حوارات عامة
مقابلة مع مؤلف كتاب الزمن والحزن: تفكير في المؤقت
حاوره: غرانت بارتلي
تقديم وترجمة: حاتم حميد محسن
نبذة موجزة
وُلد ريموند تاليس عام 1946 وهو فيلسوف بريطاني وفيزيائي طبي عمل في جامعتي اكسفورد ومانشستر. كتابه الحالي عن فلسفة الزمن.غموض الزمن يبدو عصيا على الفهم عندما يتم تجريده من الأوصاف والاستعارات الشائعة. المؤلف يرتقى الى مستوى التحدي ويستطلع طبيعة ومعنى الزمن وأفضل طريقة لفهمه. كتاب الزمن والحزن شكّل ذروة 20 سنة من التفكير والكتابة والتساؤل حول الزمن، انه عمل جريء وأصلي ومثير للتفكير . تاليس يسعى بلا خوف الى استعادة الزمن من فكّي الفيزياء. بالنسبة لمعظم الناس، الزمن مركب من الصباح، الظهر، المساء ويُعبّر عنه بالاستعجال، الأمل، الشوق، الانتظار، التحمل، التخطيط والتوقعات المرحة والمؤسفة. التفكير في الزمن يعني التأمل في فنائنا. لكن الفيزياء تقول القليل او لا تقول شيئا عن الزمن كما يُعاش. القصة التي تحكيها الساعات او نظرية الكوانتم بحاجة الى دعم من طحالب الصخور، ودموع العينين والقصص الطويلة لرحلتنا الانسانية. حياتنا القصيرة تستحق انتباه اكبر مما تقدمه معادلات الفيزياء الرياضية. كل من أصابته الحيرة حول الزمن وطبيعته يتسائل ما اذا كان الزمن غير منفصل عن التغيير، او ان كان نقطة ام مستمر، او ما اذا كان هو ذاته حقيقي. الكاتب يضع وعي الانسان في قلب الزمن ويبيّن اننا "اكثر من مجرد جسم صغير في ساعة كونية، مجبرين على التعاون مع التقدم الذي يدفعنا نحو منتصف الليل".
في المقابلة التي نشرتها مجلة الفلسفة الآن لشهر حزيران/ تموز 2017 يبدأ المحاور غرانت بارتلي في مقابلته مع المؤلف بالقول:
رائع ان أرى البروفيسور تاليس للحديث عن عمله الجديد والعظيم حول الزمن والحزن. ما الدوافع التي دفعتك لكتابة هذا الكتاب؟
- حسنا، انه جزء من مشروع كبير. كإنساني علماني، انا أشعر نجحت في تحرير نفسي من التفكير الما فوق طبيعي للانسانية، لكن البديل للعديد من الناس هو التفكير الطبيعي – فكرة اننا فقط "أجزاء من الطبيعة". أحد مظاهر هذا هو فكرة ان العلوم الطبيعية هي بالنهاية ستعطينا وصفا تاما، ليس فقط لبقية الكون، وانما لأنفسنا ونحن نعيش فيه. هذه العلموية كانت احدى أهدافي لعدة سنوات، وهي احدى الدوافع لكتابة هذا الكتاب حول الزمن. هناك دوافع اخرى. لكن الاختزالية العلمية للزمن الى "زمن صغير"(ت) هي مثال جيد عن المكان الذي ستأخذنا اليه العلموية، والذي سيكون مكانا كئيب.
بـالرمز (ت) انت تعني تمثيل الزمن كقيمة بدلا من شيء واقعي؟
- انا أعني ككمية خالصة من متغير، كمجرد بُعد، أحد الأبعاد الأربعة، الأبعاد الثلاثة الاخرى هي المكان (عرض وارتفاع وعمق) – كنتيجة لفكرتنا عن الزمن والتي هي فكرة فقيرة بشكل خطير. الوصف العلمي للزمن مفيد بالطبع. انه مكّننا من التنبؤ بالأحداث الفيزيائية والسيطرة عليها بطريقة لم تكن متاحة قبل العصر العلمي. الخطر هو ان هذا النجاح يقودنا للاعتقاد ان فيزياء الزمن، او الزمن كما يُرى في الفيزياء، هو آخر كلمة في الموضوع – ان فيزياء الزمن هي ميتافيزيقيته ايضا.
تأمّل في الأشياء التي تستطيع عملها في الزمن (ت). انت تستطيع ضربه بذاته. تستطيع وضعه تحت عامل متغير آخر كمقام، كما في حالة قياس السرعة. انت تستطيع استخدامه في سرعة الضوء لقياس المسافات النجمية وهكذا. الآن هذه انواع الاشياء انت تستطيع عملها في الزمن عندما يتم تجريده من كل ما ارتبطنا به اثناء حياتنا . لكن فكّر في محاولة وضع إجازة نهاية الاسبوع كمقام، او ضرب ظهيرة يوم سعيد في ذاتها. انه غير ممكن ، وسيجعلك تدرك ما تجرّد من الزمن عندما اختُزل اليه.
معنى ذلك ان التصور العلمي للزمن ككمية لايرتبط بتجربة الانسان له؟
- نعم ، وفي عدة طرق نحن عادة نعتقد ان ساعة الزمن هي الكلمة الاخيرة – بمعنى لو تخاصمت مع الساعة حول مقدار الوقت الذي مر، عندئذ فان الساعة بالنهاية يجب ان تكون صحيحة. ولكن بالطبع، الساعة تقيس فقط الكمية بينما الزمن اكثر غنى وتعقيدا من ذلك. لذا فان الكتاب يعالج اولا اختزال الزمن الى بُعد شبه مكاني، كما في نظرية النسبية، التي تتضح في الأبعاد الاربعة للفضاء. بالنهاية هذه الهندسة للزمن تختزله الى هندسة فضاء – وبالتالي يضيع الكثير. في الكتاب، انا افحص كيف يبدو الوقت مختزلا الى (ت) فقط عندما نزيل المراقب، عندما ننسى ان قياس الوقت يجب ان يتم بواسطة شخص ما. لذا حتى في عباراتها الخاصة، فيزياء الزمن تعطي وصفا غير تام لعملياتها. انا اريد ان أضع تجربة الانسان للزمن في مركز "الزمن". ذلك يبدو صعب جدا، لأنك حينما تقول ان وجود الزمن يعتمد على الانسانية، عندئذ انت ترفض الكثير مما نعرف عن العلم، خاصة ان هناك سلسلة زمنية من الأحداث قبل ان يكون هناك اي وعي، الوعي الانساني لا يهم. الانفجار العظيم جاء قبل ظهور الكواكب، والارض جاءت قبل ان تكون هناك حياة، والحياة جاءت قبل ان تكون هناك حياة واعية. لذا من الواضح ان الزمن كان قبل الوعي الانساني. انا لا أعني ان الزمان الفيزيائي هو باطني للوعي الانساني لأن ذلك سيضعني في موقف صعب بشأن ما نعرف عن تاريخ الكون.
كيف ترتبط الصورة الرياضية الفيزيائية بالواقع نفسه؟
- ذلك سؤال مثير للاهتمام يجب ان أعالجه، لأنني عندما أقول ان (ت) ليست حقا جوهر الزمن، انا ادّعي ان الاتجاه الكمي للعالم، رغم انه فعال بشكل استثنائي، لكنه لايستوعب تماما الواقع. في الكتاب انا أستكشف ثلاث رؤى عن السبب الذي جعل الرياضيات ناجحة جدا في الفيزياء، ولماذا الفيزياء كانت علما مؤثرا. الاول هو ان الرياضيات فقط اداة مفيدة جدا للتعامل مع مظهر معين من الواقع، أعني كمياته. الثاني هو ادّعاء اكثر جرأة في ان الرياضيات اساسا ليست وصفا جزئيا للعالم، وانما هي وصف تام له، وصف اكثر اخلاصا. واخيرا، هناك قوة صناعية فيثاغورية تقول ان العالم بالاساس يتألف من أشياء رياضية. بالنهاية أعتقد انا مع غالبية الفيزيائيين في رؤية الرياضيات فقط كأداة مؤثرة جدا، تعطي أجوبة كمية لأسئلة كمية. العالم ، لا يتألف فقط من أجوبة كمية لأسئلة كمية. الرياضيات فعالة جدا لأنها تختزل الأماكن لأماكن عشرية، لكن الأماكن ليست أماكن عشرية، انها اكثر من ذلك. اولئك الذين يعتقدون ان العالم يتألف من أشياء رياضية يرتكبون خطأ شهير في الخلط بين الخارطة و التضاريس.
لماذا يصر العلماء جدا على التمسك بالزمن ككمية خالصة؟
- انه جزء من مشروع كلي للعلم الفيزيائي من غاليلو فصاعداً، في ان يأخذ الكميات كحقيقة، كما كانت، ويرفض النوعيات باعتبارها أشياء فقط للذهن وليست واقعية كليا. ارجو ان لا تسيء فهمي، انا اعتقد ان الفيزياء أعظم انجاز فكري للانسانية، وانها حققت العديد من المنافع التطبيقية لنا من حيث توقعات الحياة، توقعات الصحة وما شابه. لكنها لم تعط وصفا تقريبيا للعالم المادي، وحتى أقل من عالم الانسان، العالم الذي يعيش به الفيزيائيون ويؤدون فيه أعمالهم الفيزيائية. ذلك يوضح لماذا الجزء الثاني من الكتاب خُصص كليا للزمن المعاش. انا أنظر في ثلاثة أزمان، الماضي ، الحاضر والمستقبل، وايضا نظرة على الأبدية ، لأني أعتقد ذلك مهم جدا. انا انظر الى الازمان بالتعاقب، بعد الدفاع عن الزمن الظرفي tensed time(الماضي والحاضر والمستقبل) مقابل الادّعاء العلمي بان الأزمان هي وهم، وضد بعض الفلاسفة الذين يعتقدون ان الزمن الظرفي هو فقط نتيجة ثانوية عرضية للعلاقة بين اللغة والعالم. هم يعتقدون انه عندما نتحدث عن الماضي فنحن في الواقع نتحدث عن حدث سبق القول في ما ندّعي. فمثلا، عندما أقول ان شيئا ما حدث في الاسبوع الماضي، فان ما أقوله حقا هو ان حدثا وقع قبل اسبوع من اللحظة التي اتحدث بها حاليا. انا لا أعتقد بصحة الاختزالية وذلك للعديد من الاسباب التي أطرحها. لذا انا ادافع عن الزمن الظرفي ضد الفلاسفة، وضد الفيزيائيين، ومن ثم أفحص الأزمان بالتعاقب. انا ابدأ بما يبدو لأول وهلة اسهل الأزمان وهو الحاضر.
هل هناك حاضر، واذا كان هناك حاضر، فهل هو خادع؟
- بالنسبة لي الفكرة الأكثر خداعا هي فكرة اللحظة اللامحدودة durationless instant او ذرة الزمن. انا اعتقد ان وليم جيمس هو الذي أشار بأن لا أحد تلقائيا يعتقد ان الزمن صُنع من لحظات بلا حدود. اللحظة، كما يقول A.N، هي بناء خالص.
اذا انت تنظر للحاضر بـ "الان"، سيكون محير جدا. منذ الأزمان الكلاسيكية، قال الناس ان الحاضر هو الخط بين ما لم يحدث بعد وذلك الذي حدث سلفا، والخط ، كما معروف، ليس له عرض. واذا انت تنظر للزمن كما رآه الفيزيائيون، فهو مركب من نقاط غير متسعة. لكن الحاضر لم يُصنع من لحظات لا محدودة. اي لحظة من الوعي هي سلفا تصل الى المستقبل وتستفيد من الماضي. هذا شيء طُوّر كثيرا من جانب الفينومينولوجيون مثل هسرل، لكني اطوّر هذه الفكرة لمدى أكبر.
هل تستطيع ان تخبرني ماذا تعني بـ "تصل الى المستقبل وتستفيد من الماضي"؟
- عندما انظر نحوك الآن انا اميّز وجهك. وجهك يجعل معنى لي بسبب تجرتي الماضية وبسبب الغرض الذي جئنا لنلتقي من أجله، والذي يجعل معنى لما يحدث. وضوح الحاضر يستفيد من الماضي. ولكن بالاضافة الى ذلك، وضوح الحاضر يبرز من كونه يحمل ما سيحدث لاحقا. كوني هنا يعطيني إحساس بما سيحدث بالدقائق القادمة وما ورائها. وضوح الحاضر لا يستفيد فقط من الماضي وانما ايضا من استمرارية الحاضر، وما سيحدث لاحقا، وفي الحقيقة، لما متوقع لي.
كيف يرتبط الماضي والمستقبل بالحاضر؟
- هذا أحد أهم الأسئلة: ما مكانة الغد، اليوم؟ ماذا لو كان الغد هو هنا سلفا؟ هناك أشياء معينة هي بالتأكيد موجودة هنا سلفا. فمثلا، هناك عمليات مستمرة، ستبقى مستمرة في خمس دقائق من الوقت. هناك مكان نجلس فيه، والذي سيكون آثاث الغد بالاضافة الى اليوم. ما لا يوجد سلفا هو مستقبل الأحداث. كتاب الزمن والحزن يناقش "القدرية المنطقية". هذا يُشتق من جدال مثير عرضه ارسطو يذهب كالتالي: اما انه صحيح ستكون هناك معركة بحرية غدا، او انه صحيح سوف لن تكون هناك معركة بحرية غدا. اذا كان احد هذين الادّعائين صحيح، فيجب ان يكون صحيح سلفا- وفي أي حالة، المستقبل هو ثابت سلفا. السؤال هو هل نحن خُدعنا منطقيا؟ بكلمة اخرى، هل المستقبل تقرر سلفا؟
الطريقة التي يتعامل بها المرء مع هذا هي ان ينظر نقديا للادّعاءات التي تُطرح في الجدال. الحقيقة هي، عندما تتحدث انت عن معركة بحرية في المستقبل، انت لا تتحدث عن أي حدث حقيقي، انت تتحدث عن صنف من أحداث محتملة، وتلك الأحداث لايمكن ان تكون جميعها ممكنة، لأن معركة بحرية واحدة ربما تتضمن ان يموت فيها البحار جون ومعركة اخرى لا يموت فيها البحار جون . لذا من الواضح، ان المشار اليه في اقتراحات الجدال لايمكن ان يكون حدث واقعي. لكن المستقبل لايزال يمتلك حقيقة بالنسبة للاشياء الثابتة الحاضرة، والعمليات المستمرة.
لكي نرجع للحاضر، تماما كما يبدو احيانا يتقلص الحاضر بالماضي والمستقبل، الخطر المقابل هو ان الحاضر يبتلع الأزمان الاخرى. هناك حركة فلسفية قوية تسمى "الحضورية" presentism، والتي هي الفكرة بانه فقط منْ يوجد في الحاضر هو واقعي، ولذلك هناك فقط زمن واحد، زمن الحاضر. ولكن اذا كانت الحقيقة فقط هي الحاضر، عندئذ كيف يمكن ان تكون هناك أشياء صحيحة، او زائفة عن الماضي؟ كيف استطيع القول ان سقراط اكان اثنيا، وأقول زيفا ان سقراط كان انجليزيا؟ اذا كان الماضي لا يمتلك حقيقة، فلن تكون هناك حقائق حوله، لأن "الحقيقة تحدث لاحقا على الوجود". لهذا فان الماضي له حقيقته الخاصة به، وانها حقيقة معقدة جدا. هناك ماضي من التذكّر المباشر، ومن ثم ماضي من شبكة كلية من الحقائق التي نحن، كعرق انساني نعتني بها جماعيا – ماضي التاريخ.
هل الزمن الظرفي يتطلب بالضرورة مراقب انساني، او مراقب واعي على الأقل؟
- نعم، بالتأكيد، لكن ذلك لا يعني هو نوع من الدرجة الثانية للوجود. انه لا يجعله درجة ثانية اكثر من الألوان، مثلا، والتي تعتمد ايضا على المراقب.
هل هناك معنى للسؤال عن "الزمن ذاته" كمضاد للإحساس بالزمن؟
اظن ان هذا أصعب سؤال والأكثر اثارة للاهتمام. انا فعلا استكشفه بشكل مطول، وبالنهاية، انا لم أصل الى حل. لكن دعني القي الضوء على بعض الافكار. يبدو لي ان افكار "المبكر" و "اللاحق" يجب ان تفترض مسبقا الوعي. الرعد ليس واعيا في كونه أبطأ من البرق. انه لا يربط نفسه بالبرق. الرعد يحدث عندما يحدث، والبرق يحدث عندما يحدث، لا وجود هناك "للمبكر" او "اللاحق". لا وجود هناك للتعاقب عدى عندما يُلاحظ ذلك التعاقب من قبل الفرد الذي يربط بين الحدثين. اذا كان المبكر او اللاحق خاصية مكوّنة وباطنية للأحداث، عندئذ سيصبح العالم فوضى حقيقية، لأن كل حدث سيكون أبكر من ملايين الأحداث وأبطأ من ملايين الأحداث الاخرى. لذا، حتى الزمن المبكر والزمن اللاحق والتي تُسمى من قبل جون تاغرت John Mc Taggart بـ (B- series time) تبدو حقا تتطلب وعيا لتجلب حدثين مع بعضهما، وتحددهما في علاقة زمنية. انه أسهل بكثير التعامل مع الزمن الظرفي: من الواضح تماما ان الماضي والحاضر والمستقبل يبدو فعلا يتطلبون وعيا انسانيا. كوننا قلنا ذلك، نحن نعرف ان هناك سلسلة موضوعية من الاحداث التي تحدث قبل الوعي، كما ناقشنا. لذا، لدينا مشكلة الزمن الانساني الذي يتم احتوائه في زمن فيزيائي، والزمن الفيزيائي يتم انتزاعه من الكون بواسطة وعي الانسان. هذا هو الموقف الذي يشير له كن (quine) بـ "الاحتواء المتبادل".
في كون غير مُراقب، هل يمكن ان يبقى هناك ترتيب للأحداث، ولكن ليس كترتيب زمني كما نفهمه؟ انت تستطيع القول ان الأحداث هي مرتّبة في زمكان في تعاقب معين، ولكنها فقط عندما تضع الكائن الانساني في ذلك ستحصل على ما نسميه زمن؟ . يبدو انك اذا تحاول ازالة المراقب الانساني ، وانت تحاول الافتراض ما اسماه ناجل "رؤية من لا مكان" – رؤية مستحيلة، لأنها ستكون رؤية بدون مكان للمراقبة – انت سوف تمتلك المجموع الكلي لاستمرارية الزمكان.
لكن المرء لا يعرف ما هي استمرارية الزمكان في غياب المراقب. بعض الفلاسفة قالوا ان كل شيء يتعايش في استمرارية الزمكان، والذي هو بلا معنى، لأن ذلك يعني ان فتح الباب وغلق الباب يحدثان في نفس الوقت، او ربما لايحدثان في أي وقت محدد، او كما يقترح Herman WeyI لايحدثان ابدا.
ماذا عن تجربة الأبدية؟ هل هذه الفكرة متماسكة؟
- فكرة الأبدية كلها فكرة صعبة. كل من الافكار الدينية وغير الدينية للأبدية فيهما الكثير من المشاكل. اولا، ماهي الأبدية؟ هل هي استمرارية أبدية – وقت لا متناهي – ام هي لازمنية؟ هذا الغموض يصبح ضاغطا خصيصا عندما نفكر حول الناس الذين يدخلون الأبدية، اما في لحظة معينة، او في نهاية حياتهم – لأنك عليك ان "تدخل" الأبدية، والتي ربما بلا زمن، في وقت معين، و هو بالتأكيد مغالطة. وبالمناسبة، الحياة في الأبدية هي عمل كئيب جدا لأنه لكي تستمر الأشياء الى الأبد هي يجب ان لا تتغير، واذا لم يكن هناك تغيير، لا شيء مثل التمثيل الغذائي يمكن ان يحدث، ولا شيء مثل الشعور بالحاجات يمكن ان يحدث. انا لا اعتقد ان الذين لا يؤمنون بالأبدية يخسرون الكثير.
ألا تعتقد ان هناك معنى بوجود بُعد أعلى للزمن يمكن ان ترى منه تدفق الزمن؟
- هذا يستدعي السؤال: "اذا كان الزمن يتدفق، فما سرعة تدفقه وما الذي يتدفق فيه؟" والجواب هو " حسنا، انه يتدفق في ثانية لكل ثانية، انه يجب ان يتدفق في ترتيب زمن للثانية". وهو امر غير مقنع ابدا. انت لا تستطيع امتلاك قياس له نفس البُعد على المقام والبسط (t/t) لأنهما سيلغيان بعضهما. أحدُ ربما يقول، "اذاً كان الزمن لا يتدفق: ذلك يجب ان يعني انه ثابت، وفي الحقيقة، الكون ثابت". الجواب كلا: فقط لأن شيء ما لا يتدفق لا يعني القول انه ثابت. لذا انت ربما تسأل، لماذا نجد فكرة الزمن كتدفق لا تُقاوم؟ ذلك بسبب اننا نُدخل في الزمن ذاته دينامية الأحداث، بما في ذلك الأحداث التي بواسطتها نقيس الزمن. لذا نحن نشاهد ساعة اليد تتحرك، ونعتقد ان الوقت يتدفق.
اذا كان "التدفق" استعارة غير جيدة، ما هي الطريقة الجيدة للتعبير عن التغيير او الحركة من خلال الزمن؟
- انا استطيع ان اعطيك العديد من الاستعارات السيئة: فكرة الزمن ككتلة نامية (growing block)(1)، او الزمن كبقعة ضوء متحركة، وهكذا، ولكن جميع هذه لا تصلح كأسباب أعتمد اليها في هذا الكتاب. انا اعتقد علينا ان نعمل بدون استعارات. اساسا، نحن نهمل الاستعارات، و سنرى ما يبقي معنا. ثم نبدأ بالبحث عن بعض التعريفات للزمن الضئيلة والشديدة التضييق، وفي الحقيقة، نحن نفشل مرة اخرى. انظر في بعض التعريفات التي عُرضت: الزمن هو تصورنا لسلسلة الأحداث، الزمن هو اتجاه السببية، او الزمن هو ذلك الذي يجيز التغيير دون تناقض بحيث استطيع القول انك في لندن وانت في ادنبرة، وذلك ليس تناقضا لأنك في لندن مرة وفي ادنبرة مرة اخرى. لكن اذا انت تنظر لكل تلك التعريفات، كلها تنتهي بكونها دائرية. فمثلا، الذي يقول ان الزمن هو الذي يجيز التغيير لأن العالم لايمكن ان يمتلك وضعين في وقت واحد، انت اعترفت بـ "وقت واحد"، كفكرة زمنية. فكرة ان الزمن هو تصورنا لتعاقب الاحداث هو اكثر دائرية: "السلسلة" هي "سلسلة زمنية". لا وجود هناك لتعريف غير دائري للزمن . هذا لا يقلقني بسبب حقيقة ان شيء ما واقعي وفريد من نوعه يعني لايمكن اختزاله الى أي شيء آخر.
ربما نحن نستطيع القول اننا نعرف ماهي حركة الزمن لأننا نمارسها؟ انا غير متأكد جدا اننا فعلا نمارس حركة الزمن. نحن نلاحظ احداثا ديناميكية، ونحن ايضا نلاحظ مجموعة فرعية معينة من الأحداث تكون فيها الحركات مرتبطة بقياس الزمن – في الساعة. لكن انا لا اعتقد نحن لدينا تجربة مباشرة بحركة الزمن بنفس الطريقة التي نمتلك فيها تجربة مباشرة بالحركة في المكان. بدلا من ذلك، نحن نرى ان اشياء معينة تحدث في وقت معين، وان اشياء معينة تأخذ وقتا معينا، وان شيء ما حدث قبل شيء آخر، وان شيئا كان في الماضي وان شيئا آخر كان في المستقبل. لكن لاشيء هناك غير زمني .
هل الزمن مرتبط بشكل وثيق بالتغيير؟
- هناك الكثير من التجارب الفكرية تتصور عالما تتوقف فيه كل أشكال التغيير، بما فيه بعض التغييرات الماكرة، وهي تستلزم تصورا فيه تستطيع النظر الى ما يحدث في ذلك العالم. اذا توقفت كل الاشياء عالميا في وقت واحد، عندئذ لا أحد يستطيع عمل ملاحظات ، لذا يقترح (سدني شومنكر) اننا يجب ان نتصور موقفا فيه ثلث العالم يتوقف دوريا، ومن ثم ثلث آخر يتوقف دوريا، و ثلث الثلث من العالم يتوقف دوريا، لكن كل من تلك العوالم له تجميد مختلف دوريا، مثلا كأن يكون مرة في 60 سنة كل العالم يتجمد. السؤال هو هل هناك اذاً تغيير في الزمن؟ هناك اسباب تدعو للإعتقاد بالنفي. اولا، سوف لن تكون هناك قياسات للزمن المتغير. ثانيا، سوف لن تكون هناك طريقة لتقرير الفترة التي يتجمد بها الزمن: سوف لن يكون هناك فرق بين الفوري والأبدي. لذا سيبدو الزمن بمعنى ما غير منفصل عن التغيير – مع قبول حقيقة ان الزمن هو بنفس المقدار حاضر في الاشياء التي هي ثابتة.
كيف ترتبط حرية الانسان بالزمن؟
- أعتقد ان الزمن الظرفي هو مركزي جدا لحرية الانسان. المخلوقات التي تعيش وتمارس الزمن الظرفي – خاصة الكائن البشري- ليست متطابقة مع اللحظة الفيزيائية التي هو فيها. لذا، عندما أجلس هنا الآن، فان وضوح التجربة التي أمتلكها تعني انا متجذر لمدى معين في ماضيي، وسوف أصل نحو المستقبل. ان عدم التطابق مع لحظة معينة في العالم الفيزيائي هو البذرة وأصل حريتنا.
بالنسبة لي هذا يرتبط بما ذكره سارتر عن وجود الكائن البشري "لأجل ذاته" وليس "في ذاته"، يعني ان الوعي هو نوع من التحرر من الواقع المادي.
هناك ارتباط أكيد. لكن رؤيته كانت عامة جدا، انا أنظر الى الحرية بخصوصية أكبر، وفي الحقيقة انا أنظر الى أفعال حقيقية وقوة حقيقية. اولا، ان أي فعل واقعي يجب ان يكون ذو معنى للفرد، وثانيا، الفعل سوف لن يحدث لو لم يعمل معنى للفرد. اساسا، عندما أتصرف، انا أقوم بتجميع عدد كبير من الأحداث الفيزيائية التي ما كانت لتحدث لولا الشعور من الماضي بما أريد عمله، وشعور بالمستقبل الآتي الذي أريد تحقيقه. هذا هو "ليس وجودا متطابقا مع اللحظة".
كيف تأثر تفكيرك حول الزمن بأفكار آخرين مثل عمانوئيل كانط، جون تاغارت، وايتهد او دي اتش ميلور؟
- انا وجدت ان افتراض كانط بان الزمن هو أحد "أشكال البداهة المعقولة" لا يصمد امام حقيقة اننا نعرف ان هناك تعاقب زمني حقيقي قبل وعي الانسان. عندما نأتي الى تاغارت ، انا لا اوافق على رفضه للزمن الظرفي وكذلك استعماله لذلك الرفض لإنكار حقيقة الزمن. دي اتش ميلور كان احد المحاورين المفضلين لدي، لأنه يكتب بأناقة عالية و باقتضاب. نحن لم نتفق على الزمن الظرفي، وانا ايضا لا اوافق على فكرته بان الزمن هو بُعد سببي للزمكان.
اخيرا قبل ان اسأل عن ما هو الزمن، هل لي ان اسأل عن اللا زمن؟
- كوننا أهملنا جميع الاستعارات واحتفظنا بالزمن المعاش، دعنا ننظر في بعض التعاريف. أحد هذه التعاريف هو، الزمن هو تصورنا لسلسلة من الأحداث، لكن هنا تكمن مشكلة، كما ناقشنا. ثانيا، الزمن هو شيء ما يسمح بالتغيير. هنا الزمن هو مرن خالص لأسباب منطقية: انه يسمح لشيء ما ليكون في كلتا الحالتين مستدير ومربع من خلال كونه مستدير في زمن ومربع في زمن آخر. لكن هذا التعريف يفترض ان لدينا فكرة عن الزمن بُنيت سلفا: اساسا تقول الفكرة ان الشيء (س) يمكن ان يكون احمر في وقت وازرق في وقت آخر. لذا نحن سلفا استعملنا الزمن في تعريفنا. ايضا، فكرة "الزمن المرن" قريبة وبشكل خطير لفكرة ان الزمن ذاته هو سبب. اذا كان الزمن له فعالية سببية عندئذ كل حدث سيكون له سببان: واحد سيكون سببه الخاص به، والآخر سيكون زمن. وبذلك يحصل تقرير مفرط للأسباب. تعريف آخر هو كما يقول ريتشارد فايمان ان الزمن هو ما يحدث عندما لاشيء آخر يحدث. هذا غير مفيد، لأنه بالأساس يفترض اننا نمتلك زمنا في غياب التغيير والأحداث. وهناك عدد آخر كبير من التعريفات للزمن. فشل تلك التعريفات يجعل اتجاه فيتجنشتاين لتعريف الزمن مقنعا. مع ذلك، انا اصر على فكرة ان الزمن كلمة تشير الى عدد من المفاهيم لها تشابه عائلي لكنها لا تضيف "بذاتها" الى أي شيء. اتجاه فيتجنشتاين اكثر اقناعا عندما نطبقه على اشياء مثل الألعاب. سؤاله كان ما هو المشترك بين ألعاب الاولمبك ولعبة اللودو الذي يجعل كلاهما ألعاب؟ جوابه كان ، ليس كثيرا، لذا نحن حمقى للاعتقاد ان هناك شيء مشترك بين كل الألعاب يجعلها ألعابا، حتى عندما تمتلك حقا تشابه عائلي بين واحد و آخر. ولكن انا اعتقد هناك شيء مطابق للزمن. انه بناء من الظلال التي تلقيها الكلمات . ولكن ليس فيه تلك الاشياء التي ناقشتها توا. في نظرتي الطويلة للزمن انا احاول ان أضع مجتمعة كل الاشياء المختلفة التي ربما نقولها حول الزمن، جميع الطرق في الاقتراب منه، وأرسم صورة منصفة لتعقيديته. انا أستنتج ان الزمن واقعي وغير مختزل لأشياء اخرى. انا أتفق مع (لي سمولن) الذي قال اذا كان هناك شيء اساسي جدا في الكون، فهو الزمن.
الزمن لا يُختزل الى اي شيء آخر، ولذلك لايمكن حصره في تعريف. له عدة مظاهر ولا يمكن ترجمته الى مجرد بُعد كالطول. حتى اولئك الذين ينكرون اهمية حقيقته المعاشة يجب ان يقبلوا انه لن يكون شيئا بسيطا ابدا ولا هو مجرد شيء واحد. معظم المتحمسين من الاختزاليين يجب ان يقبلوا بالفرق بين ترتيب زمني، ومدة زمنية، وموقع زمني. هذا يتضح عندما ننظر الى أحداث واقعية. معركة اجينكور حدثت بعد معركة هاستنك، اجينكور استمرت يوما واحدا، وحدثت عام 1415. التعقيدية تتجاوز الزمن القليل(ت).
حاتم حميد محسن
...................
* (الزمن والحزن: تفكير في المؤقت) للبروفيسورالبريطاني ريموند تاليس، صدر عن دار اجندا في شهر مايو 2017 في 672 صفحة.
الهوامش
(1) طبقا لنظرية الكتلة المتزايدة، يوجد كل من الماضي والحاضر بينما المستقبل غير موجود. الحاضر خاصية موضوعية يمكن مقارنتها بضوء متحرك. بمرور الزمن المزيد من العالم يأتي الى الوجود، ولذلك، تتضخم كتلة الكون. نمو الكون يُفترض ان يحدث في الحاضر، في جزء صغير جدا من الزمكان، حيث المزيد من الزمكان يأتي دائما الى الوجود. رؤية الكتلة المتزايدة هي بديل لكل من الأبدية (القائلة ان الماضي والحاضر والمستقبل جميعها توجد) والحضورية (القائلة ان الموجود هو فقط الحاضر).