اخترنا لكم
محمد عثمان الخشت: الإيمان والتكنولوجيا الرقمية
"لا شك أننا نعيش فى عصر رقمي، تتسارع فيه التطورات التكنولوجية، بوتيرة غير مسبوقة، ولعل من أبرز التحديات التى نواجهها، تلك التى تتعلق بالتفاعل بين التكنولوجيا الرقمية والإيمان. وسوف أسلط الضوء فى مقالتين على التحديات والفرص والرهانات التى يجب أن نراهن عليها؛ لكى يجدد الإيمان من نفسه، كما جدد الدين من نفسه مع كل نبى جاء بعد نبي، ومع كل عالم ومفكر أراد أن يجدد إيمانه ليستمر حيا قويا، لنصل إلى رؤية مستقبلية حول هذا الموضوع. وهى الرؤية التى طرحتها أمام قيادات دينية عالمية فى المؤتمر الدولى «الإيمان فى عالم متغير» الذى عقدته رابطة العالم الإسلامى والرابطة المحمدية للعلماء فى المغرب تحت الرعاية الملكية.
وفى البداية، أود تأكيد أن الإيمان ليس مجرد شعور داخلى فى القلب معزول عن الواقع الخارجي، بل هو علاقة مركبة ومتشابكة ومعقدة بين القلب والعقل، وبين التجربة الشخصية والواقع الخارجي؛ حيث تتداخل فيها العقائد والمعتقدات، مع السياق الاجتماعى والثقافى والعلمي، بل يتداخل الإيمان مع متغيرات الحياة اليومية.
أولا ــ التحديات: فى عصر التكنولوجيا، نجد أن الإيمان يواجه تحديات جديدة. ومن هذه التحديات، أن التكنولوجيا الرقمية، قد تعيد تشكيل «مفهوم الجماعة الدينية»، وقد تفككت المجتمعات الدينية التقليدية. فقد كانت المجتمعات الدينية، فى الماضي، تتجمع فى أماكن مقدسة كالمساجد والكنائس والمعابد، لكن اليوم، تميل المجتمعات إلى التحول إلى «فضاءات افتراضية». هذا قد يؤدى إلى تآكل العلاقات الاجتماعية الواقعية داخل هذه المجتمعات ويضعف روح الجماعة التى كانت تمثل دعامة أساسية فى الإيمان.
على جانب آخر، نجد تداعيات ما نتج عن التكنولوجيات التواصلية من سيادة عمليات التسطيح الروحى وتراجع العمق الثقافي، فعلى الرغم من وفرة المعلومات الدينية على الإنترنت، فإن هناك تحديًا فى مدى عمق هذه المعلومات ومدى موثوقيتها، خاصة أن الانتشار الواسع للمعلومات الدينية السطحية أو المغلوطة، قد يؤدى إلى تشويه المفاهيم الدينية، ونشر الشكوك حول العقائد، وفى أحيان أخر قد يؤدى إلى انتشار التطرف أو زيادة الانقسامات والصراعات الدينية.
وإذا ذهبنا إلى الذكاء الاصطناعى والهندسة الجينية، نجد أن التكنولوجيا، تثير تساؤلات أخلاقية ودينية عميقة. هل يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل بعض جوانب الإيمان؟ هل يجب علينا قبول جميع التكنولوجيات المتقدمة إذا كانت تتعارض مع مبادئنا الأخلاقية والدينية؟ هذا التحدى يطرح أسئلة حول حدود التكنولوجيا وما إذا كانت الإنسانية مستعدة للتعامل مع نتائجها العميقة. ومن المفارقات والتحديات، التى تطرحها التكنولوجيا فى علاقتها مع الايمان، أنه على الرغم من أن التكنولوجيا تربط بين الناس فى الفضاءات الالكترونية، غير أنها قد تؤدى إلى العزلة النفسية والروحية عن الذات والعزلة الاجتماعية عن الآخرين، يقول كارل يونغ Carl Jung: «كلما تقدمت التكنولوجيا، زاد عزل الإنسان عن فهم ذاته». ومن أبرز التحديات التى يطرحها التقدم التكنولوجي، تآكل القيم التقليدية، حيث تشهد المجتمعات تغيرات سريعة فى القيم، ويا ليتها تغيرات نحو أخلاق التقدم، بل هى تغيرات نحو تحلل القيم الإنسانية العليا.
ثانيا ــ الرهانات والفرص: والسؤال هو: ما الرهانات والفرص المرتبطة بالتكنولوجيا، وكيف يمكن أن يدعم التقدم التكنولوجى الإيمان، ويدعم الإيمان التقدم العلمى بعامة؟
من وجهة نظري، أن التكنولوجيا التواصلية عملة لها وجهان، ويتوقف تأثيرها على طبيعة المتعامل معها؛ فهى قد تدفع البعض للانفتاح والحوار والتسامح والإيمان بالتنوع والتعددية، وقد تدفع آخرين لمزيد من التعصب ضد الآخرين، ويعتمد ذلك على طريقة وكيفية استخدام الناس لهذه التكنولوجيا، وعلى القيم والمعتقدات التى يحملونها من قبل.
لكن مما لا شك فيه أن التكنولوجيا كأداة توفر إمكانات واسعة لتعميق التجربة الإيمانية ونشر المعرفة الدينية بطرق مبتكرة، مما يمكن أن يسهم فى تعزيز الإيمان وارتباط الأفراد بالمجموعات الدينية، وشواهد ذلك على النحو التالي: لقد أتاحت التكنولوجيا، منصات رقمية، تسهل التواصل بين المجتمعات والأفراد حول العالم، وتعطى فرصة لتعزيز التفاعل والانفتاح بين الأديان، حيث أصبح بإمكان الأديان المختلفة التفاعل مع بعضها بعضًا بطرق لم تكن ممكنة من قبل. هذه البيئة الرقمية تفتح المجال لكى يعرف الجميعُ الجميعَ. وإذا نضجت القلوب والعقول، فقد يؤدى هذا إلى حوار فعال بين الأديان، وحوار بين التيارات والمذاهب فى داخل كل دين، كما يفتح المجال للتبادل الثقافى والفكري، مما يسهم فى تعزيز الفهم المتبادل وتقبل الآخر. لكن من أسف تحولت هذه الميزة التكنولوجية كأداة إلى فرصة جديدة للمتطرفين لبث سمومهم. ومن حسن القدر، أن التكنولوجيا وسعت فرص إمكانية الوصول إلى مصادر المعرفة الدينية، ويمكن اليوم، عبر الإنترنت، لأى شخص، الوصول إلى مكتبات ضخمة من الكتب الدينية، والشروحات، والمحاضرات المرئية والمسموعة. ويمنح هذا الوصول السهل للمعرفة الدينية الأفراد الفرصة لتعميق فهمهم لدينهم أو لاكتشاف أديان أخرى. ويمكن لعلماء الدين الوصول إلى رؤى جديدة أو اكتشاف علاقات لم تكن واضحة من قبل، مما يسهم فى تطوير الدراسات الدينية والفلسفية.
وقد ساهمت التكنولوجيا فى تجاوز الحواجز الجغرافية والزمنية فى التعليم الديني، مما يعزز التجربة الإيمانية للفرد. كما يساعد فى بناء مجتمعات دينية رقمية وتبادل الأفكار والتجارب الروحية. ومن خلال التفاعل الذكى مع الأسئلة الدينية، يمكن تطوير تطبيقات أو برامج مساعدة ذكية تتيح للأفراد طرح الأسئلة حول الدين والإيمان والحصول على إجابات مدعومة من مصادر موثوقة، مما يساعدهم فى تجاوز الشكوك وتعميق الإيمان. من جهة أخرى، يتيح التقدم التكنولوجى بناء مجتمعات دينية رقمية من خلال التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى وإنشاء مجموعات وصفحات دينية تسمح لأفراد المجتمع بمشاركة الأفكار والخبرات الروحية، وتبادل الدعم والإرشاد. وتمكن هذه المساحات الافتراضية، الأفراد من التواصل مع المؤمنين الآخرين حول العالم، مما يسهم فى تقوية الإيمان الذاتى بالله تعالى كمدبر أعظم لا يمكن تصور معنى للحياة بدونه. سبحانه لا نحصى ثناء عليه".
عن صحيفة الأهرام المصرية، يوم: 3/11/2024
***
(2)
"هل التقدم التكنولوجي الرقمي لصالح الإيمان أم الإلحاد؟
لا يؤدي التقدم التكنولوجي بالضرورة إلى الإلحاد أو الإيمان، وإنما يفتح المجال لتنوع أكبر في التوجهات الفكرية والدينية. إن التكنولوجيا تمنح الناس "وسائل" و"أدوات" جديدة للاستكشاف والتفكير، مما قد يقود البعض إلى تعزيز إيمانهم، بينما قد يدفع البعض الآخر للتشكك أو تبني مواقف غير دينية، وعلى سبيل المثال، بالنسبة للبعض، يمكن أن يكون التقدم في العلوم دليلا على وجود قوة إلهية عليا مدبرة، بينما قد يرى أخرون في هذا التقدم، لا سيما مع التفسير الميكانيكي للكون، تعبيرًا عن عدم الاحتياج لقوة عليا مدبرة.
وبالتالي، يمكن القول إن التقدم التكنولوجي له تأثيرات معقدة ومتعددة الأبعاد على الإيمان والإلحاد، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة حسب السياق الثقافي والاجتماعي للفرد.
لقد أثبتت علوم الأحياء أن البقاء للأصلح، والأصلح هو الأكثر قدرة على التكيف، ومن ثم فإن التحديات التي تضعها التكنولوجية أمام الإيمان، تدعونا إلى وجوب النظر والتأمل في طرق التكيف مع عالم يتغير باستمرار، تدعونا لتجديد أمر الدين في كل عصر طبقا للنبوءة الحكيمة من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حتى وإن استلزم الأمر "تأسيس عصر ديني جديد" كما قلنا في كتاب لنا بهذا العنوان.
إن العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى، على حد تعبير ألبرت أينشتاين في مقال له بعنوان "العلم والدين Science and Religion"، إن العلم دون قيم دينية يصبح أعرجًا، حيث يفتقر العلم إلى المعنى الشامل للوجود والتوجيه الأخلاقي، بينما يكون الفكر الديني (وليس الدين نفسه من وجهة نظري) بدون العلم أعمى؛ لأنه قد يفتقد القدرة على مواجهة حقائق الطبيعة. وهنا يجب ان يتحلى علماء الدين بقدر كبير من المرونة والقدرة على التكيف مع وقائع وحقائق الطبيعة التي يكتشفها العلم.
ومهما تقدمت التكنولوجيا؛ لكن الحقيقة الإيمانية لا يمكن الهروب منها. إن التكنولوجيا تفتح أبوابًا جديدة، ولكنها لا تلغي الحاجة إلى الإيمان، كما يقول سورين كيركغارد. ومن هنا فإنه يجب على العلماء احترام دور الدين في تقديم المعنى والقيم، كما ينبغي على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح الحقائق الطبيعية والكونية. وقد وقع صاحب كتاب "قوانين الله أم قوانين الطبيعة؟"، في مغالطة ضخمة عندما ظن أن علينا الاختيار بين بديلين: قوانين الطبيعة أو قوانين الله، ظنا منه أنهما مختلفتان ومتعارضتان. وهذا فهم غريب؛ لأن قوانين الطبيعة هي قوانين الله، والله تعالى هو الذي جعل الطبيعة تسير وفقا لهذه القوانين: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، أي بقانون. وقوانين الطبيعة ذاتها دليل على وجوة قوة عليا مدبرة. ولا يجب أن نظن أن العلم الذي يكتشف قوانين الطبيعة، في مواجهة الله، بل إن العلم هو محاولة لاكتشاف طريقة عمل الله في الطبيعة. ولهذا قلنا إنه يجب على المتدينين أن يدركوا أهمية العلم في توضيح حقائق الطبيعة.
إن الإيمان يحتاج في هذا العصر إلى التكيف مع العلم، دون أن يفقد جوهره، ودون أن يدخل في صراع مع العلم. وهذا قد يتطلب تجديدًا في كيفية تفسير النصوص الدينية، حتى يمكن للإيمان أن يبقى حيًا ويتفاعل مع الواقع الحالي ومع تطور العلوم دون أن يتخلى عن جوهره. وما العلوم إلا اكتشاف لأعمال الله في الطبيعة. وهذا دور العلم وليس دور الدين؛ فالعلم دوره البحث عن العلل القريبة، والدين دوره تقديم المعنى الكلي البعيد، والعلة النهائية القصوى.
وفي الوقت الذي يواجه فيه الإيمان تحديات كبيرة تتعلق بمتطلبات العصر الحديث، فإنه يمتلك القدرة على التكيف وتقديم إجابات جديدة للتساؤلات الوجودية العميقة، مما يجعله ضروريًا حتى في هذا الزمن المتغير، بشرط تطوير نظم التعليم الديني لكي تخرج من عصر المتون والحواشي إلى عصر العلوم الإنسانية والاجتماعية.
إذن، من الضروري أن يتبنى علماء وفلاسفة الدين رؤى تتيح للإيمان أن يكون ديناميكيًا ومرنًا، قادرًا على تقديم الدعم والإلهام في عالم دائم التغير. إن التمسك بالتراث وحده، دون التفاعل مع العصر، قد يُضعف من قدرة الإيمان على تلبية احتياجات المؤمنين المتجددة، ويجعل الخطاب الديني يبدو غير قادر على مواجهة التحديات الجديدة. في المقابل، فإن التجديد الحكيم والمتوازن يتيح للإيمان أن يكون أكثر قدرة على مواصلة الحياة في العصور الجديدة.
هكذا يبقى التفاعل بين الإيمان والتكنولوجيا متعدد الأبعاد، مما يضعنا أمام مفترق طرق، إما التعاون والتعايش والتسامح تجاه الاختلافات بين المسارين، وإما الصراع الذي سوف يخسر فيه الجميع. ويستوجب منا ذلك إعادة النظر في كيفية فهمنا للإيمان في ضوء التكنولوجيا.
إننا نعيش في عالم رقمي سريع التغير، وأصبح أكثر سرعة بعد انتشار الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن نضيع وسط تلك المتغيرات العنيفة إذا لم يكن لنا مرتكز نرسو عليه كلما أبحرنا في هذا البحر المتلاطم بالحقائق والأكاذيب معا. وهنا يُعدّ الإيمان بمثابة مرسى يمكن أن تمنح الأفراد الاستقرار والمعنى".
***
د. محمد عثمان الخشت
عن جريدة الأهرام، الأحد 17 نوفمبر 2024: