذي يشتغل في فضاء العقل الإنساني. وإذا كان العقل الإنساني عبر التاريخ قد اشتغل في حيز الرجل ومصالحه، فان المرأة في اللغة غالبا ما تظهر في ظلال الرجل وضمن حضوره في ما أشرنا إليه بظاهرة التغليب في اللغة والانضواء في ظلال تراكم تاريخي طويل لا يمكن الإفلات منه بسهولة. تغليب التذكير على التأنيث سمة في لغتنا لكنها ليست سمة بنيوية في طبيعتها،بل سمة متوارثة تداولياً،فقد كان لطبيعة الموطن في تلك البيئة الصحراوية الصعبة التي تحتاج عضلات الرجل وقوته للتنقل وتدبير حمولات الخيام ومستلزمات العيش والرعي والغزو،فضلاً عن حقيقة كون التذكير مصاحبا للأنثى في الإسناد لا أجده يتم إلا بصمت المرأة عن المطالبة باستعادة صيغ التأنيث التي تنسجم وواقع اللغة وطبيعة الحال. فالتطورات التي شهدها القرن العشرون ولاسيما الربع الأخير منه في الميادين كافة ولاسيما العلمية والحقوقية وفي الأنتاج الأدبي حققت قفزة نوعية للمراة العربية في ميداني العلم والاستقلال الاقتصادي معا بالرغم من المجازر وأجندات الردة التي صاحبت نمو الوعي الثقافي والتحرري للمرأة في المنطقة العربية مؤخرا.إن أيديولوجية اللغة القياسية كما أطلقت عليها "لوزيتالبي غرين" تعني الانحياز الى لغة مجردة ومتجانسة، وذلك لا يمكن الركون له كما أرى حتى في المجتمعات النشطة حضاريا. فاللغة هي ابنة الحياة وناتج حضارتها، والعلاقة جدلية بين الأدب والحياة والأدب والسياسة وبين اللغة والحضارة. وما دامت الحياة قائمة على التطور والحركية في كل تلك الجوانب، فان اللغة ستأخذ مداها في التطور هي الأخرى مطردة مع التطور الحضاري لكنها بالنسبة للمرأة تحتاج لمزيد من المثابرة والجرأة كي تبادر بجرأة ومثابرة وتقنع مجتمعها بقضيتها وبالأساليب التي تعبرعنها وعن مشاعرها وحاجاتها.فالأستاذة التي تستلم أمر مناقشتها لأطروحة جامعية ومكتوب أمام اسمها الأستاذ الدكتورفاطمة بالتذكير وتصمت إنما يعني صمتها أنها راضية بهذا التذكير، لكنها لو أصرت على استعادة أنوثتها الكتابية لتمكنت من ذلك، وقد مررنا بهذه التجربة كثيرا ونجحنا، فاللغة عموما إنسانية مشاعة للجميع ووجودها في المعاجم بثراء يتيح لمستعمليها النهل من ثرائها. لكنها تتباين حين تكون كلاما أو كتابة كما أكدت اللسانيات، لان لكل متكلم وكاتب أسلوبه الخاص. والمبدعة الحقة هي التي تتمكن من تطويع اللغة لمقاصدها. وهذا التطويع هو الذي يشخص طريقةً عن طريقة ويميز بين أسلوب وأسلوب. المهم هنا رحابة الرؤيا وكيفية التعبير عنها فضلا عن العلمية وسعة الأفق الذي يجب أن يتوفر للمبدعة لتجيد التعبير عن قضاياها. من هنا ستظل اللغة الأنثوية في علاقة جدلية مع الحياة لا تنفصل عنها والحياة امرأة ورجل. لذلك كان انخراط المرأة في الحياة هو الركيزة الأساسية لإطلاق طاقتهاومواهبها وتفعيل خبرتها ووعيها بالعالم والأشياء من حولها، ومن ثم تطوير وتحقيق تلك المواهب والطاقات . فضلا عن كون الاندماج الأنثوي بالشعري أمر بغاية الأهمية في شعر المرأة كما سبق القول، أكثر من الخطاب السردي مثلا. ولذلك أطلق على الرواية حالما اقتربت من البوح المعمق والغوص داخل الذات واصطناع الترميز مصطلح رواية شعرية. فاللغة إنسانية محايدة لكن طرائق التعامل معها هي التي تميل بها نحو الانحياز أو التوازن. وإذا كانت الثقافة الذكورية قد وظفت قوانينها اللغوية بانحياز للذكورة؛ فعلى المبدعات العربيات وعالمات اللغة - وهن كثر – أن يجتهدن في الإصرارعلى اصطناع صيغ جديدة تعطي المرأة حقها اللغوي في الحضور، وذلك متاح في قوانين التشكيل مرة، وفي استعمال الضمائر المؤنثة وهي موجودة باللغة، وفي قوانين الاشتقاق اللغوي وصياغاته الثرية في اللغة العربية المعروفة بمرونتها وثرائها وقدرتها على التواصل .3128 بشرى البستاني

هنا لا بد من الإشارة إلى كثرة التجارب التشريحية التي توصل اليها أكثر من عالم وأكثر من مختبر – من ذلك ما توصل اليه العالمان "ريتشارد هير وروبين جون" من أن الرجل يستخدم الجانب الأيسر من المخ للتعبير اللغوي فهو مسؤول لديه عن اللغة بينما تستخدم المرأة الجانبين في آن واحد، الأيمن مسؤول اللغة والأيسر المسؤول عن العواطف معا،ولذلك تظل المرأة اقدر من الرجل على مزج اللغة بالمشاعر – حسب العالمين - مما يزيدها قدرة على التعبير، فضلا عن كون الجانب الأيسر المسؤول عن الكلام والقدرات اللغوية لدى المرأة يحتوي على حزم عصبية أكثر مما لدى الرجل مما يساعد المرأة على التعبير أكثر من الرجل. وأثبتت تجربة أخرى أجرتها "العالمة لورا آلان والعالم روجر جورسكي" عزلة الجانب الأيمن في المخ عن الأيسر لدى الرجل فلا يعرف الأيمن ما يدور في الأيسر بينما يدور حوار عصبي دائم بين الجانبين لدى المرأة . وتؤكد هذه التجارب – حسب العالمين - ان مخ المرأة كالغرفة الواحدة يستطيع ان يركز في موضوع واحد بكفاءة عالية تتسم بالشمولية ليحقق انجازا كبيرا، بينما مخ الرجل صندوقي فهو كالبيت ذو غرف عدة. مما يجعل خلايا المرأة المخية تشتغل بتواشج وتركيز على القضية الواحدة بشمولية وبما يجعلها صانعة قرار جيدة،بينما يفصل الرجل بين قضية وأخرى. ويطول البحث وتكثر آراء العلماء في هذا الموضوع،ويرى معظم المفكرين والباحثين في هذا الأمر أن نتائج هذه البحوث تؤكد ألا أفضلية لأحد الجنسين على الآخر، بل هناك تكامل إنساني مبهر بين الطرفين يدعوهما للتعامل بالعدل والإحسان والمحبة من خلال حاجة احدهما للأخر.

 إن الشعر واحد من أبرع وسائل المقاومة الثقافية لأن اللغة هي أداته البنيوية التي تعد من ابلغ أدوات البنى الفنية قدرة على التواصل الإنساني لكونها الأداة الأكثر تداولا من وسائل الفنون الأخرى. لذا فإن نص المرأة ليس محايدا، بل هو نص مقاوم يناضل على أكثر من نسق. يقاتل سلطة الخارج بأزماته المركبة ويقاوم سلطة الداخل المجروح بالأسئلة النفسية والوجودية المحكومة بالتوتر الدائم. لذلك فإن الشعر يعمل على التفريغ والخلاص والاستبدال معا. وهو فضلا عن ذلك يشكل انهماكا في لعبة فنية تشتغل بذروة الدقة والجد لتستنفد مداها بين أمرين بغاية الأهمية هما قمة اللذة مندمجة بجوهر القيم في شبكة من العلاقات المعقدة تشكلها صناعة الشعر المثابرة للكشف والتصدي معا .

9– بوصفك شاعرة وناقدة كيف تنظرين الى رأي جاك دريدا القائل : ان الشاعرة من الذوات الفردية التي تسكن المناطق الأكثر تعذرا على التجاوز، أي هي كائن ذاتي النزعة تريد أن تفصل نفسها عن جسد تعيش فيه، كونها تعدها صيغة من صيغ التحدي،وأن لها أحقية امتلاك القوة والكفاءة إزاء الآخر ..؟

ج9: د. بشرى البستاني: أرى أن مثل هذه الأحكام لا تصح على الشاعرة العربية ولا المرأة العربية لاختلاف ظروفها الحياتية اختلافا جوهريا عن ظروف الشاعرة أو المرأة الغربية. ان ما وقعت به بعض الناشطات العربيات من أخطاء هي محاولة تطبيق التنظيرات الغربية على واقع المرأة العربية المختلف. فبينما تتهيأ ظروف الغربية المجتمعية والعملية والمعاشية والحقوقية والقانونية لصنع قرار حياتها الذاتي بحرية تامة في العيش وحيدة أو مساكنةً مع رجل أو امرأة، نجد ما هو أحقّ من ذلك متعذرا على العربية التي ما يزال قرارها يعاني من ارتباطه المصيري بقرار الرجل (ولي الأمر) والأسرة حتى في أدق أمورها الشخصية المتمثلة بالزواج. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا أرى في حكم دريدا إلا ردا أو تعقيبا شخصيا على تطرف المنظمات النسوية الغربية الراديكالية شاعرات وناقدات. تلك المنظمات التي دعت إلى فصل قضايا المرأة عن الارتباط المصيري بالرجل ومنظومات قيم العائلة فيما يخص الزواج وتشكيل الأسرة وأعباء الأمومة، مما يشكل عوائق كبيرة – برأيها - أمام تحقيق ذاتها وتشكيل مواهبها بحرية كما هو متاح للرجل، وكأن المرأة الغربية حتى هذا اليوم لم تستطع أن تغفر للرجل أزمات اضطهادها وقمع إرادتها وحرمانها حقوقها في كرامة روحها فهي تعمل ساعات أطول من زمن الرجل وتتقاضى أجورا أقل منه وحقها في صنع القرار ضئيل جدا، إذ يبلغ عدد الوزيرات مثلا في أوروبا 57 وزيرة فقط مقابل 515 وزيرا. وأن نسبة 2 في المئة فقط من الإداريين ذوي المستوى العالي هن من النساء فضلا عن كون المرأة الغربية ولاسيما في امريكا تُضرب وتهان حتى يومنا هذا مما يذكرني بقول المؤرخ الكبير توينبي " لم اجد في التاريخ ما يدل على أن الإنسان المتحضر كان يوما ما اقل همجيةً منه في عصر الغاب " ذلك أن كل تلك القوانين الجائرة هي من صنع الرجال الذين شكلتهم قيم الاستهانة بالأنوثة وإنسانيتها وبقدراتها التي ضاعت في خدمة الرجل.تقول المفكرة مارجوري نيكلسون من جامعة كولومبيا : " ان السبب الرئيس لعدم إنتاج النساء إنتاجا يعدل في عظمته إنتاج الرجال هو أن النساء ليس لهن زوجات " مشيرة في ذلك إشارة بليغة لتخصيص الرجل زوجته خادمة لأمجاده متناسيا كونها إنسانة تمتلك طاقات وقدرات تحتاج مثله زمنا ومكانا وتفرغا لتحقيقها.و لذلك كانت الشاعرات والناقدات النسويات مصراتٍ على هجر الرجل وإلغاء قوانين الزواج والأسرة، تخلصا من التحيزات السافرة ضد المرأة لصالح الرجال ولو على المستوى الشخصي لا العام. لكني أخالف دريدا القول في فردية المرأة وكونها الأكثر تعذرا على التجاوز وأنها كائن ذاتي النزعة - وهنا أشير لغياب لا النافية قبل الفعل تريد لكي ينسجم المعنى – فذاتية النزعة هي التي لا تريد أن تفصل نفسها عن جسد تعيش فيه كونها متحدية. وقد راجعت النص ووجدته كما ذكرتُ فعلا، ولها حق امتلاك القوة والكفاءة أمام الآخر. إن معظم الأحكام التي أطلقها دريدا في هذه الفقرات التي راجعتها تعد أحكاما ذاتية لا تندرج في ظل اشتراطات علمية او نفسية أو واقعية حقيقية. إن دريدا يحكم على الشاعرة النسوية الغربية "المتطرفة حصرا"، لأن الحقيقة التاريخية عبر العصور تؤكد عكس هذه الطروحات تماما فيما يخص المرأة عموما. فالمرأة في العالم كله عبر التاريخ كانت مخلوقا كادحا وأُماً مضحية وزوجة صابرة وربة أسرة مسؤولة مما أغرى الرجل بعطائها فأوكل إليها واجب العطاء العاطفي وحرمها معظم ميادين الحياة الأخرى. أسكنها بيته حارسة أمينة وأخذ منها الدنيا وصنعَ القرار وكتابةَ التاريخ وتفسيرَ الأديان والخطابات حقبا طويلة. فلما أفاقت ورفضت الواقع نسي الكثيرون تاريخ عطائها الطويل واتهموا قراراها الذي هو مطلب حقيقي وليس رد فعل على الاستلاب- بالأنانية. أما حق امتلاك القوة والكفاءة أمام الآخر فذلك حق مشروع ظل مضمونا للرجل عموما. لكني أحرص على أن تكون القوة والكفاءة متشكلة مع الآخر وبشراكته وبمؤازرة الطرفين ولا تتم من خلال فصل أو منافسة وتحديات أوصراع يؤذي ثنائية الحياة الأساسية المؤتلفة : المرأة والرجل فهما يشتغلان داخل مشروع واحد هو تمجيد الحياة. وإلا عدنا لخلق تمركز جديد هو تمركز الأنوثة الذي سيؤدي الى خلق هامش آخر هو هامش الذكورة وهذا باعتقادي ليس هو الحل الذي تسعى إليه الإنسانية المتوازنة.3127 بشرى البستاني

 10–في النص الشعري الانوثي تتجلى مهمة الشاعرة لإعادة المرأة الى الكتابة بوصفها حضورا في قلب الحياة فكرا وتجربة وعاطفة وحرية، فهل حققت الشاعرة العربية حضورها بحرية الشعر المعهودة ومثلت الكتابة بوعي وتحرر وقيمة نوعية وهل توافقينني الراي بان للشاعرة نصا سرياً لم يأخذ دوره بعد؟ تقول سيليفيا بلاث : أكتب وحسب، لانه في داخلي ثمة صوت لن يهدأ أبدا.

ج10: د. بشرى البستاني: نعم، الكتابة حضور وتحرر ومسؤولية وانتماء. والمرأة في هذه الكتابة تضيف متعة أخرى لحضورها الأنثوي المرهف والمفعم بالحنو هي متعة العطاء الإبداعي والمعرفي والجمالي، في الكتابة الأنثوية تكشف المرأة عورة التاريخ وموروثاته المتخلفة بشجاعة، وتزيح الغطاء عن ظلمٍ جعل الإنسانية تهدر نصف طاقاتها عبر القرون. وتدحض بقلمها الجهل الذي أدام تلك التشوهات. وهي في مواهبها الحقيقية تضيف لخصوبتها البايولوجية خصوبة أخرى تلقحها بجهدها الذاتي وسهرها المعرفي والثقافي، وهي بذلك تزيد من بهائها وجمال حضورها حين تضاعف أنوثتها بالشعرية وسطوة الكتابة. لان الجسد يحضر عبر كل مفردة وكل تركيب من تراكيب النص المكتوب بأنامل الأنثى. الكتابة عنفوان لأنها وليدة الحرية وخلاص من الوأد وسلطة الحجب ووحشة الجدار. والكتابة الأنثوية ليست تعرية للاستلابات حسب، بل هي تفجير لكل القوى الكامنة في صميم إنسانة عاشت قرونا من الكبت والقهر والحرمان. فالكتابة قوة وثورة وحب وولع وانعتاق وتشكيل للجمال وبداية لعصر جديد يحمل في رياحه بذور أملٍ بغد أفضل. فالمرأة بالكتابة تقاوم عوامل السلب في المجتمع. لأن الكتابة من أهم وسائل المقاومة الابداعية. إنها إصرار على الحضور وتدوين الأثر. هذا الأثر الذي كانت تنجبه للرجال بوجع ومعاناة كي يخلد أسماءهم عبر العصور بينما يختفي اسمها في سجلات ميلاد يعلوها الغبار. لكنَّ هذا المنجز الجديد الذي يتشكل جنينا في دمها وخلايا رأسها وعصبها، ومن ثمَّ بأناملها غدا اليوم أثرا وليدا يُنسب إليها ويحمل اسمها ويحقق ذاتها وسمات هويتها. إن المرأة في الكتابة تنجز أمرين لا أهمَّ منهما، الأول إعلان المساءلة للتاريخ والمجتمع وكشف عن جبن النساء وتبعيتهن لتسلط الثقافة الذكورية الحريصة على إدامة موروث فظ وجامد وقبلي لا علاقة له بالتراث الحي، بل مهمته الوقوف عقبة أمام مستقبل أفضل. والثاني عقد المصالحة والانسجام مع ذاتها التي تحولت من السكون الى الحركة ومن الرضوخ الى الثورة. فالثورة ان لم تكن انوثة مخصبة ستصاب بالعقم والقطيعة والموت حتما. لذلك فالشاعرة الثائرة تشعر بالرضى عن ضراوة فعلها المتحرر وسط ظلام الجهل والقطيعة.

نعم، أوافقك وسيليفيا بلاث على أن للشاعرة نصا سرياً لم يأخذ دوره حتى الآن. وأتساءل دون حذر، كيف تكتب الشاعرة والشاعر كذلك ان لم يكن في داخلهما صوت مقيد ملهوف لا يكف عن طلب الإغاثة بالانعتاق والبوح،فالإبداع صرخة سرية في الظلام يقول الناقد الامريكي أرشيبالد ماكليش، في الداخل صوت يولد عن إشارة سرية او أخرى منظورة ثم ينمو بصمت وغموض كذلك عبر تجربة معاناة داخلية، فإذا اكتمل النمو تشكلت التجربة في بنية فنية هي القصيدة او اللوحة أو أية بنية أخرى. وإن لم تكتمل فإنها لا تموت أبدا بل تذوب لتندرج في غمار تجربة أخرى ستنجح في تشكيل ذاتها. ولذلك فإن هذا النص السري باعتقادي ما هو إلا الرصيد الفاعل والمحرك للنص المعلن. لكن الفرق بين المبدعة والمبدع أن المباح والمتاح للرجل أوسع دوما من المباح للمرأة،ولذا فإن مكبوت المرأة ظل هائلا عبر القرون. وان الثقافات الإنسانية التي دونها التاريخ كلها تعاملت بارتياب مع القضايا التي تخص الأنثى جسدا وحرية وهواجس ونظرت بارتياب الى الأنثى المتحدية التي تعمل بقصدية على كشف المكبوت والتصريح بالمضمر. من هنا نجمت قضية التصادم بين جرأة المرأة المبدعة ومطالبتها بحقوقها الإنسانية وحرص المجتمع على تصميتها،ذلك التصادم التي أنتج نصوصاً مشتبكة بأنواع الرفض كما أنتج منظمات نسوية متطرفة عدة وأطلق أصواتا عالميةعالية مطالبة بإحداث التوازن في الحقوق والواجبات، والمبدعة تدرك بوعي أن اشتغالها أصلا قائم على التصادم بين السكونية والحركة بين التقليد والتحرر، بين الإتباع والإبداع، وبين القدامة والحداثة وهكذا في جدلية دائمة. وقد نتج عن ذلك حضور مفاهيم أخرى لا مجال للحديث عنها الآن.

 

حاورتها الشاعرة: بيداء حكمت

 

 

3388 طاهر مشي“في -قصائدي-تمرُّد على ما أراه قيدا يحدُّ من حريتي في التعبير..والشعر في مجمله يجمعنا..وإن فرقتنا الحدود، لذا تراني أتسلق أهداب الليل الحالك ، يرهقني صخب الشوارع وابحث عن باب نهار مشرق لأفتحه..”

انبهر باللغة، ففتحت له العربية المجال واسعا ليبحر ببراعة واقتدار في عالم مفعم بالإبداع . وكان حصيلة هذا التميّز أن كتب نصوصا بجمالية فنية وأسلوبية ذات بصمة مميزة، كنتاج لخبرة وتعمق واهتمام بالجوانب الفنية للغة ولحالات التمظهر فيها وإلماما بالقوالب والأنواع.

فالشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي، يتعامل مع الأدب والثقافة كشغف وحاجة روحية، فنجده يكتب في نصوصه النثرية عن عوالم الخصب، الأنوثة، الكينونة، الوجود، الاكتمال، الفراغات النفسية والمادية وكذا الوطن العربي في ظل دياجير تقض مضاجع حملة الأقلام ومعتنقي الحرف. وهو يسعى للبحث في هذه القضايا.

الشاعر د. طاهر مشي. شاعر ذو لونِ مميز، جمع بين حروف كلماته قطوفاً من الرومانسية والرقة و الحلم و الدفء و الجرأة، استطاع عبر قصائده الموغلة في الجرأة والرومانسية التعبير عن وجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة بمقدرة فريدة دون أن يهمل-كما أسلفت-القضايا الوطنية المنتصرة للإنسان والإنسانية.

حين سألته عن بدايته مع الشعر وما هي أهم المؤثرات التي أثرت في تكوين اتجاهاته الأدبية؟ أجابني بهدوئه المعتاد : ”كيف كانت بدايتي مع الشعر؟ الوردة لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع العطر، والشمس لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع الضوء، والجسد لا يعرف كيف بدأت علاقته مع الروح، وأنا لا أعرف كيف بدأت علاقتي مع الشعر ولا أستطيع تفسير نوعها أو تحديد ماهيتها أو إعطاء فلسفة ما لها لأن الشعر ينبع من الروح ليصوغ العالم موضوعيا..ولعل ّأجمل القصائد هي تلك التي سبر فيها الشاعر أغوار ذاته فجاءت صورة لما يعتمل في أعماقه من مشاهد التمزق والتشظي..

لاشك أننا متأثرون بالعديد من الكتاب الحداثيين بشكل واعٍ أو غير واعٍ، أستطيع القول أني في المرحلة الجامعية كنت أقرأ للكاتب السوري “أدونيس″، ثم قرأت بعضا من الأدب الروسي واللاتيني، كنت أقرأ في النقد أكثر من الأدب، وغالباً في القواعد التي تقوم عليها الفنون، أما الآن ومنذ مدة ليست بقليلة لم أعد أقرأ قراءة منظمة واعية، صرت أغوص في الداخل وأستمتع، ومراتٍ كثيرة أتوجع..والوجع صورة -كما أسلفت-لتشظيات الروح..وتأوهات الجسد..”

د. طاهر مشي، إنسان وشاعر تونسي، أية مقارنة؟

- لا مقارنة بين ما يسكن في القلب، وبين تونسيتي، وما أبوح به لهذا العالم المتخَم بالتناقضات..الكتابة التي تسكنني بدون إذن ولا جواز سفر ولا تأشيرة أريدها تحدي من أجل قوة لا تقهرها الظروف..للوطن قلب يسع الكون ، وللكتابة فكر يحمل ثقل هذا الكون، وكلاهما تضحيات كبيرة ووجهة واحدة للنجاح .-

أنا-كناقد-مع القائلين بأن قصيدة النثر” امتدادٌ طبيعيٌّ لتطور الشعر، خاصةً بعد شعر السبعينيات؛الذي انحرف به أصحابه عن الشعر العمودي، وأنهم أوجدوا حلقةً جديدةً من تطور الشعر العربي، ولكن هناك شبه مؤامرة على عدم الإعتراف بقصيدة النثر كحلقة شرعية من حلقات تطور الشعر العربي؟!

"هذا غير صحيح..قصيدة النثر الجيدة فرضت نفسها حتى لو لم تنل ذلك الاعتراف، لكن المبالغة في تقليد الصراعات والابتعاد عن لغة الشعر وموسيقاه الداخلية أو الخارجية هي التي نفرت الناس منها، فالشعر وتده الأساسي الموسيقى واللغة الشديدة التوتر والحساسية والتكثيف فلما انمحت ملامح الشعر أصبح النتاج لغة سردية لا فرق بينه وبين القصة القصيرة أو الخاطرة أو لغة المقال وأحيانا لغة الصحافة العادية، لذا كان من البديهي أن يذهب الناس وينصرفوا عن الشعر ويتقلص جمهوره، إن المبالغة في الخروج على كل الثوابت، وإلغاء الحدود بين كل الأجناس حتى الشعر الذي له خصوصيته الدقيقة، هو ما جعل معظم كتاب قصيدة النثر في وضع حرج، فالادعاء لا يقدم فنا خالدا، مما صرف الناس عن الاعتراف بما يكتبونه.لكن لا شك أنه توجد قصيدة نثر جميلة بل وعلى درجة عالية من الشاعرية."

- نلاحظ في العديد من قصائدك تجسيد للفكرة عبر تكرار صورها وما يحفز ذلك هو انقسامها الى مشجرات عنقودية، واعتمادها على نظام الفقرة ..هل هذه دعوة للقارئ إلى أن ينزاح هو الآخر عن اللغة الشعرية المألوفة بطريق بناء حوار جاد مع لغة القصيدة الحداثية وعليه أيضاً أن يضع معارفه القديمة إزاء النص الجديد موضع تعديل، ليحدث التفاعل ويحدث القبول الجمالي للخطاب؟

- "نعم تجسدت الفكرة عبر تكرار صور متعددة خاصة تلك الفكرة التي تلحّ عليّ وتكمن في أعماق الذات وهي بالفعل دعوة للقارئ لبناء حوار جاد مع لغة القصيدة المتشظية التي تطمح لتأسيس خطاب جمالي جديد منبثق من قناعتي ورؤيتي الجمالية لتطور النص الشعري الخاص بي والذي يحمل بصمة الذات الشاعرة وخصوصيتها.."

- إلى أي مدى فقدت القصيدة فعاليتها في هذا الزمن المعلب؟

- "ما يحزنني هو أنني ولدت في زمن يأكل المشاعر بالشوكة والسكين ويتفنن في اغتيال كل الأشياء الجميلة ، زمنٌ لا يمهلنا كي نكبر، ولا يترك لنا نقطة من العطر آخر الحلم.ولكنني رغم ذلك أعلن أنني لن أستسلم أبدا له، ولن أترك له شرف الانتصار علي وعلى القصيدة، لن أدعه يحولني إلى علبة صفيح، ولا إلى دمية من خشب ولا إلى سيجارة كوبية ، ولن اسمح له أن يأكلني ولا أن يأكل أحلامي ولا أن يجعلني بلا إحساس.ربما قد أنهزم في معركة، وربما قد أنزف حتى الموت، ولكن كل جرح ما هو إلا مطلع قصيدة وكل نزيف ما هو إلى رغبة في الكتابة.."

- بسؤال مغاير أقول: هل يعتقد الشاعر طاهر مشي أن أهمية الشعر والشعراء تلاشت عما كانت عليه في السابق اي في العصور الماضية.. ولماذا؟

- "يبدو لي أنها تلاشت وبشكل محزن، رغم وجود أقلية تناضل في هذا المجال، أماالسبب برأيي المتواضع، هو انحلال أخلاق حملة الأقلام، أعتذر، لكنها الحقيقة، ضاع المبدعون الحقيقيون وسط ثلة من سماسرة الحرف..هبط مستوى الكلام الى أسوأ رتبة، صار شعراً تجارياً، كما أفلام التفاهة والميوعة تماماً، وحين صار الشعر بيد أناس يتاجرون به، ومن يشترون اسماً لن يخلد إلا نفاقا.لكن يظل في الأخير الشعر النابع من الذات مخترقا لسجوف الرداءة.."

- ما هو رأيك بالنقد الآن، وهل واكب مسيرة الشعر التي نشهد فوراناً لها منذ سنوات قليلة؟

- "ما يثير الحزن حقا هذا التراجع والنكوص الذي يعرفه النقد الأدبي في جامعاتنا وأوساطنا الأدبية، فالمشهد اليوم يبدو فقيرا لغياب مدارس نقدية عربية حقيقية، في المقابل يمكننا الاستشهاد بالتجريدية الأوروبية والسريالية والبنيوية والتفكيكية وغير ذلك، أما التراث العربي القديم فإنه مليء بالشواهد التي ما زلنا نستنزف قواعدها، لقد أصبحت المناهج القديمة مستهلكة تكرر نفسها دون أن نجد نقدا حقيقيا للنصوص الشعرية مما شجع-كما أشرت-على انتشار الرداءة والإسفاف والشعر الهابط، ومن ثم كان على النقاد(وأنت واحد منهم-قالها بإبتسامة عذبة) أن يقوموا بأدوارهم وأن يصطفوا جنبا إلى جنب مع الأدباء والشعراء لأن الشعوب المغلوبة في وطننا العربي تعول عليهم في قراءة الواقع ونقد مساراته، وهنا يبدو دور الجامعات المتخصصة في دمج الأدب المعاصر بالعمل الأكاديمي وتفعيل دور النوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية المعنية لأن التغيير لا يحدث إلا بشكل جماعي.."

- لو لم يعد بإمكانك الكتابة والرسم بالكلمات..وحتمت عليك الظروف ذلك..فما الذي تفعله؟

- "الكتابة سحر روحاني يتملكنا في أي لحظة، والمبدع كالسمكة لو تخلى عن بحر الإبداع سيموت ..ربما هذه الظروف التي تريد أن تحتم علي بعدم الكتابة، بل ستزيد فيّ الحنين أكثر للإبداع ..كل حالات الوجع والفرح والحزن والتفاؤل في الحياة تمنحنا الإبداع أكثر، الأديب الذي لا تزعزعه الظروف سواءً كانت حزينة أم سعيدة، لا يمكنه أن يكون مبدعاَ.."

- قلت عنك ذات يوم أنك، تلتقط في رماد الروح وجع المسافات حنينا لأزمة الحب حيث تشتعل فوانيسها ” ماتعليقك؟

- "ما تبقى من اشتعال الذات في خريف عربي أتى على الأخضر واليابس..ما تبقى من رماد فينا حرقته التحولات الفكرية والذهنية التي طرأت على أفكار العرب، من أجل الهروب إلى الهاوية أو الانتحار، فكلاهما مرٌ، رماد الروح هو فعلا وجع المسافات القليلة البعيدة، كالسراب نحو الأمل والحب، كي يعيد الرماد استنساخ نفسه كشعلة من نور، وفوانيس الدروب المكللة بالانتصار"

- كيف تتشكّل القصيدة لديك.انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء؟؟

- "النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ.

وهذا يعني أنّ-القول الشعري-لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ : اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة."

- من وجهة نظركم، كشاعر، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟

- "من وجهة نظري، لا يخضع لوظيفة بعينها، وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار، هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها، أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا، الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل، بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت، القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر، هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريح في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر الثقافة كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة.أما الحداثة، فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي، من خلال الاكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ، وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق، بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة، وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري، علينا أن نفهم ماضينا وآصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور، لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية"

- كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

- "خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها، فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية، وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة، من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري..وغيرهم."

حين تنادي:”طاهر مشي”أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟

- "لأنني لازلت أجهل-طاهر مشي-لم يحدثْ أن فعلتها. ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض، ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق، كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفهُ تماماً، وقتها سوف أفعل، وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه، أم لا، دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ."

-هل كتب د. طاهر مشي قصيدته المشتهاة ..؟

- "القصيدة المشتهاة هي التي تسكننا ولا تفارقنا مدى الحياة ، في كل مرة نكتبها نقول لا ليست هي ، ونبقى نبحث عنها بين طيات أفكارنا وذاكرتنا حتى ولو عشناها..

القصيدة ” المشتهاة “هي نداء الروح العميقة التي لا تأججه إلا الكتابة ، فهي تمنحنا الحياة للبقاء على ناصية الفرح، كلما ضاقت بنا سبل الدنيا ، نبحث عنها بين طيات الحروف، ربما كتبتها .. لكنني أبقى أبحث عنها حتى لا أضيع بوصلة الفرح في حروفي .."

- دمتَ لامعَ الحرف..وذائقا لمعانيه العميقة..

 

أجرى الحوار الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 

3095 فوزي حامد الهيتيأقام قسم الفلسفة في جامعة الكوفة مؤتمره الفلسفي الاول. وكان ضمن محاوره دراسة المشهد الفلسفي العراقي المعاصر. وكلفت حينها بكتابة بحث تعريفي عن الفيلسوف العراقي المغترب نمير العاني الذي لم أكن اعرف عنه ساعة اقتراح الموضوع سوى اسمه. وعند الشروع بجمع المادة العلمية عنه صار لنا اتصال مباشر معه جرى خلالها طرح اسئلة استفسارية للالمام الكافي بجوانب فلسفته، كان من نتائجها إثارة موضوعات فلسفية مهمة منها آرائه النقديه للقراءة الماركسية لعدد من الفلاسفة السوفيت المعاصرين ونقده للمدرسة العقلانية النقدية ممثلة بكارل بوبر فضلا عن تصوراته لمفهوم النظرية العلمية ومعاييرها. ولاهمية هذا الحوار إرتأينا نشره منفصلا بصيغة مقابلة او حوار فلسفي. ونزولاً عند رغبته في نشر هذا الحوار في مجلة الثقافة الجديدة حيث كان يعمل في تحريرها خلال عقد السبعينات من القرن الماضي تم نشره في فعلا فيها بعددها في عددها المزدوج (398 – 399) لشهر تموز 2018. ولأهمية موضوع الحوار ورغبتنا بنشره على نطاق أوسع، نعيد نشره مرة أخرى. والاستاذ الدكتور نمير مهدي العاني. حاصل على شاهدتي دكتوراه في الفلسفة الحديثة كلاهما من جامعة سان بطرس بيرج الحكومية الروسية (جامعة لينينغراد سابقاً) الاولى سنة 1971 موضوعها في (العلاقات الاجتماعية) والثانية دكتوراه علوم في الفلسفة وهي اعلى شهادة تمنح في روسيا. سنة 1983 والموسومة (الديالكتيك المادي.. النظرية الاعم للتطور). عمل تدريسيا في قسم الفلسفة جامعة بغداد في سبعينات القرن الماضي ومن ثم استاذا زائراً في جامعة عدن خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي واخيرا استاذ كرسي الفلسفة في جامعة الدولة لتكنولوجيا المعلومات والعدسات والميكانيكا الدقيقة (إيتمو) في سان بطرس بيرج – روسيا الاتحادية، الى أن وصل السن القانوني للتقاعد عام 2002، ولكنه واصل العمل (كمتقاعد عامل) في الجامعة نفسها حتى الأول من كانون الثاني عام 2017 حيث استقال من عمله وتفرغ تماما للبحث العلمي. لديه عدد كبير من الابحاث العلمية قاربت المئة بحثا, فضلا عن عدد كبيرمن الكتب والدراسات الفلسفية المنشور أغلبها باللغة الروسية وللأسف الشديد.

- سؤال: خلال قراءتي لمشروعكم الفلسفي اثرتم في بداية حديثكم قضية مهمة تتلخص في تقديمكم قراءة جديدة للديالكتيك يعيد له طابعه الثوري المتمرد هذه الصفة التي غابت في قراءة المدرسة السوفيتية الرسمية للديالكتيك والمدرسة الماركسية بعامة وأحالتها (الفلسفة الماركسية) من فلسفة وظيفتها بحسب الفهم الماركسي تغيير الواقع الى فلسفة تبرر الواقع ووصفت هذه القراءة بفلسفة الركود او الجمود بحسب توصيفكم. ومن ثم شرعتم بشرح مقومات فهمكم للديالكتيك بعده بردايم للوجود يمكن من خلاله تفسير كل مظاهر الوجود وحركته التفاعلية التطورية. ولكن لم نلاحظ خلال عرضكم اي مقارنة ومقابلة بين فهمكم للديالكتيك المادي وبين الفهم السوفيتي له الذي قاد الى حالة الجمود والتبرير. هل بالامكان ايضاح ذلك اكثر وبخاصة في جانب العلاقات الاجتماعية؟. هل القراءة التبريرية السوفيتية للماركسية هي التي افضت الى انهيار التجربة السوفيتية ؟. الحديث بالعموميات لا يفسر. وما طرحتموه من قراءة مخالفة أمر مهم يمكن أن نحدد من خلاله فهمكم للديالكتيك الماركسي إذا ما جرى مقابلته بالقراءة الاخرى التبريرية. وبصراحة اكثر اين تكمن القراءة التبريرية للديالكتيك الذي احاله من منهج ثوري مغيّر للواقع الى منهج مبرر له؟.

* نمير العاني: في دراستي عن الديالكتيك لم تكن غايتي التحليل النقدي الشامل للمدرسة الفلسفية السوفياتية. فقد إنصب كل إهتمامي في هذه الدراسة على بلورة فهمي الخاص والمتميز للديالكتيك الماركسي. وبطبيعة الحال إنني عند صياغة هذا الفهم وجدت نفسي مضطراً ان اتناول بالنقد هذه او تلك من تصورات الكثيرين من الفلاسفة السوفيات، والتي شكلت في تقديري خروجاً عن روح المنهج الجدلي. ولهذا استطيع ان اقول بان نقد هذه التصورات كان نتاجاً عرضياً للدراسة، ولذا فإن القارىء يجد هذا النقد منثوراً في اماكن مختلفة من الدراسة وليس ممركزا ومكرساً في احد فصولها دون غيره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اشير هنا إلى إنني عند صياغة تعريفي للتطور تعرضت بالنقد للفكرة التي كانت طاغية في الفلسفة السوفياتية والقائلة بالتطابق التام بين مفهومي التطور والتقدم. لقد رأيت في هذه الفكرة خروجاً فاضحاً عن المنهج الجدلي، معتبراً إياها فهماً وحيد الجانب، اي فهماً ميتافيزيقياً (إنني هنا وفي بقية اجزاء إيضاحاتي الحالية اردد هذا المصطلح بمدلوله المنهجي وليس النظري، اي أعني بالميتافيزيقا المنهج المناويء للمنهج الجدلي،... اللا ديالكتيك). فالتطور ليس بحركة صاعدة على الدوام، ليس بسيرورة إلى امام على طول الخط. إنه، وكاي شيء في الوجود، ذو طبيعة متضادة داخلياً. ولذا ففي المنحى الذي نتحدث عنه هنا يشكل التطور وحدة جدلية للتقدم والتقهقر (التراجع، الإرتداد..إلخ). إنه، إذن، ليس بعملية خطية تجري بخط مستقيم، بل هو سيرورة متعرجة تجري في كافة الإتجاهات (صعوداً وهبوطاً، إلى الأمام وإلى الخلف). ومما له دلالة علمية في هذا الصدد ما اثبتته مثلاً، الدارونية حتى في صيغتها الكلاسيكية في ان تطور بعض الكائنات الحية من الممكن ان يتم من خلال تبسيطها لبنيتها، اي بإنتقالها من المعقد (الأرقى) إلى البسيط (الأوطىء)، لأن تبسيط البنية يساعد هذه الكائنات على التكيف الأفضل للبيئة المتغيرة. وبهذا يصبح التقهقر شكلاً من اشكال التطور الحيوي. كما انه يتجلى ايضاً في الصيرورة التاريخية وفي التطور الإجتماعي. وليس ثمة ما هو غريب في ذلك إن اخذنا بعين الإعتبار ان التقدم والتقهقر هما ضدان جدليان لا يمكن لأي منهما ان يوجد بمعزل عن الآخر. فلا تقدم بلا تقهقر ولا تقهقر بدون تقدم. وبالفعل، إننا نجد ان اية ظاهرة في مجرى تطورها تتقدم في بعض جوانبها وتتقهقر في جوانب اخرى. كما واضيف إلى ذلك إن الصراع بين هذين الضدين بشكل عام لابد من ان يحسم في كل طور من اطوار تطور الظاهرة لصالح احدهما. ففي هذا الطور يطغي التقدم على التقهقر وبذلك تكتسب السيرورة التطورية للظاهرة دلالة تقدمية، وفي طور آخر يصبح التقهقر هو الغالب، الأمر الذي يضفي طابعاً تقهقرياً على تطور الظاهرة. فما هو غالب في طور يتحول إلى مغلوب في طور آخر، وبالعكس، ما كان مغلوباً يصبح غالباً. إننا نشاهد ذلك في كل مكان وزمان. فإن كانت الحياة على سطح كوكبنا تعيش في طورها الحالي فترة إزدهار وتقدم بشكل عام مع تقهقر محدود هنا وهناك، فهذا لا يعني إنها ستبقى كذلك إلى الأبد. فلا بد لهذا التقدم والإزدهار ان يخلي مكانه في طور لاحق لتقهقر عام للحياة، من الممكن ان يؤدي إلى تلاشيها من على سطح الأرض حتى قبل نهاية كوكبنا والمنظومة الشمسية. وليس هذا بالأمر الغريب في عالمنا. فهنالك، مثلاً، فرضبة تقول بان الحياة قد اقبلت، ومن ثم ادبرت على سطح المريخ، اي إزدهرت وبعدئذٍ تقهقرت وإندثرت اخيرا هناك. وما قلناه حول التقدم والتقهقر من الممكن ان يؤكد ايضاً بخصوص المجموعة الشمسية، بل وعموم الكون. فإن إعتبرنا إن الحالة الراهنة لكوننا، والتي بدأت بنشوءه وبداية توسعه بعد الإنفجار العظيم، هي حالة تقدم وإزدهار، فهنالك العديد من الفرضيات في علم الكون (الكوزمولوجي) تذهب إلى إن هذه الحالة لا بد وان تخلي مكانها في الطور اللأحق في مسيرة الكون لنقيضها، اي لحالة التقهقر والإرتداد. ومن بين هذه الفرضيات اشير إلى تلك التي تقول بان توسع الكون لا يمكن ان يجري بلا نهاية، وإنه عاجلاً ام آجلاً لا بد وان ينتهي في ذلك الى حد له، الذي عنده يبدأ الكون حركته المعاكسة، اي حركته إلى الوراء او سيرورته التقهقرية، التي تتميز بجريان الزمن فيها إلى الوراء من الحاضر إلى الماضي. وقد دعيت هذه السيرورة ب "الإنكماش العظيم"، والذي سينتهي بالكون إلى الحالة المتفردة، التي من غير المستبعد ان يحدث فيها إنفجار عظيم جدبد.

هذا وهنالك العديد من التصورات الآخرى للفلاسفة السوفيات التي اختلفت معهم فيها واخضعتها للنقد، اذكر من بينها مفاهيم الحركة والتغير والسببية والقديم والجديد والإبداع البشري وغيرها. وفي سبيل الإلمام باوجه الإختلاف بيني وبين هؤلاء الفلاسفة ينبغي عليك قراءة دراستي من بدايتها وحتى نهايتها، او في الأقل الإطلاع على كتابي حول " "مبدأ التطور وعلاقته المتبادلة مع مبادئ وحدة العالم والتشارط المتبادل والتعاكس العام. منشورات مركز الدراسات الإشتراكية في العالم العربي، دمشق، 1988 " والذي في متنه تمت الإشارة إلى جزء من هذه التصورات. وقد وجدت من اللازم ان اقف في مقدمة هذا الكتاب وقفة موجزة على خلافي المنهجي مع الكثير من الفلاسفة المعاصرين الذين بحثوا وكتبوا في مشكلات الديالكتيك المادي. وهنا اسوق لك المقطع التالي الذي اقتبسه من هذه المقدمة، والذي يسلط بعض الضوء على هذا الموضوع، توخياً للإفادة، إذ من غير المستبعد إنك لم تحصل على هذا الكتاب حتى الآن:

"إن السمة الأساسية، بل واقول الخصيصة الماهياتية التي ينماز بها البحث الذي اقدمه إلى القارىء الكريم بين دفات الكتاب الحالي، بل وتنماز به مجمل الدراسة التي استل منها هذا البحث، من الممكن ان تلخص في إستخدام الديالكتيك المادي كمنهج فلسفي لبناء الديالكتيك المادي كنظرية فلسفية. او بكلمات اخر، استطيع ان اقول بان البحث الحالي (شأنه بذلك شأن الدراسة المذكورة برمتها) يشكل في حقيقته الفعلية خلاصة لإنعكاس الديلكتيك المادي في ذاته ومن خلالها، اي خلاصة لعكس الديالكتيك المادي لذاته في ذاته وعبرها. فهو، كما عبر بدقة احد الأساتذة السوفيات الذين إطلعوا على الدراسة المشار إليها وشاركوا بتقييمها، اقرب ما يكون إلى " ديالكتيك عن الديالكتيك نفسه ".

واود ان اشير بالإرتباط مع ذلك وان اؤكد على إن إعتمادي الفعلي على الديالكتيك المادي كمنهج اساسي كامل السيادة في تحليل ومعالجة وحل مشكلات الديالكتيك نفسه (اي، إستخدامي للديالكتيك منهجاً لبناء الديالكتيك نظريةً) هو الظرف الذي مكنني بالتحديد من الوصول في دراستي التي اشرت إليها آنفاً إلى ما إنتهيت إليه من إستنتاجات وخلاصات مهمة تخرج في العديد من دلالاتها ومضامينها على ما هو شائع ومألوف من تصورات باتت اقرب إلى التقليد الفلسفي في ادبنا الماكسي المعاصر. وإنني إذ اشير إلى ذلك واؤكد عليه، لا يسعني في الوقت نفسه إلأ ان الاحظ إن الكثير من الأعمال الفلسفية لمفكرين وفلاسفة معاصرين، والتي تتناول بالدراسة والبحث مشكلات الديالكتيك المادي (و احياناً مشكلات فلسفية اخرى تخرج عن دائرة هذا الأخير المباشرة) تعتمد في الواقع الفعلي (و بالرغم من التصريحات والتوكيدات اللفظية) المنهجية الميتافيزيقية في معالجاتها النظرية. وفي هذا بالذات يكمن، كما أرى، سر (سبب) زوغان هذه الأعمال في العديد من موضوعاتها وأطروحاتها وإستنتاجاتها عن درب الحقيقة بشكل عام وحيودها عن النظرة الديالكتيكومادية الحقة على وجه التحديد.

و من الغريب، بل ومن باب المفارقة حقاً، ان نلاحظ في هذا السياق ان الوزن النوعي لإعتماد وإستخدام المنهج الديالكتيكومادي في البحث هو اعلى في الدراسات العلموطبيعية منه في الدراسات العلموإجتماعية عموماً والدراسات الفلسفية على وجه الخصوص. اما سبب ذلك وتفسيره، فيعود في التحليل الأخير، كما يبدو لي، إلى حالة الركود في السيرورة الإجتماعواقتصادية. وبالفعل، ان المنهج الوحيد الذي يستطيع ان يعبر باصالة عن هذه الحالة ويجسدها او يلخصها تجسيداً (تلخيصاً) حقيقياً، اي المنهج الأصيل ل"فترة الركود" لا يمكن ان يكون إلأ منهجاً ميتافيزيقياً في مضامينه ودلالاته الفعلية.

إنني لا انوي هنا، بل ولا افكر إطلاقاً نفي القيمة الإيجابية (العلمية) للمنهج الميتافيزيقي سواءً في بعدها التاريخي ام في مدلولها الوضعي. بيد ان هذه القيمة تبقى قيمة محدودة (بل ومحدودة جداً في بعض مجالات البحث والدراسة)، ومن غير الجائز إطلاق معناها باي حال من الأحوال. هذا يعني إن المنهج الميتافيزيقي في البحث لا يمكن ان يضطلع في عصرنا إلأ بدور ثانوي ووظيفة هامشية. ولذا، فإنه يبقى (و مهما بلغت "قيمته العلمية" في هذا المجال او ذاك من مجالات البحث العلمي المعاصر) عنصراً منقاداً ومقهوراً ("منزوعاً") في بنية منهجية عامة تظل ذات اصالة ديالكتيكية ببعدها العام وبدلالاتها الخاصة". (د. نمير العاني. جدلية العلاقة بين مبدأ التطور ومبادىء وحدة العالم والتشارط المتبادل والتعاكس العام. دمشق: مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1989، ص. 6-7).

لقد وجدت من المناسب ان اورد هنا هذا المقتبس الطويل من مقدمة كتابي المذكور تحسباً لعدم توفر المصدر تحت يديك، وإعتقاداً مني إنه سيعينك ولو بعض الشيء على تفهم مشروعي الفلسفي بصورة افضل.-

- سؤال: خلال رسائلكم السابقة تحدثتم وبإيجاز ايضا عن العقلانية النقدية وبخاصة لفلسفة كارل بوبر وتحديدا حول مسألتين هما أ- معيار العلم لديه (معيار التكذيب) وقلتم أن هذا المعيار مثله مثل معيار التثبت لا يكفي لتمييز بين القضايا العلمية عن غيرها وقلتم أن معياركم هو (التثبت والتكذيب) وهذا ايضا كلام مبهم يحتاج الى ايضاح بأمثلة مقارنة. أنا افهم سبب تقديم بوبر لمعياره فهو جاء استجابة لفهمه وتصوره لمفهوم النظرية العلمية وتحقيقا لغاية الابستملوجيا كما يقول هو ويحددها بالنمو والتطور فغاية الابستملوجا هي النمو والتطور وهذا لا يتحقق كما يقول كارل بوبر إلا من خلال اكتشافنا لأخطاءنا لذلك اشترط في صياغة الفرضية العلمية أن تكون قابلة للتكذيب اي يمكن تكذيبها تجريبيا والقضية القابلة للتجريب لا تعني بالضرورة هي كاذبة فهي تخضع لاختبارات مستمرة وكلما اجتازت الاختبار يكون ذلك تعزيز لها. أما سبب رفضه لمعيار التثبت او التحقق الذي قالت به الوضعية المنطقية فإن هذا المعيار يبرر معارفنا ولا يعيننا على اكتشاف الاخطاء فكل قضية يمكن ان نجد لها تبرير ومؤيدات في الواقع ولكن حالة واحدة مكذبة تكفي لاعادة النظر فيها والبحث عن فرضية خرى. وبجعة واحدة سوداء تكفي لهدم القضية القائلة كل البجع ابيض كما يقول هو.

* نمير العاني: لقد سبق لي وان اشرت في رسالة سابقة إلى ان المصيبة الأساسية للفلسفة الغربية المعاصرة تكمن، كما ارى، في منهجيتها الميتافيزيقية. وعقلانية كارل بوبر النقدية لا تشكل إستثناءً في هذا الخصوص. فهذا الفيلسوف ينحو في اعماله منحىً ميتافيزيقياً يرى العالم من خلاله رؤيةً وحيدة الجانب. إنه، كغالبية زملائه من الفلاسفة الغربين، يفكر ويبحث وفق مبدأ "إما وإما". فإن كان الوضعيون الجدد، على سبيل المثال، قد إختزلوا الإختبار (البرهان) العلمي بإرجاعه إلى الإثبات فقط، نجد إن بوبر يفعل العكس تماماً برده الإختبار إلى الدحض تحديداً (إني افضل إستخدام هذا المصطلح بدلاً من "التكذيب"، لأن الكذب والصدق هي مفاهيم منطقية تعبر عن صفات الحكم المنطقي). هذا في حين إن البرهان العلمي، كما ارى، يجمع الضدين معاً، بحكم كونهما كاضداد جدلية متلازمين مع بعضهما البعض، بحيث لا يمكن لأي منهما ان يوجد بمعزل عن الآخر. فلا إثبات، إذن، بدون دحض، ولا دحض بلا إثبات. وعليه، فإن بوبر برفضه للاثبات، من خلال مطابقته الإختبار مطابقة تامة مع الدحض، يرفض في الواقع الدحض ايضاً، بالضبط كما ان الوضعين الجدد برفضهم للدحض يرفضون الإثبات ايضاً. وبحكم العلاقة الجدلية بين الإثبات والدحض، فإن إختزال الإختبار اي البرهان العلمي برده إلى اي من هذين الضدين لا يعني في الواقع سوى إلغاء الإختبار (البرهان) نفسه. وبهذا اخلص إلى القول: اولاً، بان البرهان العلمي يشكل في حقيقته إثباتاً بدحض ودحضاً بإثبات، وثانياً، بان الإثبات نفسه ينقلب دحضاً والدحض نفسه يتحول إلى إثبات في مجرى هذه العملية. فالبرهان، إذن، هو إثبات بدحض ودحض بإثبات. وتأسيساً على ذلك استطيع ان اقول بإن بوبر بعثوره على بجعة سوداء لم يدحض الفكرة القائلة ب"إن جميع البجع أبيض" وحسب، بل واثبت صحة الفكرة التي تؤكد على "إن بعض البجع أبيض" او "إن ليس كل البجع أبيض". فدحضه يصبح، كما نرى، إثباتاً. اما لافوزيه، مثلاً، فبإثباته تجريبياً النظرية الأوكسيجينية للإحتراق كان قد دحض بلا شك نظرية الفولجستون التي كانت سائدة وقتذاك. في هذه الحالة نجد إن الإثبات نفسه ينقلب دحضاً. ومن بين المنجزات العلمية الكبيرة التي عاصرناها والتي تشهد على ما تقدم من المناسب ان اذكّر هنا بالأبحاث التي قاموا بها في تسعينيات القرن المنصرم العالمان الأمريكيان شاوؤل برلموتتر وآدم رايس والعالم الإسترالي براين شميدت في مجرى دراستهم للمستعرات العظمى، التي فازوا بسببها بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2011، الدراسات التي توخوا من خلالها ليس الإثبات التجريبي لفكرة تباطىء إتساع الكون، التي كانت سائدة آنذاك بلا منازع في علم الكون وحسب، بل وإحتساب وتيرة هذا التباطىء. ولدهشتهم ودهشة المجتمع العلمي برمته إن ابحاثهم قادتهم في المطاف الأخير إلى دحض هذه الفكرة، التي كانوا ينون إثباتها. ولكن هل إن دحضهم في هذه الحالة كان دحضاً مجرداً، خالصاً، دحضاً مطلقاً لا يبقي ولا يذر كالدحض البوبري؟ لا ابداً. إن دحضهم للفكرة المذكورة جاء، على الضد من ذلك تماماً، دحضاً جدلياً ملموساً، دحضاً متحققاً من خلال ضديده كإثبات. وبالفعل، إن دحض فكرة تباطىء إتساع الكون تم بإثبات نقيضها، اي بإثبات فكرة تسارع هذا الإتساع. إن تاريخ العلم زاخر بالأمثلة والأدلة التي تؤكد على الطبيعة المتضادة داخلياً للبرهان العلمي وتثبت صحة فهمنا له كوحدة جدلية لا يمكن فصم عراها للإثبات والدحض.

إنني بما تقدم من توضيحات آمل في إزالة ما بدى لك من غموض في كلامي الوارد في رسالة سابقة لي عن فهمي لطبيعة البرهان العلمي ومعياره المتثل بالإثبات والدحض معاً، وليس في الإثبات وحده كما ذهبت الوضعية المنطقية، ولا في الدحض فقط، كما يؤكد كارل بوبر، الأمر الذي وصفته في رسالتك الحالية بانه "كلام مبهم".

- سؤال: المسالة الثانية تتعلق بنظرية التطور لديه (كارل بوبر) حيث نفيتم أن تكون لكارل بوبر نظرية تطور. وهذا أمر يحتاج ايضا الى تفسير اكثر.ان نظرية بوبر للتطور وحسب تصوراتي البسيطة والتي اسماها هو بنظرية العوالم الثلاثة (العالم الاول هو العالم المادي والعالم الثاني هو العقل او النفس والعالم الثالث هو منتجات العقل اي كل ما انتجه العقل البشري مثل الاساطير والاديان والفلسفات والنظريات العلمية ويصفها بالمعرفة الموضوعية) هو البردايم الذي اعتمده بوبر في بناء تصوراته للنظرية العلمية ومنهجه العلمي وبوبر لا يدعي أن نظريته للوجود وتصوراته التطورية الانبثاقية له هي حقائق علمية بل هي تصورات ميتافيزيقية للوجود تعيننا على بناء تصوراتنا العلمية وبما يحقق هدف الابستملوجيا في النمو والتطور الدائم اما سبب تبنيه لمفوم التطور الانبثاقي (emergent evolution) أن هناك حلقات في سيرورة التطور لا يمكن تفسيرها علميا مثل تطور الوعي عن المادة وتطور اللغة ومن ثم المعرفة العلمية عن الوعي لذلك لجأ الى القول ان هناك لحظات في مسار التطور حصلت انبثاقا وهواشبه بالقول بالطفرة. وهو بالطبع يتبى التصورات العامة التي جاء بها داروين (الصراع من اجل البقاء والبقاء للصلح) بعد اجراء تعديلات عليها بما يبعدها عن الجانب الاستقرائي الذي يرفضه بوبر تماما.

ان تكون لبوبر نظرية تطور صرح بها في كتبه هذا امر لاشك فيه ولكن يمكن ان نخالفه في تصوراته لهذه النظرية. هو لم يقل مثلا الطابع الديالكتيكي لهذا التطور، أو على الاقل لم يصرح بذلك بل قال هناك صراع وان سيرورة هذا التطور ناتجة بسبب هذا الصراع فالكائن الحي مثلا في صراع دائم مع محيطه والمتغيرات الحاصلة فيه وقدرته على البقاء تكون بحسب قدرته على التكيف والتفاعل مع هذه البيئة وعندما يفقد الكائن القدرة على التكيف سينقرض لا محالة فالباقي هو الاكثر قدرة على الانفتاح والتفاعل وتطوير مهاراته بما يعينه على الاستجابة لكل المتغيرات البيئية.

* نمير العاني: إن تصور كارل بوبر عن العوالم الثلاثة لا يمكن ان يدرج، كما ارى، تحت طائلة النموذج النظري العام (الباراديجما) للتطور باي حال من الأحوال. فالتطور هو سيرورة يولد من خلالها الجديد. ولا من جديد بدون القديم الذي يشكل حاضنة اولية له. إنه ينشأ في رحم هذا الأخير بصورة بوادر اولية تنمو وتتكامل تدريجياً حتى تصل إلى تلك الحالة من النضج التي تمكنها من نقض حاضنتها (القديم)، وذلك بالإبقاء على ما هو إيجابي فيها، بالإحتفاظ به وتطويره ورفض ما هو سلبي فيها وفقد قدرته على الحياة. فالتطور هو إذن، سيرورة تنطوي في محتواها الداخلي على علاقة إتصال وإنفصال بين الحاضر والماضي، علاقة إبقاء وإلغاء بين الجديد والقديم. فالحاضر ينفصل عن الماضي بقدر إتصاله به والجديد يبقي من القديم بقدر ما يلغيه منه. وعليه، فإن إلغاء الإنفصال بين الحاضر والماضي وإضفاء صفة مطلقة على الإتصال بينهما، او رفض علاقة الإبقاء بين الجديد والقديم وإطلاق علاقة الإلغاء بينهما يقودان إلى إلغاء السيرورة التطورية ذاتها. وهذا بالتحديد ما تقدم عليه الوضعية وما بعد الوضعية، اللتان تعتمدان المنهج الميتافيزيقي نفسه في معالجة هذه القضية ايضاً. فالوضعية تفهم التطور كعملية تراكمية خالصة تتم بصورة تدريجية خالية من اي طفرات. وهذا بالضبط ما يعنيه مبدأ التجميع او المراكمة (الكومولاتيفيزم) الذي صاغته هذه الفلسفة، والذي يفهم نمو المعرفة العلمية كسيرورة يتم من خلالها إضافة المعرفة الجديدة إلى جانب المعرفة القديمة دون اي تغيير في هذه الأخيرة. وبهذا، فمن الممكن تشبيه المعرفة العلمية في سيرورتها وفق التصور الوضعي ككرة الثلج التي تكبر وتزداد حجماً كلما تمت دحرجتها. فعن اي تطور من الممكن الحديث عندما يتم إطلاق التراكم الكمي وإلغاء الطفرة النوعية؟ اما ما بعد الوضعية فتقع في النهاية الأخرى، او في الطرف الأقصى الآخر، حين تقوم بإطلاق ما تلغيه الوضعية وإلغاء ما تطلقه هذه الفلسفة. إنها تضفي على السيرورة العلمية طابعاً ثورياُ، بل واستطيع ان اقول، طابعاً تدميرياً على وجه التحديد. إن توماس كون وبقية رواد ما بعد الوضعية بما فيهم كارل بوبر يفهموا الثورة العلمية كسيرورة يتم من خلالها تحطيم التصورات العلمية السابقة بصورة كلية. فوفق توماس كون إن الثورة العلمية كحل لإشكالية الحالة التي يسميها بالإستثنائية (إكستاوردينال) في العلم هي سيرورة يجري من خلالها إستبدال البراديجما السابقة، والتي ترمى جانباً، ببراديجما جديدة تضع بداية لحالة العلم التي يدعوها بالإعتيادية. وبهذا تصبح المسيرة العلمية مجرد مجموعة من الطفرات البراديجمية غير المتصلة مع بعضها. إن بوبر إذ يتبنى هذا التصور بشكل عام يضفي في الوقت نفسه على الثورة العلمية طابع الإستمرارية او الإستدامة. ولهذا، استطيع ان اقول بان العلم، في تقديره، يعيش على الدوام في حالة اقرب ما تكون إلى ما دعاه كون بالحالة الإستثنائية، اي بحالة الأزمة. فالعلم، إذن، يعيش في حالة ازمة مستديمة يجري حلها بثورة مستديمة. وبهذا تصبح السيرورة العلمية مجرد فرضيات تترى يجري دحضها الواحدة تلو الأخرى. وهذا ما يشهد عليه ويؤكده ما يدعوه بوبر بالفاصل الفكري والذي يدحض به نمو المعرفة في سيرورة عالمه الثالث. إن هذا الفاصل يبدأ بالمشكلة العلمية التي يتطلب حلها صياغة نظريات ما يجري إخضاعها للنقد الفاحص والذي يؤدي إلى دحضها ورميها جانباً، الأمر الذي يقود بدوره إلى ظهور مشكلة جديدة، وهكذا دواليك. إنه يرمز لهذا الفاصل بالمعادلة التالية:

P - TT - EE - P

اي: م (مشكلة اولية) – ن ن (نظريات) – نقد فاحص – م (مشكلة جديدة). وبهذا تصبح السيرورة العلمية مجرد سلسلة من النظريات المدحضة، المفندة، لا غير. فالدحض هو المصير المحتوم، هو قدر كافة النظريات العلمية بلا إستثناء. إن النظريات التي لا يجري دحضها مباشرةً تصطف بالدور (الطابور)، منتظرةً اللحظة التي ستدحض فيها، والتي ستحل إن عاجلاً ام آجلاً. فمن النظريات العلمية، إذن، "ما قضى نحبه، ومنها ما ينتظر". بهذه الصورة يقوم بوبر بإلغاء الطابع اليقيني للمعرفة العلمية، محولاً إياها إلى معرفة إفتراضية بشكل خالص. وهذا يعني إنه ينكر في واقع الأمر الحقيقة الموضوعية. إنه يعترف إعترافاً شكلياً بالحقيقة كهدف نهائي للمعرفة، لا تقوى على تحقيقه هذه الأخيرة باي صورة كانت. إنها افق المعرفة الذي كلما إقتربت منه يبتعد عنها. إنه لا يرى في هذه الحقيقة سوى حافزاً او قوة محركة للمعرفة، ليس إلأ. فعن اية موضوعية لمعارفنا وعن اي تطور او حتى نمو بسيط للمعرفة العلمية من الممكن ان نتحدث بعد كل هذا؟ إن بوبر يفرغ معارفنا في واقع الحال من مضمونها الموضوعي ويحول السيرورة العلمية إلى ثورة مستديمة لا تبقي على ما هو إيجابي في هذه السيرورة، ولا تخلف وراءها سوى مقبرة للحطام المعرفي.

اضيف إلى ذلك سبب آخر يدعوني ان لا اعتبر "نظرية" بوبر في العوالم الثلاثة نظريةً في التطور. وهذا السبب يعود إلى إن كل من هذه العوالم يشكل في حقيقته واقعاً قائمأً بذاته. فليس ثمة علاقة جوهرية تقوم بين هذه العوالم، التي لذلك لا تنجم عن بعضها ولا تتفاعل فيما بينها. وعليه، فمن المستعصي رد هذه العوالم إلى اساس او مصدر مشترك نشأت عنه (تطورت منه)، او إعتبار إن اي منها هو حصيلة لتطور الآخر. كما ولدي ملاحظات اخرى على هذه "النظرية" لا يتسع المجال لإدراجها في هذه العجالة.

اما فكرة التطور الإنبثاقي التي اشرت إليها في رسالتك موضوع ردي، فاجدها فكرة خالية من المعنى الملموس. فإن كانت هذه الفكرة تعني النشوء من العدم، فهذا مجرد هراء، إذ إن من العدم لا يمكن ان ينشأ إلأ العدم. اما إن كانت الفكرة تعني النشوء من او عن مصدر او اساس ما، فعندئذٍ ينبغي تحديد ماهية هذا المصدر (الأساس). إن العلم يرفض رفضاً قاطعاً اي طرق غيبية في تفسير الواقع، وما لا يقوى العلم على تفسيره بمناهجه ووسائله اليوم سيقوم بتفسيره غداً لأن السيرورة العلمية هي سيرورة مستمرة لا تعرف التوقف ولا تعرف النهاية ما دام موضوع هذه السيرورة وذاتها موجودان.

و بصدد "تطور الوعي عن المادة"، والذي لا يمكن تفسيره علمياً، كما تقول، فاود ان اشير إلى إن من الخطأ الحديث عن تطور الوعي من المادة كتطور شيءٍ من شيءٍ آخرٍ. فالوعي ليس بشيءٍ موجود إلى جانب المادة، مختلف عنها، بالرغم من نشأته في مجرى تطورها. إن الوعي انطولوجياً ما هو إلأ مادة واعية. إنه محمول لحامل هو المادة الواعية. اي، بكلمات اخرى، إنه صفة تميز مادة عالية التنظيم والتطور. فالمادة في سيرورتها التطورية لا بد من ان تصل إلى تلك الحالة لها، اي إلى ذلك الشكل الراقي من اشكال وجودها والذي تظهر فيه صفة نوعية جديدة لها هي الوعي. فالوعي لا يمكن مقابلته بالمادة انطولوجياً كواقعٍ متميزٍ عن هذه الأخيرة بصورة مطلقة. إن التمايز بينهما هنا هو تمايز نسبي ملموس، هو تمايز بين المحمول والحامل، بين الصفة والموصوف. إن التعارض بين الوعي والمادة من الممكن ان يكتسب دلالتة فقط على الصعيد الجنوسيولوجي (المعرفي). إننا هنا نجد إن الوعي كذات يقابل المادة كموضوع من الخارج، اي إنهما يصبحان ضدين متخارجين ومتلازمين في آن واحد. ولكن حتى هنا لا يقوى الوعي إلأ ان يكون مجرد إنعكاس للمادة. نعم، إنه إنعكاس ليس خاملاً، بل إنعكاس فعّال يؤثر تاثيراً نشيطاً في المعكوس، يستطيع من خلاله ان يغير هذا الأخير. وبهذا نستطيع ان نقول بان الوعي لا يعكس العالم فحسب، بل ويغيره.

اما حقيقة ظهور الوعي كنتاج لتطور العالم المادي، فهي امر لا يعجز العلم عن تفسيره، كما تعتقد. على الضد من ذلك تماماً، نجد ان العلم المعاصر قد قطع اشواط مهمة في هذا الشأن. فعلم الإنسان (الأنثروبولوجي) وعلم الحياة (البايولوجي) وعلم فسلجة الجهاز العصبي المركزي وعلم الوراثة وعلم الجينوم وعلم الهندسة الوراثية وعلم النفس وطائفة اخرى من العلوم المعاصرة حققت إنجازات مهمة في تفسير كيفية نشوء وتطور الدماغ البشري، وكيفية تبلور وعي الإنسان بفعل عوامل ليس بايولوجية فقط، بل وإجتماعية ايضاُ كالعمل واللغة والتواصل الإجتماعي، وفي الكشف عن الأساس الفسلجي (المادي) للعمليات السايكولوجية (الروحية).. إلخ. وبفضل هذه الإنجازات وما سيلحقها من نجاحات تتكشف تدريجياً الصورة العلمية لنشأة الوعي الإنساني وتطوره.

- سؤال: ماهي المعايير العلمية في بناء النظرية العلمية لدى العاني؟ هل لدى العاني معايير محددة تميز بين القضايا العلمية والقضايا غير العلمية وما هي معايير المفاضلة بين الفروض العلمية التي تنطبق عليها معاييره؟؟ عند بوبر مثلا المحتوى المعرفي.

* نمير العاني: إنني اشخص اربعة معالم اساسية او جوهرية تميز المعرفة العلمية عن سواها من المعارف الإنسانية. واول هذه المعالم هو العقلانية. فالمعرفة العلمية هي، إذن، معرفة عقلانية، اي معرفة مستمدة من العقل وليس من الإيمان. وبهذا نجدها تختلف جوهرياً عن المعرفتين الإسطورية والدينية، والتي هي معارف حسية عاطفية تنبع من الإيمان. إن عقلانية المعرفة العلمية هي ما يقربها من المعرفة الفلسفية، والتي هي الأخرى معرفة عقلانية. وهنا لا بد لي ان اشير إلى واؤكد على إن العلم والفلسفة، كما ارى، هما شكلان متباينان للمعرفة العقلانية. فالعلم معرفة عقلانية - تجريبية، في حين إن الفلسفة هي معرفة عقلانية - تأملية خالصة لا تعتمد الدليل التجريبي باي صورة كانت. إن الفلسفة لا تستخدم المناهج التجريبية في البحث ولا تمتلك قاعدة تجريبية لها، كما هو الحال في العلم، الذي يستخدم هذه المناهج ويمتلك مثل هذه القاعدة. إن هذا الفرق الجوهري بين المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية لا يسمح باي حال من الأحوال بالإرتقاء بالفلسفة إلى مصاف العلم، اي بإضفاء طابع علمي عليها. فالفلسفة ليست علماً، في تقديري، بل هي، كما ارى، معرفة لا علمية. او بتعبير ادق إنها احد اشكال المعرفة الخارجعلمية، اي واحدة من المعارف الموجودة خارج دائرة المعرفة العلمية. والجدير بالملاحظة إنني بتصوري هذا اختلف مع غالبية الفلاسفة بما فيهم الفلاسفة الماركسيين المعاصرين الذين يعتبرون الفلسفة علماً.

اما المعلم الجوهري الثاني الذي تتميز به المعرفة العلمية، فهو نظامية هذه المعرفة. إن المعرفة العلمية هي نظام متناسق داخلياً من المفاهيم والتصورات، موحد على نفسه ومتوافق مع ذاته بشكل صارم، بحيث لا يدع اي مجال لأي تعارض (لاتوافق) او تناقض بين العناصر التي يتالف منها. ومن هذا المنطلق يبدو العلم احادي النزعة، احادي الخيار، بحيث لا يتيح للأفكار المتضاربة والنظريات التي تستثني بعضها ان توجد وتعيش بسلام تحت خيمته. إن المعرفة الخارجعلمية هي وحدها التي تجيز لنفسها إعتماد افكار متضاربة والقول بتصورات تناقض بعضها بعضاً. اما المعرفة العلمية، فلا تجيز ذلك، لا من بعيد ولا من قريب. ففي علم الحياة، مثلاً، لا يمكن لفكرة التطور ولفكرة ثبات الأنواع ان توجدا جنب بعض وتعتمدا معاً كتصورات علمية مسلم بها. إن إقامة الدليل العلمي على صحة فكرة التطور حولها إلى مسلمة علمية تم في ضوءها دحض فكرة ثبات الأنواع، والتي بسبب ذلك رميت خارج دائرة العلم. إن الإختلاف في العلم مجاز، والنقاش مباح، بل ومحبذ على صعيد الفرضيات فقط. ولكن ما ان يتم إثبات فرضية من بين الفرضيات المتناحرة باقامة الدليل العلمي الصارم على صحتها وتحولها من جراء ذلك إلى مسلمة علمية ملزمة، حتى يتم نبذ كافة التصورات المخالفة لها كتصورات لا علمية.

إن المعلم الجوهري الثالث المميز للمعرفة العلمية هو برهانية هذه المعرفة. إن المعرفة العلمية ليست معرفة إعتباطية، بل هي، على العكس من ذلك، معرفة مبرهنة، اي معرفة تم إثباتها بالبرهان والحجة. فعلى العلم ان يثبت صحة مفاهيمه وقوانينه ونظرياته بالدليل العقلي (البرهان المنطقي) و/او بالدليل التجريبي (البرهان بالتجربة العلمية). فهنالك، إذن، شاهدان او سلطانان وحيدان في العلم، هما العقل والتجربة، ولذا فكل ما يتعارض ويتنافى معهما من تصورات يلفض خارج دائرة المعرفة العلمية. وعليه، استطيع ان اقول بان المعرفة العلمية ليست معرفة قابلة للبرهنة وحسب، بل هي معرفة تمت البرهنة على صحتها بإثباتها بالدليل العقلي و/او بالدليل التجريبي. فهي، إذن، معرفة ليست إفتراضية، كما يدعي بوبر، بل يقينية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فلو كان قانون الجذب العام، مثلاً، معرفة إفتراضية وليس يقينية، لما إستطعنا بإستخدام فعله ان نسير طائراتنا ونطلق مركباتنا الفضائية، ان نصل إلى القمر او المريخ، او ان نحدد بدقة عالية موقع الأجرام السماوية. فالمعرفة العلمية، إذن، هي معرفة مبرهنة، معرفة يقينية، لا يمكن لبوبر او لغيره دحضها مهما حاولوا ذلك. إنها معرفة لا تقوى السيرورة العلمية اللاحقة على تفنيدها وإلغائها بالكامل. إن جل ما تستطيعة هذه السيرورة هو تدقيق هذه المعرفة اكثر فاكثر.

واخيراً، المعلم الجوهري الرابع المميز للمعرفة العلمية يتلخص في موضوعية مضمونها. إن مضمون هذه المعرفة لا يخضع، إذن، لا لوعي ولا لإرادة صناعها وحامليها، واعني بذلك العالم والمجتمع العلمي. او بكلمات اخرى، إن هذا المضمون لا يخضع لوعي وإرادة الإنسان او الإنسانية بشكل عام. ومن هنا اخلص إلى القول بان مضمون المعرفة العلمية ما هو في الواقع سوى تجسيداً للحقيقة الموضوعية بعينها. إن هذا المضمون والحقيقة الموضوعية المتجسدة فيه ومن خلاله هما تحديداً اللذان يشكلان، في تقديري، الأساس الموضوعي لعلمية ويقينية ما ندعوه بالمعرفة العلمية. ولذا، فبدونه لن تقوم للعلم قائمة. إن غالبية فلاسفة العلم في الغرب ينكرون وجود الحقيقة الموضوعية، ولهذا نجدهم يستبدلون المضمون الموضوعي للمعرفة العلمية بما يدعونه بالذاتية المشتركة (إنترسبجكتف) للعلم. إن الذاتية المشتركة تتجاوز الذات الفردية وصولاً إلى الذات الجمعية، ولكنها لا تتجاوز الذات وصولاً إلى الموضوع. فمن يقول بالذاتية المشتركة للمعرفة العلمية يجرد في واقع الأمر هذه المعرفة من موضوعها. ولكن من يجرد العلم من موضوعه لا يقوم في الحقيقة إلأ بإلغاء العلم نفسه.

وبناءً على ما تقدم اخلص إلى تعريف العلم نشاطاً إنسانياً هادفاً إلى إنتاج وإستخدام وخزن ونقل بواسطة مناهجه ووسائله الخاصة المعرفة العقلانية المنظمة المبرهنة والموضوعية في مضمونها عن الواقع الموضوعي والذاتي.

فوزي حامد الهيتي: باسمي وباسم جميع قراء العربية نتقدم بوافر التقدير والاحترام لفيلسوفنا نمير العاني على ما تفضل به من حوار وإيضاحات حول بعض ملامح فلسفته... أملي أنني وفقت في إثارة انتباه المهتمين بدراسة الفلسفة العربية المعاصرة وعسى أن يكون هذا الحوار دافعا لهم لدراسة فلسفته وبخاصة في مجال فلسفة العلم لقلة المتفلسفين في هذا المجال في عالمنا العربي.

***

اجرى الحوار: الدكتور فوزي حامد الهيتي

 

 

 

3374 نابي علي وعلي الربيعيحوار يجريه الدّكتور نابي بوعليّ مع الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

يخوض الاستاذ الدّكتورعليّ رّسول حوارا نقديا مفتوحا على مجالات معرفية متنوعة وحساسة، وإسهاما منا في هذا الحوار المفتوح والنقدي، نود أن نطرح علية بعض الأسئلة حول الحرية بالمعنى والمفهوم الجمهوري حيث يدعو دائما الى إستئناف النظر بقيًم الجمهورية، وقد تناول في دراساته قضايا المواطنة  الجمهورية ومكانة القانون في الجمهورية  ومكانة الدين في الجمهورية .......

س// الدّكتور نابي بوعليّ: ابتداءً سؤألنا: ماهو المفهوم الليبرالي للحرية حتى نفهم اختلافه عن الجمهوري لاحقًا؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لقد صًورت الليبرالية مفهوم الحرية بالأسلوب السلبي المألوف، فقد  أعتبرت الحركة الليبرالية الحرية المثل الأعلى وفسرته على أنه عدم تدخل، اذ تميل الليبرالية الى  تاييد فكرة الحد الأدنى من الدولة. أيً يُعد غياب التدخل كافياً للحرية. فأكون حرا "إلى الدرجة التي لا يتدخل فيها أي إنسان في نشاطي" كما يقول ايزيا برلين. فأعتقدت بأن المفهوم الوحيد الممكن، وربما الوحيد المعقول، للحرية هو أنها عدم تدخل. بينما تنظر الجمهورية الى الحرية على أنها عدم هيمنة أوعدم سيطرة؛ ايً أنً الحرية بصفتها عدم هيمنة هي عدم وجود قدرة من جانب أي فرد أو جماعة للتدخل التعسفي في حياة أو شؤون فرد أو جماعة أخرى.

س// الدّكتور نابي بوعليّ :ماذا يعني التدخل؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يستدعي كلا المعنيين للحرية مفهوم التدخل. وما يمكن ملاحظته أولأً أنه يتطلب، في جميع التفسيرات تقريبًا، أن  يكون التدخل أفعالًا متعمدة ومقصودة، ويتحمل من يقوم بها المسؤولية عنها. قد يقتصر التدخل على الأفعال التي تجعل بعض الخيارات مستحيلة على الفرد؛ أو قد يتم توسيعها لتشمل الأفعال التي تجبر الفرد أو تتلاعب به في الاختيار بين الخيارات.

يشمل التدخل أفعالًا تؤدي إلى تفاقم حالة الفرد إما عن طريق تقليل البدائل المتاحة في الاختيار، أو زيادة التكاليف الفعلية أو المتوقعة المرتبطة ببعض البدائل. وهكذا يمكن منع الفرد من فعل شيء ما؛ أو قد يُهدد ببعض التكاليف الإضافية في حالة القيام بذلك؛ أو قد يُعاقب لارتكابه الفعل المعني. فتستدعي الحرية كعدم التدخل مفهوم التدخل؛ بينما تذهب الحرية كعدم الهيمنة إلى أبعد من ذلك وتتذرع بالتدخل على أساس تعسفي.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: إذن، ما الذي يجعل فعل التدخل تعسفيًا؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يمكننا القول، إذا أًرتكب الفعل على أساس تعسفي، وإذا كان خاضعًا لتحكم فرد أو قراره أو حكمه على الآخرين حسب رغبته. ونظرًالأرتباط التدخل بالاخرين فيتم اختياره أو رفضه دون النظر الى مصالح المتأثرين به. ولا يُجبر هذا الاختيار على تتبع ما تتطلبه مصالح الآخرين وفقًا لآرائهم أوأحكامهم الخاصة.

وقد يكون فعل التدخل تعسفيًا بالمعنى الإجرائي- أيً  قد يحدث على أساس تعسفي - دون أن يكون تعسفيًا بمعنى أنه يتعارض مع مصالح الأشخاص المتضررين أو أحكامهم؛ وليس بحكم النتائج أو العواقب التي ينتج عنها.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف ينظر  التقليد الجمهوري لتدخل سلطة الدولة فيما يخص الحرية؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لقد اتخذ التقليد الجمهوري وجهة نظر مميزة لما هو مطلوب لكي يكون الفعل تدخليًا. إنً ما هو مطلوب من سلطة الدولة غير التعسفية أن تمارس السلطة بطريقة تأخذ بالأعتبار، ليس الرفاهية الشخصية لصاحب السلطة أو رؤيته للعالم، ولكن رفاهية المجتمع ونظرته للعالم. وأن تكون أعمال التدخل التي ترتكبها الدولة مدفوعة بالمصالح المشتركة للمتضررين؛ وما تتطلبه تلك المصالح، على المستوى الإجرائي على الأقل، من قبل المتأثرين.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: هناك مفهومان متقابلان لمعنى الحرية: أحدهما الليبرالي ويضع الحرية كمقابل للتدخل بشكل مباشر، لكن  كيف يغير المفهوم  الثاني- الجمهوري هذه المقابلة؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يغير الثاني- الجمهوري هذه المقابلة بأن لا ينطوي على الحرية بوصفها التدخل في حد ذاته، وإنما التدخل على أساس تعسفي. علاوة على ذلك، لا يتوقف هذا التقابل الثاني للحرية عند التدخل التعسفي الفعلي فقط ولكن يشمل أمكانية الفرد المتدخل على التدخل ايضا. فاذا تدخل الفرد بشكل غير تعسفي في خيارات فرد آخر، فإن ذلك لا ينتهك حرية ذاك الفرد مهما كان الضرر الناجم عن التدخل، فعدم التعسف يكفي لضمان عدم المساس بحريته. وللمفهوم الجمهوري  تأثير آخر أيضًا وهو إذا كان لدى فرد القدرة على التدخل بشكل تعسفي في أي من خيارات الاخرين، فإن ذلك يهدد حريتهم في حد ذاته؛ إنهم يعانون من فقدان الحرية حتى لو لم يمارس ذاك الفرد بالفعل قدرته على التدخل.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: يُحدث فقدان الحرية اختلافًا في تأثير القانون على الحرية بموجب المفهومين، فكيف يعالج المفهومان هذا؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يكون نظام القانون طبقًا للحرية بالمعنى الليبرالي بوصفها عدم تدخل قسريا بالضرورة، بأعتباره يهدد حرية الناس بشكل نظامي systemic، حتى لو كانت نتيجة وضع النظام موضع التنفيذ هي تقليل التدخل بشكل عام. فيمثل الخضوع للقانون في حد ذاته خسارة للحرية. بينما لايمثل الخضوع للقانون بموجب المفهوم الجمهوري هذه الخسارة لأي شخص يعيش في ظله، بشرط - وبالطبع شرط كبير- أن يكون صوغ القانون وتفسيره وتنفيذه ليس تعسفيًا. أيً شريطة أن يمثل الإكراه القانوني حكمًا عادلًا مقيدًا بتتبع ومراعاة مصالح المتضررين وأفكارهم.

س// الدّكتور نابي بوعليّ:  ألا يكون لنظام الإكراه القانوني، رغم أنه لا يشكل في حد ذاته مساومة على الحرية، تأثير العائق الطبيعي نفسه في تقييد الخيارات المتاحة للناس أو في جعلها أكثر تكلفة في تحديد النطاق الذي يتمتعون فيه بخيار غير خاضع للسيطرة؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لا يعتبر أنصار الحرية بوصفها عدم تدخل العوائق الطبيعية عوامل تقوض الحرية لأنها ليست مقصودة بأي حال من الأحوال، لكنهم يعتبرون بأن مثل هذه العوائق تؤثر على نطاق الاختيار الذي يمكن أن تمارس فيه هذه الحرية. عندما يتحدث مؤيدو هذا النموذج من الحرية بوصفها عدم تدخل فعالة، وليس مجرد حرية شكلية، أفترض أنهم يفكرون في إزالة أو تقليل العقبات لممارسة هذه الحرية من خلال توسيع نطاق الاختيار المتاح للناس· أما أنصار الحرية بصفتها عدم هيمنة فينقلون موضع هذه الحدود. فيعتبرون التدخل المرتبط بسيادة القانون العادلة، مثل العائق الطبيعي، يحد من حرية الناس ولكنه لا يضر بها: فلا يعتبر القانون في حد ذاته تعديًا أو انتهاكًا أو انتقاصًا أو إهانة لحرية الناس. إنً الحالة القصوى للتدخل القانوني هي العقوبة على جريمة. وستعمل هذه العقوبة دائمًا على اعتبار حرية الناس تاتي من عدم الهيمنة أو السيطرة.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: ماهما الاختلافان الرئيسان المرتبطان بمقابلة الحرية كعدم هيمنة بدلاً من التدخل، فنحتاج الى توسع وتدقيق أكثر من اجل ان تكون  الفكرة مفهومة؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: أود أن اقدم ثلاث ملاحظات من أجل التأكيد على بعض النقاط المهمة لفهمها بشكل أفضل. أولاً، على الرغم من أن الهيمنة تتشكل من خلال امتلاك فرد القدرة على التدخل على أساس تعسفي في شؤون فرد أو جماعة آخرين، إلا أن بعض الافتراضات التجريبية المعقولة تربطها بوعي مشترك من جانب الأفراد أو الجماعات المعنية بوجود هذه القدرة، وأن تكون الدرجة التي تتمتعون فيها بالحماية من خلال الوسائل القانونية وغيرها بارزة لجميع المعنيين. ويترتب على ذلك ستكون عدم الهيمنة مسألة اعتراف مشترك بين الأفراد المعنيين. وهذا شيء له أهمية كبرى؛ لأنه يعني أن فهم طرق تحقق الحرية باعتبارها عدم  هيمنة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على النظر في أعين الآخرين، دون الاضطرار إلى الانصياع لهم أو الخوف منهم.

ثانيا، إذا كان شخص ما يتمتع بالحرية على أنها عدم هيمنة، فلا يكفي ألاً يمارس الآخرون عليه تدخلًا تعسفيًا؛ بل يجب أن يفتقر هؤلاء الآخرون إلى القدرة على التدخل التعسفي في حياته، وليس من غير المرجح أن يتدخلوا فقط.

افترض أنك ربما تتعرض للتدخل على أساس تعسفي من شخص يحبك حقًا وهو من غير المرجح أن يتدخل. لكن  إذا كان لا يزال هناك، وفقًا لمعايير صفة الإرادة الحرة، لديه القدرة على التدخل على أساس تعسفي إلى حد ما، عندئذٍ  يعتبر مًهيمن عليك فتكون غير حر. أنك تعاني إلى الحد الذي يكون فيه هذا التدخل متاحًا لهم له مهما كان من غير المحتمل أنه سوف يمارسه. فتعني قدرته على التدخل التعسفي، على سبيل المثال، أنك تفتقر إلى أساس للحالة الذهنية الذاتية التي تتماشى مع الحرية باعتبارها عدم سيطرة؛ اذ لديك سبب للإذعان إلى ذلك الشخص ومحاباته باستمرار.

ثالثا، ليس الحرية باعتبارها عدم هيمنة مسألة الكل أو لا شيء، أي أما هيمنة كاملة أو عدم هيمنة. قد يكون للفرد المتدخل قدرة أكثر أو أقل استعدادًا للتدخل. وقد يكون التدخل لمن يمتلك القدرة عليه أكثر أو أقل خطورة، وقد يكون ممكنا أو متاحًا  له إلى حد ما دون تكلفة، ودون  التعرض للأنتقام مثلا. وبالتالي فإن الحرية باعتبارها عدم هيمنة لأولئك الذين هم في وضع يمكن التأثير عليهم قد تكون أكثر أو أقل حدة؛ فكلما أضعف الأفراد ذو القدرة على التدخل زادت حرية أولئك الذين قد يؤثرون عليهم.3374 نابي علي وعلي الربيعي

س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف ترتبط هذه الحرية بوصفها عدم هيمنة بمسألة تعدد الخيارات؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: قد تكون الحرية كعدم هيمنة في نطاق معين أو آخر؛ وقد تكون متاحة لعدد أصغر أو أكبر من الخيارات التي تكون أكثر تكلفة أو أقل، أو ذات الأهمية الأقل أو الأكبر بشكل بديهي. حتى لو وصلنا إلى أقصى حد ممكن من عدم الهيمنة للأشخاص في المجتمع، فهناك مجال لتحسين نطاق الاختيار غير المسيطرعليه والمتاح لهم: قد نجعل نطاق الاختيار أكبر، أو أقل تكلفة، أو أكثر أهمية. و حتى لو أزلنا جميع التأثيرات المساومة على الحرية باعتبارها عدم هيمنة، يظل من الممكن إزالة التأثيرات التكييفية أيضًا، ايً، تعويد الشخص على التصرف بطريقة معينة أو قبول ظروف معينة.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: لماذا يعتبر المفهوم الجمهوري للحرية مهمًا للدولة الحديثة سياسيًا؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: باختصار، لأنه سيذكر الدولة بأداء الخدمة  للمواطنيين عموما والتي من المتوقع أن تؤديها جمهورية- حتى جمهورية مخفية تحت شكل نظام ملكي. لقد تغيرت بشكل كبير منذ القرن الماضي القيود المفروضة على ما يمكن أن نتخيله تقوم به الدولة، والقيود المفروضة على ما يمكن أن نتخيله أن يسمح المجتمع المدني للدولة بالقيام به أو نحو ذلك.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: بما أننا نعيش في عصر العولمة وأنشار الرأسمالية وأنفتاح الأسواق  وتوسع القطاع الخاص في اغلب دول العالم ومنها العربية ومن أجل توضيح الطريقة التي يمكن أن يؤثر بها هذا المفهوم الجمهوري على تفكيرنا، أود أن نلتفت الى اهمية قضايا إعادة التوزيع، حيث تقع هذه القضية في قلب المناقشات السياسية المعاصرة. فإلى أي مدى يكون التوزيع العادل للحرية على أنها عدم تدخل يتفق مع عدم المساواة في الأبعاد الأخرى؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: نعم، أنه مهم النظر في مدى اتساقها عمليًا مع مستويات مختلفة من توفير السلع الأساسية مثل الغذاء والمأوى، وأنماط النقل ووسائل الإعلام الذي يقدم معلومات موثوقة؛ وفي الخدمات الأساسية مثل الرعاية الطبية والاستشارات القانونية والتأمين ضد الحوادث؛ وفي رأس المال البشري من النوع المرتبط بالتدريب والتعليم؛ وفي رأس المال الاجتماعي من النوع الذي يتألف من القدرة على الاتصال بثقة بالآخرين؛ وفي رأس المال السياسي مثل المنصب والسلطة الممنوحة؛ وفي رأس المال المادي الضروري للإنتاج.

إنه يتعلق بالنظر في  الى المدى الذي يُرجح أن يتطلب الأمر تصحيح أوجه عدم المساواة في هذه الأمور أو على الأقل التخفيف من آثارها: أيً تصحيحها بشكل قسري، أو التخفيف من آثارها بشكل قسري، في إطار مبادرات الدولة على وجه الخصوص.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: إن سؤالي هنا إلى أي مدى يكون مطلوب ما سأصفه، باختصار، إعادة التوزيع؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: الحكمة الشائعة حول هذا السؤال هي أن التوزيع المتساوي الأقصى للحرية على أنها عدم تدخل سيترك الكثير مما هو مرغوب فيه فيما يتعلق بإعادة التوزيع: فهو سيفشل في تحقيق عدالة التوزيع كما قال راولز. أعتقد أنها حكمة  جيدة، وأود أن أزعم، في هذا الصدد، أن الحرية باعتبارها عدم  هيمنة تمثل نموذجًا مغايرًا ومختلفًا بشكل حاد، حيث يتطلب التوزيع المتكافئ الأقصى لهذه الحرية التزامًا أكبر بكثير في إعادة التوزيع. بينما العلاقة بين الحرية كعدم تدخل وعدالة التوزيع علاقة فضفاضة للغاية.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: يُطرح هنا سؤالين متلازمين من وجهة نظر الحرية على أنها عدم تدخل فيما يتعلق بإعادة التوزيع. أولاً، إلى أي مدى تستلزم إعادة التوزيع تدخل الدولة في حياة الناس؟ وثانيًا، إلى أي مدى تقلل إعادة التوزيع من احتمالية تدخل العوامل الأخرى؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: الإجابة عن السؤال الأول هي: تنطوي إعادة التوزيع، من وجهة نظر الحرية على أنها عدم تدخل،على درجة من التدخل من قبل الدولة دائمًا. فحتى أبسط أشكال إعادة التوزيع تتضمن فرض ضرائب على البعض لمنحه للآخرين (وقد اصبح هذا سائدا ليس في الدول الراسمالية فقط، بل وحتى الريعية ، والدولة العربية الريعية مثالا)، وهذا يعتبر بحد ذاته تدخلاً من وجهة النظر هذه؛ اذا "يحرم" أولئك الخاضعين للضريبة من الاختيار في كيفية استخدام أموالهم. تتطلب معظم أشكال إعادة التوزيع - من وجهة النظر هذه للحرية- إلى جانب الضرائب، أيضًا وجود مفتشين ومسؤولين آخرين للإشراف على العملية. وبالتالي تنطوي إجراءات إعادة التوزيع على خلق إمكانيات جديدة للتدخل في حياة الناس.

تعني الإجابة على السؤال الأول أن عبء الإثبات يقع دائمًا، من منظور الحرية على أنها عدم تدخل، على عاتق أولئك الذين يدافعون عن إعادة التوزيع. إذن، يعتمد دعم إعادة التوزيع في أي  دولة على ما إذا كانت الإجابة على السؤال الثاني تُظهر بوضوح أن الهامش الذي من خلاله ستقلل إعادة التوزيع من التدخل في المجتمع أكبر من الهامش الذي تقدم بموجبه التدخل نفسه. يجب أن يكون هامش التغيير للأحسن والنمو المتوقع  كبيرًا بما يكفي لضمان أنه حتى عندما نخصم الحالة غير المؤكدة للتوقع، فإن الحجة تبقى لصالح إعادة التوزيع.

ليس من السهل إيجاد أسباب للدفاع عن الإجابة المطلوبة عن السؤال الثاني؛ لكن من الممكن للخصم أن يجادل بأنه، طالما أننا لا نفكر في صاحب العمل والمحظوظ نسبيًا في المجتمع بوصفه شرير تمامًا، فنتوقع منه ألًا ينزع عمومًا إلى إيذاء المحرومين، وألًا يكون بحاجة إلى التقصير في دولة إعادة التوزيع. 

س// الدّكتور نابي بوعليّ: اذن يمكن أن نتوقع منهم بدل التدخل يكون السعي وراء علاقات جيدة ومنتجة؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: نعم ممكن ولكن قد  يقع- مثلا- أولئك الذين يفتقرون إلى الرعاية الطبية والاستشارات القانونية فريسة لعديمي الضمير. ومن جهة أخرى يمكن أن نتوقع من الأطباء والمحامين أن يكونوا مستعدين لتقديم الخدمات دون مقابل لهؤلاء الفقراء، خاصة عندما يكون مردود ذلك نشر دعاية جيدة لصالحهم عن تقديم مثل هذه الخدمات؟

س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف تكون الحرية كعدم هيمنة مع إعادة التوزيع؟ وما هو أختلافها عن الحرية كعدم تدخل؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يمكننا أن ندرك أهمية النموذج الجمهوري للحرية في علاقته بإعادة التوزيع عندما نلاحظ اختلاف ارتباطها بالحرية كعدم تدخل. فمعادلة الحرية على أنها عدم تدخل الى أقصى مستوى ممكن أن يعادي إعادة التوزيع بطريقتين:

أولاً، تُقدم افتراضًا ضد إعادة التوزيع بإلقئها العبء على عاتق الشخص الذي يريد أن يحاجج لصالح إعادة التوزيع. وثانيًا، تضمن أن تكون أي حجة لإعادة التوزيع احتمالية تخضع لتغيير الصدفة بطريقة تجعل من السهل مقاومتها. وعليه، أود أن أزعم أن المثل الأعلى لتعظيم الحرية بصفتها عدم هيمنة الى أقصى مستوى يختلف عن المثل الأعلى المرتبط بالحرية على أنها عدم تدخل في كلا الجانبين.

تقدم الحرية بصفتها عدم تدخل افتراضًا ضد إعادة التوزيع، لأعتبارها إعادة التوزيع نوع من شر التدخل بحد ذاتها. لكن لا توجد حجة مقابلة متاحة للحرية على أنها عدم هيمنة. لأنه إذا كان من الممكن اتباع تدابير إعادة التوزيع المعتمدة في ظل حكم القانون العادل على هذا النحو، فإنها لا تقدم أي شكل من أشكال الهيمنة. أفترض أن العديد من التدابير المتوخاة حول عدالة التوزيع يمكن اتباعها في ظل حكم القانون العادل. إذن، لا تقدم الحرية بصفتها عدم هيمنة أي افتراض ضد إعادة التوزيع من النوع المرتبط بالحرية على أنها عدم تدخل.

ليست العملية بريئة تماما بالطبع. إن أي حكم قانون لإعادة التوزيع سوف يزيل خيارات معينة أو يرفع تكاليف متابعتها أوالحصول عليها. لكن لا ترقى هذه الطريقة في تقييد الاختيار وفي تكييف حرية الناس على أنها عدم هيمنة إلى مستوى المساومة على هذه الحرية. إذا نجحت في الحد من مدى تعرض حرية الفقراء أو المرضى أو المحتاجين للخطر، فإن هذه التكلفة في تكييف حرية الناس تستحق الدفع.

ثانيا، تعتبر إعادة التوزيع في ظل سيادة القانون العادلة طبقا للجمهوري شكلاً من أشكال تكييف الحرية على قدم المساواة مع التكييف المتأثر بعوامل مثل الفقر أو الإعاقة أو المرض أو أي شيء آخر.

تتضمن إعادة التوزيع التحرك تجاه الاسباب التي تعمل كمؤثرات تكييفية على الحرية: وهذا دون أن تهيمن أو تسيطر على أحد؛ ودون المساس بحرية أي شخص بوصف الحرية عدم هيمنة. فإذا كان يمكن أن يؤدي إعادة تنظيم الاسباب أو العوامل ذات الصلة بالحرية إلى زيادة درجة الحرية المتساوية في المجتمع، فعندئذٍ لايوجد سؤال يمكن طرحه حول هذه القضية، ولا يوجد سبب لوجود قرينة ضدها.

تقوم هذه الحجة على افتراض أن إعادة التوزيع تجري في ظل حكم القانون العادل. ويظل هذا الافتراض مقبولًا إلى مستوى معين فقط، أيً في ظل نوع معين من إعادة التوزيع من قبل الدولة.

أود أن اقول في هذا السياق، لطالما وضع التقليد الجمهوري تفكيره في الدولة تحت تمحيص شديد، خوفًا من أن تصبح سلطات الدولة تعسفية. ليس المثل الأعلى للحرية على أنها عدم هيمنة معاديًا لإعادة التوزيع، وغير معادي للحرية باعتبارها عدم تدخل، ولأقصد رفض هذا التقليد. أعتقد أنه إذا كنا نقدًر الحرية على أنها عدم هيمنة، فعلينا أن نكون يقظين بشأن عدم السماح للدولة بأنواع معينة من السلطة؛ وأن نكون حريصين على خضوعها لجميع أنواع القيود الدستورية وغيرها. إنً وجهة نظري هي فقط أنه، شريطة أن تكون الدولة مقيدة بشكل كافٍ، لا يوجد شيء مرفوض بطبيعته حول السماح لها باستخدام وسائل إعادة التوزيع.

س// الدّكتور نابي بوعليّ:  طبقًا لما لاحظنا في النقطة الثانية بشأن الأهمية التوزيعية لمعادلة عدم التدخل يبرز السؤال عما إذا كان أي إجراء لإعادة التوزيع قد زاد من حرية الناس لأن عدم التدخل ظل أمرًا احتماليًا لا محالة؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: ربما يمكننا مراقبة أصحاب العمل للتأكد من أنهم لا يتدخلون بطرق تعسفية مع موظفيهم. قد يكون لدى صاحب العمل القدرة على التدخل بشكل تعسفي في شؤون الموظف بحيث يمكنه تغيير شروط العمل المتفق عليها، وجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للموظفين، أو حتى ممارسة التدخل غير القانوني في شؤونهم بسهولة. لكن يمكن معالجة ذلك بإدخال نظام إعانات بطالة كافي، ومجموعة من اللوائح الصحية والآمنة، و ترتيب معين للتحكيم في النزاعات في مكان العمل، حيث من شأنه تحسين الكثير من أوضاع من الموظفين.

لا يقدم  افتراض توافق النظام مع سيادة القانون العادل مصدرًا للهيمنة بحد ذاته، وأن مجرد وجود إعانات بطالة معقولة من شأنه أن يقلل من مدى استعداد الموظف لتحمل التدخل التعسفي من قبل صاحب العمل، وعلى المنوال نفسه يقلل من قدرة صاحب العمل على التدخل في حياة الموظفين متى شاء.

ونقطة أخرى هي، أن الناس الفقراء أو الأميون أو الجاهلون أو غير قادرين على الحصول على مشورة قانونية أو غير مؤمًن عليهم من المرض أو غير قادرين على الالتفات الى حقيقة أنهم يفتقرون إلى القدرات الأساسية في أي من هذه الجوانب تجعلهم عرضة لنوع معين الاستغلال والتلاعب. لكن أي تحسن في نصيبهم أن يقلل من قدرة الآخرين على التدخل بشكل تعسفي في حياتهم بشكل أو بآخر. فأي تحسين من هذا القبيل يزيد من حريتهم كعدم هيمنة.

س// الدّكتور نابي بوعليّ: هل يأتي الاختلاف الجوهري في هذا الصدد بين الحرية كعدم التدخل والحرية باعتبارها عدم هيمنة، من حقيقة أن النموذج الأول لا يتعرض للخطر إلا من خلال التدخل الفعلي، والثاني من خلال القدرة على التدخل التعسفي؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يبدو أن هناك  تدابير ما تقلل فعليًا من المستوى العام للتدخل الذي يمارسه صاحب العمل. فحتى لو أفترضنا أن صاحب العمل هو شخص حميد وكريم، وملتزم بعمل سلس ومنتج فعليًا ، وبالتالي من غير المرجح أن يتدخل في شؤون الموظفين؛ تبقى هناك حاجة بشكل كبير الى إدخال مزايا  خاصة بالعمل، وهي كما ذكرت سابقا تتعلق بلوائح الصحة والسلامة، وإجراءات التحكيم، فهي ستقلل من احتمال التدخل التعسفي في مثل هذا السيناريو. لن يعتمد  ما إذا كان صاحب العمل يتدخل أم لا على أخلاقه الحسنة؛ ولكن سيتم تقييده إلى حد كبير من خلال عوامل خارج إرادته.

س// الدّكتور نابي بوعليّ:  ألا ترى أن أخرين سوف يردون بأنه لا يوجد سبب يجعلنا نرغب في  تقليل قدرة صاحب العمل على التدخل في عمل الموظفين، لا سيما بالنظر إلى تكلفة القيام بذلك، عندما يكون من المؤكد أنه لن يحدث أي تدخل فعليًا؟

ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لكن هذا تحويل للقضية من ما قد يتطلبه نموذج الحرية على أنها عدم هيمنة- وعلى وجه الخصوص، من متطلب أن يكون صاحب العمل مقيد -  الى ما إذا كانت نموذج جذاب. إن هدفي هنا ليس أن أثبت في أنه نموذج جذاب، ولكنه نموذج يعضد إعادة التوزيع فقط. لقد رأينا- في سياق حوارنا- قد تًعظم الحرية بوصفها عدم تدخل في ظل قيود التوزيع المتكافئ إلى حد ما، دون الحاجة إلى أي إعادة توزيع كبيرة للموارد. وما رأيناه الآن، في هذا الصدد، هو أن الحرية كعدم هيمنة مختلفة تمامًا. إنً النموذج الجمهوري قادرًا على تقييم وتاثير تدابير إعادة التوزيع التي يعتقد الكثير منا أنه من المعقول طلبها من الدولة الحديثة. وبينما يظل – النوذج الجمهوري- نموذجًا للحرية، فإنه يعطي تعبيرًا مناسبًا عن الطموحات الأكثر تطلبًا والتي يجدها غير الليبراليين مقنعة.

 

حوار: د. نابي بوعليّ

 

 

3094 رجب عبد المولىعرفت الأستاذ الدكتور رجب علي عبد المولي العميد السابق لكلية الآداب بجامعة المنيا، ورئيس قسم التاريخ بها، منذ ربع قرن حينما كان معيداً في كلية الآداب جامعة المنيا،  وكنت في السنة الأولى بالكلية وحضرت أول مناقشة لرسالة علمية في حياتي عام 1994، وكانت رسالته للماجستير التي أعدها تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمود حلمي مصطفى أستاذ التاريخ الحديث بآداب المنيا والعميد الأسبق لكلية الآداب بسوهاج جامعة أسيوط في هذا التوقيت، وكان عنوان الرسالة "قضايا الصعيد أمام البرلمان المصري من 1924-1952"، وسعدت برؤية الأساتذة الكبار الذين قاموا بمناقشة الرسالة وهما: الأستاذ الدكتور رأفت غنيمي الشيخ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة الزقازيق، والأستاذ الدكتور شوقي عطالله الجمل أستاذ التاريخ الحديث بمعهد الدراسات الأفريقية، وحصل عليها بتقدير ممتاز.

ثم واصل الدكتور رجب  دراسته العليا بعد ذلك فذهب إلى فرنسا في مهمة علمية استغرقت عامين، لجمع مادة رسالة الدكتوراه وهي بعنوان "الجامعة العربية ودورها في مساندة قضايا العرب السياسية في الفترة من 1945- 1967"، بإشراف الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة حلوان، وحصل عليها عام 2000 بمرتبة الشرف الأولى ثم واصل أبحاثه العلمية التي أضافت إلى المكتبة التاريخية الحديث بما اكتسبه من خبرات مختلفة في مصر وفرنسا والبلاد التي عمل بها مثل الجماهيرية الليبية، وقد سعدت بالتواصل المباشر معه منذ خمس سنوات نلتقي ونتجاذب أطراف الحديث معه في قضايا تاريخية وفكرية عديدة، ثم أردت أن نقترب منه أكثر في حوار صحفي يجمع أحاديث الذكريات مناقشة بعض القضايا كدور مدرسة جامعة المنيا في التاريخ وعطائها في هذا المجال.

*حدثني عن نشأتك وتعلمك قبل الفترة الجامعية وأثرها على مسيرتك العلمية بعد ذلك؟

- من مواليد قرية البهنسا مركز بني مزار محافظة المنيا انتمي لأسرة متوسطة الحال تعلمت في كتاب القرية على يد شيوخ افاضل منهم المرحوم الشيخ مصطفى فتح الباب ثم التحقت بالمدرسة الابتدائية بالبهنسا وبالمدرسة الاعدادية بصندفا وهي مدرسة غطاس بباوي الاعدادية وبعد إتمام المرحلة الاعدادية التحقت بالمدرسة الثانوية ببني مزار وفي خلال المرحلتين الابتدائية والإعدادية كنت متفوقا دراسيا وكان بهاتين المرحلتين.

* الدوافع التي جعلتك تختار مجال التاريخ وقدوتك في هذا المجال وتأثير اساتذتك ومن هم؟

- أساتذة عظام اذكر منهم الأستاذ أحمد حاكم مدرس اللغة العربية، والأستاذ مرسي رجب مدرس المواد الاجتماعية، وغيرهما الكثير من الأفاضل، وبعد إتمام المرحلة الثانوية التحقت بكلية الآداب بجامعة المنيا، ومنذ اليوم الأول بالتحاقي بالجامعة والتحاقي بقسم التاريخ وضعت نصب عيني التفوق والنجاح في هذا القسم؛ لأني محب التاريخ، وكان فضل الله علينا عظيماً، فقد عينت معيداً في العام ١٩٨٩، وكان التعيين في قسم التاريخ من الصعوبة أن تحصل على تقدير جيد جداً في هذه الأيام.

بعد ذلك حصلت على الماجستير بتقدير ممتاز، وكان المشرف المرحوم الاستاذ الدكتور محمود حلمي مصطفى، والمناقشين الاستاذ الدكتور رأفت الشيخ، والمرحوم الأستاذ الدكتور شوقي الجمل، ثم سافرت الي فرنسا عام ١٩٩٧ لجمع المادة العلمية الخاصة برسالة الدكتوراه وعدت في عام ١٩٩٩، وناقشت الدكتوراه وحصلت عليها بتقدير مرتبة الشرف الأولى، وكان المشرف عليها الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي، والمناقشين الأستاذ الدكتور جاد طه، والأستاذ الدكتور محمد عبد الرؤوف.

* ما الدوافع التي جعلتك تختار مجال التاريخ كتخصص رفيع ومن قدوتك في هذا المجال؟

- هناك مجموعة من الدوافع جعلتني اختار مجال التاريخ، أولها أستاذ المواد الاجتماعية في المرحلة الابتدائية، ثم الموضوعات التي كانت تحتويها الكتب التاريخية التي كانت تتحدث عن الوطنية ومقاومة الاحتلال بأنواعه، وقدوتي في هذا المجال كان المرحوم الاستاذ الدكتور محمود متولي -رحمه الله-، والأستاذة الدكتورة عفاف صبره، والمرحوم الاستاذ الدكتور محمود حلمي مصطفى، وأيضا المؤرخ الكبير الاستاذ الدكتور عاصم الدسوقي.

*حدثني عن رسالتك للماجستير والدكتوراه وهل طبعا ومن المشرف؟

- رسالتي للماجستير كانت بعنوان "قضايا الصعيد في البرلمان المصري ١٩٢٤ وحتى عام ١٩٥٢"، وهي هي نفس المشكلات التي يعاني منها أهالي الصعيد حتى الآن؛ من مشكلات صحية وأمنية واقتصادية وتعليمية وغيرها من المشكلات كالمواصلات والسكك الحديدية، أما الدكتوراه فكانت بعنوان "الجامعة العربية ودورها في مساندة قضايا العرب السياسية في الفترة ١٩٤٥ وحتى العام ١٩٦٧"، مشرف الماجستير كان استاذي المرحوم الدكتور محمود حلمي مصطفى ومشرف الدكتوراه كان الاستاذ الدكتور عاصم الدسوقي.

* جهودك في مجال التاريخ عموما والحديث والمعاصر على وجه الخصوص؟

- أما عن الجهود في مجال التاريخ فإن مهموم بالقضايا والمشكلات القومية والعربية ومنها موقف الجامعة العربية ودورها مواجهة الاستعمار الفرنسي لحصول لبنان وسوريا على استقلالهما، وأيضا دور المرأة الليبية في مواجهة الاستعمار الإيطالي، وأيضا دور المناضل عبد الرحمن عزام في مساندة النضال العربي ضد الاستعمار من خلال مذكراته الشخصية كمصدر من مصادر التاريخ المعاصر، وأيضا الجامعة العربية ودورها في مواجهة الاطماع الإيرانية في الخليج العربي، وأيضا دور محمد صالح حرب في مساعدة حركة المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي، وأيضا كتبت عن الشواشيد وهم الجواسيس ودورهم في الحرب الإيطالية الليبية إبان فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا، وأيضا المناضل سليمان الباروني ودوره في الحياة السياسية الليبية وأيضا الاعتداءات الإسرائيلية على المياه العربية ببلاد الشام"، وأيضا المساعدات الاقتصادية الخارجية ودورها في استمرار حركة المقاومة الليبية ضد الطليان، وأيضا نواب المنيا في البرلمان المصري ١٩٢٤ وحتى العام ١٩٥٢.

وقد قمت بعمل ندوتين أثناء تولية قسم التاريخ، كما أشرفت على العديد من الاطروحات الخاصة بالماجستير والدكتوراه، وناقشت أيضا أطروحات للماجستير والدكتوراه في جامعات جنوب الوادي وأسوان ودمياط والقاهرة والإسماعيلية والأزهر بأسيوط، وشاركت في إعداد اللوائح بقسم التاريخ جامعة عمر المختار فرع درنة ولوائح كليات جامعة المنيا والانشغال بالمناصب يبعدك كثيراً ولو لفترة عن العلم وخاصة الفترة الماضية فترة كورونا والتاريخ ليست كتابة السلام لأنه يحتاج إلى وثائق.

* دور مدرسة جامعة المنيا في مجال التاريخ؟

- أما عن دور مدرسة جامعة المنيا في مجال التاريخ فهي مدرسة متميزة وفريدة ومتنوعة بين المدارس التاريخية في جامعات مصر بما ضمته من أساتذة وعلماء تميزوا بتنوع أفكارهم وموضوعاتهم التي خدمت القضايا الوطنية والعربية .

 

حوارك أبو الحسن الجمال – كاتب ومؤرخ من مصر

 

3332 محمد الجزيرييرى الشاعر محمد الهادي الجزيري أنّ الشاعرَ الحقيقي دائم القلق، وأكثر قرباً من واقعه، وملتزم بما يدور في فلكه، يحاول دائماً أن ينبش في الأشياء، ويحفر في الأرض ويمضي حاملاً أوجاع الحياة ومرارة الواقع، ليرسم لوحةً من الكلام الشاهق، ويلُّم ما تناثر في الكوكب من رخاوة في المشهد المعاش، ويتعارك مع الكائنات ليعود لنا رافعاً تلويحة أملٍ في غبش الحياة المحاصرة بالدياجير والمواجع. وفي حوارنا معه فإننا ندخل في المسافة بين الجمالية الفنية والفعالية الفنية التي تمتلكها جل قصائده، ونتقصى أبعاد تمسكه – أحيانا – بقصيدة النثر ومدى مشروعية – هذه الأخيرة – وهيمنتها على المشهد الشعري العربي المعاصر، ونستشرف بالتالي جدوى الكتابة في حياة المبدع..

راهن محمد الهادي الجزيري على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص بإعتباره محصلة - زواج- سعيد بين وهج التجربة الحياتية والإستدعاء الواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم أو التجارب الشعرية الغربية.

-ما أقصى أنواع الظّلم الّتي تراها تمارس في حقّ الشّعر العربي؟

*دائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ.وبما أنّ الشّعر كائن حيّ، فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام، ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات، وكسر للقوالب التي تخنقه، ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي..هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية.

- أيّ العوالم ترتّب من خلالها هواجسك الشّعريّة؟

* طقوس الكتابة؟! أومن بذلك ولا أومن.ولكنّ حالة الكتابة تختزل كلّ شيء، تضغطهُ في اللحظة، فيها تختلفُ المفاهيمْ، ويُصبحُ الانسجام- في الكائن- لا مفرّ منه.عدا ذلك، أستطيعُ أن أخبركِ أنّ (الهدوء، السجائر، فنجان القهوة، - رهاب- الورقة البيضاء..)، طقس أنسجم معه، وأجدني مُتصالحاً مع ذاتي ومع العالم ضمن هذا السياق.

- كيف يقيّم - محمد الهادي الجزيري- حركة الشّعر الحديث؟

* هي حركة، كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية، تشتمل على الجيد المُغاير، والسيئ الرديء، والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل، ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك، الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ، وقادر على التواصل مع روح عالم جديد، ومُستمر في تجدّدهُ، والشّعر كذلك.

- يفترض الإقتراب من تجربتك الشعرية بمختلف تجلياتها النصية صوغ سؤال البدايات.ويهمني بإعتباري ذاتا قارئة أن أسألك حديثا عن بواكير أو إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري:هل كان للأمر تعلق برغبة في التعبير بطريقة تتسم بالمغايرة والاختلاف؟

* سؤالك هذا أيقظ أشياء جميلة تقتنيها الذاكرة..وأعادني إلى لقائي الأوّل بالشّعر، ذاك اللقاء الذي كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية، وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد.. ولكن يبدو أن اعتمالا مضطرما يضارع الإختمار كان يجري في داخلي مبكّرا، تفجّر هكذا في لحظة - صفاء- لا أكثر، في شكل- ومضات- شعرية تمخضت عنها قصائد فدواوين..وقد حاولت منذ البداية في أعمالي الشعرية أن أمزج ما بين الشعر والنثر، وهذا يظهر جليّا في أعمالي الأمر الذي جلعني أكتب قصيدة نثر تحمل رؤية مغايرة عما هو سائد في قصيدة النثر العربية، ومن ثم فأنا أحاول جاهدا في كل عمل شعري أن أقدّم شيئا جديداً ومختلفاً عما أصدرته سابقاً..

- في رأيك هل استطاعت قصيدة النثر أن تنتزع لها مكانا في منظومة الحس العربي؟ وهي التي أتاحت لعدد غير قليل أن يدخلوا مدينة الشعر بدون حق؟

* قصيدة النثر ليس فقط أنها استطاعت أن تنتزع لها مكانا في خارطة الشعر العربي المعاصر، بل انها تتصدر الآن المشهد الشعري وبجدارة.واذا كان الشكل القديم المنظوم عموديا أو بالتفعيلة ما يزال يجد أنصارا له، فإنّ أولئك الأنصار شعراءا وقراءا في تناقص.لقد تم نزع “القداسة” عن “نظام”القصيدة القديم.وتلك من أجمل الثورات التي حققتها الأجيال الجديدة من الشعراء.

- ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة ؟ماذا أعطاك الشعر؟وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟

* الشعر- في تقديري- هو الحياة، موسيقى الروح وديدنها، رئة أخرى للجسد، الشعر يعني الانفلات من عقال الزمن، التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة..لذا، فقد أعطاني (الشعر) الكثير من معنى الحياة وحب الناس والتسامي، منحني حالة من الكشف في اللغة وتراكيبها والبناء المحكم للمفردات وقراءة الكون والكائنات والإبحار في عوالم جديدة، وجعلني بالتالي أرى العالم بلغة مختلفة تعبر عن مكنونات الروح والنفس البشرية، كما جعلني أيضا أعبّر عن شخصيتي بمفاتيح رؤيوية جديدة وأقترب أكثر منيّ لأكون اكثر جرأة في الكشف عما هو مستور في دواخلنا.

- كيف تتشكّل القصيدة لديك. انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء؟

* النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ.وهذا يعني أنّ- القول الشعري- لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية. في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضجُ المخيلة.

- من وجهة نظركم، كشاعر، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟

* من وجهة نظري، لا يخضع لوظيفة بعينها، وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار، هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها، أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا، الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل، بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت، القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر، هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريح في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر الثقافة كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة.أما الحداثة، فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي، من خلال الاكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ، وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق، بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة، وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري، علينا أن نفهم ماضينا وآصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور، لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية.

- ما يفتأ العديد يقول أنّ الشّعر لغة ما عادت صالحة لهذا الزّمن..ماذا تقول أنتَ؟

* أرى أنّ الشعرَ هو الكون ذاتهُ، وهو جوهر كل الكائنات، والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن، ولغة الكون دائماً ستبقى واضحة في إشراقها من “صباح الخير” التي نهديها للأحبّة بداية كل نهار، وستبقى واضحة في ابتسامةٍ تُطرّزُ “خاصرة الصباح”التي تتراقص أمامك..نهاية أقول: سينتهي الشعر حينَ ينتهي كلّ شيء!

- حين تنادي: ”محمد الهادي الجزيري“ أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟

* لأنني لازلت أجهل- محمد الهادي الجزيري- لم يحدثْ أن فعلتها.ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض، ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق، كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفهُ تماماً، وقتها سوف أفعل، وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه، أم لا، دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.

- كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

* خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها، فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية، وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة، من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري.. وغيرهم.

- أما من قصيدة صدأت في درج مكتبك بعد أن صدأت في دواخلك؟

* سأبحثُ في الدرج، لأجدَ نصوص مال لونها إلى الأصفر المحروق، رائحتها تُسعدني، وتُعيدني إلى لحظات كتابتها، وما قبل الكتابة، لأجدَ بها جزءاً منّي، أتذكّرهُ ولكن يُصيبني الحنين إلى مشاركة الآخر بهذه الذاكرة.. بهذا الشّعر.

- دمتَ لامعَ الحرف..وذائقا لمعانيه العميقة

 

حاوره: محمد المحسن - تونس

  

3087 علي لفتة سعيد- كنت احلق مع حكايات ابي الجنوبية التي تمنحني طاقة في تصوير ما أسمعه منه من قصص خيالية لا ترتبط بالواقع بصلة

- أنا رجل مخيال.. أمتلك الكثير من الأفكار التي تسبح في رأسي مثل بحر وليس مثل حوض أسماك

- كلما نجحت زاد (الحاسدون) وكلما أصدرت ما لم يتمكن هو من إصداره زادت عملية الطعن من الخلف

- أتحدث عن البدايات التي وجدت فيها (الطاولات) وما يقوم به أديب المحافظات من (صرف) و(تملق و(مد رقبة) كي يبقى في بقعة الضوء

 تعلمت ان اكون واضحا في طبيعيتي وصادقا في رايي لذا أطرح ما اراه ولا أجامل

- لو خرج السياب الان وصاح بأعلى صوته انه سيكتب القصيدة الحديثة لما اشتهر


 منذ أن بزغ نجم عبد الرحمن مجيد الربيعي صاحب القمر والاسوار في سماء الناصرية وحتى ظهور علي لفتة سعيد صاحب حب عتيق امتدت مساحة خالية من روائي مشاكس يحول همومه الذاتية ومعاناة المجتمع جسرا يتلاقى عليه مع قراء اللغة العربية رغم وجود العشرات من الكواكب التي توهجت في مكانها او على مقربة منه مكتفية بمحليتها او التوسع قليلا وعلي لفتة سعيد المولود في مكان مكتظ بالفقر والجوع والحرمان والعوز وإهمال السلطة وطغيان الأعراف العشائرية وعادات المجتمع كان عين مشاكسة مبصرة تعشق المشاكسة وتجيد المقارنة وتحلم وهي مفتوحة وكأني به استهلم سيرة (همنغواي) الروائي القادم من ضجيج امريكا الذي عشق الصحافة وتابع الأحداث حد حشر نفسه في أتون الحروب يوم عمل سائق إسعاف مع قوات الحلفاء في ايطاليا ابان الحرب العالمية الثانية ونتج عن ذلك روايته المثيرة (وداعا للسلاح) ثم انتقل إلى اسبانيا ورسم لنا ما دار في مرحلتها الفرانكونية في رواية (لمن تقرع الأجراس) وقد تكون هناك أكثر من وشيجة نسب بين رواية علي لفتة سعيد (حب عتيق) ورواية (الحب في زمن الكوليرا) للروائي ماركيز القادم من قاع أمريكا اللاتينية كصحفي إلى أضواء باريس المزدحمة بكل متع الحضارة والتكنلوجيا حينها وقد يتقارب وضع على لفتة سعيد مع أوضاع همنغواي والماركيز لكن باختلاف الحظوظ اذا حظيا هما بما لايحلمان به من الترحيب والانتشار من الأوساط الأدبية والثقافية وترجمت اعمالهما إلى أغلب لغات العالم وحصلا جراء ذلك على الكثير من المجد والمال والجوائز ومنها (نوبل) في حين حرم سعيد حتى من الاحتفاء الرسمي به من قبل الدولة ودوائرها الثقافية ولم يحظى باهتمام إعلامي ولم يسلط الضوء على بعض أعماله التي احتفت بها بعض الدول العربية من دون أن يثير هذا الاحتفاء غيرة او فرح مواطنيه سلطة ومثقفين وقراء ولم تنصفه حتى الصحافة التي عمل فيها طويلا الا من شذرات تناثرت عنه هنا وهناك ..

عموما احب ان أثبت هنا ان علي لفتة سعيد هو روائي عراقي لا يقل موهبة ودراية بالرواية عن من حصلوا على الشهرة والمجد والجوائز وان تأخرت عنه اليوم ستاتيه منقادة تجر اذيالها شرط ان لاينال منه الانكسار او يوهن العزم منه جراء إهمال الدولة الذي يكاد ان يكون مقصودا وتغاضي كبار النقاد عن تسليط الضوء على تجربته الروائية ذات الحميمية العراقية الأصيلة. وعلي لفته سعيد المولود في مدينة سوق الشيخ تلك المدينة التي تناظرها في الجانب الشرقي من الجنوب مدينة (سوق جنديل) وهما مدينتان كانتا في بداياتهما مدينتان مترفتان حيث اختصر السكن فيها على كبار مالكي الاراضي والاقطاعيين من شيوخ القبائل والعشائر واحتوت على اماكن لهو بريء وغير بريء ليقضي هناك أصحاب الثروات والسلطة الإقطاعية أوقات لهو وملذات لكن بمرور الزمن وغروب شمس الإقطاع والشيوخ أفلت شمس المدينتين وانضمتا إلى قوافل مدن الفقر والعوز في الجنوب واحتفظت سوق الشيوخ باسمها وذكرياتها في حين استبدلت الأخرى اسمها من سوق جنديل إلى ناحية (شيخ سعد) وتبعت لمحافظة واسط إداريا ومن أعماق سوق الشيوخ وليالي شتائها ومواقد النار والتفاف العوائل حولها حمل علي لفتة سعيد قلة ما يملك من متاع وضخامة ما فيه من احلام نازحا إلى مدينة الثورة والعشق والقباب الذهبية مستبدلا جوار وذكريات سوق الشيوخ بجوار الحسين وقبابه الذهبية والقدسية التي يقسم بها أهل الجنوب وقد مرت على ذاك الرحيل قرابة الثلاثة عقود من السنين فهل نسى بن سعيد سوق الشيوخ وهل احتلت ذكريات سنينه المنصرمة في كربلاء مكان ذكريات سوق الشيوخ حيث الطفولة والصبا وبواكير الشباب؟ هذا ما سنحاول التأكد منه من خلال حوارنا معه.

- ايهما كان أكبر من الاخر خيالك او عمرك عندما كنت طفلا ويافعا في سوق الشيوخ؟ وهل من جناية او تهمة الحقها بك هذا الخيال؟

* نولد ويولد قبلنا الخيال او يرافقنا.. هكذا ارى الامر من الناحية السيكولوجية وليس العلمية .. فالخيال روح لا تتنفس بل تحلق.. تأخذ المرء الى مديات اوسع من المكان الذي يعيشه.. ولكن الاحساس به قد لا يكون مبكرا، ولا يكون متاحا، وإن كان كذلك فان الواقع لا يقبل لك أن تسافر معه وتحلّق وتمارس ما يمنحه لك من علامات دالة على وجوده.. خاصة واني مولود في بيئة مخيالية .. بيئة حكائية، حين كان الاب الذي أخذ زمام الام والاب معا بعد موت والدتي المبكّر فكنت يأخذني لأحلق مع خياله.. مع حكاياته الجنوبية التي تمنحني طاقة في تصوير ما أسمعه منه من قصص خيالية لا ترتبط بالواقع بصلة.. قصص تجعلني مرات أنام من خوفي منها، ومرات ألتصق به كي لا أهرب من قدرته على سبك الحكايات.. قصص رائعة من المخيال الشعبي والفولكلور وكذلك الفنتازيا وحتى الكوميديا السوداء.. كنت مندهشا ومرعوبا من قصص (الطنطل) و(أبو مرايا) لذا فاعتقد على الصعيد الشخصي، كان الخيال مرافقا لي منذ البدء، كأن القدر يرسم لي طريقا ان أكون في هذا المضمار.. مضمار الادب والخيال والحرف.. لذا وبعد هذه السنوات الطويلة من الكتابة والاغتراف من الأدب أشعر أن هذا تهمة تلاحقني وجناية ارتكبتها حين أسطر حياة الناس في الكتابة وإن كانت مخالية، ارتكب جناية تحورهم وتحولهم وتناسلهم وقتلهم وموتهم.. أحاول أن أصدق إن ما أكتبه لا يمت الى الجريمة بصلة.. ليست الجريمة المادية التي يعرفها الجميل بل جريمة التنصّت والتلصّص على دواخلي لانتزع منها حيوات الآخرين.. حتى ابي حولته في بعض الروايات الى شخصية أخرى غارقة في الخيال لكنها طافحة من الواقع.

- نحت في جدار الرواية ودندنت في الشعر ودلوت في بئر القصة القصيرة وحاولت في النقد لكنك أبحرت مع الصحافة .. أين وجدت نفسك؟ وكيف؟ وهل وظفت بعض هذه الضروب من الأدب في خدمة بعضها الآخر؟

* كثيرا ما أسأل وكأنها تهمة مثلما سألتني.. لذا أنا أقول دوما.. الأديب الذي يغترف من روح الحرف لا يقف عند حدود معينة وكأنه اختصاص علمي دقيق.. فأنا خياط ماهر.. الفكرة هي نوع القماش، لذا أنا أمتلك خاصية تحويل الفكرة الى المراد.. بمعنى لا يمكن لقماش بدلة رسمية أن يتحول الى قميص، ولا يمكن لقماش دشداشة أن يتحول الى لباس سباحة.. أنا رجل مخيال.. أمتلك الكثير من الأفكار التي تسبح في رأسي مثل بحر وليس مثل حوض أسماك.. والذي يتعرض على كتاباتي المتنوعة فأنه أما لم يقرأ لي أو إنه عاجز عن المجارات.. لذا فان السؤال هو ليس لماذا أتعدّد، بل السؤال لماذا لا أتعدّد، وأنا أديب اتعامل مع الحرف.. وكل أدباء العالم عبر التاريخ يتنوّعون ليس في الأدب فحسب، بل في تخصصات أخرى مرافقة للأدب.. وهو الامر الذي ساعدني كثيرا على ان تكون هناك استفادة من هذا التعدّد في المجالات الكتابية.. فالصحافة تمرين والأدب خلاصة.. ومن عملية دمج الحالتين أكون قد اتممت الفاعلية التدوينية بقدرة غير هادئة أو لأقل بلا غرور أن الاخرين الذي لا يعرفون علي لفتة سعيد وخاصة العرب فهم ينظرون الى النتائج، أما بعض الداخل العراقي فانه ينظر الى اسمي وصفتي الأولى ولا يقرأ لكي يرمي التهم، كما قال أحدهم مرّة بطريقة غير مستساغة ولا أقول غير مؤدبة.. إن علي لفتة سعيد يدخل الى الحمام وحين يخرج ينجز كتابا.. فهو يقرأ الإعلام ولا يقرأ ما اكتب

- انت كثير الشكوى وشعورك بالحيف يكبر مع كل منجز لك من أهل الإعلام والمختصين في الأدب..ماهو السبب؟ هل يعود لك لأنك فشلت في إقامة علاقات ودية مع مراكز القرار الأدبي والإعلامي؟ او ان لك غرورا ونرجسية تجبر الآخرين على الابتعاد عنك؟ او انهم وجدوك منافسا خطرا فضربوا عليك سورا من العزلة؟ او ان ما قدمته في مجال الرواية والقصة والشعر والنقد يخالف الذائقة فجافاك الآخرون؟

* لا هذه ولا تلك.. ثم لا أحد لا يشتكي ولا يشعر بالحيف.. رغم أن هذه الشكوى كان عمرها عشرين عاما، منذ أن فزت بجائزة الابداع العراقي عام 1988 عن مجموعتي القصصية (بيت اللعنة) ولأني بعيد كما هم أدباء المحافظات الذين لا يتواجدون في بغداد، وليست لهم رحلات مكوكية بين مدينتهم وبغداد، فان الامر يبدو مشابها للمثل (البعيد عن العين...) لهذا فان مثل هذه العلاقات هي علاقات هشّة تعتمد على تلك اللقاءات التي وجدت فيها من الزيف ما يجعل الامر أكثر اشمئزازا.. أتحدث عن البدايات التي وجدت فيها (الطاولات) وما يقوم به أديب المحافظات من (صرف) و(تملق و(مد رقبة) كي يبقى في بقعة الضوء.. انا هنا لا اقول الكل، بل هم المؤشر في الخارطة الادبية التي زادت حدتها بعد عام 2003 وزادت معها الغيرة والحنق.. فكلما نجحت زاد (الحاسدون) وكلما أصدرت ما لم يتمكن هو من إصداره زادت عملية الطعن من الخلف.. بل ان البعض يصل الى النقاد ليتهمني بعدم الثقاف، الادهى من ذلك ان آخرين (من الداخل) تبرع بطعني لدى نقاد عرب من اني لا أشكل شيئا في الثقافة العراقية لان الناقد العربي كتب عني ووصفني بخليقة نجيب محفوظ الرواية العربية الحديثة.. لذا أنا اقول .. من لا يحترم أدبه فانه بلا أدب.. والعلاقة التي تقود الى شهرة زائفة لا اريدها، لذا تأخرت لدي هذه الشهرة بسبب تقاطعي مع هكذا سلوكيات.. وهو امر لا أنفرد به وحدي، بل هناك العشرات من الادباء العراقيين المخلصين لفنهم يعانون منه.. وبعضهم ترك مدينته لينتقل الى بغداد ليكون وسط بقعة الضوء، وهو أمر محمود.. لأننا لو اخذنا خارطة المبدعين في بغداد لوجدنا ما نسبته تزيد على 90 بالمائة منهم هم من أدباء المحافظات

- التمسك بأكثر من ضرب من ضروب الابداع قد ينتج تشتتا وتلاشي .. لماذا الإصرار على الإمساك بتلابيب الشعر والرواية والقصة والنقد الم يكن من الأفضل أن تكون مبرزا في ضرب واحد من الأدب خيرا من الضياع في دروب متعددة؟

* هي ذات الإجابة صديقي.. في داخلي بحر من الحروف.. والادب فن مخيالي وليس علما وجدول ضرب.. أنا مثل المخترع الذي بإمكانه ان يخترع العديد من الآلات فلا يمكن القول له تخصص في مختبرات الطب واترك الهندسة مثلا... والتشتت الذي اراه هو الذي لا يستطيع الكتابة في ضروب مختلفة من الادب، لأنه وحسب رأيي لا يمتلك مفاتيح عديدة لفتح أقفال الابداع واسراره.. انا منحني الله القدرة على فتح الابواب.. لي القدرة على تطويع الكلمة لكي تكون قصة او شعرا او رواية وحتى مقال نقدي او تقرير صحفي وحتى أغنية.. فانا متعدد المواهب كما هم أجدادي الكبار من العلماء والادباء العرب عبر التاريخ.. فانا لم أكتف بما ذكرت بل كتبت المسرح والسيناريو لفيلم طويل درامي أبحث عمن ينتجه وهو سبيل محاصر من قبل مجموعة لا تسمح لك بولوج هذا العالم.. لان السينما ليست فعلا كتابيا فقط بل هو انتاج متعدد.. اما من افضل فلا ارى تفضيلا لأدب على ادب أو لجنس على جنس.. فكل الحروف تمور في داخلي وتريد الخروج.. ولي من الافكار ما يمكن ان انتج عشرين كتابا في سنوات العشر المقبلة ان ارد الله لنا البقاء.,. لذا لا ارى نفسي ضائعا بل العكس ارى من يطالبني بالتخصص انه ضائع وانه لا يفقه من الادب سوى ما ينتجه..

- هل مارست النقد لتنال من اخرين او لإثبات الذات او رغبة في تقويم نصوص نالت إعجابك او رأيت فيه نافذة ترمي بها زجاج النقاد في حالة تناولهم نصوصك بما لا يرضيك؟ وهل مارست (الاخوانيات) والمجاملة في النقد؟

* الكتابة ليست مواجهة اجتماعية، أو أنها رد فعل لتكوين آخر وذات أخرى، الكتابة استخراج المعادن اللغوية وتبويبها والتمكن من تدوينها.. والنقد جهد ادبي استكشافي، لا يقبل ان يكون في موضع رد الفعل. وهي ليست اثباتا للذات رغم ان جزءا من مفعولها هو المطاولة لإثبات القدرة على الاكتشاف الجديد في الكتابة النقدية التي بدأت معي منذ البداية الاولى في دخولي لعالم الكتب والانبهار بها.. حيث كنت اسأل: كيف يكتب الاديب نصه وهو ما ولد لي مصطلح خاص بي وانا من أجتحه (بنية الكتابة) وفيه ثلاثة كتب نقدية.. ولهذا ابتعد كل البعد عن رمي الاخر او الترقب ليكون لي رد فعل، بل انا ابحث عن فعل لكي يكون ثابتا وهو الذي ينتظر رد فعل الاخرين وإن تأخروا.. اما موضوعة الاخوانيات.. فهو امر صحيح.. ليس بمعنى إعادة طلاء ما هو غير صالح من الكتابة، بل التأثير العاطفي مرة او الأسم.. هناك اسماء تتحول بمرور الزمن الى طريقة كتابة خاصة تقترب من الاخوانيات مثلما تقترب من المجاملة.

- بعض من هم قريبين منك يصفونك بالنرجسية وحدة الطباع وعدم قبول الرأي الآخر في مجال الأدب.. هل أثرت هذه الصفات على علاقاتك بزملائك الأدباء ومن يمارسون نفس الهم الأدبي؟

* هذا رأي اجتماعي.. نتعرض له جميعا.. فانا لا اعرف سلوك ماركيز ولا رامبو ولا هيتشكوك ولا نزار قباني او محمود درويش ولا اعرف ماذا كان طبع السياب.. ما اعرفه هو ما اقراه لهم وقد تعود الاخر على ان يكون رايه هو الصحيح.. وهو هنا السؤال.. لماذا يطلق على من يناقشه انه نرجسي في حين انه هو النرجسي الذي لا يقبل راي الاخر.. أنا تعلمت ان اكون واضحا في طبيعيتي وصادقا في رايي لذا أطرح ما اراه ولا أجامل؟ وتعلم ويعلم الناس ان انقسام الراي أمر طبيعي فلا أحد يحبه الجميع ولا أحد يكرهه الجميع.. ولكن من يكره ان صح القول هو الذي لا يملك القدرة على التحليل والتنقيب والمطاولة ويريد فقط ان يشير له الاخرون بالصواب.. لأنه تعود من المتلقين ان يهزوا له رؤوسهم.. وأنا لن افعل هذا سواء رضي أم لم يرض.. فنحن لا نقع إلا تحت اطاري الراي.. فلنا من الاحبة الكثير ولنا من المنتقدين الاقل لكن صوتهم اعلى لانهم اينما يجلسون يتحدثون عن الاخر ولو بنميمة

- لمن تكتب؟

* سؤال لم يجب عليه من هم اقدر مني واقدم.. اكتب لاني هذا هو قدري وحظي كما يقال.. مثل الذي يلعب كرة القدم او هو صباغ بيوت.. او هو لاعب دومينو.. هو القدر الذي صاغنا الى ان نكون من الكتاب. فالإنسان يولد وهو عبارة عن مجوعة مواهب.. والقدر يقوده الى موهبة او يبقى في مكانه بلا سبيل

- منهم قرائك؟

* القراءة عملية ليست اجتماعية.. بل هي مخاض انبثاقي.. لذا فان الفعل الثقافي ليس فعلا جماهيريا.. فكل الفنون غير المباشرة مع الناس متلقوها أقل من الفنون الاخرى.. مثل حفلات الغناء او المسرح او السينما.. والفعل الكتابي فعل يقال عنه نخبوي وأنا لا أحبذ هذه المقولة كونها تعني الاقلية في حين هي تعني الجمهور الخاص.. ولكل فعل جمهوره.. وجمهور الادب هو الاقل.. ليسي لأنه بلا فائدة بل لكونه يحتاج الى عقل وتفكير وتأمل، ومتلقي الحفلات مثلا لا يريد التفكير بل يريد (الراحة). لذا احمد الله ان لي قرّاء ولي من يشتري كتبي من المكتبات. وانا لست الوحيد في ذلك.. اما قراء الفيس بوك فهو امر آخر لأنه ليس مقياسا صحيحا

- نجحت في وضع موطئ قدم لك في مصر وتونس وربما في غيرها وحصلت على جوائز لكنك هنا في بلدك لم تحصل على ماحلمت به ولم تحقق مبتغاك ولو تحججت بجنوبيتك لواجهناك بمن جاء قبلك من الجنوب ولاحقتهم الأضواء مثل عبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد خضير وقبلهما السياب وكثير غيرهم .. بماذا تعلل هذا التباين؟

* الزمن اختلف صديقي.. من ذكرتهم كانوا في مجتمع لم يولد فيهم بعد هذه الكثرة الكاثرة من الادباء لو خرج السياب الان وصاح بأعلى صوته انه سيكتب القصيدة الحديثة لما اشتهر.. تعلمت ان اكون واضحا في طبيعيتي وصادقا في رايي لذا أطرح ما اراه ولا أجامل.. كان الاديب حين ينشر في صحيفة عربية فانه سيكون مشهورا.. الان لو كتب في أعرق صحيفة عالمية لا احد يشير له.. لأننا نعيش زمن الفقاعات التي تنتفخ سرعان ما تنفجر.. ولكن يبقى الاجتهاد في الوصول.. نحتاج الى فعل يزيد خمسين مرة عما كان يفعله الأولون في الوصول الى الخارج.. نحن في الداخل وصلنا الى الخارج بمجهودنا وعلاقتنا الشخصية، لان الاخر ليست لديه عقدة النجاح والغيرة والحسد كما طرحت في سؤالك السابق، بل له عقدة الابداع.. وهو الامر ينطبق ليس في العراق بل في كل البلدان العربية. لذا اقول ان العراقيين الذين خرجوا من العراق كان وصولهم اسرع منها.. ولكن نحن سافرنا وحققنا وعدنا.. اما ما حصلت عليه في العراق.. نعم حصلت على من يشير لإبداعي ولكن متأخرا.. وكما ذكرت ان الارم يحتاج الى مطاولة وسنين.. مرة قلت لزميل لي انتقل الى بغداد .. انك ستختصر 20 عاما من العمل لتكون اسما معروفا ولكن اياك ان يضيع ابداعك على حساب شهرتك الشخصية .

***

وهكذا ابحرت مع الروائي والقاص والناقد والشاعروكاتب السيناريو والمسرحي علي لفتة سعيد على مدار قرابة نصف قرن من السنين في دروب الابداعوكان اجمل مافيه صراحته ووضوحه الشديدين ومعرفته التامة بقدر نفسه ومكانته الادبية وماقدم من منجز خلال مسيرته الادبية .

 

حوار: راضي المترفي

 

3327 سعدي عبد الكريم وراضي المترفيسعدي عبد الكريم:

- منذ طفولتي عرفت الله، وأمسكت بنوره الذي ملء كياني، والحسين دلَّني عليه

- احتسيتها كأبي نؤاس حدّ ان جنية شعري كتبت الشعر في مغازلة النساء، ثم تركتها فأمسيت صوفيا كالحلاج

- الإغواء يخفي ذاته تحت مظلة الفضيلة، فالسياسي مثلا يطرح نفسه مصلحا، فيغويه الكرسي فيتحوّل الى طاغية

- انا رجل مسرح، وغائص منذ النشء الاول للأحياء في كتابة النصّ المسرحي

- انا ازعم بأني من الجيل الذي قرأ مبكرا، قرأ بجميع المعارف

- الآخرون من الغرباء يتهموني بالجنون، وأنا سعيد ومغتبط بهذا الجنون الجميل

- البشر الذين يعيشون في سِفْرِهم الطويل لكي يفكروا، لا لكي يأكلوا

ربما يكون الولوج لصومعته المعرفية ضرب من ضروب التيه.. فقد قيل في الامثال الشعبية لمن يعاني اكثر من همّ، او يمارس اكثر من عمل.. (هم تاجر وعداد نجم.. رمانتين بفد ايد ماتنلزم (وقد يصح او ينطبق المثل على الكثيرين، لكنه يقف محتارا حدّ فقدان معناه، وضياع دلالته عندما نحاول سحبه باتجاه (سعدي عبد الكريم) وقد يستغرب البعض عند عدم تقديم صفة او موسوم ادبي قبل اسمه، وعند هذا يتَّضح عجز المثل عن الانطباق على حالة او شخصية مثل سعدي عبد الكريم فهو يكتب القصة القصيرة، وينظم الشعر، ومُتخصّص بالنقد الادبي، ومحترف بكتابة السيناريو، ويجيد فن الخطابة، وممثل بارع، وله ولع جميل بالدراما وعلاقته بالمسرح لا يمكن دحضها اضافة لولعه بالرسم والتشكيل واللون، وعليه هو يشبه البحر لا يمكن ملاقاته إلا في قارب، لذا قررت مضطرا ان يكون قاربي الذي ألاقيه فيه محمَّلا بكلّ انواع الاسئلة التي يمكن ان تطرح على كتيبة كاملة، وليس شخص واحد، وسيكون بين اسئلتي له المعقول، واللا معقول، والفنتازيا، وأسئلة استفزازية واستقصائية وافتراضية واختصاصية، مع معرفتي بقدرته الرهيبة في امتلاك ناصية المعرفة، وقدرته ايضا على القصف الكلامي، واختيار المفردات الفخمة، مثل المبجل والمسدد احيانا، وأنا على يقين بأننا سنخرج بحوار جميل غير متوقع يكون سهل الهضم في مكان، وعسير الهضم في آخر، وعلى من لا يخاف ان يصحبني بهذه الجولة في تلافيف عقل سعدي عبد الكريم التي اتوقعها مرتبة بشكل رهيب.

بادرته بسؤالي الاول:

راضي المترفي: ما هي الصفة الادبية التي تحب تقديمها على اسمك؟

سعدي عبد الكريم: دعني اولا ايها المترفي النبيل.. ان انفث دخان سيجارتي خارج مديات اللحظة، لأكن متأكدا بأن الاجابة عن سؤالك ستكون منضبطة كانضباط ادوات اشتغالاتي الادبية والفنية والنقدية، فلا اخفيك سراً.. عندما تكون موزعا بين هذه الاجناس الابداعية ستبحث بالضرورة عن بداياتك التي تميل اليها باستحكام المعرفة الاولى، والوعي التدشيني الابتدائي الذي يمكن لك القبض فيه على ملامح ميولك الاشتغالية، وبحكم عشقي الاول لذلك المنحوت السحري (المسرح) فأنا ادين له بالقراءات الاولى، والفهم الذي اوصني الى نضج المدركات الحسية والعقلية التي شفعت لي فيما بعد بتكوين ملمحي المعرفي، انا رجل مسرح، وغائص منذ النشء الاول للأحياء في كتابة النصّ المسرحي، ويأتي بالدرجة التالية اشتغالي النقدي في الأجناس الادبية المختلفة، ثم يأتي الشعر ضيفا شفيفا ليخترق دائرة الصمت ويفجر مكنوناته الشفيفة على وجه الورقة البيضاء، اما كتابة السيناريو للدراما التلفزيونية او السينما فهذه البهجة بعينها لأن السيناريو يغوص في اعماق النفس البشرية ويفعل فعلته النبيلة في الكشف عن الخفايا كما يفعل فن الكتابة للمسرح، اما القصة والرواية فأشعر عندما انهي كتابتها بمهرجان من الفرح الدائم، اما الرسم فهو هروبي الدائم من الضجيج، والزحام، وأجد فيه متعة القفز على السائد، ويعيدني لفترة طفولتي وشبابي، وعندما احاول الهروب من هذا العالم المُتخم بالمتناقضات، والمليء بالكوارث والحروب، انزوي من خلاله في منطقة الجمال لاكتشاف عوالم بديلة، وادلف صومعة الرسم، ومملكة اللون.

راضي المترفي: هل يحدث عندك خلط بين ضرب ادبي وآخر بحيث يزحف الشعر على القصة او الدراما على غيرها؟.

سعدي عبد الكريم: لكلّ جنس من الاجناس الادبية له مقوماته التدوينية، فلا يمكن ان تكتب مسرحية ذات شخصيات حيّة تتحرك في افق الدراما لها ميزاتها الجسدية والنفسية والبيئية، وانت تفكر بقصيدة شعر مثلا، او في قصة قصيرة، الاصل في التناول هي (الثيمة) واينما تقع مواردها الحسيّة يقع معها الجنس الادبي، رغم ان ثمّة مواءمة في بعض الاحيان بين اجناس الادب فالسيناريو يقترب بطبعية تناوله للدراما مع المسرح، لكن اللعبة هنا ان تمتلك تلك الحرفية، والخبرة، والدراية الفنية التي تمكنك من الاشتغال على جنس ادبي بعينه.

راضي المترفي: ماهي علاقتك بالله؟ ومتى تنشط ومتى يصيبها الخمول؟

سعدي عبد الكريم: سؤال ملغم حقاً.. ولكني وهنا بالذات سأنحاز الى الحقيقة الكاملة دون مواربة، الله واجد الوجود من العدم، وهو بادئ الخلق من الصفرية الاولى، وهو الذي يمكن له الاحياء، والاماتة، وهو الضَّوء النوري الازلي، وأنا منذ طفولتي عرفت الله، وأمسكت بنوره الذي ملء كياني، والحسين دلَّني عليه، مذ كان مرملاً في الرمضاء جسدا بلا رأس وهو يطلب الرحمة لقاتليه، الحسين منارا باسقا لمعرفة الله، وكتابا مفتوحا للقرب منه، ولكن.. وهذه هي التي تبحث عنها ايها المترفي النابش بأسئلته صدر المعارف، وصميم الحقائق. يا سيدي الفاضل، الانسان بطبيعة تكوينه الفطري والسويسولوجي والانثروبولوجي ميال الى الاكتشاف، والوقوع في فخ الدهشة، واصل الاشياء الاباحة ما لم يأتي بها نصّ، الخمر مثلا كانت مباحة وجاء بها نصّ الاجتناب، اظن بأني قد احتسيتها كأبي نؤاس حدّ ان جنية شعري كتبت الشعر في مغازلة النساء، ثم تركتها فأمسيت صوفيا كالحلاج، وفيلسوفاً كأبن رشد، ومصلوبا كالمسيح، وشاعرا كالبياتي، وناقدا كأبن جني، وأما النساء فهنّ اجمل ما خلق الله، ومن لم يرفُّ له قلبٌ امام الجمال، فاعلم بأنه قد انتقل الى منطقة اخرى غير الادمية. ان علاقتي بالله كانت، وما زالت رفيعة المستوى، لأني أحس به قريبا من انفاسي، واشعر بروحي محلقة في ملكوته.3328 سعدي عبد الكريم

راضي المترفي: ماهي الحالات التي يكون فيها الشيطان قادر فيها على اغوائك؟ في حالات الضعف او القوة؟ وكيف؟

سعدي عبد الكريم: الشيطان كائن هلامي ضعيف امام الوعي البشري، الوسواس الأصل هي النفس البشرية، إن ميول النفس هي فوهة المدفع التي تقذف بنا الى المهالك، وحيث تستقر الرذيلة، وهنا تكمن القدرة على امتلاك ناصية كبح لجام النفس من الاغواء، فالإغواء يخفي ذاته تحت مظلة الفضيلة، فالسياسي مثلا يطرح نفسه مصلحا، فيغويه الكرسي فيتحوّل الى طاغية، او سارق لقوت الشعب، هكذا هي الحبكة، اما ما يخصّ اغواء النفس بالنسبة لي، فأنا في معارك طاحنة معها على مدار اللحظة، واعتقد بأني اعلن انتصاري عليها في جلّ الاحايين.

راضي المترفي: في الحالات المنطقية يعاني الاديب هما واحدا كأن يكون شعرا او قصة او غيرها اما في حالتك انت فنحتاج الى تزويدنا بـ (كتلوك) المخ عندك وكيفية تحديد تنوع الهاجس الادبي؟

سعدي عبد الكريم: العقل هو المحرك الاساس لفاعلية النشاط البشري، والأديب أو الفنان هما الفاعلان الاساسيان في عملية التأثير بالوعي الجمعي، وهما المحرضان في انشاء مملكة الاحتجاج، اما ما يخصّ تنوع اشتغالاتي الادبية والفنية والنقدية، فانا ازعم بأني من الجيل الذي قرأ مبكرا، قرأ بجميع المعارف، لذا تجد هذا الجيل وأنتَ واحد منه، قد وزعت جهوده الابداعية على الكثير من المهام الابتكارية والمعرفية، وأما النقد بالنسبة لي فهو المعيار الحقيقي الذي استطيع ان انفذ منه الى النصّ وأقوم بإعادة انتاج دواله وإحالتها الى مدلولات ذات خصائص فهمية عالية، اجد نفسي في تناول اي نصّ بمتعة بالغة، والمعروف عني عدم المجاملة وبخاصة ما يتعلق بالنتاج الابداعي لأنها مسؤولية خطيرة عليَّ ان اكون صادقا مع الكاتب والنصّ، ربما هناك بعض المجاملات التي تفرضها علينا احكام الصداقة لكنها لا تؤثر البتة على امانتي العلمية. إن عقلي يا سيدي المبجل.. موزع على ما تمليه لحظة الدهشة عليَّ لتنجب ملاحق ابتكار النصّ باختلاف جنسه الادبي والفني، واكتُبْ برأس الصفحة، انا اول كائن بشري خط بالحرف السومري على وجه الرُقم الطينية وقائع الملحمة الاولى.

راضي المترفي: غالبا مايحتاج الأديب إلى ملهم وبما أنك تمارس ضروبا شتى فهل ملهمك واحد، أو أكثر وكيف يتعامل معك؟

سعدي عبد الكريم: ملهمي الحقيقي في كلّ ضروب الفن والأدب هو مخيالي الذي يحاكي في بعض الأحيان جنيات افكاري لإنتاج (الثيمة)، التي أنفذ من خلالها إلى عوالمي السحريّة لأدوّن ما يتجاوز المرئي نحو اللامرئي في بون متاهاتي الداخلية، وثباتي اليقيني، وتأتي في مرحلة اخرى تالية رحلة الافتتان بالعقل الذي يمنحني قوة الولوج إلى الواقع اليومي المعاش لأمازجه بالمُتخيّل ليبعث في داخلي مواطن الدهشة، ليحيلها الى ملاحق الابتكار، واتكئ كثيرا على القلب، ذلك المنسوج الخارق، وتلك المنطقة الدافئة، لأنه يمنحني قوة تفجير اللحظة، ويزيدني طمأنينة في الحبّ، ويثبت أمام مفاتن البثّ والحفر في مذاهبيات النصّ واتجاهاته، ورصّ مكامن بنائيته.

راضي المترفي: هل يؤثر تنوعك الادبي على تصرفاتك اليومية؟

سعدي عبد الكريم: هذا سؤال جميل.. لم يطرح عليَّ في جلّ اللقاءات العديدة السابقة، إنه سؤال يفضي إلى مراتب التداخل في وظائف العقل، فربما تختلف التصرفات باختلاف تعدد الايعازات للعقل. تصوّر يا صديقي المسدَّد في بعض الأوقات حينما اكون منشغلا بتأثُيث نصّا مسرحيا بشخصياته وانعطافاته الدرامية، اسير في الشارع، او في الكلية، او في البيت وأنا أحاكي الشخصيات، وتحكي معي، في البيت يعرفون هذا الامتياز عندما أكتب وبخاصة في الدراما التلفزيون والمسرح، ولكن الآخرين من الغرباء يتهموني بالجنون، وأنا سعيد ومغتبط بهذا الجنون الجميل، لأني اقضي اوقات ماتعة مع شخصياتي التي خلقها مخيالي التصويري، وشغفي بالواقع.

راضي المترفي: في اي نوع من انواع الكتابة تجد حقيقة شخصك؟ وكيف نستدل عليك؟

سعدي عبد الكريم: أرى شخصيا.. بأن المسرح هو ابو الفنون وتحتفي بذاتها كلّ الآداب ومحاذياتها تحت كنفه الواسع، المسرح هو سيد الفنون، وهرم النتاج الادبي، ورائد التحريض، وصومعة التغيير، المسرح مواجهة حرّة بينك وبين العرض، وبين عقل المتلقي، والفكرة الجدلية الحقيقة في المعادلة، هي في طرح الأفكار النبيلة على العقول عبر خشبة المسرح التي من مهامها الأولى هي بثّ الوعي في العقل الجمعي، والاستدلال على ذلك أن حياتنا ممسرحة، أو نمسرحها حسب اهواءنا الشخصية ورغباتنا الآنية، لكن فن المسرح يضبط هذا الإيقاع المُنفلت، ويجيله إلى ايقاع متوازن يستطيع النفاذ إلى الوعي المضمر داخل النفس البشرية.3327 سعدي عبد الكريم وراضي المترفي

راضي المترفي: الكتابة الابداعية يشبهها اهلها بحالة الولادة.. فهل هناك طلق ولحظات خوف وقلق ومن يقوم بالقبالة؟ ومن يختار اسم المولود؟

سعدي عبد الكريم: نعم.. الكتابة ولادة حقيقية.. ومخاضها عسير يا صاحبي.. يرافقها هاجس، بل هواجس من الخوف، وطوابير من القلق لأني اخاف على (النصّ) المولود من الخضوع لعملية قيصرية، أو مخاض لولادة متعسرة، انا اؤمن تماما بأن النصّ يأتي أولا، وما يأتي بعده هراء، ولتكن ولادته مشوهه، الكتابة مشروع مهم وملهم في حياة الأديب والفنان كما هي اللوحة التشكيلية كلها ولادات طاهرة ونبيلة من ظهر أبٍ واحد، يقوم بعملية القبالة لهم خزيني المعرفي، وخبرة تجربتي الطويلة التي امتدت لأكثر من خمسة عقود خلّت، وجنية أفكاري الجميلة، هي التي تختار الموسوم لهذه الولادات النجيبة.

راضي المترفي: هل هناك اوقات محددة للكتابة وتحضير أجواء خاصة؟ او انها حالة يومية معاشة؟

سعدي عبد الكريم: الكتابة تأتي بعد حضور الفكرة في اي جنس من أجناس الأدب أو الفن، ومتى ما اختمرت الفكرة أصبح من الضروري اللجوء لوجه الورقة البيضاء لتدوينها خوفا عليها من الهرب من الرأس العاقل، لأن الأفكار المضيئة تأتي مرة واحدة، ولن تتكرر لفض الاشتباك الحاصل في منطقة الهدنة بين الثابت الجامد، وبين المتحرك الديناميكي بقوة التراتب التنظيمي في منظومة العقل. وبالنسبة لي فأجمل وقت للكتابة فيه وتكون فيه اجواء الكتابة هادئة ومريحة هو الصباح الباكر، لأنه يمنحني الطاقة الايجابية في عملية الخلق، وهو إعلان صريح ببدء يوم جديد آخر لحياتنا المليئة بالفرح والألم والتي علينا ان نفضي عليها ملامح الجمال، والكتابة جمال دائم يرصع التاريخ، فالتدوين ملحق مهم من ملاحق الذاكرة الإنسانية، وهي بطبيعة تكوينها الجمالي حالة يومية ثابتة بالنسبة لي اعيش فيها امتع الاوقات في صومعتي المتواضعة.

راضي المترفي: الكثير من الكتاب يعاقرون الخمر ولا نعرف المبرر؟ هل هي تنعش الذاكرة؟ او تحلق بالكاتب الى سماوات الخيال؟ او يتخذ منها مركبا الى عالم سيميائي؟

سعدي عبد الكريم: أحيلُ هذا السؤال لمن يعاقر الخمر.. اما انا ففي نشوة دائمة في علاقتي مع السماء.

راضي المترفي: لمن تكتب.. لتعيش.. لاثبات الذات.. للمباهاة.. او هو نوع من الادمان؟

سعدي عبد الكريم: انا اكتب لكي اعيش، فالحياة بشكلها الجمالي الأخاذ تستحق مني هذا العناء المضني، واكتب للاستمتاع، والبهجة، والمنفعة، اكتب لكي اقول شيء ما، ربما يوافقني الآخر عليه، أو ربما يخالفني فيه، الكتابة مرتبة سامية من مراتب النبل البشري وهي علامة كبرى من علامات ديمومة الحياة، فهي تحفظ النشاط البشري المعرفي، البشر الذين يعيشون في سِفْرِهم الطويل لكي يفكروا، لا لكي يأكلوا، أو نتناكفوا على المناصب والكراسي، الكتابة مرحلة متطورة من مراحل النزوح صوب الضوء الساطع للوعي.

راضي المترفي: لو تم منحك سلطة مطلقة في تحديد من هو شاعر ومن هو كاتب ومن هو قاص ومن هو ناقد كم هي نسبة العدد الذي تحتفظ به من الموجودين؟

سعدي عبد الكريم: كثيرون هم الذين يدعون الثقافة.. وكثيرون هم المزيفون في الأدب.. والفائضون في قائمة الفن، المهم في الامر اني اعرف من هو الغَثِّ منهم، ومن هو السمين فيهم، ولكني لا أفصح عن الأسماء، إلا عندما أضع النصّ تحت مجهري النقديّ، حينها اعرف الاسم من خلال النصّ، وأميز فيه مواطن الجودة والرداءة عبر (النصّ) كمنتج إبداعي، ولو منحت لي سلطة سماوية لتنقية الأوساط الفنية والأدبية والثقافية من المزيفين، لنفيت عدد كبير منهم إلى جزيرة لم يطأها العقل البشري.

راضي المترفي: كيف تختار اصدقائك؟ ومن هم اصدقاء الشدة؟ من عرفتهم في الجامع؟ او من عرفتهم في مكان اخر؟

سعدي عبد الكريم: كلّ البشر أصدقائي بغض النظر عن الجنس واللون والفكر، جميع الأجناس البشرية مؤهلة لتكون في مرتبة الاصدقاء بشرط ان لا يدلف اليهم الكذب والمخادعة، وبشرط رئيسي آخر ان لا يكونوا أغبياء، الغباء يقتلني، بل يشتت أفكاري، الغباء آفة العصر فمن تحلى بها أعده شخصيا من الخالدين في قعر الجهل، أنا اتحرى الدقة في اختيار الصديق، وأول شروطي أن يكون عقله خالٍ من اي تطرف، وان يكون محبّا للآخر، وصادقا لدرجة تكاد تلامس الكمال، ولدي اصدقاء كثر من هذه النوعية النبيلة. ولا أذكر أن لي صديق عرفته في جامع، لأني أمارس طقوسي مع الربّ لوحدنا، ولا احب ان يشاركني في هذا الطقس الشريف اي احد، لأنها علاقة عمودية من الأسفل إلى الأعلى، وأنا شخصيا لا اقبل أن يتسلط على عقلي أحد ويملي عليَّ ما افعله من حلال، وما لا افعله من حرام، لي عين تقرأ النصّ المقدس، وعقل يفسره ويأوله.

راضي المترفي: ما رأيك بالآتي.. صداقات الشبكة العنكبوتية.. قصيدة النثر.. قصيدة الومضة؟

سعدي عبد الكريم: إن صداقات الشبكة العنكبوتية مفيدة وجميلة تارة، وتشكل معضلة كبيرة تارة اخرى، لأنها تقرب البعيد المغترب، وتقارب ما بينك وبين أصدقاءك القدامى، وتشكل مصدرا من مصادر تبادل الخبرات، ومن الجانب الآخر بعض الأصدقاء داخلها يشكلون خطرا داهما يقتحم عليك خلوتك في أوقات الاشتغال على بحث مهم، أو دراسة نقدية أو كتابة نص أو رسم لوحة، ويسأل أسئلة سطحية تكون مجبرا على الإجابة عليها بسطحية أكثر إيلاما في نفسك. اما قصيدة النثر فقد قُتلت وتفرق دمها بين القبائل، وكتبها من لا يفقه فن الكتابة فيها، وولج معتركها من لا يعرف اعراب المبتدأ والخبر، والطامة الكبرى ان ملمحها البنائي والصوري والجمالي واللغوي والبثّي مورست ضده جميع الموبقات التي تنتمي للرخص التدويني. ومن جانب آخر هناك اسماء لامعة كتبت، وتكتب الآن قصيدة النثر بشكلها الحداثي الأمثل، وكناقد مُتخصّص بالحقل الأدبي، فلا أعرف جنس أدبي تحت موسوم قصيدة الومضة.

راضي المترفي: هل ارتقى النقد في هذه المرحلة او تراجع؟

سعدي عبد الكريم: ان العملية النقدية في العراق دائما بخير، فهناك اسماء مشتغلة في هذا الحقل الأكاديمي العلمي التخصّصي يشار لها بالبنان في الفائت من الأزمنة، وأزمنتنا الحاضرة، ولكن العملية النقدية لا تخلو من الطارئين عليها ممن شمر عن ساعديه وانبرى ليحشر انفه في هذا الحقل النبيل، واعترف باعتباري مشتغلا في حقل النقد منذ أعوام طويلة بأن الصنف الثاني من المدَّعين قد استفحل على الخارطة، واحتل مكانا واسعا على الساحة الادبية، لذا تجد بأن النقد قد تراجع من جهة، ولكنه بالمقابل حصل على حظوظه الكبرى في الإمتياز من جهة التخصّص الأكاديمي الفاعل والمتفاعل مع النصّ الأدبي.

راضي المترفي: اكثر المختصين يشخصون الخلل في الدراما العراقية في جانب السيناريو.. معهم او لك رايا اخر؟

سعدي عبد الكريم: السيناريو برأينا النقديّ.. هو فن كتابة الصورة المرئية.. فالورق المكتوب (السيناريو) هو روح العملية الدرامية، وهو الكفيل بالارتقاء بها أو النكوص عليها، لذا أجد من الضروري الإشارة هنا على أن الدراما تعتمد بالأصل على سيناريو ممتاز، ومخرج مبدع مبتكر، فإذا توفر الشرطين حينها تكتمل الدراما لتصل الى مرحلة فاعليتها الجمالية في التأثير لملامسة المنطقة المثلى لدى المتلقي.

راضي المترفي: الشهادات التقديرية ودروع (الجص) هل تصنع شعراء؟ او تفتح ابوابا للدخلاء؟

سعدي عبد الكريم: الاثنين معا.. فهي تدفع المندسين إلى باحة الأدب ليحصلوا على الألقاب المجانية لتصنع منهم شعراء، وتفتح أبوابا لا يمكن إغلاقها بوجه الدخلاء على العملية الإبداعية، ومن ناحية اخرى فهناك مؤسسات ومراكز ومواقع واتحادات رصينة تكرّم من يستحق من الادباء والفنانين على مجمل نتاجهم الفني والأدبي.

راضي المترفي: لمن تتوقع الغلبة بعد نشر هذا الحوار للغاضبين من صراحتك او للفرحين بها؟

سعدي عبد الكريم: اعتقد جازما.. بأن من يعرفني، ومن لا يعرفني وفي منحوته الإلهي (العقل) بذرات التفتح، وومضات الوعي، والمتصالح مع نفسه سيكون فرحا بصراحتي ومسرور بها، أما الدخلاء والطارئين فلا اعتقد إلا عكس ذلك.

راضي المترفي: هل تشعر انك من خلال هذا الحوار بالحرج او انك في ورطة؟

سعدي عبد الكريم: لا أخفيك سرا.. ارهقتني بأسئلتك التي لا تخلو من المباغتة، والمراوغة، حتى انك استطعت توظيف منافع مهارتك الصحفية للكشف عن الخفايا والأسرار التي احتفظ بها داخل مباهر عقلي فانتزعتها عنوة.. وهذا ليس غريبا عليك أيها المترفي النازع للاعترافات تحت مقصلة الأسئلة الفطنة.

ربما لا احتاج لكتابة خاتمة لحواري مع المتنوع ادبا سعدي عبد الكريم لعدم بقاء في القوس منزع عدا شكري وامتناني له على صراحته وسعة صدره والرد على اسئلتي باريحية.

 

حاوره: راضي المترفي

 

 

سميرة بنصر"ويظل النص الإبداعي: شعر.. نثر.. قصة.. رواية.. إلخ في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.. " (سميرة بنصر)

"الشعر- في تقديري- هو الحياة، موسيقى الروح وديدنها، رئة أخرى للجسد، الشعر يعني الإنفلات من عقال الزمن، التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة.." (سميرة بنصر)

لقد شدتني هذه الانسانة الشاعرة في جل ما قرأته لها وسحبتني الى قرار الكتابة عنها بكل اعجاب وحب.. إلا أنني أجد بعض ما كتب عنها من دراسات نقدية ظل يدور حول أطراف معينها ولم يبلغ عمق اسرار نصها الذي يحتاج الكثير من الامعان والتوقف والكشف لجماليات ما تكتب أو تشيد من معماريات..

ترافق الحرف والقلم، لتكتب للفرح والشجن، تصافح الورق بين بهجة وألم، في رحاب عشقها للأرض، الإنسان والوطن، بقضايا البلاد ملمة، بحسن العبارة فطنة، بإتبلاج صبج جميل تحلم..

تأخذنا عباراتها نحو الأعماق فنلمس الوجع و الأمل، من إحساسها ننهل الحنين والأشواق..

تحملنا نحو اشراقة لا بد لها أن تكتمل، هي الشاعرة التونسية المتميزة سميرة بنصر..

بعد هذه المقدمة المختصرة أقدم هذه المبدعة الكبيرة من خلال هذه المقابلة التي سعيت لآن تكون من قلب تجربتها الحداثية وأطر خصوصيتها الكتابية بعيدا عن السرد الصحفي والمديح الاجتماعي والاسفاف اللغوي الانشائي .

فلنكن مع الشاعرة سميرة بنصر في بوحها الجديد..

- قيل لي أن الشاعرة سميرة بنصر تكتب شعرها بحبر الروح ودم القصيدة.. ما مدى صحة هذا الرأي ؟ ثم.. من اين يمكن فتح مغاليق رحلتك مع الشعر وماعنوان شفرتها.. ؟

* أنا أحب الإنحناء على عجينة قصيدتي، شرط ألا تأتي نتيجة هذا الإنحناء افتعالا شكلانيا مجانيا لا يؤدي إلى أي تجديد شعري، بل إلى دوران في حلقة مفرغة، حلقة البحث عن الشكل المختلف الصادم على حساب مستوى النص الشعري.فالتجديد الثوري (ونحن نعيش بتونس تجليات ثورة لا تخطئ العين نورها وإشعاعها) لا يكمن بالضرورة في القطيعة مع ما سبق، وثمة دائما خيط يربط ما كان بما سيكون، مهما كان مختلفا عنه ومتعارضا معه.أنا أكتب بكل بساطة القصيدة التي تناديني، ولم أكن أبحث عن استفزازات شكلانية”بالقوّة”من خلال طرائق مشيي نحو القصيدة، لأن استفزازي هو قصيدتي في ذاتها، لا في قطيعتها أو عدم قطيعتها مع الأشكال التي سبقتها أو سوف تليها.”

- ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة ؟.. ماذا أعطاك الشعر.وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟

* الشعر- في تقديري- هو الحياة، موسيقى الروح وديدنها، رئة أخرى للجسد، الشعر يعني الإنفلات من عقال الزمن، التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة.. لذا، فقد أعطاني(الشعر) الكثير من معنى الحياة وحب الناس والتسامي، منحني حالة من الكشف في اللغة وتراكيبها والبناء المحكم للمفردات وقراءة الكون والكائنات والإبحار في عوالم جديدة، وجعلني بالتالي أرى العالم بلغة مختلفة تعبر عن مكنونات الروح والنفس البشرية، كما جعلني أيضا أعبّر عن شخصيتي بمفاتيح رؤيوية جديدة وأقترب أكثر منيّ لأكون اكثر جرأة في الكشف عما هو مستور في دواخلنا.

- كيف تتشكّل القصيدة لديك.انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء.. ؟

* النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال.. الخ.وهذا يعني أنّ- القول الشعري- لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الإنفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ:اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.

- لو اتيح لك اعادة رسم خارطة الشعر العربي، ماهي الثوابت التي ترينها وماهي المتغيرات، ثم مَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

* ليس الشعر وحده ما يحتاج لإعادة تنضيد و تنقيح، بل الثقافة العربية بكامل شكلها بعد أن مورست عليها إكراهات يطول الخوض في تفاصيلها، أفقدتها وعيها و جعلتها تترنح في حالة من اللاوعي و أشركت معها أيديولوجيا عبثت بها مفاهيم عقيمة توقف سيرها منذ أكثر من ألف عام فأصبحنا الآن ندور في عالم التيه بانتظار عصا سحرية تشق لنا لجج العبور إلى سهول الممكن والمتاح .

خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها، فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية، وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة، من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري.. وغيرهم.

- من وجهة نظرك، كشاعرة، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟

* من وجهة نظري، لا يخضع لوظيفة بعينها، وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار، هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها، أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا، الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل، بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت، القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر، هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريح في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر الثقافة كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة.

أما الحداثة، فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي، من خلال الإكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ، وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق، بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة، وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري، علينا أن نفهم ماضينا وآصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور، لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية.

- سميرة بنصر، إنسانة وشاعرة تونسية، أية مقارنة ؟

* لا مقارنة بين ما يسكن في القلب، وبين تونسيتي، وما أبوح به لهذا العالم المليئ بالتناقضات.. الكتابة التي تسكنني بدون إذن ولا جواز سفر ولا تأشيرة أريدها تحدي من أجل قوة لا تقهرها الظرف.. للوطن قلب يسع الكون، وللكتابة فكر يحمل ثقل هذا الكون، وكلاهما تضحيات كبيرة ووجهة واحدة للنجاح .

- أين موقع الرواية العربية في الأدب العالمي من وجهة نظرك، ولماذا لم ينل روائي عربي حظه من العالمية منذ جائزة نوبل التي فاز بها المصري نجيب محفوظ؟

* هناك جهود كبيرة تبذل في سياق الكتابة الأدبية والعديد من النصوص التي فرضت نفسها عالميا، منها الراحل نجيب محفوظ وكاتب ياسين وعلاء الأسواني وغيرهم، وهذا يدل على أن النص العربي ليس أقل النصوص العالمية، خصوصا في السنوات الأخيرة عندما تجرّد من الثقل الأيديولوجي والتضخم اللغوي واتجه وجهة إنسانية وعالمية.كما أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب ليس دليلا قاطعا على أن ما جاء بعده ليس صالحا لنيل الجائزة في نماذجه المتعالية الراقية، فقد رشح للجائزة كتاب عرب كالراحلة الجزائرية آسيا جبّار عضو الأكاديمية الفرنسية والراحل محمود درويش وأدونيس ولم يحصل أحد على الجائزة لأسباب قد تكون سياسية أو لحسابات أخرى.لكن هذا لا يمنع من أن نصوصهم حققت إنسانيتها الواسعة من خلال الترجمة، وهو ما يضمن عالميتها أكثر من جائزة نوبل.

- حين تنادي:"سميرة بنصر "أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟

* لأنني لازلت أجهل- سميرة بنصر- لم يحدثْ أن فعلتها.ولكنني دائماً ما أقرأها بوضوحٍ على البياض، ذاهبة بها نحوَ اعترافاتٍ أعمق، كي يتسنى لي قراءتها بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفها تماماً، وقتها سوف أفعل، وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليها، أم لا، دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.

ـ اللغةُ هي ركنٌ أساس في بنية النّص الأدبي كيفما كان جنسه ولونه، وقد انتبه لهذه الظاهرة اللغوية منذ عصر ( أبو تمام)، و(المتنبي)، ومن ثمّ (محمود سامي البارودي)، (فالجواهري) اللغة كإحدى اللبنات في النص الشعري كيف تنظرين إلى دورها في نصوصكِ الشعرية ؟

* اللغة بنظري هي ترجمة للمشاعر والأحاسيس، وصورة معبّرة عن الفكر وما يجول فيه، بالإضافة إلى الانفعالات النفسية والاجتماعية، أي الوعاء الذي يصب فيه الشاعر كل ما يحتوي من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، فعن طريق هذا الوعاء أستطيع إيصال كل ما يحتويني إلى المتلقي أو القارئ أي هو الصورة التي اقترب بها بكل ما يكون في الذهن والأعماق، وعليه يجب على كل شاعر وأنا من ضمنهم أن نحسن في التعامل مع المفردة أو الكلمة الشعرية باعتبارها هوية الابداع وهوية الانتماء والتي تجعل الشعر متميزاً عن غيره، وهذه الكلمة مرتبطة بثقافة الشاعر وبمرجعياته الفكرية وبكل العوامل الذاتية له، فالانتباه إلى الغرض الشعري ومتطلباته في استخدام الكلمات وتوظيفها لخدمة القصيدة فقد نجد كلمة في حدث شعري لها دلالة مختلفة مع استخدامها في حدث آخر، فعلينا بالقراءة والمطالعة لإثراء لغتنا الشعرية، وبالنسبة إلى دور اللغة في نصوصي الشعرية أحاول بكل جهد توظيفها لما يلائم كتاباتي واغراضها وبالآخر نحن مازلنا نحتاج إلى الكثير، فاللغة وعاؤها كبير جداً لنطالع ونقرأ للوصول إلى الكلمة التي نصل بها إلى المتلقي.

- شهد العالم العربي ميلاد جيل جديد من الروائيين، فهل يمكن اعتبارهم امتدادا لروائيي الجيل السابق من حيث الاستلهام وطرائق السرد؟

* في الوطن العربي ميراث في غاية الأهمية، أنشأه الرعيل الأول وفرض به النوع الروائي وأعطاه كل مبررات الوجود، وعلى رأس هؤلاء نجيب محفوظ وحنا مينة وعبد الرحمن منيف وغيرهم.أما الجيل الثاني، فقد أضاف الكثير لكي يرسخ هذا النوع ويصبح رديفا لما ينشأ عبر العالم ليس أقل وليس أكثر، ومنح الرواية فرصة لكي تخرج من يقينيات تاريخ التحرر العربي إلى الانغماس في دائرة الحاضر العربي من ناحية الحياة والإدراك الروائي، كنبيل سليمان وغالب هلسا والطاهر وطّار وغيرهم من الروائيين الكبار.

وتعاقبت الأجيال حتى وصلنا إلى سؤال الحاضر، وهو الذي يشغل الوطن العربي كحالة داخلية كالثورات أو ما سمي بالربيع العربي الذي أصبح جزءا من انشغالات النص الإبداعي، كشخصية الدكتاتور التي دمرت النسيج العربي وجعلت منه مجتمعات لها تقاطعات كثيرة، وحتى عندما يحضر الاختلاف فهو حالة تنوعية وليس تمزقية.وهنا أود الإشارة إلى أن الرواية على سبيل الذكر مست المعضلات التي تعيشها المجتمعات العربية كالصراعات الطائفية والعنصرية والتاريخية وحتى اللغوية في بعض النصوص، وتناولت قضايا شائكة ومتداخلة، وشكلّت بالتالي مادة أدبية للجيل الجديد الذي انتقل من المستوى العربي إلى الإنساني لأن الرواية في نهاية المطاف بوصفها جنسا موسعا جعلت من القضية الإنسانية مدار منجزها الأدبي، كالحب والكراهية والضغينة والحروب والظلم، فخرجت بنصوصها من دائرة السياسي لدائرة الإنساني بحيث من يقرؤها في بعض نماذجها يشعر بأن ما يحدث عندنا لا يختلف عمّا يحدث في اليابان أو نيكاراغوا أو الصين أو أوروبا رغم الفوارق الحضارية.لذا أنا متفائلة بما تصنعه اليوم الرواية العربية التي خرجت من ضيق الرؤية إلى اتساعها، فهناك الكثير من النصوص التي بالإمكان وضعها أمام أي نص عالمي وفرض نفسها بسهولة لأن التقنيات المستعملة أو القضايا المندرجة روائيا لا تختلف كثيرا عما هو موجود عبر العالم.

- كيف يتشكّل - النص الإبداعي-  لديك:انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء؟

* النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ.وهذا يعني أنّ- النص الإبداعي في تجلياته الخلاقة- لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل السردي- مثلا- حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.ويظل النص الإبداعي:شعر.. نثر.. قصة.. رواية.. إلخ في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.

- في - بعض نصوصك الإبداعية المتنوعة- كما وكيفا-  نشعر بطاقتك على السرد، وخزينك الوافر من البوح والسرد، مع ذلك تلتزمين بالجملة القصيرة فلا تسترسلين .جملة رشيقة كما لو كاميرا تتنقّل سريعا على وجوه ومكامن ومواجع.هل تقصّدت التكثيف كشرط ينهض بفنية النص السردي الحديث؟

* صارت علاقتي مع السرد مختلفة كلياً عن فكرتي السابقة عنه، السرد ليس منظومة أخلاقية وعقائدية جاهزة لنطلقها على القارئ، وفي نفس الوقت ليست هناك الرغبة في استعراض المهارات اللغوية في صياغة الجملة التي تنتابنا في الأعمال الأولى، أنظر إلى السرد الآن كمتعة، متعة للكاتب وللقارئ في نفس الوقت، لذلك كنت أجتهد لخلق عالم سرد مختلف عما كتبته من قبل.أجتهد في صنع جملة قصيرة، كثيفة ذات دلالة وبلاغة.أجتهد وسأفعل هكذا دائماً، فكرتي عن- نصي السردي- محكومة بخلق سرد مختلف وفكرة جريئة في مشهدية بسيطة سرد يبتعد عن المحلي، ويمكن أن يكون مشروع حكاية يستمتع بها أي قارئ في العالم، مهما كان انتماؤه الجغرافي أو الديني أو…بالإضافة إلى شعوري أن السرد الروائي العربي بحاجة لنقلة نوعية على صعيد التكنيكك الفني.

- في الأخير: بمَ تنصحين الكاتب الشاب ؟

* أهم شيء هو التواضع.فليس كل من كتب-  سطرين-  يتخيّل أن على العالم أن ينحني له.. أغلب الأدباء الذين اشتهروا بدؤوا متواضعين، خاصة وإنهم يقدرون أعمالهم، ويقيمونها قبل أن يتناولها النقاد، ويعتبرونها وصلت حدا معينا من الجودة .الكاتب الشاب ينبغي أن يعمل على تطوير عمله، فلا يمكن أن يصدر الكاتب مجموعة قصصية صغيرة، ويريد من النقاد أن يصفقوا له، وأن تقام له طقوس الاحتفال .هذا غير ممكن .فالتواضع مطلوب، وكذلك الإنتظار والصبر.إضافة إلى أن الكاتب الشاب لابد أن يلتفت الى بيئته المحلية.فالمحلية مسألة أساسية، وخاصة في موضوع الرواية.وأنا شخصيا أعتبر تجربتي قائمة على المحلية.فإذا كنت تحيا في بيئة تعرفها وتعايشها، يمكنك أن تكتب عنها عملا فنيا ذا قيمة .

- كلمة أخيرة..

* مازلت أنحت نصي الإبداعي على الصخر بالأظافر وأشكر كل من ساعدني وشجعني على الإبداع في زمن ضللنا فيه الطريقَ إلى الحكمة..

- دمتَ لامعة الحرف.. وذائقة لمعانيه العميقة

 

حاورها: محمد المحسن

 

3300 مريم الخضراويفي ضيافة المرأة التي أعلنت عن مولد القمر بعد أن أخبرنا دنقل عن مقتله

مريم خضراوي..

- هؤلاء عميان تقودهم غريزتهم إلى جنة متأرجحة بين السماء والأرض

- قمرنا ورث إنكساراتنا نحن الإخوة المفلسون من وحدتنا...

- ما بيني وبين دنڨل ودرويش هو حلم عربي يزرع قهوته بيده ويحرس قمره

- حين تكون الكتابة وعيا وفكرا تكون السياسة يدا تحقق

- أعجب كيف لا يقرأ شعرا من يحمل همّا

حيث كان العسل

يُذرف مباركا..

نحو الزيتون الأسمر

في عينيك

صوبت قصيدتي وكتبت

إسمَ بلدي وإسمي حبيبتَك

لينمو بماء وجهك

الشعرُ ويصلّي

ليحفظ الربُّ بلدي ويحفظني

في سُوَر الزيتون بعينيك

ويحفظ العيون العسلية

أعلنت الشاعرة التونسية (مريم الخضراوي) بعد سنوات طويلة من إعلان الراحل امل دنقل عن مقتل القمر في مصر ما يلي:

قتل القمر في "مدينة" أمل دنڨل مقتل القمر..

لكنه يولد كل يوم في تونس

ومن هذا الإعلان المبارك والبشارة الكبيرة اسرج خيولي من عاصمة الرشيد وارض الف ليلة وليلة مستصحبا حماسة أبي تمام وعذوبة البحتري وعشق ابن الأحنف وطموح المتنبي واحل ضيفا على تونس الخضراء وشاعرتها مريم خضراوي التي حملت ضمادات بنت الأزور وتفاؤل الشابي واستحكمت أدواتها الشعرية لاقضي سويعات في محاورة صحفية ومنادمة شاعرة ترسخت جذورها في ربى الشعر في زمن غاب فيه الندماء فهلا تشاركونني هذا اللقاء وقبل نبحر مع شاعرة القمر تعالوا لنطلع على جزء من سيرتها..

مريم خضراوي

من تونس الخضراء

-أخصائية علاج فيزيائي وتقويم الأعضاء موظفة بوزارة الصحة..

-ناشطة ثقافية واعلامية..

-كاتبة..صدر لها ديوان شعر

(أحاول أن أكتب عن السنابل)

لها مخطوط قيد الطبع

- تنشر في صحف عربية ورقية شعرا ومقالات..

- شاركت في لقاءات تونسية وعربية..وكرمت من جهات رسمية.. وفي لقاءات افتراضية في تونس وعربيا..

* "ولد القمر" تكاد تكون بانوراما ولا يهم إن كانت تونسية او عربية وتثير هذه القصيدة الكثير من التساؤلات اولها.. من هو (يوسف) في "ولد القمر "؟ الشعب التونسي وتوجهين الدعوة للعرب لمساندته؟ او تقصدين الرئيس التونسي (سعيد) في صراعه مع الأحزاب؟ وربما غيرهما

والأمر الثاني.. تقولين:

"حين فتح الله باب السماء واندلق القمر

قمطت وليدي برموش الحلم ومسحت جسمه الطري

بعرق إخوته حتى يتعمد بحبهم

وخرجت على الناس

من هو الوليد.. الثورة.." التصحيح..الحلم.. النبوءة؟

وفي النهاية تعلنين..

"حولي دماء ولا قتلة.فوقي سماء ولا قمر! "

لا أدري اهي صرخة احتجاج او ضياع او يأس؟

- طلع علينا القمر أمل دنڨل ب(مقتل القمر) في مطلع الستينات بعد النكسة وخروج الأمة العربية من تجربة الوحدة مهزومة سياسيا وقوميا..ثم توالت الهزائم وتضاءل الحلم العربي وصار أبعد ما يكون من تحقيقه.. حتى أننا نعيش اليوم الفرقة في عقر ديارنا.. تلاشت وحدة أبناء الوطن الواحد تتناوشها نزعات ونزاعات عمقت الأزمة العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي صدرتها تونس كدولة عربية، ربما كان للشعب التونسي العريق تطلعا قوميا من خلال رغبته في التخلص من النظام الواحد و تقرير مصيره.. لكن يبدو قمرنا قد ورث إنكساراتنا نحن الإخوة المفلسون من وحدتنا...

يوسف هو أنا وأنت والآخرون الذين وهبهم قدرهم حب هذا الوطن المصاب في هويته.. هو شعب تونس الذي لايسقط مهما توالت الأنظمة وتعددت...

"ولد القمر" هو محاولة مني للمقاومة ودعوة للمثقف أن يتحمل وزر دوره في مجتمعه.. أردت أن أعلن من خلاله أن القمر حلمنا في الوحدة بيننا ما يزال رغم القتلة والظلاميين يولد ويلد أحلاما...

- بينك وبين دنقل مولد قمر وبينك وبين درويش قهوة وبينك وبين الجرحى والمعلولين مواساة وضماد وبينك وبين القراء قوافي فما بينك وبين السياسة؟

- ما بيني وبين دنڨل ودرويش هو حلم عربي يزرع قهوته بيده ويحرس قمره بعين العقل والقلب... ما بيننا جميعا (من تجمعنا الضّاد) وعي الكاتب بأن لديه قضية شعب و أن كل كلمة هي إبداع من أجل أمة وأمانة... هذا ما بيني وبين السياسة بيننا وطن يدين به السياسي للشاعر والمزارع للجندي والفنان... للطفل والمرأة...

- كيف تحصل المساندة بين السياسي والأديب؟ ومتى؟

- حين تكون الكتابة وعيا وفكرا تكون السياسة يدا تحقق.. باعتبار الأديب لسان مجتمعه الموجه للسياسي.. الأديب والسياسي كلاهما لا يستغني عن اللغة يلتقيان عليها وبها وهي وحدها تفرقهما ويتشتت بينهما الوطن...

- لكل زليخا يوسف لكن الفارق بوجود زليخا تملك شجاعة الإعلان وزليخا تخاف البوح.. ايا زليخا انت؟

- من يكتب يبوح بالضرورة ومن تختار الكتابة ترجمانا عنها وعمن حولها فهي تناضل في مجتمع ينبذ من يبوح ويعبر بجسارة...

"يوسف مريم خضراوي" لم يتحقق بعد، ربما كان سببا فيما أضمر وأعلن لكنه ليس سبب بوحي الوحيد.. الأسباب من حولي تتعدى تجربتي الشخصية إلى الأعم. عندما تتكتل ترسانة مجتمع بكلكله لتقتل امرأة أو طفلا فأي زليخة وأي يوسفها أو يوسفي !!

- لمن تكتبين؟ ومن هو ملهمك؟

- أكتب لمن يجيد القراءة ملهمي في ذلك كل ما من شأنه أن يستفز عقلي وقلبي..

- يحدد العرب مكان ولادة الشاعر في ساحة الوغى أو بين جدران السجن.. هلا حددت مكان ولادتك كشاعرة وفق هذا المنطق؟

- الكتابة حرب على إرهاب العقل والقلب ومن اختار أن يكتب فهو في حرب دائمة في ساحة الوغى أو من خارجها وحتى وهو بين القضبان هذه التي صنعها العرب الرازح تحت وطأة هذا المنطق نفسه الذي يحددون من خلاله ولادة الشاعر من عدمها..

- بماذا يختلف أو يمتاز شعر المرأة عن شعر الرجل؟

- طالما كتبنا فنحن أرفع من أن نقع في هذا التناقض.. الكتابة نتاج روحي قد يمتاز فيها الرجل أو المرأة.. المقياس الوحيد هو الإبداع على إختلاف المادة وطريقة تقديمها..

- أغلب الشعراء الرجال ينفون وجود المرأة الشاعرة وينظرون لها ملهمة فقط.. ماهو ردك؟

- يحتاج ضعيف البصيرة دائما لمن يرشده لعيوبه..

وهؤلاء عميان تقودهم غريزتهم إلى جنة متأرجحة بين السماء والأرض.. الشاعر إنسان متفاعل مع المحيط من حوله ومع الآخر لا حدود في تفاعله وتواصله إلا مايسيء للآخر ولنفسه بالتالي..

- في الطب التشخيص اساس كل علاج.. ماذا عن الشعر؟ وكيف يتم التشخيص؟ وهل يغلب البتر او المعالجة؟

- (وحال الشاعر كحال الطبيب، على كل منهما أن يكون عارفا جيدا بأدواته وإلا كان وبالا على نفسه وأهله (الجاحظ).

على قدر عمق الذات الإنسانية وتعقيد تركيبته الفيزيولوجية على قدر بساطة الانسان ؛ قد نشفى ونحن نقرأ أو نكتب من تجاربنا عندما نطلع على تجارب الاخرين ونتمكن من آليات التشخيص والعلاج من خلالهم..نعم إن في الشعر والادب بشكل عام علاج كما الحال في الطب..

الشعر علاج لقارئه وكاتبه ، فالنص يأخذ موضع الطبيب نسقط عليه حالتنا ونشكوه همومنا.. وكم من أعراض سريرية أسبابها نفسية (وأعجب كيف لا يقرأ شعرا من يحمل همّا)... لكن في تقديري الشخصي أن الطب قد يشفينا لكنه لا يخلدنا كما يخلد الشعر كاتبه ويلهم قارئه.بل قد يبتر عضوا وينقص فردا متكاملا نفسيا وجسديا....

- اعتادت الأنثى على إخفاء عمرها الحقيقي ويوم سالك شاعر متصابي كما وصفته أعلنت أن عمرك (ديوان شعر وعشرات القصائد).. لماذا تخاف المرأة التقدم في السن؟ وماذا ياخذ منها غير تغير الظاهر؟

- الإنسان عموما يخاف من تقدم السن. لأنه يعني الإقتراب من الموت..

ولا أظن أن السؤال عن العمر خفيف وقعه على نفس المرأة أو الرجل على حد سواء...

جميعنا ندرك هذا ومن يتعمد هذا السؤال فإن نواياه غير محمودة ولذلك نرد بما يليق على ما يضمره السائل عن العمر..

لقد أجبته كصديق افتراضي في صفحتي على الفيس..المفروض أن تواصلنا من خلال صفحاتنا لا يتعدى القصائد والنصوص التي نحاول أن نترجم بها ذواتنا وانتماءاتنا

أما العمر الحقيقي فهو أمر شخصي...

- وصم الأدباء عموما والشعراء خصوصا بالنرجسية.. هل عانيت منها؟ وهل سببت لك بعض الإشكالات مع الآخرين؟-

- الكتابة فن وإعلاء من شأنه أن يرتقي بالكاتب الى درجة من الصفاء الذهني والروحي بحيث يعيش سلاما داخليا مع نفسه ومع الآخر لا مجال بعده للنرجسية والتعالي..للأسف عانيت من نرجسية الآخر الذين يختزلون دور المرأة كثيرا.. أُجلت خطواتي بسببهم وأنكروا علي أن أفرض صوتي بينهم لاني رفضت دائما أن أكبر في ظلهم.. و ربما أنا أنجح منهم لأني تجاوزتهم بوعيي أشواطا...

- في نهاية الحوار لايسعني الا الاعتراف بأني مارست الجلوس في حضرة امراة عربية اجادت الامساك بمبضع الطبيب وتعاملت بواقعية مع العلل والامراض سواء بالمعالجة او الاستئصال وفي نفس الوقت امسكت بزمام مهرة الشعر وقارعت فرسانه القافية بالقافية والابهار بابهار وسجلت نصر هنا وسبقا هناك وحفرت اسمها ضمن شاعرات جيلها على لوحة الشرف..

تحية تبجيل وشكرا وامتنان للشاعرة العربية التونسية مريم خضراوي.

 

راضي المترفي

 

3008 محمد المحسن(الشعرَ هو الكون ذاتهُ.. وهو جوهر كل الكائنات.. والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن..)

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الحوار مع الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري يمثّل فرصة للاقتراب من العوالم الشعرية لواحد من أصفى وأعمق الأصوات في تونس على مستوى الإبداع الشعري، وسبيلا لطرح الأسئلة العميقة للشعر بما هو تخييل ولغة وتجربة ومخزون صور وتمثيلات وجسور موصولة بين خبرات جمالية متباينة من حيث تاريخيتها وجغرافياتها. راهن محمد الهادي الجزيري على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص بإعتباره محصلة - زواج- سعيد بين وهج التجربة الحياتية والإستدعاء الواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم أو التجارب الشعرية الغربية. وهو يرى أنّ الشاعرَ الحقيقي دائم القلق، وأكثر قرباً من واقعه، وملتزم بما يدور في فلكه، يحاول دائماً أن ينبش في الأشياء، ويحفر في الأرض ويمضي حاملاً أوجاع الحياة ومرارة الواقع، ليرسم لوحةً من الكلام الشاهق، ويلُّم ما تناثر في الكوكب من رخاوة في المشهد المعاش، ويتعارك مع الكائنات ليعود لنا رافعاً تلويحة أملٍ في غبش الحياة المحاصرة بالدياجير والمواجع. وفي حوارنا معه فإننا ندخل في المسافة بين الجمالية الفنية والفعالية الفنية التي تمتلكها جل قصائده، ونتقصى أبعاد تمسكه- أحيانا- بقصيدة النثر ومدى مشروعية- هذه الأخيرة- وهيمنتها على المشهد الشعري العربي المعاصر، ونستشرف بالتالي جدوى الكتابة في حياة المبدع..

* يفترض الإقتراب من تجربتك الشعرية بمختلف تجلياتها النصية صوغ سؤال البدايات. ويهمني بإعتباري ذاتا قارئة أن أسألك حديثا عن بواكير أو إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري:هل كان للأمر تعلق برغبة في التعبير بطريقة تتسم بالمغايرة والاختلاف؟

- سؤالك هذا أيقظ أشياء جميلة تقتنيها الذاكرة.. وأعادني إلى لقائي الأوّل بالشّعر، ذاك اللقاء الذي كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية، وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد.. ولكن يبدو أن اعتمالا مضطرما يضارع الإختمار كان يجري في داخلي مبكّرا، تفجّر هكذا في لحظة - صفاء- لا أكثر، في شكل- ومضات- شعرية تمخضت عنها قصائد فدواوين.. وقد حاولت منذ البداية في أعمالي الشعرية أن أمزج ما بين الشعر والنثر، وهذا يظهر جليّا في أعمالي الأمر الذي جلعني أكتب قصيدة نثر تحمل رؤية مغايرة عما هو سائد في قصيدة النثر العربية، ومن ثم فأنا أحاول جاهدا في كل عمل شعري أن أقدّم شيئا جديداً ومختلفاً عما أصدرته سابقاً..3008 محمد المحسن

* في رأيك هل استطاعت قصيدة النثر أن تنتزع لها مكانا في منظومة الحس العربي؟ وهي التي أتاحت لعدد غير قليل أن يدخلوا مدينة الشعر بدون حق؟

- قصيدة النثر ليس فقط أنها استطاعت أن تنتزع لها مكانا في خارطة الشعر العربي المعاصر، بل انها تتصدر الآن المشهد الشعري وبجدارة. واذا كان الشكل القديم المنظوم عموديا أو بالتفعيلة ما يزال يجد أنصارا له، فإنّ أولئك الأنصار شعراءا وقراءا في تناقص. لقد تم نزع “القداسة” عن “نظام”القصيدة القديم. وتلك من أجمل الثورات التي حققتها الأجيال الجديدة من الشعراء.

* ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة؟ماذا أعطاك الشعر؟وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟

- الشعر- في تقديري- هو الحياة، موسيقى الروح وديدنها، رئة أخرى للجسد، الشعر يعني الانفلات من عقال الزمن، التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة.. لذا، فقد أعطاني(الشعر) الكثير من معنى الحياة وحب الناس والتسامي، منحني حالة من الكشف في اللغة وتراكيبها والبناء المحكم للمفردات وقراءة الكون والكائنات والإبحار في عوالم جديدة، وجعلني بالتالي أرى العالم بلغة مختلفة تعبر عن مكنونات الروح والنفس البشرية، كما جعلني أيضا أعبّر عن شخصيتي بمفاتيح رؤيوية جديدة وأقترب أكثر منيّ لأكون اكثر جرأة في الكشف عما هو مستور في دواخلنا.

* كيف تتشكّل القصيدة لديك. انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء؟؟

- النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ. ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ. وهذا يعني أنّ- القول الشعري- لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها. ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية. في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل. ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضجُ المخيلة.

* من وجهة نظركم، كشاعر، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟

- من وجهة نظري، لا يخضع لوظيفة بعينها، وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار، هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها، أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا، الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل، بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت، القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر، هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريح في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر الثقافة كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة. أما الحداثة، فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي، من خلال الاكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ، وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق، بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة، وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري، علينا أن نفهم ماضينا وآصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور، لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية.

* أيّ العوالم ترتّب من خلالها هواجسك الشّعريّة؟

- أتقصد طقوس الكتابة؟! أومن بذلك ولا أومن. ولكنّ حالة الكتابة تختزل كلّ شيء، تضغطهُ في اللحظة، فيها تختلفُ المفاهيمْ، ويُصبحُ الانسجام- في الكائن- لا مفرّ منه. عدا ذلك، أستطيعُ أن أخبركِ أنّ (الهدوء، السجائر، فنجان القهوة، - رهاب- الورقة البيضاء..)، طقس أنسجم معه، وأجدني مُتصالحاً مع ذاتي ومع العالم ضمن هذا السياق.

* ما يفتأ العديد يقول أنّ الشّعر لغة ما عادت صالحة لهذا الزّمن.. ماذا تقول أنتَ؟

- أرى أنّ الشعرَ هو الكون ذاتهُ، وهو جوهر كل الكائنات، والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن، ولغة الكون دائماً ستبقى واضحة في إشراقها من “صباح الخير” التي نهديها للأحبّة بداية كل نهار، وستبقى واضحة في ابتسامةٍ تُطرّزُ “خاصرة الصباح”التي تتراقص أمامك.. نهاية أقول: سينتهي الشعر حينَ ينتهي كلّ شيء!

* كيف يقيّم - محمد الهادي الجزيري- حركة الشّعر الحديث؟

- هي حركة، كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية، تشتمل على الجيد المُغاير، والسيئ الرديء، والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل، ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك، الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ، وقادر على التواصل مع روح عالم جديد، ومُستمر في تجدّدهُ، والشّعر كذلك.

* حين تنادي:”محمد الهادي الجزيري “أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟

- لأنني لازلت أجهل- محمد الهادي الجزيري- لم يحدثْ أن فعلتها. ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض، ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق، كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح. حينَ أعرفهُ تماماً، وقتها سوف أفعل، وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه، أم لا، دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.

* كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

- خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها، فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية، وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة، من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري.. وغيرهم.

* ما أقصى أنواع الظّلم الّتي تراها تمارس في حقّ الشّعر العربي؟

- دائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ. وبما أنّ الشّعر كائن حيّ، فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام، ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات، وكسر للقوالب التي تخنقه، ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي.. هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية.

* أما من قصيدة صدأت في درج مكتبك بعد أن صدأت في دواخلك؟

- سأبحثُ في الدرج، لأجدَ نصوص مال لونها إلى الأصفر المحروق، رائحتها تُسعدني، وتُعيدني إلى لحظات كتابتها، وما قبل الكتابة، لأجدَ بها جزءاً منّي، أتذكّرهُ ولكن يُصيبني الحنين إلى مشاركة الآخر بهذه الذاكرة.. بهذا الشّعر.

* دمتَ لامعَ الحرف.. وذائقا لمعانيه العميقة

***

 أجرى الحوار الكاتب الصحفي محمد المحسن من تونس

 

 

3275 نجوى الغزال ونيلز هافترك الفراعنة المصريون القدماء الأهرامات لأحفادهم. ماذا نترك ورائنا للجيل القادم؟ النفايات البلاستيكية والأضرار المناخية؟ دعونا نحقق شيئًا عظيمًا معًا، دعونا نتشارك موارد الكوكب بشكل عادل ونعيش في وئام مع الثقافات والأديان المختلفة. من السابق لأوانه الاستسلام. ربما يجب أن نبني هرمًا عظيمًا واحدًا للاحتفال بعصرنا الذهبي من الاحتمالات يجب أن نترك شيئًا جميلًا لأحفادنا.

1- لماذا تحب اللغة العربية وما هي الجماليات الأدبية التي وجدتها فيها ولم تجدها في لغتك الأم؟

نيلز هاڤ: بالنسبة لي، فإن صوت اللغة العربية هو موسيقى تشمل جميع ألحان الروح، من حزن عميق وشوق وحنان وحضور وسعادة متلألئة. وقفت مهد الثقافة في الشرق الأوسط، وتحتوي اللغة العربية على دلالات تعود جذورها إلى أقدم الأساطير والحكمة القديمة. علينا الاستماع.

أنا لا أفهم العربية، للأسف ولدت في بلد خاطئ. في مصر وفي جميع أنحاء الشتات العربي، يرقد الأطفال حديثو الولادة في المهد، يستمعون إلى النساء السعوديات يضحكن ويتحدثن معًا باللغة العربية. يكبرون مع رنين هذا الصوت في آذانهم، ويحملون اللحن معهم مثل حلم السعادة.طوال الحياة، يتوقون إلى صوت المرأة السعيدة تتحدث وتضحك.

اللغات البشرية مثل أصوات العصافير. كل طائر يغني بمنقاره. قبل أن نفهم لغة ونعرف معنى الكلمات، نستمع إلى موسيقى الكلمات، اللحن. اللغة العربية لها دلالات على الفارسية القديمة والعصور القديمة، وجماليات الشعر العربي الكلاسيكي متأثرة بالقرآن. حتى لحن الشعر العربي الحديث يستلهم من الخدمة في المسجد.3276 Niels Hav

2- ما سبب حبك لنجيب محفوظ والمعري؟

نيلز هاڤ: لست خبيرًا في الأدب العربي، أتحدث كرجل أعمى يتحدث عن الألوان. عالمنا مبني من الكلمات والقصص. نجيب محفوظ بحكاياته بنى مصر القرن العشرين. نجيب محفوظ علم المصريين معنى أن تكون مصريًا. عندما حصل على جائزة نوبل عام 1988، قالت الأكاديمية السويدية في دافع: "نجيب محفوظ شكل فن سرد عربي ينطبق على البشرية جمعاء". هذا هو أعلى مدح يمكن أن تقدمه لأي مؤلف.

أعتقد أن صديقي الروائي شاكر الأنباري هو الذي أطلعني على أبو العلاء المعري الشاعر العربي الكلاسيكي الكفيف والمعروف بتأليف الشعر المتميز. وأدان ظلم ونفاق الحكام وعلماء الدين منذ ألف عام. لسوء الحظ، لا تزال كلماته ذات صلة ؛ الحكام وعلماء الدين لم يتحسنوا كثيرا، ويبدو أنهم طلاب بطيئون وسيئون. وعليهم أن يدرسوا أبي العلاء المعري بتواضع واحترام.

3- ما هو دور الشعر وأنواع الفنون الأخرى في الحياة الاجتماعية؟

نيلز هاڤ: عندما تم تنصيب جو بايدن كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، كانت الشاعرة أماندا جورمان تقرأ في الحفل. قد يقوم الشاعر بدور مماثل في ثقافات مختلفة. لكن في الحياة اليومية، وفي معظم الأوقات، يكون الشاعر دخيلًا. لصوص وحيد في الصحراء. نحن عازفون منفردون، نحتفل بنفس فضائل البدو: المثابرة والكرم. يعرف بعض الشعراء من زملائنا المعاناة والجوع. يبدو أن القوة والمال يحكمان العالم. لكن على مستوى أعمق، هذا مجرد وهم. هناك قيم أعلى من الذهب والثروة وسفن الفضاء. إن تذكر هذا والاحتفاظ بهذه المعرفة من مهام الشعر نحن جميعنا نحمل كلمات قيمة في قلوبنا، ممكن ان تكون اغنية او سطور مكتوبة من شاعر فكل هذه القيم تبقينا على قيد الحياة.3275 نجوى الغزال ونيلز هاف

4- هل من ينعم بالإنسانية في مستواها الرفيع يستطيع أن يكتب الشعر أم العكس هو الصحيح؟

نيلز هاڤ: شكرا لك، هذا سؤال رائع. الهوية هي موضوع مركزي طوال هذه السنوات. مواجهة مع الغطرسة الثقافية. تحتوي الثقافة في جميع القارات على نفايات من الماضي. نحن مثقلون بالهوية، فأنت روسي أو مصري أو هندي أو إنويت كندي قبل أن تصبح إنسانًا. تلك هي المشكلة. لقد ولدنا عراة، لكننا على الفور نرتدي ملابسنا وثقافتنا وديننا. علينا أن نتخلى عن أجزاء من لباسنا الثقافي ونلتقي ببعضنا البعض كبشر. ثم نحن على نفس المستوى.

القصائد الجيدة تنمو في الأماكن المتواضعة. لا توجد قواعد، نحن نعلم ذلك. القصائد الحقيقية أناركيون. لهذا يخاف بعض الحكام من الشعر، والشعراء لا يحترمون السلطة السياسية. هذا هو السبب في أن بعض الطغاة الضعفاء لا يستطيعون النوم في الليل، فهم خائفون. قد يُمنع الشعراء من تلاوة الشعر، ولكن الريح تهمس بالحق.

5- ما هو الدرس الذي تريد من قرائك أن يستخلصوه من كتابك "لحظات السعادة"، وهل تكفي لحظات قليلة من السعادة لإعطاء روح العطاء والحب مرة أخرى؟

نيلز هاڤ: آمل أن يأخذ القارئ القصائد التي يحتاجها ويستخدمها في حياته. لقد كتبت القصائد، والآن لم تعد تخصني، فكيف تُقرأ القصائد خارج عن إرادتي. أحب ذلك.

بعد قولي هذا، من الواضح بالطبع أنني آمل أن يلتقط القارئ المزاج الأخلاقي والإنساني الأساسي لقصائدي.

أنا فخور بترجمة بعض أشعار "لحظات السعادة" إلى العربية للشاعر سليم العبدلي. إن الترجمة من قبله هي متعة خاصة لأن سالم هو صديقي، ولكن أيضًا لأن سالم دنماركي ويفهم الفروق الدقيقة في اللغة الدنماركية، وفي نفس الوقت يتقن اللغة العربية إلى حد الكمال، لأنه هو نفسه شاعر و يكتب باللغتين، كما أنه يترجم أدونيس إلى الدنماركية.

6- هل الأعمال الأدبية المترجمة إلى لغة أخرى غير اللغة الأم تؤثر على الناس كما تفعل اللغة الأصلية؟

نيلز هاڤ: لا نعرف أبدًا. أشعار وأغاني السفر. عند ترجمتها، فإن القصائد لها حياتها الخاصة. انه جميل. الوباء والكورونا يغلقان العديد من الحدود هذا الشتاء، نحن نجلس في عزلة منفصلة حول العالم. لكن قصائدنا تسافر. مثل الاحلام. دعونا نكتب شعرا عظيما ونحلم بأحلام كبيرة.

7- ما هو الدافع وراء مشاركتك في كتاب "ازاهير الأدب" الذي يصدر عن ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد؟

نيلز هاڤ: كتاب "ازاهير الأدب" مشروع مثير للاهتمام ومنصة جديدة بالنسبة لي. دائمًا ما أتوق للعودة إلى القاهرة وربما أحضر يومًا ما معرض الكتاب هناك. مصر دولة قديمة بها عدد من الشباب، ومن بين الشباب هناك تعطش كبير للكتب لمزيد من الحياة والسعادة والتبصر في ألغاز الكون. إنها معجزة أن الطاقة البرية والبراعة الملهمة تولد من جديد في كل جيل جديد. كوكبنا، الذي نشاركه، يدور من خلال الكون. هناك مشاكل مناخية ومشاكل سياسية وكوارث يومية وجوع وفقر. لكن الحماس الحيوي لحياة الشباب يسمح لنا أن نأمل في أن تنتظرنا أيام أجمل.

ترك الفراعنة المصريون القدماء الأهرامات لأحفادهم. ماذا نترك ورائنا للجيل القادم؟ النفايات البلاستيكية والأضرار المناخية؟ دعونا نحقق شيئًا عظيمًا معًا، دعونا نتشارك موارد الكوكب بشكل عادل ونعيش في وئام مع الثقافات والأديان المختلفة. من السابق لأوانه الاستسلام. ربما يجب أن نبني هرمًا عظيمًا واحدًا للاحتفال بعصرنا الذهبي من الاحتمالات يجب أن نترك شيئًا جميلًا لأحفادنا.

***

حاورته من لبنان الصحفية: نجوى الغزال

........................

بقلم: نزار سرطاوي:

نزار سرطاوي"يعتبر الشاعر وكاتب القصص الدنماركي نيلس هاو واحداً من الأصوات البارزة في المشهد الأدبي الإسكندنافي المعاصر. يميل شعر هاو إلى البساطة، ليس في الأفكار التي يطرحها والتيمات التي يتناولها فحسب، وإنما أيضاً في المفردات والصور والإيقاع. فهو يتناول قضايا الإنسان وهمومه وتفاعله مع الحياة المعاصرة دون أي تكلف أو تعقيد. كما أن الكثير قصائده تسودها روح الدعابة والسخرية.

ولد هاو في مزرعة ريفية في بلدة ليمفيغ الواقعة على الساحل الغربي لشبه جزيرة يوتلانت غربي الدنمارك عام 1949. وقد تحدث هاو في مقابلة صحفية عن طفولته في المزرعة فوصفها بالحياة الريفية التي "تفتقر إلى الكثير من متع الحياة،" كما ذكر أنه في السادسة عشرة من عمره ترك المزرعة وسافر إلى أوسلو ليصبح بحّارًا، لكنه لم يتمكن من تحقيق حلمه. وقد التحق فيما بعد بالجامعة، حيث درس اللغتين اللانينية واليونانية ,واطّلع على التراث الكلاسيكي.

بدأ هاو كتابة الشعر في سن المراهقة. فكتب قصائد قال عنها هو نفسه إنها كانت "شديدة الحساسية وغير مكتملة،" إذ لم تكن لديه "تجربة كافية عن الحياة." استهلّ حياته الأدبية في عام 1981 بإصدار مجموعة قصصية بعنوان "الضعف ممنوع." وقد صدرت له بعدها عدة دواوين منها "جغرافية الروح" (1984)، "سيارة الرّب الموريس الزرقاء" (1993)، "حين أصير أعمى" (1995)، "نحن هنا" (2006)، "نساء كزبنهاجن" (2013)، كما صدرت له مجموعات من القصص القصيرة منها "اللحظة هي افتتاحية"(1983)، "صيف إيراني" (1990). كذلك نشرت قصائده في العديد من المجلات الأدبية والأنثولوجات الشعرية والمواقع الأدبية.

شارك هاو في العديد من المهرجانات الشعرية في أنحاء العالم وفاز بجوائز أدبية متعددة في الدنمارك. كما فاز عام 2011 بـ "جائزة المهاجر العالمية للفكر والآداب والفنون" من ميلبورن في أستراليا، فرع القصة القصيرة، مناصفةً مع الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني.

ترجمت أشعاره إلى الإنجليزية، الإسبانية، البرتغالية، التركية، الألمانية، الإيطالية، المقدونية، العربية، الصينية، الصربية، والكرواتية.

قوبل هاو بالترحيب من قِبَل القراء العرب. فقد دعته مؤسسة البابطين للمشاركة في ملتقى "الشعر من أجل التعايش" الذي رعته المؤسسة في دبي عام 2011. كما شارك في مهرجانات شعرية في أكثر من دولة عربية. وقد أجريت معه عدة لقاءات صحفية تناول فيها هموم الأدب والشعر في الدنمارك والعالم، وعبر من خلالها عن إعجابه باللغة العربية وما تتمتع به من ثراء.

كذلك قام عدد من المترجمين العرب من بينهم جمال جمعة وسليم العبدلي ونزار سرطاوي بترجمة العديد من قصائده إلى العربية. وصدر له في العربية ديوانان مترجمان: الأول بعنوان "حين أصير أعمى" (2010) وقد ترجمه الشاعر العراقي جمال جمعة. والثاني "الروح ترقص في مهدها" (2015) وقد ترجمه نزار سرطاوي. يعيش هاو مع زوجته عازفة البيانو كريستينا بيوركي في إحدى ضواحي العاصمة الدنماركية كوبنهاجن. "

 

3010 استرق عزاويالناشط الثقافي المغترب مهيمن مقداد مسلم: هدفنا ترسيخ الثقافة العراقية في المغرب العربي الكبير .

الشاب مهيمن مقداد مسلم أحد الشباب العراقيين الطموحين من الذين يسكنهم حب الثقافة والفن وقد لا يكون ذلك مصادفة فهو نجل الفنان د. مقداد مسلم أحد الاسماء المسرحية العراقية التي قدمت للمسرح العراقي تجارب كثيرة إتسمت بخطها الأسلوبي الخاص وتميزها الى جانب كونه أستاذا للفنون المسرحية في معهد الكاف بتونس . مهيمن مقداد مسلم الشاب الطموح ينظر الى تراث بلده الثقافي بوصفه ثروة لابد من تعزيز إمكانيتها وتنشيطها بعد فصول الحروب والحصار، فأخذ على عاتقه إنشاء تنسيقية ثقافية في تونس البلد الذي يقيم به منذ سنوات، إلتقيته في مناسبات ثقافية وأمسيات ثقافية في تونس فكان معه هذا اللقاء.

من هو مهيمن مقداد مسلم؟

- مبرمج حاسبات عراقي مغترب عملت في رئاسة الجمعية الوطنية العراقية ثم استاذ تعليم ثانوي خارج العراق في المدرسة العراقية بتونس ثم المدرسة البريطانية الخاصة بتونس.. ناشط بالمجال الثقافي وحقوق الانسان منسق عام للتنسيقية التونسية العراقية للثقافة .

ماهو مشروعكم الثقافي الذي تتبنونه؟

- العراق بلد الابداع والثقافة ومهد الحضارة التي أهدت العالم الفنون ...لكن للاسف منذ فترة النظام السابق تحولت الثقافة العراقية الى اداة لنشر وتبيض صورة النظام السابق في الخارج والداخل ... وبعد تغيير النظام قاد العراق مجموعة اخرى من الاحزاب التي لم تكترث بمسألة الثقافة العراقية ونشرها لانها ليست على سلم أولوياتها ... انا اتبنى مشروع اعادة التميز والهيبة للثقافة العراقية وحلم اقامة بيت ثقافي عراقي في كل عاصمة في العالم لاظهارهوية العراق بالصورة الصحيحة والموضوعية بعد أن تعرضت لتشويه النظام السابق والحالي .3010 استرق عزاوي

كيف تقيّم المشهد الثقافي العراقي في الداخل والخارج في ظل تجاذب الاطراف السياسية ومحاولة استيلائها على حقيبة الثقافة؟

- اصبحت وزارة الثقافة العراقية وزارة اللا ثقافة بسبب ساحة للمحاصصة بين الاحزاب لكي تتم سرقة التخصيصات المالية من الميزانية وتجييرها للحزب الذي يديرها، فلم نر اي وزير للثقافة الا وكان هدفه ارضاء حزبه .. فلم تنجح في اعادة صورة العراق الثقافية الى وضعها ةحجمها الطبيعي من خلال مشروعات ثقافية مهمة ذات بعد أقيمي ودولي، الى جانب تعثر الكثير من المشروعات الأساسية مثل مشروع بناء دار الاوبرا الذي أثير حوله لغط كبير كما أن الوزارة لم تعمل على استقطاب الطاقات العراقية المغتربة او احتوائهم كخبرات متميزة لتساهم ببناء المشهد الثقافي والفني لعراق اليوم مع زملائهم من فناني ومثقفي الداخل فظهر المشهد الثقافي العراقي باهتا لم يرتق لاسم العراق ولم يقدم سوى الصورة الرديئة التي لا تتناسب مع ما يملكه العراق من أرث ثقافي وكوادر ومثقفين كبار ... الامر الذي يحتم وجود ثورة حقيقية تتخلص من البروتوكولات المفصلة على قياس المافيات والبروتوكولات الحزبية وتعطي المثقف العراقي حقه كونه ثروة وطنية لا تقل اهمية عن النفط دون النظر الى طائفته او دينه .

نظمّتم مؤخرا في تونس الاسبوع العراقي التونسي بعنوان تونس تحتضن بغداد وهي فعالية غير حكومية .ماهو الهدف من هذا الحراك الثقافي؟

إنطلقت فكرة إقامة أسبوع ثقافي عراقي تونسي بمعية إعلاني تونسي شاب وهو (محمد وليد الجوادي) كخطوة لتميتن عرى الثقافة بين الشعبين التونسي والعراقي على أن تكون التظاهرة الثقافية المذكورة تقليد سنوي وبشكل دوري .

ا لهدف من هذا الحراك هو اعادة الثقافة العراقية الى المشهد الثقافي في المغرب العربي الكبير انطلاقا من تونس حيث ان الشعوب في المغرب العربي الكبير متعطشة للإطلاع على نتاجات الثقافة العراقية والانفتاح على العراق بعد عقود من العزلة وخاصة أن العراق لا تربطه علاقات اقتصادية او سياسية كبيرة بهذه البلدان لذا تعد نافذة الثقافة والفنون فضاءا رحبا ً لتعزيز حضور الثقافة العراقية وحاليا أعتقد أن العلاقات الثقافية هي البارزة بين العراق وتلك الدول ... وللمفارقة لم ينجح العراق في تنظيم مثل هذه الايام الثقافية منذ ثلاثين عاما بل لا يملك العراق لاملحقا ثقافيا ولا مركزا ثقافيا في اي من هذه البلدان ... فقط بنايات مهجورة كانت في يوم ما تنشر الثقافة العراقية... فتحركنا لأجل التعاون الثقافي من خلال منظمات المجتمع المدني وبمعزل عن أي سلطة حكومية وبوصفي ناشطا في الشأن الثقافي أسعى لتعزيز الجهود لتوسيع نطاق التفاعل الثقافي بما ينعكس إيجابيا ً على الطرفين ولن يكون حراكنا الاخير وسنعمل بكل جد لاعادة الثقافة العراقية في المغرب العربي الكبير الى وضعها الحقيقي .

كلمة أخيرة .

- في الختام لكم جزيل التقدير والشكر والامتنان

واملي وحلمي الكبير ان يعيد العراق الهيبة لمثقفية الكبار وهم الثروة الحقيقية للعراق.. وان لا يتركوا للغربة تاكلهم ... اكرر شكري وامتناني.

 

حاورته إستبرق عزاوي

 

3266 ابو الرجاء والقاسميالدكتور علي القاسمي مفكر أديب مترجم عراقي جاء إلى المغرب بعد أن حصل على الدكتوراه في المعجمية والمصطلحية بجامعة تكساس بأوستن في الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرّْس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1972، فوقع في حب المغرب: أهلاً وحضارة وطبيعة، فأقام فيه.

كتب في القصة والرواية والنقد والتنمية البشرية وحقوق الإنسان، وتُرجِم عددٌ من أعماله الأدبية إلى بعض اللغات كالإنكليزية والفرنسية والرومانية والفارسية وغيرها. وفي الشهر الماضي صدرت روايته " مرافئ الحب السبعة" باللغة الفرنسية Les Sept Ports de l’amour

عن دار لارماتان L’Harmattabn في باريس. كما كتب بحوثه المتخصصة باللغتين الإنكليزية والعربية. ومن أهم أعماله كتاب Linguistics and Bilingual Dictionaries (اللسانيات والمعاجم الثنائية اللغة) الذي نشرته دار بريل في لايدن بعدّة طبعات، إذ تعتمده الجامعات الناطقة بالإنكليزية مرجعاً في الموضوع. ويعدّ القاسمي رائداً في صناعة معاجم الاستشهادات.

ألَّف القاسمي أكثر من خمسين كتاباً، وأُنجِز عن أعماله أزيد من خمسين رسالةً جامعية وكتاباً.

وقد آثرتُ أن يتناول حواري الأول معه بعض قضايا الترجمة.

إلياس أبو الرجاء

**

س1: تلقيت تعليمك في جامعات مختلفة حول العالم بين العراق ولبنان والنرويج وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. هل لهذا التنوع في المشارب الثقافية أثر على شخصية علي القاسمي الأدبية؟

ج1: ما تفضلت به هو عين الصواب. كان لذلك التنوع أثر إيجابي عليَّ. وهذا قانون كوني. ففي التنمية البيئية، مثلاً: كلّما تنوعت نباتات البيئة وحيواناتها وطيورها، كلّما ازدادت نمواً وتطوراً. وهذا ينطبق على البشر وعلى ثقافتهم كذلك، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: " اغتربوا لا تضووا" في النهي عن زواج الأٌقارب". وحث القرآن الكريم الناس على التعارف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...). والتعارف هنا لا ينحصر في التعرّف على الآخر، بل يعني كذلك اكتساب المعرفة منه وتبادلها معه.

وفي الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية، يُشجَّع الطالب الذي يريد مواصلة دراسته بعد الماستر، مثلاً، على دراسة مرحلة الدكتوراه في جامعة أخرى، ليطلع على طرائق مختلفة، وأراء متباينة، تجعل معارفه أشد متانة. والتنوع الثقافي في البلاد يزيد فيها الإبداع والابتكار.

 س2: ذكرت في دراسة عنوانها "في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقا" أن أمانة المترجم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضا. كيف للمترجم أن يجمع بين هذين الفعلين دون تطاول على النص الأصلي؟

 ج2: إن إنجاز التكافؤ في الترجمة يتطلّب تحقيق ثلاثة أنواع من التماثل بين النص الأصلي والنص المُترجَم:

1ـ التكافؤ اللغوي، أي نقـل العناصر اللغوية للنصِّ بصورة جيّدة. وهذا يشمل المضامين.

2ـ التكافؤ الثقافي، أي نقل العناصر الثقافية الظاهرة والمضمرة للنص، وهذا يشمل ثقافة الكاتب الأصلي.

3ـ التكافؤ الجمالي، أي نقل الأثر الجمالي الذي يحدثه النص الأدبي الأصلي على متلقّيه في لغته، بحيث يُحدِث هذا الأثرُ الجماليُّ الوقعَ ذاته على متلقّي الترجمة، وهذه المرحلة الأخيرة أصعب مرحلة في الترجمة الأدبية. وهذا يشمل الأساليب.

وشرط التكافؤ بين النص الأصلي والنص الهدف في الترجمة، بأبعاده الثلاثة: اللغوي والثقافي والجمالي، أصعب بكثير وأشد تعقيدا من شرط التكافؤ بين الزوج والزوجة في الفقه الإسلامي.

س3: هناك من يعتبر أن تأليف كتاب أصعب من ترجمته. أنت زاوجت بين الكتابة والترجمة، أيهما أصعب في نظرك؟

ج3: تنتج الصعوبة في أي عمل من أحد أمرين:

الأول، النقص في التأهيل اللازم للقيام بذلك العمل، وهذا يتضمَّن الخبرة المطلوبة لتأديته.

والثاني، عدم محبة العمل وعدم الاستمتاع به. فبالحب ينفعل الوجود.

ولكي تكون سعيداً في حياتك، ينبغي أن يكون تفكيرك إيجابياً، وتحبّ البلاد التي تعيش فيها، وتحبّ الناس الذين تخالطهم، وتحبّ العمل الذي تزاوله.

س4: سبق وكتبت أن الترجمات العربية السابقة لقصة "الشيخ والبحر" لم تنقل مضامين القصة بدقة. ما الذي يميز ترجمتك لهذا العمل عن باقي الترجمات العربية السابقة؟

 ج4: إن مقالي الذي تفضَّلتَ بذكره في سؤالك الثاني، " في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقاً،" وهو بحثُ أعددتُهُ استجابة لطلب من كلية الآداب بجامعة القاهرة لنشره في مجلتها " لوغوس"، كان عليَّ أن أقوم بترجمة عمل أدبي سبق أن تُرجم كثيراً إلى اللغة العربية. ودلني الاستقصاء أن أهم الأعمال الأدبية التي نُقلت إلى اللغة العربية في العصر الحديث هما: " رباعيات الخيام" التي تُرجمت إلى العربية أكثر من خمسين مرة، و" الشيخ والبحر" لهمنغواي الذي تُرجم إلى العربية أكثر من ثلاثين مرة. وبما أنني لا أجدي اللغة الفارسية، ولا أحبذ الترجمة عبر لغة وسيطة، فقد وقع اختياري على ترجمة " الشيخ والبحر". وبعد أن ترجمتُ الكتاب قارنته باثنين من الترجمات السابقة، فوقفت على ما يأتي:

قبل كل شيء، لا توجد ترجمة كاملة، لا ترجمتي ولا ترجمة الاخرين، لأن الترجمة عملية معقدة. فالمترجم وسيط بين لغتين مختلفتين، وبين ثقافتين غير متطابقتين، وبين شخصيتين متباينتين هما الكاتب الأصلي، والقارئ المُترجم له. والنجاح في الترجمة نجاح نسبي، يعتمد على نسبة التكافؤ الثلاثي الذي يتمكن كل مترجم من إنجازه.

ففي التكافؤ اللغوي مثلاً يختلف المترجمون في اختيار الألفاظ من بين ألفاظ مترادفة أو شبه مترادفة، وفي تركيب الجملة، أي نظم تلك الألفاظ في عبارات يُقدَّم بعضها على الآخر، من أجل تيسير فهم النص المُترجَم.

وفي التكافؤ الثقافي، يسلك المترجمون طرقاً مختلفة، فإذا ورد اسم " طارق بن زياد" في نص عربي يُراد ترجمته إلى اللغة الرومانية، مثلا. ماذا يفعل المُترجم بهذا الاسم الذي يشكّل جزءً من الثقافة العربية الإسلامية، ولكنه ليس كذلك في الثقافة الرومانية؟؟! هل يضيف جملة اعتراضية للتعريف بهذا الاسم في متن النص؟ أم يضعها في الهامش؟ أم يدمجها دمجاً في النص المترجَم كما لو كانت موجودة في النص الأصلي؟ وأي طريقة أفضل.

في الشهر الماضي، نوقشت أطروحة دكتوراه وأجيزت، قدّمها في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس الباحث مصطفى سنون بإشراف الدكتور يونس لوليدي، عنوانها " الترجمة والتأويل وتحديات ترجمة النصوص الأدبية؛

ترجمة منير البعلبكي وعلي القاسمي لرواية الشيخ والبحر لإرنست همينغواي نموذجا".

وكان المرحوم منير بعلبكي ناشراً فهو صاحب دار العِلم للملايين، وكان يُلقَّب بشيخ المترجمين العرب، وهو مؤلّف أفضل معجم إنكليزي ـ عربي حديث، وقد ترجم " الشيخ والبحر" حال صدورها في أمريكا قبل قرابة خمسين عاماً. وأنا أعّد نفسي مجرّد واحد من طلابه والمنتفعين بعلمه ومعجمه، رحمه الله. ومع ذلك فإن الباحث الفاضل وجد إخفاقات في ترجمة شيخ المترجمين العرب، وفي ترجمتي كذلك ذكرها في أطروحته. وأحسب أن الذائقة الأدبية كذائقة الطعام تختلف من شخص إلى آخر. فالأسلوب ليس معادلة في الجبر أو الهندسة.3266 ابو الرجاء والقاسمي

س5: كما هو معلوم، للنص حرمته التي يجب على المترجم ألا ينتهكها، وهوية ينبغي ألّا تضيع، وبالتالي فالمترجم هنا مقيد بمجموعة من المسؤوليات الأخلاقية. ألا يؤثر استحضار كل هذه الهواجس على المترجم أُثناء عملية الترجمة؟

ج6: إن المترجم يدرك جسامة مسؤولياته، بيدَ أن الفجوات المعجمية والثقافية والجمالية بين اللغة الأصلية واللغة الهدف تضطره أحياناً إلى اقتراف خروقات في النقل . ولهذا يوجد مثل إيطالي مشهور هو: Traduttore, traditore

" المترجم خائن". وقرأتُ دراسة ذات مرة لباحث أكاديمي كندي يتساءل فيها لماذا لا تمتلئ السجون بالمترجمين الذين يقترفون جرائم الخيانة، والاحتيال، والسرقة والكذب والحذف والإضافة وغيرها!

دعني أضرب لك مثلاً عمليا عايشته بنفسي: عندما انعقد مؤتمر تأسيس " المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكوـ" بفاس سنة 1982 حضره ممثلو البلدان الإسلامية، ومنها إندونيسيا. وعندما أُرسِل ميثاق المنظمة لتلك البلدان للتوقيع عليه، تأخرت إندونيسيا في الاستجابة. وبعد مدة تساءل المدير العام للمنظَّمة المفكر السياسي المرحوم عبد الهادي بوطالب، عن سبب التأخير. أكتشفَ أن النص الإنكليزي الذي أرسل إلى وزارة الخارجية الإندونيسية في جاكارتا، يتكلّم عن الدول الإسلامية Islamic States وليس عن البلدان الإسلامية . Islamic Countries  وفي الدستور الإندونيسي، لا تُعدّ إندونيسيا دولة إسلامية على الرغم من كونها بلدا إسلامياً. والفرق كبير بين المصطلحين قانونياً وسياسياً.

س6: لماذا إرنست هيمنجواي بالضبط وليس غيره من الكتاب الأمريكيين الكبار، بول أوستر مثلا؟

ج6: لأنه لا توجد في البلدان العربية مؤسسة مسؤولة عن الترجمة إلى اللغة العربية: أهدافها، ومجالاتها، وكمياتها، ونوعياتها، وحقوق المترجمين، إلخ. بلى توجد مؤسسة بالقاهرة أسسها الصديق المرحوم الدكتور جابر عصفور، ولكنها صغيرة خاصة بمصر.

ولهذا فإن الترجمة تخضع لذائقة المترجم وتقديره وميوله. ومن ناحيتي، ترجمتُ بضع روايات أمريكية، اثنتان منها لهمنغواي. والسبب في ذلك أن همنغواي، في تقديري، أشهر روائي وقاص في تاريخ الأدب الأمريكي، اضطلع بتجارب عديدة في لغة السرد عندما كان مراسلاً صحفياً مقيماً في باريس في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، واستطاع تغيير اللغة الأدبية في أمريكا وتبسيطها، كما تمكّن من ابتكار " أسلوب " خاص به يُسمونه " أسلوب جبل الجليد"، لأنه يستدعي مشاركة القارئ في الإبداع. فالقارئ يرى قمة جبل الجليد في البحر ولا يرى قاعدته الضخمة المغمورة في الماء، وعليه أن يتخيلها، ويملأ الفراغات في النص. ولقد تعلمتُ كثيراً من همنغواي وتأثرتُ به، وبغيره من كبار الكتاب، في قصصي ورواياتي.  - هل هناك محددات تتحكم في اختيارك للعمل الذي ستترجمه دون غيره من الأعمال الأخرى؟ (تمت الإجابة عليه في ج6 السابق)

س7: أثناء استعدادك لترجمة "الشيخ والبحر"، أمضيت ليلة كاملة في مركب شراعي صغير بمدينة الصويرة. ماهي المدينة المغربية التي تساعدك على الإبداع أكثر؟

ج7: جميع المناطق المغربية جميلة ملهمة تساعد على الإبداع والكتابة. ولكني في الوقت الذي كنتُ أستعد لترجمة "الشيخ والبحر" كنتُ ضيفاً على طبيب صديق في مدينة الصويرة الجميلة. وكنا نتناول بعض وجباتنا في ميناء الصيد التاريخي في المدينة. وشعرتُ بأن من المفيد جداً لي أمن أقف عملياً على مجريات صيد السمك ليلاً. وينبغي أن أتفق مع أحد الصيادين الذي يملك قارب صيد شبيه بقارب همنغواي الذي كان يمارس به الصيد في شواطئ هافانا بكوبا. قارب يتسع لراكب أو لراكبين فقط، ويحتوي على مجذافين للتجذيف عند الخروج من المرفأ كما أنه مزود بشراع يساعد على التنقل وسط البحر أثناء انشغال الصياد بشباكه. وعندما تحدثت إلى الصياد صاحب القارب المطلوب عن إمكان مرافقته وشرحت له السبب، قال بأريحيته المغربية:

ـ مرحباً بك.

فسألته:

ـ وكم أدفع لك؟.

أجاب مع ابتسامة كريمة:

ـ لا شيء . أنا الذي أدفع لك، لأنك ستؤنسني.

وخرجنا من المرفأ قبيل منتصف الليل وعدنا مع الفجر محملين القارب بالسمك. وهذه من الليالي التي لن أنساها ما حييت، وزادتني حباً بالمغرب وأهله الكرماء.  

س8: ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟

ج8: تشكّل الترجمة جزءاً صغيراً من اهتماماتي العلمية والأدبية. ففي الشهور القليلة الماضية كنتُ منشغلاً في كتابة قصص قصيرة، أَطلقَ عليها الشاعر الكبير الناقد الدنماركي (الدكتور قصي الشيخ عسكرـ عراقي الأصل يقيم في لندن) اسم " قصص السيرة" واعتبرَ أنها نوع جديد من أنواع القصة القصيرة. وستصدر هذه القصص في مجموعة قصصية عنوانها " الآنسة جميلة وقصص أخرى" عن دار الثقافة في الدار البيضاء، هذا العام إن شاء الله.

كما أكملتُ كتاباً جديداً عنوانه " قصص همنغواي الإفريقية: ترجمة ونقد مقارن" وهو لدى أحد الناشرين اللبنانيين، وقد تأخر صدوره بسبب الجائحة وظروف لبنان، التي نأمل أن يتجاوزها بنجاح.

س9: معظم ترجماتك كانت من الإنجليزية إلى العربية. ألا تشكل الترجمة من العربية للإنجليزية أهمية بالنسبة لك؟

ج9: جميع ترجماتي من الإنكليزية (ونادراً من الفرنسية) إلى العربية. فأنا لا أترجم إلى الإنكليزية، بل أكتب بالإنكليزية بعض مؤلَّفاتي العلمية عن المعجمية والمصطلحية. وفي درس الترجمة، يُفضَّل أن يُترجِم الفرد إلى لغته الأم، وليس إلى اللغة الأجنبية. وهذا ما تسير عليه منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات المتفرعة عنها كاليونسكو، وغيرها. فالإنسان أقدر على التعبير في لغته الأم عن الأفكار التي تدور في ذهنه. والاستيعاب والتعبير مهارتان لغويتان، بيدَ أن التعبير أصعب من الاستيعاب. ولهذا يفضل أن يضطلع المترجم بالتعبير عن الأفكار إلى لغته الأم، تخفيفاً من صعوبة التعبير.

س10: ساهمت في إغناء المكتبة العربية بعشرات المؤلَّفات في علم المصطلح وصناعة المعجم والترجمة والقصة والرواية. هل علي القاسمي راض عمّا أنجزه أم أنه لازال يتطلع للأفضل؟

ج9: شكراً على لطفك، فأنا لا أحسب أنني أغنيتُ المكتبةَ العربية، فهي مفتقرة إلى كثير من الجهود لتبلغ ما تستحق بوصفها أمَّ اللغات العالمية جميعاً. فقد أثبت بحثٌ علميٌّ حديث اضطلعت به جامعتا ليدز في بريطانيا وجامعة بورتو في البرتغال، واستغرق سنوات طويلة، واستخدم تقنيات عديدة مثل تحليل الجيات، وتحليل الخلايا، وتحليل الحمض النووي، للإجابة على سؤال واحد: هل البشرية من سلالة واحدة أم من سلالات مختلفة؟

فقد كان العلماء في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين يزعمون أن البشرية انحدرت من ثلاث سلالات: البيضاء في أوربا، والسوداء في إفريقيا، والصفراء في آسيا؛ وأن السلالة البيضاء أذكاها وأرقاها، وعليها واجب استعمار بقية الشعوب لتمدينها وترقيتها. ولكن هذا البحث العلمي الجديد أثبتَ أن البشرية جميعها من سلالة واحدة نشأت وترعرعت في جنوبي جزيرة العرب. وقبل حوالي 70 ألف سنة انطلقت رحلات، مما يسمى اليوم بسلطنة عُمان، واتجهت شرقا إلى آسيا بحرا، وإلى أوربا براً عن طريق إفريقيا والشرق الأوسط، وهكذا سُكِنت المعمورة. ونشِرت نتائج هذا البحث المدهش مجلتان اطلعتُ عليهما سنة 2012 هما المجلة الأمريكية للجينات البشرية، American Journal of Human Genetics

في عددها لشهر فبراير 2012، وكذلك مجلة لوبوان الفرنسية Le Point التي نشرت مقالاً للعالِم الفرنسي لوينو بعنوان مثير " كلنا عرب" Nous Sommes tous des

arabes” (تستطيع أن تطلع على المقال بواسطة هاتفك المحمول المتصل بالشابكة.

ولهذا فإن اللغة العربية الأم واللغات التي تفرّعت منها وتسمى باللغات الجزيرية كالأكدية والعبرية والسريانية والكنعاية والأمازيغية وغيرها، هي التي انتقلت إلى بقية أنحاء المعمورة وتحولت إلى لغات جديدة بسبب الظروف الجغرافية والمناخية وغيرها، وبقيت كثيرٌ من المفردات ألأساس للغات الجزيرية في اللغات الجديدة. والمبدأ في علم التأثيل أن هجرة اللسان من هجرة الإنسان.

وعلي الرغم من هذه المكانية التاريخية السامقة للغة العربية الفصيحة (وهي الأقرب إلى اللغة العربية الأم، كما أثبتَ علماء اللسانيات المقارنة، فإن العربية تحتل الرتبة 17 في مقياس "مقدار المحتوى الشابكي" (أي محتويات أكبر 10 ملايين موقع على الشابكة). أي أن رتبة العربية تقع بعد اللغات البرتغالية والإيطالية والفارسية والصينية والبولونية والهولندية والتركية والتشيكية والكورية والفيتنامية. والسبب في ذلك أن الدول التي تستعمل تلك اللغات تعلِّم بلغاتها الوطنية جميع العلوم والآداب، أما لبلدان العربية فتعلم العلوم اليوم بلغات المستعمِر القديم كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وأية لغة أخرى ما عدا العربية. وهكذا فأطباؤنا ومهندسونا وعلماؤنا لا يستطيع أغلبهم إنشاء مواقع شابكية في مجال تخصصاتهم، أسوة بنظرائهم في تلك البلدان، إما لعدم فهمهم لتلك العلوم فهما عميقاً عندما درسوها بلغات أجنبية في جامعاتهم، أو لعدم تمكنهم من التعبير بتلك اللغات الأجنبية. وهذه ظاهرة خطيرة على التنمية البشرية، لأن العلم يبقى محصوراً في نخبة تجيد لغة التعليم العالي، على حين أن المعرفة في تلك البلدان المتقدمة تكون مفتوحة للجميع لأنها باللغة الوطنية.

وعلى كل، فجواباً على سؤالك الكريم: أنا لم أفعل شيئاً يُذكر. أنا مجرد طالب علم يجد راحته في القراءة والكتابة.

انتهى.   

 

حاوره: إلياس أبو الرجاء 

 

راضي المترفيانا بنت العراق اعمل لكي اترك اثر ايجابي في المجتمع من خلال اعداد وتقديم البرامج التي تخدم الاسرة بجميع افرادها

غالبا ما يتم اختيار المذيعة ومقدمة البرامج وفق معايير جمالية معينة وهذه المعايير تشترط اللباقة وسرعة البديهية وقدرة على اتخاذ القرار إضافة لجمال الوجه واعتدال القوام وحسن المظهر وقوة الحجة وجمال المنطق وبما أن الصدفة اليوم حطت بي على رحاب مذيعة ومقدمة برنامج تحت عنوان (سنة أولى زواج) تزاحم في نفسي الفضول الصحفي وارتفعت مناسيب المشاكسة الصحفية وحاولت الدردشة معها من دون استئذانها وقد انجح في جرجرتها إلى زوايا معينة لتسليط الضوء عليها ..

- صباح الخير أيتها الجميلة

- صباح السرور ورضا الله سبحانه

شهرزاد احتلت مكانها بجدارة في حكايات الألف ليلة وليلة.. فهل انت سليلة او نظيرة او امتداد لها؟

- انا بنت العراق اعمل لكي اترك اثر ايجابي في المجتمع من خلال اعداد وتقديم البرامج التي تخدم الاسرة بجميع افرادها

- أين يقف شهريار خلف المذياع أو امامه؟

- ليقف في المكان الذي يناسبنه فلسنا في قاعة امتحان .

- لك صوت البلابل وجمال النجمات وحنان الأمهات.. كيف اجتمعن بك؟

- هذه نعمة من الله فشكرا لله

- هل تتعرض الجميلات امثالك إلى التحرش الجنسي في أروقة الإذاعة ومن من الزملاء او المسؤولين؟

- لا لم اتعرض لهكذا مواقف

- لماذا اخترت هذا الاسم لبرنامجك؟

- بسبب ارتفاع نسبة الطلاق في المحاكم وازدياد نسبة عزوف الشباب (كلا الجنسين) عن الزواج

- كيف تعدين البرنامج؟ وهل هناك من يساعدك؟

- بالبداية تقدح الفكرة عندي ثم استعين بالكتب والمراجع والاشخاص المختصين

- يتكرر ظهور رجل دين يتحدث عن الزواج في أغلب الحلقات فهل كل رجال الدين ناجحون في زيجاتهم؟ او ان الآخرين لا يصلحون لإبداء رأيهم؟

- طبعا الامر نسبي.. كل انسان من حقه ابداء رايه وطبعا نستفاد من جميع الاراء واكيد اذا حضرتك متابع البرنامج ستجد العديد من الضيوف الذين تم استضافتهم في البرنامج .

- هل انت تختارين مواد البرنامج او تقدمينها فقط؟

- انا من يختار ويعد ويقدم البرنامج .

- ماهي اهم اسباب الزواج الناجح؟

- كثيرة هي الاسباب لكن اهمها التفاهم والصراحة بين الزوجين .

- ايهما أسرع في تهديم الزواج خيانة الزوج ام الزوجة؟

- كلاهما .

- ماهي الأهم في الاختيار عند الزواج بالنسبة للرجل .. الجمال .. الحب .. النضج.. المال.. المركز.. العائلة؟ وماهي اختيارات المرأة الراغبة بالزواج؟

- بالنسبة للرجل والمراة اعتقد كل ما ذكرت لكن تتقدم وتتاخر بعض الصفات على بعض حسب شخصية الرجل او المراءة .

- ماهي اهم الأسباب في الفشل عدم اهتمام الزواج او عدم التزام الزوجة؟

- عدم اهتمام الزواج بالزوجة والاسرة هو اكيد احد اسباب الفشل وقد يكون هو سبب عدم التزام الزوجة والعكس صحيح .

- بعد الطلاق يستطيع الزوج تكرار التجربة بدون عوائق لكن المطلقة تعاني كثيرا في التكرار بسبب نظرة المجتمع .. هل هناك حل ينصف المطلقة؟

- اعتقد هناك تغيير في نظرة المجتمع للمراءة المطلقة تختلف عن قبل ٢٠ سنة بسبب التطور الحديث والبرامج التي تقدم في الاذاعة والتلفزيون ومنظمات المجتمع المدني والاعلاميين والمثقفين .

- في هذه الأيام تتناسب أرقام الطلاق مع أرقام الزواج .. ماهي الأسباب؟

- ارجو ا متابعة جميع حلقات برنامج سنة اولى زواج على اليوتيب لمعرفة الاسباب وارجوا ابداء الاراء والمقترحات والافكار لتطوير العمل مع شكري وامتناني للجميع.

- كيف تتعاملين مع زوجك وكيف تحبين ان يعاملك؟

- بما يرضي الله ويحفظ حق الطرفين .

- هل الجميلات هن الاكثر حظوظا ونجاحا في الزواج من غيرهن ولماذا؟

- ليس من شروط نجاح الحياة الزوجية الجمال فبعد التقدم بالعمر يختفي الجمال وتبقى الاخلاق والمودة والرحمة بين الزوجين .

- الجمال نعمة ام نقمة؟

- هو نعمة من الله اذا احسنا استخدامه

- هل فعلا الزواج شر لا بد منه؟

- كيف يكون شر وهو اتمام الدين؟

- بماذا تنصحين المقبلين على الزواج وبماذا تنصحين من هم على قيده؟

- متابعة البرنامج

- اخيرا هل هناك كلام لم تنطقي به بعد؟

- شكري وامتناني وعرفاني لمعلمي واستاذي الاستاذ راضي المترفي على هذه التفاته الجميلة واهتمامك وان شاء الله اكون عند حسن ظن الجميع .

. شكرتها مودعا على ماجادت به من وقت واجابات رغم قصرها كانت واضحة ومليئة بالتفائل والرضا وحبها لعملها ورغبتها في تقديم ماينفع المستمعين وتمنيت لها ولبرنامجها النجاح .

حوار / راضي المترفي

 

3257 لقاء بكر السباتينفي إطار مشروع تطوير العلاقة بين طلاب قسم الآداب في جامعة العلوم الإسلامية والمبدعين الأردنيين في كافة التخصصات* الذي يشرف عليه الدكتور عمر الربيحات أستاذ النقد الأدبي، نطل على تجربة أحد هؤلاء المبدعين، الأستاذ بكر السباتين.

وهو باحث وروائي وفنان تشكيلي شامل، كتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح بالإضافة لكونه فناناً تشكيلياً.

بداية أرحب بالأستاذ بكر وسنترك له المجال لتعريف القارئ العربي بتجربته الحياتية والأدبية من خلال عدة أسئلة نبدأه بالسؤال التقليدي التالي:

1-هل لك أن تطلع القارئ العربي على حياتك من خلال نبذة قصيرة؟

- ولدت في الأول من يناير عام 1963 لأبوين عانى نتائج النكبة. فبعد مذبحة الدوايمة الشهيرة التي اقترفتها العصابات الصهيونية في قرية الدوايمة غرب الخليل؛ انتهى بهما الأمر في عمان حيث ولدت في جبل النظيف (مخيم محمد أمين سابقاً) وعشت حياتي وأنا أقتات على ذاكرة لا تبور ومترعة بالوجع الفلسطيني، وأحلام فتى دفعته الخيبة السياسية ليتحدى الصعاب على الصعيدين الحياتي والثقافي.. وقد ساعد على ذلك ترعرعي في حاضنة أردنية ما لبثت تنعم بالاستقرار ومنحتني مواطنتها.. فقلب اللاجئ يتسع لقضيته وللبلد التي يحمل جنسيتها ويساهم في بنائها بانتماء حقيقي.

2- حدثنا عن البدايات كيف كانت وكيف خرجت من إرهاصاتها؟

- كان الظمأ إلى المعرفة يرافقني منذ الصغر، خرجت طفولتي تعربد مع أخيلة الحكايات العتيقة التي ترويها الجدات أو تنشرها المكتبة الخضراء وحكاياتها الآسرة. كنت أشعر بهذا الحراك البريء يشتد نضوجاً إلى أن صار هذا الكائن الحي أمامك يدير بلسانه ساقية الكلام ويغرف من معين خياله حكايات استحوذت على عقله الباطن. فيطلُّ من خلال نوافذ التأمل على حدائق الشعر وصنوف الأدب الأخرى.. فما أن نضج عقله، راح يكتشف تجارب عمالقة الأدب العربي والعالمي كالسيًاب ومحفوظ وصلاح عبد الصبور وكنفاني ولوركا وبوشكين وكامي وغيرهم.

كانت ساقية البحث في عقلي الفتي آنذاك تعينني في تلمس طريقي نحو ينابيع الكبار، ومن ثم الارتواء بما يتاح من معطيات الوعي والإبداع فتستيقظ الأسئلة الوجودية والناقدة.

ليس هذا فحسب، بل أن اطلاعي على نسبية أينشتاين كان له عظيم الأثر في إبداعاتي فقد أذكت في عقلي القدرة على الارتحال إلى أقصى ما يفضي إليه الخيال.. وقد تأثرت كغيري من المثقفين بذلك.

أما استحواذ هاجس القضية الفلسطينية على أهم أعمالي الأدبية فيعود ذلك إلى كوني عانيت من ارتداد هزيمة نكسة حزيران المخيبة للآمال.

لكنني أيضاً استيقظت على صوت أجراس الأمل التي يحملها هذا الجيل الواعد الذي سجل انتصاراته في مواجهة الاحتلال على الأرض وعبر الفضاء الرقمي.. وانعكس ذلك على كتاباتي برمتها وبالتالي انبثاق رؤيتي الثقافية في أنه لا بد من دور فاعل للكاتب في التصدي لرؤية الاحتلال الإسرائيلي العنصرية.

3-  وماذا عن مسيرتك الثقافية.. في أي بحر تعوم؟

- لكل كاتب هويته الثقافية.. ومحورها بالنسبة لتجربتي، القضية الفلسطينية ذات الأبعاد القانونية والتاريخية والإنسانية والقومية.. ومن هذا المنطلق اتخذت تجربتي طابعاً إنسانياً وتأملياً واستشرافياً يربط الحاضر بالذاكرة التي لا تبور وتتصل بالمستقبل.

4- هذا يأخذنا إلى السؤال عن منجزك الثقافي ومن ثم الحديث عن أهم اعمالك؟

- صدرت لي عدة كتب سياسية وعلمية وأدبية. ومن أهم مؤلفاتي التي دعمتها وزارة الثقافة:

– رواية ثلوج منتصف الليل( من قتل خليل الجيباوي عام2009م، ورواية”واختفت مهيرة- الرحيل إلى الذاكرة الأخرى” تدور حول الأزمات المتفاقمة التي تعصف في الوطن العربي وبالذات ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ثم رواية صخرة نيرموندا نشرت عام 2016 وتتحدث عن نكبة فلسطين من خلال سقوط يافا عام ثمانية وأربعين، مع إظهار طابعها الحضاري العالمي وهي من أقرب الأعمال إلى قلبي إذْ لاقت رواجاً جيداً وكتب عنها أهم النقاد العرب، فهي تتحدث عن هزيمة العقل العربي لكنها أيضاً تشع طاقة إيجابية وتحرض على المقاومة والأمل.

ونشرت لي العديد من الدراسات المتنوعة مثل:

– علم المخازن، (دورة المشتريات في الشركات الكبرى بين الشراء والتخزين) – دار المناهج /2003م) ويتضمن الكتاب نموذجا ًرياضياً قمت باشتقاقه وتصميمه. أيضاً كتاب” تعدد المفاهيم في عقل الإنسان- البرمجة العصبية واللغوية”.. والذي صدر في مارس 2017 بألمانيا عن دار نور نشر. ولا ننسى كتابي الذي بات معروفاً تحت عنوان “الفلسطينيون وتجربة النماء عبر العالم” والذي يتناول بالبحث والتحليل أهم النجاحات التنموية المتميزة للفلسطينيين في أنحاء العالم . وأخيراً كتاب “الفنان عبد الحي زرارة (رائد الفطرية والترقين). ثم “مسرحية الرجل الذي تحرر من القماط” والتي عرضت في جامعة ديالى العراقية من إخراج الدكتور وضاح طالب دعج أستاذ الإخراج المسرحي في جامعة ديالى. وتم اختيارها لتشارك في مهرجان ديالى الدولى للمسرح. ولي أيضاً قصة وسيناريو الفلم القصير ” الملائكة لاتخيف” إخراج أماني أوغلو.3257 لقاء بكر السباتين

5- هل كرمت في حياتك.. وهل حصلت على جوائز أدبية..وما موقفك من هذا النوع من التكريم؟

- كرمت في العديد من المناسبات المحلية والعربية.

أما الجوائز رغم أهميتها المادية والمعنوية إلا أنها ليست مقياساً للنجاح ما دامت تضع معايير سياسية واجتماعية تفرض قيوداً على المبدع.. فثقتي بها مهزوزة وباتت ترتبط بالسياسات المبهمة في عالمنا ولا أريد أن أقول بأنها تفرض بعض التنازلات عن الثوابت وترهن موقف الأديب لسياسة الدول الحاضنة لها.. وقس على ذلك البوكر! مع أن الحاصلين عليها قامات أدبية ذات مكانة في المشهد الثقافي العربي.

6- المشهد الثقافي الأردني مكتظ بالغث والسمين فهل تصف لنا هذا المشهد وهل من نظرة استشرافية للمستقبل؟

- العالم الافتراضي سمح للتجارب الثقافية كي تتكاثر دون ضوابط فنية؛ ولكن للأسف على حساب الجودة وانتشار المعايير غير المضبوطة فنياً والاهتمام بالشكل دون المضمون أحياناً.

فلو تتبعت ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي من غث الشعر وسمينه لوجدت ذلك الاهتمام الطاغي بالكتابة.

وهنا نحن نتحدث عن التجارب الناضجة للشعراء الأردنيين وقد صار صوتهم مسموعاً على صعيد عربي بل وعالمي من خلال الترجمة وقد برز في هذا المجال الشاعر المترجم نزار سرطاوي.. وعمواً فإن الصوت الأردني تفرد أكثر بحمل هموم الأمة وأوجاعها، وخاصة القضية الفلسطينية التي ما لبثت تدخل في صميم وجدانه.

أما بالنسبة للمستقبل فالمثقف بات أكثر نضوجاً من حيث الوعي؛ ليوفر معطيات الأمان الثقافي للأجيال القادمة.. فقد تقلبت الظروف من حولة وهو يواجه عواصف التغيير بمرونة دون أن تنتزعه من مبادئه.

7- ماذا عن اهتمام الدولة ممثلة بوزارة الثقافة بالكاتب الأردني؟

- الدعم الرسمي للكاتب يأتي منقوصاً رغم ما تقدمه وزارة الثقافة الأردنية من دعم مشهود قد لا تجد نظيره في الدول العربية الأخرى.. فمثلاً وزارة الثقافة تقوم بدعم المؤلف بنشر كتاب له كل عامين، وقد فعلت ذلك معي.. لكنني أطمح بأن يكون الدعم سنوياً، وأن تعود الوزارة إلى برنامج التفرغ الأدبي.

ولا ننسى إطلاق الوزارة مشروع إصدارات مكتبة الأسرة الأردنية في إطار استراتيجية التنمية الثقافية عام 2008، الذي يهدف إلى توفير الكتاب بسعر زهيد للمواطن في جميع محافظات المملكة. وتوصيل الكتاب من دون مشقة إلى المواطن، عبر إقامة مهرجان القراءة للجميع. وتغطية قطاعات المعرفة الإنسانية بسلاسل من المعارف المختلفة التي تخدم جميع أفراد الأسرة، والمساعدة على تنمية مهارات القراءة لدى كل أفراد المجتمع الأردني، وتشجيع إنشاء المكتبات المنزلية. وهذا دور تفاعلي يسجل للوزارة كبادرة حداثية تستحق التقدير.

أما بالنسبة لرابطة الكتاب الأردنيين فإنني أتمنى هي الأخرى أن تفعل دورها النقابي لصالح الكاتب.

فالرابطة منوط بها نظام التأمين الصحي والعودة إلى مشروع إسكان الكتاب الأردنيين.. ناهيك عن دورها الأهم في نشر الكتاب الأردني بشكل مكثف وفق معايير فنية عالية بعيداً عن المصالح .. وأن تظل ملتزمة بالشروط الصعبة لقبول الكتاب حتى لا يختلط الغث بالسمين واجتثاث الفساد الإداري الذي لا تخلوا منه أي مؤسسة في عالمنا العربي.

وفي المحصلة تمثل الرابطة بيت الكاتب الأردني المقتدر فنياً وهذا لا يضع الحواجز في طريق الكثير من الكفاءات غير المنضوية تحت جناح الرابطة، فالأردن أرض ولادة للمبدعين في كافة المجالات.

 

8- متى ادركت قيمه الكتاب؟.. حدثنا عن البذرة الأولى التي انغرست في قلبك وعقلك وأنت صغير؟

- منذ نعومة أظفاري حينما قرأت "القطار الأزرق الصغير" ومن ثم مطالعاتي لما كانت تنتجه المكتبة الخضراء.

وكانت بشائر الخير تتجلى بتفوقي في مادة التعبير.. وأثناء ذلك كان خيالي جامحاً وأدواتي تتبلور وتمنحني ميزات شخصية.

9- من هم الأشخاص الذين كانوا علامة فارقه في حياتك؟

- المثل الأعلى نموذج يزرع في العقل الباطن خلاصة تجارب الآخرين فبدونة ستجد صعوبة في تحديد البوصلة. فقد يكون شخصية اعتبارية معنوية أو قضية جادة.

وقياساً على ذلك تأتي شخصية أبي الذي ما زال يحضنا على الالتزام الأخلاقي إزاء القضية الفلسطينية.

وكان الشهيد غسان كنفاني ممن رسخوا الهَمَّ الفلسطيني في وجداني حتى صارت شخصياته الروائية والقصصية كظلي ترافقني حتى توقظ وجداني الوطني كلما غافلني النسيان، وأخذتني الحياة إلى أزماتها الأخرى.

كذلك الأب الروحي بالنسبة لي وأبو الرواية العربية نجيب محفوظ.

حتى أغاثا كريستي التي عززت لدي أسلوب التشويق والمفاجأة في سياق التخطيط لنهاية رواياتي ولو أن رواياتها مدرجة في قائمة أدب التسلية.. فلا ضير.

أما التأثير الأكبر على تجربتي الإبداعية فقد تجلى في تجربة الواقعية السحرية لأدب أمريكا اللاتينية وخاصة ماركيز.

وأردنياً تأتي في المقدمة رواية "أنت منذ اليوم" للروائي الأردني تيسير السبول.

أما بالنسبة للشعراء فكان محمود درويش وسميح القاسم منذ تجربتهما الرومانسية وصولاً إلى مرحلة درويش الوجدانية ذات النزعة الفلسفية الأخيرة. وكانت تعجبني رمزية صلاح عبد الغفور.

ناهيك عن عموم تجربة بدر شاكر السياب الريادية.

10- ما هي العقبات التي واجهتك في مسيرتك؟

- من الطبيعي أن تعترض البدايات لكل أديب جملة من العقبات التي تتخذ طابعاً اجتماعياً ومسؤولية أمنية فيما يتعلق بحرية التعبير الحسي والفكري ناهيك عن صعوبة النشر من الناحية المادية.. في المحصلة تغلبت على كل هذه العقبات وبنيت قاعدة انطلاقي بأمان. حتى أنني دخلت عالم اليوتيوب للتعبير عن آرائي من خلال قناتي الخاص "قناة سباتين" وتتضمن عدة برامج من إعدادي وتقديمي وإخراجي تتصدى للقضايا السياسية والثقافية بجدية والتزام.

11- كم ساعة تقرأ في يومياً؟

- أقرأ يومياً قبل النوم دون تحديد للوقت.. ولكنني أقرأ بنهم أثناء التحضير لمادة أسعى للكتابة فيها.. وقد أتاحت لنا التكنلوجيا إلى الاستماع إلى الكتب المقروءة أثناء الاسترخاء.

12- ما هو الكتاب الذي تأثرت فيه بشدة؟ من خلال منجزه الأدبي وبخاصة في الرواية؟

- لا يوجد عمل بحد ذاته ولكن كتجارب أدبية ففي المقدمة تجربة غسان كنفاني القصصية والروائية وأخص بالذكر رواية "عائد إلى حيفا" ناهيك عن تجربة نجيب محفوظ الواقعية والرمزية والأدب الروسي الواقعي مثل تجربة مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف صاحب رواية الدون الهادئ، والواقعية السحرية التي اتسم بها أدب أمريكا اللاتينية المليئة بالأساطير وقد تبدى أثر هذا اللون الأدبي في روايتي الأخيرة "صخرة نيرموندا".

13- ما هي أهم الأعمال التي ساهمت في تكوين رؤيتك الفكرية والأدبية؟

- عائد إلى حيفا التي أثرت في أسلوبي ورؤيتي للعلاقة بين شخصية الجاني والضحية.

أيضاً كتاب الاستشراق الذي ألفه البروفيسور إدوارد سعيد عام 1978م، ويتناول جملة المؤلفات والدراسات والمفاهيم الفرنسية والإنجليزية، وفي فترة لاحقة الأمريكية عن الشرق الأوسط والتي يجزم البروفيسور سعيد أنها السبب الرئيسي في الشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والثقافة الشرقية عموماً والشرق .

ورواية "مئة عام من العزلة" للكولومبي جابرييل مركيز أبو الواقعية السحرية.

14- هل أنت مع أو ضد الكتابة باللهجة العامية؟ ولماذا؟

- لا يمكن عزل المجتمع عن لهجته الشعبية في إطار التعامل اليومي.. بحيث تدرج في سياق اللهجات المنبثقة عن اللغة الأم؛ لكنها شديدة المحلية.

وينبغي العلم بأن اللهجات المحكية تغذي بعض الشعراء للتعبير عن وجدانهم من خلال الشعر الشعبي كالزجل والشعر النبطي.

ومن مقتضيات الإشارة إلى محلية العمل يمكن للروائي مثلاً الاستعانة باللهجة المحكية في المسرح والرواية فقط في الحوار في تداخل فني سليم وحذر مع اللغة العربية الفصحى كما كان يفعل نجيب محفوظ.

ولكن كتابة السرد باللغة العامية فهذا يعد سلخاً عن العربية الفصحى وابتعاداً عن لغة القران الكريم التي على أساسها وضعت معايير قواعد الصرف والنحو والإملاء، واللغة القومية التي منحت العروبة هويتها.

وعليه فإن دعاة العامية المطلقة يأخذون الثقافة العربية باتجاه العزلة القطرية؛ لذلك لجأ دعاة الفرعونية واللبننة، على نحو ما فعل المفكر اللبناني سعيد عقل، إلى وضع قواعد جديدة للغات المحكية. وهذا يعد فصلاً كلياً عن اللغة العربية. وقد باءت تجاربهم بالفشل الذريع. وللتذكير فإن هذا التوجه ساهم في دعمه الاستعمار الفرنسي وخاصة في الدول الفرنكفونية من باب الاستحواذ على العقل والعبث في الثقافة الموروثة وتأويلها وفق رؤية الاستعمار.. وقد تطرق المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد إلى ذلك في كتابه الشهير الاستشراق.

أخيراً نشكر الأستاذ بكر السباتين الذي أعطانا من وقته لإجراء هذا اللقاء القيم الذي أدخلنا إلى المشهد الثقافي الأردني والعربي من خلال تجربته الخاصة.. مع تقديري لاهتمامكم الجاد.. فالثقافة للجميع.

***

الكاتبه: سماح محمود ابو حسين

جامعة العلوم الإسلامية العالمية – الأردن

22- يناير 2022

 

 

2180 علي الربيعي ونابي بوعليهذا حوار يجريه مع عليّ رّسول الرّبيعيّ نابي بوعلي.

لقد اخترت لهذا الحوار عنوان" الحب من منظور الأخلاق". كنت قد اجريت حوارا عن عاطفة الحب سابقا لكني شعرت بالحاجة الى المزيد من النقاش حولها لما اجد من اهمية لهذا في عالم بلا قلب حيث يفتقد الحب حضوره في مجتمعاتنا العربية ويهيمن العنف (الذي تناوله دكتور الربيعي في مرات عديدة) والكراهيات (التي كنا نقاشناها في حوار خاص بها ايضا نُشر على شكل دراسة في حلقات)؛ اقول في أجواء الأضطراب الاجتماعي والسياسي نحتاج التفكير في الحب، هذه العاطفة التي تحولنا الى كائنات يتجلى بينها السلام والوئام.

الدكتور نابي بوعلي سؤال: ألاً ترى أن لدى الناس سبب للتصرف أخلاقيا، وأن هذا التصرف يجعلهم في نوع معين من العلاقات مع الآخرين: العيش وفق شروط يعتقدون أن بإمكانهم تبريرها! أشار ميل إلى هذه الفكرة على أنها "الوحدة مع زملائنا المخلوقات".

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// أود أن أقول إن دافعنا للفعل الأخلاقي هو أننا لا نريد أن نكون مهملين أو منبوذين. نحن نعتمد بشكل كبير منذ عند الولادة، وما زلنا نعتمد، بدرجة أو بأخرى، رغم نضجنا. وهذا الشعور بالاعتماد قوي للغاية. لذلك نحن قلقون للغاية إذا بدا أننا لا نستطيع الاعتماد على أي شخص وتُركنا وحدنا. هنا، أنا لا أشير إلى التبعية الجسدية فقط ولكن إلى التبعية النفسية أيضًا. الوحدة هي حالة مؤلمة للغاية- بالنسبة للعديد من الناس، فهي تهدد إحساسهم بواقعهم. يعتمد مدى حقيقية وواقعية شعورنا على الطرق التي يتفاعل بها الناس معنا. نرى أنفسنا فيها، في ردود أفعالهم تجاهنا، في ردودهم علينا. إذا لم نحصل على مثل هذه الردود، فإن إحساسنا بواقعنا يصبح مهتزًا للغاية. لذا فالوحدة هي حالة مزعجة للغاية تؤدي الى اختلال التوازن.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: هل يمنحنا الخوف من الشعور بالوحدة سببًا لنجد أحباء من حولنا، وصداقات، ولإقامة علاقات جيدة مع هؤلاء الأشخاص الذين نتفاعل معهم. لكن يبدو أن الأمر ليس له علاقة بالأخلاق، التي تنظم سلوكنا تجاه الجميع، وليس فقط تجاه الأشخاص المقربين منا.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، أعتقد أن هذا الدافع هو بالفعل أقوى بكثير على مستوى العلاقات الشخصية أو الوثيقة، إلى حد كبير. لا أعرف مدى انتشار الإحساس الكوني وغير المتحيز للأخلاق الذي يواجهه المرء في الفلسفة خارج الدوائر التي نتحرك فيها. لكنني أعتقد أن ما يحركنا في اتجاه الأخلاق الكونية هو أننا لا نحب أن نفكر في أنفسنا على أنه لدينا علاقات عدائية مع أي شخص. وهذا يأخذ حياة خاصة به. تصبح مؤسسية ؛ نحن نصنع مبادئ عامة لأنه من الأسهل الاعتماد على مثل هذه القواعد بدلاً من الاقتراب من كل شخص متسائلاً عما إذا كان من الجيد أن تكون على علاقة جيدة معه.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: يبدو أنك تقترح أن كل ما يهمنا هو أن نكون على علاقة جيدة مع الآخرين. لكن أن تكون على علاقة جيدة قد تكون متسقة مع وجود علاقة استغلالية.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// هذا صحيح في الحالات الفردية، ولكنه ليس صحيحًا بشكل عام. لذا فإن أسهل شيء هو اتباع بعض المبادئ العامة للسلوك الجيد الخير والتي يمكن توقعها بشكل معقول أن تؤدي إلى علاقات منظمة وسلمية وودية.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: أود أن أتساءل عن وجهة نظرك حول الصراع بين الأخلاق والأهداف الشخصية من ناحية أخرى. فكما أطلعتني في سياق حوارنا على كتاب جادل توماس سكانلون "ما ندين به لبعضنا البعض"، وجدت أن العديد من المساعي والعلاقات القيمة لا تحتاج إلى التعارض مع ما تتطلبه الأخلاق، نظرًا لأن لديهم حساسية مبنية على هذه المطالب. يجادل سكانلون، على سبيل المثال، بأن لدينا نموذجًا للصداقة يتضمن الاعتراف بالمزاعم الأخلاقية للأصدقاء بصفتهم أشخاصًا، أي كأشخاص تكون ادعاءاتهم الأخلاقية تجاهنا مستقلة عن علاقتنا الخاصة بهم. لن يطلب مثال الصداقة هذا أبدًا أن ننتهك استحقاقات الآخرين من أجل الصداقة. قد تتوافق القيم الشخصية الأخرى بالمثل مع متطلبات الأخلاق

أنت تحدد هويتنا من خلال الرغبات التي نؤيدها أو نقر بها ونوافق عليها. لكن يمكنني أن أصف نفسي كشخص لديه رغبات أفضل أن أكون بدونها. على سبيل المثال، قد تكون لدي رغبة في أن أكون مطبوع على حب الخير أو خيرًا، ولكنني انظر إلى هذه الرغبة محبطة من دوافعي الأنانية وأقول، "حسنًا، أليس هذا أنا عادةً !"

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، أعتقد أن هذا صحيح. إن مفهوم الهوية بأكمله فضفاض للغاية. هناك عدة طرق يمكنك التحدث من خلالها عما أنت عليه حقًا، وإحدى الطرق هي وصف بعض الخصائص والشمائل التي تمتلكها فقط. جزء من المشكلة الآ، هو أنه عندما وصفت عملية التعرف على رغبات المرء وتحمل مسؤوليتها، انا استخدمت للأسف كلمة " تأييد أواقرار وموافقة" عبينما كان يجب أن أستخدم مصطلحًا مختلفًا. يشير مصطلح "التأييد أو الأقرار" إلى الموافقة، أو بعض المواقف الإيجابية تجاه موضوع المصادقة. لم أقصد ذلك أبدًا. ما قصدته كان شيئًا مثل قبول ما أنا عليه حقًا.

قد أعرّف نفسي على أنني أمتلك خصائص معينة وأتخلى عن محاولة محاربتها، لأنني أفهم أنها خصائصي، على الرغم من أنني أتمنى ألا تكون كذلك. لذلك، على الرغم من أنني لا أؤيدها بمعنى الموافقة عليها، إلا أنني أؤيدها بمعنى الاعتراف بها أو قبولها كشيك خاص بي مثل الشيك الذي أؤيده بوضع اسمي عليه. هذا هو "الاستحواذ على"، أو "الإلزام"، أو "التماهي مع" الأمر الذي كان يدور في ذهني، وليس أي شكل من أشكال الموافقة. غالبًا ما تأتي الموافقة الآن، بالطبع، لأننا كثيرًا ما نرغب في تعريف أنفسنا بالأشياء التي نوافق عليها. لكن هذا لا يحدث دائمًا ؛ أستطيع أن أدرك أنني ضعيف الإرادة، على سبيل المثال، وأعرف نفسي بضعف الإرادة، بمعنى أنني لا أعتبرها غريبة بالنسبة لي. هذا ما أنا عليه حقًا، وأنا اقف ضده.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: ماذا لو وقفت ضده؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، إذن فأنا لم أعرّف نفسي به حقًا. هذا ليس ما أنا عليه حقًا - أحاول إظهار أنني لست ضعيف الإرادة حقًا. صحيح أنه لا يزال لدي هذا الميل للاستسلام للأشياء، لكني أعتبر ذلك شيئًا أحاول التخلص منه. هذا ما أنا عليه، بمعنى ما، لكنه ليس جزءًا مني الذي أتماثل معه.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: أنت تجادل بأن الشخص مسؤول أخلاقياً فقط عن تلك الدوافع التي يعرفها. لكن يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة شخصًا لديه خصائص معينة يكافح ضدها يشعر مع ذلك أن هذه الخصائص هي أشياء مناسبة للإدانة الأخلاقية. على سبيل المثال،يمكن أن يشعر شخص ما بالذنب تجاه هذا النوع من الأشخاص، على الرغم من أنه لا يريد أن يكون من هذا النوع ولم يقبل بعد أنه سيكون دائمًا من هذا النوع من الأشخاص. لذا لا يبدو أن المسؤولية الأخلاقية محصورة في الحالات التي يقبل فيها شخص ما الرغبات التي تشكل إرادته على أنها إرادته.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// بالطبع، لدينا الكثير من الخصائص التي لسنا مسؤولين عنها بشكل خاص، ولكنها جذابة أو بغيضة، وهذه هي الأساس لكيفية معاملة الناس لنا وكيف نفكر في أنفسنا. إن مسألة المسؤولية الأخلاقية غامضة للغاية، ولست متأكدًا حقًا مما يدور حوله الأمر. غالبًا ما يكون إلقاء اللوم على شخص ما على ما فعله مجرد طريقة للغضب منه - تمامًا كما أن الشعور بالذنب هو وسيلة للغضب من نفسك ومعاقبة نفسك. إلقاء اللوم على شخص ما لشيء ما - إطلاق العنان للإهانات الأخلاقية - هو طريقة لإيذائه.

لست متأكدًا حقًا من الهدف من إلقاء اللوم. ربما ليس لديها أي مغزى حقًا؛ ربما يكون مجرد شيء نميل إلى القيام به بشكل طبيعي. نحن لا نلوم الحيوانات على السلوك الشرير. ربما نفترض فقط أن الناس يجب أن يكونوا قادرين على التحكم في أنفسهم. لكنني أفترض أنه إذا اعتقدنا أن الشخص لا يستطيع التحكم في نفسه، فنحن لا نغضب. بدلاً من ذلك، نميل إلى معاملته بالطريقة التي نتعامل بها مع الحيوانات: ندافع عن أنفسنا ضده، وربما نسجنه. العار الأخلاقي سيكون مفقودًا في مثل هذه الحالة. أعتقد أيضًا أن لدينا مواقف مختلفة تجاه الشخص الذي يعرّف نفسه بميل ضار معين أكثر من مواقفنا تجاه شخص لا يعرّف نفسه بهذا الاتجاه، لأنه بقدر ما يتخلى الشخص عن الجزء منه الذي يتسبب في هذا السلوك، فهو على ' "جانبنا" بدلاً من الجانب "المعارض". حقيقة أنه يقف إلى جانبنا تخفف من إحساسنا به كعدو. لذلك، إذا لم يكن الشخص مخلصًا حقًا بشأن الشيء السيئ الذي فعله، إذا كان يتمنى لو لم يفعل ذلك ولم يرغب في القيام به، لكنه وجد نفسه متحركًا ضد إرادته، فإن موقفنا تجاهه أقل قسوة، لأنه، بطريقة ما، حليف لنا. بعد كل شيء، كان يحاول منع ما حدث.2180 علي الربيعي ونابي بوعلي

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: يمكن أن تتحقق حرية الإرادة من خلال غسل الدماغ - من خلال قيام شخص ما بتشكيل رغبات شخص آخر بطريقة تجعل هذا الشخص يؤيد الرغبات ذاتها التي تم حثه على الحصول عليها. ألا يبدو هذا مخالفًا للحدس؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// لست متأكدًا مما تقصده بـ "غسيل الدماغ". غسل الدماغ، في حالة وجود مثل هذا الشيء، هو ببساطة محاولة متعمدة غير مألوفة لتشكيل بنية ومحتوى عقل شخص ما. لكن هناك شيئًا ما أو شخصًا ما يحدث دائمًا لفعل هذا فقط. نأتي إلى العالم مرنين، وتعمل القوى والتأثيرات المختلفة على تشكيل عقولنا وتجعلنا من النوع الذي نحن عليه. نحن لا نتحدث عن "غسل الدماغ" ما لم تتم هذه العملية من قبل شخص لديه هدف محدد في ذهنه. لكن هذا هو الشيء نفسه من الناحية الهيكلية - تتشكل شخصية شخص ما بواسطة قوى خارجية

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: لكن ضع في اعتبارك حالة شخص ما يعاني، بسبب سوء المعاملة والضغط النفسي الشديد، من تدني احترام الذات لدرجة أنه يعتقد أنه يجب أن يكون لديه تصرف خاضع ومذل. افترض، علاوة على ذلك، أنه يكتسب الشخصية التي يريد أن يكون وأنه مُنِح الفرصة للتصرف بناءً على رغبته الصادقة في خدمة سيده. قد تقول إنه حر بقدر الإمكان. لكن هذا يتعارض مع فكرة عامة عن الحرية تفرض مطالب معينة على الظروف التي نشكل فيها أهدافنا ورغباتنا.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// لدي إجابة بسيطة على ذلك، على الرغم من أنني لا أعرف ما إذا كان أي شخص سواي يجدها مقنعة. توضح الأمثلة من هذا النوع ببساطة أن هناك قيمًا أخرى إلى جانب الحرية. كل ما أقوله هو أن الشخص الذي يفعل ما يريد أن يفعله ويريد ما يريده يتمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية لفهمه. قد تكون حياته سيئة من عدة نواحٍ: قد يكون غبيًا أو محدودًا. ونتيجة لذلك، قد لا يعيش حياة خيرة جيدة. لكنه لا ينقصه الحرية. بشكل عام، هناك رغبة شعارية في حشر كل ما نعتقد أنه خير وجيد في مفهوم الحرية. لكن هذه مجرد طريقة للاستفادة من القوة البلاغية للكلمة. يبدو لي أنها فكرة خير وجيدة أن نضع بعض الفروق وأن نرى أن الحرية ليست الشيء الخير الجيد الوحيد.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: لقد لاحظت من خلال الحوار ان السؤال "هل يجب أن أهتم بما يهمني؟ يسبب نوعا من الدوخة. لكن السؤال له معنى في الحياة اليومية، عندما نسأل أنفسنا، "هل يجب أن أهتم حقًا بهذا الشيء الذي كرست نفسي له؟ هل يجب أن أكرس نفسي لذلك بشدة؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// يمكنني بالطبع تقييم موضوع محتمل للعناية من منظور كائن آخر أكثر جوهرية إلى حد ما أو أكثر اهتماما به. لذا فإن السؤال منطقي تمامًا إذا كنت أعني "بالنظر إلى أنني أريد أن أعيش نوعًا معينًا من الحياة، فهل هذا أمر جيد بالنسبة لي أن أهتم به وأكرس نفسي له؟

يمكن أن يكون السؤال منطقيًا أيضًا إذا كنت أعني "هل أنا مهتم به حقًا؟" إذا سألت نفسي على سبيل المثال، "هل يجب أن أهتم بالبقاء على قيد الحياة؟"، فباستثناء أنني أرى حياتي مجرد أداة في خدمة أهداف أخرى، يجب أن أعني "هل هذا شيء أهتم به حقًا؟ وفي هذه الحالة، فإن الإجابة الإيجابية الوحيدة التي يمكنني الحصول عليها هي: "لا يسعني الأ الأهتمام به". السؤال هو: هل يجب أن أهتم به لأنه ليس لدي بديل.

على أي حال، من المستحيل أن تسأل "هل يجب أن أهتم بما يهمني دون الإشارة إلى شيء أهتم به. لأنني بحاجة إلى معايير لتحديد أسلوب الحياة الذي يستحق العيش. أنا بحاجة إلى مثل هذه المعايير، على سبيل المثال، لتقييم ما إذا كان العيش بطريقة ممتعة ولكن في تناقض مع المبادئ الأخلاقية أفضل من عيش نوع مختلف من الحياة. وامتلاك مثل هذه المعايير يعني ببساطة معرفة ما يهمني.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: لقد أوضح سارتر بشكل مشهور فكرة "الاختيار الجذري" (حيث يتعين على شخص ما اختيار قيمه الأساسية) في حالة يجب على الشاب فيها أن يقرر ما إذا كان سينضم إلى المقاومة ضد الاحتلال الألماني أو البقاء قريبا مع والدته التي تحتاجه. هل تقول أن فكرة الاختيار الجذري هذه خاطئة؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، لا يمكن للشاب أن يخلق قيمه من العدم. لذا إذا كان هذا هو ما تعنيه فكرة "الاختيار الجذري"، فهذا يعني أنها مشوشة. أما بالنسبة لقرار الشاب، فكل ما يمكنه فعله هو محاولة اكتشاف ما يعنيه أكثر. إذا لم يكتشف أن أيًا منهما يعني بالنسبة له أكثر من الآخر، فربما ما يجب أن يفعله هو قلب عملة معدنية. وإلا فإنه سيجلس هناك مثل حمار بوريدان ولن يكون قادرًا على التحرك في أي من الاتجاهين. ما نفعله عادةً في مثل هذه الحالة هو محاولة اكتشاف الخيار الذي يجعل قلبنا يقفز أكثر. وقد نكون مخطئين في فعل ذلك. لأننا لسنا مهتمين بالاندفاع اللحظي، ولكن بالتنبؤ بما ستكون عليه الحياة - نحاول أن نتخيل ما إذا كنا نريد هذا النوع من الحياة أو ذاك. وقد نرتكب أخطاء في هذا الأمر بسهولة.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: فهل معرفة الذات هي الشيء المركزي الذي توصي به عندما نختلف حول ما نهتم به؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// نعم هذا صحيح. تلعب معرفة الذات دورًا أساسيًا للغاية لأنه من خلال معرفة نفسي اكتشفت ما أهتم به حقًا. الباقي هو العمل على التفاصيل: أن تكون عقلانيًا في السعي أو متابعة الأشياء التي تهمني ومحاولة تجنب الصراع بينها كلما أمكن ذلك.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: نحتاج أيضًا إلى الثقة في الأهداف التي التزمنا بها من أجل القضاء على الشكوك والخلافات الداخلية. أنت تجادل بأن هذه الثقة لا يمكن أن تأتي من جمع أدلة مقنعة عقلانية على صحة مواقفنا. بدلاً من ذلك، تقول إنه مشتق من الحب، الذي تعرفه على أنه نمط من الرعاية غير حساس لأي من هذه الحجج، وهو أمر خارج عن سيطرتنا الطوعية تمامًا وكما تقول: إن مصدر ثقتنا في الاهتمام بالأطفال والحياة هي أن الىباء يحبون اطفالهم ويحبون الحياة. يحبون هذه الأشياء حتى عندما تخيب آمالهم، وحتى عندما يعتقدون أنه من غير المعقول منهم ان يحبوها. لكن ألا يتضمن الحب للأشياء رؤية أسباب حبها؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، فهم ما يدور حول هذا الشيء الذي أستجيب له يتطلب تحقيقًا عقلانيًا. يكون الأمر واضحًا أحيانًا، وأحيانًا أخرى يكون من غير الواضح ما الذي يدور حول موضوع الحب الذي يجعلنا نحبه. لذلك قد أنظر في الأمر لتحسين فهمي لذاتي. ولكن بمجرد أن أفهم ما أستجيب له، فإن حقيقة انجذابي إليه ليس شيئًا يمكنني شرحه.

الدّكتور نابي بو علي سؤال: قد يكون حب الأباء لأطفالهم وللحياة أمرًا غريزيًا بالفعل، وبالنسبة لكثير من الناس، لا مفر منه. لكن بالتأكيد عندما نختار صديقًا أو حبيبًا أو هدفًا ما كموضوع حب، فإننا نستجيب لقيمة الشخص أو الهدف الذي نقرر أن نحبه.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// الحب ظاهرة طبيعية. إنه شيء يحدث لنا. وله أسبابه مثل الأحداث الأخرى في العالم الطبيعي. لا يوجد شيء في تفسيري يستبعد احتمالية أن يكون الحب ناتجًا عن الاستجابة لقيمة الكائن. أنا أصر فقط على أن هذا ليس شرطًا أساسيًا، لأنه قد يكون ناتجًا عن أشياء كثيرة.

الدّكتور نابي بو علي سؤال: لذلك، من وجهة نظرك، من الممكن أن نحب شخصًا ما أو شيئًا ما دون أن ندرك مسبقًا أي قيمة في موضوع حبنا. في الواقع، أنت تدور حول فكرة كون الحب قائمًا على الاعتراف بالقيمة وتجادل بأن أشياء حبنا ذات قيمة بالنسبة لنا لأننا نحبها- والسبب هو أن التزاماتنا الصادقة بالاهتمام بها تمنحنا الثقة في أهدافنا، مما يعطي حياتنا الأتجاه والمعنى. ذكرت، على سبيل المثال، الأطفال الذين تنبع قيمتهم لوالديهم، كما تدعي، من حب الوالدين لهم.

هذا يثير تساؤلاً حول إمكانية المحبة غير الحكيمة. يمكننا أن نقول عن شخص ما أنه ليس من الحكمة أن يحب ما يحبه، أو أن تستخدم تعبيرًا قديمًا، أفنقول مثلا أنه "استثمرت نفسها بشكل غير حكيم". ومع ذلك يبدو، في تفسيرك، أن هذا التعبير ليس له أي معنى. إذا كانت حقيقة أن شخصًا ما يحب شخصًا معينًا قد جعلت هذا الشخص ذا قيمة بالنسبة له، فكيف يقال إنه ليس من الحكمة أن يحبه؟

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// حسنًا، يستلزم حبه أنه يهتم بما يحدث لهذا الشخص – إنه يريده أن يزدهر. لكن بعض الناس سيئون جدًا في الازدهار- فهم دائمًا ما يوقعون أنفسهم في المشاكل. قيل لي إن بعض الأمهات تنصح بناتهن بأن الزواج من أجل المال ليس فكرة جيدة، ولكن من الجيد الذهاب إلى حيث يوجد المال، لأن هذا يزيد من فرص الوقوع تلقائيًا في حب شخص غني. وهنا يأتي دور الحكمة.

الدّكتور نابي بوعلي سؤال: ماذا عن فكرة أن شخصًا ما أو شيئًا ما قد لا يستحق حبي! على سبيل المثال، قد يحكم اب على أن أطفاله لا يستحقون حبه إذا وجد أن سلوكهم أو شخصيتهم تتعارض مع أشياء أخرى يهتم بها لدرجة أنه يحكم على حبي على أنه خطأ.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ جواب// إذا كان حبي لشئ ما يتعارض مع حبي لأشياء أخرى أكثر أهمية بالنسبة لي، فهذا في حد ذاته لا يضمن القول بأن الأول لا يستحق حبي. قد يتطلب الأمر مجرد قول أنه سيكون من غير الحكمة، أو المكلف للغاية، بالنسبة لي أن أحبه. لا أنكر أنه قد يتم إعطاء بعض الإحساس لفكرة أن شيئًا ما لا يستحق حبي، إذا كان حبه مهينًا بطريقة ما. ولكن، كما تقترح، فإن حقيقة أنه مهين ستكون دالة على حبي لأشياء أخرى.

 

حاوره الدكتور نابي بوعلي

 

 

3247 عبد العزيز الگواطريعبد العزيز الگواطري قاص مغربي من مدينة تاونات يكتب بشغف للطفل الذي خبر عوالمه الخاصة عن تجربة حياتية ومهنية كأستاذ للتعليم الإبتدائي لأكثر من ربع قرن بكل تأن وإنصات للطفل وأسئلته البريئة وأجوبته الذكية .

ولأنه يملك عين المبدع الثاقبة والحادسة والصبورة كعين الذئب التي يطبعها الصبر والدقة في إقتناص القصة المناسبة للطفل وتقديمها له في أبهى حلة حكائية ولغوية تجعل عين الطفل لا تغفل عن الحدث الذي يطبعه التشويق والمتعة والمعرفة وإذكاء الرغبة في التعلم .

ولأنه أخرج الوجود مجموعة من القصص في مجموعة تحت عنوان رحيق الجبل خاصة بالطفل كان لنا معه هذا الحوار الذي هم هذه الباقة المكونة من القصص التالية:

البط الحكيم والدجاج المزركش المصلح والفأر الأبيض المغرور وورطة باز وحيلة ذئب والذئب الموسيقي وإشاعة ثعلب وعدنان يتعلم القفز ومصارعة الثيران.‏

وتجربته في الكتابة والعمل الثقافي وكان هذا الحوار التالي: 

س: لنبدأ معك السيد عبد العزيز الگواطري هذه الدردشة الثقافية لماذا اخترتم الكتابة للطفل وما الدافع إلى هذا الإختيار وما هو الحافز إلى الكتابة إلى للطفل؟

ج: أولا لا أدعي الفطرية في اختياري الكتابة للطفل لكني لا أجد حرجا في القول أن الكتابة للطفل هي الموقع الذي وجدت فيه نفسي بشكل طبيعي ففي مستهل "قصة البط الحكيم" أول قصة كتبتها ألمحت لماذا هذا الاختيار بالإضافة إلى كوني كنت مدرسا وعشت مع الطفل واحتككت بعالمه حيث درّست المستوى الأول ابتدائي ربع قرن بالتمام والكمال وبكل محبة وتفان والطفل في تصوري مشروع أمة فكم يكبر الأطفال أمامي وكم أفرح بالمستقبل المزهر الذي ينتظرنا لما أرى الأطفال يقرأون بنهم وبحماس أنا مازلت حتى اللحظة أتابع خطوات تلاميذي وأفرح بتفوقهم وكل إجابات الأطفال تدعوني للتأمل لأني أعرف أن الأطفال لا يخطئون لأنهم يمتحون أجوبتهم من المجتمع وبكل براءة.

س: في أغلب قصصكم تحضر الشخصيات الحيوانية كأبطال ونماذج وقوى فاعلة ما الذي تحاولون قوله ضمنيا من خلال الإتكاء على الشخصية الحيوانية التي تتميز في المخيال الشعبي ببعض الأبعاد والقيم ؟

ج: قصص الأطفال تدعونا لتأثيث عالم الطفل بما تميل إليه نفسه فإقبال الأطفال على الحيوانات له طعم وشعور خفي بالتملك فيبذل من أجل ما يملك فتتولد لديه قيمة السخاء التي هي أم القيم فيتحرر من السلبية والأنانية والأخذ من الكبار فقط ورغم إتكائنا على البطولة في ثوب حيوان ما فإننا حاولنا تخليصها من بعض القيم السلبية الماضوية المتجاوزة وشحنها بالقيم الإنسانية والأخوة الكونية فالقيم النبيلة من تسامح وتعاون ورفق وتعلم وذكاء هي التي قادت وحركت أبطال قصصنا التسعة بأبعاد المستقبل الذي ينبش في المخيال الشعبي ليهذبه ويهيمن عليه ولا ليحذو حذوه أو يتمثل أبعاده وقيمه.3248 عبد العزيز الگواطري

س: كذلك تحضر في تجربتكم القصصية التي بين أيدينا بعض الملامح والسمات الخاصة بالحكاية الشعبية هل الأمر له علاقة بالخلفية الثقافية لديكم أم الأمر مجرد آلية جمالية وفنية من جانبكم لإعطاء لمستكم الخاصة لفعل الكتابة من جانبكم؟

ج: حاولت مراعاة عناصر قصة الطفل من خلال قصص المجموعة القصصية ككل فنيا وجماليا ومن ناحية القيم ومن حيث السرد والحوار الذي يدور على ألسنة الأبطال ولم أغفل دور الشخصيات الثانوية في تطوير الحبكة للوصول إلى أهداف القصص بشكل واضح وإن لاح هناك تقاطعات مع الحكاية الشعبية فهو في الظاهر فقط ولا يزيد على النهل من بعض مضامينها وهو أمر لا يختلف عن النهل من كل رصيدي في القراءة من كل الآداب من  روايات وقصص ومنها قصص الأطفال فكما قيل إذا أردت أن تكون شاعرا عليك أن تحفظ ألف بيت من الشعر ثم تنساها وبعد أن تحصل لك الملكة ستنظم الشعر وليس بمجرد حفظ العروض بعلله وزحافاته ستقول شعرا فلمستي لم تكن حبيسة جنس الحكاية الشعبية بل لمستي كانت في بناء عالمي الصوري بعيدا عن الخلفيات الموروثة والقيم الماضوية العتيقة وفي ثقتي بقدرة الطفل على التحليق في أرحب فضاءات المحبة والخير والخيال إذا طوعنا له اللغة طبعا ومكناه من معجمها وأساليبها.

س: يبرز بشكل جلي الاهتمام من جانبكم باللغة  العربية الفصحى وعناصر غناها المعجمي والجمالي هل هذا الاهتمام باللغة العربية نابع من محبة للغة العربية أم أملته ضرورات واختيارات الكتابة؟

ج: لا تحتاج لتقص للطفل بلغة مكتوبة فتستعمل حينها أصوات الأشياء أو صورها وتساعده على الوصول إلى الهدف لكن لما تفكر  بأن تنقل له قصة باستقلال عنك كليا أو نسبيا لا مناص من البحث عن وسيلة لتقص له والوسيلة لن تكون سوى اللغة وكل اللغات تبقى معبرة عند الناطقين بها ولها جماليتها ومعجمها ونحن بحكم تواصلنا باللغة العربية نستشعر بعدها الجمالي ونحب جرس وموسيقى كلماتها كما قد يحب بلزاك أو فكتيور هيكو أو مولير ورامبو ودوسوتفيسكي أو سارتر لغتهم فليس هناك تمايز بين هذا وذاك  قد تترجم هذه المجموعة  رحيق الجبل على سبيل المثال إلى لغات أخرى وإذا كانت الترجمة بعين حدقة سوف تكون بلغة جميلة وبمعجم مناسب المهم أن تكون بلغة أدبية تخضع للجمالية الداخلية لأي لغة وأن تحمل القيم الكونية وتحافظ على نقاء الرؤية التي أعالجها كمؤلف ومجموعتي القصصية تنقسم إلى   قسمين قسم يروج القيم كهدف وقسم يروج بالإضافة إلى القيم معجما أرى بأنه ضروري للأطفال حتى ينمو رصيدهم اللغوي ويتسع أفقهم في التعبير عن ذاتهم وما حولهم بكل دقة وحرية.3249 عبد العزيز الگواطري

س: لننتقل مما هو خاص بتجربتكم للكتابة للطفل إلى واقع أدب الطفل كيف ترى واقع أدب الطفل وطنيا وعربيا وماهو التقييم والصورة التي يمكن وضعها من جانبكم لأدب الطفل هل هي صورة إيجابية أم صورة سلبية خصوصا في العلاقات التي تحكمه واقع القراءة والنشر والفاعليين فيه؟

ج: في العالم الثالث ينصب اهتمام الرجل أولا  بعالم أشيائه فيهتم بثوره أو جمله في المرتبة الأولى ثم يهتم بالمرأة ثانيا ويأتي الطفل في المرتبة الثالثة والأخيرة هذا الرأي هو للزعيم التركي كنت قرأته في صفحة لمجلة ما منذ 1992 عندما كنت بمركز تكوين المعلمين بميسور- بولمان بقي عالقا في ذهني من غير نصه ربما زدت فيه شيئا أو نقصت منه شيئا لكني أعتقد بأنه رأي مازال سار في واقعنا للأسف فأتا تورك أو أبو الأتراك تكلم في عصره وصنع لبلده كل شروط نهضتها الحالية لأنه كان يعرف ما يقول نحن رغم كل الحمولة التي نتكلم عنها فنحن وطنيا وفي العهد الجديد وضعنا القدم على الطريق فهناك أقلام في أدب الطفل لها باع طويل وتجارب ناجحة وتتعامل مع دور نشر وطنية وعربية وعالمية وأما عربيا لا يمكن أن نعدم الفضل لأهله في بعض الدول الرائدة عربيا ولا سيما على مستوى التشجيع ودور النشر لكن الانطلاقة الحقيقية تحتاج إلى مجهودات إلى تشجيع المؤلفين مباشرة إلى تشجيع نوادي القراءة وتشخيص وضع أدب الطفل من الجهات العليا لتضع له لبنة النهوض فنهضة أدب الطفل يترتب عليها نهوض الآداب بعامة.

س: تنشطون في العمل الجمعوي الثقافي منذ عدة سنوات كيف تقيمون تجربتكم الجمعوية في هذا المجال وما هي الخدمة والإضافة التي يمكن أن يقدمها العمل الجمعوي للإبداع عموما وأدب الطفل خصوصا؟

ج: العمل الجمعوي كان أحد الواجهات التثقيفية المضمونة المردودية التي يقبل عليها الشباب ففي الفترة التي كنت تلميذا وكان ارتيادنا دار الشباب بتاونات متنفسا ومتعة لحضور الندوات واللقاءات التي كانت تنظم هناك من جمعيات مختلفة كجمعية الأمل للثقافة وجمعية أوراش الشباب المتطوع وجمعية النادي السينمائي...  ومن هنا اكتسبت شغف الانخراط في العمل الجمعوي وفي 1997 كنت من حاملي لواء تأسيس جمعية تنموية ثقافية بالزريزر والتي يرأسها حاليا الأخ والصديق المثقف أحمد السامري وظللت منخرطا فيها وعضوا وجاءت بعدها العضوية في منتدى الوحدة للدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية الذي أسسه صديق الطفولة والشباب الأخ عبد العزيز بنعيش وحاليا فأنا عضو مؤسس في جمعية مقدمات للإبداع والثقافة بتاونات والتي جمعتنا بثلة من خيرة المهتمين بالفعل الإبداعي وعلى رأسهم الأخ والصديق والمثقف العضوي إبراهيم ديب وأخريات وآخرون ليس أمامي إلا أن رفع لهن ولهم القبعة فالعمل الجمعوي كما أعايشه هو رئة ومتنفس للإبداع فالمبدع في أمس الحاجة لفضاءات لتلقيح تجاربه والبوح للمهووسين بالفعل الثقافي فإذا كنت تريد شراء عطر لا محالة ستذهب إلى العطار وإذا كنت تريد أن تتنفس إبداعا فعليك بالعمل في الحقل الجمعوي وماذا يمكن أن يقدم للإبداع ولاسيما لأدب الطفل فأنا في تجربتي الأولى مع أدب الطفل وتواصلي مع الجمعيات أعطني أكثر من إرهاصات إيجابية ورغبة أكيدة في تشجيع التجربة فمدينة فتية لا تتوفر على مرافق لعرض الإبداع فجمعيات المجتمع المدني هي ذلك البديل ليرفع التحدي ويرفع التهميش ويعبر عن حرقة الإبداع والتعطش للكلمة.

كلمة أخيرة

ج: في الأخير أقدم لكم الأخ والصديق العزيز محمد العزوزي بتشكراتي على هذا الحوار وهذه الدردشة، وأتمنى لكل مهتم بمجال المستقبل مجال الإبداع الذي هو تطلع لبناء مستقبل زاهر للأجيال القادمة لأطفالنا الذين هم ثروتنا الحقيقية وهم مشروع نجاح هذا الوطن الغالي الذي لا يستسلم أبدا لهذا نقول الغد لنا الغد للإبداع للثقافة محبتي للجميع.

 

حاوره محمد العزوزي

 

علي محمد اليوسفحوار فلسفي اجراه الباحث الاستاذ مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف


 س12: ا. مراد غريبي: ذكرت انه جرى احتدام شديد بين كلا من بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم حول مسالة الادراك والوعي، علما ان ثلاثتهم ينتمون الى الفلسفة المنطقية المثالية التجريبية. هل من اعطاء لمحة سريعة حول الموضوع؟

ج1: ا.علي محمد اليوسف: أننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في أعتبارهم موضوعات العالم الخارجي الحسيّة ما هي سوى أنطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه وجود العقل ونظام السببية معتبرا أياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة.. ليصبح التكرار عادة وليس سببا لنتيجة.

وينتقد جون سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا (في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي – نسبة الى ديفيد هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية).

والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة او المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في أعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية... أشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في أختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو أغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في أنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل أنعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء في أنتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما..ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكرأنساني...

لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي في الواقع تجربة الادراك.

س12: ا. مراد غريبي: نود التركيز على قضية الوعي القصدي في فلسفة جون سيرل، وبماذا يختلف سيرل عن الفلاسفة الانجليز اصحاب الوضعية المنطقية التجريبية؟ وهل اعطى سيرل معان محددة لمفردات تجريدية متعالقة مع الوعي القصدي؟

ج12: ا. علي محمد اليوسف: في هذه المقولة الغامضة لسيرل (التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي بالواقع تجربة الادراك ) نعجز عن فهم محدّد ماذا يعني لنا الوعي، وماذا تعني لنا القصدية في السلوك؟، وماذا يعني لنا الادراك العقلي،؟ وماذا يعني لنا موضوع الادراك؟، فجميع هذه الفعاليات الادراكية وتوابعها تجمعها تلك المقولة في ما أطلق عليه سيرل (تجربة) الادراك.. التي هي ليست موضوعا للادراك فهي آلية تنفيذية مكتفية بذاتها غنيّة ان تكون موضوعا يدركه العقل.

الوعي الادراكي القصدي يحتاج الى أشباع معرفي ومادي لمدركاته لا تنفصل عن مواضيعها الادراكية من خلال التجربة الادراكية لموضوعات معرفية تختلف تماما عن أشباع القصدية لغرائز أدراكية بيولوجية مثل أشباع العطش والجوع والجنس..في هذا النوع من الادراك البيولوجي يكون الاشباع استهلاكيا بمعنى نهاية تجربة الادراك في الاشباع البيولوجي لحاجات النفس والجسم، بخلاف الاشباع الادراكي المعرفي فهو يدّخر خزينا أستراتيجيا معرفيا في الذاكرة في تجريد فكري غير مستنفد في تموضعه الادراكي..

التجربة الادراكية في المعرفة فعالية من فعاليات العقل (الدماغ) لكن موضوع الادراك هو في كل الاحوال شكل ومضمون (محتوى) لموجود متعّين في عالم الاشياء غير مرتهن وجوده بأهمية الادراك العقلي له..ولا يمكن للادراك القصدي المباشر الفصل بين محتوى الشيء ومضمونه، فالمرتبة الاولى للادراك هي في معرفة الشيء كوجود حسي ظاهراتي فينومينولوجي موّحد بصفاته البائنة الخارجية التي ربما تكون معرفتها هي معرفة ماهيّة الشيء المحتجبة خلفها.. وفي نفس المعنى تقريبا فعل منهج الفينامينالوجيا في أدراك الظواهر الخارجية فينومين والماهيات غير المدركة للوجود بذاته (نومين) وجاء هذا التمييز الذي كان تقليديا راسخا في فلسفة كانط ومن ثم في الفلسفة الوجودية لدى هوسرل تحديدا..

فأدراكنا وجود كرسي هو أدراك شخصاني أنفرادي لموضوع يتألف من شكل ومحتوى متعيّن أنطولوجيا، ولا يوجد مضمون من دون شكل يلازمه..كما لا يوجد شكل من دون مضمون يلازمه ويفصح عن ماهيته الانطولوجية كجوهر.. والادراك يكون قصديا هادفا لاشباع رغبته الفطرية الغريزية أو في الاشباع المعرفي، فأشباع غرائز فطرية عند الانسان مثل الجوع والعطش والجنس هي من باب الاشباعات البيولوجية لاهداف الادراكات القصدية، وهذه القصدية الادراكية الاشباعية أنما تكون بعفوية بيولوجية طبيعية تختلف عن قصدية الادراك المعرفي للاشياء..

فالفعاليات الادراكية القصدية الغريزية العفوية البيولوجية كما في حالات أشباع العطش والجوع والجنس وغيرها لا يكون العقل المدرك لاشباعها ملزما بتجربة أدراك قصدي هي أبعد من المتحقق الاشباعي البيولوجي لها..وتكون القصدية هنا شخصانية مكتفية ذاتيا.. وهذه تختلف عن قصدية أشباع الموضوع غير الفطري الغريزي في الالمام بتفسيره كمعرفة خالصة تبغي معرفة الشيء المدرك بخصائصه البائنة أوماهيته المحتجبة لما يجعله العقل خزينا معرفيا أستراتيجيا في الذاكرة.. ويختلف الوعي بحقائق الموجودات في ألادراك المعرفي عنه في الاشباع البيولوجي وفي هذا النوع من القصدية المعرفية (لا يكون الوعي بالشيء وعيا حقيقيا ألا بمقارنته الشخصانية الفردية بغيره من حالات الوعي الاخرى كجزء من الوعي الشخصاني الكلّي) وهذا لا يتم بغير أعتماد الخزين المعرفي الاستراتيجي في الذاكرة التي هي بنك المعلومات المكتسبة بالخبرة العقلية والتجربة... فقد تكون موضوعات الوعي هي أدراكات تتم في الذهن والخيال ألاسترجاعي من الذاكرة ولا يقابلها وجود متعيّن وحضورموضوعي في عالم الاشياء (وتمثل الاحلام شكلا من اشكال الوعي المختلف تماما عنه في حالات اليقظة ) أي ألادراك في موضوعات الخيال المستمد من الذاكرة جميعها تعتمد الشعور المسيطر عليه عقليا بينما لا يكون الشعور ساكنا حضوريا في الاحلام لذا يكون الادراك الحلمي اللاشعوري تداعيات متقطعة لا ينتظمها أدراك تحسّسي مترابط ولا زمن تنظيمي لها..

س13: ا.مراد غريبي: نحن لا زلنا نرغب معرفة فلسفة الوعي التي اشتهر بها جون سيرل عالميا كفيلسوف العقل واللغة والوعي، ما هي خصائص الوعي القصدي في فلسفته خاصة تعتبر من انضج المباحث الفلسفية التي تدرسها الجامعات الامريكية؟

ج13: ا. علي محمد اليوسف: سوف استعين بالاجابة عن السؤال بما كنت كتبته في احدى مقالاتي المنشورة وتعقيبي عليها. اقصد خصائص الوعي القصدي عند جون سيرل وهي:

- (الوعي حقيقي غير قابل للاختزال). بمعنى غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الادراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي بالدماغ والجملة العصبية..

- (الوعي نوعي.) بمعنى هناك نوعية تجريبية لكل حالة واعية، والوعي شخصاني أنطولوجي لا تتم معايشته ألا من قبل موضوع بشري أو حيواني..

- (جميع ملامح الوعي ناتجة من دون أستثناء عن عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي.) (لاتعليق)

- (الوعي القصدي المعروف الوحيد هو الموجود في الجهاز العصبي للانسان او الحيوان)..(لاتعليق)

- (تجربة الوعي الادراكي القصدية النوعية الشخصانية بكاملها هي جزء من مجال وعي ادراكي كلي). بمعنى أشتراك أكثر من حاسة واحدة في تجربة الادراك من جهة، وكل تجربة شخصانية تعتبر محدودة بالنسبة لتجارب لا حصر لها من أدراكات وعي كلي متنوع بتعدد موضوعاته من جنبة أخرى.

- (مضمون الوعي مضمون الوعي القصدي يفيد معنى شروط الاشباع) بمعنى غاية وهدفية الادراك هو أشباع الرغبة في تحريك القصد نحوتحقيق غاية محددة يتوجب بلوغها..والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا..

س14: ا. مراد غريبي: كيف يتحدد الادراك بضوء تجربة الوعي في فلسفة جون سيرل؟

ج14: ا. علي محمد اليوسف: يأخذ سيرل على الفيلسوف أ.ج. آير صاحب كتاب (اسس المعرفة التجريبية) في معرض بناء حجته على آراء مستمدة من هيوم بأن ما ندركه هو بيانات حسيّة .. ليطرح سيرل بضوء ذلك تساؤله:ما الموضوع الذي نحن واعون به مباشرة في حالة الادراك اذا لم يكن جزءا من أي شيء مادي؟ طبعا هنا كان تركيز سيرل على الادراك والوعي القصدي الناتج عن رغبة الاشباع المعرفي التي تفترض سلفا تحقق الوجود الانطولوجي لمواضيع العالم الخارجي للاشياء كمجال أدراكي واقعي، وأغفل أمكانية قيام الادراك على غير متعيّن مادي يحضر كموضوع كما ألمحنا له سابقا، فالعقل يقوم بفعل الادراك القصدي في معالجته مواضيع أدراكية غير مادية مستمدة من الذاكرة التخييلية الى جانب أدراكه مواضيع الواقع المادي الحسية، ولا وجود في حالة الادراك القصدي التخييلي شرطا لموضوع يكون جزءا من شيء مادي كما في رغبة سيرل في عبارته السابقة..ليس شرطا أن يكون الوعي الادراكي بموضوع يمّثل جزءا من واقع مادي حصرا، فالخيال الادراكي يستطيع التعامل مع موضوعات لا وجود لعلاقة أنطولوجية لها تربطها بحواس الادراك ..

ينقل جون سيرل عن الفيلسوف الامريكي (الفا نوي ) في مقال لهذا الاخير بعنوان (تجربة من دون رأس) الى أن الوعي الادراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ، موضحا قوله (أن تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ - والجسم - والبيئة) .

الوعي القصدي عند سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله واقعة بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية..

نلاحظ للمرة الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الادراك القصدي هو المتعّين أنطولوجيا في عالم الاشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة من هذه الورقة البحثية في المحاورة..لكن مقولة الفانوي ممكن حدوث وعي خارج الدماغ تحتاج حجة إثبات قوية باعتقادي.

س15: ا.مراد غريبي: ما علاقة الوعي القصدي باللغة؟ وهل لك تعقيبا اضافيا حول هذا المبحث عند جون سيرل. باعتباره فيلسوف العقل واللغة؟

ج15: ا.علي محمد اليوسف: ابرز فيلسوف معاصر اهتم بالعلاقة الثلاثية التي تربط العقل والوعي واللغة في توليفة فلسفية واحدة هو جون سيرل بلا منازع. وسعى سيرل الى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان الى أدراك الاشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع أستحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا،، ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الاسبقية للعقل أم للغة؟ ويجيب على تساؤله عن الاسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الاساسي القائم وراء تناولي لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل.. وهي نظرية صادقة تحمل حقيقتها المقنعة تماما.

ويطلق سيرل على أن الهلوسة الادراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان، وتعقيبنا أن هلاوس الادراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد أنها (واعية) في أمتلاكها مضمونا ولا هي تمتلك موضوعا، ويتعّذّر التفكير في وعي أدراكي لا يحمل موضوعه المتعيّن كمادة أدراكه الملازمة له، ولا يشترط في موضوع الادراك أن يكون متعينا أنطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية، وبخلاف الهلاوس غير المنتجة تكون أدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها في ملازمة تخليق الادراكات المجردة في الذهن.. وحالة الادراكات الهلاوسية تكون حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغيرموضوع واحد محدد، وتجارب الهلوسات الادراكية التي لا تحمل موضوعها الادراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي..والا كيف لنا تعليل سلسلة الادراكات التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام باكثر من موضوع تخييلي كما نجده في معظم الابداعات الفنية والادبية وبالتحديد في الشعر؟؟ ففي مثالنا هذا لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الادراكية هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي تفتقد موضوعها..بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة وأستحقاق.

س16: ا.مراد غريبي محور هذه الحلقة كان حول موضوعة الوعي القصدي هل تتوفر على تلخيص شامل لمبحث الوعي بضوء فلسفة جون سيرل نختم به هذا المحور من الحوار؟

ج16: ا.علي محمد اليوسف: تعودت كما اخبرتك في محاور سابقة اني اتبع منهجا نقديا لا احيد عنه، وهو المنهج المادي لا اسميه الجدلي في المعرفة، ورغم صرامة وانضباطية طرح جون سيرل الفلسفي حول اشكالية فلسفية مزمنة تجنب الخوض بها غالبية الفلاسفة الا اني اجد في طرح سيرل ثغرات ساتناولها بالتعقيب النقدي الموضوعي ارجو التوفيق به.

يذهب سيرل أن الوعي الادراكي القصدي ظاهرة بيولوجية، أي أنه وعي شخصاني نوعي أنطولوجيا وهو جزء من مجال وعي كلي شامل. هنا بضوء هذا التعريف يجب التفريق بين موضوع الادراك المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون أشباعا بيولوجيا كما في مثال الاشباع الغريزي الجنسي والجوع والعطش وغيرها، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال المعرفة والسعي لاكتسابها.. الذي يكون أدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الانسان كركن أساس تحديدا في أكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهوأدراك بيولوجي على مستوى الشخص المدرك للاشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع أدراكه..ومواضيع الادراك القصدي نوعين موضوع أدراك معرفي، وموضوع أدراك غريزي فطري..وكلاهما يشكلان هدفين متمايزين لتجربة الادراك في أشباعهما...

ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينامينالوجية في الادراك، تقوم على مرتكز محوري أن موضوع الادراك هو المتعيّن أنطولوجيا في عالم الاشياء المادية فقط، ويهمل الادراكات الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها الخيالية، ولا يناقشها في صفحات كتابه الموسوم (رؤية الاشياء كما هي) كفعالية أدراكية لا يمكن أهمالها..وعنوان كتابه رؤية الاشياء على صعوبته الفلسفية المعقدة.. أنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع فقط..علما أن مدركات مواضيع الادراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الابداع في الادب والفكر والثقافة والفنون وجميعها أدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..

يحدد سيرل أن محددات أي أدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه، أي موضوع الادراك، وثالثا حاسّة الابصار العين، التي تكون البداية منها في أستقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه، أي ضوء الموضوع المنبعث منه في تجربة الادراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الادراكات الناجمة عن بقية الحواس عند الانسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر مصادر الاحساسات الاولية في عمليات الادراكات لم يعرها سيرل أهتمامه..كما لم يعر أنتباها الى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في أتمام عمليات الادراكات..ركّز كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الادراكي المادي..وعنونة الكتاب هو (رؤية) بمعنى الابصار في العين وعلاقتها بالوعي الادراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب كاملا...

ورد على لسان سيرل أن علاقة الادراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الادراك الحقيقي السليم، كون أدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وأن أمتلكت (وعيا) أدراكيا في مضمون متعيّن أدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي في أدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم أمتلاكه موضوعات أدراكية لا يشترط أن تكون مستمدة انطولوجيا من واقع الاشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الادراك الهلاوسي منطلقها تداعيات الفكر الصادرعن الذاكرة والمخيلة اللاشعورية التفكيرية غير المنظمّة لغويا...والوعي هو وعي بموضوع يتألف من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي ملازما له..

لكي يقوم سيرل في تأكيد رغبته أن أدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا) وقد تمتلك (مضمونا)، الى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الادراك الحقيقية والسيئة أي بين تجربة الادراك السليم وتجربة الهلوسة، وهذا التفريق لا يلغي ولا يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الاشكالية المفتعلة قوله (في التجربتين – يقصد الحقيقية والهلاوسية - يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الاخرى ) .

لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وأنعدامها في تجربة ألهلوسة حتى وأن أمتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي باشتراك التجربتين في أدراكهما موضوعا واحدا....كما لا يمكن أستساغة التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربة الادراك الخطأ الذي زرعته الفينامينالوجيا في تكريسها ثنائية أدراك الظاهراتية هذا وأستحالة أدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينامينالوجيا أدراك الاشياء في ظاهرياتها البائنة عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهياتها التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل..، وفي العودة الى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى أستحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن أدراكه منفصلا غير متعالق بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل..وأدراك موضوع كشكل أنطولوجي لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر..ولا يمكننا تصورأدراك مضمون بلا شكل وموضوع يؤطرهما..ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة شكلا ومحتوى والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..

يطرح سيرل تساؤلا أشكاليا صعبا، يذهب الى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا أدراكه هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع، فهل يمكننا تعميم حقيقة مدركاتنا على الجانب الأخر(مجموع الاخرين) .

لن نأخذ بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة أشكالية قوامها مرتكز حاسة البصر (العين) في التجربة الادراكية عنده فقط أي لا يفند سيرل رأي فلاسفة التجريبية المنطقية المثالية بمنطق فلسفي في حين نجد هناك أجماعا على حقيقة ثابتة لا يمكننا العبور من فوقها هي لا تتمكن الحواس من أدراك الاشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة، وتبقى على الدوام أدراكاتنا ناقصة في معرفة العالم وهو ما ينطبق على حاسة البصر العين .. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره الى مضمار التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فينجشتين، وهذا ما لا يعتمده فلاسفة الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس أنتهاءا بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج مور وبراتراندرسل وايتهيد، كارناب من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسرلا بالادراك ولا بتعبير اللغة...

كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة الفردية كما تنسحب على تعبير الادراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف بخيانة اللغة...التجربة الحقيقية في الادراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض أستنتاجاتها، من حيث أن مواضيع الادراك في غالبيتها تكون متعّينات أدراكية ثابتة أنطولوجيا تقريبا، بينما يكون الادراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الادراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك فالادراك الفردي لا يتوّصل الى حقائق علمية قاطعة بل الادراك قسمة مشاعة أمام الجميع في ممارستها ضمن الامكانيات المتعددة في تنوع ألادراكات الشخصانية لتحقيق حالة الاشباع القصدي، عليه تكون نتائج الاستدلال الادراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى..يوجد تفاوت أدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد تفاوت في أدراكنا حقيقة الوجود يسبق أدراكاتنا الفكرية عنه..مما يجعل أمكانية الخطأ الجمعي متراجعا في أدراك الموضوع الواحد..

جون روجرز سيرل: فيلسوف امريكي ولد عام 1932 ويشغل ألآن درجة أستاذ فخري في فلسفة العقل واللغة، وأستاذ طلبة الدراسات العليا في جامعة بيركلي – كالفورنيا، معروف على نطاق واسع في مساهماته في فلسفة اللغة والعقل والفلسفة الاجتماعية، بدأ التدريس في جامعة بيركلي عام 1959..

انتهى

 

 

ناجي ظاهرتضرب جذوره في قرية فلسطينية مهجرة منذ عام 48، تدعى سيرين. ولد في مدينة الناصرة بعد سنوات من تهجير اهله القسري. نما وترعرع في الناصرة. قاص وشاعر وصحفي عمل في الصحافة، الادبية خاصة، منذ شبابه الاول وما زال يعمل فيها. ابتدأ الكتابة عام 1965 وهو لما يزل على مقاعد الدراسة الا انه يعتبر عام 1968 بدايته الحقيقية في عالم الكتابة. صدر له حتى الآن اكثر من ستين كتابًا. ترجم عدد من كتاباته إلى لغات اجنبية. حصل على جائزة الابداع الادبي عام 2000. ناشط في الحياة الادبية والثقافية ويُعلّم الابداع الادبي للطلاب منذ سنوات بعيدة. انه الكاتب الاديب ناجي ظاهر. يعرف فيما يلي بحياته الشخصية والعامة ايضًا ويُلقي المزيد من الاضواء على جوانب غير معروفة في حياته وتجربته.

- الحديث عن سنة ومكان الولادة، الاهل والعائلة، مكان السكن ...

* ولدت بعد سنوات من التهجير القسري لأبناء عائلتي من قريتهم الوادعة سيرين.. واشير إلى ان اسم قريتي مأخوذ من كلمة يونانية قديمة هي السارونة وتعني حورية الماء.. وهي امرأة نصفها سمكة ونصفها الآخر بشر. اما مكان الولادة فقد كان في الناصرة. تنقلنا في اكثر من حي منها حي النبعة في سوق البلدة القديمة. والحي الشرقي وقد شهد شطرًا من يفاعتي وحي الصفافرة. قبل سنوات، بعد وفاة الوالدة تحديدًا، تشتت ابناء اسرتي ايدي سبأ، فأقام كل منهم في واحد من احياء الناصرة.. اقيم حاليًا في حي شنلر.

- من اين بدأت فكرة الكتابة لديك؟ كم كان عمرك؟ هل كان هناك من دعمك ؟ من هو ولماذا؟...

* في الطفولة الاولى كنت طفلًا شقيًا.. لم اعش طفولتي.. وكانت والدتي رحمها الله تطلق علي وانا لما ازل في الثالثة او الرابعة صفة الختيار، فكانت تطلب من نسوة الحارة أن يصمتن عندما ادخل الغرفة. لاعتقادها انني سأفضحهن وسأروي كل ما تحدثن به وتفوهن لأبناء الحارة. في البداية شاهدت عند الجيران كتلة خشبية تطلق اجمل الانغام. عرفت فيما بعد انها آلة العود.. فهِمتُ بها. إلا أن الحلم مات فور ولادته بسبب فقر الاهل. بعدها اكتشفت طاقة على التمثيل والاخراج، وكان هذا عندما كنت اروي ما استمع إليه من حكايات ترويها جارتنا قادرية الملا رحمها الله، لأبناء الحارة وكنت اوزع عليهم الادوار ليقوموا بتمثيل ما أرويه من قصص. عندما بلغت الثالثة عشرة من عمري طرق باب بيتنا من يستعطينا طالبًا المساعدة فردت عليه امي قائلة إننا فقراء ولا نملك شيئًا واقترحت عليه أن تعطيه رغيف خبز ساخنًا فهزّ رأسه موافقًا.. وضع رغيف الخبز في جيبه وانطلق غير ناظر إلى الوراء. تأملته وهو يمضي غير عابئ بما وراءه، انتابتني حالة قاتلة من الحزن فتوجهت إلى اوراقي واقلامي ابثها ما شعرت به من حزن والم.. لكن على لسان ذلك الشخص الفقير. كانت تلك اول قصة كتبتها في حياتي. بعدها مررت بفترة اعتبرتها تمرينًا على الكتابة تواصلت مدة ثلاثة اعوام.. في عام 1968 كتبت قصتي الحقيقية الاولى.. ونشرت آنذاك كما يعلم الكثيرون في مجلة "الجديد" الحيفاوية. في طفولتي كنت وما زلت في كهولتي عاشقًا مُحبًا للكتاب. لهذا اعتقدت دائمًا وما زلت اعتقد أن محبة الانسان للكتاب تعني في بعض من جوانبها غرامه بالكتابة. وان في داخل كل قارئ جاد مشروع لكاتب رائع. حبي للقراءة كان المشجع الاول على الكتابة. لم يشجعني احد. انا من شجعت نفسي. وقد ترسّخ لدي منذ البداية أن الانسان هو من يُشجع نفسه وأن تشجيع الآخرين ما هو الا تتميم معاملة.

- ما هي مواضيع كتاباتك من البداية حتى الآن؟!

* امس كنت اتناقش مع صديق مثقف. قلت له إنني احب الكتابات الاجتماعية. فحاول اقناعي بان الكتابات السياسية اهم. بعيدًا عن تفاصيل ذاك النقاش اقول اعرف ان السياسة يمكن أن تدخل في كل تفاصيل حياتنا. إلا أنني أرى انه يوجد هناك الكثير من الفرق بين السياسة والابداع الادبي وقد اختصرت هذا الفرق بما مفاده أن الادب استراتيجية ورؤية في حين أن السياسة تكتيك وتخطيط وشتان ما بين الامرين. منذ كتاباتي الاولى كما قد تلاحظين ركزت على الجوانب الاجتماعية في الحياة ولم اكتب القصة السياسية بالمرة علمًا أن كل من قرأ قصصي لمس البعد السياسي الذي حضر ربما دون وعي مني. أنا مؤمن أن التقدم الاجتماعي هو الاهم واننا عندما نتقدم اجتماعيًا لا بد أن نتقدم سياسيًا لأن الانجاز السياسي في حالة التقدم الاجتماعي سيكون تحصيل حاصل. لقد دفعت مقابل اختياراتي الادبية الواعية ثمنًا غاليًا تمثّل في عدم وصول كتاباتي إلى آفاق واسعة من القراء. وقد كنت اعرف منذ البداية انه بإمكاني أن انضم إلى هذا الحزب السياسي او ذاك فأعرف أكثر وتنتشر كتاباتي اكثر.. إلا أنني فضلت أن اكسب استقلاليتي حتى لو كان مقابل ذلك محدودية الانتشار الذي يسعى إليه الجميع. لست نادمًا على اختياري هذا ولديّ شعورٌ أنني سأقرأ كما حلمت في المستقبل.. يسرني أن أقول إن العديد من اعمالي الادبية ترجم إلى لغات اخرى وادخل في مناهج التدريس المقررة. . وفي هذا السياق اذكر ان مترجم كتابي القصصي "النبي المهجّر"، إلى الانجليزية اخبرني أن الكتاب يدرّس حاليًا في خمس او ست جامعات امريكية.

- هل استعنت بشيء معيّن حلال كتاباتك ؟ (كتب، اشخاص، مؤسسات...)

* في طفولتي كنت اتصور الجنة مكتبة. وحتى هذه الايام ما زلت أرى أن الكتاب هو اجمل ما في حياتي واكثر ما حببني بهذه الحياة. القصص الشعبية في الطفولة والكتب في مرحلة تالية من مراحل العمر الاولى كانت هي مدرستي. وما زلت حتى هذه الايام طالبًا مُجدًا في عالم الكتب. بالنسبة لتشجيع الاشخاص اقول إن الكثيرين شجعوني عندما رأوا اهتمامي الشديد بالكتاب وعالمه ولمسوه بأيديهم تقريبًا، وقد انطبق عليّ فيما يتعلق بمسألة تشجيع الناس هذا ما قاله بول كويليو في روايته "الكيميائي"، ومفاده اننا عندما نريد شيئًا من اعماق قلوبنا فإن العالم كله سيتآمر معنا لنحققه وننعم به. هذا القول منقول بتصرف عن الكتاب المقدس/ الانجيل لا سيما عندما يذكر الايمان الحقيقي وحبة الخردل.. وهو ما يزيد في قيمته. فيما يتعلّق بالمؤسسات وتشجيعها اعترف أنني لم اسع إليها لعلمي انها "لن تعطيني نعجتها إلا لتأخذ مني الثور والجملا"، كما اشار ابو العلاء المعري في قول شعري آسر. لقد فضلت أن اربح نفسي على أن اكون تابعًا لهذه المؤسسة او تلك. لقد ولدت حرًا ومستقلًا وسوف ابقى كذلك إلى آخر يوم لي على هذه الارض. التشجيع الحقيقي يأتي باختصار من داخل صاحبه اولًا وقبل كل شيء. ولا يأتي من الخارج بالضرورة.

- لمن كنت تقرأ في بداية مسيرتك ؟ اي من الشعراء/ كتاب / نقاد كنت تقرأ؟

* لم تكن في طفولتي كتب. وكثيرًا ما كنت أعثر على هذا الكتاب او ذاك مُلقىً في هذا الشارع او سواه. فكنت اطير به إلى البيت لأقرأه بنهم. ذات يوم أهداني بائع فلافل كتابًا شبه ممزق اكتشفت فيما بعد بمساعدة مدرس اللغة العربية الاستاذ محمود كناعنة رحمه الله انه كتاب "مثالب الوزيرين" لابي حيان التوحيدي، فقرأته قبل أن أعرف من هو مؤلفه وقد اذهلني وادخلني في مطارحة غرامية ثقافية من نوع رائع مع صاحبه ما زالت دماؤها تجري في عروقي حتى هذا اليوم. واذكر بالمناسبة انني كرّست مجموعة شعرية كاملة لابي حيان التوحيدي حملت عنوان "قصائد الى ابي حيان التوحيدي"، وقد صدرت في اوائل الثمانينيات ضمن منشورات جامعة حيفا. بعد أن دخلت المدرسة مباشرة تقريبًا تعرّفت على الكاتب المصري العربي كامل كيلاني، فانبهرت به وبكتاباته وما زلت حتى هذه الايام اعتبره الرائد الاول والحقيقي لأدب الاطفال في ادبنا العربي المعاصر. كان هذا قبل عام 67 وقد اكتشفت في تلكم الفترة مكتبةً عامةً عامرةً في مجلس عمال الناصرة على اسم فرانك سيناترا، فأقمت فيها سنوات، اقرأ في مختلف الضروب الثقافية، في الفلسفة، الموسيقى والعلوم المختلفة. واذكر أنني قرأت في هذه الفترة المئات من الروايات الاجنبية المترجمة إلى اللغة العربية. بعد عام 67 انفتحنا على العالم العربي المحيط بنا فتدفقت علينا الكتب لتزيدنا علمًا. وقد كتبت عن هذا الانفتاح في كتابي " حياض غثيم- سيرة ذاتية من خلال آخرين". وبإمكانك العودة اليه للتوسع.

- هل كنت تقرأ مواضيع معينه حيث كانت تقربك من الكتابة اكثر؟ ما هي؟

* قرأت في معظم المواضيع كما قلت لك.. اذا لم يكن في كلها. كنت في تلك الفترة نهمًا شديد النهم للكتاب وعوالمه الرحيبة. بيد أن القراءات الاساسية انصبت منذ البداية على الفن القصصي والروائي. صحيح انني قرأت الكثير في الشعر وعنه، إلا أن قراءتي الاساسية تمحورت في فن السرد. اعتقد أن هذا يعود إلى ثقافتي الاولى في القصة الشعبية. فقد بهرتني هذه الحكاية وما زلت مبهورًا بها حتى هذه الايام. مؤكد ان قراءاتي هذه قرّبتني من الكتابة.. لا سيما قراءتي المتجددة دائمًا للسفر الادبي الرائع "الف ليلة وليلة" وللكتب المقدسة كلها.

- كيف تقبّل المجتمع والعائلة موضوع كتابتك (في بداية مشوارك)؟

* قلت في اكثر من مقابلة وكتابة إنني نبتت في صحراء وانني اشبه ما اكون بنخلة نبتت من نواة القى بها مسافرٌ لاهٍ في عرض الصحراء وسمقت دون ري اوماء. لقد شققت طريقي بأظافري، مشيت على الاشواك وما زلت وسوف اواصل إلى ما لا نهاية. فقد وقر لدي انني صاحب رسالة وعلي ان امضي في طريق ادائي لها متحديًا كل العقبات والمصاعب. كان اهلي مهتمين بتوفير المطالب الاولية لنا. ولم يكن بإمكان احد أن يهتم بالآخر. حتى أن أمي رحمها الله عندما لاحظت مدى اهتمامي بالكتاب سألتني عن السبب فقلت لها اريد أن اكون كاتبًا، عادت تسألني عمّا اذا كنت اريد ان اكون كاتب عرض حال اساعد الاميين في كتابة رسائلهم، فقلت لها لا أنا أريد أن اكتب القصص عنك وعن عذابات كل ابناء الاسرة. فقالت والله ما انا فاهمة بس على الله يطلع من بيت المطبلين مزمر. عندما عُرفتُ كاتبًا واصبح اسمي يتردّد في المحافل العامة والخاصة زهت امي بي وارسلت نحوي نظرة ذات معنى مفادها.. الآن عرفت ماذا عنيت عندما قلت انك تريد ان تكون كاتبًا.. انني فخورة بك.

- اول كتابة لك نشرت في مجلة "الجديد" الحيفاوية. كيف تم هذا؟

* كان عنوان تلك القصة " الكلمة الاخيرة"، وكتبتها عن مدينتي، امي وحبيبتي، عبّرت فيها عن مشاعر وجلة بالمحبة لكل هؤلاء، بعد الفراغ منها شعرت أنني كتبت ما يستحق القراءة والبقاء، فأرسلتها إلى مجلة الجديد التي كانت آنذاك تصدر في حيفا ويحررها الشاعر سميح القاسم الذي سيغدو فيما بعد صديقًا غاليًا واعتز به وبصداقتي له، وفوجئت في العدد التالي بقصتي تنشر في موقع محترم من المجلة، عندها حملت المجلة وطرت إلى امي لأريها اياها.. فابتسمت دون ان ترد. كانت تلك القصة الاولى الحقيقية لي وقد مثّل نشرُها ذاك تحديًا ما زلت اعيشه كل ليلة وكل يوم واكاد اقول كل دقيقة وكل ساعة. فقد اشعرني نشرُ القاسم لتلك القصة انني اضحيتُ كاتبًا وانني ينبغي ان اتحمّل المسؤولية كاملة.. منذ ذلك العام حتى هذه الايام بإمكاني أن أقول إنني لا انام الا حينما يهدني التعب وتملؤني القراءة. يهمني أن اقول إن تلك القصة انطلقت من مشاعر انسانية صرفة لولد مهجر. وانها مثلت الانطلاقة لمفهومي القائم على العمق الانساني في كتابتي القصصية. وما زلت سائرًا على هدي تلك القصة وسأبقى. الكتابة باختصار تحولت مع مضي الايام الى قدر لا فرار منه إلا اليه. علمًا أنني لم أعد نشر قصتي الاولى تلك في كتاب.. حتى الآن.

- من أين استوحيت كتاباتك؟

* من الحياة بالطبع. فقد قُيّض لي أن أعيش واقعًا اشبه ما يكون بالخيال. في كل مكان حولي كنت اواجه قصة جديرة بالكتابة، بيد انني لم اتنازل ولا في اي من كتاباتي عن عنصر التخييل الذي يجعل العمل الابداعي ابداعيًا.. مهما استمد مادته من الواقع اليومي المعيش.. انني الآن وانا في هذا العمر المتقدم نوعًا ما في السنوات، الشباب إلى حد بعيد في المشاعر والاحاسيس، انظر إلى الوراء فأرى حياتي مجموعة من القص كل منها تأخذ بيد الاخرى وتمضي في طريقها باتجاه قصة في ظهر الغيب تريد الحضور بأسرع ما يمكن من وقت.

- هل ابطال القصص هي انعكاس لواقعك ام متخيلة؟

* ابطال قصصي يولدون من رحم الواقع ويشبّون في عالم الخيال.. اذ لا كتابة قصصية او شعرية.. وانا بالمناسبة شاعر أيضًا ، بدون خيال او تخييل، ولعلها مناسبة لأن اوضح أن من ينقل عن الواقع هو الصحفي وان مهمة الكاتب المبدع أن يعيد صياغة الواقع بعد وعيه به وامتلاكه له جماليًا.. أضيفي إلى هذا انني مؤمن أن التجربة الانسانية العميقة تختلف كثيرًا عن المُشاهدة التي يتصف بها الكثيرون. أنا كاتب يمر على الاشياء بعمق وتأمل ولا أمر عنها مرور الكرام.

- ماذا يميز قصصك عن باقي قصص الآخرين؟

*هذا السؤال يطرح قضية الاصالة والتجديد بكل ثقلها. ما يميز قصصي عن قصص سواي هو أن قصصي لها مساحتُها الخاصة بها كابن لعائلة من المهجرين. وأنها تنطلق من رؤية صادقة جدا. اؤكد اننا كلما كنا نحن بصدق وعمق كنا مميزين.. وأن التميّز لا يُقصد وإنما ينبع من اعماق رؤيتنا وفهمنا للعالم ولأشيائه المحيطة بنا. تريد أن تكون مميزًا باختصار؟ كن انت.. انت بكل ما لديك من صدق وعمق.

- ماذا تعني لك "سيرين" ؟

* إنها طفلة باكية في الخيال. احاول دائمًا أن أزيل دمعتها لكن دون ان افلح. طوال عمري وأنا احاول أن ابعث الفرحة الهاربة في عروقها.. وسوف اتابع إلى اليوم الاخير.. إنها مسقط راس الاحباء وهي مرابع الطفولة المتخيلة.. إنها جذوري وعالمي.

- ماذا تعني لك "الناصرة" ؟

* لأقل لك بداية إنني أحد العشاق المغرمين بهذه البلدة. انا لم اطلع منها ولم اغادرها طوال ايام عمري. ولي جملة اعتقد انها باتت معروفة هي:" انني صغرّت العالم حتى اصبح الناصرة وكبّرت الناصرة حتى اضحت العالم". الناصرة بالنسبة لي كما قال ناقد صديق تعتبر المكان البديل لسيرين الخالدة. كثيرًا ما قلت لمن التقيت بهم من ناس وطلاب إن العالِم الاغريقي القديم ارخميدس عندما سئل أين مركز الارض أجاب سائله هنا حيث اقف، وأنا لو سألني احدهم مثل هذا السؤال لأجبته هنا مركز الارض حيث اقيم في الناصرة. الناصرة بالنسبة لي ليست الطرقات والبيوت وإنما هي تاريخي الوجداني بكل ما حفل به من محبة وأمل. في كل من شوارعها واماكنها الخفية توجد ذكرى ومحبة. هي باختصار عالمي كله ولا اتصور العالم بدونها.. إلا خرابًا. وهي تقيم فيّ اكثر بكثير مما اقيم فيها.

- ما هو عدد قصصك التي كتبت حتى الآن؟

* لا اعرف. كتبت القصص طوال حياتي. ما يمكنني أن اقوله حاليًا هو أنني كلما جلست إلى حاسوبي لأكتب قصصي اشعر أنها المرة الاولى التي اكتب فيها.. وكأنما انا كاتب ما زال يتلمس طريقه نحو القصة الاحلى والاجمل التي لما يكتبها بعد.

- الراوي في القصص التي كتبت هي بلغة المتكلم "الانا"، لماذا؟

* هذا الكلام ليس دقيقًا فقد كتبت بمختلف الضمائر (قد يكون ابرزها المضارع)، كما كتبت بمختلف الاساليب بدءًا من اسلوب الحوار مرورًا بأسلوب السرد العادي انتهاء بأسلوب الرسالة. وقد وصفني الناقد الصديق الدكتور نبيه القاسم بأنني كاتب تجريبي وانا اعتز بانني كاتب تجريبي. اما فيما يتعلّق بضمير الانا فهذا يعود إلى سببين احدهما انه الضمير الاكثر حميمية والآخر انني عشت جرحًا ما زال مفتوحًا وسيبقى.. هو جرح التهجير القسري من سيرين الحبيبة.

 

حاورته: مي عودة

 

 

2916 علي اليوسف ومراد غريبيحوار فلسفي اجراه الباحث الاستاذ مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف

س1: مراد غريبي: في احدى مقالاتك الفلسفية تساءلت هل الوعي مادة؟ ما توضيحك الاجابة على هذا التساؤل.؟

ا. علي محمد اليوسف: هل الوعي يمتلك خواص المادة مثل الحركة والإمتداد والأبعاد ألثلاثة الطول والعرض والارتفاع واضاف انشتاين البعد الرابع الزمن؟ وهل تمتلك المادة خاصية التفكير الواعي منفردة على خلاف خاصية تفكير الوعي في تعبير اللغة عن مدركات العقل المادية ؟ هل المادة عقل مفكر ذاتيا يعي تفكيره؟ وهل الفكر جوهر مادي مستقل عن منظومة العقل المتعالقة بإدرك الموجودات؟ وبأي وسيلة تعبير تمتلك المادة الإفصاح الإستدلالي عن وجودها الانطولوجي دونما إدراك الوعي العقلي لها في غيردلالة اللغة؟. (نقصد بالمادة هنا كل موجود غير عاقل يمتلك صفات وماهية المادة كمتعّين أنطولوجيا يدركه العقل الانساني ولا يدرك هو العقل).

لقد "وضع هوبز النزعة الآلية في الإمتداد، وأضاف جوهرا آخر للمادة هو التفكير لكي يفسح في المجال لوعي الانسان الذاتي، وجعل من هذين الجوهرين – يقصد المادة والوعي -  يعتمدان على الله " .

س2. مراد غريبي: اذن بماذا تحدد انت الاجابة على التساؤلات التي طرحتها؟.

ا. علي محمد اليوسف: الوعي ليس مادة بالمعنى الحسّي المتعين أنطولوجيا بل هو ادراك معبّر عنها، وصفات ألإمتداد والحركة الآلية في المادة لا غبار عليها،والوعي لا يمتلك خواص المادة ولا صفاتها بإستقلالية عن منظومة العقل الإدراكية من ضمنها تعبير اللغة، ولكي يكون الوعي متعّينا مدركا أنما يكون في إمتلاكه قابلية التحول من موضوع لافيزيائي الى لغة تعبيرفيزيائي في التفكير بشيء مادي أو بموضوع خيالي.وإلا أصبح الوعي من إفصاحات النفس تجريدا التي هي ليست موضوعا مدركا بإستقلالية عن العقل.بل النفس مفهوم سلوكي بتعبيرلغة العقل عنه. بمعنى لكي يكون الوعي موضوعا مدركا عقليا علينا ربطه باللغة في موضعتهما ألاشياء التي يعبرّان عنها. وبغير تلازم الوعي مع لغة التعبير لا يبقى وجود له في عالم الموجودات الخارجية في التعبير اللغوي المتموضع معه الوعي في كل شيء يدركه العقل بوعيه فيه وتعبير اللغة عنه. وبغير هذا التلازم بين الوعي واللغة وبين الوعي والعقل يكون الوعي صمتا تفكيريا بألذهن داخليا استبطانيا فقط. بعبارة ثانية الوعي هو تموضع لغوي صامت في التعبيرخارجيا عن مدركات العقل، واللغة تموضع إفصاحي عن مواضيع إدراك الوعي لها. الوعي حلقة ضرورية داخل منظومة ألإدراك العقلي لا يمتاز بخصائص المادة ولا يمتلك خاصية أن يكون موضوعا تجريديا أو ماديا يدركه العقل.

س3: ا. مراد الغريبي: كيف يكون الربط بين علاقة تجريد كلا من الوعي واللغة ببايلوجيا العقل؟

ا. علي محمد اليوسف: الوعي حلقة تجريد يمتاز بها العقل ويمارسها وسيلة تجريد معرفية شأنه شأن اللغة، وليس الوعي جوهرا ماديا مستقلا ذاتيا ايضا. فكلاهما الوعي واللغة حلقتان تجريديتان في منظومة العقل الإدراكية. وكما لا يستطيع العقل جعل اللغة موضوعا مستقلا في إدراكه لها دونما أن تكون اللغة تعبيرا عن موضوع مدرك، وكذا يعجز العقل أن يجعل من الوعي موضوعا يدركه بإستقلالية لوحده خارج منظومة الإدراك. الوعي أو اللغة تجريدان تعبيران يرتبطان بعملية الإدراك العقلي ولا قيمة لهما في إستقلاليتهما عن موضوع مدرك. بمعنى لا يمكن للعقل أن يدرك الوعي أو اللغة تجريدان مستقلان من غير تعالقهما بمعنى قصدي يلازمهما.

ولا يكون الوعي موضوعا مستقلا لإدراك العقل له، فالوعي شأنه شأن الزمن ليس موضوعا لإدراك العقل بل وسيلة إدراكه لمواضيعه، كذلك اللغة هي تجريد تعبيري للعقل لكنها ليست موضوعا مستقلا في إمكانية إدراكها مجردة عن موضوع يلازمها، وعندما نفكر بشيء ما أو موضوع ما فنحن نفكر به لغويا تجريديا –  وتموضعيا ماديا، أي بمقدار ما تكون اللغة تجريدا في تعبيرها الفكري عن الاشياء بمقدار ما تكون جزءا متموضعا ماديا في التعبير عن تلك الاشياء كموجودات تحمل لغة إفصاحاتها معها.. اللغة ليست خاصية الفكر التجريدي في التعبير فقط بل هي لغة تمثل جزءا متموضعا في كل شيء يدركه العقل. اللغة ليست إدراكا تجريديا فقط وإنما هي صفة ملازمة للاشياء التي يدركها العقل ليس بلغته بل في إكتشافه تموضع اللغة بها ويقرأها العقل وعيا تجريديا لغويا في انطولوجيا الموجودات المدركة..

وحينما يدرك الوعي العقلي المادة كتجريد لغوي فهو يكتسب خصائص الموضوع المادي المدرك المنفرد بلغة الذهن الصامت. بمعنى الوعي لا يكون ماديا حسّيا في تعبيره اللغوي عن الاشياء وأنما يبقى الوعي تجسيدا لغويا تجريديا في التعبير عن مدركات العقل المادية والخيالية. الوعي أكثر تجريدا صامتا من تجريد اللغة الصامتة والإفصاحية معا، كون الوعي فهم معرفي صامت وليس تعبيرا إدراكيا تصوريا مثل اللغة يمكن معرفته من خلال تعبيره عن موضوعه الذي يجري التفكير فيه ويعيه العقل.. وفي كل هذه الخصائص التي نتصورها خطأ أنها مستقلة عن بعضها في الوعي واللغة إلا أن حقيقتهما البايولوجية جوهران ينتظمهما ألإدراك العقلي.

وحينما يعي الوعي ذاته بمعنى حينما يعي الانسان وعيه  لذاته فهذا لايخرج عن أصل التعبير في معنى مرادف هو إدراك العقل لذاته كموضوع الذي هو ماهية الانسان الفردية التي لايدركها سوى صاحبها، في مطابقة الوعي المجرد مع كينونة العقل الفيزيائية التجريدية لغويا في تعبيره عن مدركاته وفي تعبيره الواعي عن كينونته الذاتية. وفي كلتا الحالتين لا يكون الوعي موضوعا منفصلا لإدراك العقل بل وسيلة إستدلالية له في معرفته الاشياء. الوعي لغة عقلية صامتة واللغة وعي ناطق في تعبيرات العقل عن مدركاته.

س4: ا. مراد غريبي: هل تجد هناك موضعة تكوينية للوعي في المادة المدركة؟

ا. علي محمد اليوسف: ليس هناك من علاقة إدراكية حسّية ولا حتى علاقة تخييلية ميتافيزيقية، تربط بين (المادة والوعي) في أمتلاكهما خاصية الحركة والامتداد والأبعاد الثلاثة لكل مادة . فالمادة والوعي جوهرين متكاملين في وظيفة الإدراك العقلي لكنهما جوهرين منفصلين كموضوعين في إدراك العقل لهما كماهيتين منفصلتين. ولا يمتلكان(المادة والوعي) الإستقلالية التأهيلية الإنفصالية أحدهما عن الآخر ليدخلا في علاقة معرفية وإدراكية مع الله كما ذهب له هوبز. إختلاف المادة عن الوعي أنها تمتلك صفاتها الانطولوجية كمتعيّن مادي يدركه العقل، وهذا ما لا ينطبق على الوعي كونه غير مادة لذا فهو ليس موضوعا مستقلا في إدراك العقل له.فأينما وجدت المادة وجد الوعي الملازم لها في إمكانية إدراكها. وهناك فرق جوهري كبير بينهما سبق لي ذكره هو أن المادة تكون موضوعا للعقل بينما لا يكون الوعي موضوعا مدركا للعقل، لذا فالحركة والامتداد والأبعاد الطول والعرض والارتفاع والزمن ألإدراكي لها هي صفات للمادة فقط ولا تكون صفات ماهوية أو خصائصية للوعي الذي هو تجريد لا مادي حاله حال اللغة والزمن كمفهوم مطلق في تعبيره عن الشيء وهو ليس جزءا مدركا يلازمه.

التفكير ليس آلية خاصية تمتلكها المادة أية مادة، فالمادة لا تفكر نتيجة الوعي الإدراكي العقلي لها الذي هو جوهر لغوي تجريدي لا مادي، بل الوعي ينوب عن لغة تفكيرالعقل في موضعته الاشياء المادية ويبقى إدراك اللغة المتموضعة بالشيء تجريدا تفكيريا للعقل وتبقى المادة وجودا أنطولوجيا في ذلك الإدراك مستقلة وجودا. بمعنى لا توجد خصائص معينة تجمع المادة بالوعي على أنهما جوهرين غير منفصلين وليسا جوهرين متداخلين داخل منظومة العقل الإدراكية الواحدة.

س5: ا. مراد غريبي: هل تنطبق صفات المادة التمدد والحركة والتقلص على الوعي ايضا مع فارق التجريد بينهما في تعبير اللغة عنهما؟

ا. علي محمد اليوسف: صفتا الحركة والامتداد اللتان تمتلكهما المادة كجوهر، لا يمتلكهما الوعي كتفكير مجرد في تعبير اللغة عن مدركات العقل إلا فقط بإرتباط الوعي بموضوعه المادي ويكتسب منه الحركة والإمتداد بتجريد منفصل عنه.. وهنا يكون الوعي الملازم لإدراك الشيئ في مجمل تحولاته وتغييراته هو (زمن) إدراكي ملازم للشيء بفارق أن الوعي زمن مفارق لموضوعه بعد الإدراك العقلي له بخلاف الزمن الذي يلازم الموجودات ولا ينفصل عنها إلا بوسيلة واحدة حينما يكف العقل عن إدراك شيء يكون إستغنائه عن زمن إدراك ذلك الشيء قائما بالإنفصال عن العقل وليس بالإنفصال الزمني عن الموجودات المادية، الزمن ملازم دائم للاشياء فكل مدرك مكانا هو مدرك زمانا وبغير هذا التعالق الزمكاني لا يقوم العقل بوظيفة إدراكه الاشياء، ولا يكون الزمن ملازما العقل الا وقت حاجته إدراك الاشياء، لذا فالانسان يكون متحررا من سطوة الزمن الإدراكي عليه في حالة اللاشعور وفي أثناء النوم.

وعندما نؤشر على وجود شيء أنما يكون تأشيرنا مرادفا متعالقا مع زمن إدراكنا له، في حضور الوعي معه زمنيا إدراكيا. الوعي بالشيء مرتهن بملازمة زمن الإدراك لذلك الشيء،  والزمن  يلازم العقل في حضوره الإدراكي فقط ويلازم الشيء مكانا في كل الحالات وجميع الإنتقالات والسيرورة والحركات. وجود الشيء هو زمن وجوده الانطولوجي، بينما الوعي تعبير لغوي صامت لا علاقة مركزية دائمية تربطه بالتبعية بالشيء المدرك خارج تبعيته لمنظومة العقل الإدراكية..

أما أن يكون الوعي منفردا بأستقلالية  كجوهر ميزته حركة أمتدادية في الاشياء فهذا ما لا يقبله علم وظائف وفسلجة الاعضاء كون الوعي هو حلقة غير منظورة ولا محسوسة ولا تمتلك إستقلالية تفكيرية دونما إرتباطها بمنظومة العقل الإدراكية في معرفة الاشياء والتعبير لغويا تجريديا عنها.. فالوعي يبقى حلقة تجريدية تفكيرية لا مادية يتوسط الحواس والذهن ولا يمتلك الاستقلالية ولا قابلية أن يكون موضوعا مدركا انطولوجيا متعينا بأبعاد المادة مثل الحجم والكتلة والارتفاع والطول والعرض وحالات المادة الصلابة السيولة والغازية وغيرها من خصائص مادية ممكن إدراكها بالحواس.

س6: ا. مراد غريبي: ما علاقة الوعي الذاتي بالمادة؟ وهل الوعي تخليق عقلي ام تخليق انطباعات الحواس؟

ا. علي اليوسف: علاقة الوعي بالمادة علاقة ادراكية هي من تخليق الدماغ وليست من تخليق الحواس. الوعي ليس انطباعات مصدرها الحواس في علاقة ارتباطها بالذهن، بل الوعي ناتج ردود الافعال الارادية التي يصدرها الدماغ في تفسيره لمدركات الحواس.

والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته الأنوية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود أنطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الأشياء والموجودات الخارجية والمحيط.

الوعي الذاتي هو جزء إدراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، إلا في إرتباطه كحلقة في منظومة الإدراك العقلي، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها... فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت.

س7: ا. مراد غريبي: قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزّعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الإدراك العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها "كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والإمتداد مجرد صفتين له." ما تعليقك على ذلك؟

ا. علي محمد اليوسف: في تعبير سبينوزا الذي ذكرته نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالإدراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجده عند الصوفية الدينية في شخصنتها الذات الإلهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الإلهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله -  قوانينه الخاصة به في قدرته تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الإلهية المعجزة في أعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الإعجاز الإلهي مثلما يقف أمامها عجز الإدراك الانساني لها. ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق في إمتلاكه صفتين هما (الفكر والامتداد) اللتين هما صفتين ماديتين تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة بإستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات. من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الإلهية انه يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها بإستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.

سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة . سبينوزا في مذهب وحدة الوجود أراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالإنصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الإلهية من خلال الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية لا علاقة لأي شيء مادي محسوس بها.

بمعنى لا تمتلك المادة خاصية الفكر بأستثناء أمتلاك عقل الانسان قابلية التفكير اذا ما أعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركات العقل.. الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الإدراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والإمتداد موفقا مقبولا، فالإمتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الإمتداد والحركة المادية وهو ليس مادة؟ نجد عند عديد من الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المأزق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.

س8: ا. مراد غريبي: منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة أهتماما أستثنائيا في أعقاب أطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في أمتلاك الوعي الفردي القصدي لمعرفة الذات .. هل تحدثنا عن هذه الاشكالية الفلسفية وكيف نشات وتطورت؟

ا. علي محمد اليوسف: في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف  برينتانو بمقولته (أن اللاوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثيرهذه العبارة على جون سيرل لاحقا..ليعقب – برينتانو -  تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى أدراك الذات على أنها أشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الادراك بلوغه.. وبذلك تأثر تلميذه من بعده، هيدجر في أعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وأنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود..وخروج سارترلاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه..وغيرهم

س9ا: ا. مراد غريبي: كيف انتقل مبحث الوعي القصدي الى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وسيلارز، ورورتي وغيرهم، من اقطاب فلاسفة العقل واللغة؟

ا.علي محمد اليوسف: مبحث الوعي القصدي كان مثار اهتمام الفلاسفة قرونا طويلة، وكان التهيب من الخوض به هو الدخول في نفق ميتافيزيقي. مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى التي ركز على هذه الاخيرة بتطرف فلسفي كلا من امبرتو ايكو في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية. ما جعل الفلاسفة الاميركان يستضيفون الفلاسفة الفرنسيين والالمان من هواة فلسفة اللغة ويستلموا الراية منهم. يذهب سيرل أنه أستنادا الى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية يوجد فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا أدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على أفتراض عدم وجود الارقام.

هذا المعنى الفلسفي كان مثار جدال حاد جدا بين الثلاثي جون لوك، ديفيد هيوم، وبيركلي، وقد تناولت اشكالية الادراك الانطولوجي في مقالتي المنشورة بعنوان (اشكالية الادراك: الاصل والصورة). وليس هنا مجال البحث في تفاصيلها لأنها تحتاج شرحا مطولا.

س10: ا.مراد غريبي: هل الوعي يرتبط بعلاقة تجريدية مع الادراك ام بعلاقة عضوية بايولوجية مصدرهما منظومة الدماغ؟ ولمن تكون الاسبقية للادراك ام للوعي؟

ا. علي محمد اليوسف: بالحقيقة السؤال معقد ويحتاج عرضا توضيحيا يقوم على الثوابت التالية:

- الادراك الحسي لانطولوجيا الوجود يسبق تشكيل الوعي عنه.

-  الادراك يرتبط بعلاقة تجريدية بالوعي.

- باستثناء الحواس والجهاز العصبي والدماغ لا توجد مفردة واحدة إدراكية ترتبط بهذه المنظومة لا تكون تجريدا مصدره الدماغ عضويا.الذهن، الانطباعات، الادراك، الوعي، الذاكرة، المخيلة جميعها مفردات تجريدية مصدرها منظومة العقل الادراكية ومركزها الدماغ.

- صحيح جدا ان هذه المفردات التي مررنا بها تجريد عقلي وظائفي لكنه لا معنى لواحدة منها ولا لاكثر من واحدة منفردة قيمة يعتد الاخذ بها ما لم تكن مرتبطة بمنظومة الادراك العقلي ومركزها الدماغ والخلايا العصبية المليونية المختصة بكل واحدة من هذه المفردات الادراكية المجردة.

- يوجد إختلاف ليس بالبسيط بين فهم الفلسفة لهذه العلاقة الاشكالية وبين المنظور العلمي التخصصي التجريبي في معرفة وظيفة الخلايا الدماغية المسؤولة عن كل مفردة من هذه المفردات التجريدية.

- ترتبط هذه المفردات التجريدية فيما بينها بصيغة التكامل الوظيفي الادراكي ولا يمكن ان يكون هناك قيمة لواحدة منها لا ترتبط مع غيرها. بمعنى لا وجود لذهن بغير حواس، ولا وجود لادراك من غيرمادة او موضوع، ولا معنى لخيال لا يرتبط بمخيلة، ولا معنى لذاكرة من دون استرجاعات تذكرّية وتداعيات فكرية وهكذا.

س 11: ا. مراد غريبي: هل تجد ان ادراك الشيء هو غير الوعي به وغير معرفته؟

ا. علي محمد اليوسف: في عبارة لجون سيرل أن أدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للادراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الادراك الحقيقي المباشرله، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الاحساسات المنقولة الى الدماغ بزمن أدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الادراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الادراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا،أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا أسترجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء.. وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك أدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى ألادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر أدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع أدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع أشباعات بيولوجية خالصة..ويوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي.. فالادراك المعرفي هو معرفة العالم الخارجي كوجود انطولوجي، والادراك الاستبطاني الداخلي فهو يتمثل بردود الافعال لمثيرات أجهزة أحاسيس الانسان الداخلية في اشباع حاجات الانسان الغريزية مثل الحاجة للاكل والحاجة للنوم او الحاجة للجنس وهكذا، وتدخل مواضيع الادراك الخيالية في تلبية اشباع رغبة استبطانية تراود الانسان اشباعها.

س12 : ا.مراد غريبي: ذكرت انه جرى احتدام شديد بين كلا من بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم حول مسالة الادراك والوعي، علما ان ثلاثتهم ينتمون الى المنطقية المثالية التجريبية. هل من اعطاء لمحة سريعة حول الموضوع؟

ا. علي محمد اليوسف: أننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في أعتبارهم موضوعات العالم الخارجي ما هي سوى أنطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه العقل ونظام السببية معتبرا أياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة.. ليصبح التكرارعادة وليس سببا لنتيجة.

وينتقد جون سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا( في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي – نسبة الى هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية).

والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني يتم داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة او المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في أعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية....أشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في أختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو أغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في أنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل أنعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء في أنتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما..ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكرأنساني...

لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه.... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل التجربة الواعية ليست موضوعا للادراك، بل هي في الواقع تجربة الادراك.

 يتبع في ج2

 

 

2814 رانيا عدليفي التاريخ عبرة وعظة وفكرة ومنهاج، البحث فيه شاق، ولابد لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يتسلح بأدواته التي تعينه على البحث والاستقصاء في التاريخ، وأول هذه المقومات أن يكون محايداً وموضوعياً ومتجرداً من الأهواء والعواطف والميول الذاتية، ويتميز المؤرخ باستقلال شخصيته وعدم تسليمه الكامل بكل ما يقرأ ويطلع عليه من وثائق وأوراق، والمشقة تزيد عندما يقرر المؤرخ أن يكتب لعامة المثقفين والقراء العاديين، ويبذل في هذا قصارى جهده ويضهم المادة التاريخ ويقرأها مرات ومرات حتى تستوى إليه، ثم يبرزها للمتلقي في لغة جامعة مانعة، مع الحفاظ على الصدق والحقيقة التاريخية.

وفي السطور التالية نلتقي مع الباحثة رانيا عدلي؛ التي تنتمي إلى مؤسسة عريقة هي مؤسسة الأزهر الشريف، فدرست العلوم العربية والإسلامية والتي تخّدم على مجال التاريخ، فتكّون لديها زاداً كثيراً أعانها على كتابة الفصول التاريخية فيما بعد، ووقعت في حب الأندلس، وهو حب سيطر عليها وطغى منذ أن كانت في المرحلة الثانوية وعندما التحقت بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، اختارت مجال التاريخ، ولما حصلت على الليسانس لم تكتف بهذا القدر من التعليم ولكنها أكملت دراساتها العليا في مجال التاريخ الأندلسي، وحصلت على الماجستير، وهي الآن باحثة دكتوراه، وخلال رحلتها القصيرة أمدت المكتبة العربية بالعديد من الكتب التي تماست مع شريحة كبيرة من القراء فأقبل الناس علي هذه النوعية من المؤلفات، يدفعهم شوق إلى الأندلس "الفردوس المفقود" وحاضرته الزاهرة مدينة قرطبة، مشعل التنوير في أوربا كلها في العصور الوسطى، ثم انتقلت لتحدثنا عن "رجال صنعوا التاريخ الأندلسي" على مدار ثمانية قرون في هذه الجنة الوارفة التي مازالت تعبق بعطر الحضارة الإسلامية المعطاة، رغم ما بذله الإسبان من الجهود المضنية في اقتلاعها على مدار خمسائة عام وخاب سعيهم، وختمت الثلاثية الأندلسية مع مملكة غرناطة، أخر معاقل دولة المسلمين في الأندلس والتي استمرت قرابة قرنين ونصف فكتبت "الوراقة والوراقون ومجالس الآمالي ودورها في الحياة العلمية بغرناطة"، ولم تنس المشرق الإسلامي في خضم هذه الرحلة، فكتبت كتاب "دروب ومسالك"، حيث تحدثت عن عدد من أعلام المشرق الذين كان لهم بصمة واضحة في ازدهار الآداب والعلوم الإسلامية من أمثال: الجاحظ، وابن خلدون، وفي جعبتها الكثير فهي مشعل نشاط، ولديها الكثير من المشروعات في قابل الأيام والشهور...

ولع بالأندلس..

* متى بدأت رحلتك مع الأندلس ولماذا اخترت مجال الإبداع مع انك باحثة بالأساس؟

2815 قرطبة- الولع بالتاريخ الأندلسي بدأ منذ كنت في المرحلة الثانوية، كان أحد البرامج التلفزيونية يتحدث عن التاريخ الأندلسي، من يومها أحببت القراءة والتعمق في هذا التاريخ، ولكن لم يتثنى لي القراءة والتعمق فيه إلا عقب دخولي الجامعة، حيث اخترت الانتساب لكلية الدراسات الإنسانية - قسم التاريخ، وعقب انتهاء المرحلة الجامعية اخترت الانتساب لتخصص التاريخ الإسلامي باعتبار أن التاريخ الأندلسي ينضوى تحت لواءه، ثم كانت رحلتي في رسالة الماجستير في التاريخ الأندلسي، وكذلك الدكتوراه التي ما زلت بصدد العمل عليها

*هل الإبداع والبحث العلمي وجهان لعملة واحدة أم بينهما تضاد؟

- الكتابة الأدبية أو ما تطلق عليه حضرتك الإبداع يختلف بكل تأكيد عن الكتابة الأكاديمية ممثلة في منهج كتابة البحث العلمي، ووجه الاختلاف بينهما أن الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية غالبا لا يقرأها إلا المتخصص أو من يرغب أن يتخصص في التاريخ، وذلك نظرا لصعوبة أسلوبها بالنسبة القارئ العادي وغير المتخصص، أما الكتابة الأدبية فالهدف منها أن يستطيع كل شخص أيا كان تخصصه قراءة التاريخ والاستفادة منه والاستمتاع بالتعمق فيه، ونظرا لذلك تأتي الكتابة الأدبية مبسطة قدر المستطاع مع عدم إغفال ربطها بالواقع الذي نعيشه، لأن في النهاية إن لم يكن الهدف من قراءة التاريخ: الاستفادة والتعلم من تجارب من سبقونا فهذا يعني أننا نضيع وقتنا وجهدنا فيما ليس منه فائدة ولا من ورائه طائل..

* قرطبة.. لماذا قرطبة بالذات؟

- لم يكن كتاب "قرطبة عروس الأندلس" هو العمل الوحيد عن الأندلس، بل سبقه كتاب "رجال صنعوا التاريخ" وهو يتحدث عن مجموعة من حكام الأندلس الذين كان لهم بصمة واضحة في صناعة التاريخ الأندلسي، وشمل الكتاب الإشارة إلى إيجابيات وسلبيات كل شخصية من شخصيات هؤلاء الحكام .. أما كتاب "قرطبة عروس الأندلس" فهو بداية للحديث عن المدن الأندلسية باعتبار إن قرطبة كانت عاصمة الخلافة في الأندلس، بمعنى هذا لا يمنع أن كان في العمر بقية سيكون لي بإذن الله جل وعلا أعمال تتحدث عن المدن الأندلسية الأخرى، مثل غرناطة، وإشبيلية، وطليطلة وغيرها.

* من قدوتك في هذا المجال؟

- أساتذتنا الأفاضل الذين تتلمذنا على مؤلفاتهم مثل د. محمد عبد الله عنان صاحب الموسوعة الزاخرة دولة الإسلام في الأندلس وغيرها من الدراسات الأندلسية الرائدة ود. حسين مؤنس صاحب المؤلفات القيمة والتي لا زلنا وسنظل لا غنى لنا عنها في أي دراسة أندلسية، مثل "فجر الأندلس"، و"معالم تاريخ المغرب والأندلس" وغيرها من المؤلفات ود. الطاهر مكي، ود. أحمد مختار العبادي، و د. عبد الرحمن الحجي وغيرهم من القامات العلمية التي كانت لها بصمة واضحة وبارزة ولا زالت بصمتها موجودة عن طريق ما سطرته يداها في التعريف بدقائق التاريخ الأندلس.

* اقصد من مبدعي الرواية التاريخية؟

- أنا لم أكتب في الرواية التاريخية، أعمالي كتب تاريخية بصياغة أدبية وليست أكاديمية حتى يستطيع فهمها واستيعابها ومن ثَمَٰ يستفيد منها أي شخص أيا كان مجال تخصصه، بمعنى الهدف من أعمالي هو انزال التاريخ لأرض الواقع، وذلك عن طريق ربطه بالواقع الذي نعيشه، حتى لا تكون قراءة التاريخ مجرد المباهاة بأننا نعرف قصة هذا الأمير أو ذاك، أو نعلم تاريخ هذه البلدة أو تلك، كما أنه ليس الهدف من قراءة التاريخ هو البكاء على اطلال ماضي عفى عليه الزمان، وإنما الهدف من دراسة الماضي بالدرجة الأولى هو فهم واستيعاب الحاضر ومن ثَمَٰ استشراف المستقبل

*هل تنوين الكتابة عن جغرافيا أخرى من حقب التاريخ؟

- نعم وبدأت ذلك بالفعل، حيث أن كتابي "دروب ومسالك" الصادر عن دار كتوبيا للنشر والتوزيع في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021 أول عمل لي يحلق بعيدًا عن الأندلس، حيث يتحدث عن عدد من أعلام المشرق الذين كان لهم بصمة واضحة في ازدهار الآداب والعلوم الإسلامية مثل، الجاحظ، وابن خلدون، وسيكون هذا العمل بداية لسلسلة تتحدث عن أعلام المسلمين في المشرق بإذن الله جل وعلا.

 

أبوالحسن الجمال

 

 

3187 نجاح ابراهيم وعصام شرتحناقدٌ يمتلك من الوعي الجمالي، والحساسية الجمالية الكثير، وعلى رأس ذلك يمتلك الخبرة الجمالية التي تعدُّ أس القيم، الواجب توفرها في الناقد المؤثر. أتابعه كما غيري من المهتمين بالنقد الجمالي، فأجدُ خبرته الجمالية تتنامى شاقولياً وتتطور حتى لترقى زقورات عالية. إنه مصنع جمال بحد ذاته، لا يأنف من التجريب والممارسة والمتابعة في ملاحقة كل ما هو جديد ضمن دائرة الابداع النقدي إنه الدكتور عصام شرتح، العاكف في عرزاله على نسج الدراسات الجمالية في الشعر. ولا يخفى على أحد اصداراته في النقد الجمالي والتي فاقت على التسعين مؤلفاً أذكر منها: فتنة الخطاب الشعري عند جوزيف حرب- الفكر الجمالي في قصائد أولئك أصحابي- فتنة الازاحة في النص الحداثي... يشوقني الإبحار في عالم النقد الجمالي مع قامة إبداعية سورية تجاوزت الحدود الجغرافية

س1- نبدأ من مؤلفاتكَ النقدية في شقّها الجمالي، ما هي أهم المؤلفات الجمالية التي صدرت لك؟ والتي شكّلت منعطفاً مهماً في تجربتك النقدية في شقّها الجمالي؟

ج1- النقدُ كما تعرفين مناهجٌ ومدارس، ولكلِّ منهج طريقة، ولكلِّ مدرسة أسلوبها الخاص وطريقتها الخاصة في الكشفِ الجمالي، وأنا في بحثي عن الجمال كان منطلقي الأساس الكشفَ الجمايَّ الذي هو كشف عن كلِّ مظاهر الإبداع المثيرة في النصّ، وقد وجدتُ في علم الجمال العلمَ المثيرَ الذي يكشفُ عن خصوصية التجارب الإبداعية في شقّها الجمالي، وقد انطلقتُ في كشوفاتي الجمالية من خبرتي الجمالية التي امتدتْ قرابة عشر سنوات أصدرت خلالها الكتب التالية: علم الجمال الشعري، 2018- الصادر عن دار الخليج الأردن. المكونات الجمالية في شعر الحداثة، 2020- الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر. الشعرية بين فعل القراءة وآلية التأويل، 2018- دار الخليج للنشر، عمان، الأردن. حداثة الشعرية، 2018-النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد(222). توترات النص الشعري ( قراءة جمالية في شعرية النص)، 2020- دار الخليج، الأردن، ط1. هذه المؤلفات تبيّن حجمَ الجهد النقدي المبذول في الجانب التطبيقي لشعر الحداثة بين جماليةِ الأسلوب وجماليةِ الرؤية

س2- ترى ماقيمة هذه الدراسات من وجهة نظرك؟

 ج2- قيمة هذه الدراسات نابعة من الفكر الأسلوبي الجديد في النهج الإبداعي، ناهيك عن تعدّد الأساليب البحثية في تناولِ النصِّ، وهذا يعني أنَّ الكشوفات النقدية المتتابعة وراءَ هذا الجهد الإبداعي في الاختيار والكشف، واستخلاص الأحكام النقدية.

س3- كيف تنظرُ للحركة النقدية في سوريا في هذا الزمن العصيب والظروف التي تعيشها بلدنا؟

ج3- النقدُ يَضمرُ كباقي القوى في الحياة إن لم يمارسْ نشاطه، والنقد - بطبيعته بحاجة بالإضافة إلى الموهبة- يحتاجُ إلى جدية الكشف والبحث والرؤية العميقة، وهذه متطلبات لا يستطيعها كلُّ ناقد؛ وهي لا توّرث، ولا يمكن أن يمتلكها الناقد بسهولة، وأكبر مأزق عاشه النقادُ في سورية هو الانقطاع، والانقطاعُ الذي يدومُ سنوات يجعلُ الناقد يتراجعُ كثيراً ومستواه ينحدرُ ويتدهورُ، وهذا ما واجهه النقدُ والنقاد، وطبيعي حيال هذا الانقطاع أن يغيبَ النقد، وتغيب معه الأسماء اللامعة.

س4- كيف ترى واقعَ الشعرِ الراهن في سوريا تحديداً؟

 ج4- حالُ الشعرِ ليس أرقى حالاً من حالة النقد، ليس من ناحية الكمِّ، ولكن من ناحية الكيف، لقد زادَ الإنتاج الشعري ومعه زاد الإفلاس الشاعري، أي ضعفت الجودة والفنية واللذة الإبداعية، ومن هنا، ارتدَّ النقاد إلى النماذج الشهيرة ليلتقطوا بعضَ الجماليات من قصائد ما قبل الأزمة، بحثاً عن الجمالية، طبعاً هذا الحكم يخصُّ الغالبية لا الجميع، فثمة استثناءات ومواهب فردية لا تعكرُها الأزمنة، وهي تقفزُ فوقَ حاجز الزّمن والواقعي والرّاهن، وهذه المواهب نادرة إذا ماقيست بالتجارب اليومية التي تنشر كل ما هو دوني، أو يقعُ ضمن دائرة السرد الممطوط ولغة القصِّ التي دخلتْ النّهج الشعري وليست من الشعرية في من أيِّ جهة أخرى.

س5- لقد هاجمت الكثير من الأسماء الشعرية التي تركت إرثاً شعرياً حافلاً، هل نفهم من هجومك هذا استفزازاً للقارئ أم استفزازاً للجمالِ ليس أكثر؟

ج5: النقدُ أمانة ورسالة، والناقدُ هو رسولُ الإبداع، وهذا الرّسول غايته إيصال رسالته التي تنيرُ، وليس الرّسالة التي تظلمُ أو تعمي. من السهل التمجيد وقد ألِفت أذواقنا العربية على التمجيد كثيراً، وإنَّ أي نقدٍ يطالُ الشاعر لاسيما إذا كان النقد سلبياً فهو نقدٌ باطلٌ، أو غير مؤهل للاستماع له، وأخذه بعين الاعتبار. بصراحة الشعوب العربية قاطبة لا تتقبل النقد إلاَّ بجانبه التمجيدي أو الإطرائي، تتقبل النقد الذي يطري، النقد الذي يصبُّ في خانة تمجيدِ الأنا الشاعرة، وهذا نقدٌ مميتٌ للشاعر، وقتل لبذرة الجمالية التي يمكنُ أن تولد وتظهر في مرحلة ما من مراحل الحياة المستقبلية، النقد التمجيدي هو المبيد للجمالية التي يمكنُ أن تظهرَ في نتاج الشاعر في مراحل قادمة.

س6- حسناً ماهو النقد الحقيقي والمثمر برأيك ؟

ج6- النقد الحقيقي هو النقد الذي يبحثُ عن الجمال ويؤسسُ له، فإنْ غابَ الجمالُ في النقد غابَ النقد كفنٍّ وإبداعٍ جمالي، لأنَّ النقدَ الحقيقيَّ هو النقد الذي يؤسس للجمال في الحكم النقدي. وكلُّ نقدٍ توصيلي ليس إلاَّ.. يمكنُ أن نطلقَ عليه ( هوامش نصية) يبتعد كلَّ البعد عن النقد، النقد هو هدم وبناء وتركيب، وليس استجماماً أو رحلة ترفيه، ومن هذا المنطلق يختلفُ النقد المؤسس عن النقد الغوغائي الفانتازي الذي يضخّم الأشياء ولا يقف على تفاصيلها وحقيقتها التي تنطوي عليها.

س7- لم تتطرق إلى سؤالي عن هجومك للبعض من الشعراء الكبار ؟

ج7- لم يفتني ذلك، سأجيب لا ريب.. هجومي على بعض الشخصيات الشعرية المهمة كمحمود درويش والماغوط وأدونيس، وغيرهم، أنا لا أنكرُ إبداعهم في مرحلةٍ من المراحل، وإنما أستهجنُ بعض كتاباتهم النثرية التي يطغى عليها طابعُ السّرد الممطوط الذي يخلو من الشعرية، أستهجن النصَّ الذي تغيبُ فيه الجمالية، وأكره النصَّ الذي يخلو من الانزياحات الفنية الصادمة، أنا مع النصِّ الذي يحرّك في نبضي الشعرية، وأنفرُ من النصِّ السردي الممطوط الذي يشبه القص، أو العمل القصصي؛ إن كل من نادى بالسردية في الشعر؛ واستحسن هذا الأسلوب، وشجع على إقحام النثر السردي بالشعر دمر الأصالة والفن في الشعر؛ فلا قيمة للسرد شعرياً إن لم يتضمن انزياحات فنية تصويرية شائقة، وللأسف استغل الكثيرون السرد بالمجان، واستسهلوا الكتابة؛ فصارت هذه التقنية السم الزعاف في قتل الشعرية؛ ولا يخلو شعر أدونيس، والدرويش، والعدوان، من هذا النهج في بعض قصائدهم؛ مما جعلني أعيد النظر في شعرية هؤلاء الشعراء بعدما وجدت هذا الاستسهال في تقنية السرد الممطوط عند الكثير من الشعراء التي تخلو حقيقة من بذور الشعرية؛ وإن كل من فهم إن السرد يغذي الشعرية يضحك على نفسه وقارئه، فتضيع الحدود بين الفنون، وينكسر الرتم الشعري المؤثر، وتضعف قيمته.

س8- كيف تنظر إلى النقد العربي المعاصر، وهل ترى أنه مازال بخير؟

ج8- النقد العربي كله في أزمة مصالحة مع الذات ومع القارئ؛ ثمة أزمة في المفهوم العربي ككل للنقد، إن النقد العربي بالإجماع نقد يختلف عن النقد الغربي أو العالمي، جملة وتفصيلاً، في الجمالية والمنهجية والإبداع، والأحكام النقدية؛ النقد العربي يحتاج إلى إعادة صياغة؛ وهذا يعني أن النقد العربي رغم الكثير من الأسماء اللماعة يبقى( نقد اللا نقد)؛ ويمكن أن نضعه في خانة( هوامش النص) لاتتعدى الشرح، وتعداد الصور، والقضايا المجازية واللغوية والإيقاعية؛ وهذه كلها أمور ضرورية في النقد، لكنها ليست كل العملية النقدية؛ فللنقد آفاق رؤيوية غابت عن النقاد العرب؛ في حين كانت الركيزة الأساسية في العملية النقدية في الغرب؛ إذ اكتفى النقاد بكتاب نقدي حقيقي قد يساوي مئات الكتب العربية التي ننطلق عليها نقداً، وهي من النقد براء؛ لايمكن أن نقول عن العرب انهم عرفوا النقد، العرب منذ القديم إلى الآن ماعرفوا النقد، عرفوا ذيل النقد الذي يتمثل في الشروح والتعليقات والإشارات الذوقية هنا وهناك، واتباع ما اتفق من آراء وملحوظات، وكل مايمت إلى الذوق بصلة؛ فللنقد الحقيقي مدارسه ومناهجه الخاصة ورواده الحقيقيون، وللأسف نحن العرب لسنا منهم.

س9- ما هو منظورك النقدي الجديد لحركة الحداثة الشعرية؟ وكيف ترى واقع القصيدة اليوم؟!!

ج9- لاشك في أن النقد اليوم يمر بمراحل جديدة، هذه المراحل تارة تشتغل على النص، وتارة تشتغل على ما هو خارج النص، وتارة تشتغل على المصطلحات الجديدة والمنظورات الغربية في دراسة النص الشعري، مما يعني أن الحركة النقدية تطورت في رؤيتها، ومجالات اشتغالاتها لتشمل ما هو داخل النص، وما هو خارجه، وبتقديرنا : إن اعتماد المنهج الجمالي في الآونة الأخيرة في النقد التطبيقي وتركيز الكثير من النقاد على هذا الجانب قد أسهم في تطور الحركة النقدية لاسيما في إصابة القشعريرة الجمالية التي تحرك النصوص الشعرية؛ فالشعر ليس مجرد كلام موزون في قالب شعري جمالي مموسق، إنه الطاقة الخلاقة التي تلون الرؤى والدلالات، وتكثف منتوجها الإيحائي داخل النص، وهذا يعني أن من واجب النقد أن يكتشف الطاقة النابضة في النص، ويكشف عن الوجه الجمالي فيه، فكم من الدراسات النقدية لا تمت إلى النقد الحقيقي بصلة، وما هي إلا عبئاً على النص أكثر مما هي مصدر إغناء له، ووفق هذا التصور، لا يمكن أن تتطور الدراسات النقدية الحديثة إلا إذا تغلغلت إلى عمق الرؤيا ومكمن حراكها الجمالي. وباعتقادي أن واقع القصيدة اليوم لا يقل تطوراً عن واقع الحركة النقدية في واقعنا المعاصر، فكما تطورت الحركة النقدية في إبراز منتوجها الجمالي، فكذلك تطورت القصيدة اليوم لتثبت منتوجها الشعري المؤثر، لاسيما في تخليق الشعرية التي افتقدناها في الكثير من النصوص الشعرية التي تدعي الشعرية، دون أن تملك القسط الأدنى من الحس الجمالي والخبرة الجمالية في التشكيل النصي.

وأعتقد أن الوعي الجمالي في التشكيل الإبداعي من أبرز ما أضفى على الحركة الشعرية بعض النتاجات المهمة التي لا تنسى لاسيما تلك التجربة الشعرية الفذة (تجربة الشاعر اللبناني جوزف حرب)، والشاعر سعيد عقل، والشاعر محمد علي شمس الدين، وغيرهم، وهذا يعني أن الحركة الشعرية تطورت ليس على صعيد الإفرازات الفردية، وإنما على صعيد الحركة الشعرية، في بلداننا العربية.

ومن الممكن أن تتطور القصائد الحداثية اليوم أكثر من ذلك بكثير لو انفتحت على الفنون البصرية في الحركة والصوت والصورة، والإيقاع، لاسيما الحركة السينمائية في المشاهد واللقطات السريعة التي ترصد الأحداث بتفاصيلها الجزئية وحراكها البصري.

وبتقديرنا: إن دهشة الصورة مرتبطة بدهشة القصيدة، وخصوبة الرؤيا الشعرية التي تبثها، ولا يمكن أن تتطور الرؤيا الشعرية جمالياً إلا بتطور الحساسية الجمالية، وتطور المنظورات الجديدة إليها، فكم من النصوص الشعرية لاتملك من الجمالية إلا الصوت والحركة المموسقة لبعض الكلمات والأنساق الشعرية، ولو بحثت عن مصدر جمالية الرؤيا فيها لوجدتها عقيمة أو ضحلة، وهذا يعني أن جمالية القصيدة أو الإبداع هي كل متكامل، في هيكلها النصي ورؤيتها الخلاقة التي تموج بالحساسية، والوعي والحس الجمالي الخلاق وهذا لاتنتجه إلا موهبة جمالية خلاقة وطاقة إبداعية لايستهان بها. ولهذا، فإن ولادة نص إبداعي حقيقي لاتأتي إلا من مبدع خلاق واعِ بعملية الخلق والإنتاج الشعري الوهاج أو المؤثر.3187 نجاح ابراهيم وعصام شرتح

س10-هل من شعرية للنقد من منظورك؟ وكيف تراها من منظور الشعراء؟

ج10- لاشك في أن مسألة شعرية النقد من المسائل المهمة التي ينبغي الاحتفاء بها، لاسيما في ظل ما نراه اليوم من لغة النقد المعاصر، وما فيها من تجاوزات، لدرجة بات النقد من النقد براء، والكثير من الدراسات النقدية التي تزعم أنها نقدية، ماهي في المحصلة إلا مجرد ارهاصات، وإسقاطات لا تنم عن وعي وخبرة نقدية إبداعية حقيقية في الكثير من الدراسات التي تحمل اسم النقد، لأن النقد بمعناه الحقيقي ما فهمته الذائقة العربية فهماً حقيقياً مؤسساً، لأن النقد الحقيقي يؤسس، ويبني، وينتج، وليس ذلك فحسب، بل إنه يحقق ثمرته اليانعة من خلال دقة مكتشفاته النقدية وفاعلية هذه المكتشفات في البناء النقدي الحقيقي المؤسس الذي تنبني عليه النتائج والقيم النقدية الجمالية الحقيقية فيما بعد، أي ثمرة النقد الحقيقي النتائج المحكمة التي تنبني عن خبرة وتمحيص وإدراك معرفي شامل.

ولا أبالغ في قولي: ليس المطلوب في النقد أن تكون النتائج نهائية بمثابة قوانين رياضية فيزيائية تطبق كما تطبق في العلوم الرياضية؛ وإنما المطلوب في الدراسة النقدية جمالية الفكرة، والرؤية، وعمق ما تصيبه من نتائج دقيقة تخدم الرؤية النقدية المؤسسة لتكون هذه الدراسات؛ منطلقاً لدراسات مستقبلية عميقة في مدلولها ومنتوجها الجمالي الإبداعي الحقيقي.

وقد لا أبالغ في قولي: إن للنقد شعريته كما للشعر شعريته، ومتعته الجمالية، وهذه الشعرية تتأتى من جمالية اللغة النقدية التي يكتسبها الناقد بعد خبرة طويلة في التركيب، والتحليل، والاستقصاء، والإمتاع الكشفي، وهذه الخبرة الجمالية التي يمتلكها الناقد في كشف الظواهر والقيم الجمالية بلغة ماتعة هي ما يحقق للدراسة النقدية شعريتها وألقها وسحرها المدهش.

فكما للشعر سطوته الجمالية، فكذلك للنقد سلطته الجمالية التي تجعل النص الشعري يكتسب قيمته وأهميته، وبهذا المقترب النقدي يقول الناقد علي جعفر العلاق:[ إن القصيدة عمل خاص جداً، لا تذهب إلى الآخرين دائماً. ولا تفتح مغاليقها لهم جميعاً، وفي كل وقت، فهي ليست أغنية، أو حكاية، أو إعلاناً. بل هي عملٌ غائمٌ ومشعٌّ في آن واحد؛ ولذلك فإن ما فيها من ضوء يظلُّ كامناً أو مؤجلاً في انتظار قارئ مرهف؛ لا قارئ عام، قارئ قادر على إحداث ذلك التماس المقلق بينه وبين النص، وليس كل القراء قادرين، بطبيعة الحال على الوصول إلى نقطة التماس تلك: حيث مكمن الضوء، أو الرعد، أو الإثارة. وهكذا، كلما ازدادت القصيدة إحكاماً أو تعقيداً قلَّ عدد قرائها المتميزين؛ أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنص، وتفجير مكنوناته الفكرية، والوجدانية، والبنائية. وتأسيساً على ذلك، يظل عدد المرهفين، من قراء الشعر، قليلاً في العصور كلها، فالشعر، كما يقول الشاعر الأمريكي اللاتيني (خوان رامون جيمينز) هو فن الأقلية الهائلة).

وهذا القول – على ما فيه من تشكيك- يبدو صحيحاً، لأن الشعر حقيقة فن الأقلية العظمى، والقليل من يتذوق الشعر، ويدرك مراميه، وقيمه الجمالية، وتقنياته المؤثرة، فالإنشائية لا تصنع نقداً جمالياً، وإن انساق الكثير منا إلى دراسات (الناقد يوسف سامي اليوسف) الذي غلبت على معظم دراساته النقدية النزعة الإنشائية الراقية؛ واللغة الرشيقة، فشعرية النقد ليست في إنشائيته الماتعة بقدر ماهي في المكتشفات الخلاقة المبدعة؛ وبهذا المعنى المقارب يقول العلاق:[ إن أدبية النقد لا تعني إنشائيته، أو غرقه في لغة الانطباع، أو الخاطرة، أو الرأي المنفعل. ولا تعني الاحتفاء بما تقوله النصوص أو التغني بحمولاتها الفكرية، ومن ناحية أخرى فإن عملية النقد لا يقصد بها جفافه، أو خلوه من بلل الذات، وهي لا تعني تجنب الاحتكاك بالنصوص، أو التماس مع شحنتها الخطرة. بل تعني ارتفاع الناقد إلى أهوائه وانحيازاته، وتعني أيضاً إقباله على تلك النصوص مدفوعاً بقوة الوعي وتوهج الروح معاً].

وبهذا التصور الدقيق، نقول: إن شعرية النقد، أو أدبية النقد تتحدد بمكتشفات الناقد للنص المنقود، ومدى أهمية هذه المكتشفات في الإضافة إلى النص، والارتقاء به إبداعياً؛ فليست من مهام الناقد تشويه النص، ومسخه، أو الحط من قدره ومصدر كفاءته، فهذه تنأى بالناقد عن مهمته الإبداعية الرئيسة، وهي اكتشاف المضمر فيه، ومحاولة التغلغل إلى أعماق النص، وتفكيك جزئياته للخلوص إلى رؤية جديدة وقيمة جمالية أو حكم نقدي جديد، فالناقد الحق يكتشف ما خفي من النص لدرجة يكتشف مالا يراه الشاعر المنتج للنص ذاته؛ وهذه الكفاءة هي التي تجعل النقد شعرياً أو أدبياً، وبهذا المعنى يقول العلاق :[تتجلى أدبية اللغة النقدية في مستوى آخر هو أنها ليست أداة نفعية. قد تكون كذلك في أحيان نادرة لكنها تظل دائما جزءاً من الطقس النقدي، وعنصراً فائق الحيوية من نسيجه، وبذلك، فهي ليست ذرائعية، جاهزة لتحقيق خدمة ما. وهي أيضاً ليست وسيلة محايدة، تنتهي الحاجة إليها بعد أن تنجز هدفها الأساسي أو الوحيد: أعني التعبير عن الموقف النقدي، أو نقله، أو إيصاله. لهذا، كله لابد من أن تزدهر في هذه اللغة ذات الناقد، لا بمعنى الانحياز، أو الميل، أو الهوى، بل ذاته التي تنغمر في موضوعها، وتستدرجه إلى الداخل: تسقط عنه خارجيته، وتتلبسه، وتتماهى معه، لتكشف عن شحنته الداخلية، وما يحتمل في داخله من أهواء، وذوات، ورؤى. وفي هذه الحالة لا يعود النص الأدبي مجرد أبنية وتكوينات لغوية فقط، بل شبكة من الدوال التي تستفز الناقد، وتُستفز به أيضاً، فيشتبك معها في منازلة حميمة خصبة].

فالناقد الحق لابد له من لغة تميزه، وهذه اللغة هي التي تجعله يقترب من حساسية الشاعر؛ من حيث البلاغة، والقيمة، والأثر الجمالي المقنع في كل مكتشف نقدي، أو رؤية نقدية، وهذا يعني أن الناقد الحق يمتلك أعلى القيم البلاغية في كشفه للظواهر، ومعالجتها بلغته المتفردة التي تخصه وحده دون سواه، وقد أشار إلى ما أكدنا عليه العلاق قائلاً[ أنا لا أرى النقد الحق إلا بوصفه نشاطاً لغوياً من طراز خاص؛ فالعملية النقدية لا تفصح عن ذاتها إلا من خلال اللغة؛ وفي اللغة أيضاً. وبدون لغة جذابة وثاقبة لا يستطيع الناقد مهما كان وعيه النقدي عالياً، أن يجسد موقفه من النص وانفعاله به تجسيداً بارعاً ومؤثراً، وبكلمات أخرى؛ فإن الناقد يظل، بدون هذه اللغة الخاصة، ناقداً بالقوة أ كثر منه ناقداً بالفعل، ويظل مسعاه النقدي مشاريع، أو محاولات، أو نوايا نقدية أكثر منها إنجازات مكتملة].

وهذا يعني أن الكفاءة النقدية العالية لا تتأتى إلا من خبرة جمالية في التشكيل؛ ناهيك عن الموهبة الخلاقة، واللغة، والصوت الخاص الذي يميزه عن غيره من النقاد، فكم من ناقد قد ماتت لغته واضمحلت ولم يستطع أن يترك بصمته النقدية الخاصة، وهذا القول يؤكد ما ذهب إليه العلاق قائلاً:[ لابد للناقد الحقيقي من نبرة خاصة، أعني صوتاً شخصياً يدل عليه، ويميزه عن سواه، ويفصح عن اهتماماته: صياغات، وأبنية، ورؤىً، وهكذا، فإن أدبية النقد، تتجلى، بشكل ناصع، في امتلاك الناقد صوته الفردي المميز، وكما تدل القصيدة على صاحبها فإن لغة الناقد المتفرد تكشف عن شمائله التعبيرية، وميوله ولوازمه التي يجد أنها أقدر من سواها على بلورة نزوعه النقدي، أو منحاه في التأمل، والكشف، والتحليل. ومن ناحية أخرى، إذا كانت القصيدة، مثلاً تجسيداً لغوياً للحظة إنسانية خاصة فإن العمل النقدي، وبمعنى من المعاني، قبض على تلك اللحظة اللغوية، ومحاورتها، والارتقاء بها، ومعها من التأمل إلى الوعي، ومن الوعي إلى التجسيد، أو من العماء إلى التشكل]

وبهذا المعنى، نقول: إن أدبية النقد تتمثل في كل ما يجعل من الممارسة النقدية قيمة جمالية في الكشف، والمغامرة، وبلاغة الاستنتاج، ولا عجب أن القليل من الممارسات الشعرية ما تحقق شعريتها ليس بلغتها الإنشائية الجياشة الموهومة كما في دراسات الشعراء أنفسهم التي تطالها اللغة المشرئبة بالإنشاء، والإطراءات الزائدة، فهذه لا تصنع لغة نقدية مؤثرة، أو ما أسميناها ب(لغة نقدية شعرية أو شاعرية)، فمسألة شعرية النقد لا تقتصر على اللغة الجذابة التي يبتدعها الناقد ليجذب القراء إليه مشفوعاً بلغته الأدبية الراقية، كما لاحظنا عند الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف التي نالت دراساته الشريحة الكبرى من جمهور قراء الشعر والشعرية، فهذه الدراسات رغم استحسانها عند البعض لا تشكل ما أسميناه ب( شعرية النقد)، فالشعرية النقدية ليست في المتعة والمجاذبة اللغوية بقدر ما تكمن في المهارة والحنكة في اكتشاف الحكم النقدي والتدليل عليه.

ويرى العلاق أخيراً حقيقة مهمة في محاولاته النقدية، إذ يقول:[ لابد من الإشارة إلى أنني، ومنذ محاولاتي النقدية الأولى، كنت أولي شكل القصيدة، وبناء الفكرة الشعرية عناية خاصة، كانت كيفية القول الشعري لا ماهيته هي ما يستحوذ على اهتمامي كله. ومع ذلك، فإن الوعي وتجلياته في الممارسة لا انفصال بينهما. النضج في وعي الكتابة، لدي، لا يجد اكتماله إلا في نضج أدوات الإفصاح عن التجربة؛ وهذه الأدوات، بدورها، تزيد التجربة حدة وصفاء، لذلك؛ فإن التحول في مستويات التعامل مع النصوص محصلة طبيعية لفائض الخبرة أولاً، وللتعالق الحاد بين الملكة الشعرية، و الاستعداد النقدي في الذات الواحدة ثانياً، ونتيجة لهذا التلاحم القاسي والحميم بين هاتين الطاقتين، كان لي، أو حاولت أن يكون لي، منحاي الخاص فيما أكتب من نقد منحىً يكون فيه النقد أدخل في باب الخلق الأدبي منه في باب العلم، أو البحث الجاف المحض. وتكون فيه اللغة النقدية على قدر عالٍ من النقاء وترف التعبير، والبعد عن الترهل، كأنها مصدر نبيل لرهافة القول، ومجده القائم بذاته، ولذلك، فإن اللغة ليست مجرد وسيلة للتوصيل، أو خادمة لقول أول أرفع منزلة منها، بل هي جزء حي من جمالية الأداء النقدي، وأحد تجلياته الخلاقة.].

وبهذا التصور، تبدو لغة النقد – من منظور العلاق- لغة انسيابية جمالية غضة تشي بإشعاعاتها الجمالية وبعدها الدلالي؛ و لذلك، فإن النضج الجمالي في الكتابة النقدية يبدو من سلاسة اللغة، ونداوتها لا في تعقيدها وتعقيد مصطلحاتها النقدية.

وقد حاولت في لغتي النقدية أن أصل إلى بلاغة الحكم النقدي ودقته؛ فالجمالية الحقة ليست في تعقيد الرؤى، وتغريب اللغة بالمصطلحات الغامضة المعقدة، ولا في اتباع المدارس النقدية بمصطلحاتها الجافة، وإنما بتسريب روح النقد الجمالي في اللغة النقدية لتثمر إبداعياً. لأن النقد الحقيقي الذي يبقى ويستمر هو النقد الإبداعي الذي ينافس الحالة الشعرية ويرقاها دائماً، ويخطئ من يظن لغة النقد لغة تابع لمتبوع، وإنما لغة خلق لمخلوق لترقى درجات فوق المخلوق لتحاكي جمالية الخالق، هذه الجمالية التي تصيب وتدهش وتحقق غايتها الجمالية الحقة.

ونخلص أخيراً إلى القول: إن شعرية النقد فهمها الكثير من نقادنا ومبدعينا فهماً خاطئاً حتى هذا الفهم طال ناقدنا العظيم علي جعفر العلاق وناقدنا الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، وحتى ناقدنا الجليل صلاح فضل، فالجميع صبوا آراءهم حول شعرية اللغة، والرشاقة، والسلاسة في إصدار الحكم النقدي حتى ولو كان الحكم النقدي مغلوطاً، فالنقد لا يكتسب قيمته إلا من شعرية مكتشافاته، وعمقها؛ فالكثير من دراسات الناقد الجليل صلاح فضل إذا ما استثنينا كتابه (أساليب الشعرية المعاصرة) تبتعد كل البعد عما أسميناه بـ(شعرية النقد)، إن دراساته تنطوي على المقارنات، والمحاججات التنظيرية التي لا تستحوذ على أية قيمة شعرية، فالنقد الحقيقي فن جمالي ككل الفنون الجميلة، فالذي لا ينظر إلى النقد كفن وممارسة كمن يتحدث عن الفحولة وهو عنين- رحمك الله يا ناقدنا الفذ خليل موسى- الذي أدرك اللعبة النقدية وخلق من لغته الشعرية لغة نقدية مدهشة، واستطاع أن يغير من مسار الخريطة النقدية في سوريا، بدراساته الجمالية التي أهمها ماثلة في كتابه جماليات الشعرية، والقليل القليل من نقادنا من أدرك ذلك واعترف للرجل بأهميته عربياً فيما أسميناه بـ(شعرية النقد).

ونخص إلى القول أخيراً: ما زالت دراساتنا النقدية على المستوى العربي تفتقر إلى ما أسميناه بـ(شعرية النقد)، لأن شعرية النقد عكس شعرية القصيدة؛ وإن اتفقتا في الجانب العام، فإنهما تختلفان في الجانب الخاص، فلغة النقد تكمن شعريتها في دقة الحكم النقدي، وبراعة الاكتشاف النقدي في حين أن شعرية القصيدة تكمن في تجاوزها الفني، ورؤيتها الخلاقة، وصورها المبتكرة؛ و هذا ما تنأى عنه لغة الناقد الإبداعية التي تهتم بالجانب الكشفي، والحكم النقدي الجديد، والمدلول العميق، فليس الناقد مطالباً بلغة جياشة بالعواطف، والإطراءات، والإعجابات الكثيرة المترامية من هنا، وهناك، فكما قلنا فإن الإطراءات الزائدة تقتل الناقد والمبدع معاً، وتجرهما إلى هاوية لا قرار لها، فهذه الإطراءات قد جرت ناقدنا الفذ يوسف سامي اليوسف إلى هاوية لا قرار لها وكذلك ناقدنا صلاح فضل وغيرهم كثير من نقادنا الكبار، فهذه الإطراءات لا تصنع لغة نقدية شاعرية تقترب من روح النص وجوهره العميق، وكما قلت أن الطاقة النقدية التي يمتلكها الناقد يوسف سامي اليوسف تؤهله أن يتبوأ أعلى الدرجات لكنه شأنه شأن غيره سقط في هاوية إقناع الجمهور، وإمتاعهم على حساب براعة المكتشفات النقدية، وأهميتها، وعمقها، وهذا خطر يهدد ساحتنا النقدية العربية بكاملها، ومن يطلع على النقد الغربي بعمق لا نكاد نجد كلمة إطراء واحدة في دراسة نقدية تتجاوز مئات الصفحات تهتم بما هو داخل النص من تقنيات وقيم، ومكتشفات نقدية مازلنا إلى الآن نلهث وراءها باحثين عن هداها في دراساتنا النقدية المعاصرة.

س11- كيف ترى الشعرية اليوم، وهل بمنظورك اختلفت الشعرية اليوم عن الشعرية فيما مضى؟

س11- الشعرية اليوم شعريات، وليست شعرية واحدة، كل يوم تتولد شعرية جديدة بإحساس جمالي إبداعي متجدد، مادامت الإفرازات الشعرية متغيرة فإن الشعريات متغيرة كذلك، ولهذا تبقى مسألة الشعرية ذات أفق مفتوح متجدد، مع تجدد الحياة وآفاقها المعرفية والوجودية، فما نجده اليوم من إفرازات شاعرية قد يأتي في يوم غد ما يناقضها وينافيها ويغير المنظور الجمالي إليها، ولهذا تتغاير الشعرية وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ومن أجل هذا نجد الأحكام النقدية متغيرة ومتناقضة في مسألة الشعرية والشاعرية كذلك، فلا يمكن الخلوص إلى نتائج دقيقة نهائية في مسالة الشعرية والشاعرية والجمال والجمالية، لأن هذه الأشياء متغيرة زئبقية في حركتها الوجودية ومسرحها الإبداعي.

وتأسيساً على ذلك، تختلف الشعرية اليوم عن الشعرية فيما مضى، وستختلف شعرية اليوم عن الشعرية في المستقبل، قد تختلف أدواتها وقيمها الجمالية ومنظوراتها الرؤيوية، وهذا بالتأكيد يؤثر على العملية الإبداعية مستقبلاً، فالشعرية ولادة من مخاضات عدة، ولهذا ينابيعها متجددة مع كل ولادة نص شعري جمالي هناك شعرية مغايرة وشعرية متحولة على الدوام.

س12- ماهو طموحك النقدي؟ وهل ألفت كتابك النقدي الذي تحلم؟

ج12- دائماً أبحث في النقد عن الإبداع؛ ولا أمارس النقد إلا إذا وازى نقدي النص المنقود؛ أو فاقه؛ لأني أؤمن أن النقد فن جمالي مؤسس للجمال والإبداع؛ وما دام يتحدث عن الإبداع ينبغي أن يكون النقد- في جماليته- بمنزلة النص المبدع أو يفوقه. لقد أفدت من النظريات الغربية أن أحترم النص الذي بين يدي، وأجهز له بكامل عتادي النقدية وأدواتي اللغوية والتعبيرية، ما استسهلت نصاً، كل نص أمامي شبح مرعب علي أن أخوض معركتي مع النص منتصراً لنفسي وللنص وللقارئ؛ ولهذا كانت دراساتي النقدية محط إعجاب الطلبة في الماجستير والدكتوراه، لاسيما في الجزائر والعراق والأردن، لقد كرمني القارئ العربي بوعيه وحسه النقدي العالي، أن كانت مؤلفاتي من أكثر المؤلفات احتفاء بها قراءة ونقداً واستشهاداً في أطاريحهم الجامعية، وهذا المنجز النقدي حقق طموحي وانتشاري العربي الواسع.

س13- هل تعتقد أن النقد فن جمالي ككل الفنون المؤثرة في الحياة؟

ج13- لاشك في أن النقد الحقيقي فن إبداعي مثير، لا يختلف عن فن الشعر، أو القصة، أو الرواية، إنه فن يقوم على فن، ولهذا فإن فن النقد فن مركب، وبما أن النقد فن مركب فهذا يعني أن أهميته مضاعفة، والقلة القلة من نقادنا من مارس النقد بوصفه فناً جمالياً مبدعاً ككل الفنون؛ لأن فن النقد الإبداعي الحقيقي فن جمالي يقوم على مثيرات الرؤيا الجمالية الخلاقة، وهذا يعني أن النقد الجمالي المثير نقد جمالي مركب يحقق غايته الفنية والجمالية من كشوفاته النقدية الدقيقة ومراميه البعيدة التي تشف عما خفي من مضمون النص وتقنياته ومؤثراته الفنية.

ومن يطلع على حركة النقد العربية في الكثير من كشوفاتها لا يلحظ فنية النقد أو جماليته، وإنما يجد عبثية النقد وفوضاه، وهشاشة منظوراته الإبداعية، وضحالة النتائج والرؤى المكتشفة، القلة النادرة من النقاد من مارسوا النقد بوصفه فناً من خلال الكشوفات الدقيقة والبنى العميقة والتطلعات الجمالية المبتكرة. وهذه من النوادر جداً أن نجدها في نقدنا المعاصر الذي يغط بالسطحية والهشاشة والقضايا النقدية المستعادة التي ملها النقد حتى صارت مستهلكة.

س14-هل أقول إنك وصلت إلى القمة في نقدك؟

ج14- لا، لم أقصد ذلك، يظل ثمة كتاب في نفس المبدع يحاول دائماً البحث عنه، وأعتقد أنني ما أنجزت الكتاب النقدي الذي أحلم؛ وأحمد الله أنني حققت شخصيتي النقدية المميزة، وبصمتي النقدية الحقيقية، متجاوزاً كل ما قيل في السنوات السابقة على أيدي الظلمة في جامعة حلب؛ وما بثوه من ادعاءات باطلة واقتناص بعض الهفوات وترويجها لدحر اسمي محلياً، ودفن أي إشراقة قد تبرق من هنا وهناك، وأعتقد انهم نجحوا في سورية نجاحاً ساحقاً في ذلك، إذ استطاعوا إغلاق كل المفاصل الحساسة لنشر منتجي النقدي، وأنا أبارك لهم نجاحهم الذي حققوه، واعتبره نصر أصحاب النفوذ والسلطة وهؤلاء ما أكثرهم في أوطاننا العربية، لكن المواهب الحقيقية ستظهر رغم أنوفهم، وأنا أحمد الله أنني حققت الأهم في الخارج في الوطن العربي فأورثني محبة القراء هذه البقعة الواسعة لاسيما في العراق والجزائر والأردن.

 

حوار الدكتورة نجاح إبراهيم مع الدكتور عصام شرتح

 

2812 شاكر واسراءكان لي هذا الحوار مع الكاتبة إسراء عبوشي من مدينة جنين القسام - فلسطين، حول تجربتها الإبداعية وقضايا ثقافية مختلفة ومتنوعة:

* من هي إسراء عبوشي؟

- كاتبة روائية، مديرة ومؤسسة ملتقى رواد المكتبة في مدينة جنين، معلمة في مدرسة المغير الثانوية للبنات

* حدثينا عن تجربتك الإبداعية وتشابكها مع تجربتك الحياتية؟

- نشأت حين كانت جنين جنة وبساتين، الأرض الخضراء أنبتت روحًا خضراء تتجدد مع الفصول وتزداد عشقًا للأرض مع كل نهار جديد، إلى أن أتى صباح يوم طفولي أليم فقدت فيه والدتي، فلجأت إلى أوراقي لأعبر عن مشاعر الفقد وصادقت الكتب التي صارت سلواي، من مكتبة والدي، فكأن القراءة والكتابة الحضن الدافئ والحصن المنيع لمواجهة أحزاني، صادقت الكتاب والقلم، وعشقتهم واجتهدت لتطوير أدواتي.

* ما هي الدوافع والعوامل التي أسهمت في ابراز موهبتك؟

- القراءة أولًا علاوة على المشاركة في الأنشطة الأدبية حيث أتاح لي مجال الخوض في النقد الأدبي تنمية مهاراتي الكتابية، والتركيز على مكامن القوة التي تقييم النصوص الأدبية.

* ما هي القضية المركزية التي تؤرقك وتدور حولها موضوعات قصصك ورواياتك؟

- الحرية بشكل عام حرية الوطن والمرأة، عشت في فلسطين ولم أتذوق طعم الحرية في وطن مقيد محاصر ينظر للمرأة كصنف ثاني، في وطني فلسطين يجب أن تكون المرأة أولا فهي أم الشهداء وزوجة الأسير والمناضل، تراودني فكرة من لم يتمتع بالحرية ولم يعرفها يوماً قد لا يفهمها وتضيع فيه السبل في طريقها.

* ما هي الأمكنة التي تتحرك فيها نصوصك السردية؟

- يجب أن أعيش في الأماكن التي تتحرك فيها شخصيات نصوصي، كتبت عن فلسطين والأردن ومصر المحور الوطن، حيث بصمة الوطن الحزين تبقى عالقة في مجريات حياتنا نحمل ألمنا أينما اتجهنا.

كيف ترين علاقة المرأة بالأدب، وعلاقة المرأة بالرجل؟

بنظري خلق الله المرأة ضمن تصنيف الإنسانية كلاهما واحد بنظري، النظرة للمرأة هي التي تصنفها فقط، الأفعال مقياس التقييم لا التصنيف رجل أو امرأة، النظرة تحدد العلاقة، أما عن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن يحرسها الاحترام وتكللها الثقة.

* كيف تنظرين إلى من تناول ونقد تجربتك القصصية، وهل للنقد من أثر في نصوصك الجديدة؟

- الناقد يجلي جمال النصوص ويضع يده على مكامن القوة والضعف، تناول النقاد مؤلفاتي ونصوصي فكان لهم دور هام في الإضاءة عليها، فكان لي شرف تناولك لمسيرتي الأدبية منذ البدايات أنت الأديب الناقد شاكر فريد حسن إغبارية، ومن أبرز من قدموا قراءات نقدية لما كتبت الأديب جميل السلحوت، والباحث الأستاذ عمر عبد الرحمن نمر، والأستاذ عمر غوراني، والناقد رائد الحواري، والأستاذ إبراهيم يوسف من لبنان، والأديبة الشابة قمر منى، رؤيتهم النقدية إبداع آخر وتعبير راقٍ في علاقة تكاملية.

2812 شاكر واسراء

* من أين تستمدين قوة وحبكة نصوصكِ؟

- من وجوه الناس، أطيل النظر في عيونهم، وآخذ حكايتي من ملامحهم، بكل خشونة يد وتجعيده وجه قصة مختلفة، وبكل دمعة تراق على الخد أو بسمة تنير الوجه قصة أخرى، تحرضني لتأمل مشاعرهم، أعبر عما يجول في خاطرهم، وأرى ما حولي بنظرة مختلفة وبانطباع جميل، فقد خلقنا الله على فطرة.

في بعض المواقف تبرق فكرة أبني عليها حكاية أو تتشكل شخصية أعيش معها بخيال يشوقني لأغوص في كنهه واستمد منه أفكاري، وأكتب وأكتب.. ويخبرني بالمزيد.

* بماذا تحلمين بعد هذه السنوات من الإبداع الكتابي، وما هي تصوراتك للمستقبل؟

- حلمي الشخصي أن أكتب فيض مشاعري، وتفاعل عواطفي مع كل ما عشت بالحياة، وحلمي العام أن تستمر من بعدي أفكاري وخططي التي أحاول بها إيجاد عالم مختلف أساسه الكلمة الصادقة الحقيقية التي تصنع الإنسان وترتقي بالحياة، احلم بأن يعود للمثقف والكاتب مكانته الحقيقية ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية، لهذا أسست ملتقى روّاد المكتبة لفرض المثقف في الحياة اليومية والأمر الآخر الاهتمام بالقراءة ومكافحة العزوف عن القراءة، وكذلك تنمية المواهب لنجد من يحمل أفكارنا من بعدنا.

* من يعجبك من الكاتبات العربيات المحدثات؟

- غادة السمان ومي زيادة، رغم الاختلاف الكبير بينهما، قصة مي زيادة ما زالت تتكرر مع بعض الكاتبات والشاعرات في وطننا العربي.

* ما تقييمك للرواية العربية المعاصرة بشكل عام، والفلسطينية على وجه الخصوص؟

- الفلسطينية يجب أن تحمل الهم الوطني خاصة وهي توضع على رفوف معارض الكتب وتمثل فلسطين، ويجب أن تكون صادقة مقابل زيف التاريخ، أما العربية المعاصرة يجب أن يكون هناك قيود على الطابعة يخفف من ازدحام السوق الأدبي بما لا يستحق البقاء.

* ما هي التحديات التي تواجه الروائي والمثقف الفلسطيني عمومًا؟

- الحياة الروتينية أول ما يقتل الروائي والمثقف الفلسطيني، حيث يحرم من ترف الكتابة والاهتمام بطقوسها التي تنمي إبداعه، متطلبات الحياة المادية والاجتماعية تحرمه من ذلك.

وكذلك استغلال دور النشر له.

يقال أن الثقافة العربية في الوقت الراهن في أزمة، ما رأيك؟

وزارة الثقافة الفلسطينية واتحاد الكتاب الفلسطيني تقف مكتوفة الأيدي عما يحصل، الحرية ليست طليقة ولن تكون "الانخراط في بوتقة القوانين" من هنا تنبع الأزمة، الكاتب يجب أن يكون حراً ويحرض على الحرية ووطننا حريته مسلوبة وأفكاره في إدراكها منقوصة

* كيف تتلمسين الواقع السياسي في كتاباتك، وكيف تتعاملين معه؟

لقد كتبت عن الواقع كما يراه الشارع الفلسطيني ويدركه، لم أتعمق لأن المنطق مختل وبداياته مشوشة، حاربت دائما الأفكار التي زرعها فينا المحتل، وكيف غير مفهوم الكلمة وروج لثقافته، وساعده الكثير من الكتاب في ذلك، في مجموعتي القصصية " ياسمين" كتبت عن واقع الحياة الاجتماعية في ظل الانتفاضات والاحتلال، وكتبت عن الوحدة وهي أولى أسباب النصر، وعليها يجب أن يبنى الواقع السياسي.

* هل تتقيدين بمنهجية معينة في كتاباتك؟

الحب منهجي لو احببننا أنفسنا وما حولنا لسهلت علينا الحياة

* ما هي أقرب كتابات اسراء عبوشي إلى نفسها؟

أضع شيء من روحي في نصوصي، أعبر عن مشاعري النابعة من قلبي مشاعر تحرك الوجدان وتثير الشجون، تلك الجزئية هي الأقرب إلى نفسها أعود إليها بين حين وآخر فتسري معانيها بنفسي من جديد وتجدد مشاعري، سينتهي مشروعي الكتابي إن نفذت، أو استطعت التعبير عنها كلها، إلى الآن ما زالت تتدفق، وما زالت تتجسد في شخصيات رواياتي وتحركها وتخلق لها فضاء تتماها معه.

* ما هو مشروعك الأدبي القادم؟ وما هي الأعمال التي صدرت لك حتى الآن؟

- أسرانا البواسل وأسرهم واللحمة الاجتماعية والنفسية بينهم، كتبت مسرحية عنهم عرضت في مدرستي، سأحولها إلى رواية.

الأعمال التي صدرت لي " مجموعة قصصية بعنوان "ياسمين"

وقيد الطباعة روايتي " رادا " و "لما تلاقينا"

* المشهد الثقافي الفلسطيني كيف تقرئينه، وكيف تنظرين إلى العلاقات الأدبية بين المبدعين والمنتجين في الوطن المحتل؟

- هدف ملتقى روّاد المكتبة، إعادة تشكيل المشهد الثقافي في محافظة جنين يكون حاضنة للمبدعين، لا يمكن للفكرة أن تتم إلا بتعاون الأدباء والشعراء والمثقفين، عنوان المشهد إبراز الجيد، والاهتمام بالكلمة الجيدة لتكون الأثيرة، ودعم المواهب والارتقاء بالعلاقات، هناك مجموعة من الأدباء والشعراء تسعى معي وتناصرني في تحقيق هدف الملتقى، أتجاوز معهم المعيقات الكثيرة.

أما عن سلبيات العلاقات فهناك فئة تحارب المبدعين، فقط لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا مثلهم يلجؤون إلى السرقات الأدبية والفكرية التي تدمر العلاقات، أما المنتجون فهم تجار لا علاقة لهم بالأدب.

* أدب الأطفال هل أصبح في أيامنا تجاريًا؟

- ما أصعب أن تكون إجابتي نعم، فالأطفال جيل الغد يجب التنزه عن التجارة بأدبهم، يجب أن نهتم بقصص ترتقي بأحلامهم وتحسن لغتهم وتنمي خيالهم وتكون بجودة عالية من حيث الكلمة والرسومات.

* الأزمة النقدية التي يعيشها عالمنا، ما هي الوسائل التي ترينها مناسبة لحلها، وما هي انعكاساتها من وجهة نظرك على كلّ من يتعاطى الكتابة في مجالات الشعر والقصة والرواية؟

- على اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة أن تمنع طباعة الكتب وتداولها إلا بعد أن تعرض على لجنة متخصصة، فلا يكون بمتناول النقاد إلا ما يستحق النقاش، ويقدم للحركة الأدبية كل جديد، ويحد من المجاملات الأدبية التي صنعت أدباء بالمجان.

* ما هي الكلمة الأخيرة للقراء؟

- ملكة الكتابة جعلت من إسراء إنسانة نقية محبة للحياة متصالحة مع الذات، فإذا حباك الله تلك الملكة اهتم بها، واعمل على تنميتها وتطويرها ففيها روحك جميلة وقلبك كبير

 

حاورها شاكر فريد حسن

 

3163 كارلو روفيليمقابلة مع العالم المشهور الموهوب، الفيزيائي كارلو روفيلي بمناسبة صدور كتابه الذي يروي فيه نشأة ميكانيكا الكم ...

ولد في 3 مايو 1956 في فيرونا، يدرس كارلو روفيلي في جامعة إيكس مرسيليا. كما تتم دعوته بانتظام للتحدث في العديد من الجامعات في كندا

 أجرى المقابلة بودوين إشباس

نشر بتاريخ 12/20/2021

ترجمة د. جواد بشارة


 مُنظِّر الجاذبية الكمية الحلقية (مع لي سمولينLee Smolin)، مدرس في جامعة إيكس مرسيليا، ولكن أيضًا في كندا، كارلو روفيلي Carlo Rovelli ليس فقط أحد أهم العلماء في عصره، بل هو أيضًا مؤلف غزير الإنتاج، وعالم الفيزياء والمنظر المتخصص في ميكانيكا الكم، هو أيضًا فيلسوف في العلوم. يقسم وقته بين مرسيليا ولشبونة وفيرونا ولندن (في أونتاريو). في عام 2015، نشر كتاب سبعة دروس مختصر في الفيزياء Seven Brèves Leçons de physique chez Odile Jacob، قبل أن يخصص سيرة ذاتية للفيلسوف الإغريقي أناكسيماندر دي ميليت Anaximandre de Milet (دونود)، وهو عالم ما قبل سقراطي دربه تاليس والذي كان يفرك الكتفين بمفهوم اللانهاية في القرن السادس قبل الميلاد. بعد كتاب لامع بعنوان نظام الزمن The Order of Time (Flammarion)، يروي كارلو روفيلي الآن، في كتاب جديد * الظروف التي ولدت في ظلها فيزياء الكم. لقد تمت صياغته بطريقة الرواية التاريخية، حيث كانت صفحات الفلسفة ستنزلق بسلاسة، ويعلمنا كتابه عن واحدة من أكثر المفاهيم تعقيدًا في الفيزياء المعاصرة.

"كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، ولدت ميكانيك الكموم أو الكوانتوم.

المقابلة:

لو بوان: بدأ كل شيء في صيف عام 1925 في جزيرة هيلغولاند في بحر الشمال. تصور فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg، البالغ من العمر 23 عامًا في ذلك الوقت، فكرة أن قفزات الإلكترونات les sauts des électrons من مدار إلى آخر تستجيب لمنطق لا يمليه متغير فيزيائي ثابت variable physique constante، ولكن من خلال مجموعة من الأرقام المتطورة التي تجعل من الممكن التنبؤ بشكل مرضي أكثر بهذه الأشياء التي كانت موجودة حتى الآن حركات غير مفهومة. ما رأيك كان القادح في ذهن هايزنبرغ لهذه الفكرة؟

-  كارلو روفيلي: أعتقد أن "ال زنادle déclic"، أو القادح كما قلت، كان عبارة عن مزيج من عدة مكونات: أولاً، الانغماس الذهني الكامل لهيزنبرغ في المشكلة، ولكن أيضًا طريقته المادية والملموسة في مواجهة هذا اللغز. فهو لا يعتمد على العروض الرياضياتية المعقدة، بل بالأحرى على خياله الحر وفحص طبيعة الواقع. كان انفتاح هايزنبرغ على الأفكار الفلسفية الراديكالية (لا سيما أفكار إرنست ماخ Ernst Mach) مهمًا أيضًا. سأضيف تأثير ماكس بورن Max Born وبشكل غير مباشر تأثير لألبرت أينشتاين Albert Einstein، الذي فهم الحاجة إلى قفزة كبيرة في الفيزياء. لكن يمكن للمرء أن يضيف المحادثات الفيزيائية الفلسفية مع نيلز بور Niels Bohr، والد الكوانتا quanta، وأيضًا، على الأرجح، عمر هايزنبيرغ الشاب ... كل هذه المعلمات تشكل مزيجًا متفجرًا. كان هذا الكوكتيل هو الذي سمح لهايزنبرغ بإلقاء نظرة جديدة على المشكلة التي تواجهه.

س: هذا الاكتشاف هو ذروة تأملات مجموعة من العلماء، بما في ذلك، كما قلت، ألبرت أينشتاين وماكس بورن، وأيضًا إروين شرودنغر Erwin Schrödinger وولفغانغ باولي Wolfgang Pauli. ما هو القاسم المشترك بين هؤلاء الرجال؟

ج: إنهم يتشاركون الشغف المشتعل: السعي إلى الفهم. نقطة أخرى مشتركة: عدم وجود أفكار ثابتة. فهم كلهم على استعداد لتغيير رأيهم. بالنسبة للبقية، لديهم شخصيات ومهارات وقدرات مختلفة تمامًا عن بعضهم البعض.

س: على الرغم من كل شيء، هل هي طريقتهم المشتركة في فهم العالم التي تسمح لهم باستكشاف هذا المسار الكمومي؟

ج: على العكس تماما! إن خلافاتهم هي التي تسمح بنجاح قبضتهم وأهميتهم الجماعية العظيمة.

س: إن اكتشاف فيرنر هايزنبرغ، الذي سيُطلق عليه قريبًا "ميكانيكا الكم mécanique quantique"، يفتح الباب أمام مجموعة كاملة من الاختراعات: إتقان الذرة، والحوسبة الكمومية، على سبيل المثال لا الحصر. أيهما تعتقد أنه الأكثر إثارة للإعجاب؟

ج: أكثر من اختراع محدد هو حقيقة أن جميع خصائص العناصر، بما في ذلك بنية الجدول الدوري للعناصر، تتبع معادلة واحدة!

س: تأخذ فيزياء الكم La physique quantique اسمها من هذه الكمات quanta، أو حبيبات الطاقة grains d’énergie، التي يُقال إنها تفسر السلوك الغريب للإلكترونات. كما أنها تملي الطريقة المذهلة التي تنتقل بها الموجات الك هرومغناطيسيةles ondes électromagnétiques. كتب ريتشارد فاينمان Richard Feynman أنه لا أحد يستطيع فهم الكوانتوم ...

ج: لم يكتب ريتشارد فاينمان أنه لا أحد يستطيع فهم الكوانتوم، فقد كتب أنه لا أحد يفهمها. الفرق كبير. إنه شيء ألا تكون قابلاً للفهم، وشيء آخر القول إنه لا يمكن فهمه في لحظة معينة. في هذه الحالة الثانية، يبقى الفهم ممكناً...

3162 رواية فيزياء الكمس: في حالة عد الفهم، كيف يمكنك تمثيلهم إذا طُلب منك تقديم تشبيه؟ حبيبات ماذا؟

ج: يتوقف الأمر على التوضيح. فالفوتونات هي حبيبات الضوء. كميت مجال الجاذبية وهي بذور الفضاء أو المكان أي بذور الفراغ. التفصيل الحبيبي ليس هو الجانب الذي يصعب فهمه: فالرمال حبيبية. الجزء الصعب الذي يجب فهمه هو "علاقاتهمrelationnalité". هذه الكمات ليست كيانات. هذه أشياء تظهر نفسها: يتجلى الضوء في شكل حبيبات، مثل الفوتونات.

س: هذه الطريقة في فهم الواقع من خلال اللجوء إلى نهج أو مقاربة أكثر دقة من ملاحظة المادية التبسيطية للجسيمات في الفضاء تقود العقل إلى الاعتراف (مثل أنطون زيلينجرAnton Zeilinger) بأن العلاقات المعقدة يمكن أن توحد كيانات تفصلها أحيانًا مسافات هائلة.

ج: نعم، هو كذلك بالضبط.

س: كيف، إذن، يمكن النظر إلى هذه الحقيقة العلمية دون الوقوع، في وقت أو آخر، في اعتبارات غير منطقية أو لا عقلانية irrationnelles على ما يبدو: أحدها هو التعايش بين عوالم متوازية mondes parallèles حيث تحدث أحداث مختلفة (في نفس الوقت)؟ يمكنها التفاعل فيما بينها؛ والآخر هو حقيقة أن المتغيرات الخفية variables cachées تمنعنا من قراءة واقعنا. نحن نتدفق في المصفوفة Matrix... هل هذا يعني أن المخيلة والأحلام والخيال فقط يمكنها أن تسمح لنا بفهم ميكانيكا الكم la mécanique quantique؟

ج: أعتقد أن العلم قد أعطانا الكثير وكشف لنا الكثير من الأشياء الجديدة التي تبدو غريبة، لكنك بعد ذلك نطور حدسًا جيدًا ونعتاد عليه. هذه هي قوة العادة. لا أحد يشعر بالذهول اليوم من حقيقة أن الأرض تتحرك، وأنها تدور حول الشمس. لكن كان ذلك من الصعب هضمه عندما تم وضع النظرية عليه لأول مرة. أعتقد أن الشيء نفسه سيحدث مع نظرية الكم. سنستوعبها ... تدريجيًا.

س: ومع ذلك، فإن التشابك الكمومي L’intrication quantique الذي يقع في قلب حقيقة هذه الفيزياء "الجديدة" يفتح آفاقًا مذهلة ناتجة عن ارتباطات لا يمكن تصورها على ما يبدو. علينا أن نقبل فكرة ليست واضحة بأي حال من الأحوال: اللاحتمية l’indétermination أو على الأقل التفسير الذاتي للاحتمالية بفضل أو بموجب "النظرية الكمية الكيوبية البانيزيانية quantum Bayesianism" التي تعطي نظرية QBiste اسمها. هل هذا يعني أننا يجب أن نتمسك بنوع من النسبية المطلقة حيث تكون الحقيقة مختلفة لكل مراقب، اعتمادًا على وجهة النظر التي يتبناها؟ ألن يكون هذا مرعبًا؟

ج: أعتقد أنك تبالغ هنا. عندما اكتشفنا أن الأرض تتحرك، بدا الأمر مرعبًا أكثر. العقلانية الكمومية ليست ذاتية، ولا تتحدى المفاهيم المعتادة للموضوعية les notions usuelles d’objectivité. فالحجر الذي يسقط على رؤوسنا سيؤذينا كما كان الأمر من قبل.

س: تتطلب قصة قط شرودنغر الشهير chat de Schrödinger المسجونة في علبة مغلقة والتي هي في آن واحد ميتة وحية ما يجبرنا أن نفكر في إمكانية تواجد أكثر من واقع في نفس الوقت!

ج: تحدث بورBohr عن "استحالة الفصل الواضح بين سلوك الأنظمة الذرية والتفاعل مع جهاز القياس الذي يعمل على تحديد الظروف التي تحدث فيها هذه الظاهرة". تلتقط هذه الملاحظة الاكتشاف الذي يكمن في قلب نظرية الكم: عدم القدرة على فصل خصائص كائن ما عن التفاعلات التي تظهر فيها هذه الخصائص نفسها والأشياء التي تتجلى فيها.

س: في طريقنا إلى التعرف على الكوانتا، نلتقي بعدد قليل جدًا من الفرنسيين (لويس دي بروجلي Louis de Broglieهو الأكثر شهرة). لماذا؟ هل يتعلق الأمر بالطريقة الديكارتية التي يتدرب بها ويتأهل وفقها مهندسونا؟

ج: أعتقد أن تدريس العلوم الفرنسي صارم للغاية. مبالغ في "التكوينية". إنه ينتج مهندسين جيدين وآلات حاسبة جيدة وحتى علماء رياضيات جيدون جدًا. لكن لا يخرج علماء الفيزياء النظرية جيدين. من أجل ذلك، نحتاج إلى شكليات أقل، والمزيد من حرية العقل.

س: تدين فيزياء الكم كثيرًا للعلماء المنغمسين في الفلسفة، والذين غالبًا ما يكونون منخرطين سياسيًا (أدلرAdler أو  بوغدانوفBogdanov، على سبيل المثال لا الحصر). هل كان على المرء أن يكون مثاليًا لولادة ميكانيكا الكم هذه؟

ج: ربما نعم. عليك أن تعرف كيف تحلم. ربما كان هذا هو السبب في أن الفترة الأكثر خصوبة للعلم الفرنسي كانت الثورة.

 

 

"كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، ولدت ميكانيك الكموم أو الكوانتوم.

* هيلجغلاند، معنى ميكانيكا الكم، بقلم كارلو روفيلي، طبعات فلاماريون، 249 صفحة، 21.90 الفراغ. التفصيل ليس هو الجانب الذي يصعب فهمه: فالرمال حبيبية. الجزء الصعب الذي يجب فهمه هو "علاقتهم". هذه الكميات ليست كيانات. هذه أشياء تظهر نفسها: يتجلى الضوء في شكل حبيبات، مثل الفوتونات.

هذه الطريقة في فهم الواقع من خلال اللجوء إلى نهج أكثر دقة من ملاحظة المادية التبسيطية للجسيمات في الفضاء تقود العقل إلى الاعتراف (مثل أنطون زيلينجر) بأن العلاقات المعقدة يمكن أن توحد كيانات تفصلها أحيانًا مسافات هائلة.

نعم، هو كذلك بالضبط.

كيف، إذن، يمكن النظر إلى هذه الحقيقة العلمية دون الوقوع، في وقت أو آخر، في اعتبارات غير منطقية على ما يبدو: أحدها هو التعايش بين عوالم متوازية حيث تحدث أحداث مختلفة (في نفس الوقت)؟ من يمكنه التفاعل مع كل منها آخر؛ والآخر هو حقيقة أن المتغيرات الخفية تمنعنا من قراءة واقعنا. نحن نتدفق في المصفوفة ... هل هذا يعني أن الخيال والأحلام والخيال فقط يمكن أن يسمح لنا بفهم ميكانيكا الكم؟

- أعتقد أن العلم قد أعطانا الكثير من الأشياء الجديدة التي تبدو غريبة، لكنك بعد ذلك تطور حدسًا جيدًا وتعتاد عليه. هذه هي قوة العادة. لا أحد يشعر بالذهول اليوم من حقيقة أن الأرض تتحرك، وأنها تدور حول الشمس. لكن كان لا يزال من الصعب هضمه عندما تم وضع النظرية عليه لأول مرة. أعتقد أن الشيء نفسه سيحدث مع نظرية الكم. سنستوعبه ... تدريجيًا.

اقرأ أيضًا "المصفوفة": تتابعات يساء فهمها أو آثار لا تزال حية

ومع ذلك، فإن التشابك الكمي الذي يقع في قلب حقيقة هذه الفيزياء "الجديدة" يفتح آفاقًا مذهلة ناتجة عن ارتباطات لا يمكن تصورها على ما يبدو. علينا أن نقبل فكرة ليست واضحة بأي حال من الأحوال: اللاحتمية أو على الأقل التفسير الذاتي للاحتمالية بفضل "النظرية الكمية البايزية" التي تعطي نظرية QBiste اسمها. هل هذا يعني أننا يجب أن نتمسك بنوع من النسبية المطلقة حيث تكون الحقيقة مختلفة لكل مراقب، اعتمادًا على وجهة النظر التي يتبناها؟ ألن يكون هذا مرعبًا؟

أعتقد أنك تبالغ هنا. عندما اكتشفنا أن الأرض تتحرك، بدا الأمر مرعبًا أكثر. العقلانية الكمومية ليست ذاتية، ولا تتحدى المفاهيم المعتادة للموضوعية. الحجر الذي يسقط على رؤوسنا سيؤذينا كما كان من قبل.

- تتطلب قصة قط شرودنجر الشهير المغطى والذي مات وما زال على قيد الحياة أن نفكر في إمكانية تواجد العديد من الحقائق في نفس الوقت!

تحدث بوهر عن "استحالة الفصل الواضح بين سلوك الأنظمة الذرية والتفاعل مع جهاز القياس الذي يعمل على تحديد الظروف التي تحدث فيها هذه الظاهرة". تلتقط هذه الملاحظة الاكتشاف الذي يكمن في قلب نظرية الكم: عدم القدرة على فصل خصائص كائن ما عن التفاعلات التي تظهر فيها هذه الخصائص نفسها والأشياء التي تتجلى فيها.

في طريقنا إلى التعرف على الكوانتا، نلتقي بعدد قليل جدًا من الفرنسيين (لويس دي بروجلي هو الأكثر شهرة). لماذا ا ؟ هل يتعلق الأمر بالطريقة الديكارتية التي يتدرب بها مهندسونا؟

- أعتقد أن تعليم العلوم الفرنسي صارم للغاية. جدا "التكوينية". إنه ينتج مهندسين جيدين وآلات حاسبة جيدة وحتى علماء رياضيات جيدون جدًا. لكن علماء الفيزياء النظرية ليسوا جيدين. من أجل ذلك، نحتاج إلى شكليات أقل، والمزيد من حرية العقل.

تدين فيزياء الكم كثيرًا للعلماء المدربين في الفلسفة، والذين غالبًا ما يكونون منخرطين سياسيًا (Adler أو Bogdanov، على سبيل المثال لا الحصر). هل كان عليك أن تكون مثاليًا لتلد ميكانيكا الكم هذه؟

- ربما نعم. عليك أن تعرف كيف تحلم. ربما كان هذا هو السبب في أن الفترة الأكثر خصوبة للعلم الفرنسي كانت الثورة.

 "كانت الساعة حوالي الثالثة صباحًا عندما ظهرت نتائج حساباتي أمامي. غادرت المنزل مضطربًا وبدأت أمشي ليلًا. بعد صعودي إلى قمة صخرة تطل على البحر، انتظرت شروق الشمس. كنت منزعجة للغاية. كان لدي إحساس بالنظر، من خلال سطح الظواهر، نحو الداخل من جمال غريب ... "إنه من خلال كلماته التي وصفها فيرنر هايزنبرغ، في ذكرياته (Der Teil und das Ganze)، لحظة حدسه!

 

...........................

* هيلغولاند، معنى ميكانيكا الكم، بقلم كارلو روفيلي، طبعات فلاماريون، 249 صفحة، 21.90

 

2809 هبة جمال الدينأتقدم الى جناب الدكتورة هبة جمال الدين المحترمة بإجراء حوار صحفي متسلسل حول مشروع "مسار إبراهيم" الذي تحدثت حوله بأكثر من مناسبة، وإيصال الرأي والمخرجات والاستنتاجات التي خرجتِ بها الى الرأي العام وبالخصوص، فيما يعني الشأن العراقي، للوقوف على شروحات وتفصيلات تكشف ماهية هذا  المشروع والدورالدولي والإقليمي المؤثر في بلورة هذا الأمر.


 تحية طيبة دكتورة هبة جمال الدين المحترمة

ارحب بحضرتكِ، وبجميع السيدات والسادة القراء الأفاضل. ونؤكد على ان حرية الرد مكفولة. وما يرد من تفاصيل ضمن الإجابات هي من وجهات نظر الضيف، والحقائق والاستنتاجات التي يعرضها كمختصبهذا الشأن.

س: من هي هبة جمال الدين؟

ج: مدرس علوم سياسيه بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية متخصصة في الشأن الإسرائيلي لها العديد من الكتب في هذا الشأن مديرة مراكز الفكر في صنع السياسة العامة بإسرائيل حاصلة علي اربعجوائز بحثية.

س: ما هو مسار ابراهيم؟

ج: مشروع خطير أنشأته مبادرة مسار ابراهيم في المنطقة العربية والإسلامية ما يسمى بالشرق الأوسط يدعوا فيه رغبة،في ربط الدول العشرة التي مر بها رسول الله وفقا لجغراقيا الأديان والتي تبدأ "بأور" في محافظة ذي قار جنوبالعراق، وتنتهي بمكة والمدينة ويمر لإيران وتركيا.

المسار خطير لانه يؤكد في وثائق تأسيسه أنه خطوة مبدئية لتدويل وإنشاء الارض الابراهيمية العالمية المشتركةللاديان.

والخريطة للمسار المخطط له هي خريطة ارض إسرائيل الكبري.

وفي بداية دراسة المسار بدأ الباحثين في جامعة "هارفارد" برصد عدة تحديات للمسار يقوم على اساس إزالة الحدودالسياسية وارساء رؤية ذات مصداقية للمسار عن طريق جامعة هارفارد كمظلة له نظرا لايمان شعوب المنطقة بالمؤتمر أنكما يدعون ووجدوا أن أهم تحدي أمامهم هو رفض التطبيع مع إسرائيل والخلل كان خلق هوية إبراهيمية جديدة كبديلعن الهوية العربية والإسلامية والوطنية فالكل أسرة ابراهيم واحدة وسيحدث ذلك: (عبر أنشطة الحكي وتغير وضعوهوية الصراع مع إسرائيل عبر إنشاء صراع بنيوي وليس هيكلي صراع يؤكد أن الاحترام المتبادل اهم من الحصول عليالارض والتاريخ).

س: هل له وجود على ارض الواقع كتطبيق ووثائق ومندوبين وممثلين لهذا المشروع؟

ج: للاسف نعم موجود في أغلب الدول بالمنطقة في كردستان ومصر وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين وتركيا وبالطبعإسرائيل وقد أدخلته جمعيات أهلية تعمل في السياحة والاعشاب والثقافة وبداية إنشاؤه جاءت عبر شخصيات تنفيذيةتعمل في مجال السياحة والفندقة.

جمعيات أهلية تنظم رحلات بإسم المشي أو الجمال تم إدخالها عبر إقامة مشروعات للمجتمعات المحلية كالبدووالقبائل وانشاء مشروعات ريادة أعمال تخلق دخل تجعلهم يدافعون عن الفكرة رغما عن الدول.

للاسف يتم علي الارض وبدايته الان في المدينة "الابراهيمية بالعراق" فالتسمية مريبة ويجب الإنتباه لها.

تضمن كشف المخطط عبر مسمى جديد تم البدء فيه عبر مفهوم الدبلوماسية الروحية تقوم علي البحث عن المشتركبين الأديان وتنمية المختلف عليه وإعادة قراءة النص الديني وتفسير المعاني السرية ووضع ما يتفق عليه رجال الدينعلي الخريطة السياسية بعد الاتفاق وتنمية الاختلاف وتتم في ساحات من الدبلوماسية غير الرسمية وكما تعلمون أنالإسلام يعترف بكافة الأديان السماوية ويختلف حوله باقي الأديان والمسيحية تعترف باليودية التي تنكر كلا منالإسلام والمسيحية واعترف بالماجوسية والبوذية والهندسية باعتبارها أسهمت في بناء الثقافة اليهودية

وتري الدبلوماسية الروحية أن ذلك سيحقق السلام الديني العالمي الذي سيتحقق عبر إعطاء الشعوب الاصلية الحقعلي الخريطة السياسية وبالطبع يحاول الصهاينة الدعاء أنهم الشعوب الأصلية ويزيفون التاريخ.

(وللاسف يعملون علي اتفاقية الشعوب الأصلية المسجلة بالامم المتحدة ليعودوا ليتحكموا في مقاليد الدول العربية مرةأخرى).

س: ماذا تضمن الكتاب البحثي الذي اصدرته الدكتورة هبة جمال الدين؟.

ج: تضمن الكتاب المخطط ومشروعات تسيس الابراهيمية المتحدة في مخطط الولايات المتحدة الابراهيمية "صفقة القرن " باقتدار وفقا للنتائج البحثية بالكتاب.

س: لماذا ألغى بايدن "ألرئيس الامريكية الحالي" اسم المشروع الإبراهيمي؟

ج: لان المخطط انكشف فربط ترامب الابراهيمية باتفاقيات التطبيع مع إسرائيل جعل الكثير يرفضها وينتبه لخطورة المخططخاصة أنني بالكتاب توصلت بالتحليل الشبكي أن المخطط مازال ضعيف غير مكتمل الأركان فيحتاج الي مزيد من الدعموهذا ما تعمل عليه الان الإدارة الأمريكية فهي مشروع دولة المؤسسات منذ التسعينيات تم الإعداد له عبر برنامج دراساتالحرب والسلام بالبنتاجون الذي جاء بعد " ترامب "

س: إتفاقيات المسار؟ وهل إنتهت ام بقيت سارية المفعول وتحت اي مسمى؟

ج: سارية تحت مسمي اتفاقات التطبيع ولكن جهود الابراهيمية مازالت على الارض لم تكتمل دون إعلان الدولة الأمريكيةتبنيها رسميا لها.

س: كيف يؤثر هذا المشروع على العراق تحديدًا؟

ج: العراق مستهدفة كبداية للمسار التدويل كجزء من ارض إسرائيل الكبرى.

س: هل هناك بوادر تخص مشروع المسار او " التطبيع" في العراق ، ماهي وكيف؟.

ج: الصلاة الابراهيمية ثم المدينة الابراهيمية والصلوات الابراهيمية وبعثات" التنقيب التي ستأتي معها@ كل ذلك خطيروللاسف يتم الآن على الارض.

س: كيف تقرأ الدكتورة هبة جمال الدين زيارة بابا الفاتيكان الى العراق؟.

ج: نحن نحترم البابا كرمز ديني كبير لكن استعمال الابراهيمية في الصلاة وإطلاق دعاء جديد على الاذان ن والحديث عنأرض الخلاص وعودة الشعوب المضطهدة يدعو للحذر.

س: نسبة الخطر الفعلية اين تكمن على الشعوب وعلى العراق تحديدًا ضمن مشروع " التطبيع " او مشروعمسارابراهيم؟.

ج: الخطر بدا بتغير مسمي الاديان من سماوية الى الابراهيمية ، فالهدف للشعوب لتقبل بالهوية الجديدة، لتقبل فيما بعدبحكم الصهاينة، كأسرة ابراهيمية واحدة، وأن الأرض ليست ملكا لنا لأن سيدنا ابراهيم ملك للعالم ككل، عبر خلق دعمدولي للمشروع وهذا ما يتم الآن.

س: (السعودية العربية وتركيا والاردن) كيف تقرأ الدكتورة هبة هذه الخريطة؟

ج: للاسف تركيا شريك مرحلي في المشروع. والأردن هي ما تمنع جغرافيا إسرائيل من التوسع لذلك محاولة الانقلاب الفاشلةأحد خطى المخطط للوصول للسعودية التي يتم الآن التدمير بنظام الحكم للموافقة علي السلام الابراهيمي كبدايةلمخطط تدويل المقدسات والبدء بخلق مقدسات جديدة لنزع القدسية عن المقدس تمهيدا لهدم المقدس!.

س: اين تجد الدكتورة هبة الشعب المصري والشعب اللبناني من كل هذا؟

ج: مصر حكومة وشعبا ضد المخطط وعلى الشعب اللبناني الإنتباه لما يحاك ضده بإفشال الدولة وإعلان موتها كجزء منالمخطط اللعين للوصول للاتحاد الابراهيمي المسمي بالولايات المتحدة الابراهيمية التي ستضم كل الدول العربية وايرانبرءاسة إسرائيل وتركيا.

س: ماهي علاقة الربط المنطقي بين العراق وإيران ضن مشروع مسار ابراهيم؟ اي بمعنى لدى حضرتك علا رابطة في إحدى اللقاءات تحدثت عن محاولات تفعيل دور العراق " الشيعي تحديدًا " ضمن مساع انجاح هذا. المخطط ماهوالدور المقصود بذلك؟ وماهي العلاقة المؤثرة او الرابطة في هذا الدور باتجاه إيران ؟

ج: العراق بها المرجعية الشرعية بالنجف ق مذهبية قوية للشيعة كبداية لقبول ودخول الدول الإسلامية الشيعيةبالمخطط لاكتمال مسار ابراهيم بدخول إيران واليمن ومن ثم يكتمل التدويل.

س: ما هي الآليات والوسائل التي تراها هبة جمال الدين للوقوف ضد هذا المشروع؟

ج: رفض تغير مسمي الأديان من سماوية الو الابراهيمية، اصدار فتوي من المرجعية الشرعية بحرمة الابراهيمية وكذلكمن الازهر

رفض الشعوب العربية.

رفض السياحة الدينية فلا تدولوا الارض بحجة الدخول والتسامح،

التمسك بالأرض والدين والتعاون بين السنة والشيعة وحل المشكلة بين إيران والدول العربية، فلقاءنا معا مرتبط ببعضهالبعض لمجابهه المخطط الصهيو امريكي ، وتوعية شبابنا بالمخطط اللعين.

شكرا لوقتك الممنوح في الاجابة مع التقدير ..

 

حاورها الكاتب والصحفي

انور الموسوي

 

 

2808 ليلى الطيب* هل لك ان تقدمي نفسك للقراء؟

 - ليلى الطيب مواليد 7 أغسطس بالجزائر وتحديدًا شرق العاصمة في  قسنطينة، مدينة الجسور المعلقة والعلم والعلماء، التي ولد فيها العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس عضو جمعية العلماء المسلمين، وهي الجمال وفيها كل السحر، وتجعل منك شاعرًا رغما عنك.

* متى بدأت الكتابة، وإلى لون أدبي تميلين، وما الذي يستفزك للكتابة؟

- انا ما اخترت الحرف وإنما هو اختارني، ومنذ دخولي المدرسة في سن 6 سنوات ظهرت ميولي للتعبير والمحادثة، وبدأت الكتابة الحقيقية في سن 12سنة. كانت مجرد رسائل، بعدها نصوص قالوا انها شعر نثري أو هي سرد أحيانًا، ولم اصنف نفسي في زاوية محددة، وباقي الفنون الأدبية كالقصة والرواية اعشقها وطُلب مني مرارًا محاولة الكتابة وربما سأفعل يومًا. ويستفزني في الكتابة لو قرأت نصًا ولامسني أتمنى الكتابة مثله أو أن يكون لي والحرف مني، علاوة على اختيار مفردة موجزة تصل لعمق المعنى المراد بشكل مكثف. 

* الشعر، ماذا يعني بالنسبة لك؟! وأي المضامين تركزين عليها؟

 - الشعر هو الباب الذي أطرقه للفرح والتعبير عما يجول بمخيلتي

وبما أريده واقعًا، أو التعبير عن حالة رأيتها او قرأتها، فهو ما منحني جديد حياتي، وفسح لي مجال العيش ومحاورة الذات بعد أن كنت احتضر.

 * أين الوطن في شعرك، وما هو حيز الحب في قصيدتك؟

 - الوطن أسكنه رغم أني مقصرة في حرفي معه لأن كل حروف الأبجدية لا تفي التعبير عنه. أحس مشاعري متذبذبة ناقصة لا تتنفس ما نحن فيه وتوصيل معانيه، أما الحب في قصائدي فهو صمامها الأبدي ومحورها الرئيسي.

 * هل توجهت وجهة معينة في ثقافتك الشعرية، وما دور الثقافة في جودة الشعر؟

 - وجهتي للحرف لا غيره أكيد، رغم مطالعتي لبعض الكتب وما اكثرها الا إنني أظل تواقة للقراءة أكثر والتعلم بقدر كافٍ حتى استطيع تجديد مفرداتي وخروج نصي بالجودة المطلوبة التي يحبها القراء.

 *هل تسيرين في شعرك ضمن إطار اجتماعي أو فكري، أم إنك تتفاعلين مع التجربة الآنية؟

 - مع كل ما ذكرت يحكمنا مجتمع وفكر وتجارب، وإلا يظل النص حبيس الجدران ومستهلكًا.

 * ما رأيك بقصيدة الومضة التي لها حضورها في الوقت الحاضر؟

 - في مرحلة من عمري اقتصرت كتاباتي على الومضة واتقنتها والحمد للـه بمساعدة أساتذة وبشهاداتهم. والومضة هي قصيدة العصر، وأصبح الكل يلجأ لها لقصر أحرفها وغزارة معانيها واصابتها الهدف بإيجاز.

* ما رأيك بوجود أدب نسائي وآخر رجالي؟

 - الصراحة لا أحب وضع فروق،  فالأدب أدب لا يدخل فيه جنس ذكر أو أنثى، كل منهما يكمل الآخر ويبدع فيما يكتب.

 * كيف ترين الواقع الثقافي في بلدك بشكل خاص، وفي العالم العربي على وجه العموم؟

- الواقع الثقافي للأقلام الجزائرية عمومًا وافرة ومتمكنة، ولها باع في كل المجالات والألوان. صحيح يوجد نقص أو عدم انتشار واسع، لكن الحرف الجزائري لا يستهان به، ولكل واحد من المبدعين مدرسته الخاصة وموجود على الساحة الثقافية الجزائرية والعربية بغزارة، وهنالك الكثير من الشعراء والكتاب المتميزين، والواقع الثقافي في العالم العربي لا يختلف عن الواقع الثقافي في الجزائر، ورغم وجود نشاطات شبابية ومبادرات أدبية الا أن النقص مازال قائمًا في عدد من المجالات.

 * كيف يبدو النقد العربي في الوقت الراهن، ومن يعجبك من النقاد، وهل أنصفك النقد؟

 - النقد قائم على حسب الحرف، وثمة نقاد منهم من يلفت انتباهه حروف الشاعر فيقدمه على طبق متشكل به كل ألوان التقييم والتحليل والقيمة البنيوية للنص والتفرد والسقوط، ومنهم من يقدم نقدًا لنص من صنف حرفه وفكره وقربه كنوع من الترضية لصاحبه ومفاخرة به ، أو كرد جميل، أو أنه يراه نابغة متجدد يقدم الإبداع دائمًا، ويظل النقد لبعض الأقلام زيادة في العمل ومحاولة تصحيح مساره ومنهم من لا يعني له النقد شيئًا طالما نصه يرضيه وهو مقتنع بسلامة ما يكتب حتى لو رأى غيره ضعفًا في نصه. ولي تجربتان فقط كتبت بحفاوة عن حرفي رغم أنني هاوية حرف لا غير، من الناقدة العراقية الأستاذة الأديبة إنعام كمونة نسغ التأمل، والناقد الأديب المغربي عبد الرحمن بكري، وإنني من هنا أقدم لهما خالص الشكر لوقوفهما على حرفي ومتابعته.

 * كيف تفهمين الحرية، وما رأيك بما وصلت إليه المرأة في الوطن العربي من تحرر اجتماعي؟

- ما دمت اتنفس فأنا حرة، والمجتمع مازال ذكوريًا 100%، لا تغريك العناوين والشعارات عن المساواة بين الرجل والمرأة، من قال أن الرجل ترك لها المكان، ومن قال أن المرأة تعيش بعيدة عن ضلعه، ما زالا في الدائرة، وكل منهما يدور على الآخر.

* هل لك إصدارات ورقية، وما هي مشاريعك الأدبية المستقبلية؟

 - اصداراتي هي:

ديوان حروف حائرة صدر سنة 2016

وديوان مشترك تحت عنوان "كلمات فرسان الخيمة" صدر 2021

ولي ديوانان تحت الطباعة، الأول "الروابي تستمطر حبًا"، والثاني "اسئلة التوت".

 *من يعجبك من الشعراء القدماء والحداثيين، نساءً ورجالًا؟

 - إنني مولعة بالمعلقات وبطرفة بن العبد، زهير بن ابي سلمى، والبحتري،  وابن زيدون، ومن الجزائر ابو القاسم خمار، الأخضر السائحي، والفلسطيني محمود درويش.

* ما هي القصيدة الأحب إلى نفسك، من قصائدك؟

 - عندي حرف أحبه لا قصيدة أحب

* ماذا تختارين للقراء من قصائدكِ؟

 - اختار قصيدة "امرأة من نار"

تمطر السّماء من ضحكته

وأهمس لشفتيه:

أنا الحلم المتمرد

وأنت الواقع على أعتاب العُمْر

أنا الحرف العذري

يتوضأ بالحب ويُعَمَّدُ بأنامل جمر

انا امرأة من نار

لحظات انصهار الروح

تخمد جذوتها

تهدهدُ العشقَ أنفاساً

بين أغصان عارية

تحيا بقبلة لقاء.

وتكتب على صدرك بلمعةِ عين

لا بنبيذ حبر

كنتُ ســ أُخبرك!

أنّ صلاتي قصيدتك

وان طالت متاهات صمتك

سأتوضّأ بعطرك

إذا نطق نبضي:

حقّ آلاء الغياب

وهذا المساء القلق

‏ثمةَ حرفٌ..!

عنوانه انتَ..

زاهي الزّهرات

بعضه منك وبعضه مني

* ما هي الكلمة الأخيرة للقارئ؟

 - أحبّوا بعضكم وكونوا أوفياء، فالوفاء اصبح عملة نادرة.

وألف شكر لك أستاذ شاكر فريد حسن على هذا الحوار الشائق.

 

 

2806 سعد وحنان- بالشجرة أستدلُّ على الحياة، والشَّجرة هي أنا والوطن والحبيبة...!!!

- تعدد القراءات في النَّصّ الواحد سمة مهمة من سمات الحداثة .

- لا تجديد يأتي من فراغ والتجديد هو سرّ الحياة وديمومة الإبداع.

- الإبداع الحقيقي هو ما يبقى .

للحروف لهفة يستمد منها روحه لعزف نشيد الريح وهي تراقص قامات أشجاره الباسقات بموسيقى تواشيح الطبيعة فتسقسق أشواقها أخاديد شوق وحنين وتبث الوهج النابع من أعماق وجدان شاعرنا وضيفنا الدكتور سعد ياسين يوسف قصائد رائعة للغاية .

عراقي المولد عام1957 في مدينة العمارة . عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. أصدر سبعاً من المجموعات الشعرية. وهو باحث أكاديمي حاصل على درجة دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر للعلاقات الدولية وله دراسات وأبحاث ومحاضرات واسعة جدا ومشاركات شعرية في مهرجانات وتجمعات ادبية محلية وعربية ودولية كثيرة . يجيد صياغة الحرف بأسلوب ممتع له أسلوب رائع في كتابة القصيدة النثرية بطريقة خلاقة.. قصائده تحمل كماً كبيراً من الأحاسيس الوجدانية والإنسانية بصور رائعة تخدم المعنى وتعمقه وكانها لوحة فنية رسمها فنان بريشته الجميلة. أبدع الدكتور سعد ياسين يوسف وتوفق في الوصف والتشبيه وتوظيف الانزياحات اللغوية في التشكيل الشعري واعتمد الشجرة رمزاً له وأنسنها ولذلك لقبه النقاد بشاعر الأشجار.

قال عنه الناقد الكبير فاضل ثامر " إنَّ الشّاعر سعد ياسين يوسف تألق في قصيدة النثر ببنيات مهمة ومن خلال انتماء الشّاعر لفضاء الطبيعة وأنسنتها وقد استطاع أن يخلق منها كياناً إنسانياً لتصبح رمزاً و(آخراً) حينما يقيم حواراً مع افتراضي آخر هو الشَّجرة الذي قد يكون قريناً له أو الوجه الآخر مشدداً على إنَّ تجربة الشّاعر سعد ياسين يوسف تجربة غنيّة تندرج ضمن المتن الثقافيّ لما حظيت به من تكريم وجوائز عالميّة وتتطلب قراءة جادّة".

س1: يلقبك النقاد ب (شاعر الأشجار) ما قصة الأشجار في أغلب

قصائدك دكتور سعد؟ وما سرّ هذا التعلق بها؟

- بالشجرة أستدلُّ على الحياة، الشَّجرة هي أنا ..هي الإنسان هي العائلة هي الوطن هي البيت والقيم وهي الحبيبة والملاذ وهي الشَّاهد وهي المقتول بحزن الفصول ... أليس لكلِّ شيءٍ في الحياة شجرته، أقصد جذرا وساقا وفروعا ..؟ ولذا كانت الشَّجرة وبدون وعي مني تتألق في قصائدي وتتوهج معي لتعلنَ عن وجودها.

لقد أنسنتُ مفهوم الشَّجر بانزياحات لغوية عديدة وقد تنبه الكتّاب والنُّقاد لذلك وأطلقوا عليَّ لقب (شاعر الأشجار) في أكثر من مقال ودراسة نقدية ومقابلة تلفزيونية، فيما أقام لي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أُصبوحة احتفائية سُميت حينها (الأشجار ثيمة في شعر الدكتور سعد ياسين يوسف) تحدث فيها عدد من النُّقاد والأكاديميين الذين أكدوا فيها أنَّ منجزي الشِّعري قد تفرد باعتماد هذا الرَّمز ومنحهُ عمقاً عبر النّصوص التي يتشظى فيها معنى الأشجار ويكبر ويصبح ثيمة واسعة وعميقة تستدعي الدِّراسة النقديّة الأكاديميّة والفكريّة.

ولو تأملنا الآية القرآنيّة التي ورد فيها أسم الشَّجرة وهي 24من سورة إبراهيم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ..) .... يالها من شجرة هذه التي أجلس كل َّ يومٍ تحت معانيها لأنهل منها صوراً شعريّة باذخة الجمال والعظمة .

وحتى في الفلسفة للشَّجرة أهمية كبيرة فهذا ابن عربي يقول :" إني نظرت ُ إلى الكون وتكوينهِ، وإلى المكنونِ وتكوينه، فرأيت الكون شجرة".

أما سرّ التعلق بهذا الرَّمز لأنَّه مشروعي الفكريّ والفلسفيّ في الكتابة الشِّعريّة وأنا سعيد ومُطلَق العنان في معانيه الرَّحبة .

س2: خلف العناوين الظاهرة في قصائدك الرائعة الكثير من الرّموز العميقة المختبئة تملأ أبجدية اللّغة العربيّة بدهشة قلمك .. كيف لهذه الأحاسيس أن تترابط فيما بينها؟

- مجموع هذه الرّموز هي أنا، حياتي، مشاعري ما أحب ومن أحب، والعنوان عتبة مهمة للدِّخول إلى عالم القصيدة والعتبة كما يُجمع النّقاد ومنهم (جيرار جنيت) حيث يؤكد أنَّ العنوان (ما يَصنع فيه النَّصُّ من نفسه كتاباً مفتوحاً ويقترح ذاتَهُ بهذه الصِّفة على قرائه وعلى الجمهور عموما،أي ما يحيط بالكتاب من سياج ٍأولي وعتباتٍ بصريّةٍ ولغويّة .)

وهكذا فالعنوان نصٌ يوازي النَّصَّ الأصلي لإنتاج المزيد من الدِّلالات الشِّعريّة التي تُفعّل دائرة التلقي وفنّ التَّأويل وتشكّل علامات دالة تلخص الفكرة وتكثفها وتُظهر الأبعاد الرَّمزية لها، لتمثل مفاتيح دلاليّة تؤدي وظيفة إيحائيّة باتجاه المعنى ومقترباته .

لذلك فأن العنوان عندي هو تكثيف لبؤرة ضوء القصيدة والجهد الذي أبذله في اختياره يوازي جهد كتابة القصيدة، وأحيانا تولد القصيدة حاملة اسمها .

س3: عندما تتألم أشجارك، كيف تدفن أكداس الحزن؟ وكيف تلتقط حبات ضياء الأمال لتمنحها لعصافير المعنى المغرد على أغصانها؟

- هذا سؤال جدُ رومانسيّ وعذب، نعم أشجاري تفرح وتتألم وينعكس ذلك على مرايا قصائدي كضوع بخور لا يمكن أخفاء عطره كلّما أشتعل وتوهج زاد عبيره وأنتشر شذاه، وأنا على تواصل مع أشجاري كلّ يوم أستمع لحفيفها في الليل حينما أخرج بعد أن يؤوب النَّاس إلى منازلهم وتخلو الشَّوارع والأزقة من كلِّ شيء إلا من نسمات مشاكسة بلَّلها نثيث مطر خفيف وعطر الياسمين، وأحيانا أنشدها بعضاً من قصائدي فيزداد الحفيف ليصبح تصفيقا ً هو الأصدق من تصفيق أي جمهور .

س4: الكثير من الأمنيات تتجسد بحروف تخرج من مكنون القلب .. والحرف يتوهج قصيدة بإحساس عالٍ يستمد منا روحه، بماذا تحدّث القصيدة الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف؟

- للقصيدة حديثان، حديث لحظة تشكلها وقد يمتد للحظات وساعات وأيام وقد يطول لأكثر من عام بكل تحولات الجنين في رحم أمه، تلازمني ألوانها ومساراتها وشكل عينيها، وحديث بعد ولادتها حينما أُداعب خدودها وشعرها المنسدل على كتفيها وبهذا تكون قد باحت لي بأسرار جمالها، أضع وردة على غرتها وأزين شفتيها بحمرة الرِّوح وأضع بعض أسراري بين نهديها، وقد صَوَرتُ معاناة الولادة في قصيدة (شجرة القصيدة) وأسمحي لي أنْ أقتبس منها :

((هيَ الغيثُ النازلُ فوقَ يبابِ الأرضِ

ينبتُ اكواناً من سحرٍ

ومواسمَ أعيادِ الأرضِ

هي حزني المتفجّرُ صمتاً ببريقِ عيوني

وصهيلِ خيولي النافرةِ من برزخ ِصدري

لسماواتٍ سابعة ٍ.. .. ..

خلفَ سنابِكها نُثْارُ نجومِ الدهشة ِ

تَمْوّجُ أوراقِ الآياتِ الأولى

وهي تحلقُ عائدةً

لتحطَّ على أشجارِ حديقتيَ المسكونةِ

برفيفٍ لا أعرفُ سره ...))

2806 سعد وحنان

س5: كيف تنظر لمستقبل اللغة العربية في ظلّ التحديات الكبيرة التي يطغى فيها صخب الإنترنت، وخاصة مستقبل جيل الشباب والغيمة المثقلة بالتكنولوجيا الرقمية؟

- للّغتنا العربية ربٌّ يحميها لكِ أنْ تطالعي التأريخ الذي مرت به اللُّغة العربية والهجمات التي تعرضت لها بفعل الفرنسة والتتريك والتفريس، لكنها بقيت صامدة تستمد عمقها وجزالتها من كتاب الله (القرآن الكريم) ومن تراثها الهائل الذي تمتلكه على مرِّ العصور، فلا خوف عليها على الإطلاق، وما أوجده الإنتريت ومواقع التَّواصل الاجتماعيّ لا ينال من جرف اللُّغة بدليل أن هذه المقابلة وبلغتنا العربية الفصحى تمت عبر الإنترنيت، لكن ثمة شريحة من الذين تركوا الوطن وهاجروا إلى المنافي وجدوا أنفسهم أمام معضلة الأبناء الذين ولدوا هناك وقد فرضت عليهم ظروف البلاد الجديدة لغتها، وهنا لابد أن يتدخل الأهل ليزرعوا في قلوبهم حبّ اللّغة العربيّة لما فيها من مميزات لا تتوفر في أيّةِ لغة أخرى من حيث عدد مفرداتها وثراء اشتقاقاتها وجزالة معانيها، فتلك حقا مسؤولية الأسرة .

س6: في قلب أشجارك (قصائدك) كرنفال من المعاني يتردد صداه بانزياحات مدهشة وشخوص نصية أنزياحية وطبيعية .. كيف تنظر لضرورة تعدد القراءات في النصّ؟

- تعدد القراءات في النَّصّ الواحد سمة مهمة من سمات الحداثة في القصيدة الحديثة فلا قيمة إبداعيّة لنصٍّ بمعنى مباشر واحد لا يتشظى فيه المعني لمعانٍ تتسع كدوائر الماء عند إلقاء حجر في بركة، وهذه مهمة الجملة الشِّعرية الحيّة أن توسّع مدارك المتلقي وتترك فيه اتساع دوائر المعنى فأنا أرى أنَّ القصيدة يجب أن ترتقي بمدارك المتلقي لا أن تهبط به إلى ما هو سائد ومستهلك أو أن تجعله يصفق كما صفق الآخرون، التصفيق لم يعد قياساً لجودة القصيدة قدر ما تحققه من ارتفاع في درجة حرارة فكر المتلقي وهو يعيد تشكيل المعنى وصولاً إلى الدهشة .

س7: حصلت قصيدتيك (قذائف وشناشيل) و(قيامة بابل) الرائعتين على المركز الأوّل في مهرجانين للشعر في بلغراد بالرغم من عدم حضورك الأوّل، ماذا يعني ذلك لكَ.

- حزت على جائزة يوم الشِّعر العالمي لمرتين الأولى في تموز عام 2012بقصيدة قذائف وشناشيل التي كانت صرخة بوجه العدوان الأمريكي الغاشم على العراق، وهذا يعني أنَّ الإبداع الإنساني هو ما يصل عابرا إلى الضّفة الأخرى حتى بدون وجود الشَّاعر بجسده،وذلك حينما يحمل نصّه قضية إنسانيّة يتفاعل معها الإنسان في كلِّ مكان.

أما المرة الثانية التي أحرزت فيها الأولى أيضا في عام 2013 بقصيدة (قيامة بابل) كنت موجودا وقد قوبلت بحفاوة كبيرة من قبل الأدباء والمفكرين والإعلاميين في بلغراد وأحتفت المكتبات بتوقيع نسخ من مجاميعي الشِّعرية لتكون أول كتب عربيّة تدخل لمكتبة بلغراد في حينها.

وقد أقيمت لي جلسات شعريّة في أكثر من مدينة صربيّة ومقابلات تلفزيونية للاحتفاء بمنجزي وبحضارة بابل، وحضارة بابل معروفة في كلِّ أرجاء المعمورة والقصيدة كانت تبشر بقيامة بابل من جديد ونهوض العراق بعد كلِّ الحروب والنَّكسات التي مرّ بها لأنَّه بلد الحضارات التي مهما تكالب الأعداء على إطفاء نوره يعود ليتوهج نوراً يهدي الإنسانية من جديد .

س8: كيف تقبَّل الجمهور الأجنبي في مهرجانات بلغراد ومدن صربيا لقصائدك باللغة العربية؟ وهل ترجمة هذه النصوص أفقدها الجانب الأيقاعي والشعري؟

- أنا أومن بأنَّ الأحساس لغة، وكان ثمة مترجم رائع وشاعر هو الأستاذ صباح الزبيدي  يريد أنْ يترجم القصيدة أثناء القراءة، لكني طلبت منه أن أكملَ قراءة القصيدة باللّغة العربيَّة كاملة كي لا أتوقف وتفقد وهجها، وهذا ما حصل توقفت التَّرجمة وكان الجمهور ينصت بشغف لي ويتفاعل مع إحساسي الذي حاولت أنْ أوصله بتموجات الحزن والفرح واللَّهفة والألم وحالما أنهيت القصيدة صفق ليَ الجمهور بحرارة قام بعدها المترجم بقراءة القصيدة باللّغة الصربيّة .لكن مما أثار فرحي أنَّ أحدى الأديبات الحاضرات أستأذنتني بحديث على إنفراد لتقول : إنَّها فهمت معاني القصيدة بأكملها من خلال قراءتي وإنَّ الشُّحنة التي أكتنفتها القصيدة قد وصلت إليها قبل أنْ تستمع إليها مترجمة ً .

س9: ما هي فلسفتك في الحياة، هل هي روحية، ام واقعية؟

- الواقع يفرض شروطه علينا، شروطه القاسية الموجعه ومآلاته ومتغيراته فنلوذ بندى الرُّوح لنخفف قليلا من قسوة الواقع وجفافه وما يتركه من ندوب وجراح عميقة في قلوبنا، الواقع مفروض علينا، لذا لابد أنْ نخوض غماره متسلحين بكلِّ دفاعات الرُّوح من قيم أرضيّة وسماويّة يسمو بها الإنسان وينتصر بها على واقعه، والشِّعر هو القيمة الروحيّة التي ألوذ بها من هول قساوة هذا الكون .

س10: جلسات الحوارات الأدبيّة التي تحتفي بكَ دوماً شاعراً مبدعاً في بقاع الأرض أجمع، والدِّراسات النقديّة التي يقدمها الكتّاب والنُّقاد في مضامين دواوينك وتقدمك كحلقة وصل بين رواد الشّعراء و جيل الشّباب .. بماذا يُشعرك ذلك ؟

- أغلب من قدمني في الجلسات الحواريّة وجلسات الاحتفاء بي وكتب عن منجزي الشعري قراءةً ونقداً كانوا قد اطلعوا على بداياتي الشِّعرية التي تمتد لسبعينيات القرن الماضي لذلك وجدوا هذه الصفة التي (لا أدعيها لنفسي)، أما فيما يخص جيل الشّعراء الشّباب فنعم، وقفت معهم ودعمتهم من خلال وجودي في عضوية منتدى الشِّعر في الاتحاد العام للأدباء والكتاب ومن خلال اشرافي على حملة الإشارة هذا هو الشَّاعر العراقيّ هذا الموقع الذي احتفينا من خلاله بقامات شعرية سامقة وكذلك بالعديد من الشّعراء الشَّباب وبشّرنا بهم كشعراء واعدين وهم الآن شعراء مميزون في الحركة الشِّعريّة العراقيّة، وهذا ما يشعرني بالفخر لأني ساهمت بمدِّ يد العون للجيل الذي أعقبنا .

س11: تندفع الاجيال الجديدة وراء التجديد، هل يدعو دكتور سعد ياسين لمبدأ التجديد مع الأصالة وما هي حدود التجديد لديك؟

- لا تجديد يأتي من فراغ والتجديد هو سرّ الحياة وديمومة الإبداع هذا ما يعلمنا إياه تعاقب الليل والنهار ولولا التجديد الذي طرق أبوابه المبدعون الذين سبقونا انطلاقاً من عمق أصالتهم، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، وبالتأكيد ينطلق التَّجديد من أصالتنا وهذه مسؤولية تقع على عاتقنا وعاتق جيلنا لنواصل مسيرة الإبداع ونمنح الأجيال المقبلة شعلته .ومع ذلك أنا لست مع التجديد الذي يُفقد الإبداع جمال الصورة والقيم الجماليَّة التي ترسخت في ذواتنا ولست مع التجديد الذي يسلب القصيدة دهشتها ولا يُنقّي المفردات والجمل في القصيدة ويمسخ الهوية العربيّة والإنسانيّة.

س12: في قصيدة( عيون الصّبار) و (شجرة العروج) من ديوان

أشجار لاهثة في العراء خرج أنين وصرخة مدوية لترثي العصافير

المذبوحة التي رقدت على أشجار بغداد .. " فوق نافورة الدم ..

كيف تحمل بقلبك كل هذا الصخب المؤلم لتنهض من رمادك فتقول " خذي ثلجك أيّتها العاصفة .. ودعي لنا شمس أحزاننا التي تمرّست بالبقاء " كما قصيدة (أشجاري تعرفك) .

- القصيدتان الأولى والثانية كانتا على إثر فاجعة الكرادة، والكرادة : حيٌّ في بغداد تعرض لتفجير انتحاري اجرامي في أهم مجمعاته التجارية في شهر يوليو عام 2016 بينما كان المدنيون الأبرياء يتبضعون أستعداداً لعيد الفطر المبارك .. راح ضحيته أكثر من (1500) شهيد وجريح من النساء والأطفال والشَّباب، ولذا وجدتني أكتب قصيدتين عن هذه الفاجعة وأنا ألوذ بالشِّعر من هول الفجيعة، وقد لقيتا أهتماما من قبل الشُّعراء العرب حتى حينما دُعيت لتونس للإحتفاء بي في بيت الشِّعر التابع لوزارة الثَّقافة وجدت من يتحدث عنهما بألم ومن بين الذين تحدثوا عنهما وأشاد بهما الشَّاعر التونسيّ (سوف عبيد) حينما كنا في جلسة شعرية حضرها أ. د . عبد الرضا عليّ وأ.د . خضير درويش والروائي الكبير عبد الرحمن مجيد الرُّبيعي، مما يؤكد أنَّ النّصوص الصَّادقة تصل إلى القلوب رغم بعد المسافات .

أما (أشجاري تعرفك) فتتناول موضوعة الوفاء، فكثيراً ما نزرع أشجارنا ونزينها بالقصائد وورود القلب لكن العيد لن يمرَّ، ولو مرَّ وأنحنى تحت مهابة أغصانها يبدي نكرانا لخضرتها ...

س13: أعتمدت الرمزية في الكثير من كتاباتك،لماذا تستدعيها. وما هي حدودها لديك؟

- الرَّمز في قصائدي يعمق لغة الكتابة ويرتقي بالمعنى من المباشرة إلى معنى أعمق والرَّمز كما يقول المبدع صلاح عبد الصَّبور" يتيح لنا أنْ نتأمل شيئاً آخر وراء النصّ، فالرَّمز قبل كلِّ شيء معنى خفي وإيحاء" والرَّمز يحيلنا إلى فهم العلاقة الداخليّة التي تربط الدّال بالمدلول، أما نازك الملائكة فوصفته في كتابها قضايا الشِّعر المعاصر بأنّه "شيء حسّي يعتبر كإشارة لشيء معنوي لا يقع تحت الحواس "

أما اعتمادي الرَّمزيّة فهو لإبعاد النَّصّ عن المباشرة المملة المستهكلة وكتابة نصّ مغاير للّسائد مليء بالمعاني والإشارات الخفية التي توسع دائرة التلقي وتحتفي بعقل القاريء وتدفعه إلى الإكتشاف والتفكير وأستدعاء مرجعياته الثقافيّة وبذلك نضيف شيئا جديدا ً للقارئ ونرتقي بثقافته من خلال أستمتاعه بالربط بين الرَّمز والمرموز أو من خلال سعيه لفك رموز النَّصّ بالعودة إلى ما يضعه النَّصّ من تحدٍ سيميائيّ أمامه عبر الرّموز الأسطوريّة أو التَّأريخيّة أو الحياتيّة أو الطبيعيّة وصولا إلى لذة الإكتشاف والدَّهشة، بعيداً عن التَّعمية والانغلاق في المعنى الذي يضع حواجز بين القارئ والنَّص ّ .

س14: كتبت عن الحلم كثيرا، فمتى يكون الحلم وعداً؟ هل هو شمعة الفرح المؤجلة؟ ام هو في حفيف أجنحة الفراشات التي توشح الافق بغدٍ أفضل؟

- الحلاج يقول "إنَّ الحلم جنين الواقع" فلا واقع مرتجى لولا الحُلم بتغييره نحو الأحسن والحُلم هو ما يمنحنا الطاقة لإيقاد شمعة الفرح لنضيء دروب الظَّلام بنورها،والحلم بالزَّهرة هو ما يمنح أجنحة الفراشات رفيفها،والحياة البشريّة تدفقها وزخمها اليومي المتفجر بكل ما هو جديد وبكل المنجزات التي تحققت، فلا حياة بلا حُلم والعمل هو ما يمنح الحُلم تَحققه .

س15: أي وهج يضيء من مجموعتك الجديدة الأشجار تحلّق عميقا؟

- إنما هو وهج الرُّوح الذي سيضيء في كلِّ قصائد المجموعة الشِّعريّة وهي السَّابعة وعبر أثنين وثلاثين نصّاً،والمجموعة دعوة بضرورة أنْ يعمّق الإنسان جذوره في الأرض ليحلّق في فضاءات العطاء الإنسانيّ، فلا تحليق بلا ترصين الرُّوح والقيم النبيلة،وبالتأكيد تناولت موضوعاتها همّ الإنسان العراقيّ وتطلعه للحياة الحرة الكريمة إنطلاقاً من حضارته والقيم السّماويّة والإنسانيّة التي آمن بها، ومواجهته للصعوبات والحروب والظروف الحياتيّة والسياسيّة القاهرة التي أثقلت كاهله .

كما تضمنت رؤيتي للأسئلة الكونيّة والفلسفيّة التي تواجهنا ومنها الحياة والموت والفراق والغربة والنّشوء.

فائق الشكر والتقدير دكتور سعد ياسين يوسف لهذا الحوار الممتع، أتمنى لك مزيدا من النجاح والتوفيق .

أجرت الحوار: الشاعرة والأعلامية حنان جميل حنا

جواد كاظم البيضانيتشكل منطقة القوقاز عقدة مواصلات مهمة في الحد الشمالي للعالم العربي، وهي واحدة من اهم المناطق ذات التأثير المباشر في ميزان القوى، والمحرك الفاعل للصراعات  المستحكمة بمنطقة الشرق الأوسط، فهي السكين  المؤقت لاي انفجار ربما يحدث، او نزاع ينشب بين طرفي النقيض، لان أيدلوجية الحرب بمفاهيمها التقليدية توصلنا الى قناعة بحتمية التصادم بين بلدان هذه العقدة، ولعلنا نفاجئ اذا ما علمنا ان اقليم متناهي في الصغر يشكل تهديد كبير في وقوع مثل هذا التصادم الذي وصفه البعض بالحتمي.  انها (قرباغ) او ما تسمىناغور نيقرباغ وسكانها يسموها (ارتساخ) وهذا الاقليم له وقع مؤثر في القراءة الاستراتيجي لثلاث دول مهمة في المنطقة هي ايران وتركيا وروسيا، فضلاً عن المحيط العربي القريب جداً، وهي قريبة من بؤرة نزاع مستحم في المنطقة بين تركيا وروسيا ودول اوربا طرف فيه، فضلاً عن الإستراتيجية الغربية التي تعتمد القضم والتطويق للضغط على روسا وايران وتحجيم إستراتجية الصين في بعدها الاقتصادي .

وللوقوف عن حجم هذا التهديد كان لنا لقاء موسع مع وزير خارجية قره باغ الجبلية الأستاذ الدكتور دافيد بابايان الذي يحلوا لبعض وكالات الانباء ان تسميه بـ(اقليم قرباغ المتناع عليه).

وقبل الحوار مع الدكتور دافيد بابايان لا بد ان نُعرف بموقع جمهورية قرباغ، فهي منطقة جبلية وعرة تقع وفق المعاهدات الدولية في الخاصرة اليسرى على الطرف الجنوبي الغربي من دولة اذربيجان، عاصمة هذه الجمهورية مدينة استيبانا كيرت، وربما سميت بهذا الاسم نسبتاً إلى الزعيم الأرميني ستيبانشو ماهان، يعتمد نشاط هذه الجمهورية غير المعترف بها دولياً على الزراعة وتربية المواشي وبعض الصناعات التقليدية. وهي منطقة شهدت نزاعات بين القوى الاقليمية الثلاث في المنطقة، وكان سؤالنا الاول للدكتور بابايان عن: السبل التي مكنت هذه الجمهورية المحاصرة من اذربيجان بان تحافظ على كيانها رغم عدم التوافق الكبير بين ارمينيا واذربيجان؟

قال السيد بابايان بعد الترحيب والشكر: "الحقيقة ان اذربيجان لم تقاتل بمفردها، بل كانت هناك غرفة عمليات تركية اذرية واشتركت معها دول اخرى، وعليك ان تتصور الفرق الكبير ان تقاتل بدولة سكانها بكل شرائحهم لا يتخطون (150) الف وبين دولتين يتجاوز نفوسهما (100) مليون تملك التقنيات العسكرية المتطورة والاسلحة الفتاكة . نعم قاتلت اذربيجان والارهابيين المجندين من دول متعددة الذين تطوعوا للقتال الى جانب اذربيجان مقابل المال، وهذا يوضح لنا حجم التفاوت العددي الكبير. لقد خسرنا الكثير وهذا امر وارد في الحرب لكننا حافظنا على استقلالنا وهذا الامر المهم.

وهنا تبادر الى ذهني سؤال: " في ضوء هذا التهديد الذي وصفتموه ما هو الضامن لاستقلالكم ؟

يجيب الدكتور بابايان: "إن نهاية الحرب بين اذربيجان وارتساخ كانت فيها بصمة روسية. فعلاقتنا مع روسيا علاقة وثيقة، وودية ونحن اخوة، وروسيا هي الضامن، ونحن نقدر تقديراً كبيراً الدور المميز الذي تضطلع به في فرض حالة الاستقرار في المنطقة ومعالجة اي تدهور فيها، ولكم ان تعلموا ان علاقاتنا مع الاشقاء في روسيا هي علاقات تاريخية متينة، وقوات حفظ سلام روسيا ساهمت في اعادة اعمار ما خلفته الحرب، فضلاً عن تعزيز الأمن والاستقرار في جمهوريتنا.

وعن علاقات جمهورية ارتساخ مع دول العالم، والدول التي اعترفت بجمهورية ارتساخ، قال؟

لدينا علاقات واسعة مع بعض الدول، وهناك تمثيل دبلوماسي لنا مع بعضها، فمثلاً هناك اعتراف متبادل مع جمهورية جمهوريةابخازيا وجمهورية بريدنيستروفيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية وهي جمهوريات مستقلة،  وأيضا تم الاعتراف بجمهوريتنا من مجالس بعض الولايات الامريكية وفي اوسترالية وبعض المدن والبلديات الاميركية وفي أوربا ايضاًأوروبية.والحق ان للجالية الارمنية في الشتات دوراً في ذلك. فدعمهم لأشقائهم لا ينقطع لأنهم يدركون جيداً حجم التهديم الذي يتعرض له شعبنا.

وعن العلاقات مع العالم العربي قال الدكتور دافيد بابايان؟

من غير ادنا شك ان الوطن العربي يمثل لنا أهمية كبيرة، ويعود تاريخنا مع العرب الى قرون خلت، وهناك نشاط اقتصادي، وتاريخي وبنيوي تربطنا مع العرب، لقد ابطل شعبنا اكبر تحدي على المسلمين وهو ثورة بابك الخرمي على العباسيين في فترة ٨٢٦ - ٨٣٧. وكما هو معلوم فان انتصار هذه الثورة لو حصل لكان له اثر خطير ومدمر في مسيرة الحضارة الإسلامية التي شعت في هذه المرحلة. وهناك تلاقع فكري ومعرفي مع المسلمين، فالإسلام هو دين عظيم انتج حضارة عظيمة، نحن نكن لها الاحترام والتقدير.

ويتابع بابايان القول أن للعرب موقف مشرف في التاريخ الحديث عندما وقفوا إلى جانب شعبنا بفعل الإبادة التي ارتكبت بحق الأرمن، فكانت بلادهم مواطن لشعبنا الجريح، وعاش الأرمن في كثير من البلدان العربية كمواطنين كانت لهم انجازاتهم في حقول معرفية وعلمية وصناعية .

في الختام قال الدكتور دافد بابايان: " نحن من خلالكم نريد ان يطلع الشعب العربي على حجم التهديد الذي يتعرض له شعبنا، وشعوب الإقليم من تركيا التي تشكل تهديد حقيقي للعراق ومصر وسوريا وليبيا ودول الخليج العربي، لأنها حالة عدم استقرار بسبب اطماعها التي اعلن عنها المسؤولين الاتراك في اكثر من مناسبة. متمني ان تعيش المنطقة بأمن وسلام بعيداً عن التهديدات التي تفرضها الدول القوية على الدول الأقل منها قوة.

2758 لقاء البيضاني

 

اجرى اللقاء الدكتور جواد كاظم البيضاني

 

 

الصفحة 4 من 5

في المثقف اليوم