حوارات عامة
منير لطفي يحاور الطبيب والكاتب عبد السلام التريكي
* المسؤول الصحي في بلادنا العربية لا يعتمد على الكفاءة العلمية والإدارية، بل على العلاقات والوساطات والمحسوبيات
* الطب النووي في غالبه تشخيصي بنسبة تقارب 75% أو يزيد، وعلاجي بنسبة 25% تقريبا أو يقل
* الكتابة في العلوم الشرعية أصعب من الكتابة العامة في الفكر والأدب والثقافة
* مطالَعة كتب الأدب ضرورة للعالِم والداعية وطالب العلم
* نحن في عصر تزداد فيه الحاجة إلى تواصل بين علماء الشريعة وعلماء الطب، لكثرة المستجدّات والنوازل فيما يتعلّق بالمجال الطبي
* دراسة العلوم الشرعية تَصلح بها الأرواح والأبدان، والطب تَصلح به الأبدان وهو المُعين على صلاح القلوب
* نحتاج لتحرير المصطلحات والألفاظ قبل نقدها أو وصفها أو الحكم عليها
***
رغم اغترابه لنحو عشرين عاما فيما تُسمَّى جنّة الله في الأرض (كندا)، ورغم الدعاوى الحثيثة للاندماج التام في مجتمع غربي يتوفّر على مقوّمات الحياة الحديثة الكريمة؛ إلّا أنه ظل مهمومًا بوطنه المريض ليبيا، ووفيًّا لقضايا أمّته العربية والإسلامية التي ليست أقلّ مرضا من أحفاد عمر المختار. وُلد في طرابلس بليبيا عام آخر انتصاراتنا القليلة (١٩٧٣)، وتعلّم في المدارس الدينية حتى المرحلة الإعدادية، ثم أكمل في التعليم العام حتى تخرّج عام ٢٠٠٠ في كلية الطب جامعة طرابلس. ومنذ عام ٢٠٠٥ وحتى اليوم يواصل مشواره الطبي بكندا متخصّصا في فرع دقيق وهو الطب النووي. وفي إطار الآية الكريمة: "ومَن أحسن قولًا ممّن دعا إلى اللهِ وعمِل صالحا وقال إنّني من المسلمين" يفضّل تعريف نفسه بطالب علم شرعي، وينفق الساعات الطوال في بلورة مشروع فكري دعوي، أسماه تصحيح المفاهيم، أعدّ له نفسَه منذ بواكيره، وشرع في نشره عبر صفحته الفيسبوكية وعبر مؤلَّفات عدّة طُبع منها كتاب (ثمرات السنين) قبل عامين، والبقية تأتي بحول الله، وحول هذا المشروع وغيره كان حوارنا المتشعِّب الأطراف..
1- برأيكم، ما التّبعات التي خلّفها قرار إلغاء التعليم الديني في ليبيا عام ١٩٨٦؟
- كان قرارًا خطيرًا وجائرًا، بُنِيَ عليه ما بعده من قحطٍ وجدبٍ وتصحُّرٍ في وجود طلاب العلوم الشرعية في ليبيا بعد هذا التاريخ، و توقفت عجلة الإنتاج العلمي الديني الرسمي لعقود ثلاث أو يزيد، إلَّا من قِلَّةٍ التزموا علماء ليبيا داخلها في ظروف صعبة ومراقبة شديدة من أمن النظام السابق، ومجالس خاصة لبعض الطلاب، مما ترتب عليه شُحًّا ظاهرا في الساحة من طلّاب العلوم الشرعية الجدد المؤهَّلين للترقِّي على سلّم التعليم الشرعي والوصول إلى درجات تؤهّلهم ليحلّوا محل العلماء الموجودين في تأدية حمل الرسالة وإرشاد العباد والدفاع عن الدين. مع ما رافق ذلك القرار الحائف القاهر، من سجْن وقتْل وملاحقات وتضييق على العلماء الموجودين، ولعل أخطر تلك التبعات أن التجأ كثير من الشباب اليافع ممّن يتعطّشون لتلقِّي علوم الشرع والدِّين إلى بعض الدول العربية التي ظنوا أنَّ فيها البديل عن غياب مراكز التعليم الديني في ليبيا، ورحلوا إلى بعض تلك البلاد والتحقوا ببعض الأماكن التي تُدَرَّسُ فيها بعض العلوم الشرعية، وللأسف كثير منها لم تكن على الطريق المعتدل العلمي الصحيح الذي سارت عليه الأمة لقرون طويلة، فتلقوا الغلو والانحراف في فهم الدِّين وفهم الكتاب والسنة، ورجعوا إلى ليبيا وأحدثوا فيها شرخًا لازال يتسع كل يوم بين أفراد المجتمع، وحاربوا علماء البلاد الراسخين في العلم وسفَّهُوا علمهم واجتهاداتهم، ونشروا الفتن بين المسلمين، وأرادوا فرض تلك الآراء والفهوم والاجتهادات التي جلبوها معهم، حتى وصل الحال ببعضهم إلى التبديع والتضليل والتكفير واستحلال الدماء لمن خالفهم. ومما زاد الطين بلة تضييق النظام السابق على العلماء الربانيبن الراسخين في العلم وكان منهم سيدي الوالد العلامة الفقيه القاضي الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله وغيره، فتصدّر جهّال ذلك الجيل من الشباب ممّن جلبوا غرائب العلم إلى بلادنا، ودعَمهم النظام لفترة من الزمن؛ وأحدثوا ولازالوا فِتنًا في المجتمع تحتاج لزمن طويل لرأب صدعها ومحو أثرها.
2- بحكم اطّلاعكم عن قرب على واقع الممارسة الطبية في ألمانيا وكندا، ما الذي يميّزهم وينقصنا في هذا الميدان؟
- في كندا، يملكون نظاما أكاديميا وإكلينيكيا شاملا، وتعليميا منظَّما وصارما، وبمواصفات عالية متطوّرة تؤهل الطبيب المتدرّب في تخصصه ليصعد السلم العلمي تدريجيا بخطوات مؤسَّسة ومنظَّمة، ليتخرّج كاستشاري مؤهل أكاديميا وإكلينيكا لتعليم الطلاب في كليات الطب البشري، ولعلاج المرضى، والتطوّر مع الزمن لمواكبة التقدّم العلمي. وهو نظام صارم يُطبَّق في كل جامعات كندا الطبية بنفس الشروط والقوانين والمتطلَّبات وتحت مظلّة واحدة وهي مظلة الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا، وهذا يجعل من التدريب موحَّدا ومنظما بكفاءة عالية، وينعكس إيجابيا على العمل في المستشفيات وعلاج المرضى والتطوّر الطبي، وهذا ما نفتقده في أغلب البلاد العربية بسبب عدم وجود نظام أكاديمي وإكلينيكي موحَّد وبكفاءة عالية وتحت مراقبة منظمات حكومية وأهلية متخصصة، لأنها لا تولي للتعليم ولا للصحة أهمية كبيرة، بل تعتمد على توفير بعض الخدمات الطبية بطريقة عشوائية وغالبا ما تفتقد حتى لأساسيات العمل الطبي. وكلك المشكلة عندنا في الدول العربية، أنَّ النُظم الصحية - إن وجدت- تعتمد على الأفراد ممّن يتولى المسؤولية، ولا يوجد نظام مؤسَّسي موحَّد وشامل يتطوَّر مع الزمن ولا يتوقّف على صلاحيات ورغبات مسؤولي الصحة، وكذلك وجود المسؤول الصحي في بلادنا العربية لا يعتمد على الكفاءة العلمية والإدارية، بل على العلاقات والوساطات والمحسوبيات، ولهذا من الصعب الثقة في تغييرٍ صحيح إلّا ما ندر.
3- ما الآفاق التي يجوبها الطبّ النّووي الذي تخصّصتم فيه؟
- الطب النووي ( Nuclear Medicine ) هو أحد تخصُّصيْن يقعان تحت مظلة تخصّص علمي طبي تشخيصي يُسمَّى (Diagnostic imaging) أو التصوير التشخيصي وهو يشمل أيضا تخصص "طب الأشعة" Radiology ، والفرق الرئيسي بين التخصصين" الطب النووي وطب الأشعة": أنَّ تخصص الطب النووي، هو تصوير وظيفي؛ أي لتشخيص الأمراض في طورها الوظيفي functional imaging، وهذا قد يكون فيه تشخيص لبعض الأمراض في مرحلة متقدّمة قبل وضوحها على التشخيص بالأشعة ، بينما طب الأشعة Radiology هو تصوير تشريحي Anatomical imaging. والطب النووي في غالبه تشخيصي بنسبة تقارب 75% أو يزيد، وعلاجي بنسبة 25% تقريبا أو يقل، ولكن الطب النووي في الغالب هو تخصص تشخيصي يعتمد على استخدام الأشعة النووية السِّلمية - غير الضارة في العموم- بنسبة ضئيلة جدا؛ وذلك بحقْنها في الجسم بعدة طرق، أو الشراب أحيانا لتصوير الأشعة المنبعثة منها في داخل الجسم وخاصة أشعة جاما بأجهزة متطورة خاصة، حسب نوع المادة النووية المحقونة، والعضو المُراد تصويره، والغرض الطبي من التصوير، وشروط تقنية وفنية أخرى..وتوجد فروقات أخرى دقيقة، فكثير من الأمراض يمكن تشخيصها عن طريق طب الأشعة، لكن تبقى أمراض ومراحل في تشخصيها تتطلب التشخيص بالطب النووي. ثم الطب النووي مع تطوره المستمر والتقنية العالية في تصوير الأمراض في مراحل مبكرة، بما يُسمّى بالتصوير الجزيئي Molecular Imaging، بدأ يدخل في أبحاث وتشخيص أمراض وراثية وجينية كثيرة.
4- بناء على قول ابن الجوزي في صيد الخاطر: لكلّ عِلم بعِلم تعلُّق..ما أبرز القضايا الفقهية التي يجب أن يلمّ بها كل طبيب؟
- كأطباء مسلمين، نحتاج لمعرفة الأحكام والقواعد الفقهية المتعلقة بممارسة المهن الطبية بالعموم، وبالطب البشري بالخصوص؛ من حلال وحرام، وضوابط شرعية في التعامل مع المرضى وفي المستشفيات، وفيما يتناسب مع قضايا طبية حساسة؛ مثل كشف عورات المرضى، والموت السريري وغيرها. فهناك قضايا فقهية عامة يحتاج معرفتها كل طبيب مسلم يمارس المهنة، وهناك قضايا فقهية خاصة تتعلق بكل تخصص طبي على حدة، وهناك قضايا دقيقة خاصة تحتاج منا الرجوع إلى مجامع ففهية مرتبطة بلجان طبية ونقاشات وحوارات طويلة ومكثفة مستجدّة في الفقه الإسلامي" كعمليات الزراعة بأنواعها؛ كأطفال الأنابيب، وزراعة الأعضاء وغيرها. لأننا كمسلمين نخضع لعبادة الله وأوامره خالق الجسم البشري في إطار علمي منضبط.ونحن في عصر تزداد فيه الحاجة إلى ترابط وتواصل وتشاور بين علماء الشريعة وعلماء الطب، لكثرة المستجدات والنوازل فيما يتعلق بالمجال الطبي، وهذا يتطلب فقهاء مُلِمُّون بالواقع الطبي المتسارع بما يحتاجون معرفته في فهم الأحكام الشريعة وتأصيلها، وما أراه هنا: يتطلب التعاون مع مجمَّعات فقهية دولية ومحلية، أو تكون لها فروع عديدة يتم التنسيق بينها في اجتماعات روتينية، واجتماعات آنية كما حدث في زمن فيروس كورونا المستجَد.
5- ما مدى حاجة الداعية إلى مطالعة الأدب جنبا إلى جنب مع العلوم الشرعية؟
- مطالعة كتب الأدب ضرورة للعالم والداعية وطالب العلم لتحسين لغته وتطويرها وترشيدها وتقويمها، لتكون له أداة طيعة في فهم الكتاب والسنة وعلوم الشرع الحنيف؛ من فقه وتفسير وحديث وعقيدة، فاللغة العربية بها نزل القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبها كُتبت كل علوم الشرع ، فلا سبيل لصيانتها وتحسينها وتطويرها ووضعها في سياقها المراد، إلا بقراءة كتب الأدب ومعرفة دقيقة بأدواتها، وبلغة العرب ودلالات الألفاظ ومعانيها عند العرب الأقحاح ، وهذا يتطلب التنقيب والبحث والاطلاع على كتب الأدب واللغة بمختلف أنواعها ؛ من نحو وصرف وبلاغة وشعر ونثر وقصة وغيرها، ليستقيم الفهم والقراءة والكتابة عند العالم وطالب العلم والداعية، ولذلك مما تميز به الإمام الشافعي رحمه الله، أنه تعلم لغة فصحاء العرب من قبيلة هذيل وغيرها ومكث فيهم زمنا في مقتبل عمره ، حتى استقام لسانه وقلمه، مما سهل عليه طلب علوم الشرع والدين، بل أصبح حجة في اللغة وعبقريا في استنباط الأحكام وفقه الدين.
6- ما المهارات التي تراها لازمة لاجتراح فعل الكتابة بوجه عام، والكتابة الشرعية بوجه خاص؟
بالنسبة لمهارات الكتابة بصفة عامة تتطلب:
1. قراءة مكثفة ومنظمة ومؤسسة لزمن طويل، يمتد من زمن الطفولة أو مطلع الشباب، ولا تتوقف إلا يوم الرحيل من هذه الدنيا.
2. تنوع في القراءة الهادفة، واطلاع واسع على ما يحتاجه الكاتب من مبادئ وأساسيات في ثقافات وعلوم مختلفة؛ لأن الكاتب لابد أن يمتلك قدرا هائلا من المعلومات والمفردات والأفكار التي تسمح له بالتفكير والخيال وفهم الحياة والواقع ومكونات الفكر الإنساني وطرق عيشه وتفكيره وتواصله...، وأذكر في هذا الصدد كلاما بديعا سمعته من الأديب الموسوعي "عباس محمود العقاد" في حوار إذاعي مرئي، تحدث فيه عن أهمية القراءة الموسوعية للكاتب، وذكر أنه يملك أكثر من مائة كتاب في علم الحشرات يقرأ فيها، مع أنه لا يكتب عن الحشرات!
3. الحرص على الجلوس والحوار والنقاش والتواصل مع أهل العلم والثقافة والمعرفة؛ لأن هذا يشحذ همته وينظم تفكيره. ويُمكِّنَه من الاطلاع على مختلف الأفكار والعلوم والمعارف.
4. الممارسة المستمرة للكتابة، فيما يحبه ويجيده وفيما يجد نفسه وراحته فيه ونفع أمته، وهذا يطور من قلمه وفكره ويزيد من خبرته، ويفضل وخاصة في بداياته أن يختار مجموعة قليلة من أهل العلم والفكر والثقافة ممن يثق فيهم ويعرض عيلهم ما يكتب ويستمع لرود أفعالهم ونصائحهم ليستفيد منها.
5. أن يمارس الكتابة العامة، فيكتب للجمهور بقدر يضبط به وقته ونفسه، لأن الكتابة والنشر للجمهور هو أصعب من الكتابة والنشر في الكتب التي يقرؤها طبقة خاصة من المتعلمين والمثقفين بلغة علمية وأدبية واصطلاحية خاصة؛ ففي الكتابة للجمهور تحتاج لدِربة وخبرة عالية، وخاصة في انتقاء الأفكار والمواضيع والجمل والعبارات التي تناسب الجمهور بمختلف مستوياتهم التعليمية والفكرية، وهذا يعطي خبرة زائدة للكاتب وفهما أعمق لواقعه، ويزيد من قدرته على اختيار ما ينفع الناس ويصلحهم ويرفع من مستواهم الفكري والوعي والثقافي، وهذا لا يتأتى لمن يمارس الكتابة الخاصة وينشرها في الكتب والمجلات فقط. وهناك مهارات أخرى ولكن أكتفي بهذا.
وأما بالنسبة للمهارات التي يحتاجها الكاتب في العلوم الشرعية:
فهو لاشك يحتاج كل ما سبق ذكره من مهارات الكتابة العامة بالعموم، ولكنه يحتاج إلى مهارات إضافية خاصة بطالب العلم والكاتب في العلوم والتخصصات الشرعية:
1. تعليما مباشرا على علماء لفترة من الزمن، ولقراءة واطلاع واسع لمختلف العلوم الشرعية، وهذا يتطلب معرفة بعلوم الآلة؛ من نحو وصرف وبلاغة ولغة وأدب.. ومعرفة بعلوم الشرعية؛ من فقه وحديث وتفسير وأصول فقه وغيرها، ولهذا هناك شروط قد فصَّلتُها في أحد كتبي؛من تأسيس علمي رصين على يدي علماء متخصين في بداية الطلب، وقراءة واسعة مستمرة ومنظمة ومتطورة وواعية للكتب في مختلف علوم الشرع وعلوم الآلة.
2. تدريس ما يُتقنه من هذه العلوم للطلاب، لأن التدريس يُكسبه مَلَكَات ٍخاصة ودقيقة، ويُنظِّمُ فكره ويُطوَّره.
3. المُذاكرة والحوار مع العلماء وطلاب العلم والشخصيات المميزة في تخصصاتها الشرعية، وهذا يعطيه مَلَكَات زائدة ويُكسبه الانفتاح والتنوع الفكري والعلمي.
4. الكتابة في العلوم الشرعية أصعب من الكتابة العامة في الفكر والأدب والثقافة؛ لأنها تتطلب معلومات كثيرة متخصصة ودقيقة ومهارات عالية وقدرات زائدة، ومن سيقرأ لك هم علماء ومتخصصون يُدقَّقُون في كل كلمة وحرف تكتبه لأنك تحمل دِينا وتكتب عنه وفيه.
7- ما ملامح المشروع الذي تعمل عليه في الكتابة؟ وهل تراه يسير بالوتيرة المطلوبة؟
- بحكم دراستي الشرعية القديمة في مدرسة ومعهد ديني شرعي متخصص قبل إلغائه من قبل النظام السابق، وبحكم ملازمتي الطويلة لسيدي الوالد العلامة الفقيه والقاضي الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله، وقراءاتي الشرعية المستمرة ولله الحمد، وبحكم دراستي في الطب وتخصصي فيه، وحياتي الطويلة في الغربة مع التواصل اليومي المستمر مع علماء ومثقفي بلادي ليبيا وغيرها من بلاد العالم؛ وجدت نفسي أكتب في مشروع متنوع ولكنه يحمل فكرة عامة، يحمل مشروعي فكرة عامة في الكتابة أسميته " تصحيح المفاهيم"؛ ولذلك كثير مما كتبته في العلوم الشرعية وخاصة في الفقه وأصوله، وفي طلب العلم وغيرها، ومنها كتابي المُعَدُّ للطباعة بإذن الله " شبهات حول المذهبية الفقهية والرد عليها" أو ما كتبته في سلسلتي التي أسميتها " ثمرات السنين" وطبع منها الجزء الأول ولله الحمد، وهي سلسلة علمية ووعظية وفكرية وتربوية وسلوكية وأدبية منتقاة بما يناسب مختلف الشرائح، وكتبات أخرى لم تطبع؛ فكرية وعلمية شرعية وسيرة ذاتية لسيدي الوالد، وأودبية، وقصصية وغيرها..، كلها أو غالبها تصب في غرض مشروعي الذي أسميته " تصحيح المفاهيم"؛ تصحيح مفاهيم علمية شرعية ودعوية وفكرية ووعظية وسلوكية وثقافية وأدبية وغيرها، بطريقة خاصة ومختلفة لايشعر فيها القارئ أن هناك من ينصحه أو يُلزمه بطريقة تقليدية معينة أن يفهم كذا أو يفعل كذا أو يقول كذا.. بل بطريقة الحوار والمحبة والعبرة والقصة والوعي والمعلومة، وهذا بسبب ما عايشته ورأيته من تغيير وتشويه كبير لمفاهيم وأفكار في مختلف مجالات العلم والفكر والمعرفة في مجتمعاتنا لأسباب كثيرة، ونسأل الله عز وجل الإخلاص والقبول والتوفيق. وتصحيح المفاهيم الذي أقصده، ليس هو بمعناه الضيق المحدود، بل بمعناه الواسع في نشر العلم والوعي بطريقة علمية توافق الأصول الصحيحة في كل مجالات العلم والمعرفة والفكر والتوجيه، بما يفتح الله سبحانه وتعالى وبتوفيقه وحده.
8- من واقع المسؤولية الوطنية، كيف تشخّص الداء وتصف العلاج لليبيا المريضة ككثير من دولنا العربية؟
- هناك أسباب عامة مشتركة لهذا الداء بين ليبيا ومختلف الدول العربية؛ ومن أهمها: الحكم الدكتاتوري الشمولي في ليبيا - الذي كان ولازالت امتداداته وآثاره موجودة- وفي كثير من الدول العربية؛ الذي عطل الحياة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية لعقود طويلة، وحتي بعد تغيير بعض هذه الأنظمة لازلنا نعيش تربيتها وتبعاتها وتدميرها للتعليم والصحة، ومحاربتها للعلماء والعلم والثقافة والفكر، ونحصد اليوم نتائج زرعها. وهناك أسباب أخرى خاصة بليبيا جعلت الصراع يستمر، ووفرت للدول الأجنبية الغربية والعربية المناخ المناسب لتتحكم في مصير ليبيا ومن أهمها؛ وجود النفط والغاز، ومساحة ليبيا الكبيرة مع قلة عدد السكان، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب شمال أفريقيا، وهي بوابة مهمة إلى العمق الأفريقي، وتميزت بشاطئ طويل ورائع على البحر الأبيض المتوسط يصل إلى 1700 كم، مما زاد الأطماع فيها، ولأسباب سياسية أخرى مع ما حدث في بعض دول الجوار من انقلابات عسكرية وسياسية على ثورات الربيع العربي مما أثر سلبا على التغيير في ليبيا، وأسباب أخرى مبنية على الأطماع في ليبيا، وأيضا لافتقار التغيير في ليبيا إلى قيادات واعية وقوية وصادقة لقيادة مشهد التغيير مابعد سقوط رأس النظام السابق، واستمرار سيطرة وتغلغل رموز النظام السابق في كل الوزارات والمؤسسات العسكرية والمدنية واختراقهم لمعظم تشكيلات ثورة فبراير السياسية والعسكرية.
9- ما ردّكم على مَن يتّهمون الكُتّاب الإسلاميين بأنهم على طول الخطّ ناقدون ناقمون ساخطون يصدّرون التشاؤم ويبغّضون إلى الناس الحياة؟
- التعميم غالبا لايصف الواقع ولا يأت بحكم منصف ويكون فيه شطط وظلم. لكن الحقيقة أننا أحيانا نحتاج لتحرير المصطلحات والألفاظ قبل نقدها أو وصفها أو الحكم عليها.فما المقصود بالكتاب الإسلاميين؟! إن كان المقصود بهم من يكتب في العلوم الإسلامية والشوون الإسلامية، فهذا أمر آخر ويحتاج إلى حصر وتوصيف. وأما إن كان المقصود بهم من لهم خلفية إسلامية فكرية وأظن هذا هوالمقصود بالسؤال؛ سواء أكانت تلك الخلفية حزبية أو مؤسساتية أو انتماء لجماعات وتيارات تحمل شعارات إسلامية أو ما شابه ذلك،فالحقيقة والواقع يبين من وجهة نظري قلة وجود هؤلاء الكتاب المحترفين أصلا الذين يشحذون القلم والهمة لخدمة دينهم وقضيتهم في مختلف الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية وغيرها، ومن يكتب فيهم؛ قلة منهم من يكتبون بعلم وإنصاف وتوسط وشمولية وموضوعية وتحليل واطلاع واسع ومعرفة حقيقية بالواقع، وهؤلاء للأسف لا تُفتح لهم المنابر الإعلامية والعلمية إلا قليلا وهم موجودون ولله الحمد، لكن القضية تحتاج إلى الآلاف بل عشرات الآلاف من أمثال هؤلاء. ثم هناك فعلا مجموعة لابأس بها يكتبون وينتقدون لحب النقد وتأزيم الواقع وتضليل الناس وتخطئتهم بالجملة وزرع التشاؤم والشك وسوء الظن بالناس والمجتع، فيعمقون الخلاف ويزيدون المشاكل ويزرعون الأحقاد والصراعات، ولا شك أن أمثال هؤلاء تُفتح لهم القنوات وتيسر لهم منابر الإعلام لأنهم أفضل وسيلة لتشويه الإسلام والدين وإعطاء مبررات لأعداء الإسلام في حربهم الواسعة والجارفة لكل ما ينتمي للإسلام.ولاينتشر هؤلاء إلا بسبب تحييد العلماء والمفكرين والكتاب العقلاء المدركين للعلم وللواقع.
10- ما الذي أضافه إليك الطب ككاتب في العلوم الشرعية، لا سيما أنّ الإمام الغزالي وغيره من الفقهاء يرون دراسة الطب تقرّب صاحبها من الإيمان؟
- نعم، لا شك أن الطب هو أجل العلوم بعد العلوم الشرعية في تقريب الناس إلى رب الناس سبحانه وتعالى ولنفع الناس والتخفيف عنهم. فعلوم الشريعة وهي أشرف العلوم وبها يعبد الله عز وجل في الأرض على مراده وتقام أحكامه وشعائرة وتعمر الأرض كما أرادها له، وبها تحفظ الحقوق ويقام العدل ويتحقق نفع الناس. وتشترك دراسة الطب في كثير من تلك المقاصد؛ فدراسة الطب به يزيد اليقين بالخالق سبحانه وبديع صنعه وهو من أعظم ما يعين العبد على تحقيق العبودية، وبدراسة الطب يتحثث مقصد عظيم وهو نفع الناس والتخفيفي عنهم وصلاح أبدانهم المعينة على صلاح قلوبهم. فدراسة العلوم الشرعية تَصلح بها الأرواح والأبدان، والطب تَصلح به الأبدان وهو المعين على صلاح القلوب. وأذكر حكمة سمعتها من سيدي الوالد رحمه الله بعد نجاحي في الشهادة الثانوية العامة بامتياز ولله الحمد بعد إلغاء المعاهد الدينية التي كنت طالبا شغوفا بها، فقال لي رحمه الله: "كنت أعددتك منذ يومك الأول في الدراسة لتسلك مسالك العلم الشرعي لتنتسب إلى الأزهر الشريف وتنفع أمتك، ولكن بعد إلغائها، فلا أرى مجالا أنفع للناس والتخفيف عنهم كدراسة الطب"، فقد كان همه دائما نفع الناس.
11- في ظل المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في الغرب، والدعم المحدود للمسلمين الجدد هناك، ألا ترى حاجة ماسّة إلى إسهام قلمكم الإنجليزي المكين في هذا الاتجاه؟
- الحقيقة هو كما تفضّلتم ووصفْتم، لكن كما تعلمون يصعب أن يشتّت الإنسان نفسه وجهده، وتبقى طاقة الفرد محدودة مهما تعدّدت ونمت، فقد أخذْت خطًّا معيَّنا في استخدام ما رزقني الله به من معلومات في علوم الشرع والتجارب والخبرات مع ما تعلّمته ومارسْته في الطب في تصحيح المفاهيم ونشر الوعي والمعرفة في مختلف المجالات العلمية الشرعية والفكرية والسلوكية والتربوية وغيرها بما يفتح الله وبما أجيده وأتقنه، وهذا يستلزم التركيز على اللغة العربية وفنونها، لأنها الأداة لنشر ما ذكرته، وكما تعلمون هذا لوحده يأخذ العمر كلّه ولا تَقضي منه حاجتك وما ينفع الناس. وأيضا مع إجادتي للغة الإنجليزية، لكن ما أعتقده وعايشته مع الدعاة في الغرب الناطقين بلغتهم الأم الإنجليزية، فأرى أن اللغة المستخدَمة في الدعوة كتابة ومشافهة هي لغة مختلفة وخاصة ومتخصصة، تحتاج لمهارات مختلفة وهذا يحتاج لوقت طويل وتفرُّغ، وهذا ما يصعب فعله مع اهتمامي بما ذكرته لكم آنفا مع ظروف الحياة والعمل. فلذلك فضّلت التركيز على ما أجيده وأتقنه ولمست نفعه بفضل من الله للناس، ومع ذلك أتابع وبكثرة ودقّة دروس ومحاضرات وحوارات الدعاة المتخصّصين في الغرب وأفهم بفضل من الله لغتهم المميزة، وهذا مما أحتاجه كطالب علم وككاتب وكطبيب.
***
د. منير لطفي
أُجري الحوار في 12 فبراير 2023م