شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

أعادتني الذكرى السنوية التاسعة لرحيل الشاعر الصديق العزيز سميح القاسم، إلى السنوات الاولى من حياتي مع الكلمة ومعايشتي لها. كان ذلك في أواخر الستينيات من القرن الماضي، يوم أرسلت قصة لي إلى مجلة "الجديد" الحيفاوية، واضعًا يدي على قلبي فهل سيقبل الشاعر المشهور محرّر تلك المجلة في حينها أن ينشر تلك القصة، لا سيّما وأنها تعارضت نوعًا ما مع كان يُنشر آنذاك في المجلة من مواد سياسية، وتحدثت عن حب الام وحب المدينة. وماذا سيكون موقفه؟ وتشاء الصدف أن التقي الصديق العزيز الكاتب الراحل نوّاف عبد حسن، في أحد شوارع مدينتي الناصرة، فيسألني عمّا إذا كنت قد أرسلت قصة إلى مجلة الجديد، فلا أجيبه خشية وتوقيًا، فيرسل إلي ابتسامة حافلة بالمودة مرفقًا إياها بابتسامة من طرف فمه، ويطمئنني على أن قصتي ستُنشر في العدد القريب من مجلة الجديد. عندها أسأله كيف عرفت هذا؟ فيبتسم مرة أخرى مرفقًا ابتسامته هذه المرّة بكلمات لا اتذكرها حرفيًا الآن وقد مضت عليها كلّ تلك السنوات، مُفادها أن سميح القاسم سأله عني ومَن أكون فأخبره أنني شاب متأدب وفدت عائلتي عام النكبة من قريتها سيرين إلى مدينة الناصرة للإقامة فيها، وقال لي إن سميحًا قرّر نشر تلك القصة لأنه رأى في صاحبها كاتبًا مبشّرًا وموهوبًا.

خلال علاقتي بسميح منذ ذلك العام حتى أيامه الاخيرة، تأكّد لدي حادثًا إثر حادث ولقاءً تلو آخر، أن سميحًا تعامل مع الحياة الادبية بشفافية، وأراد دائمًا أن تتفتّح في بستاننا ألف ومليون زهرة. كما أدرك ما لأهمية اعطاء مَن رأى فيهم أناسًا موهوبين الامكانية لأن يعطوا ويعطوا بلا حدود.

في الفترات التالي وخلال سنوات وسنوات كان سميح طابت ذكراه، يسعى للتعاون مع كلّ مَن يرى فيه مقدرة على العطاء ودفع عربة ثقافتنا العربية الفلسطينية في البلاد، كلّ ما يحتاج إليه ويتطلّبه للمزيد من التفتّح والعطاء، وأذكر بكثير من المودّة أنه طلب مني ومن آخرين في فترات تالية، أن نكتب عن كلّ مَن غادر عالمنا من فنانين وكتّاب. فعل هذا معي يوم رحل الفنان اللبناني الذي اشتركنا في محبته حسن علاء الدين الملقب بـ" شوشو"، ويوم طالت يد المنون شاعرنا الفلسطيني راشد حسين الراحل احتراقًا في لندن، في هذا الصدد لا أتذكر أن سميحًا ردّ إنسانًا جادًا عن بابه، وكان مقره في حي واد النسناس في حيفا، ملتقى للأدباء والفنانين، هناك في مكتبه التقيت عددًا وفيرًا من فنانينا وكتابنا ممن لم أكن أعرفهم، بينهم الفنانة الممثلة بشرى قرمان رحمها الله، والشاعرة البارزة المرحومة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس التي توطّدت معها العلاقة فيما بعد. وعندما توقّف سميح عن تحرير مجلة الجديد انتقل ليدير المؤسسة العربية للثقافة والفنون من مكتبه في شارع الموارنة، وأذكر بكثير من الدفء انه بادر في تلك الفترة لإيجاد تمويل لإقامة مهرجان الفلولكلور الأول في الناصرة بالتعاون مع الصديقين فوزي السعدي مدير جمعية المهباج والشاعر سيمون عيلوطي، وقد انتدبني في حينها لتغطية وقائع هذا المهرجان أولا بأول، لينشر ما أكتبه تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية التي عمل فيها سميح أيضًا، محررًا فترة مديدة من الزمن.

عندما انتقل سميح إلى الناصرة ليعمل محررًا لصحيفة "كل العرب" تواصلت العلاقة بيننا، وأذكر أنني قمت بزيارته أكثر من مرّة في هذه الصحيفة، وأشهد أنه كان يفتح بابه لكلّ مَن طرقه، لا أتذكر أنه اغلق ذلك الباب بوجه أحد، وقد رافقته في هذه الصحيفة بنشري لعدد من المتابعات الأدبية الثقافية والفنية، بل إنه اقترح عليّ أكثر من مرّة أن أعمل معه وإلى جانبه، وأذكر أنني سألته في اللقاء الأول لي معه في مكاتب صحيفة كل العرب، عمّا إذا كان سيأتي من بلدته الرامة كل يوم الى الناصرة، فنظر إلي مستغربًا السؤال، فما كان منّي إلا أن حذّرته من الطرق وحوادثها، عندها ابتسم وقال لي لا تخف عمر الشقي بقي.. إلا أن ما حدث هو أن حادث طرق كاد أن يودي به وحدّ من حركته وقع له خلال تنقّله بين بلدته ومدينتي.

مما أتذكره عن سميح، أنني قمت قبل سنوات بالتعاون مع صاحب مجلة "الشرق" الفصلية الثقافية التي صدرت في شفاعمرو منذ السبعينيات الاولى، وتوقفت قبل سنوات عن الصدور، أقول إنني قمت بالتعاون مع الدكتور محمود عباسي، أمد الله في عمره، بتحرير عدد خاص عن سميح قدّمنا فيه مادة ضافية عن سيرته ومسيرته، كما قدّمنا فيه مجموعة اختارها هو ذاته من بين كتاباته، وأذكر أن سميحًا تعاون معنا إلى اقصى حدّ ليصدر العدد بحلة أنيقة تليق به وبالمجلة.

الشخصية الانسانية الحانية ميّزت سميحًا طوال عمر علاقتي به، وأذكر مما اتصف به من سعة صدر وتفهم عميق لمجريات الامور، أنني ضقت ذات يوم كما ضاق كثيرون سواي بالادعاء أن شعرنا في هذه البلاد اقتصر على ثلاثة أو أربعة أسماء، فكتبت سلسلة من المقالات أنعي فيها على هكذا حركة أدبية تتوقف على مثل هكذا كم من الاسماء، فما كان من سميح ألا أن قام بالثناء على تلك السلسلة من المقالات قائلًا إنه يوافقني الرأي وإن البلاد التي تتوقّف عن تقديم الشعراء تشبه المرأة العقيم التي لا تلد الابناء.. وبلادنا والحد لله بلاد حباها الله بالكثير من القدسية والعطاء.

هذا عن سميح الإنسان المثقف المُحرّر المشجع لكلّ موهبة ثقافية يقتنع بها، أما عن سميح الشاعر، فان الحديث يبدأ ولا ينتهي، ولعلّي أجد في هذه المناسبة المؤسية، مناسبة الحديث عن ذكراه، فسحة للتحدث عن علاقته بصديقه وأخيه الذي لم تلده أمه، شطر البرتقالة الآخر، الشاعر المرحوم محمود درويش، فقد ظهر كلّ منهما في نفس الفترة، وقد أعطيا الكثير وأحبهما الناس، كونهما شاعرين مبدعين يثيرهما ما يثير الجميع من أحداث سياسية جسام تمرّ بها بلدان العالم وبلادنا خاصة، وبعد أن غادر محمود البلاد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، جرت مكاتبات بين الشاعرين تلقتها صحيفة "الاتحاد" أولًا بأول، ليقوم محرّرها الادبي في حينها الكاتب الصديق محمد علي طه بنشرها وليختار لها عنوانًا لافتًا هو " رسائل بين شطري البرتقالة"، وأذكر أنني عندما قام محمد علي طه بنشر تلك الرسائل كنت أعمل مساعدًا له في تحرير الصفحة الأدبية في الاتحاد، بل إننا تشارونا معًا في إطلاق عنوانها المذكور عليها، مع التشديد على أن طه هو مَن أطلق هذا العنوان اللافت عليها.

لقد رأيت دائمًا في سميح شاعرًا مبدعًا، وأذكر أن ندوة أقيمت في الناصرة في أحد أيام ذكرى الارض السنوية، شارك فيها أكثر من عشرة شعراء قدموا من أماكن ومواقع مختلفة من بلادنا، وكيف تألق سميح بينهم وكأنما هو من كوكب وهم من آخر، مع الاحترام لكلّ مَن كتب وقرأ في تلك الندوة.

إيماني هذا بقدرة سميح وتمكنه من ملكته الشعرية والابداعية بصورة عامة، دفعني لترداد رفضي لأية مقارنة بينه وبين شطره الآخر، الشاعر محمود درويش طابت ذكراه، وكنت أتذرّع برفضي لمثل هذه المقارنة، قائلًا إننا لسنا بحاجة للمقارنة بين أي شاعر وآخر، لأن لكلّ من الشعراء في عالمنا الرحب هذا، عالمه الخاص به، بل اختلافه عن سواه وهو ما يميّزه في عطائه، مشيرًا إلى أن لكل من شاعرينا قدرته المميّزة في القول الشعري، وان المطلوب منّا ألا نطلب من شاعر أن يكون نسخة من الآخر وإنما المطلوب منا أن نميّز الشعراء باختلافهم لا باتفاقهم.

رحم الله سميح القاسم، فقد أعطى الكثير وترك وراءه الكثير، وقد احسن رحمه الله بكتابته لسيرته الذاتية قبل رحيله بفترة وجيزة.. لتصدر في كتاب يمكِّن قارئه من معرفته أكثر. لقد عاش سميح القاسم حالته الشعرية حتى النخاع وأعطى الكثير، لهذا سيسجل اسمه بحروف من المحبة في أعلى قائمة شعرائنا الاماجد في بلادنا السخيّة المعطاء.

***

ناجي ظاهر

.................

*رحل سميح القاسم بتاريخ 19-8-2014

في مثل يومنا هذا من شهر تموز 2007 غادر عالمنا مدني صالح عن 75 عاماً، لكنه مازال يشغل المشهد الفلسفي والثقافي، وبقيت مقالاته ومقولاته ومقاماته وبحوثه وكتبه في الفلسفة والأدب والنقد والدرس الأكاديمي محط اهتمام تلامذته في الندوات والمؤتمرات الفلسفية وعلى صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكثيراً ما كانت حياته وفلسفته ومواقفه مدار الحديث والاستذكار في مجالسهم الخاصة والعامة، فالرجل الذي كان في حياته بعيداً متعففاً عن الاحتفاء والاحتفال بشخصه، مكتفياً بنفسه عن الغير، آنفاً من دون تكبر، متواضعاً من دون ضعف، قوياً من دون طغيان، لم يكن يرغب أن يكون في موضع الاحتفاء والتكريم، ومدح المادحين، انسجاماً مع قناعته التي مفادها: الاكتفاء بالذات وحدها.. وذات مرة اعتذر عن حضور مناسبة احتفالية، فكتب لي رسالة قال فيها: وأرجو منكم أن تقبلوا مني استغلال هذه المناسبة لإعادة الاعلان عن نفسي بأني غير احتفالي غير منبري غير خطابي، إلاّ الاحتفال الدائم بالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير.. لم يخرج عن ذلك إلا مرة واحدة حين دعوته للكتابة في جريدة الزوراء، وكنا في العام 1998 حين زارني يوماً ومعه مقاله الأول، وطلب مني بوضوح أن أقدمه للقراء بما يشبه « الزفة « احتفاءً وفرحاً بإطلالته عليهم بعد طول اعتكاف.

ومنذ رحيله، كُتبت العديد من المقالات والانطباعات، سواء من تلامذته المباشرين أو غير المباشرين، أو من عموم الكتاب والمتفلسفين ممن قرأوه أو سمعوا به أو صادفوه يوماً هنا أو هناك، وكلها تأتي في باب المديح والعجب والتعجب من هذا الرجل الظاهرة الذي تم الاحتفاء به بعد رحيله حين لم يرغب بالاحتفاء به في حياته، ومما أذكره أنه أُخبر يوماً أن هناك فكرة لإطلاق اسمه على مدرسة في الرمادي لكونه قد أكمل الدراسة الثانوية فيها، فما استساغها ولا تقبلها ولا شجعها، إنما سخر من هذه الفكرة ورفضها بشدة، وتهكم من واقع يحتفي بإسمه، وهو معتكف في غرفة متواضعة بقسم الفلسفة، شأنه شأن قرندل الذي هو من صنف «الذين يدقون الكبة ولا يأكلون، والذين يلطمون ولا يأكلون، والذين يزرعون ولا يحصدون».. ويعرف تلامذة مدني صالح المقربون أنه لم يكن في الصف الدراسي خطيباً، ولا متجبراً، ولا عنيفاً، ولا متسلطاً، ولا هازئاً، إلا من أولئك الذين يأكلون من دون أن يدقون، أو يلطمون، أو يزرعون، لذلك قَرَب إليه من تلامذته أولئك الذين كانوا ينتمون إلى الصنف القرندلي يومذاك، وهم أقرب الأصناف إلى نفسه، لأنهم يدقون ويلطمون ويزرعون، بلا ضجيج، ولا مباهاة، ولا ادعاء، ولا تزاحم على المكاسب والمراتب.. شأنهم شأن الذين يحضرون في موسم الزرع، ويغيبون في موسم الحصاد، أو هم من أخوة الحاج عَذاب/ فرايدي بمواجهة الصاحب المستر روبنصن كروزو المتفوق على الحاج فرايدي وعلى قرندل! .. « ومثلما يأكل روبنصن كروزو من مال فرايدي ويطعمه منه متفضلاً يأكل الصاحب المستر من مال الحاج عذاب ويطعمه منه متفضلاً «.. وبعد أن غاب مدني عن مسرح الحياة، طفحت بيادرهم في مواسم الحصاد، وفاءً وتبجيلاً لمعلمهم الروحي الذي ما كان ليسمح للقرندليين وهو حي، بحمل مناجلهم في مواسم الحصاد، تعففاً، وتواضعاً، وزهداً، واكتفاءً بالذات عن الغير، فقد حصد بعد رحيله ما لم يحصده غيره، وحصاده كان بمناجل تلامذته الذين أحبوه بتطرف، والتطرف هو: « سيد المواقف كلها في الصدق وأن تصدق الصدق كله، وفي الوفاء وأن تفي الوفاء كله، وفي الإخلاص وأن تخلص الإخلاص كله، وفي الحب وأن تحب الحب كله.. وإلا صرنا صيارفة في الصدق وفي الوفاء وفي الإخلاص وفي الحب، وصرنا صيارفة ضد كل طبائع الفضيلة والعدل والجمال ومنطق الاخلاق»  على رأي مدني صالح.

***

طه جزّاع – أستاذ فلسفة / بغداد

قبيل وفاته في عام 1993 عن 71 عاماً، كان قد القى محاضرة قال فيها ان " الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته "، وقد مرت حياة محمد عزيز الحبابي بظروف عصيبة، كان عليه خلالها أن يَعبر حاجز خانق من المصاعب.على لسان بطل روايته " جيل الظمأ "، يخبرنا بان ليس امامه ان يختار: " بل هناك واجب محتم مقدس يرغمني أن أرى الضياء، وأريد أن أهرول إلى الهدف دونما نكوص. من المخزي أن أبقى نكرة في دنيا الفكر اجتر أنظمة وتقاليد لا أحياها. والويل لي إذا بقيت قابعا في زاويتي، غريبا في مدينتي ووطني".

 انتقل من دراسة الكائن الانساني الى البحث عن الشخصانية، للوصول الى الشخصانية الاسلامية، لينتهي الى اشاعة " الفلسفة الغدية.كتب كعادته بحماس مؤكدا ان فلسفته تتفاعل مع احوال حياة مجتمعه في مراحله ومحطاته الحاسمة، معلناً ان الفلسفة يجب أن تُكتب في نص جاد متكامل. لُقّب بالاديب الفيلسوف. كان همّه ان يقدم تصوره الفلسفي من خلال الادب متاثرا بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي عُرف بدعوته إلى أن تكون الفلسفة أكثر انفتاحاً على أساليب تعبيرية جديدة. بدت الرواية بالنسبة لمحمد الحبابي المثال الأعلى لِمَن يريد الاشتغال في التعبير عن الواقع:" فالفن نظرة تتجلى في الصفاء البدئي.فالفنان، حينما يعيننا على الخروج من الفوضى الوجدانية والفكرية، يساهم، من بعض الجوانب، في تحررنا." – من الحريات الى التحرر -.

تدور " جيل الظمأ " التي كتبها بعد عودته الى المغرب عام 1958، ونشرها عام 1967 في ستينيات القرن الماضي، وتسجّل أحداثاً خاصة حيث نجد الحبابي يتقمص فيها شخصية البطل، واحداثا عامة عن الجيل الذي يناضل من اجل التغيير في مواجهة قئات اخرى غارقة في قضاياها الخاصة، منشغلة بالثراء والتواطأ مع الفساد. يقف بطل الرواية ادريس المهموم بقضايا بلاده، يعاني من التناقضات التي تحيط به ومن عزلة المثقفين:" أن كل مدينة يتهرب مثقفوها من تحمل المسؤوليات، لابد أن يسود فيها الظلم، ويسيطر الإفك: المجرمون يجدون من يبرر أفعالهم والأبرياء لا يأبه لهم أحد ".كان ابن خلدون معلم الحبابي الأول يقول عن الثقافة بانها:" مجموع الجهود التي تبذلها جماعة من الناس كي تصل إلى توحيد خبراتها و تكييفها مع الوسط الذي تعيش فيه، بحثا عن الانسجام في الأعمال "، وعندما يتعرض المجتمع لمحنة فان على المثقف ان يواجه الاحداث ويبحث عن الحلول، لأنّ رسالته هي التغيير، وهذا ما كان يشغل ابطال رواية " جيل الظمأ "، وهذا التغيير لن يحدث من دون الاعتماد على الانسان الذي هو الرأسمال الحقيقي للمجتمع، ومن دون الانطلاق من واقع المجتمع العربي. يكتب محمد عزيز الحبابي:"ان الافكار التي تقدم بها كتاب عرب معاصرون لم تنطلق كلها من واقع المجتمع العربي، بعد تحليله بلا مجاملة وبلا قبليات. ومن هنا فشلها. فالمحك لكل فكر هو مقدار علاقته بالواقع كما هو ايضا مقدار ما يتركه من صدى في وعي وسلوك الجمهور – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر –

يدخل الحبابي الى الفلسفة من باب السياسة. في باريس التي وصلها عام 1948 للدراسة بعد مرور عامين على تجربة السجن من قبل الفرنسيين انفسهم، يجد ان الثقافة الغربية تنظر باستعلاء الى كل ما هو عربي، في المقابل كان هذا الشاب نفسه يسعى الى فهم الثقافة الغربية، يقول انه عاش في تلك السنوات بشخصية مزدوجة، فهو يعيش في عالمين مختلفين حضاريا واجتماعيا. إنه يعيش " تمزقا عميقا بين مجتمعين يختلفان في اكثر من جانب "، فعانى بذلك من شعورا بالفراغ، وهو شعور دفع به الى التواصل، بدلا من العزلة، وبهذا التواصل، او الانفتاح على الآخرين، اكتشف ذاته. كانت الفلسفات الشائعة في فرنسا آنذاك الوجودية والماركسية، وكانت الاوساط الثقافية مشغولة بما يقدمه سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار، وبروز الحزب الشيوعي الفرنسي. الشاب الذي كان يبلغ 26 عاما ظل يواجه سؤالا وجوديا:" ان يكون او لا يكون "، كان بحثه الاول ان يعرف من هو وسط هذا المجتمع الذي يريد استلاب هويته مثلما استلب بلاده المغرب، فكان عليه ان يرسم مسارا جديدا لحياته من خلال الفلسفة التي ظل يؤمن بانها:" لن تكون ابدا مجرد تصنيف للعلوم والآثار. إن   ما هيتها الحق هي المجهود الذي نبذله حين نتأمل (والتأمل نشاط نقد وبناء في آن). على أن كل مجهود للنقد السليم، وإن لم يساهم في البناء، فإنه على الأقل، يفسح المجال للترميم " – من الكائن الى الشخص -. انها فلسفة تبحث في صلة الفرد بالاخرين وعلاقة الذات بالمجتمع. فالانسان يصر دوما ان يعرف " من هو ؟ "، ومن شأن هذه المعرفة ان ترسخ لديه القناعة بانه " شخص "، فان يوجد الإنسان معناه أن يكتسب القدرة على التشخصن لأن:" الكائن الانساني معطى خام يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخصن. ونحو الاندماج في مجتمع من الاشخاص. فهو باقٍ كائنا وخاما ما لم يظهر للآخرين " – من الكائن الى الشخص –.  ان الانسان يلج الى هذا العالم مجهولا، لا اسم له، ولا ورقة هوية. ولكنه ما ان يندمج بالوجود، وفي اللحظة التي يتم فيها " تشخصنه "، ينقلب هذا الكائن المحهول إلى كائن تاريخي. فالتشخصن هو الكائن البشري الذي يحدد لنفسه حقل نشاطه، والمجتمع لا يعمل بنا بعصا سحرية او عن طريق نداء نخبة (كالاولياء والابطال)، بل يدفعنا دفعا الى النشاط والى تاكيد ذاته:" إن وجودي باعتباري كائنا بشريا، إنما معناه انني (كرامة)، وانني أعي ذلك، وأن الآخرين يقرون لي بذلك ويقرون لي بوصفي كذلك " - - كم الكائن الى الشخص.

***

يكشف لنا محمد عزيز الحبابي أن المعاناة هي التي ارشدته الى الفلسفة. يتذكر أنّه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره كان ذا مزاج كئيب، أرشده زوج خالته الذي ساهم في تربيته إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي ما يعانيه، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة. تعلم من سقراط ان الفلسفة تساعدنا على تبنّي منهج البحث الدائم.وانها وصفة سحرية لمعرفة النفس، اكتشف من خلال جده الذي قام برعايته ان يفكر في تنمية قدراته، وان يجد لنفسه مكانا وسط هذا المجتمع القاسي.، ومن زوج خالته الشيخ محمد العلوي مبادئ واهداف وقيم دينية متنورة.وكانت اول الاسئلة التي يوجهها محمد الحبابي لنفسه: ما معنى الانسان؟ كيف عليه ان يتحول من مجرد كائن الى شخص مؤثر، وما هي الطريقة، وكيف نجدها ؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه نوعا من انواع التمرد السياسي، لأنها تدعونا إلى أن نجد لانفسنا مكانا في مجتمع تتصارع فيه قوى كبرى تريد ان تستلب منا معنى العيش بكرامة.

ولد محمد عزيز الحبابي في الخامس والعشرين من كانون الاول عام 1922 في مدينة فاس، لم يمر عام على ولادته حتى توفيت امه، وقرر والده التاجر ان يتزوج لينتقل الطفل الصغير الى العيش في بيت جده عثمان الحبابي الذي كان استاذا في جامعة القرويين، وكان فقيها ويصفه الذين عرفوه بانه كان " فأر كتب "،، ويتذكر الصبي محمد أن الكتب كانت ترافق جده حتى حتى عندما يذهب الى مكان عمله، كان الجد يؤمن باهمية التعليم، فادخل حفيده الى الكُتاب ليحفظ القرآن ويتعلم اصول القراءة والكتابة، بعدها يدخل المدرسة الابتدائية، ثم ثانوية مولاي ادريس في فاس، في هذه السنوات، ينتمي الى حركة سياسية تاسست عام " 1939 " باسم " الحركة القومية " والتي تحولت فيما بعد الى " حزب الشورى والاىستقلال "، وكانت هذه الحركة التي ضمت نخبة من الشباب المثقف، تطالب بالغاء معاهدة الحماية الفرنسية، وتنادي باستقلال المغرب، وعلى اثر مشاركته في تظاهرة كبيرة شهدتها فاس عام 1944 تم اعتقاله وطرده من المعهد الذي كان يدرس فيه، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين، اطلق سراحة بعد ثمانية اشهر بسبب سوء حالته الصحية حيث تعرض الى ضربات شديدة في الرأس، يقرر عام 1946  السفر الى باريس ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، كانت فرنسا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية، وبدأت الجامعات الفرنسية تحاول اعادة الروح الى الفكر الفلسفي. كانت فلسفات الوجودية والماركسية والعدمية تشهد رواجا كبيرا، وامتلأت مقاهي باريس بحوارات عن الوجود، الحياة، الانسان، الوعي، الحرية، الالتزام، القلق، العبث.كما شهدت المقاهي والتجمعات الثقافية حوارات حول دور الفلسفة في المجتمع والالتزام الانساني للمثقف. وقد وجدت هذه الموضوعات اهتمام لدى الشاب الحبابي الذي كان يبلغ من العمر آنذال " 24 " عاما "، يقرر بمساعدة عائلته دراسة الفلسفة في السوربون على نفقته الخاصة بعد ان رفضت سلطة الاحتلال منحة بعثة دراسية، في الوقت نفسه يدخل معهد الاداب ليدرس اللغة والادب، على مدى سنوات اقامته في باريس حرص على قراءة المشهد الفلسفي فاستهوته فلسفة برغسون، الفيلسوف الذي توفي قبل خمسة اعوام من وصول الحبابي الى باريس، لكن فلسفتة ظلت حاضرة كونها خاضت صراعاً مع الأفكار السائدة في الفلسفة لتقدم أسلوبا جديدا في فهم العالم المحيط بنا، والذي يقوم على الحدس والغريزة، اطلق عليه برغسون تسمية " الوثوب الحيوي "، حيث اراد برغسون ان يحتفي بتجربة الفرد التاريخية الذكية والنشطة، كتغير مستمر حيث:" الكائن يتحدد عن طريق الديمومة: الكائن هو ما يدوم ". الفيسوف الثاني الذي تأثر به كان ايمانويل مونييه الذي نشر عام 1935 كتابه " الثورة الشخصانية " وهو الكتاب الذي قلب مفاهيم الحبابي الفكرية، كان مونييه المتوفي عام 1950 قد اصدر عام 1932 مجلة متخصصة بالفلسفة الشخصانية التي ظهرت ما بين الحرب العالمية الاولى والثانية، وكان هدفها الدفاع عن قيمة الانسان " الشخص ".يكتب مونييه:" إنه يكفي لكي نحدد وضعا شخصانيا، أن نفكر بأن كل شخص له معناه، حتى إنه لا يمكن أن يحل محله آخر في المكان الذي يحتله في عالم الأشخاص. تلك هي العظمة الرائعة للشخص الذي تمنحه كرامة عالم من العوالم، وتمنحه تواضعه في الوقت نفسه، وذلك لأن كل شخص معادل له في هذه الكرامة، ولأن أعداد الأشخاص أكثر عددا من النجوم." الشخص جسب مفهوم مونيته وفلسفته الشخصانية "ذاتٌ "متميزة، يرفض ما هو سائد ويسعى إلى إقامة مجتمع جديد، من خلال عملية اسماها " التشخصن " والتي هي عبارة عن حركة مستمرة للتحرر من كل عبودية داخلية أو خارجية، في إطار الجمع بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي، وقد أكد مونييه على هذه العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، أي بين الفرد والمجتمع، فالفيلسوف الشخصاني هو الذي يسعى لتحقيق الكمال لذاته، لينخرط فيما بعد في علاقة متكافئة مع اللآخرين وهي علاقة يسميها مونييه " فاعلة وليست منفعلة "، وكان مونييه يرى ان تجربة " التشخصن " ليست عامة، فلا يحياها، بشكل متميز، إلا تخبة الناس. لم يتسنى للحبابي التلمذة على يد مونييه فقد توفي الفيلسوف الفرنسي عام 1950، لكن ستتاح لمحمد عزيز الحبابي خوض حوارات حوال الفلسفة الشخصانية من خلال الكتب التي اصدرها مونييه اثناء دراسة الحبابي وكان ابرزها كتاب " ماهية الشخصانية " الصادر عام 1947، حيث يجد الحبابي أن فلسفة مونييه بذلت مجهودا كبيرا:" لفرض الانسان على العالم وإدماجه في العالم، مع الحرص ان يتميز الانسان عن العالم " – من الكائن الى الشخص –. كان مونييه قد اعلن انه لم يكن يسعى " لدراسة الانسان فقط، بل أردنا ان نحارب من اجله ". ستتاح للحبابي فرصة المشاركة في المؤتمر الذي اقامته مجلة " فكر " عام 1948 والذي تم فيه تحديد المهام الاساسية للشخصانية.

لم ينشغل محمد الحبابي بالفلسفة الفلسفة عن العمل، فقد كانت النقود التي تصله من المغرب قليلة وسرعان ما تتبخر، وكان عليه ان يقسم وقته بين العمل والدراسة، إلّا أن هذه الصعوبات لم تمنعه من التفوق بالدراسة، فحصل عام 1945 على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون عن اطروحته " من الكائن الى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية " وقد صدرت الاطروحة في كتاب بالفرنسية عام 1949، بعدها سيقدم عام 1956 اطروحته الثانية بعنوان " من الحريات الى التحرر "،التي ستصدر ايضا بالفرنسية بمقدّمة للفيلسوف ومؤرخ الفلسفة موريس غونديلاك. بعد استقلال المغرب يعود الحبابي الى بلاده، يعمل بالتدريس ويساهم بتأسيس اتحاد كتاب المغرب حيث يتولى رئاسته للفترة من " 1959 " الى 1968، يعين عميدا لكلية الاداب والعلوم الانسانية، ويرأس الجمعية الفلسفية في المغرب، يتم ترشيحه لحلئزة نوبل للاداب بدعم من الاكاديمية الفرنسية، في سنواته الاخيرة تتفاقم عليه الامراض التي رافقته طوال حياته بسبب ما تعرض لم من اصابات اثناء فترة سجنه، ليتوفى في الثالث والعشرين من ايلول عام 1993.

****

من بين المفكرين العرب في القرن العشرين، أمتلك محمد عزيز الحبابي مشروعه الفلسفي المتفرد، من خلال موضوعه الموسع الذي رافقه طوال حياته: " الشخصانية "، حيث واصل العمل على وضع نظرية فلسفية تُمكن الانسان العربي من التأمل في انسانيته. يتساءل الحبابي: ما هي الفلسفة ؟ ويكون جوابه:" كل افعال الانسان موضوعات للتأمل الفلسفي، وكل فعل يطالب الفلسفة بأن تنير له الاهداف والطرق، وتبتعد عن الفكر الاسطوري وتزيل الحجب عن رؤية الواقع كما هو " – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر -. ولهذا يرى الحبابي ان من وظائف الفيلسوف أن يعلمنا الوسائل لاثارة الانتباه والتمسك به.، كما ان من خصائصه اأن يمتلك " القدرة على الربط بين الفكر والفلسفة ". ووظيقة الفلسفة ان تنقلنا الى افق التحرر اولا، ثم السعي الى اثبات الذات. دخل محمد عزيز الى الفلسفة عن طريق تراكم خيبات الامل التي رافقت حياته السياسية وما تعرض له من حرمان وأسى خلال حياته، فكانت الفلسفة كما يقول اشبه بطوق نجاة لبعث الأمل في نفسه، فقد مارس الفلسفة لانه لم يجد يديلا اصلح منها. كانت الفلسفة محاولة لبعث الامل وتجديده وطريق يسلكه " الكائن " المُستعمر ليتحول الى الشخص ثم يرتقي الى الانسان المتحرر، بعدها سيتطلع هذا الانسان المتحرر الى " الغد "، حيث يكشف التفكير الفلسفي للحبابي عن تطوره، فمن المهم ان يتطلع الانسان الى فلسفة حديدة تذكره بحقيقة الشرط الانساني المطلق، وهو شرط يتمثل في اجتماعية الإنسان، فالانسان " كائن اجتماعي " كما وصفه ارسطو وأكد عليه ابن خلدون في مقدمته:" الانسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الإجتماع ". يكتب محمد عزيز الحبابي أن:" اصالة ابن خلدون تكمن في الجهود التي بذلها لاجلاء البعد المجتمعي في تكوين إنسانية الكائن البشري " – ابن خلدون معاصرا ترجمة فاطمة الحبابي -.كان الحبابي يرى نفسه مثل ابن خلدون، فصاحب المقدمة تعرض ايضا لمصير مليء بالاحداث والمتغيرات " ولم يكن لطموحاته المتنوعة نظير ". هذه الطموحات كانت هاجس الحبابي الذي جعل من فلسفته الشخصانية رحلة متواصلة للتطوير والتجديد، فكان لا بد ان يبحث عن فلسفة جديدة اسماها " الغدية " لينشر عام 1980 كتابه عالم الغد: العالم الثالث يتهم " وفيه يرى ان النظر إلى عالم الغد يتطلب منا ان نسير في ثلاثة مسارات متوازية، اولها: استقصاء ودراسة اهم ازمات عصرنا في صلتها بالقيم، والثاني: البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز هذه الازمات والسعي الى ما اسماه " تطهير الوضع " والمسار الثالث: النظر في امكانية مساهمة الاسلام في حل ممكن لهذه الازمات، وقد كان الحبابي يرى ان الاسلام الحقيقي علاج لبعض انحرافات الحداثة،مثل النزعة النفعية الضيقة، كما ان الاسلام: " يوفر امكانات عملية لضمان انسجام في وجود بني البشر وتعايشهم في اطار مجتمع انسي " - الشخصانية الاسلامية. في كتاباته يشير الحبابي الى نوعين من القيم: القيم الروحية والقيم الاخلاقية.. وقد كان يرى ان القيم الانسانية في ازمة بسبب ما يعانيه الانسان من " الفراغ والتيه "، الامر الذي يؤدي الى تفكك الروابط الاجتماعية. ولذا كان الحبابي يدعو الى " اخلاقية جديدة " تعيد الى الضمير الخلقي مكانته، وتعطي للشخص توازنا جديدا. فهو يرى ان ازمة الانسان المعاصر ناجمة عن التخلي عن القيم، فقد تحول الانسان في زمن الحداثة الى " فاوست " يبيع روحه لأقرب شيطان من اجل الظفر بمكاسب باطلة وواهية:" ان البشرية فقدت الحس بكنة الاشياء ومقياسها، وصارت الاحاسيس البشرية متيبسة ومتشققة، واستحال الشغل من مؤنس الى مستعبِد، ومن محرر الى استعبادي " – محمد سعيد الحبابي.. من المنغلق الى المنفتح –

ما بين " الشحصانية " و " الغدية "، ثمة رابط هو محمد عزيز الحبابي المفكر الذي تميز بالتنوع والاختلاف. ان القارئ لمؤلفات الحبابي سينتبه الى ان فلسفته مكونة من حلقات متصلة جميعها تبحث في الوجود والقيم وعن الحرية والتحرر ومجابهة ازمات مجتمعه، فالفيلسوف لا يمكنه ان يتفلسف ويلتزم إلا من خلال مجابهته لتاريخ شعبه، لان الفيلسوف:" مثقف نوعي، لامثقف شمولي يتحمل اعباء الدفاع عن قيم الجميع، ولو راودته فكرة التحول الى المثقف الشمولي لكان مثله كمثل من يتحمل عبء تنظيف بيوت الآخرين بينما لا يجد من ينظف بيته " – من الحريات الى التحرر –".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

انتُقِلَت، منتصف الأسبوع الماضي، الدكتورة حليمة بوكروشة، الأكاديمية الجزائرية التي عرفناها من خلال دراساتها القيّمة، في حقل "أصول الفقه"، وبعض حقول العلوم الإسلامية والقانونية الأخرى، وكانت وفاتها في ماليزيا، حيث تعمل، مند سنوات عدة، أستاذةً في كلية الحقوق بالجامعة الإسلامية العالمية بالعاصمة (كوالالمبور).

وقد كانت أول دراسة وقفتُ عليها للدكتورة الفقيدة حليمة بوكروشة، بنت الجزائر العزيز، في بداية معرفتي بها، قبل حوالي عقدين، وهي تلك التي تناولت فيها تجديد المنهج الفقهي عند الإمام الشوكاني (ت1250ه)، وصدرت في كتاب ضمن سلسلة كتاب الأمة، تحت عنوان: "معالم تجديد المنهج الفقهي: أنموذج الشوكاني"، وأظهر قدراتها العلمية العالية وإمكاناتها البحثية الرصينة، مع أنها كتبته وهي في بداية رحلتها البحثية، فهو -في أصله- رسالتها التي نالت بها درجة الماجستسر، من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ثم حصلت على الدكتوراه من نفس الكلية والجامعة، قبل أن يتم اختيارها للعمل ضمن الهيئة التدريسية في الجامعة.

وبعد اطِّلاعي على دراستها المشار إليها آنفًا، حول الشوكاني، وأنا في آخر مشوار المرحلة الجامعية الأولى (البكالوريوس/ الليسانس)، فقد كنتُ أحرِص بين الحين والآخر، على البحث عن اسمها، في شبكة الإنترنت، للاطِّلاع على ما يمكن أن يكون قد نُشِرَ لها من نتاجات بحثية، قناعةً بأنّها ستأتي على مستوىً عالٍ من الدقَّة والجودة، وما وقفتُ على دراسة لها، إلا وتأكّد لي ذلك.

ومع أني كنتُ مهتمًّا بتتبُّع نتاجاتها المنشورَة، بين الحين والآخر، فإني لم أعلم بجوانب من حياتها إلَّا اليوم؛ فهي مشتغِلة نشطة في العمل الدعوي والإصلاحي ببلادها، منذ ما قبل تمام العقدين من عُمُرها، وكانت لها نشاطاتها الطيبة في الدوائر النسوية، ثم استمر نشاطها هذا في ماليزيا، وكانت لها محاضراتها ودروسها في أكثر من لغة، بعضها متاحة على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).

وتعزيزًا لما تمَّت الإشارة إليه سابقًا، بخصوص نتاجاتها البحثية؛ فإن لها ما هو متاح على الشبكة، في مجلات علمية ماليزية وجزائرية وغيرها، منها ما هي منفردة بها، ومنها ما هي بالاشتراك، ومن بحوثها المشتركة ما اشتركت به مع زوجها الدكتور سعيد بوهراوة، الذي له هو الآخر من النتاج البحثي الذي يعرفه به باحثون في الفقه وأصوله.

وبحكم أنّ الدكتورة الفقيدة متخصصة في الأصول، وهو الحقل الذي كان فيه الإمام الشافعي (ت204ه) رائده الأول، فقد أبدت اهتمامها به، وممَّا نعرفه لها عنه: "رسالة الإمام الشافعي: بحث في دواعي التأليف"، و"محدِّدات الشخصية الإبداعية عند الإمام الشافعي"، و"الإمام الشافعي والتأسيس للمنهجية الأصولية"، وهذه دراسات دقيقة عميقة، من أجود ما دُرِس به الإمام الشافعي ورسالته الرائدة، ولا سيّما أن رسالتها للدكتوراه دارت حول هذا التأسيس الأصولي عند الإمام الشافعي.

وتوجد للدكتورة حليمة دراسات تكشف حرصها على الجمع في منهجها العلمي بين التأصيل والتجديد، على نحو ما تشير إليها دراستها حول "إشكالية المنهج الأصولي في الفكر الاجتهادي المعاصر"، إضافةً إلى مناقشة قضية من القضايا التي دارت البحوث حولها، في عصرنا الحاضر، بخصوص تفعيل العلاقة بين منهج أصول الفقه ومناهج العلوم الاجتماعية، فكتبت حول "إشكالية التكامل بين مناهج العلوم الاجتماعية والمنهج الأصولي: عرض وتقويم".

وكانت الدكتورة الفقيدة مهتمّةً بالإسهام في دراسة القضايا ذات الصلة بالأسرة، ومما لها يندرج تحت هذا: "قضايا معاصرة في شؤون الأسرة وحمايتها وفق مقاصد الشريعة"، و" تقويم منهجي لمعالجة قضايا الأسرة"، و" العنف الأسري: مدخل للفهم وآليات للتجاوز"، و"الوساطة القضائية في القضايا الأسرية في ماليزيا: تحديات التطبيق وآفاق التطوير".

وتفاعلت الدكتورة مع الدراسات المقارنة بين الشريعة أو الفقه من جهة والقانون من جهة أخرى؛ فنُشِر لها: "الأمن البيئي بين الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية"، و" التحكيم الإلكتروني والقانون الواجب التطبيق في مجال المعاملات الإلكترونية"، و"الوساطة القضائية في تسوية المنازعات في القانون الأردني: دراسة تحليلية نقدية"، و"الجرائم الإلكترونية: ماهيتها وأنواعها والتشريعات القانونية لمواجهتها في القانون العماني"، و"التكييف القانوني لتقنيات التناسل المساعدة: دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون"، و"حرية الرأي والتعبير بين القانون المصري والشريعة الإسلامية"، مع العلم بأن بعض دراساتها في هذا المجال بالاشتراك، مع باحثين كان لها إشرافها عليهم في الدراسات العليا.

وللدكتورة حليمة -رحمها الله- تناولات بحثية لقضايا في باب ما يُعرَف بحقل "الاقتصاد الإسلامي"، منها: "المالية السلوكية في المنظور الإسلامي"، و"حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية: تجربة البنك المركزي الماليزي"، و"مستقبل المالية الإسلامية في ظل تصورات نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية"، وكلتا هاتين الدراستين الأخيرتين بالاشتراك مع زوجها د.سعيد بوهراوة.

وأسهمت الدكتورة في تقديم قراءات ومراجعات لبعض المؤلّفات؛ فقد وقفتُ، قبل سنوات عدة، على مراجعتها كتاب "الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد" للأستاذ زكي الميلاد، ونُشِرَت المراجعة في"مجلة إسلامية المعرفة"، ومما وقفتُ لها عليه مؤخّرًا مما يندرج تحت هذا، مراجعتها كتاب "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المعاملات المالية المعاصرة" الذي تضافر على تأليفه مجموعة أساتذة، أحدهم زوجها د.بوهراوة.

رحم الله الفقيدة الدكتورة حليمة وغفر لها وعفا عنها وأسكنها فسيح جناته، وعظّم لأهلها وذويها الأجر، وعصم قلوبهم بالصبر..

"إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"..

***

د. صادق وجيه الدين - أستاذ الفكر الإسلامي المساعد

كلية الآداب- جامعة إب

(الوطن هو ما لا يستطيع الإنسان تحمله عندما يعيش فيه، ولا يستطيع نسيانه عندما يبتعد عنه).. هيرتا موللر

صنفت باعتبارها من "أعداء الشعب"، لأنها تنتمي الى الأقلية الألمانية، في بلاد مثل رومانيا كانت السلطات تعتقد أن هذه الأقلية مسؤولة عن فظائع النازية.. هيرتا موللر المولودة في إحدى قرى رومانيا في السابع عشر من آب عام 1953، تتذكر حكاية أمها التي سيقت عام 1945 إلى روسيا للعمل خمس سنوات في المزارع الشعبية لتعود عام 1950 حليقة الرأس، هزيلة يلتصق جلدها بعضامها، بعد ستين عاماً تقرر موللر أن تعيد نسج حكاية أمها من خلال روايتها"أرجوحة النفس "، وسيكون البطل رجلاً "ليوبولد أوبيرغ"، الذي يعتقل ضمن مجموعة من شباب القرية من أصول ألمانية ليُرحل إلى إحدى المناطق في روسيا، هناك يتعرض إلى أقسى أنواع الإذلال والتنكيل، إلا ان وصية جدته التي قالت له حين تمّ تسفيره : "إنه سيعود حتماً الى بلاده "، تجعله يصر على الاستمرار في الحياة ومواجهة المصاعب بإرادة قوية ورغبة في العيش بحرية.

يروي أوبيرغ تفاصيل حياته في المعسكر، وتتداخل معها حكايات رفاقه لتتحول الرواية إلى حكايات عن أيام العذاب والقتل ونجده في لحظات اليأس ينسى وصية جدته ويتمنى لو يموت ليرتاح من عذاب الأسر اليومي

تقدّم هيرتا موللر في روايتها "أرجوحة النفس" عبر أربعة وستّين فصلاً، صورة متكاملة عن التهميش الذي يتعرض له الإنسان، وكيف يتم تحطيم الناس لمجرد الاختلاف معهم في الهوية والعرق.. تتذكر أنها ملأت أربعة دفاتر مدرسية وهي تستمع لحكايات العائدين من المعسكرات الروسية التي فيها كانت تلغى الاسماء لتتحول إلى "هو، وهي"، فالبشر : "نصف الجائعين ليسوا ذكوراً ولا إناثاً، إنهم بلا جنــس كالأشياء". وبطل الرواية يصر على أن يتجاوز محنته وأن ينجو من قبضة الظلم :"إنني نجوت من قبضته... إنني أتناول الحياة حرفياً". قالت موللر إنها كتبت هذه الرواية : "تخليداً لأصدقائي الذين قتلوا بسبب الظلم والتمييز " .

لم يكن من وجود للكتب في منزل أهلها. توفي والدها وهي صغير’ بعد ان جُند في الحرب العالمية الثانية . تقول في حوار معها : "الوحيد، الذي امتلك مكتبة، كان أحد أعمامي، صاحب القناعة النازية. مكتبة، احتوت بالتأكيد على مختلف مؤلفات الفكر النازي، فقد اتصف بكونه أيديولوجيا قرويا مجنونا. حينما مات في "ساحة القتال" سنة 1945، ووصل الروس الذين اقترفوا كل أنواع الفظاعة داخل قريتنا، تحولت جدتي إلى كائن مرعوب. أساؤوا التقدير، كي يميزوا بين الكتب المورِّطة من غيرها، فألقوا بها كلها في موقد، ما منحهم إمكانية التدفؤ لمدة يومين. لقد عشنا، رعبا شديدا " .

كانت موللر في الثانية عشرة من عمره عندما تولى تشاوشيسكو السلطة عام 1965،  بينما كانت تدرس الأدب الألماني والروماني في إحدى الجامعات في أوائل السبعينيات. تعرضت للضغوط من الأجهزة الأمنية للتعاون في تقديم معلومات عن زملائها : "كان أحد هذه الضغوط هو أن والدي كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما انضم إلى قوات الأمن الخاصة. لقد فكرت، أنا في عمره لكنني واحدة مختلفة. لا يمكنني الاعتراض على ما فعله. لكنني لن اتحول إلى مرآة له " .

في سن المراهقة كتبت مجموعة قصائد، لكن ذات يوم قلت لنفسي :"هذا يكفي، كل العالم بإمكانه أن يفعل ما أقوم به ثم توقفت. ولم أعاود الأمر، إلا بعد مرور فترة طويلة " اصبحت بعد سنوات واحدة من حلقة المثقفين المستقلين، تعرضت إلى مضايقات من الأجهزة الأمنية، وعندما أصدرت أول كتاب لها العام 1982 وكان مجموعة قصصية بعنوان "المنخفضات"، وضعت الرقابة يدها عليه ومنعته. ولم يمض عامان حتى صدرت هذه المجموعة في ألمانيا. وفي هذه القصص، تصف هيرتا الحياة البسيطة في قريتها التي عاشت فيها طفولتها، هاجمتها الصحافة الرومانية واعتبرتها خائنة، منعت من العمل في الصحافة، فاضطرت الى العمل مترجمة في مصنع حتى العام 1979. ولم تلبث أن صُرفت من عملها جراء رفضها التعاون مع الأجهزة الأمنية..تم تسفيرها بطريقة غير شرعية لتصل الى المانيا برفقة زوجها عام 1987، عندما سقط نظام تشاوشيسكو عام 1989 حاولت الرجوع الى رومانيا لكن السلطات الالمانية حذرتها :"ظنوا أنني قد  لا اعود حية ثانية". شاهدت محاكمة الرئيس الروماني تشاوشيسكو من على شاشة التلفزيون، تألمت لمشهد إعدامه :"بكيت طوال هذا اليوم، لا يمكنك مشاهدة شخص يُطلق عليه النار. على الرغم من أنني كنت أتمنى ذلك لمدة 20 عاماً، لم أكن أريد حقاً رؤيته " .

عندما حصلت على جائزة نوبل للاداب عام  2009  صرحت موللر للصحفيين بأنها لم تكت ترغب أبدًا في أن تصبح كاتبة. عندما كانت طفلة، كانت تحلم بالعمل كخياطة، لكنها بدأت بالكتابة بدافع الخوف. ارادت ان تمزج بين المهنتين الخياطة والكتابة لتصبح "  خياطة للكلمات، كتاباتها تبدو للقارئ احيانا غامضة لكنها حادة وجارحة .فيما اكد بيان لجنة جائزة نوبل للاداب بان :" كتابات موللر قد عكست حياةَ المحرومين بتركيزِ لغة الشعر، وصدقِ ووضوحِ لغة النثر"

احتفلت ميللر في بيتها الواقع في احدى ضواحي برلين بعيد ميلادها الـ " 70 " قالت لمراسل دير شبيغل ان كل ما كتبته ومازلت اكتبه هو الدافاع عن المظلومين واضافت ساظل أكتب حتى لو لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذا العالم يتعرض للظلم .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كل شيء عند سامي ينضح بالشعر، وكل ما يلمسه ينمو قصيدة. عرفته ونحن نركض هاربين من مخيم "كرج" بطهران، وسامي مثل عصفور يتلفت مذعوراً من كل وجه بشري. يتكسر تحت أقدامنا جليد الخوف، ونعانق مناخاً أبيض، حيث الوفر والأشجار والجبال ورؤوس البشر. تركنا الأهل في بغداد ينوحون متناثرين، يبحثون عنا في صور وأسماء الشهداء والمفقودين والأسرى، ولكن ضباط وحداتنا العسكرية يعرفون أننا هاربون، حين قرأوا ما كتبناه على أخمص بنادقنا: يا بني لو دارت المعركة، ورأيت أن جبانها يكر وشجاعها يفر فاعلم أن في الأمر ريباً.

هكذا كان يهيم في شوارع برلين، يصرح بفم الكون بعد سقوط صنم بغداد: "أنقى من الهواء دخان طاغية يحترق"!

ما أسعدك وأنت بلا أرملة، ولا يتامى. بقيت هارباً من زواج يفسد بيضاتك في كهوف درب التبانة. نهشتك الغربة بأنياب ومخالب السعالى حتى توزعت أشلاؤك في مدن المنافي، وها أنت تجمعها قطعة قطعة، لتموت بكامل وطنك، وترتاح.

بيني وبينك، حسناً فعلت وأنقذت نفسك من هذا النزيف الصاخب، وأنت ترى بغداد سبية الميليشيات، والأحزاب، وكلاب دول الجوار المسعورة تتناهش بلدك، ولا تجرأ أن تقول: (أخ)، لئلا يزعل القادة السياسيون فيوبخونك: أخجلتنا مع الجيران.

أحسدك يا سامي على نعمة الموت، فالحياة غدت فخ صبيان: أن أبقى طوال عمري ألوك حذاء عدوي، فلا أستطيع رميه ولا ابتلاعه. هكذا هي الحياة، فخ، فردة حذاء قديم لعدوك لا يفارق فمك. بل حتى فرحة سقوط صدام فخ أمريكي.

كنا نجلس في مقهى القدر، عند حافة العالم، ونلعب شطرنج الخلاص، ونغيب عن الزمان والمكان فأقول: الشعر هو أن تعجز عن قول ما تريد قوله، أن تطير اللغة وتتلاشى كلماتها وتتبخر فلا يبقى سوى روح الكلمات، وأشباح وأطياف بهذه الأرواح والكلمات المخفية، يمكن صياغتها إلى لغة أخرى مشعة، فتتكشف هنا القصيدة.

يقفز سامي ويضحك ممداً فوق الغيوم، ويقول: الشاعر العبقري هو الذي لا يعرفه أحد، ولا ينطق ويكتب حرفاً واحداً، يعيش بأحاسيسه وروحه وعقله، وبلا مبالاة يمسك حصاة ويصنع منها مركبة فضائية.

عن يقين شفاف مثل جنح فراشة كنت أعرف يا سامي أن لن يرثيك أحد سوى اثنين أو ثلاثة من الخلان،  ممن تلمسوا روحك فأزهرت أيديهم. كنت تخاف من أن تنفيك عصابة (سالاري) في مخيم كرج بطهران الى (سمنان)، فتموت وأنت حي، ويعشوشب الصبر على قدميك. كنا نحصي الجميلات الفاتنات في شوارع طهران، نتزاحم على عيونهن كي نحظى بنظرة، وتحط عصافير الغرام في أعشاش وجهينا، ودائماً نفوز بخسارة الوقت، الوقت الضائع سلفاً من جيوب حياتنا الممزقة. نتراهن على أي فتاة أجمل هذا اليوم، نحن الجياع الى نظرة شفقة من عيون لا تعبأ بكل ما حولها، ودائما نخسر الرهان في ابتسامة شامتة تفقأ عيوننا فلا نرى سوى الحب الجالس هناك بثياب رثة، تحت عمود الكهرباء في شارع "ناصر خسرو"، حب يستجدي أغنية تسقط من تقب القلب. نرى نساء بوجه صباحي، ونساء ربات بيوت، ونساء بوجه مسائي، ونساء عفيفات بوجه مريم العذراء، مع وجوه نساء مغريات تشع أجسادهن بالرغبة والإغواء، هل نحظى بامرأة تكتنز بكل هذه الوجوه؟

وبقينا نزوغ ونتملص من عصابة "سالاري"، تساعدنا كل أنواع الطيور في طهران، التي تعرف ما تحت الجُبة، وما يحدث تحت القبة، وجميع من سقط في فخ العمامة لن يخرج الا مشنوقاً، يتدلى بين السماء والأرض.

واليوم فزت بالرهان، أن لا يرثيك سوى اثنين من الخلان، وكذلك سوف أفوز غداً بالرهان على موتي حيث يتزاحم جمهور غفير من  اللامبالاة، وهذا جل أمنياتي، هناك في سرير القبر. توسَّد يا أخي نعمة التراب الوثير، واحلم بقصيدة تتزين كل ليلة على مرأة القمر، وتنام في النهار بأحضان الشوارع، قصيدة شهرزاد الأبد، لا تشيخ ولا تموت، يومياً تحكي لنا عن حبيبة سيزيف وهي تسقط من قمة اللذة إلى سفح الهيام، ويحملها بالقبلات المتلاحمة المتلاهبة حتى الوصول إلى قمة اللذة. هكذا تحلم بالقصيدة وأنت تتملص من أطفال التراب الصاخبين حولك، والمتشبثين بأذيال روحك.

آنذاك أدركت وأنا أرى سامي بأن الشعر: هو ذلك الطفل المدفون بحصى عالم الكبار، وما يزال يكافح للخروج، وإنقاذ نفسه، لاحتضان روحه حتى يكتمل لم شتات الذات.

أحسدك يا سامي وأنا مطعون أترنح، وقد شربت كأس الفقد حتى الثمالة، أقول: حسناً فعلت، فالقبر أرحم من جنة العلَّاسة والعيارين، الذين يتجارون بالأعضاء الداخلية للثقافة. لا أحد منهم يصحو في الصباح ليرى خلايا الفقراء ينبشون المزابل، ويتبعثرون في مساطر العمالة التي شبعت مفخخات وأحزمة ناسفة، فأمريكا جعلت العراق مكباً لمزابل الإرهاب. لا يصحو العلَّاسة والعيارون إلا بعد الظهر، وفي الليل يطوفون سكارى حول جيفة اللغة.

آخ يا سامي! لم تشبع من وجه أمك بغداد يوم كنت ملاحقاً من ضباع البعث، ويوم شوه وجهها الأنذال بتيزاب الدين، والقومية، وحرية أمريكا العنقودية والمنضبة. مسكين! جئت تركض من برلين، يغطي جسدك وعينيك عشب الحنين، وتحمل بيدك بلسم الحب، لكنهم صادروه، واقتلعوه بأول سيطرة جهادية.

ركضنا العمر كله يا سامي، وحين وقفت تسترد أنفاسك انفجر تحت قدميك لغم الفراق، فبقيت وحدي أركض على إيقاع الفناء، أسمع وقع خطاي في دمع القمر، ودائماً ينبع شبحك حين أتعب، فيلكزني حتى لا أتوقف. يضحك، ويحثني على الركض، ويهمس: كل وقوف موت، الجميع يركض من الذرَّة الى المجرَّة. يذوب سامي على جلدي ويدخل مساماتي، وأسمع آخر صيحة مع ضحكة: الحب ركض أبدي.

***

نصيف فلك

روائي وشاعر من العراق

اليوم أكتب عن عاشق من عشاق اللغة العربية والفلسفة الإسلامية، أحب أن استمع إليه وأقرأ له، إنه الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور الذي اتخذ من "مجمع اللغة العربية" منبرًا لأفكاره وتقاليده واتجاهاته وفلسفته في النظر إلى الأشياء، حيث تبوأ على صفحاتها مقعد المعلم والأستاذ الذي جلت مكانته بين تلاميذه، فكان أستاذ جيل، وأصل ما انقطع من رسالة الدكتور طه حسين، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور صلاح فضل في الحفاظ على جماليات اللغة العربية، فقد كان الدكتور عبد الحميد مدكور عاشقًا لها، غيورًا عليها، حظيًا بها .

وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته ومقالاته وأحاديثه ؛ حيث كان أسلوبه وكلامه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة ؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات .

وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً وأنساً مع شيء من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همسًا . ومع هذا أسلوب علمي يتضمن صياغات في ثوب أدبي رفيع قشيب.

لا أنسى كلمته بالملتقى العلمي الرابع عشر الذي عقدته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء اليوم الأحد، بالجامع الأزهر تحت عنوان: "اللغة العربية.. لغة كتاب وهوية أمة"، حيث قال : إن اللغة العربية تحتاج منا إلى جهد كبير في الدفاع عنها، وصبر وتحمل لكل ما يقال عنها على غير الحقيقة، وتُتهم به بغير عدل.. موضحًا أننا إذا حملناها وأحسنا حملها، فإننا سنرفع مقامنا برفعة مقامها، ونعلوا إلى الآفاق بعلوها، ونرتقي آفاقًا عليا في كل مجال بلسانها وفصاحتها وبلاغتها، ونغترف من بحرها العميق الذي ليس له نظير في اللغات، زيادة في مفرداته وجودة تراكيبه، وانتظام قواعده، وتفكر في البيان والجمال الذي يعرفه من أحس حلاوة هذه اللغة وذاق طعمها، وارتقى بمقامها بما يجيده منها وبما يحسن به التعلم منها.

وقد أشار الدكتور عبد الحميد مدكور، إلى أن كل التراث الإنساني تُرجم إلى اللغة العربية، ووسعته تلك اللغة وعبَّرت عن كل علومه، فهي المفتاح الذي تُدرس به سائر العلوم التي عرفتها البشرية.. موضحًا أن اللغة العربية التي تربَّت على القرآن الكريم وسُنة نبيه العظيم تفتقت على علوم ما كان للناس عهد بها قبل أن يُنزَّل القرآن الكريم، فهي تعبر عن سياق ثقافي وعلمي وإبداعي يجب أن يكون الناس عليه.. مؤكدًا أن اللغة العربية لغة فخر ومجد وعراقة وإبداع، يجب علينا أن نعود إلى أصلنا العربي، وإلى هذه الدرة الغالية التي حملناها من أجدادنا، لتكون هي المجد للإسلام وللعروبة كلها.

وخلص الدكتور مدكور إلى أن اللغة العربية لا يصح أن نقتصر في الاحتفال بها على يوم كل عام، بل يجب أن نحملها في قلوبنا، وأن نجعلها على ألسنتنا، وأن نُسكنها عقولنا وذاكرتنا، ونستحضرها في كل مقام، تعبيرًا عن مشاعرنا وتسجيلًا لخواطرنا، وبيانًا لعلومنا ومعارفنا التي نكتبها.. موضحا أن اللغة العربية تشرَّفت بنزول القرآن الكريم بها وبكونها لغة النبي الكريم.

ونظرة في سيرته العطرة فنجده أنه قد وُلد في الأول من أغسطس من عام 1942م في قرية باسوس القريبة من القاهرة، وكانت الظروف السائدة بها – آنذاك يغلب عليها الالتحاق بالتعليم الديني في الأزهر الشريف؛ ولذلك اتجه منذ وقت مبكر إلى حفظ القرآن الكريم لدى واحد من أكبر محفظي القرآن الكريم في مصر كلها، وهو الحاج فرج عبد العاطي وأتم حفظ القرآن في العاشرة من عمره، ونال لذلك جائزة التفوق على مستوى محافظة القليوبية.

ثم التحق الدكتور مدكور بمعهد القاهرة الديني في الدراسة، وهو في الحادية عشرة من عمره، وكان من أصغر الذين التحقوا به، وقد كانت الدراسة به تجري على أيدي صفوة من العلماء، الذين كان بعضهم حاصلًا على الدكتوراة، ومن هؤلاء: الدكتور عبد المنعم النمر، والدكتور موسى شاهين لاشين اللذان أصبحا وكيلين للأزهر فيما بعد، والدكتور أحمد الشرباصي الذي كان رائدًا لجمعية الشبان المسلمين والأستاذ محمد فتحي عبد المنعم. وكان وجوده بها يشجع الطلاب على الذهاب إليها، والاستماع إلى العلماء الكبار الذين يلقون المحاضرات بها، من أمثال الشيخ محمد أبي زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ محمد الغزالي، واللواء محمد صالح حرب، رئيس الجمعية وآخرين ويسر الله له طريق التفوق، فكان من أوائل دفعته، لاسيما في المرحلة الثانوية.

وقد اتجه إلى إتمام دراسته العليا في كلية دار العلوم، التي اتصل بعلومها وكتبها قبل أن يلتحق بها، وكانت أسماء أعلامها الكبار تتجلى أمام ناظريه، داعيةً وجاذبةً له إلى أن يكون من بين أبناء هذه الكلية العريقة، التي كانت تتميز من بين المؤسسات المعنية بدراسة علوم اللغة والشريعة – بجمعها بين القديم والجديد – أو ما عُرِف بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكان اتصال كثير من أساتذتها بالدراسات الحديثة في الشرق والغرب يزود أبناءها بحصيلة ثمينة من المعرفة الإنسانية الرفيعة، التي ليست متاحة – بهذا القدر – من العمق والتنوع، والجدة في غير دار العلوم، وأُضيفَ إلى هذا الرغبة في الدراسة على منهج لا يتوقف عند الطرائق القديمة، التي يغلب عليها الطابع الشكلي الذي يكتفي في أحيان كثيرة بالجوانب اللفظية للنصوص، مع التعمق في افتراض المشكلات، واقتراح الحلول، ولكنه رغب – في أن يجمع إلى ذلك الاتصال بالفكر الحديث ومناهجه المتطورة، التي كان يرجع بها هؤلاء الأساتذة الدارسون في الجامعات الأوربية، وهكذا التحق بهذه الكلية، وأسعده الله بالتفوق فيها فكان أول زملائه أو الثاني بينهم، وكان من فضل الله عليه أنه لم يتأخر عن أحد هذين الموقعين. وقد أنهى الدراسة بمرحلة الليسانس بالحصول على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1966م.

ثم اختير الدكتور مدكور للدراسة بقسم الفلسفة الإسلامية الذي كان يرأسه عميد الكلية المغفور له بإذن الله تعالى – الأستاذ الدكتور محمود قاسم، وهو أحد العمالقة الكبار الذين أنجبتهم كلية دار العلوم وقد كان ذا منزلة رفيعة بسبب شموخه العلمي، وقوة شخصيته، وتمكن النزعة النقدية لديه ونتاجه العلمي الغزير: تأليفًا وترجمةً وتحقيقًا، إلى فضائل خلقية وعلمية كثيرة، يضيق المقام عن ذكرها، وكان لهذا كله أكبر الأثر في التكوين العلمي لمن يدرسون على يديه، وقد درس كذلك على يد نخبة من أكبر أساتذة الفلسفة، ومنهم الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، والدكتور علي النشار، والدكتور محمد علي أبو ريان، والدكتور أحمد غراب، والدكتور محمد كمال جعفر. كما كان – عندما اتجه إلى دراسة التصوف- على صلة وثيقة بالدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر فيما بعد.

وفي أثناء العمل في الدكتوراه أتيحت للدكتور مدكور فرصة السفر إلى فرنسا مدة من الوقت التقى فيها بعديد من الأساتذة، وعلى رأسهم الأستاذ روجيه أرنالديز، وانتهت هذه الفترة بالحصول على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم 1980م، بدأت بعدها أعباء التدريس والقيام بالبحوث العلمية. وقام خلال عمله بمصر بتدريس الفلسفة الإسلامية فى كلية دار العلوم وفي كليات: الألسن بجامعة عين شمس، وكلية التربية بجامعة قناة السويس، وكلية الآداب بجامعة طنطا، والدراسات العربية والإسلامية بالفيوم، والآداب والتربية بجامعة المنوفية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن 2005م، وأصول الدين بجامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن 2010/2011، ومعهد الدراسات العربية بالقاهرة – العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة - العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م. انتُخب أمينًا عامًّا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ نوفمبر عام 2016م، وأمينًا عامًّا لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية منذ عام 2017م، بعد رحيل الشاعر الأستاذ فاروق شوشة.

وللدكتور مدكور مؤلفات كثيرة نذكر منها : أبو طالب المكي ومنهجه الصوفي، الولاية عند محيي الدين بن عربي، دراسات في علم الأخلاق، نظرات في حركة الاستشراق، في الفكر الفلسفي الإسلامي: مقدمات وقضايا، بواكير حركة الترجمة في الإسلام، دراسات في العقيدة الإسلامية.، نظرات في التصوف الإسلامي، في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، دروس في الفلسفة الإسلامية.. إلخ .. بالإضافة إلى مقالاته وبحوثه العديدة وتحقيقاته في الفلسفة الإسلامية وفي الدعوة إلى الإسلام وفي الدفاع عنه والتي لا حصر لها .

وقد قال عنه الدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو المجمع:"ما ذكرناه من إنتاج الدكتور عبد الحميد مدكور يكشف عن عالم محيط بالفلسفة الإسلامية بمختلف فروعها واتجاهاتها في القديم والحديث. وإنك لتجده من المناطقة حين يكتب في المنطق، ومن المتكلمين حين يكتب في علم الكلام، ومن المتصوفة حين يكتب في التصوف، ومن الأصوليين حين يكتب في الأصول، وهو في كل ما يكتب واسع الأفق عميق النظرة واضح الهدف. بيد أن ما يبهرك حقًّا معرفته الواسعة العميقة بالتصوف الإسلامي في صورتيه الفلسفية والسنية وهذا واضح في رسالتيه عن أبي طالب المكي ومحيي الدين بن عربي وواضح أيضًا في دعوته الصريحة إلى الاستفادة من تجارب الصوفية في الأخلاق وفي تحليهم بآداب الطريق. والدكتور عبد الحميد مدكور رفيق طريق في دار العلوم وفي المجمع، يحظى بحب كل من يعرفه ولهذا ندعوه فيما بيننا - نحن أصدقاءه - مولانا الصغير تمييزًا له عن مولانا الكبير الدكتور حسن الشافعي، ونحن كلنا نكنُّ لهما كل الحب والتقدير".

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقومات شخصية الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب- جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- إيهاب زغلول: عبد الحميد مدكور: اللغة العربية يجب أن نحملها في قلوبنا، الأحد، 18 ديسمبر، 2022 - 8:14 م.

2- انظر ما كتب عن عن الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة واستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الصفحة الرسمية.

كانت دار المعلمين العالية التي تأسست في بغداد عام 1923 مفخرة للتربية الراقية والتعليم الرصين، وما من مدرس وعالم وأكاديمي مرموق في العراق أو البلاد العربية، إلّا وكان يتشرف للتدريس فيها، فضلاً عن الأساتذة الأجانب، ومن بين الذين اتيحت لهم مثل هذه الفرصة في العام 1937 الباحث والكاتب المصري زكي مبارك صاحب الكتاب الشهير» ليلى المريضة في العراق»، وهو من أولى محاولات تحليل الشخصية العراقية وأزماتها، لكنه كُتب بأسلوب أديب وخيال عاشق. وعندما جاء مبارك إلى دار المعلمين العالية، وعرف أنها تعرضت للإغلاق وإعادة الافتتاح أكثر من مرة، سعى لترسيخ تقاليد علمية رصينة فيها، وإقامة النشاطات العلمية والثقافية من أجل لفت عناية الحكومة العراقية لهذا المعهد ليصبح منافساً قوياً لكلية الآداب بالجامعة المصرية، وفق ما ذكره في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «عبقرية الشريف الرضي» الذي أصدره عام  1938.

كان كتاب الشريف الرضي واحداً من أهم ثمار وجود محمد زكي عبد السلام مبارك في بغداد، وهو مجموعة المحاضرات التي ألقاها في قاعة كلية الحقوق، والتي يعدها من أشهر المواسم في حياته: « فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد، لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهوٌ ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدْر خيراً من ألف شهر»، وهو يشير بذلك إلى كتابيه النثر الفني في القرن الرابع الهجري الذي أخرجه في سبع سنين، والتصوف الإسلامي الذي أخرجه في تسع سنين. أما لماذا اختار الشريف الرضي موضوعاً لكتابه هذا الذي كان باكورة خطة اخراج الدار لكتاب سنوي عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل،، فلأنه كان يعتقد أن أدباء بغداد لم يهتموا كثيراً بشعره، مثل اهتمامهم بشعر المتنبي، بل أن العراقيين لا يعرفون مكان قبره على وجه التحقيق، وفي معرض دفاعه عن تعصبه للشريف الرضي يذكر أنه قال لعباس محمود العقاد يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: « كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي»، مثلما يقول أنه نبه طه حسين « إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث: لأن له خصائص ذاتية لا نجدها عند أولئك الشعراء»، وعندما طلب منه نادي الموظفين في القاهرة سنة 1932 أن يلقي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية، كانت محاضرته عن الشريف الرضي. كما أزعجه أن يهتم أنيس المقدسي في كتابه عن أمراء الشعر في العصر العباسي: « بأبي العتاهية وينسى الرضي، مع أن ديوان أبي العتاهية لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف « !. بل يصل في اعجابه وتعصبه لشعر الرضي إلى جعله أفحل شاعر عربي، وفي ذلك يقول: « سيرى قراء هذا الكتاب أني قد جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟ وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلّا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!. وهو كما ترون جواب توفيقي حاول فيه مبارك أن يتخلص من احراج التصريح برأيه في الشريف والمتنبي ومكانتهما الشعرية، سيما وأنه لم يؤلف كتاباً عن المتنبي حتى يوم وفاته في القاهرة أوائل العام 1952، ومع جوابه هذا يحاول أيضاً أن يقدم ما أسماه بالقول الفصل في هذه القضية، وخلاصة قوله: « أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي».!! .

 يتناول زكي مبارك في كتابه «عبقرية الشريف الرضي» مقامه بين شعراء القرن الرابع الهجري، وأعوام البؤس في حياته، وصلاته بخلفاء بني العباس وبالوزراء والأمراء والملوك، والأصدقاء والأعداء في حياته، واسرار العلاقة الإنسانية والأدبية التي ربطته بأبي إسحق الصابي، وغرائب الوفاء عند الشريف الرضي وثقافته وغرامياته وعفافه وحجازياته. كما يتناوله كاتباً ومؤلفاً، وأهم ما تركه لنا في هذا الباب، جمعه وترتيبه لكتاب « نهج البلاغة «. كما يشرح الأحوال الثقافية في بغداد وصورتها في ذلك القرن، وهي صورة تتمثل في قول الصاحب بن عباد في خطابه إلى ابن العميد : بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد، و» وقد شاءت الظروف أن يعيش الشريف الرضي في القرن الرابع، وبعقل القرن الرابع، وشاءت الظروف أيضاً أن يكون من أسرة لها في العلم والأدب ماض جميل، ثم قضت بأن يكون الشريف الرضي نقيب الأشراف في زمن لم يكن فيه للأشراف عرش ولا تاج، وإنما كان لهم مجد العلم والأدب والبيان». وكان زكي مبارك يظن أن بغداد، لا تعرف جيداً المكانة الشعرية لشاعرها الفقيه الشريف الذي ولد في بغداد وفيها عاش حتى وفاته عن 46 عاماً، كما كان يظن أن هناك من يأخذ عليه مثل هذا الاهتمام والتعصب للشريف الرضي .

« سيذكر أدباء بغداد أنني أحييت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق، سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية، حين اهتممت بشاعر كان أصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد «. هكذا يكتب زكي مبارك .

***

د. طه جزّاع

رحم الله الصديق الباحث الادبي الراحل محمود رجب غنايم (22 أيار عام 1949 وتوفي يوم الجمعة 13 آب عام 2021)، فقد كان دارسًا جادًا وباحثًا مميزًا، وزّع اهتماماته العلمية على جبهتين هامتين جدًا، هما: التعليمية والبحثية. في الجبهة الاولى تخرّج على يديه البيضاوين السخيتين المئات وربما الآلاف من الطلاب المتأثرين بمنهاجيته العلمية الصارمة، التي استقت نسغها من منهجية أخرى مميزة تمثّلت في منهجية استاذه الصديق المرحوم ساسون سوميخ، وتنمّت عبر مجهود خاص تواصل طوال أيام حياته ولياليها لتطوير الذات ومدّ أبناء الاجيال الطالعة الجديدة بكلّ ما هو منهجي وعلمي.. لا يرضى بالقشور الخارجية للأشياء وإنما يتغلغل في أعماقها ليكشف عن مكنوناتها وخفاياها، أما على الجبهة الاخرى فقد قدّم الراحل الكريم اجتهادات مميزة تمثّلت في دراساته العلمية الرزينة التي حرص على إصدارها في كتب محبةً لها وخشية عليها من إلا تصل إلى عناوينها الصحيحة وربّما رغبة في بقائها شاهدة على أنه كان هنا وأراد أن يُقدّم ما يفيد الناس مبتعدًا عن كلّ غثاء.

لن أتحدّث هنا عن جبهته الاولى، فقد كفّى طلابُه من عارفي فضله ووفوا، ونشروا، منذ انتشار رحيله المؤسي، العشرات من الشهادات وكلمات الرثاء، وإنما سأتحدث عنه دارسًا وباحثًا رافقته خلال مسيرته المديدة مع الدراسة والبحث، منذ بداياته الاولى في أوائل السبعينيات حتى لحظاته الاخيرة.

كما اسلفت، عادت علاقتي بالراحل الكريم إلى بداياته الاولى وأذكر في هذا المجال أنني كلّما كنت أزور صديقي الشاعر الراحل ابن عمه محمد حمزة غنايم، كان هذا الاخير يقترح علي أن نتوجّه لزيارته في بيته القائم قريبًا من مدخل بلدته باقة الغربية، فكنّا نتوجّه إلى هناك لنلتقي بعدد من الأصدقاء، منهم من رحل ومنهم من بقي ومنهم من أقعده المرض، ونأخذ في التحدث في امور الادب والادباء حتى ساعات متأخرة من الليل، واذكر من اصدقاء تلك السهرات كلًا من الصديقين المرحومين فاروق مواسي وجمال قعدان – الاصمعي. منذ اللحظات الاولى لعلاقتي به أيقنت أنني إنما التقي انسانًا جادًا مجتهدًا ، ويبدو أنه هو أيضًا رأى فيّ شيئًا مما رأيته فيه، ما وطّد العلاقة بيننا أكثر فأكثر.

كتب فقيدنا وأصدر خلال عمره العديد من الابحاث والدراسات، أشير إليها للشهادة والتوثيق نقلًا عن الموسوعة الالكترونية ويكبيديا .. هي: 1980 "بين الالتزام والرفض - دراسة في شعر عبد الرحيم محمود". * 1987 في مبنى النص": دراسة في رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، *1992تيّار الوعي في الرواية العربية الحديثة"- دراسة أسلوبية*. 1995المدار الصعب- رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل". *2000 "مرايا في النقد- دراسات في الأدب الفلسطيني". * "2004 الجديد في نصف قرن- مسرد ببليوغرافي". * 2008 The Quest for a Lost Identity: Palestinian Fiction in Israel. * "2015غواية العنوان: النص والسياق في القصة الفلسطينية". * 2015- The Lure of the Title: Text and Context in Palestinian Fiction, 1948-2012.* بالإضافة إلى عشرات المقالات في المجلات المتخصّصة بالعربية والعبرية والإنجليزية. نشر غنايم مقالاته حول الأدب العربي الحديث في العديد من الصحف والمجلات المحلّية والعربية والعالمية: في صحيفة "الأنباء" و"الاتحاد" ومجلة "الشرق" و"الجديد" و"لقاء" و"مشاوير" و"الكرمل" (جامعة حيفا) و"المواكب" و"مواقف" و"مشارف" و"המזרח החדש" و"الناقد" و"أدب ونقد" وPoetics Today, Arabic and Middle" " Eastern Literatures وغيرها. كما شارك في تحرير عدة مجلات أدبية في فترات مختلفة، مثل: "الجديد"، "لقاء"، "الشرق"، وبقي حتى يوم رحيله عضوًا في هيئة تحرير سلسلة "دراسات عربية وإسلامية"، التي تصدر عن قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب، ومحررًا لمجلة" المجلة" التي تصدر عن مجمع اللغة العربية في حيفا.

*بعد رحيل صديقي الشاعر محمد حمزة غنايم توقّفت اللقاءات مع فقيدنا الغالي محمود غنايم، لتتواصل عبر هذا اللقاء الادبي أو ذاك، وقد توزّعت على جانبين أعترف أنهما اثلجا صدري وأثارا سروري، أحدهما خلال تولّيه منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب عام 1985 خلفًا لأستاذه ساسون سوميخ طيّب الله ذكراه، والآخر عبر دراساته ومؤلفاته القليلة لكن كبيرة الفائدة، فقد وجّه في الجانب الاول العديد من طلّاب قسم اللغة العربية لدراسة بعض مما انتجته في المجال السردي، وبرز من هؤلاء الطالبة الفنانة التشكيلية المجتهدة مها أبو حسين، أما في الجانب الآخر، فقد كان كثيرًا ما يفاجئني بالإشارة العارفة المطّلعة والمدركة إلى وجودي كاتبًا قصصيًا مجتهدًا، وهو ما سبق واشار إليه في العديد من الدراسات والابحاث الصديق ساسوسون سوميخ، وقد كان من أوائل من التفتوا إلي وإلى إنتاجي السردي، فكتب عن مجموعتي القصصية " جبل سيخ"، وخصّ قصتي "الكنز" بإشارة خاصة، لافتًا إليها الانظار، وأذكر أنه يوم اهداني كتابه " المدار الصعب"، وبعده بسنوات مديدة كتابه " غواية النص"، قال لي بالحرف الواحد، اقرأ هذا الكتاب ففيه لك نصيب الاسد.

للتأكيد أكرّر ان المرحوم كان في كلّ ما مكتبه دارسًا جادًا وباحثًا مميزًا، ولفت اهتمامي منذ اللحظات الاولى لقراءتي دراساته أنه يواصل السير على خطى استاذه المرحوم الدارس المبدع ساسون سوميخ، لا سيما في رأيه ان العديدين من الساردين العرب في بلادنا انما يكتبون وعينهم على النقاد في العالم العربي، غير أنه ما لبث أن تعمّق في دراساته هذه فاستقل بآرائه المتوغّلة في أعماق النصوص المدروسة ليستخرج منها ما يراه ملائمًا ومناسبًا من ملاحظات لا أخفي أنني كثيرًا ما اختلفت معه فيها، إلا أنني لم امتلك إلا أن احترم اجتهاده المخلص الخاص، ومما اعترف بتقديري له من هذه الآراء واقرّ باختلافي فيه معه أيضًا، أنه رأى في مجموعتي "جبل سيخ"( صدرت عام 1989)، نوعًا من التقوقع في جرح التهجير الفلسطيني وهذا تعبيره حرفيًا، فيما ضمّته المجموعة من قصص، وهو ما اختلفت معه فيه وأذكر أنني أوضحت موقفي منه في أكثر من مناسبة وكتابة وتمثّل هذا الموقف/ الرد، في أن الكاتب لا يمكن أن يبتعد مهما حاول عن واقعه المحيط به وجراحه الخاصة بشخصه، أضف إلى هذا أن الكاتب لا يملك أكثر من حياة واحدة وتجربة واحدة ليكتب بعيدًا عن ذاته وهمومه الشخصية الخاصة به، وهو ما ردّ به الكاتب الامريكي المبدع ارنست همنجواي عندما واجه موقفًا نقديًا مماثلًا. اختلفت أيضًا مع الفقيد في رأيه حول الشعارية – نسبة إلى الشعارات- في "جبل سيخ"، ففي حين رأى هو أن المجموعة ضمّت شيئًا من الشعارات، رأيت في المقابل أنه ليس المهم أن ما ينطق به شخوص القصص يقارب الشعارات، وانما الاهم هو أن تكون تلك الشعارات، إذا صدقت الصفة، موظفةً في خدمة النصّ وفي سياقه، وقد اعتمدت في رأيي هذا على أن النص السردي يُعتبر في المجمل وحدةً واحدة واننا يُفترض عند دراستنا له وبحثنا فيه ألا نبتعد عن هذا.

مهما يكن الامر، أجمل فأقول، إن المرحوم كان فعلًا لا قولًا فحسب، دارسًا جادًا وباحثًا ادبيًا مميزًا، لهذا أقول في ذكراه الثانية.. ان خسارتنا فيه جاءت مضاعفةً وضربةً موجعةً. الراحل الغالي محمود غنايم. سيفتقدك طلابك، وسوف يفتقدك اصدقاؤك اكثر.. وانا واحد منهم.. فنم قرير العين.

***

ناجي ظاهر

في يوم صدور الطبعة الثالثة لديوان الكرخي 20 آب 1988 زارني السيد حسين حاتم حفيد الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي ليهديني نسخة منه، وهو الذي عنى بجمعه وطبعه في أربعة أجزاء، ولم يُكتب له أن يكمل بقية الأجزاء فقد وافاه الأجل في شباط 2007 .لم يكن الراحل حسين الكرخي وفياً لتراث جده فحسب، إنما أولى عناية فائقة بتقديم شروحات وافية لكل قصيدة ومناسبتها مع هوامش لشرح بعض الكلمات والالفاظ التي يصعب على القارئ غير البغدادي فهمها، وهو الخبير باللهجة البغدادية واصدر فيها كتابه «مجالس الأدب في بغداد» مع كتاب آخر عنوانه « أصول الألفاظ البغدادية الخارجة عن التداول» الذي سلمه ورثته إلى دار نشر عراقية مرموقة بعد تعاقدهم معها منذ سنوات وضاع أثره ولم يصدر إلى يومنا هذا. والحق فإن ديوان الملا عبود الكرخي يُعد مرجعاً لا غنى عنه لمعرفة الأحوال السياسية والاجتماعية المحتدمة لاسيما في حقبة تأسيس الدولة العراقية والعقود اللاحقة التي بزغ فيها نجمه حتى وفاته في العام 1946، وكذلك لمعرفة طبيعة العلاقات بين الساسة والبرلمانيين والأدباء والشعراء والصحفيين والأحزاب في العهد الملكي، فقد كان الكرخي وطنياً صلباً ومعارضاً شرساً لكل أشكال الاستعمار والهيمنة والتبعية والفساد وثائراً ضد المعاهدات التي تخل بالسيادة، سواء في شعره التهكمي الساخر اللاذع، أو في الصحف التي أصدرها « الكرخ « و» الكرخي» و» الملا « و» المزمار»، وكانت له رسائل ومساجلات ومجاملات عديدة مع رجال عصره المتنورين أمثال جميل صدقي الزهاوي والأب انستاس ماري الكرملي وفهمي المدرس ومعروف الرصافي وعلي الشرقي ومحمد بهجة الأثري ورفائيل بطي وغيرهم، هي بمثابة شهادات بحق الملا وشخصيته المبهرة.يكتب فهمي المدرس عام 1933 عن الكرخي بأن أسلوبه جمع بين لغة العوام وما يقارب اللغة الفصحى تدريباً للعوام على الفصيح من القول، وهو أسلوب حديث في الأدب العالمي، فيما وجه الزهاوي في العام 1932 قصيدة « إلى شاعر الشعب» يقول فيها: (عبود) ان عُدت الافذاذ في بلد / فأنت في أول الأفذاذ معدود. ويطلق عليه رفائيل بطي لقب أمير الشعر العامي، ويخاطبه الأب الكرملي في رسالة شخصية قائلاً: سيدي الأستاذ المحبوب الملا عبود الكرخي عمره الله، مع أن هذا الذي يخاطبه الكرملي بكل هذا الاجلال والتقدير متعلم تعليماً بسيطاً بحيث يحسن القراءة والكتابة ولذا ترى على شعره مسحة من اللهجة الفصحى كما يقول الرصافي، ويضيف: وشعره المسموع اذا هو أنشده أشد تأثيراً في النفوس من شعره المقروء في الصحف وهو على الهزل أقدر منه على الجد، ويوجه له أبياتاً عنوانها « إلى شاعر الأمة « يبدأها بالقول: لله درك يا (عبود) من رجلٍ/ يا رافعاً في القوافي راية الزجلِ. بل أن المطرب محمد القبانجي قال بأن أحمد شوقي طلب منه أن يغني شيئاً من الشعر الشعبي العراقي، فقرأ له أبياتاً من «المجرشة» فما أن استوعبها شوقي حتى جن لسحرها وروعة بلاغتها وأبياتها فطلب المزيد « فغنيتُ : ساعة واكسر المجرشة / والعن أبو راعي الجرش». ويقال أن القبانجي عندما وصل في غنائه إلى «هم هاي دنيا وتنگضي / واحساب أكو تاليها»، همس له شوقي» ده عتاب شريف مع الرب يا محمد». لو كان الملا عبود يعلم بأن فكرة عمل تمثال له قد طُرحت مطلع السبعينيات، وان امانة العاصمة قررت في العام 1985 وضع التمثال قرب بيته بمنطقة الشواكة، لكن ذلك كله لم يتحقق فعلاً حتى اليوم، لكتب قصيدة ساخرة لاذعة على سياق: ساعة واكسر المجرشة / وانحر على طرّة (عفچ)!، وبالمناسبة فإن القصيدة المتداولة كثيراً هذه الأيام عن البرلمانيين ولازمتها « قيم الركاع من ديرة عفچ « منسوبة خطأً إلى الملا عبود، وهي في الحقيقة للشاعر سامي عبد المنعم الذي نسج على منوال قصائد الكرخي. والحديث عن الملا يطول، أما مناسبته فهو تواصلي مؤخراً مع صديق عزيز نسيب لأسرته، من أجل اهداء مكتبة المرحوم حسين حاتم عبود الكرخي إلى المركز الثقافي البغدادي لتكون في متناول الباحثين والقّراء .

***

د. طه جزّاع

روبرت أوبنهايمر (1904/1967)أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين يعود إلى واجهة الأحداث العالمية عبر الفيلم السينمائي الذي سيخرج إلى صالات العرض يوم 21 يوليو 2023 تحت عنوان"أوبنهايمر" من كتابة وإخراج كريستوفر نولان والفيلم يحكي قصة العالم الشهير المقتبسة عن كتاب السيرة الذاتية "بروميثيوس الأمريكي انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر" الذي ألفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج . شيروين واقتضى أكثر من عشرين عاما من الإعداد حتى استحق جائزة بوليتزر الأمريكية وقالت اللجنة بشأنه (في هذه السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر نتعمق في شخصية إحدى الشخصيات البارزة في القرن العشرين وهو فيزيائي لامع قاد جهود بناء القنبلة الذرية لبلاده في زمن الحرب والذي وجد نفسه في وقت لاحق في مواجهة العواقب الأخلاقية للتقدم العلمي).3565 اوبنهايمر

إنه يغوص في قصة صعود العالم وسقوطه وهو المعروف بالطموح والنجاح العلمي في مواجهته للسياسة الأمريكية ببراغماتيتها ومكيافليتها، إذ لما تغلب فيه صوت الضمير وانحاز للجانب الإنساني على مطامح الشهرة والنجاح انتهى نهاية فريدة بين العلماء وكأنه بروميثيوس قابس النار الذرية التي أشعلها ثم احترق بنارها وكان أحد ضحاياها في خاتمة المطاف. وكأننا بهذا الفيلم المقتبس عن هذه السيرة نغوص في أعماق التاريخ الحديث من تطور العلم إلى الحرب العظمى إلى الحرب الباردة وأسندت البطولة إلى الممثل الأيرلندي كيليان مورفي في دور أوبنهايمر في حين أسند دور الزوجة كيلي إلى الممثلة إيميلي بلنت ويفاجئ الفيلم متابعيه بانفجار نووي بلا مؤثرات بصرية وقد كلف أكثر من مئة مليون دولار ويوزع بواسطة شركة يونفرسال بيكشرز وسيحتاج إلى 400 مليون دولار لتحقيق أرباح في جميع أنحاء العالم.

فمن هو هذا العالم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وجعلت هوليود من سيرة حياته فيلما تتطرق من خلاله إلى أهم أحداث القرن العشرين فضلا عن تعمق الجوانب النفسية والإنسانية والسياق التاريخي الذي عاش فيه هذا العالم؟

أوبنهايمر اليهودي والألماني الأصل ولد في نيويورك عام 1904 لأب تاجر ثري وأم فنانة تشكيلية أظهر تفوقا منذ صغره وولعا بدراسة الفيزياء ونال البكالوريوس من هارفارد عام 1925 كما درس بكامبريدج وكان من مدرسيه العالم الشهير طومسون وأخيرا حط الرحال بمدينة العلم غوتينغن في ألمانيا وبجامعتها التي مر عليها 45 عالما من حملة جائزة نوبل، درس على يد العالم الشهير ماكس بورن وأشرف بورن شخصيا على أطروحته للدكتوراه عام 1927 وربطته في غوتينغن صلات فكرية وعلمية بماكس بلانك وهايزنبرغ وأينشتاين ليتقلد حين عودته إلى أمريكا منصبا أكاديميا مرموقا في جامعة كاليفورنيا بيركلي ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيات وتعرف له مساهمات وأبحاث في ميكانيكا الكم منها تقريب بورن- أوبنهايمر ودراسات عن النجوم النيوترونية والثقوب السوداء التي تنبأ بوجودها عام 1935، فهو باختصار الأب المؤسس للمدرسة الأمريكية للفيزياء النظرية ويطلق عليه كذلك لقب أب القنبلة الذرية.

وكان أينشتاين قد وجه رسالة إلى الرئيس روزفلت يؤكد له فيها حقيقة الانشطار النووي وسعي النازيين إلى امتلاك السلاح الذري وأنهم جادون في ذلك، وإذا لم تبادر أمريكا إلى امتلاكه فسيكون الأوان قد فات، وتعد هذه الرسالة من العالم الشهير جرس إنذار جعل روزفلت يحث الخطى ويسابق الزمن للمضي قدما في تنفيذ رغبة أينشتاين التي تحولت لاحقا إلى ما يعرف باسم مشروع مانهاتن عام 1943 وهو الاسم الرمزي لإنتاج القنبلة الذرية بتعاون من كندا وإنجلترا في صحراء لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو، وجند للمهمة السرية والخطيرة أكثر من 1500 عالما في الفيزياء والكيمياء ومن ضباط من الجيش في سرية شديدة قصد إنتاج البلوتونيوم وعهد إلى أوبنهايمر بتوصية من أينشتاين إدارة مختبر لوس ألاموس .وفي 16 يوليو 1945 نجح أوبنهايمر مع فريقه في إنتاج أول سلاح غير معروف في ذلك الوقت ، إنه السلاح الذي قدر له أن يحسم أمر الحرب العالمية الثانية ويضع مستقبل البشرية على شفير الهاوية وحضرمع أينشتاين وفيرمي أول تفجير ذري في تلك الصحراء في اختبار ترينيتي الذي أطلق عليه أوبنهايمر نفسه هذا الاسم مستوحيا إياه من قصيدة للشاعر الإنجليزي جون دون وقد كان الانفجار مهولا ومرعبا فقد تحرر المارد النووي من قمقمه ووضع مصير البشر على المحك، هذا المصير الذي سيكون محفوفا بالمخاطر والمخاوف ويروى أنه قال لحظة الانفجار( الآن أصبحت الموت مدمر العوالم).

ولم ينتظر ترومان طويلا فقد كانت قنبلتان جاهزتين "الرجل البدين" و"الولد الصغير" وحسما للحرب وإرغاما لليابان على الاستسلام تقرر إلقاء القنبلة الأولى على هيروشيما والثانية على ناغازاكي مما اضطر اليابان إلى الاستسلام وأسدل الستار على إحدى أكثر الحروب البشرية دموية وهولا وتدميرا على مدار التاريخ.3566 اوبنهايمر

عين أوبنهايمر بعد الحرب مديرا لمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون ورئيسا للجنة الاستشارية لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية لكنه بعد نجاح تجربة إلقاء القنبلتين على المدينتين اليابانيتين ورؤية حجم الرعب والدمار الذي حاق بهما والمستقبل القاتم الذي ينتظر البشرية جراء السباق النووي-الذي سيكون مسارا حتميا بسبب انقسام العالم إلى كتلتين متنافرتين - غلب الجانب الأخلاقي والإنساني على حساب مكيافيلية السياسة وذرائعيتها كما انتصر لذاته الإنسانية ولضميره الأخلاقي فانخرط بعد ذلك للضغط من أجل السيطرة الدولية على السلاح الذري ومنع السباق النووي بمعية أينشتاين وراسل وكان رأيهم وضع السلاح الذري في يد هيئة دولية ومنع انتشاره لكن ترومان كان غاضبا منه ويروى أنه قال بشأنه( لا أريد أن أرى ابن العاهرة في مكتبي) وتعرض لمضايقات بعد معارضته إنتاج القنبلة الهيدروجينية ومنع من الوصول إلى الأسرار العسكرية خلال لقاء حكومي (1949/1950) وجاءت المكارثية نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي لتزيد من متاعبه وقد اتهمه مع لفيف من العلماء بالميول الحمراء والتآمر والخيانة وضمت القائمة 205 عالما وشخصا نافذا منهم أينشتاين نفسه وكثير من هذه الاتهامات لم تكن مؤسسة وسميت المكارثية بالإرهاب الثقافي أو الرعب الأحمر الثاني بعد الرعب الأحمر البلشفي الأول واتهم أوبنهايمر بالولاء للشيوعية لمجرد أن زوجته كانت شيوعية وانتهى الأمر بتجريده من التصريح الأمني وفرض عزلة أكاديمية عليه ليعيش كئيبا ووحيدا مستسلما إلى التدخين الشره والتفكير في مأساته وفي مصير العالم والغريب أن أوبنهايمر مرغته السياسة في أوحالها وهو المعروف بالعزوف عنها حتى إنه لم يدر بالأزمة الاقتصادية العالمية 1929 لانخراطه في البحث وعزوفه عن مطالعة الجرائد ويأتي تجريده من نفوذه السياسي وحصاره ثم رفض عمل ابنته كمترجمة بالأمم المتحدة وتكرار التهمة بالتعاطف مع الشيوعيين لعزله عن التأثير بعد معارضته الشديدة إنتاج القنبلة الهيدروجينية ولإسكات صوته الرافض لخطر انتشار السلاح النووي وعلى الرغم من أن كينيدي وجونسون حاولا رد الاعتبار له بمنحه جائزة فيرمي وتبرئة اللجنة له من تهمة الخيانة والتآمر ودفاع العلماء عنه، إلا أنه عاش تتجاذبه مختلف المشاعر كالإحساس بالهوان والكآبة والخذلان والندم حتى مات بسرطان الحلق عام 1967 ليسدل الستارعلى حياة واحد من ألمع العقول العلمية وشخصية جدلية تضاربت حولها الآراء جمع في إهابه بين طموح العلم ونوازع النجاح والتفرد فهو فاوست القرن العشرين الذي باع نفسه للشيطان وإغراءات السياسة ليواجه ضميره الأخلاقي وواجبه الإنساني في نهاية المطاف ويعيش مأساة حقيقية على حساب أعصابه وكيانه الروحي.

كتب آرثر ميلر في مذكراته "انحناءات الزمن" على إثر لقاء جمعه بأوبنهايمر في الستينيات قبل رحيله فوصفه بأنه شديد المرارة والحزن ويائس من كل شيء وليس بسبب المرض بل من الاكتئاب بعد إلقاء السلاح الفتاك على هيروشيما وناغازاكي فقد كان يعتقد أنه صاحب مسؤولية عما حدث، أي مسؤوليته كعالم في وضع السلاح في يد الساسة الذين يفكرون بمنطق مخالف لا يضعون في حسابهم الجوانب الإنسانية والأخلاقية.

بينما هو تغلب فيه صوت الضمير بعد بريق النجاح الأول كعالم وصل إلى تنفيذ فكره وتحقيق مبتغاه مدفوعا مثل أينشتاين بهاجس قطع الطريق على النازيين حتى لا يمتلكوا هذا السلاح لكن اكتشف فيما بعد أن ترومان من أجل إنهاء الحرب وتهديد السوفييت لم ير بأسا من تدمير مدينتين فالغاية تبرر الوسيلة، لقد كان ترومان مرعوبا من فكرة امتلاك السوفييت للسلاح النووي بعد ضبط كثير من الجواسيس وقد أعدمت أمريكا مواطنين أمريكيين هما يوليوس روزنبرغ وزوجته إيثل عام 1953 واتهمتهما بالتجسس لصالح الشيوعية ولعب العالم الألماني كلاوس فوكس دورا في نقل الأسرار النووية إلى السوفييت عن طريق أشهر جاسوسة في التاريخ أورسولد ماريا كوتشينسكي "سونيا" التي نقلت 570 وثيقة من أسرار القنبلة إلى السوفييت تسلمتها من فوكس العالم النووي الذي شارك في تجارب لوس ألاموس وكان هدفهما غير تجاري هو وضع السلاح الذري في يد جهة أخرى لتحقيق التوازن ولمنع أمريكا من التفرد بامتلاكه .

قصة أوبنهايمر قصة عالم جمع في إهابه بين نبوغ العبقري وتوهج العالم وطموح الإنسان في تحقيق أهدافه لكنه اصطدم برغبة الساسة التي لا تعرف أخلاقا ولا حدودا ولا قيما إلا المكاسب السياسية فراح ضحية تلك الأطماع وانتهى كنثرة رماد حزينة .

***

إبراهيم مشارة

لا أتذكر أين قرأت هذه العبارة التي يقول صاحبها إن: "القراءة فعل من أفعال الحياة الخاصة"، هذه الحياة التي نتعرف من خلالها على كُتاب لن نراهم، لكننا نتعلق بهم ونحبهم ويصبحون جزءاً من حياتنا، وفي كثير من الأحيان لاتهمنا العبارة التي يضعها المؤلف في بداية كتابه، مثلما فعل غوستاف فلوبير في مدام بوفاري: "كل شخصيات هذا الكتاب متخيلة، والبلدة التي عاشوا فيها لاوجود لها في الواقع"، لأن قراء مدام بوفاري على مدى أكثر من مئة وخمسين عاماً منذ أن نُشرت الرواية عام 1856، يؤمنون أن هناك سيدة في هذه البلدة قد أنتحرت بسبب الآم الحب، واليوم فأن زوار المدينة التي عاش فيها فلوبير يجدون لافتات تدعوهم لزيارة قبر مدام بوفاري. يقول التركي الحاصل على نوبل أورهان باموق: " أن تحمل كتاباً معناه أنك تمتلك عالماً آخر، عالماً يمكن أن يجلب لك السعادة".

ربما تكون مثلي قد قرأت ذات يوم نصيحة غوستاف فلوبير التي يقول فيها: " لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، أقرأ كي تعيش". ولعل معظمنا يبدأ أولى خطواته في القراءة منطلقين من الفضول لمعرفة ماذا تخبيء هذه الصفحات، وكثير من القراء يؤمنون بمقولة: اقرأ من أجل المعرفة. ينصحنا الفيلسوف " ديكارت" بإعداد قوائم لتحديد الكتب التي يجب أن نقرأها، كتمرين من تمارين العقل وإستكشاف العالم ويكتب هذه النصيحة: " إن قراءة الكتب هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية ". كان ديكارت مصاباً بأمراض في الصدر، وقد نصحهُ الأطباء بإراحة جسمه، فاجازوا له البقاء في الفراش طويلا، ما ساعده على الاهتمام بقراءة الأدب الكلاسيكي او كما يخبرنا هو: "لأقوم بجولات فكرية في الماضي السحيق، فآخذ بطرف الحوار مع النبلاء الطاعنين في السن".

تمثل القراءة إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر، وكل شيء بدأ عندي أشبه برحلة. ذات يوم وأنا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي. عندما أسترجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية.

كنت وأنا أدخل المكتبة، ألتفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر ان هذه الكتب تنظر ألي وإنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها، وأحيانا أتخيل أن كل كِتاب يَخفي داخله عالماً سحرياً لا نهاية له

يكتب أرنستو ساباتو في الكاتب وأشباحه إن: "القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق ".

في ظهيرة يوم ممطر من شهر تشرين الثاني عام 1895، وقف أوسكار وايلد بانتظار القطار الذي ينقله الى السجن، كان قد حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عامين بتهمة الأفعال الفاضحة، شاهد المارة الكاتب الشهير مكبل اليدين، في السجن تمت مراعاة مكانته فكلف بمهمة مساعد أمين المكتبة، مما أتاح له فرصة نادرة للحديث مع السجناء عن موضوع محبب الى نفسه، وهو القراءة. في الوقت نفسه أخذ يقدم نصائح ممتازة عن الكتب لمن يريد أن يقرأ من السجناء.

التقارير التي كانت تقدم عن وايلد في السجن تقول انه كان منهمكاً في إعادة قراءة الكلاسيكيات المحببة الى نفسه، فقد طلب أن يحصل على سبع كتب أبرزها الكوميديا الإلهية لدانتي، ويكتب في رسالة الى شقيق زوجته إن: "الحرمان من الكتب فظيع مثله مثل الحرمان الجسدي في حياة السجن الحديثة، هذا الحرمان الجسدي لا يُقارَن بالحرمان التام من الأدب بالنسبة لشخص كان الأدب له أهم شيء في الحياة، الشيء الذي يمكن من خلاله إدراك الكمال، ومن خلاله وحده يمكن للعقل أن يشعر بأنه حي".

وفي عريضة قدمها الى وزير الداخلية شرح وايلد معاناته من نقص الكتب التي هي اساسية لكي يحافظ الانسان على توازنه العقلي. وقد سمحت له ادارة السجن بقراءة كتابين في الأسبوع، ولكن مكتبة السجن صغيرة جدا، فتم السماح له بادخال كتب جديدة، فطلب روايات غوستاف فلوبير وكتب ارنست رينان، وبعض مؤلفات شكسبير ورواية ثيربانتس " دون كيشوت "، وكتب سبينسر واشعار كيتس ومؤلفات افلاطون ونسخة من الانجيل، ومجلد يضم أعمال من المسرح الاغريقي، ونسخة من ألياذة هوميروس، ويكتب في احدى رسائله إن: " "الكوميديا الإلهية" لدانتي فوق كل الكتب ساعدته على فهم العالم البشع للسجن، لقد قرأت دانتي من قبل كل صفحة فيه، لا المطهر ولا الفردوس كانا يعنياني... ولكن الجحيم! ما الذي يمكنني فعله سوى أن أعجب به؟ الجحيم، ألم نكن ساكنين فيه؟ الجحيم: كان هو السجن".

بعدما قضى العام الأول من مدته، وضع وايلد مقترحات بشأن أفضل الكتب التي على السجناء الاطلاع عليها، وقد قسم قائمته الى ثلاثة اصناف من الكتب.

يضم القسم الاول الكتب الواجب قراءتها ويضع وايلد الكوميديا الالهية والياذة هوميروس ودون كيشوت في المقدمة بعدها رسائل شيشرون وكتاب رحلات مارك بولو ومذكرات سان سيمون ورواية مدام بوفاري وصومعة بارما لستندال.

أما القسم الثاني فيضم الكتب التي تستحق أن تُقرأ مثل مؤلفات افلاطون ودواوين كيتس وكتاب دليل المرأة الذكية لبرنادشو.

الى جانب هذين القسمين يضيف وايلد قسماً ثالثاً وهو يخص الكتب التي يجب ان لاتُقرأ، وهو يقول: " مثل هذه القائمة بالكتب السيئة ضرورة مهمة، خصوصا اننا نعيش عصر يقرأ كثيرا الى حد إنه لم يعد له الوقت ليتعجب ويفكر، ويطالب كل قارئ كتب أن يضع قائمة بأسوأ مئة كتاب ليجنب الشباب فوضى القراءة غير النافعة ".

من بين كل الزائرين للمكتبة التي كنت أعمل فيها، أعتقد أن لا أحد منهم يشبه شغف الروائي فؤاد التكرلي بالكتاب. قال لي يوماً أنا أحب الكتب التي تعيش طويلاً مع القارئ، وحين شاهد حيرتي أضاف مبتسماً: عليك أن تعرف إن للكتب أيضاً حياة مثل الإنسان، فهناك كتب تعيش حياة طويلة وأخرى لها حياة قصيرة، وأشار الى رواية آنا كارنينا الموضوعة على أحد الرفوف: هذا الكتاب استطاع أن يصمد طويلاً أمام متغيرات الزمن لأن تولستوي فيه استطاع أن يغوص في داخل النفس البشرية

تكتب فرجينيا وولف في مقالة بعنوان " كيف نقرأ كتاباً كما يجب ": " من البساطة أن نقول بما أن للكتب تصانيف، فيجب علينا أن ننتقي من كل صنف ما هو مفيد وخليق بأن يمنحنا الجديد. يبقى هناك الذين يسألون عما تعطينا إياه الكتب. غالباً ما نأتي الى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة ضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبرياءنا. إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب. لاتُملِ. إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقا في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه".

يمكنني أن أتذكر الأنفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918، وجهتها الى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الانسان..اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته، بيت بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة: " هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد ".

منذ أكثر من اربعين عاماً، أجد نفسي كل جمعة أذهب الى شارع المتنبي، مثل محب يذهب للقاء محبوبته، دون أن يدري ما المفاجأة التي بانتظاره، وفي كل مرة كنت اشعر بنشوة غريبة لحظة النظر الى الكتب، وغالباً ما كانت الأغلفة تقذف بي الى عالم مجهول، بينما كنت أرغب بكل كياني أن أغور في أعماق هذه الكتب، وحين أتمكن من الحصول على كتب جديدة، يبدأ قلق آخر، البحث عن عناوين جديدة آخرى ، كنت أًبحث في رفوف المكتبات مرهوباً بالأسماء، هذا تولستوي وذاك ايمانويل كانط، هنا يقف جان جاك روسو الى جانب هنري برغسون، من بعيد ينظر اليهم سارتر ساخراً، فيما فكتور هيجو لاتحلو له الصحبة الى مع بلزاك. في زاوية ما يقبع الجاحظ فيما يندب ابو حيان التوحيدي حظه، كنت مثل طفل ضائع وسط غابة كبيرة، يتطفل النظر في وجوه الآخرين، شعور بالسعادة يغمرني، وأنا أمارس لعبة بعث الكُتاب الموتى من قبورهم.

الآن بعد كل هذه السنوات أسال نفسي ما الذي استفدته من القراءة عندما كنت صبياً، لقد أطلقت هذه الكتب العنان لمخيلتي، ومنحتني عالما جميلاً، منسجما، وأيا كانت مكاسبي من القراءة، فانها ستظل الشيء الوحيد الذي لايزال يسحرني، يكتب هنري ميللر إن الخيال هو طريقة غير مباشرة للإقتراب من الحياة، ولإكتساب رؤية شاملة للكون".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

...................

* (نظرا للأهمية الكبرى للكتب في حياة الإنسان، تم تحديد أكثر من يوم في العام للاحتفال بالقراءة والكتب وما يتعلق بها، وفي 9 آب يُحتفل باليوم العالمي لمحبي الكتب، لتشجيع عشاق الكتب للاحتفال بالقراءة والأدب)

(1928 –2015) John Nash

جون فوربس ناش عالم الرياضيات الذي فاز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 1994 ولم يكن اقتصاديا! كما فاز بجائزة أيبل Abel الخاصة بحقل الرياضيات، وهي الموازية لجائزة نوبل والتي تمنحها اكاديمية العلوم النرويجية منذ 1899 ، تكريما لعالم الرياضيات النرويجي البارز نايلز أيبل  Niels Abel (1802-1829).  كانت جائزة نوبل في الاقتصاد تكريما وعرفانا لمساهمة ناش الرائدة في نظرية اللعبة  Game Theory   التي فتحت آفاقا جديدة وهامة في النظرية الاقتصادية واحدثت ثورة عظيمة في تطبيقاتها في اغلب جوانب حقل الاقتصاد. أما مساهماته في الرياضيات النظرية البحتة فشملت عدة زوايا كانت قد اُعتبرت فتحا مبينا في نظريات الجبر الواقعي والهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. في وصف لأهمية منجزات ناش في الرياضيات وفائدتها الكبيرة في علم الاقتصاد، قال البروفسور روجر ميرسن من جامعة شيكاغو " لقد كانت مساهمة ناش في النظرية الاقتصادية مثل اكتشاف الـ DNA لعلوم الاحياء والوراثة والتحقيقات الجنائية".

كان ناش يحمل صفات العبقرية الواضحة. فخلافا  لأغلب المتفوقين في شتى حقول المعرفة الذين غالبا ما تثمر جهودهم بعد ان يقطعوا شوطا طويلا في دراستهم وخبرتهم العملية، وبعد ان يتراكم مخزونا كبيرا من معارفهم وتجاربهم، تفجرت عبقرية ناش وهو مايزال طالبا في الدراسات العليا في جامعة برنستن بعمر 20 عاما.  وما حصل عليه من اعتراف علمي عالي المستوى بحصوله على جائزتي نوبل وأيبل كان، في الحقيقة،  عن ابداعه العلمي في ذلك العمر المبكر. وذلك ما جعله واحدا من اهم علماء الرياضيات في القرن العشرين. لكن ذلك التفوق المبهر والانتصار العظيم لم يأت سهلا ولم يمر بسلام! فقد كانت حياته اللاحقة لتلك الفترة المبكرة من عمره حياة تراجيدية بكل معنى الكلمة. وكذلك كانت نهاية حياته.

ولد جون ناش عام 1928 في مدينة بلوفيلد في ولاية فرجينيا الغربية، وهو الطفل الاول لطفلين في العائلة كانت ثانيهما اخته مارثا. كان والده مهندسا كهربائيا يعمل لصالح شركة أبلاشيان الكهربائية الكبرى الشهيرة. وكانت والدته معلمة مدرسة بشهادة جامعية. منذ عمر مبكر ظهرت على سلوك جون مظاهر الذكاء الحاد والميل نحو التعلم واغتراف المعرفة. فحين كان اقرانه يلعبون في حدائق البيوت والملاعب العامة، كان جون يجلس في مكتبة والده ويقرأ كتب الكبار، ولم تلمس يداه كتب الصغار. كانت والدته مهتمة بتنمية هذه الامكانية الجميلة لديه، فكانت تعطيه دروسا اضافية تمكن من خلالها من القفز الى مراحل مدرسية اعلى. كما انه حصل على نفس الفخر والتشجيع من والده الذي كان يحثه على دراسة الكتب العلمية ويوفرها له. فعندما كان  صبيا أكمل جون قراءة موسوعة كومبتن Compton Encyclopedia وفي سن 14 قرأ كتاب المختصين الموسوم "رجال الرياضيات" الذي ألفه إي تي بيل. كما انه استطاع ان يبرهن احدى المسائل الرياضية التي اوردها الكتاب والعائدة للعالم الفرنسي پيير فرمات Pierre Fermat الذي عاش في القرن السابع عشر.

أكمل جون تعليمه في المدارس المحلية العامة فكان متقدما على اقرانه.  وفي المرحلة الثانوية حثه والداه على اخذ دروس اضافية في الرياضيات المتقدمة والتي اخذها فعلا واكملها بتفوق، فكانت سببا لحصوله على منحة دراسية كاملة من معهد كارنيگي التكنولوجي في پتسبرگ الذي حصل منه على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الرياضيات بتفوق وفي نفس الوقت. کان ذلك عام 1948.  وهكذا فحين اراد اكمال الدكتوراه، تنافست على قبوله افخم خمس جامعات في البلاد، وهي هارڤرد وبرنستن وستانفورد وشيكاغو وميشگن. أراد ان يذهب الى هارڤرد لكنه استقر أخيرا على برنستن لسببين: الاول ان عرضها له كان الاكثر كرماً من بقية العروض، وثانيا لقربها نسبيا الى مكان سكن العائلة. وهكذا فقد كتب استاذه المشرف في كارنيگي رسالة توصية فريدة، كان قوامها جملة قصيرة واحدة فقط :  " السيد ناش رجل عبقري"! فاصبحت تلك الرسالة حديث الجامعة في وقتها.

في عامين فقط، أي في عام 1950 حصل ناش على شهادة الدكتوراه بموضوع جديد أحدث تغييرا جذريا في طبيعة حل المشكلات الاقتصادية وقابلا للتطبيق في شتى ميادين الاقتصاد وفي العلوم الاخرى. كانت رسالته بعنوان " الالعاب غير التعاونية، Non-cooperative Games” بواقع 28 صفحة فقط، وذات المحتوى الذي  اصبح جوهر نظرية اللعبة وقلبها النابض.  ولابد للاشارة هنا بأن تعبير اللعبة او الالعاب يعني حالة المواقف التنافسية بين طرفين عندما يسعى كل منهما الى احراز افضل مايمكن من نتائج ضد المقابل،  واعتمادا على تخمينه بما سيفعل الطرف الآخر. وهي بهذا المعنى تشبه لعب الشطرنج والبوكر وبقية الالعاب التنافسية الاخرى التي تتطلب من اللاعب ان يحسب خطواته ويتخذ القرار الملائم طبقا لتخمين الخطوة التي سيتخذها اللاعب المقابل.   قام ناش هنا بالتمييز بين الالعاب والستراتيجيات المختلفة. فهناك الالعاب التعاونية Cooperative Games التي يتفق خلالها اللاعبين على بعض القواعد والمحددات والشروط الخاضعة للتطبيق من اجل خدمة اللاعبين، كل من مصلحته الخاصة، وسواء كان الاتفاق علنيا ام ضمنيا. وبالعكس من ذلك فالالعاب غير التعاونية Non-cooperative Games  هي التي لايمكن معها تطبيق مثل تلك الاتفاقات بين اللاعبين. كما قدم ناش مفاهيما جديدة وصاغ براهينها الرياضية وبهذا فقد وسع واكمل ما لم ينجزه من قبله رائدا نظرية اللعبة،  نيومن ومورگنسترن، اللذان نشرا الكتاب الاول بعنوان "نظرية الالعاب والسلوك الاقتصادي" عام 1944.

تُعرّف نظرية اللعبة بانها دراسة النماذج الرياضية التي تمثل الكيفية التي تتعامل بها الاطراف العقلانية المتنافسة من اجل تحقيق الحلول المثلى والمكاسب الاكبر لكل طرف من منظوره الخاص، مع الاخذ بنظرالاعتبار ما قد يتخذه الطرف الاخر من خطوات. وهي بهذا تكشف دينامية التعارض الانساني في السعي للوصول الى القرار الامثل الذي يضمن افضل النتائج من منظور المنفعة الخاصة بالطرف المتنافس. وقد اثبت الزمن ان لهذه النظرية تطبيقات عديدة في الحياة العملية، خاصة في العلوم الاجتماعية والعلوم العسكرية والمنطق وعلوم الكومبيوتر. وقد استخدمت بكثافة في حقل الاقتصاد، خاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد رأينا تطبيقاتها المثمرة في عالم التجارة كمفاوضات الشركات، والاضرابات العمالية، وسباق الانتاج والبيع والاعلان، وحرب الاسعار والاجور، وكذلك في سياسات الدولة النقدية والمالية وسياسات التصدير والاستيراد، وحتى في تنظيم الحملات الانتخابية.

بعد نيل الدكتوراه، عمل ناش في التدريس في برنستن لمدة سنة واحدة ثم التحق ببرنامج ما بعد الدكتوراه في قسم الرياضيات بجامعة MIT  للتدريس والبحث، كما عمل في نفس الوقت مستشارا لمؤسسة راند Rand Corporation..   كان عمله باهرا في MIT   مما نتج عن اكتشافات كبيرة في حقل الهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. وفي هذا الوقت  ارتبط بعلاقة عاطفية بفتاة اضافت الى حياته لونا وطعما آخرا كان بحاجة اليه. لكن ذلك الهدوء والسلام والنجاح المتواصل  لم يدم فقد بدأت الغيوم السوداء تتلبد في سماء نجاحاته الكبيرة. كان ذلك الطموح المتأجج والمنافسة الشديدة والسعي المحموم للوصول الى القمة،  يضاف لها متاعب العمل المتواصل ومشاكل القسم والمخاوف والرعب الذي صنعته الپارانويا السياسية ايام الحرب الباردة، خاصة وانه كان قد تورط في قضايا التشفير ضمن عمله في مؤسسة راند المتخصصة بعقود وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، وفوق ذلك كله فان صديقته اصبحت حاملا بطفلهما مع رفضه الشديد للانجاب في ذلك الوقت. كل تلك المتاعب قد تراكمت وهيأت الظروف المؤاتية للانهيار العصبي الذي غالبا مايكون له استعدادا وراثيا لا يظهر للعيان الا خلال الازمات الكبرى. بدأ سلوك ناش الغريب يظهر جليا ليس فقط في البيت انما في العمل ايضا. فهاهو يبدو مضحكا في قاعة الدرس ويهمل واجباته وينسى موعد دروسه. في هذه الاثناء انفصل عن صديقته الحامل وتركها تدبر حالها، وبحلول عام 1957  ارتبط بفتاة اخرى كانت في قسم الفيزياء والتحقت مرة باحد دروسه.  لم تستطع هذه العلاقة الجديدة الجميلة ان تخفف من وطأة مشاكله. هنا بدأ واضحا انه يعاني من اختلال عقلي. فقد طرد من العمل في مؤسسة راند واضطر ان يستقيل من عمله في MIT، فعادت به صديقته الجديدة أليشا الى برنستن حيث حصلت على عمل لتعيل العائلة، واصبحت زوجته وأم لطفله.

في برنستن لم تتحسن أوضاع ناش الصحية.  فبحلول عام 1959، اخذ الشاب الالمعي بعمر الثلاثين ينحدر عميقا الى عالم الاوهام والتصورات والمخاوف حتى انه شُخص الآن سريريا كمريض بالشيزوفرينيا الارتيابية.  كان الخبر صاعقا لاسماع أليشا وشكل ضغطا لايحتمل بالنسبة لها حيث عليها ان تعمل في البيت وخارجه وترعى الطفل واباه.  كان جون ناش يذهب كل يوم الى رواق فاين حيث قسم الرياضيات في برنستن. يطوف في ارجاء القسم والكامبس يكلم نفسه ويهذي بلغة رياضية، منعزلا لايلتقي بأحد ولا يكلم أحد، ويبقى على هذا الحال الى ساعة متأخرة من النهار. حينها يذهب الى الصفوف ويملأ السبورات بمعادلات رياضية مزدحمة لايستطيع احد ان يتابع منطقها. مع هذا الحال المزري اضطرت أليشا وبنصيحة الاصدقاء والمعارف ان تطلب احالته الى مستشفى الامراض العقلية رغم عناده ومعارضته. كانوا يدفعونه الى سيارة الاسعاف موثوقا وبمساعدة ثلاثة او اربعة رجال،  بينما تغرق أليشا بالدموع.  بعد ذلك يبقى في المستشفى لعدد من الاسابيع ثم يخرج موقتا لأيام ليعود لها مرة اخرى.

في عام 1963 اضطرت أليشا ان تطلب الطلاق لكنها لم توقف رعايتها للرجل الذي احبته بصدق.  في احدى المرات كلف محاميا لاخراجه من المستشفى بأمر قضائي، واستغل الفرصة للهرب الى أوربا ومحاولة اسقاط جنسيته الامريكية. وبعد ان علمت أليشا انه سافر الى باريس ولكسمبورگ، لحقت به الى هناك وتمكنت من ان تطلب مساعدة السفارة الامريكية لتسفيره الى الولايات المتحدة والى المستشفى من جديد. تشير السجلات الرسمية انه امضى في المستشفى الجزء الاعظم من الفترة بين 1959 و1970، خاضعا لتكهنات الاطباء ومستسلما لعلاجاتهم التجريبية التي اثبت العلم والزمن فيما بعد بطلانها ووحشيتها.  من هذه الطرق العلاجية التي تعرض لها ناش بكثافة هي المعالجة بصدمة الانسولين الذي كان يُحقن به خمسة ايام في الاسبوع ولمدة شهرين متواليين. بموجب هذه الطريقة، يعطى المريض حقنات الانسولين ذات الجرعات العالية التي تسبب انخفاضا كبيرا في  منسوب السكر في الدم فتؤدي الى مايشبه الكوما التي تستمر ساعات او ايام،  يفيق بعدها المريض وهو مشوش العقل ومختل التوازن وفاقد الذاكرة. اعترف ناش فيما بعد بأنه فعلا فقد كل ذاكرته في سنوات الطفولة والصبا. وبسبب ذلك كان يشعر بالعدم. في تلك الفترة كتب احد الباحثين رسالة الى ناش يطلب فيها رخصته لاستعمال احدى نتائج ابحاثه، فرد عليه ناش قائلا. استخدم ما تشاء وكأنك تستعير من ميت!

كان عام 1970 نهاية تجربته مع مستشفيات الامراض العقلية فقد اقتصر علاجه بعد ذلك على مايصفه له الاطباء من أدوية. كان تحسنه بطيئا استغرق عقدا ونصف وكان عاطلا وكئيبا وليس له من يأويه. وهنا دعته أليشا ان يعود ليعيش معها كنزيل وستتكلف بمسكنه وطعامه ومتابعة علاجه. وهكذا بدأت هذه الرعاية المخلصة تعطي نتائجها بتحسن ملموس على صحة ناش . وابتداءً من عام 1985 بدأت عليه علامات الرجوع الى الحياة الطبيعية. وفي عام 1987 اعاده قسم الرياضيات في برنستن الى وضيفة باحث اقدم، استطاع ان يعود من خلالها الى نشاطه العلمي بهدوء وسلام وبعيدا عن كل ضغوط العمل الوظيفي. وقد بدأ ينال دعم زملائه وطلابه والتفافهم حوله. بعد عام 1990 عادت مشاعر الحب بين جون وأليشا الى مجراها الطبيعي فتمكنا من الزواج مرة اخرى عام 2001.  وابتداءً من عقد التسعينات بدأت لجنة من اصدقائه وزملائه المخلصين تروج لانجازاته التي بقيت حبيسة المنشورات القليلة الى الدوائر العلمية المختصة، وهكذا أدت هذه الحملة الى الاعتراف باستحقاقه جائزة نوبل على منجزه العلمي الهام في نظرية اللعبة لتكون جائزة في الاقتصاد. وهكذا نال الجائزة بعد مرور 45 عاما على انجاز العمل. أما عمله في الرياضيات البحتة فقد اهتمت به اكاديمية العلوم النرويجية ووجدته مستحقا جائزة أيبل،  والتي استلمها فعلا بعد 65 عاما على انجاز العمل.

بعد استلامه جائزة أيبل في أوسلو عام 2015 عاد الى الولايات المتحدة. ومن مطار نيووارك في نيوجرسي استقل، هو وزوجته أليشا، سيارة تاكسي يقودها سائق بإسم طارق جرجيس لتوصلهم الى بيتهم  في برنستن على مقربة ساعة واحدة. وعلى نيوجرسي ترنبايك السريع حاول السائق ان يجتاز السيارة التي امامه لكنه فقد السيطرة على السيارة مما ادى الى ارتطامها بسيارة اخرى ثم ضربت الحاجز الحديدي على جانب الطريق. وحين لم يكن ناش وزوجته قد وضعوا حزام الامان، فقد ادى الارتطام العنيف الى تحطم الابواب وخلعها وقذف الركاب الى الخارج فتوفيا في الحال. وهكذا جاءت النهاية المفجعة لحياة تكللت بالنجاحات الباهرة واكتوت بالآلآم وشهدت الاحتراق ثم النهوض من الرماد  كطائر العنقاء.

ابتدع ناش مفاهيما جديدة وصاغ حلولا ابتكارية سواء في نظرية اللعبة ام في الرياضيات البحتة. ومنها ما سمي بإسمه،  ومنها ما حملت تأثيره البليغ. فيما يلي اهم ما اصبح جزءً لا يتجزء من منظومة معرفتنا:

- توازن ناش  Nash Equilibrium

ويراد به الحل الذي يشير الى الحالة التي يصل فيها اللاعب الى ما لا يستطيع بعده تحقيق اي تقدم وتحسن في موقفه مع اعتبار كل الخطوات التي قد يتخذها اللاعب الآخر. وهذه الحالة تحدث على الاقل مرة واحدة، طالما يُسمح بخلط الستراتيجيات والخطوات ذات الاحتمالات الايجابية. أي ان هذا الحل هو القرار الاخير الذي سيؤدي الى افضل النتائج، اذ ليس هناك اي سبيل آخر احسن منه. والمثال العملي الكلاسيكي الذي يوضح هذا المفهوم هو:

- Prisoner’s Dilemma - مأزق السجين:

ألقت الشرطة القبض على شخصين اتهما باشتراكهما في ارتكاب جريمة معينة. أراد المدعي العام ان يقابلهما على انفراد في غرفتين متباعدتين. فاجأ السجين الاول بالقول ان رفيقك على وشك الاعتراف ولاندري ان كان سيعترف فعلا ولكن عليك ان تكون ذكيا وتنقذ موقفك ! فان اعترفت واحجم رفيقك عن الاعتراف فانك ستنال سنة واحدة في السجن وسينال رفيقك عشر سنوات. وان اعترف هو وامتنعت انت عن الاعتراف فسينال هو السنة الواحدة وسترمى انت في السجن عشر سنوات. أما اذا حدث وان اعترف كلاكما فان المحكومية ستقسم عليكما بالتساوي وسينال كل منكما خمس سنين في السجن. وغادرالمدعي العام ولم يفصح عما سيجري ان امتنع كلاهما عن الاعتراف. ذهب النائب الى السجين الثاني وقال له نفس الكلام بالضبط.

هنا سيكون من الحكمة ان يفكر كل من السجينين بما سيتصرف السجين الآخر قبل ان يتخذا قرار الاعتراف او عدمه، وسيكون من الواضح ان يميل كلاهما الى الاعتراف (بافتراض ان لهما حد معقول من الذكاء)، لان الاعتراف سيكون الحل الامثل الوحيد المتوفر لكل منهما، مهما كان موقف الطرف الآخر. فاما الفوز بالسنة الواحدة في حالة امتناع الطرف الآخر عن الاعتراف، وأما الفوز بخمس سنين ان اعترف الطرف الاخر ايضا، وليس هناك حل آخر . والاعتراف هنا يسمى الستراتيجية المهيمنة.

-Dominant Strategy

هي الستراتيجية التي تؤول الى القرار الذي يعتقد اي طرف انه القرار الامثل لمصلحته الخاصة مهما سيكون قرار الطرف الآخر.

والحالة بنتائجها تسمى Nash Equilibrium، كما مبينة في المصفوفة ادناه:3560 ناش

قد يتساءل البعض: لماذا لم يفكر السجينان بالاحجام عن الاعتراف كل على حدة وبغض النظر عن عدم ذكر هذه الحالة من قبل المدعي العام ؟ السبب الاول هو ان المدعي العام لايريد الاعتراف بانه لو احجم كلاهما عن الاعتراف ستكون يداه خالية من اي وثيقة اثبات وسيكون مضطرا بموجب القانون اما اخلاء سبيلهما او الاكتفاء بمدة التوقيف. والسبب الاكثر منطقية هو ان عدم الاعتراف بالنسبة لأي منهما ينطوي على مخاطرة كبيرة، رغم انه سيكون، على الاقل نظريا، افضل النتائج الاربعة لانه يعود بسجن سنتين فقط لكل منهما. قد يحدث هذا في حالات نادرة جدا تنطوي على نوع من التعاون او الاتفاق المسبق بين الطرفين او ايمانهما بالتضحية والايثار بينهما، كما في حالة السجينين المرتبطين بعلاقة دم او عاطفة قوية كأخوين او اب وابنه او حبيب وحبيبته. أو ان يكونا مرتبطين بعلاقة ايديولوجية قوية وروح عقائدية وثابة تحتم عليهما عدم الخيانة بالرفاق والاخلاص لهم لحد الموت. وهنا ستجري اللعبة بقواعد ما اسميناه بالـ Cooperative Games.

- نظرية الاحتواء القياسي Nash Embedding Theorem

تنص هذه النظرية بأنه يمكن لأي سطح رايميني Riemannian manifold  متعدد الاوجه (نسبة الى عالم الرياضيات الالماني برنارد رايمن ( ان يتم احتوائه او تطويقه المتقايس Isometric Embedding  في مجال اقليدسي  Euclidian  مألوف. والتقايس هنا يعني الاحتفاظ بنفس المقاسات قبل وبعد الاحتواء. المثال الكلاسيكي الذي يبسط تصور المفهوم هو اننا لو طوينا ورقة دون ان نمطها او نمزقها فان طول الخط او المنحنى المرسوم على الورقة سوف لا يتغير في حالة المقارنة بين سطح الورقة المنبسط  Plane  وسطحها المطوي Cylindrical.

حين رشحت اكاديمية العلوم النرويجية ناش لنيل جائزة أيبل على هذا المنجز وسواه من منجزات ناش في الرياضيات البحتة، كتبت لجنتها المختصة:

" ان هذه النظرية تمثل اكثر منجزات التحليل الهندسي أصالة في القرن العشرين".

- نظرية ناش- دي جورجي- موزر Nash-DeGorgi-Moser Theorem

هذا عمل رياضي تحليلي يقدم برهانا وحسابات بموجب تقديرات هولدر Holder Estimates  ومتباينة هرناك Harnack Inequality ويضمنهما في حالتين مختلفتين من حالات الدوال الرياضية، حالة الدالة البيضوية الاهليجية Elliptic function  وحالة الدالة ذات القطع المكافئ Parabolic function. كان ناش والعالم الايطالي إينيو دي جورجي  Ennio De Georgi  قد بحثا باستقلال ومعزل تام عن بعضهما ووصلا الى نفس النتيجة. ثم بعد ذلك جاء العالم الالماني-الامريكي جرگن موزر Jurgen Moser فوصل الى نفس النتيجة ولكن ببراهين مختلفة عن ناش ودي جورجي.

فاز ناش على هذه النظرية بجائزة لروي ستيل LeRoy Steele Prize التي تمنحها جمعية الرياضيات الامريكية.

- حلول التصافق (عمل الصفقات)  Nash Bargaining Solutions

صاغ ناش الحلول الفريدة التي تتطلبها ظروف المساومة على عقود الصفقات بين الطرفين المتساومين، والذي يفترض تحقيق الشروط الرياضية المتمثلة بالثابتية Invariance ، والتماثل  Symmetry، والكفاءة Efficiency ، وكذلك استقلالية البدائل التي ليس لها علاقة او اهمية.

فی نعیه بوفاة ناش كتب قسم الرياضيات في جامعة برنستن ما يلي:

"جون فوربس ناش هو ايقونة قسمنا البارزة وظاهرة رواق فاين المعروفة بـ  Spector of Fine Hall. الرجل الذي عرفناه بانجازاته العلمية التي فتحت ارضا بكر في التحليل الرياضي،  وعرفنا عبقريته كطالب دراسات عليا بقدرة علمية استثنائية. وعرفناه ايضا بصراعه المؤلم الطويل مع المرض وتحوله الى شبح يطوف في ممرات القسم وغرفه منعزلا ولا يكلم الا نفسه. ثم عرفنا انتصاره العظيم على المرض وعودته الينا كشيخ هادئ وخجول وخلوق حرص ان يأتي للعمل كل يوم كباحث اقدم منذ 1995 ولحين وفاته المفجعة عام 2015.

في ختام هذا النص عدت واحصيت سنوات المرض والآلام والتيه فوجدتها تساوي ربع قرن بالتمام والكمال وبرغم كل ذلك فقد تمكن ناش من نشر 23 بحثا خلال خمسين عاما من حياته المعذبة وهي بالطبع حصيلة صغيرة قياسا بامكاناته العلمية الهائلة.

لدى ناش ولدان، الاول من صديقته الاولى والثاني من زوجته أليشا، وكلاهما باسم جون.

في عام 1998 نشرت سلفيا نصّار البروفسور في الادب والصحفية الامريكية من اصل أزبكي كتابا بعنوان A Beautiful Mind  تناول سيرة ناش الذاتية. ثم في عام 2001 تحول الكتاب الى فلم سينمائي رائع من اخراج رون هاورد وبطولة رسل كرو وجنيفر كونلي. وقد استقبل الفلم بترحيب شعبي بليغ وفاز بأربع جوائز أوسكار و33 جائزة اخرى، محليا وعالميا.  كما تحدثت برامج تلفزيونية عديدة عن انجازات ومحنة ناش ولعل ابرزها الفلم الوثائقي الذي انتجته محطة التلفزيون العامة عام 2002 بعنوان

A Brilliant Madness.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

بعد مرور 65 عاماً على مذبحة العائلة الملكية في العراق صبيحة يوم الرابع عشر من تموز 1958، وبتوفر آلاف الصفحات من الكتب والمقالات والدراسات الأكاديمية والموسوعات التاريخية والمذكرات، والحكايات المكتوبة أو المُوثقة في برامج وأفلام تسجيلية، فإن ما جرى في الليلة التي سبقتها، يبقى مثيراً ومشوقاً مهما كُتب عنها، أو قيل حولها من قبل شهود عيان من داخل قصر الرحاب، أو من قبل ضباط وسياسيين ومواطنين بسطاء اطلعوا على ما جرى واستمر يوخز الضمير العراقي الذي يبدو كأنه يمارس طقس البراءة والإنكار والتطهير، بتكرار الكتابة أو الحديث عن ذلك الصباح الدموي الذي جرح روح بغداد وأهلها. وهو إحساس لم يشعر به المصريون على سبيل المثال، الذين ثاروا على الملكية، لكنهم ودَّعوا الملك فاروق بما يليق به من لياقة واحترام وتعاطف، وبكاء الحاشية والخدم وسط اطلاقات المدفعية الموَّدِعة، وعزف السلام الملكي.

إن كتابة التاريخ مُجرداً كوقائع وأرقام قد لا تشفي الغليل، كما أن ذكر الأحداث الكبرى لوحدها لا يترك للخيال حصةً في عملية التطهير، فضلاً عن عملية الإبداع الأدبي، وعلى رأي المفكر الماركسي جورج لوكاتش في كتابه الشهير عن الرواية التاريخية « فإن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث، بل الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي»، وهذا هو بالضبط ما فعلته الأديبة العراقية ميسلون هادي في روايتها الأخيرة «ساعة في جيب الملك» التي تزامن صدورها عن « دار وتر»  في البصرة، مع ذكرى تلك الليلة التموزية، كما أن الروائية طبقت في روايتها هذه منهج لوكاتش في التركيز على الاحداث غير المهمة ظاهرياً، والتفاصيل الصغيرة لأنها تكشف عن دوافع السلوك الاجتماعية والإنسانية أكثر مما تكشفه الأحداث المهمة الأخرى. تلك التفاصيل التي التقطتها بعناية وبقصد من المصادر التاريخية الكثيرة التي توفرت لها، ومن فهمها لطبيعة العائلة البغدادية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وما يربط بين الأجداد والأحفاد في الليالي البغدادية حين تقص الجدة مريم حكاياتها عن العائلة الملكية لحفيدتها سناريا، عن شخصيات الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله وخالته عابدية التي كرست حياتها للاعتناء به، وخالته بديعة التي كانت تجهز لعرسه من الأميرة فاضلة التي كان من المفروض أن يلتقيها في لندن يوم 14 تموز 1958. كان القدر يرتب كل شيء وصولاً إلى صبيحة اقتناص الملك الشاب وخاله وجدته نفيسة وخالته عابدية وربيبتها الطفلة غازية والخادمة رازقية والطّباخ التركي برصاصات عبد الستار العبوسي في ذلك الصباح الدامي الذي لم تنجو منه سوى الأميرة هيام الحبيب ابنة أمير ربيعة، والزوجة الثالثة للوصي بعد زوجته الأولى ملَك، والثانية فائزة الطرابلسي التي عَرَّفته عليها المطربة أم كلثوم صديقة شقيقته عابدية. لقد كان من المقرر أن يسافر الملك الشاب يوم 8 تموز لكن توفيق السويدي رجاه تأجيل سفره ليومين آخرين: « لأن وزير المالية يريد امضاء الملك على بعض القوانين، فأجل سفره يوماً واحداً، ثم وردته برقية من شاه ايران وطلب الاجتماع به وبرؤساء دول حلف بغداد في طريق عودته من أمريكا. فاضطر الملك تأجيل سفرته مرة أخرى إلى يوم غد.. يوم الرابع عشر من تموز»!. كما أن عبد الإله كان في إستنبول لكن الملك طلب منه العودة قبل هذه الليلة،» وعاد مسرعاً إلى هذا الحر الشديد، خشية من حدوث القلاقل في بغداد، إذا ما سافر الملك. نوري السعيد أيضاً كان في إجازة بلندن مع زوجته نعيمة العسكري، غير أنه أرسل برقية للملك فيصل الثاني يطلب فيها حضوره إلى بغداد بشكل فوري. وهكذا تجمعت رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد بشكل يثير الخشية والريبة والإستغراب».

ومثلما جمعت الأقدار رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد تمهيداً لمذبحة، تجمعت لدى ميسلون هادي ثلاثة عوامل مهمة تمهيداً لرواية تاريخية بارعة، أولها مصادر الذاكرة البغدادية، وهي مصادر كثيرة ومتنوعة وزاخرة بالمعلومات التفصيلية، وثانيها القدرة السردية المُجربة ذات النفس الطويل، والانتقال بسلاسة بين الأزمان، وضبط مسار الحاضر بالماضي من الذكريات الموجعة، وثالثهما الروح البغدادية التي تربت عليها الروائية ومعرفتها بعادات الأسرة البغدادية، ووفرة معلوماتها عن محلات بغداد وأزقتها في الأعظمية والكاظمية والوزيرية والعطيفية وجديد حسن باشا والكرادة، وعن قصري الزهور والرحاب، بما مجموعه أكثر من 35 محلة وزقاق جرت فيها أحداث الرواية، عوضاً عن أماكن خارج العراق كما في محطة قطارات بارنغتون بلندن للذهاب إلى مدينة بريستول حيث درست راوية الأحداث الطالبة العراقية نور ماضي في بعثة دراسية عام 1967.

في تلك الليلة كما تقول الرواية، جاء عبد الإله بساحر هندي للقيام بألعاب سحرية، قام الساحر بنزع ساعة أحد الموجودين، ثم عثروا عليها في جيب الملك فيصل، وفي مرة أخرى، أخذ الساعة من معصم الملك، ووضعها في جيب الملك نفسه. ثم أخرجها من جيب شخص آخر وسط ذهول ودهشة الجميع.. حدث شيء غريب، سقطت الساعة من يد الساحر على الأرض وانشرخت زجاجتها.

« تطّيرت الأميرة عابدية مما حدث».

***

طه جزّاع

تشكلت صورته من خلال الحكايات الغريبة والمتناقضة، فحياته أغرت كتاب سيرته بنسح قصص خيالية عنه، فمنهم من أنكر وجوده مثلما يخبرنا ابن النديم: " تقول عنه جماعة من اهل العلم واكابر الوراقين انه لا أصل له ولا حقيقة " – الفهرست ابن النديم -، وقال البعض انه موجود لكن الكتب التي نسبت اليه لم يكن هو صاحبها، إلا ان ابن خلدون يصفه بانه: " إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز".يظهر جابر بن حيان الفيلسوف وعالم الكيمياء في رسائل ابو بكر الرازي الذي يستشهد به قائلا: " قال استاذنا ابو موسى جابر بن حيان"، ويرد زكي نجيب محمود على المشككين بقوله ان جابر بن حيان: " اضاف إلى الفكر الانساني عنصرا جديدا افتقده الفكر اليوناني، ذلك هو اعتماده على التجربة والبرهان الحسي وعدم الاكتفاء بالفروض والتحليلات الفكرية الغامضة التي كانت محور المعلافة عند اليونان".

ولا تكاد تنتنهي مسألة اثبات وجوده، حتى يثار خلاف جديد حول أسمه، فهل هو " ابو عبد الله جابر بن حيان، أو " أبو موسى جابر بن حيان، ويحسم لنا الرازي هذه المعضلة حين يقول ان اسمه " جابر " لانه "جبر العلم "، أي أعاد تنظيمه. وسيبدأ تحدي آخر حول مسقط رأسه وتاريخ ميلاده.فمنهم من قال انه ولد في مدينة طوس في خراسان، وآخرون يؤكدون بأنه صابئي ولد في مدينة حران، فيما الرحالة الحسن بن محمد الوزّان والشهير بـ " ليون الأفريقي" يقول انه يوناني اعتنق الاسلام.ونعود الى ابن النديم الذي يقول انه لقب بالكوفي وكان يقيم في شارع يعرف بـ " درب الذهب ".

كان يشرف على الثمانين من عمره حين دقّ الخطر بابه، فقرر أن يهرب من بغداد الى الكوفة، معتكفا بالدار، خوفا من ان يلحق به غضب الخليفة هارون الرشيد الذي اطاح بالبرامكة وكان جابر من المقربين منهم.. قال لأحد تلامذته ان الفلاسفة لن تنجيهم سوى كتبهم وابحاثهم، وان العلم وحده القادر على وصول الانسان إلى الخلود. يكتب في احدى رسائله: " ان اسرار الطبيعة قد تمتنع عن الناس لأحد سببين، فاما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسرالكشف عنها، واما ان يكون للطافة تلك الاسرار بحيث يتعذر الامساك بها. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، كان في وسع الباحث العلمي ان يلتمس طريقا الى تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء عن السير في شوط البحث الى غايته " – كراوس مختار من رسائل دجابر بن حيان –

كان جابر بن حيان اول من أتى بفكرة ان النفس لا تكون عالمة اولا بالضرورة " اي انها لا تولد مزودة بالعلم، بل انها تكتسب العلم من الخارج. ونجده يناقش موضوعة المعرفة وهل هي فطرة كامنة في الانسان تحصل تلقائيا حين تتاح لها الظروف. ام هي اكتساب من تجارب العقل وممارسته ؟. كان افلاطون يقول ان الافكار موجودة في النفس، وان كل المعرفة اصلها الروح. فيما يرى جابر بن حيان ان اكتساب المعرفة يعتمد على تجربة الانسان للاشياء واستخلاصه النتائج والقوانين الكونية من هذه التجارب.

هل كان جابر بن حيان يتخذ موقفا مناوئا من الدين ؟ في رسائله المختاره نراه يقسم العلوم الى قسمين. علم الدين، وعلم الدنيا حيث يعرف علم الدين بأنه " الافعال المأمور باتيانها للصلاح فيما بعد الموت " ويعرف علم الدنيا بأنه " جميع ما في عالم الكون من الحوادث ". كان ابن حيان عالما وفيلسوفا في نفس الوقت، فقد رفض أن يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من دون عقل، فطورا فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان يكتب في الرسائل إن: " العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكلُّ فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع." وهذا يعني أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كلَّ شيء آخر متفرعا عنه، هو العقل، فلولا وجود العقل، لما كان كون، لأن كل شيء في العالم إنما يسير وفقَ مبادئ العقل، وليس الأمر متروكًا للمصادفة العمياء: " فالعلة الأولى هي العقل"، والعقل والعلم واحد، فما تسمِّيه عقلًا هو نفسه ما يصحّ أن تسمِّيَه علما.

بينما كان جابر بن حيان يعيش سنواته الاخيرة في خوف وقلق، قرر ان يصوغ نظرية في الكيمياء أراد من خلالها تحرير هذا العلم من الخرافات،كما انه كرس مجهوداته البحثية لأجل استكشاف مبحث جديد يدعى التكوين، تحت غطاء من السريه في معمله، حيث نراه يتخذ من نظريته القائلة بأن العالم الكيميائي يستطيع ان يحول أي كائن إلى كائن آخر في نطاق الكائنات المركبة،وان التحويل هذا ليس قاصرا على تحويل معدن الى معدن، بل يتجاوز ذلك الى عالمي النبات والحيوان دون ان يستثني الانسان نفسه، وليس من فرق عنده بين تحويل المعادن والجمادات وبين تحويل الكائنات الحية، سوى الفرق في طريق التجربة. ونراه يعرض عدة مذاهب في تكوين الكائن الحي. يكتب زكي نجيب محمود: " ولعل اغرب ما في الموضوع هو محاولة جابر صناعة الانسان على أي صورة شاء، وموضوع الغرابة عندي هو ان يصدر هذا عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الانسان من شأن الله وحده، فلا بد ان يكون ثمة وجه لتبرير ذلك عند جابر، وما اقرب الشبه بين الاحلام التي ساورت جابرا في زمانه من حيث محاولته خلق تكونات حية شاذة عن الكائنات المألوفة، اقول ما اقرب الشبه بين هذه الاحلام وبين ما تحقق هذه الايام من تطعيم الحيوانات بعضها ببعض، فيركبون اعضاء حيوان في جسم حيوان آخر وهكذا " – جابر بن حيان سلسلة اعلام العرب -.فاذا كان في وسع الكيمياء أن تستنبط مواد جديدة بتركيب الاجسام بعضها مع بعض، فلم لا تقوم ايضا بانتاج النبات والحيوان، بل وبخلق الانسان الصناعي ؟ ان هذا العلم ممكن بنظر جابر بن حيان لأن الكائن الحي هو نتيجة لتظافر قوى الطبيعية.

***

تبدو حياة جابر بن حياة غامضة، فالطفل الذي ولد في العاشر من تموز عام 721 ميلادية في مدينة طوس، ينتسب الى عائلة من اصول يمنية، سكنت الكوفة حيث عمل الأب بائعا للعطور والاعشاب، كان يناصر الدعوة العباسية، مما اضطره السفر الى الى طوس عام 715 م هربا من بطش الامويين، بعد سنوات من النشاط السياسي والعمل في تجارة الاعشاب، سيتم القبض عليه في دمشق حيث يحكم عليه بالشنق، كان الابن قد بلغ العاشرة من عمره، تعيش العائلة محنة العوز ومراقبة السلطات، عندا بلع جابر الثانية عشر من عمره ارسلته والدته الى بعض اقاربه في اليمن لغرض التعليم وايضا ليبتعد عن عيون السلطات، في اليمن درس النحو والمنطق وعلوم القرآن وتتلمذ على يد " حربي الحميري " وكان هذا الاستاذ شغوفا بالكيمياء والفلسفة حتى ان جابر بن حيان سيطلق عليه لقب " الشيخ الأكبر "، وسيصفه في رسائله بأنه كان " طويل القام، كثيف اللحية مشتهرا بالإيمان والورع وقد أطلق عليه العديد من الألقاب ومن هذه الألقاب الأستاذ الكبير"..سيعيش ابن حيان حياة صعبة في ظل اتهام السلطات لعائلته بانها متعاونة مع العباسيين، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة الدرس ومتابعة تجارب استاذه في الكيمياء، والانكباب على قراءة كتب الفلسفة التي وقع في سحرها. كان في الحياة اشياء كثيرة تقلق جابر وتشغل باله، لكنه اختصرها في فكرة واحدة " العلم "، مؤمنا بالعلم الذي يمكن للمرء تحصيله من الدراسة والقراءة والتجربة. عند بلوغه التاسعة عشر من عمره يسافر الى الكوفة حيث عادت امه ومعها اشقاءه، في الكوفة التي عاد اليها شابا لم تسر اموره سيراً حسنا حتى التقى بجعفر الصادق الذي سيطلق عليه لقب " سيدي واستاذي " ويذكره في مقدمة بعض كتبه، وبشخص آخرهو خالد بن يزيد الذي ابتعدت عنه الخلافة وقد ذكره ابن النديم بانه: " اول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء " يكتب المستشرق الفرنسي كارا دي فو في دائرة المعلارف الاسلامية ان معلما جابر: " هما خالد بن يزيد وجعفر الصادق ". لم يستقر طويلا في الكوفة حيث بدأت السلطات تراقبه مما دفعه الى " التنقل في البلدان، لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه " – الفهرست ابن النديم – بعد قيام الدولة العباسية يشعر بالامان فيقرر السفر الى بغداد، هناك يتعرف على البرامكة الذين منحوه منزلة خاصة وادخلوه الى قصر الخلافة ليصبح طبيبا لهارون الرشيد. يؤسس معملا للكيمياء ويتفرغ للتجارب العلمية والكتابة وقد عبر عن افكاره في الكثير من المؤلفات التي يضع لها ابن النديم قائمة لاكثر من مئة كتاب ورسالة.فيما يذكر كارل بروكلمان في كتابه " ناريخ الادب العربي " ان لجابر بن حيان " 85 " كتابا وقد طبع منها مجموعة ابرزها " الرسائل " و" كتاب الملك " و" الموازين " و " كتاب الرحمة " وكتاب التجميع ". ويشير بروكلمان الى ان كتب جابر بن حيان الفلسفية او التي تتناول قضايا دينية ذات صلة بالعقائد الفلسفية الاسماعيلية.

بعد سنوات من الطمأنينة والعمل المثابر سيضطر جابر بن حيان الى الهرب من جديد بعد ان قُتل البرامكة على يد هارون الرشيد، ليعيش متخفيا حتى عصر المامون، بعدها يسافر الى طوس ليتوفى في التاسع من تشرين الاول عام عام 815 م.

***

نحن الآن في سنة 805 م، المكان مدينة الكوفة، حيث يجلس الرجل العجوز، الطويل القامة، الذي اشتهر بتصوفه وانعزاله، يتحرك بصعوبه في معمله محاطا باكوام من المخطوطات، وتكتظ الطاولة التي امامه بالقوارير، والاصباغ، حاويات المحاليل. البودرة تنتشر على سطح الطاولة، كل شيء معنون بعبارات تحدد ماهيته. يداه ملطختان بالالوان،تملؤها الندوب من كثرة ما فيها من الحروق الناتجة من المواد الكيماوية، كان دائم السعال بسبب البخار الذي ينتشر في الغرفة. في الخارج كان عدد من الحراس ينظرون الى البيت بريبة، فهم يعرفون ان هذا الرجل مغضوب عليه من الخليفة هارون الرشيد، وأن حركاته يجب ان تُرصد جيدا، إلا أن الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره لم يعد يهتم بما يجري خارج بيته، فهو مشغول بانواع المواد التي تحيط به، وكيف يصنع منها شيئا جديدا. يدرك جيدا انه عاش طويلا وواجه محن كثيرة في حياته، فقد كان في شبابه يعتبر السياسة ضرورية للمفكرين، ولأنه كيمياوي فقد ظل يؤمن ان اسرار الكون مدفونة بعمق في العالم المادي المحيط به، وأن عمله في هذا المعمل القديم إنما محاولة لفك شفرات الكون حتى يعرف الحقيقة، ومثله مثل غيره من المفكرين فإنه يعتقد ان هذه الاسرار التي خلقها الله من الممكن فك غموضها فقط من خلال قلة ممن هم على استعداد للبحث العلمي والفلسفي الطويل.

كان جابر بن حيان فيلسوفا الى جانب صنعته في الكيمياء، حاول ان يوفق بين الدين والعلم، لقد كانت في قلب تطلعاته الفكرية فهم الكيقية التي تسمح للناس بمعرفة ان الدين فطرة كامنة في الانسان، بينما العلم هو اكتساب من تجارب العقل وممارساته، وكان ابن حيان يرى ان الإنسان قادر على بلوغ حقائق عظيمىة إن هو استفاد من أهم عطيه منحها له الله: العقل.

اعحب اعجابا شديدا بسقراط حيث يصفه بانه: " أبو الفلاسفة وسيدها كلها" وأنه مثال الإنسان المعتدل، مع تعريفه للشخص المعتدل بأنه هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة. إن جابرًا ليؤمن بقيمة الفلسفة إيمانًا يجعل الفلسفة عنده شرطًا لا غنا عنه لارتقاء الإنسان في مدارج العقل، حتى لتختلط عند جابر طائفةُ الفلاسفة بطائفة الأنبياء: "إن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط، إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء، كنوح وإدريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك الإسكندر." – رسائل جابر بن حيان –، وكان يرى ان الفلسفة تساعدنا على اقامة نظام عقلاني متناغم، وايضا على تأمل النظام الكوني، وكفيلسوف حاول جابر بن حيان استخلاص اكبر قدر ممكن من المعرفة من خلال الملاحظة والعقل.ونجده يسير على نهج ارسطو، فيعتقد ان الاشياء الحية وغير الحية على حد سواء، لها اشكال جوهرية، واشكال الكائنات الحية، ارواح، وهذه الارواح تزيد من القدرة على الفعل والشعور، في حين تضيف الروح البشرية للانسان العقلانية، مما يجعله قادرا على التفكير والفهم، ومن خلال التفكير يمكن للإنسان أن يدرك طبيعة الكون، ويرى جابر بن حيان ان العقلانية هي السمة المميزة للبشرية، مؤمنا بمقولة ارسطو " جميع البشر يرغبون بالمعرفة ". ولعل هذه المصالحة بين الدين والعلم التي سعى اليها جابر بن حيان حققت هدف الدين باعتباره دليل الخلاص للفرد، فيما العلم والمنطق والفلسفة تساعدنا لاكتساب معرفة شاملة عن انفسنا وعن الكون. سوف يجد الجانب العلمي لدى جابر ضالته في " الكيمياء "، ووفقا لسيرة حياته العلمية لم يكن هدف جابر من الكيمياء تحويل الصفيح الى ذهب، لكن كان همه البحث عن التكوين، وهذا يعني بالمصطلح العلمي الحديث " خلق الحياة الاصطناعية في المعمل "، ورغم ان بعض الباحثين مثل الامريكية " كاثلين اوكتور " في بحثها عن التكوين عند جابر بن حيان قد حسمت الجدل حول ما اذا كان مفهوم التكوين لدى جابرليس سوى طقس رمزي مجازي يحاكي فيه فعل الخلق دون ان يتوقع خلق حياة فعلية، أم انه كان سعياً حقيقيا لتوليد حياة إذ توصلت إلى انه: " كان فعلاً رمزيا وحرفيا في آن واحد " – من مكة الى الميتاداتا مايكل هاميلتون -.

لقد تمثلت احدى الاشتغالات الرئيسية لجابر بن حيان كمنظم للعلم، وفي توجيه المعرفة في مسارات متعددة اتسمت بالموسوعية التي وصفها البعض بالسحرية.العالم والفيلسوف المتعدد المهام، اجهد نفسه في ميادين الفكر التي لا تعد ولا تحصى. ادرك بان للعلم امكانية في ان يكون عونا للانسان، يساعده في تقديم شرح افضل للحياة والكون وتجنب الاوهام. شكلت كتبه احد اهم مصادر الدراسات الكيميائية في الشرق والغرب، واتاحت ترجمتها انتقال المعاراف الى حضارات اخرى. ومعها انتقلت عدة مصطلحات عربية وكانت مرجعا معتمدا في اوربا خلال الفترة من القرن العاشر الميلادي وحتى القرن الثاني عشر. غطت كتبه فروعا معرفية مختلفة منها: علم الكونيات والموسيقى والطب وعلم الاحياء والرياضيات والمنطق والهندسة. وتظهر ريادته في عدد من البحوث الكيميائية ويعد اول من استخرج حامض الكبريتيك، واول من اكتشف الصويا الكاوية، واول من استحضر ماء الذهب، والزئبق، فضلا عن مركبات اخرى. كان جابر بن حيان فيلسوفا وتلميذا لسفراط. آمن بان الفلسفة تقودنا من خلال استخدام عقولنا، الى حقائق فعلية:  كيف بالامكان ان تكون عالما وفيلسوفا ومؤمنا ؟ كيف يمكن الجمع بين العقل وبين الايمان.. كيف تتحول مسالة الله الى مسألة فلسفية، تركز على التساؤل حول وجود كائن أزلي مستقر، وعلة كل ما هو موجود بالكون.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بعد أن نشرت الوثيقة الأولى عن ما حدث في شكوت ”هزارستون” تلقيت عدة رسائل من رفاق مروا بهذا الموقع ومن متابعين للشأن السياسي العراقي ومن مهتمين بشغف للاطلاع على حيثيات وتفاصيل التجربة التي خاضها الشيوعيين العراقيين في ظرف عصيب من تاريخ العراق السياسي الحديث وما أعترتها من تحديات جسيمة وطرق مواجهتها، مما أخذت قسم على نفسي وعهد تاريخي وأخلاقي في العودة لها ثانية والوقوف على تفاصيل آخرى. في مقرنا كانا معنا حمارين يتقاسما معنا التعب والخوف من صدى صوت الصواريخ العراقية عبر أجواء موقعنا لتدك رواقم الجيش الإيراني، وكانت شبه يومية ولا يحددها زمان ووقت. بطبيعة الظرف والوقت وعسر الحياة تآلفنا مع الحمارين وكانا جزء مهم من يومياتنا المملة، ولقد أطلقنا عليهن إسمين نكاية برجالات الدولة العراقية ” فيطو وصبحة ” !. شخصية فيطو هو المسؤول عن نادي الصيد العراقي آنذاك. وشخصية صبحة هي أم الدكتاتور صدام حسين. في نهايات أيام الانسحاب الآخير من موقع هزارستون على أثر الهجوم الكاسح على المنطقة كانا معنا ” فيطو وصبحة ”. وبقى معنا الى اللحظات الآخيرة من أنسحابنا من جبل سورين وعبورنا عبر المدن الإيرانية الى مناطق شرباجيير.

كنت حريص جداً مع الرفيق الذي سوف يرافقني في قطع أشجار البلوط في عمق الوادي صعوداً بإتجاه الاراضي الإيرانية ودقة تقطيعها وشدها وحملها على ظهور ” فيطو وصبحة ”. ربما بتأثير غير مباشر في التراجيديا السياسية، ذات يوم كنت حاضراً في أمسية بموقع كرجال ألقاه علينا الرفيق المرحوم أحمد باني خيلاني في خريف عام ١٩٨٣. وكان عائد تواً الى قيادة القاطع بدلاً عن الرفيق المرحوم بهاء الدين نوري الذي عزل وشهر به لأصراره بنشر وثيقة تقيمية لسياسة الحزب للفترة الممتدة من ١٩٦٨الى ١٩٧٩. وتحمل ما تحمل بسببها.

كنت معتقد ومتلهف سوف أسمع من المسؤول الجديد حول مستجدات المفاهيم الماركسية الجديدة قانون نقض النقيض أو وحدة وصراع الاضداد، أو ما كانت تمنيه النفس في الحديث عن ظروف أسره وفكه وبيانهم المشؤوم مع الرفيق المرحوم كريم أحمد من إذاعة صوت الإتحاد الوطني الكردستاني بعد أحداث بشتاشان الدامية. ختم حديثه حول مزايا الشيوعي الجيد وهو من يستطيع أن يقود حيوان ” البغل ” والرفقه في مداراة الحمل على ظهره.

في شتاء قارص عام ١٩٨٤. شهدت المنطقة عواصف ثلجية غزيرة سدت الطرق والمنافذ والتي كانت متاحة لنا للتحرك لعدة أيام، لم يعد أمامنا الا الحركة داخل الشكوت متأبطين الاغطية السميكة للوقاية من شدة البرد، ولقد أستمرت لأيام، ولقد أضنانه الجوع والملل، وفي هذا الأثناء ألتجأ إلينا ” كلب ” هارباً من الثلج والبرد ليحتمي في الاشكوت، فقام أحد الرفاق لا أتذكره من كان، بإطلاق النار عليه، وأنا قمت بسلخه وتقطيعه ووضعه في إناء كبير ولعدة ساعات تحت نار مشتعلة، وعندما ناديت على الرفاق بالقدوم والنهوض من النوم لإنه الطبخ أصبح جاهز، لكن لا أحد تجرأ على مضغه لقساوة لحمه الشديدة مع جملة من التعليقات المريحة. 

ذات مرة أكتشفنا في قطع جبلي حاد خلية نحل، والرواية تقول حسب بعض الرفاق من أبناء المنطقة عمرها عشرات السنيين، وعندما أستطلعنا عبر الفتحة الضيقة رأينا كثافة العسل المتراكم داخل المغارة، حيث بدأنا نضع الخطط تلو الخطط لاقتحامها ولصعوبة التمكن من السيطرة على المكان لابد من يحملك أو الاستعانة بسلم. قررنا أنا وعدنان اللبان ومناف الاعسم بتبني العملية، فقمت بأنتزاع شبك المنخل الوحيد الذي نمتلكه في المقر ومن خلاله كنا نصفي الطحين من الديدان والحشرات قبل تحضيره للعجن والخبز . ووضعت شبك المنخل على وجهي وغطت كل أعضاء جسمي بالوصل ” خرك ” وذهبنا الى المكان وحملني عدنان اللبان على كتفه وبدأت أوسع من كبر الفتحة بآله حديدية، وعندما تمكنت من أن أمد يدي داخل الفتحة لا أتخيل عدد الزنابير التي هاجمتني ولم يعد يحميني لا شبك المنخل ولا الغطاء الذي أحتميت به، وبقيت أيام أعاني من الألم والوجع والورم.

كنت وما زلت من محبي الطيور المدجنة، كان والدي المرحوم من مربيها، وأنا فطنت على ذلك في بيتنا الهويدراوي العتيق، حتى هنا في السويد جنيتها لأكثر من مرة، وكانت تمنحني طاقة من التأمل والسكينة لولا الملعونة السويدية جيراننا سعت من أجل حرماني من هذا التأمل حسب القوانين السويدية. وفي شوكت هزارستون ذات مرة كنت قي قرية ”شير مر” وفي أحد بيوت القرية وكان رب البيت من مالكي طيور، وتفاجأ عندما طلبت منه أن أشتري زوج وحملتهن معي الى المقر ”شكوت هزارستون”. ورتبت لهن واحدة من المغارات وأصبحن جزء من يومياتنا رغم الهمس من بعض الرفاق في الانتقاد وعدم الرضا، وذات عصرية كنا نتأمل سحر السماء وجمالية الغروب هجم الهر الكبير ”العتوي” عليهن ولولا أحد الرفاق الذي بادر بقوة السلاح من إبعاد الخطر عنهن، وبعد هذه الواقعة أختفن ولم نراهن، لكن أثارن جدل وسجال بين الرفاق وصلت بعضها الى الزعل.

في واحدة من السوابق الخطيرة في الحياة الحزبية الشيوعية بهذه الجملة واجهني الرفيق محمد جاسم اللبان ” أبو فلاح ” بعد أن ألتقاني، وأنا أروي له الحكاية. يبدو ومن خلال التجربة البسيطة وهذه ليس محصورة بالشيوعيين فقط إنها الشخصية العراقية بشكل عام، عندما يستلم ويتبوأ مسؤولية مهما يكون موقعها وتأثيرها، يبدأ شخصية آخرى غير الذي تعرفه وعشت معه سنوات وتجمعنا رفقة ومصير مشترك وموت مؤجل. كان في الموقع رفيقنا الشهيد أبو أحمد ” بختيار عرب ” من أهالي مدينة الشعب بالعاصمة بغداد رفيق مضحي وشجاع وكادر متمرس في العمل الحزبي ودمث الاخلاق ونكران ذات ومبادر في دعم ومساعدة الجميع وجليس ممتع، منذ سنوات لا يعرف أخبار عن زوجته وأولاده، أو ربما يتجنب الاتصال بهم خوفاً عليهم من بطش النظام. الشهيد أبو أحمد أستلم مسؤولية الموقع فتحول الى إنسان آخر تماماً غير الذي نعرفه وتعودنا عليه من التسلط وحشر أنفه في الصغيرة والكبيرة في يوميات الرفاق حتى وصلت الأمور الى لغة الأمر والخلافات اليومية مع الرفاق الى حد المقاطعة فتكون رأي عام ضده أو على أقل تقدير من أجل بقاء صورته الجميلة في قلوبنا، فوصلت الأمور الى حدود الكلوسة بيننا بالمطالبة بعقد إجتماع إستثنائي وأتفقنا جميعاً وبقرار حزبي سوف نعزله عن مهامه رغم خطورة الخطوة وتبعاتها علينا لانه خرق تنظيمي وحزبي كبير، وبعد سجال كبير نجحنا بمهمتنا وعزله عن مهامه من خلال التصويت وبالاجماع الحزبي وتعرضنا جميعا الى التوبيخ الحزبي الغير معلن من قيادة القاطع بأعتبارها سابقة خطيرة في الحياة الحزبية وطلبوا ببرقية عاجلة من الرفيق الشهيد أبو أحمد الالتحاق الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال”. وكان وضعه النفسي منهار وبادر الرفاق بأرساله الى العاصمة طهران للراحة والاستجمام وللابتعاد عن حياة الجبل. وأنا كنت في عمر وتجربة بسيطة جداً مما تألمت كثيراً وأنتقدت نفسي وأعتذرت منه في ما بعد.

في فترة وجودي في كهف”هزارستون”وفترة عام كامل، كانت مفعمة بالاحداث على المستوين الشخصي والسياسي، في يوم ما من عام ١٩٨٥ أستلمنا برقية عاجلة من قيادة قاطع سليمانية وكركوك مفادها تقول ! أن النصيرين السابقين خضر عبد الرزاق ”سليم”وعبد الزهرة تيتو ”أكرم” في الطريق إليكما ونود أخباركم وهذا بمثابة قرار بعدم الترحاب بهما وأستقبالهم في المقر، ومن المفيد جداً على الرفيق ”لطيف” هو أنا محمد السعدي أخذ الأمر بعين الاعتبار. النصيرين ”سليم”و”أكرم” كانا نصيرين ضمن قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي وتركا موقعهما النضالي وتوجها الى إيران، وبعد أن عانوا من  ضنك العيش وصعوبة الحياة عادا الى الجبل، وعندما وصلا الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال” لم يرحب بهما من الرفاق، ومن خلال السؤال عني عرفوا موقع تواجدي وتوجهوا لي، وهم أبناء قريتي، ولقد ضربت بعرض الحائط برقية وقرار القاطع وأستقبلتهم في المقر بالاتفاق مع رفاقي في الموقع الا البعض من الرفاق كان متوجس. وقد أبلغنا قيادة القاطع مموهين على حقيقة الموقف إنهم مروا من هنا، لكن الحقيقة قضوا يوماً معنا. وفي اليوم الثاني صباحاً توجهوا الى الحدود الإيرانية وسلموا نفسهم بأسماء آخرى باعتبارهم جنود هاربين من ويلات الحرب. 

بادر الشهيد أبن السماوة أبو سالار المعلم السابق والمناضل المعروف أبو صلاح من عمل لنا مزرعة جميلة في سفح مدخل الموقع ونسقها بجمالية مدهشة، رغم معاناته اليومية بشحة السقي وقلة الماء، كان أعتمادنا الرئيسي من الماء عبر عين ماء موقعها تتوسط الحدود العراقية الإيرانية وسحبنا خرطوم طويل صوب موقعنا، ولكن مرات عديدة تتعرض الى القطع والتلف بسبب القصف الصاروخي العراقي على المنطقة مما نستعين بالحمارين فيطو وصبحة لاحضار المياه. وكانت معاناة حقيقية لنا. وبعد أن أجتاحت المنطقة بالكامل في سلسلة جبل سورين وكان لنا خمسة مواقع مهمة ولم يبقى مقراً واحداً لنا الا بعض المفارز المختفية والمتنقلة بظروف غاية في الصعوبة. في عام ١٩٨٥ أجتمعنا مرة أخرى في منطقة ” زيوه ” الفصيل المستقل في بهدينان خلف مدينة العمادية وفي غرفة منام واحدة مع الرفاق أبو سالار وأبو بشرى وأبو أحمد وأبو سرمد، والذين زجوا الى الداخل في بداية عام ١٩٨٦ لمهام تنظيمية في الفرات الاوسط وإعتقلوا بعد فترة قليلة من وصولهم وغيبوا الى يومنا هذا وكل الاتهامات كانت تشير الى وشاية الكادر المتقدم في الحزب عدنان الطالقاني ” أبو هيمن ” وعندما عاد أبو هيمن من الداخل الى مواقعنا ورغم اللغط الكبير حوله، لكن لم يتخذ أي إجراء ضده بقى يمرح ويسرح في الفصيل، وقام الرفيق حميد مجيد موسى البياتي ”أبو داود ” عضو المكتب السياسي بزجه مرة أخرى الى الداخل ولم يعد ثانية لنا، وحاليا مقييم في مملكة السويد ولم نسمع الى يومنا هذا أي تحقيق تم جراء هذا الكارثة الكبيرة بفقدان كوكبة لامعة من الشيوعيين الحقيقيين، إنها طمست كغيرها من القضايا المهمة في تاريخ الحزب.

***

محمد السعدي

آب2023

كهف هزارستون تعني بالكردية ألف عامود وفي واقع الحال عبارة عن مغارة تاريخية موغلة في القدم وحادة في سفح جبل سورين، إنه كهف محشور بسلسلة من العواميد تحت مرأى العين المجردة، في الصيف النوم تحت تلك العواميد تشعرك برشفة برد منعشة وفي الليل تخرج أسراب من خفافيش الليل في دورة كاملة حول المكان وفي النهار لاتشعر بها أطلاقاً تنام بصمت، يقع هذا الكهف في سفح حاد ومحاط بالصخور ذات الرؤوس المدببة والجارحة وبوادي عميق في جبل سورين، هذا الوادي ممراً للمهربين وملتقى القوافل في شراء وتبادل البضائع الإيرانية والعراقية بعيداً عن سيطرة الحكومتين، وممشاً أمناً للجنود الهاربين من الجندية العراقية ومن لهيب نار الحرب على جبهات القتال . يبدأ مدخل ممشى الوادي بإتجاه المدن العراقية قرية ”شيرمر ” على الشارع العام بين قصبتي خورمال وسيد صادق . نحن مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي في عبورنا الليلي من مناطق شهرزور بإتجاه مقرات الحزب في باني شهر، وهزارستون، ووادي كرجال، وخورنوزان . نمر بقرية شيرمر ونقضي الليل في جامعها أو في أطرافها نقضي طول الليل سهرانيين تحت الاشجار أو داخل ” كرنفان ” كان متروكاً بأطراف القرية بأنتظار الصباح الباكر لنتسلق عبر الوادي صعوداً حاداً بإتجاه مقراتنا .

في ربيع عام ١٩٨٤ تم تنسيبي من مقر القاطع في منطقة كرجال الى موقع هزارستون حيث تنظيمات التنظيم المدني الجنوبية والفرات الاوسط والمنطقة الوسطى، وكنت أنا أصلاً محسوبا على التنظيم المدني لتنظيمات المنطقة الوسطى . موقع هزارستون معزول تماماً وبعيداً عن مقرات الحزب الأخرى أي يفصل بيننا مواقع للجيش الإيراني معززة بعناصر حزب الدعوة داخل الأراضي الوطنية العراقية . في تنقلاتنا اليومية بين جلب المواد الغذائية ونقل البريد الحزبي وقطع الاشجار لغرض الطبخ والتدفئة من البرد القارص، كانوا يعترضوا طريقنا ببعض الاسئلة المعتادة لنا وكنا لم نخفي هويتنا نحن شيوعيين عراقيين معارضين لنظام صدام حسين، لكننا نرفض إحتلال أرض بلدنا الوطنية، مما كان هذا الموقف يثير حفيظة عناصر حزب الدعوة وعناصر التنظيمات الإسلامية الذين يقاتلون مع الجيش الإيراني ضد العراق . في هذا المكان شعرت برفقة وقرب مع رفاق غادرونا الى أعالي المجد في أستشهادهم البطولي .. المرحوم أبو ذكرى مدينة السماوة، الشهيدة أم ذكرى مدينة النجف، المرحوم أبو ناصر جديدة الشط، الشهيد أبو أحمد مدينة بغداد، الشهيد أبو بشرى مدينة السماوة، الشهيد أبو سالار مدينة السماوة، الشهيد أبو أحمد ناحية الدغارة، الشهيد أبو سرمد ناحية الدغارة، الشهيد يوسف عرب مدينة الكوت، الشهيد أبو جلال مدينة الحي، الشهيد أبو علي السماك مدينة الصويرة، الشهيد أشتي مدينة كركوك، الشهيد أبو جيفارا مدينة جلولاء، الشهيد أبو غسان مدينة بعقوبة، الشهيد أبو سهيل قرية الجيزاني، الشهيد أبو قيس مدينة بعقوبة، أبو جهاد مدينة السماوة . كوكبة لامعة من المناضلين الشيوعيين مروا بهذا المكان، تقاسمنا العوز والحرمان ومشروع التطلعات الثورية . أنني مررت على الذين رحلوا لأحيي ذكراهم العطرة والسيرة الحسنة التي تركوها في نفسي برسم مسارات طريقي النضالي اللاحق .

في بدايات ربيع عام ١٩٨٥ كثافة الثلوج على قمم الجبال وسفوح التلال تقل بالذوبان عوضاً عنها زنابق الورود الصفراء والحمراء من بين شقوق الصخور إيذاناً بقدوم الربيع . ذات ليلة من هذا العام عقدنا أجتماعاً لدراسة الاوضاع في المنطقة ومناقشة الوضع السياسي خرجنا بتقييم وتقرير بإنه الوضع هاديء ولاشيء يدعو الى القلق والترقب . وقرر المجتمعون في الصباح الباكر بأنني سأحمل تقرير الاجتماع الى مقر قيادة القاطع في منطقة كرجال خلف قرى ” بيارا وطولا ” . كان آخر الحراس الليلين في الموقع الشهيد أبو علي السماك ” عمر ” ينادي على الجميع في النهوض، رفاق أنهضوا هناك تقدم على المنطقة وقصف صاروخي كثيف على الرواقم الإيرانية من قبل قوات الجيش العراقي . نهضنا جميعاً وأخذنا أستعداد كامل لمواجهة الموقف، وقد تبين من اللحظة الأولى أن القوات العراقية الخاصة بقيادة علي عربيد لقد أحكمت سيطرتها على المرتفعات الجبلية التي تقع في ظهر موقعنا وعبرت القوات العراقية مقرنا من الخلف بإتجاه التسلق نحو الرواقم الإيرانية تحت قصف مدفعي وصاروخي كثيف للتغطية على تقدم القوات العراقية، تركنا موقعنا وحملنا معنا أشياءنا المهمة والخفيفة وتوزعنا على قمم الجبال والوديان بإتجاه مقرات حزب ” الباسوك ” حليفنا في جبهة جود ولم نجد أحداً من مقاتليه لقد أنسحبوا في بطن الليل لتلقيهم معلومات مسبقة عن تقدم الجيش العراقي ولم يبلغوننا ونحن في جبهة قتال واحدة ضد النظام العراقي، أما التقرير الذي كنت أحمله في ”العليجه ” حقيبتي الشخصية بتقييم الاوضاع قبل عدة ساعات لقد مزقته بوصية من الرفاق . بعد عدة ساعات تمكنت قوات الجيش العراقي من إحتلال المنطقة بالكامل وسحق كامل للقوات الإيرانية الأ من أستطاع الهرب، وكنا نرى بأم أعيننا القوات العراقية ترمي الجنود الإيرانيين وهم أحياء الى عمق الوادي ولا يكسر سكون الوادي آنذاك الا صوت الاستغاثة والتوسل وفي خضم هذا المشهد صادفنا ضباط إيرانيين تمكنوا أن ينجوا بجلودهم وطلبوا مني ناظوراً كنت أحمله ليروا مصير جنودهم . في ختام المشهد إنسحبنا الى موقع مقر الفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ” وبعد تقييم سريع للموقف بعثناه الى قيادة مقر القاطع بقيادة أحمد باني خيلاني”أبو سرباز” إبراهيم الصوفي”أبو تارا” محمد النهر”أبو لينا” تلقينا جواباً سريعاً لا ينم عن دراية وتقييم جدي للاوضاع العسكرية والسياسية في المنطقة تقول البرقية ! أن أنسحابكم بهذه الطريقة وترك خلفكم أشياء ثمينة طبعاً الاشياء الثمينة، كانت هي تسعة صواريخ بازوكا فاسدة يعد هزيمة كبيرة أمام أهالي القرى وجماهير الحزب وما عليكم الا العودة الى الموقع وسحب الصواريخ تحت جبهة حرب ساخنة ونية إجتياح كامل للمنطقة وهذا ما حدث بعد شهرين لم يعد لنا مقراً في المنطقة ونزوح كامل الى مناطق”شرباجيير” . عدنا أربعة رفاق الى موقعنا في هزارستون تحت عتمة الليل والقصف والتنوير والانتحار، ولقد وجدنا قتلى جنود داخل مقرنا وحملنا معنا بعض الاشياء التي لم يلتفت لها الجنود العراقيين عندما دخلوا موقعنا  لنعيد بها وجه الحزب كما ذيلت تلك البرقية الا صواريخ البازوكا التي صادرها الجيش في نفس الليلة، وكنا في مواجهة حقيقية مع الموت . تلك واحدة من التجارب المهمة في حياتنا كأنصار شيوعيين .

***

محمد السعدي

آب 2023

بعد حقبة الستينيات وعند هذا التاريخ دخل العراق في الفراغ، في منعطف توقف عن إنتاج النماذج الوطنية الكبيرة، ومشاعية التفكير والرؤيا، فسلام عادل هو آخر الذين يذكرون هنا بإجلال، لاعتبارات خاصة، فالعناد والتمسك بالمبادئ كان ديدنهُ، مما صنع منه العظمة من الأعلى وجعلت لأول مرة في العصر الحديث ممكنة. أما ما صنعته القيادة من الأسفل فهو عزيز الحاج، الذي تزعم تنظيم القيادة المركزية وتركه بموقف لا يحسد عليه عبر لقاء على شاشات التلفزيون العراقي.

لكن لا أحد من بين من انغمسوا في تجربة الكفاح المسلح كان كاملاً، فعزيز الحاج لم يكن ضعيفاً بذاته، بل بالخلفية والايقاع المحيط به هو الذي اضعفه، لذلك كان على عزيز الحاج أن يفعل ما فعله لأنه لا يستطيع الموت بمرافقة الكذب أو لأجله، مع العلم أنه كان غير مؤهلاً تماماً ليقود الثورة في أهوار جنوب العراق، لذلك نجده قد صعد في أرجوحة الحلم المغلق، وهبط مضرجاً هبوطاً مدوياً يدل على المأساة، فكان رمزاً لحظة الإعلان المدوي عن الفراغ بكل تراجيديتها، كما كان نقطة دالة على انقطاع في الجانب الأهم من جوانب الشكل الوطني.

كانت انتفاضة الأهوار قد وقعت ضمن اخطر المنعطفات التاريخية في عموم تاريخ العراق، وكان ثوار الانتفاضة أمثولة من نوعٍ آخر، فالانتفاضة المسلحة التي قامت في الأهوار وقتها استمرت برمزيتها التي نجمت عنها، وخاصة بفرديتها، فالفرد الذي ينمو مع الأيام والوقائع انتهى بنهاية الحدث وتحول إلى ذكرى مستحيلة التكرار، والأشخاص صاروا حاضرين ملحقين بالحدث، كما هو حال الثائر خالد أحمد زكي، الذي كان يمتلك صفاة القائد بشجاعته وملكاته الشخصية، أو منجزه الحقيقي وحدود ما فعله، إلا أنه لم يكن مؤهلاً جسدياً للعمل الصعب الشاق في الأهوار، والنزعة الأرادوية في هذا المجال، لم تكن مفيدة دائماً ولا فعالة، بسبب ضخامة الصعوبات وتعددها، بينما وضع في الظل اسم شخص لعب الدور الأهم في كل تجربة الكفاح المسلح، وتميز بروح تطابق اللحظة التي مارس نضاله خلالها، وكان متميزاً وقيادياً ومشاكساً قرمطياً غريب الأطوار هو أمين الخيون.

في ص66 يتذكره الكاتب عبد الأمير الركابي في كتابه (انتفاضة الأهوار المسلحة في جنوب العراق 1967/1968م) قائلاً: (أمين الخيون هو حقاً الممثل الفعلي للتيار العراقي، ضمن ظاهرة الاتجاه إلى العمل المسلح، وتصوراته ومحاولاته بهذا الخصوص، تعود إلى أوقات مبكرة، ترجع لما قبل تأثيرات أمريكا اللاتينية وجيفارا، فأمين كان من المشاركين في المقاومة المسلحة التي جوبه بها انقلاب 1963 البعثي عام 1963 في الكاظمية شمال بغداد، حين قام مع رفاقه باحتلال مركز الشرطة هناك، واستولوا على اسلحته وجابهوا الحرس القومي ودبابات الإنقلابيين. وكان هنالك في خلفية المشهد أيضاً أبو جعفر المناقبي، والشخصية المتفانية من دون حساب، أو نوري كمال العاطفي الذي صفيّ على يد ناظم كزار، أو الملازم فاضل عباس، ومن بين هؤلاء لم يشارك الأول والثاني، في العمل المسلح بأي درجة... في حين كان الملازم فاضل عباس قد شارك في القاعدة الأولى مع أمين الخيون، وكان المشرف على التدريب على الأسلحة. وهو بالمناسبة من الهاربين من سجن الحلة).

علينا أن لا نغمط ونغفل دور الخيون في الدواية كلياً في مجريات العمل المسلح في الأهوار وما اطلق عليه اسم (منظمة الكفاح المسلح)، وهي المنظمة التي ظلت قائمة حتى بعد مجيء حكم البعث للسلطة عام 1968 وهروب أمين الخيون من السجن في الموقف العام في باب المعظم بمساعدة حارس ينتمي إلى الحركة الكردية قبل تصفية القيادة المركزية عام 1969. وقد فقد أمين الخيون أخيه نائب الضابط في القوة الجوية جميل الخيون في ظروف غامضة، ولم يعرف عنه أي شيء لحد الآن. وحالة أمين الخيون لعبت فيها قلة الخبرة، وعدم توفر الأشخاص المناسبين للمهمة، إضافة إلى الأخطاء التي كانت في هذا المجال الدقيق، غير قابلة للاستدراك وسرعان ما تنتهي إلى انهيار التجربة وفشلها.

أما جماعة الفرات الأوسط من تنظيم الكفاح المسلح فكان موسى تاج الدين أكثر اعضاء المنظمة أهمية، وقد عقدت له عدة لقاءات بخالد أحمد زكي في الحديقة العامة قرب المحطة العالمية في الكرخ، ثم اللقاءات استمرت في بيت (شهاب) في الحرية الثانية. فضلاً عن جماعة (كوادر الحزب) أو (فريق الكادر اللينيني) المتمثل بعزيز الحاج وحسين الكمر. وكان لكثرة الانشقاق قد تعرض البعض للتجميد من قبل الحزب (اللجنة المركزية)، فبدأ بتشكيل تكتل (وحدة اليسار)، وهكذا كان الحزب عموماً، يضم قبل انشقاق القيادة المركزية في 17 ايلول 1967 ثلاث تكتلات هي: (القيادة المؤقتة) أو (مصباح) و(فريق من الكادر اللينيني) و(وحدة اليسار). الأول يتزعمه عزيز الحاج وحسين الكمر، والثاني يقوده نجم، والثالث الأصغر بقيادة أمين الخيون.

كما لا ننسى الشخصية الاسطورية موسى عطية، فضلاً عن دور ضابط الصف المقاتل حسين محمد حسن السويعدي الذي شارك عام 1963 في انتفاضة الرشيد مع حسن سريع. ولدور محيسن نايف الذي ارتبط بانتفاضة فلاحي الغموكة، وهناك أيضاً عبد الجبار علي جبر الشمري؛ الذي فقد كفه وهو يعيد قنبلة يدوية وقعت وسط مجموعته في معركة هور الغموكة، ولولاه لقتل جميع رفاقه، وكذلك يجب أن لا يُنسى علي حسين بويجي، ذلك الشاب اللاهي الضحوك من أبناء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، وتوفى في ظروف غامضة، ولا ننسى عقيل حبش ودوره في الانتفاضة، إلا أن الظروف لم تكن بجانبه فتم إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة السيارة أولاً، فضلاً عن دور عبد الأمير الركابي الذي تخاذل فيما بعد وتعاون من اللجنة التحقيقية بعد إلقاء القبض على المجموعة. فضلاً عن دور ابن محلة الدوريين في بغداد عبد الله شهواز، وممن استشهدوا في المعركة خالد أحمد زكي ومحسن حواس، هما من قاتلا ببسالة ورضى مذهلين. قاد معركة هور الغموكة الشهيد خالد أحمد زكي، الذي ترك العمل مع البروفسور رسل وعاد للعراق لقيادة تجربته في الكفاح المسلح ضد نظام السلطة العارفية، وعند وصوله لبغداد اقتضت الضرورة لإقامة جهاز سري سمي (خط حسين)، وجرى لاحقاً تغيير اسمه إلى (خط هاشم)، حتى لقب خالد أحمد زكي بـ(أبو هاشم)، وكان دور هذا الجهاز أن يقوم بالمهام الخاصة من استخبارات ومراقبة وتأمين السلاح، والبدء بالتدريب على استعماله والقيام بمهمات الحماية. وكان السيد درعان (منعثر سوادي) الذي استشهد هو الآخر في المعركة, وهناك أشخاص آخرين لم يشاركوا في المعركة الفاصلة مع القوات الأمنية وقد اصيبوا بالذعر؛ هم كلٍ من: عبود خلاطي وحسين ياسين وموسى عطية، تركوا المجموعة في اليوم الثاني.

من خلال هذا البحث الموجز احاول أن ارسم قراءة عن انتفاضة الأهوار، التي وقعت ضمن أخطر المنعطفات التاريخية حقبة الستينيات، في وقت تنامي الصيغة الشيوعية المقاتلة وكسر القاعدة. هذا التحدي الذي اسهم بقوة في طمس أو منع العقل العراقي من التعرف على ذاتيته التي كانت تتطلب أن يضطلع الإنسان بمفرده فيتحمل مغبة وثقل الاختراق الدهري وسط المعاكسات الثقيلة والراسخة في العقل والسلوك. فانتفاضة الأهوار هي بداية نشأة وصيرورة في قلب المستقبل، لها قواعدها التي رسمتها وهي من تؤسسها لتحقيق أهدافها وفق مفاهيم ومقاييس الشيوعية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

إذن. فقد رحل سامي العامري! هناك. في برلين، حيث عاش ثلثي عمره مغترباً. رحل الشاعر العراقي الكبير، والإنسان المرهف، بالطيبة، والمحبة التي كان يحملها للناس جميعاً، بأحلامه البسيطة، وجلها يتمثل بنشر أعماله الشعرية والأدبية التي انتهى من كتابتها. هو نفسه أخبرني بذلك، في زيارته الأخيرة للعراق. ومن الرائع أنه عاد إلى مدينته الأثيرة بغداد مرتين: الأولى في العام الماضي، بعد فراق طويل دام ثمانية وثلاثين عاماً، أما الثانية فكانت في الشهر الخامس من العام الحالي، قبل أقل من شهر على رحيله المفاجئ. وفي المرتين كان الشاعر يحتضن جميع تفاصيل الأمكنة البغدادية بشغف عجيب. ربما لكي تخفف عن روحه مرارة أربعة عقود من الغربة. وهكذا، طاف الشاعر في أرجاء المتحف العراقي متأملاً عظمة الآثار الرافدينية، وزار المتحف البغدادي، ومعرضاً للفن الحديث في قاعة كولبنكيان. سار بين الناس العاديين وسط زحام شارع المتنبي، والرشيد، والباب الشرقي، واستقل "التكتك" في شارع الكفاح، تناول وجبة إفطار بغدادية في مطعم كبة السراي، واستعاد طعم "الكاهي والقيمر" في محل "رسول" الشهير، في الصدرية، والكباب في مطعم شعبي في سوق الصفافير، وشعر بسعادة تفوق الوصف لحظة ركب الزورق "البلم"، ليعبر به نهر دجلة على مهل، من ضفة الكرخ إلى الرصافة، هو الذي قال مرة: (أنتِ حلمي/ أوليس الحلمُ من طبع السلافة/ أنا كرخيُّ الهوى/ ثَمِلً حدَّ الرصافة!).

 وحدهم الذين عرفوا سامي العامري عن قرب يمكنهم أن يقدروا حجم الخسارة برحيله. مبدع حقيقي كبير، تواضعه وطيبته لا ينفيان عزة نفسه، واعتداده بمنجزه الإبداعي. لقد كان أشبه براهب يتعبد في محراب الجمال، جمال الطبيعة، والفن، والشعر، والفلسفة. ما أن بدأ ينظم الشعر وهو فتى في مرحلة الدراسة الثانوية حتى نذر نفسه لعالم الكلمة الصادقة، عالم لا يقدر على تحمل تكلفته إلا نبلاء حقيقيون من طراز سامي العامري، ونخبة من أخلص أصدقائه: نصيف فلك، وحميد العقابي، وجمال جمعة، ووو، ممن سبقوه إلى المنافي، ولحق بهم هو بعد فترة قصيرة. أدباء شباب في مقتبل العمر، كادت نيران الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت مع بدء خطواتهم الأدبية الأولى أن تحرق أرواحهم الرومانسية الجميلة. صحيح أنهم أفلتوا منها، لكن إلى متاهة غربة امتدت لعقود، متاهة السؤال عن المعنى، عن مسؤولية المثقف تجاه ما يحدث من عبث. متاهة أتعبت أبانا آدم من قبل، وأرهقت سلفنا كلكامش. لقد راهن أولئك الفتية الحالمون على قيم نبيلة، دفعوا في سبيلها الكثير من شبابهم، وصحتهم، ولم ينعموا بالمال، والجاه، والمناصب كحال أدباء السلطة، من قبل ومن بعد. لكن يكفيهم أنهم عاشوا أنقياء، ورحلوا أنقياء. أطال الله في عمر الباقين منهم.

إن رفض عبثية الحرب موقف يتطلب الكثير من الشجاعة. ولم يكن من السهل على شاب في الرابعة والعشرين من العمر أن يغامر بتجاوز الحدود، ويخطط  للإفلات من قبضة النظام الاستبدادي، لكي يقول كلمته. وكان الشاعر الراحل شجاعاً حقاً. غادر العراق تاركاً خلفه ذكريات جميلة، وتوقيعاً تحت اسمه على أغلفة بضعة كتب، صارت من نصيبي لاحقاً. كان من بينها كتاب عن الفيلسوف "نيتشه" لعبد الرحمن بدوي، وآخر عن الموسيقى العالمية. ومن منفى إلى آخر، استمر الشاعر متشبثاً بحلم الخلاص، الخلاص الجماعي لوطن أحبه، وأخلص له، وكتب عن مأساته بشجاعة نادرة، أيام كان الخوف يلف ألسنة الكثيرين ممن غادروا العراق، تشهد له على ذلك نصوصه الشعرية، ومقالاته التي نشرها في الصحف، والمجلات التي كانت تصدر خارج العراق كالوفاق، والاغتراب الأدبي، والثقافة الجديدة.

يوم هاجر سامي العامري الذي يكبرني بعقد من السنين في العام 1984، لم أكن قد رأيته سوى مرة أو مرتين، حين كان والدي -رحمه الله- يصحبني معه لزيارة بيت العم. معرفتي الحقيقية به بدأت في العام 1992، وقتها كانت قد وصلت إلى بغداد نسخة من مجموعة شعرية له، مطبوعة بالآلة الكاتبة، حملت عنواناً مميزاً: "مسقط رأس دمي". سأسأله عنها حين أقابله بعد ثلاثة عقود على تاريخ وصولها لبغداد، وسيقول إنه أصدرها بذلك الشكل البسيط، وبعدد محدود، بسبب صعوبة النشر في أوربا، وفي البلدان العربية، حيث يتوقف الأمر على ما يملكه الأديب من مال، أو علاقات. ولأن تلك المجموعة تمثل مرحلة البدايات، لم يعمل على اخراجها مرة ثانية. لكن الحق إن نصوص المجموعة أكثر من رائعة، كانت مزيجاً من تأملات فلسفية فذَّة، ووجد صوفي شفيف. حتى مكابدات الغربة، وكوابيس الحرب التي بقيت تطارد الشاعر وهو في ألمانيا صيغت بذائقة جمالية مميزة، وصور فنية تتسم بالفرادة، والابتكار. يقول في إحدى نصوصها، وأنا هنا أكتب من الذاكرة: (لم أطلب الغابة كلها/ طلبت برعماً صغير/ يزحف كالطفل على ركبتيه/ الدرب فيه اللص/ والضحكة المحاربة/ يا سائس الفراشات/ عجائب الزمان في أفعالنا/ فلا تقل زماننا ما أعجبه). ويقول في نص آخر: (...وفانوس راعية في الظلام/ تسرح أظفارها الراجفات قشوراً على مائدة/ فوانيس ترعى/ وقافلة من جنود/ تسير بعيراً بألف سنام/ تماحك خطوتها الماردة).

مع سامي العامري، فقط، نسمع أن للفراشات سائساً. من هو؟ ومعه، أيضاً، نرقب براءة الذات العراقية المتطلعة للسلام، وللحياة البسيطة الآمنة. بينما اللص الذي يقطع عليها الطريق، ويعلن الحرب حتى على الضحكة، يسوق آلاف الجنود، كما القطعان إلى المحرقة.

سامي العامري شاعر مرهف، وكاتب مثقف غزير الانتاج. لم تتهيأ له فرصة طباعة نتاجه الأدبي في وقت مبكر. وبالكاد تمكن لاحقاً من طباعة بعض منه، على حسابه الشخصي. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "السكسفون المُجَنَّح"، عن دار سنابل – القاهرة، في العام 2004، وظهرت بطبعة ثانية عن الدار نفسها بعد سبع سنوات. وفي العام 2005 أصدر ثلاث مجموعات  شعرية: الأولى عن دار شمس ـ القاهرة، بعنوان "العالَم يحتفل بافتتاح جروحي"، والثانية بعنوان: "أعراض حفاوتي بالزنبق" عن دار سندباد ـ القاهرة، والثالثة بعنوان "أستميحك ورداً"، عن الدار الأخيرة نفسها. كما صدر له كتابان وظف فيهما الشعر والسرد هما: "حديث مع ربة الشفاء"  الصادر عن مركز الحضارة العربية ـ القاهرة – 2004،  و"النهر الأول قبل الميلاد" دار سنابل ـ القاهرة - 2011.

كنت قد طلبت من الشاعر الراحل أن يعمل على جمع نصوصه الشعرية غير المطبوعة، والتي نشر كثيراً منها من المواقع الإلكترونية، لكي يبدأ بإصدار أعماله الشعرية الكاملة، فمن شأن ذلك أن يحفظ منجزه الإبداعي، ويوفر للباحثين، ولطلبة الماجستير، والدكتوراه فرصة لدراسة نتاج شعري حقيقي. لكنه لم يتفاعل مع الفكرة لسببين: الأول أن إصدار الأعمال الكاملة ربما يعطي انطباعاً بأن صاحبها قال كل ما عنده، بينما هو لا يزال لديه القدرة على المزيد من العطاء. والسبب الثاني له صلة بمتلقي الشعر اليوم، الذين يفضلون قراءة مجموعة شعرية صغيرة الحجم على تجشم عناء قراءة مجلدين كبيرين. بصراحة، لم أقتنع بجوابه. مع ذلك، فقد اقترحت عليه أن ينشر إحدى مجاميعه هنا في بغداد، لا في دور نشر عربية لا تبذل جهداً لتسويق نتاجه، وإيصاله للقارئ العراقي في الأقل. وقبيل سفره الأخير بأسبوع ذهبنا معاً إلى دار الشؤون الثقافية العامة، ليقدم للنشر مجموعة شعرية جديدة بعنوان: "أوقات من يواقيت". آمل حقاً أن تنشر في الشهر العاشر، كما أخبرونا، تقديراً لذكرى شاعر كبير، استمر يحمل هموم وطنه في منافي الغربة، ويردد بمنتهى الصدق: (المنفى وهم. نحن الذين رسَّخنا أسسه. وإلِّا فما معنى أن يشاركني الوطن حتى ارتداء القميص. هذا نفي للنفي).

وللشاعر الراحل مجموعتان شعريتان جاهزتان للطباعة، في شقته في برلين، الأولى مكتوبة باللغة العربية عنوانها "آناء الليلك وأطراف الجُلَّنار"، أما الثانية فهي مكتوبة باللغة الألمانية بعنوان: Halskette ausInseln (قلادة من جُزُر)، آمل حقاً أن لا تضيعا، لا سيما تلك المكتوبة بالألمانية، فقد تطلبت كتابتها منه الكثير من الجهد والوقت، وأعاد تحريرها  أكثر من مرة. للأسف. ضاعت منه في أثناء تنقلاته مئة رسالة أرسلها إليه الراحل حميد العقابي.  ولديه مقالات  كثيرة لم تجمع، في الشأن العراقي السياسي، وفي قضايا الأدب واللغة. كما أنه أخبرني قبيل سفره بأنه سيجمع قصصه القصيرة المكتوبة على لسان الحيوان، لكي يصدرها بكتاب.

إن العالم الشعري لسامي العامري عالم ساحر، وجميل، وزاخر بالتقاطات عجيبة، من الطبيعة التي هام في جمالها، حيث النهر، والنجم، والغابة، والفراشات، والبراعم، والورود، والنباتات العطرية بأنواعها: "الليلك، والجلنار، والزنابق، والخزامى، والريحان.."، والآلات الموسيقية: "الكمان، والمزمار، والسكسفون..". وثمة تجاور حميمي في سائر مجموعاته الشعرية بين نصوص الغزل الرومانسي الجميل ونصوص الحكمة التأملية المزدانة بتناصات تتوزع على مشارب الأدبين العربي والعالمي، وميادين التاريخ القديم والحديث، وأروقة الفلسفة. وإن كانت صوره الفنية المبتكرة تفضل أن تنهل من الجمال الفطري للطبيعة، مقدمة إياها على أي مصدر آخر. وسنعرف من نص شعري له بعنوان "من ذاكرتي الثانية" نشر في العام 2017، أن "سائس الفراشات" الذي أشار إليه في إحدى نصوصه المبكرة هو سامي العامري نفسه. وسأكتفي هنا بنقل جزء من النص، بلا تعليق، فهو بجماله النادر، وبما اشتمل عليه من سكينة وسلام نحن بأمس الحاجة إليهما يقول الكثير: (حينما كنت رضيعاً/ وأصابعي بحجم عيدان الثقاب/ كان العالم أسراراً لا تعنيني/ ولم يكن عندي وقت/ لأهتم بمطلقٍ أو وجودٍ أو عدم/ كنت فقط أهتمُّ بإطعام فراشاتٍ/ تمد خراطيمها مُدَغدِغَةً إبطَ وردةٍ ذابلة!).

من الواجب أن أذكر هنا بتقدير واحترام ذلك الموقف الجميل لبعض الأساتذة الأدباء (حمودي الكناني، وسلام البناي، وصباح  محسن كاظم، وآخرون) من أصدقاء أوفياء كان قد تعرَّف عليهم الراحل قبل سنوات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحين عرفوا بمجيئه في العام الماضي أقاموا له جلسة احتفالية في أتحاد الأدباء والكتاب في كربلاء، قرأ فيها بعضاً من نصوصه الشعرية، وأشعرته بكثير من الفرح. وكانت تلك الجلسة البسيطة الجميلة هي الشيء الوحيد الذي حصل عليه الشاعر من أية مؤسسة عراقية طوال حياته الزاخرة بالعطاء! 

لقد كان الراحل الكبير سعيداً بالأيام التي قضاها هنا في بغداد، قبل ثلاثة أسابيع من رحيله المؤلم. أسرته، وأخواته، وأبناؤهم الذين لم يسبق لهم التعرف عليه لأنهم ولدوا بعد سفره من العراق بسنوات فرحوا برؤيته، واحتفوا به باهتمام، وعاطفة صادقة. وكان يلتقي بشكل شبه يومي مع صديق طفولته الأثير الأستاذ التربوي جمال العامري الذي بقي يحتفظ له بالمودة والاحترام طوال خمسين عاماً. كما حرص على الالتقاء بصديقه الوفي الروائي والشاعر الأستاذ نصيف فلك، جلسا في مقهى هادئ يتبادلان حديث ذكريات عمرها أربعة عقود. امتدت الجلسة لساعات كأنها دقائق تمت سرقتها من عمر الزمن. أهدى كل منهما مؤلفاته للآخر. كانا متشابهين في الروح والطباع، مثل أخوين من أم واحدة. لقد كان سامي العامري وفياً لأصدقائه. وخلافاً لسلوك أكثر الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين لم يجد الراحل حرجاً في الإشارة إلى تأثره -في مطلع شبابه- بكتابات نصيف فلك، والشاعر والفنان التشكيلي باسم الرسام، وأن يقول إنه كان يحفظ عن ظهر قلب نصوص المجموعة الشعرية الأولى لحميد العقابي: "أقول احترس أيها الليلك"، والمجموعة الشعرية لصديقه جمال مصطفى: (أمطار بلا سبب). صحيح أنهم أكبر منه سناً لكنه ينتمي لجيلهم. وهذه الشجاعة الأدبية واحدة من صفاته النبيلة، وهي تهدينا درساً بليغاً عن المعنى الحقيقي للمبدع المثقف.      

 في الليلة التي سبقت موعد سفره ودع سامي العامري أفراد أسرته وأصدقائه على أمل اللقاء بهم من جديد في وقت قريب. عاد إلى ألمانيا مفعماً بآمال كبيرة، ومشاريع أدبية وحياتية جديدة. لكن الأجل لم يمهله طويلاً. رحل وهو في أوج مراحل عطائه الأدبي. لم يكن يخشى الموت، فقد كان له إيمانه الخاص بالمطلق الرحيم، بالقوة الخيرة التي خلقت الكون، إيمان يتقدم فيه الجوهر الذي ينفع، على المظاهر التي تخدع. وقد ذكر لي ذلك مرتين.

شخصياً، أجد نفسي ملزماً بإهداء كلمات شكر كثيرة لسامي العامري، وأن أقدم له اعتذاراً أيضاً. أما الشكر فلأنه مثل لي مصدر إلهام، تعلمت منه الكثير في مطلع شبابي، لا سيما من مجموعته الشعرية التي ذكرتها آنفاً "مسقط رأس دمي". من حسن الحظ أنني أخبرته بذلك، وقرأت له بعضاً من نصوصها التي أحفظها منذ ثلاثة عقود. كان هذا الأمر – على بساطته - مفاجأة سارة بالنسبة إليه. أما الاعتذار فعن تأخري في الكتابة عنه، والتعريف بنتاجه الأدبي المميز، الذي يستحق اكثر من دراسة جادة، وعن أي تقصير، أو خطأ غير مقصود بدر مني تجاهه.

 بصراحة، لا أعرف طبيعة ما أكتبه هنا. لكنه بالتأكيد ليس كلمة رثاء، فسيبقى سامي العامري حياً في ذاكرة أصدقائه ومحبيه، وأولئك الذين يقدِّرون باحترام الشعر الحقيقي في أجمل تجلياته. وإذ أفكر  في خاتمة مناسبة، فيما يمكنني قوله لسامي العامري، لا أجد أفضل مما كتبه هو حين رحل صديقه حميد العقابي، يومها قال: (يا حميد لن أرثيك، فمثلك من قاطفي ثمار الأبد). انطلق بسلام أيها الشاعر، أدخل إلى الجنة لكي تستريح قليلاً. الجنة التي تعرفها أنت، وحدثتنا عنها ذات مرة تحتضن الجميع بحنان وسلام. حتى "الجنة ستدخل الجنة"! جملة شعرية لا يبدع مثلها سواك أيها الجميل: (حقاً تعِبْنا أيها الوطنْ/ تعالَ نستريحْ/ نأخذُ في الصبحِ لنا/ قسطاً من الريحْ/ في رَكْبنا الراحةُ والراحُ وهكذا/ نرحلُ في عكسِ تلافيف الزمنْ/ وتنبضُ الحياةْ/

نعمْ كما تنبضُ أعشابُ المَدى بالرُّعاةْ/ ويشكرُ الحبيبُ/ لحظةَ إلهامٍ/ أتى بها إليه نجمُهُ الخصيبُ/ أنزَلَها لنا كما الأجراسِ في صبيحةٍ/ فاهتزَّ من وردٍ ومن أطيابِهِ/ البعيدُ عن برلينَ والقريبُ!/.... وحينَها أرواحُنا ستدخلُ الجنانْ/ مُهرْوِلاتٍ كلَّها/ جانٌ بإثْر جانْ!/ كأنها تفعلُ ما تفعلُ ممتنَّة/ ونحنُ والجنة/ سندخلُ الجنة!).

***

عباس عبيد

أكاديمي وباحث من العراق

علمتنا الخبرة الإنسانية أن التاريخ البشري يحوي الكثير من الأحداث والوقائع والظواهر التي تستحق الوقوف عندها للتأمل والنظر والدراسة.. ومن هذه الظواهر التاريخية ما يمكن أن نسمّيه "بالشخصيات الجدلية" فعندما نقلب صفحات التاريخ نلتقي عبر ممراته، ومنعطفاته الكثيرة بهذه الشخصيات المثيرة للجدل! التي خالفت بما صنعت وأحدثت من سلوكيات، وممارسات الأنساق الثقافية والاجتماعية الطبيعية، الأمر الذي تفجّرت معه الكثير من الأسئلة، وانعكست من خلاله ردود فعل متباينة من الخلاف والاختلاف حولها.

ولعل إشكالية الشخصيات الجدلية التي لا تنتهي هو استحواذها على مساحة كبيرة من الذاكرة التاريخية، إذ تتأرجح (كما يقول الأستاذ سعد الساهري في احدي مقالاته عن الشخصيات الجدلية) أقوالها وأفعالها عبر التاريخ ما بين الإدانة والإنكار الشديدين لدى الشريحة الكبرى من المجتمع الإنساني إلى التبرئة والإقرار لدى أقلية أخرى من ذلك المجتمع الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام على موقف تلك الشريحة لمعرفة أسباب ذلك السلوك التبريري.

ولعل المشكلة الحقيقية تبرز بشكل أوضح عندما تصبح تلك الشخصيات رموزاً تاريخية يُشار إليها بالبنان كما يُشار إليها أيضاً بأصابع الاتهام، الأمر الذي يربك قارئ التاريخ ويصيبه بالحيرة؛ وذلك بسبب صعوبة التقييم والحكم بشكل منهجي وموضوعي، وما ذاك إلاّ لأنها خلطت ما بين عمل صالح وآخر سيئ كما يقول الأستاذ سعد الساهري.

ولعل شخصية الدكتور "مبروك عطية" أنموذجاً من نماذج تلك الشخصيات الجدلية سواء على الساحة الدينية، أو على الساحة الإعلامية، فهو من أكثر الشخصيات الدينية حضوراً ما بين "أتباع له ولأقواله" و"أعداء له ولآرائه".

ورغم هذا الحضور الطاغي لاسم الدكتور "مبروك عطية" في مشهد السجال الديني ، فإنّني أرى أنّ أكبر الغائبين المغيَبين في هذا المشهد هو الدكتور "مبروك عطية" نفسه! وكبرى ضحايا هذا السجال هي قضايا الدكتور "مبروك عطية" نفسها؛ فـ" الدكتور "مبروك عطية" مظلوم عند "أتباعه ومُعظِّميه" قبل "مخالفيه وكارهيه"، والراصد لمواقف "الأتباع" و"المخالفين" يلحظ أنّ أغلب أفراد الفئتين ينطلقان من موقف حَديّ حاد لا يعترف إلا بالأسود والأبيض لونين؛ فإمّا أنّ " الدكتور مبروك عطية" خير كلّه أو شرّ كلّه. وهذه "الحَديّة" و"الحِديّة" سمتان ترافقان سيرة "الشخصيّات الجدليّة"، وكلما ازداد الجدل ازداد تطرّف المواقف في حَدّيتها وحِدّيّتها.

ولمن لا يعرف الدكتور "مبروك عطية" فهو داعية، وأكاديمي مصري، ولد في المنوفية عام 1958، التحق مبكرًا بالأزهر، وحصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1989، وكان عميدا لكلية الدراسات الإسلامية، وأستاذ الأدب والنقد المتفرغ بجامعة الأزهر.

قدّم "مبروك عطية" برنامجين تلفزيونين الأول برنامج الموعظة الحسنة على قناة دريم، والثاني برنامج كلمة السر على قناة إم بي سي مصر. وكلا البرنامجين متخصصان في الفتاوى الدينية، علاوة على قناته الخاصة على اليوتيوب والتي يغرد فيها كل يوم صباحا ومساءً بالفتاوي والمواعظ التي أحدثت زخما إعلاميا جعلت المثقف المصري والعربي يراقبه عن كثب.

وهذا الأمر أحدث له ضرر كبير إثر موجة عاتية من الانتقادات الموجهة له بسبب تعليقاته على مستجدات الحياة الجارية في مصرنا الحبيبة، ومن بين تلك الانتقادات: تعليقات أدلى بها حول حادثة مقتل طالبة مصرية أمام الجامعة على يد زميل لها فيما عُرف إعلاميا بـ "فتاة المنصورة".. ما قاله من أن طلاق الرجل لزوجته سليطة اللسان "مستحب".. قوله أن حديث "أبغض الحلال عند الله الطلاق" حديث ليس بصحيح ولا يصح الاحتجاج به.. قوله أن "الصيام يعني عدم الاقتراب من الطعام والشراب أو الجِماع، وأنه إذا نطق الصائم بالسب أو حتى شهادة الزور فلا يبطل صيامه ما دام لم يقترب من الأكل!.. قوله " لا يجوز للزوجة المبيت عند أهلها طالما لم تكن والدتها مريضة ولا تقوم على رعايتها، وأنه ينبغي مراعاة أنها أصبحت متزوجة ومسؤولة عن زوجها، ومبيتها عند أهلها بدون سبب لا يجوز.. قوله أن " أن كورونا "عقاب إلهي"، وأن المتوفين بكورونا ليسوا "شهداء" وإنما انتقام وأسوأ ميتة، وشبّه ضحايا الكوارث والأوبئة بـ"قوم لوط".. قوله أن ارتداء "الحجاب يقلل الحوادث" عندما قال لسائليه عبر برامجه: «عاوزة تحافظي على نفسك إلبسي قفة وإنتي خارجة».. تصريحه بأن التدخين ليس حرام شرعا، قائلاً إن الشخص الوحيد الذي حرم السجائر هو مفتى الديار الأسبق نصر فريد واصل وقال: «لما هى حرام زي ما قال مفتى الديار، ليه لم تمنع الدولة المتاجرة فيها؟».. هجومه العنيف على سيدة ترعى قطة وتهمل طلبات زوجها موجها لها رسالة: «محدش علمك الدين».. وقوله أن القهقهة في الصلاة تُبطلها.. قوله في وصف بعض الموتى بأنهم عريس وعروس الجنة: «بدع».. قوله أنه لا يحق للزوجة المسلمة أن تدخر من مال زوجها أو تكرم منه أهلها دون علمه، وإذا قامت بهذا الفعل دون علمه تكون وقتها زوجة خائنة.. قوله أن من قرأ بعض آيات البقرة كأنه قرأ البقرة.."قوله :البوس اللي في السينما حقيقي مش تمثيل" وهو يرد على الفنان هادي الباجوري زوج ياسمين رئيس، الذي كتب منشورا قال فيه: «معنديش مشكلة مراتي تعمل مشهد رومانسي لأن البوس في السينما عادي».. وهلم جرا.

ولم تتوقف فتاوى وتصريحات "مبروك عطية" في مجال الدين فقط، بل امتدت إلى مجالات أخرى مثل الرياضة والفن، حيث علّق على خبر طلاق رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة والفنانة ياسمين صبري، وهو أمر شغل اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر لفترة.. وفي ذروة اهتمام الإعلام ومواقع التواصل بتألق محمد أبو جبل حارس مرمى منتخب مصر خلال مباريات الدور الإقصائي ببطولة كأس أمم إفريقيا 2021، انتقد عطية الإعلامية منى الشاذلي بسبب سؤال وجهته لأبو جبل حول حالته الاجتماعية.. الخ.

كل هذا الأمر قد أوقعه في مشاكل لا حصر لها نذكر منها مثلا: وصف لقاءه مع الإعلامية وفاء الكيلاني بالتخاريف.. تقدّم المجلس القومي للمرأة ببلاغ للنائب العام ضد عطية بتهمة تحقير للمرأة وتحريض على العنف والقتل ضدها وهي جريمة يعاقب عليها القانون.. اتهام الأستاذة "نهاد أبو القمصان"، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، عطية بارتكاب عدد من الجرائم عبر تعليقه على الحادثة، ومن تلك الجرائم تعطيل الدستور والقانون، والتحريض على العنف.. اجباره في كثير من الأحيان في عدم الظهور بسبب الانتقادات المتكررة.. وأمور أخرى يطول حصرها.

وهنا استشهد في حالة الدكتور "مبروك عطية" ما قاله صديقي الأستاذ الدكتور بهاء درويش على موقع أساتذة الفلسفة في مصر من أن أكبر مشاكل قيمنا المجتمعية أن النخبة تنسى أو تتناسى أهمية المساهمة في تشكيل العقل الجمعي. الناس عادة في مسلكهم لا يتوقفون عند كل صغيرة وكبيرة يفكرون فيها ولكنهم بشكل من أشكال الاستسهال يسلكون وفقا لما تسلك العامة. والعامة تسلك وفقا لما يعرف بالعقل الجمعي الذي يحركها. على النخبة أن تعي هذا وتعلم أن صواب أو عيوب العقل الجمعي ترجع الى نسبة مشاركتها في تشكيله. من أكبر عيوب النخبة مثلا رؤيتهم للخطا وصمتهم بازائه، فيصبح هذا مسلكا معتادا ضمن العقل الجمعي للمجتمع ولا تشعر النخبة بفداحة صمتهم وحياديتهم ازاء الخطأ الا عندما يقعون في أزمة يحتاجون لمن يقول للمخطيء في حقهم: هذا خطأً

وها الخطأ الذي قاله الدكتور بهاء درويش راجع إلي أن هناك حالة فوضى في الفتوى، وأن العمل الفردي الافتائي فات آوانه ويجب وقفه فلم يعد ممكنا اليوم.. وأن الانشغال الإعلامي بالشأن الديني بغير إعداد علمي كاف، وأن السير خلف فتاوى وآراء فردية يؤدي إلى مزيد من إرباك الناس وتخبطهم.. وأن زمننا الحالي هو زمن الاجتهاد الجماعي والمؤسسي، والعمل الفردي فات أوانه ولم يعد ممكنا.. علاوة على أن التقدم التقني وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي شكلا صعوبة بالغة في إمكانية السيطرة على ضبط الفتوى.. وصعَّبا على طالبها القدرة على فرز الغث من السمين.. وهنا تظهر أهمية توجيه الناس للهيئات المختصة بالفتوى وذلك حسب قول الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.

وأقول للدكتور مبروك عطية  يكفيك قولك:.. ونفسي لا أبرؤها وربي.. عليمٌ بالمظاهر والخفاء.. سيحكم بيننا رب عظيم.. إذا جمع الخلائقَ للجزاء.. إذا ما كنتُ خيرا عند ربي.. تساوى المدح عندي بالهجاء.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

(1924 –) Robert Solow

انه آخر الكينزيين النيوكلاسيكيين وهو يخطو الآن نحو المائة عاما. هو الاقتصادي الذي تتلمذ على يد ليونتيف في جامعة هارڤـرد، والذي اصبح استاذا للاقتصاد في معهد ماسچوستس التكنولوجي MIT لمدة 45 عاما.  وهو الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1987 لمساهمته الرائدة في نظرية النمو الاقتصادي التي غيرت الاعتقاد الاقتصادي الشائع آنذاك حول عوامل نمو الاقتصاد وتطور انتاجه. كما انه الاستاذ الذي فاز خمسة من تلاميذه بجوائز نوبل في الاقتصاد فيما بعد.

ولد روبرت سولو عام 1924 في بروكلن – نيويورك لعائلة يهودية هاجرت من لاتفيا، وهو الابن الاكبر لثلاثة اطفال. كان اسم العائلة الاصلي سولوڤجك Soloveychik   فاختصر الى سولو Solow!  يقول ضاحكا ان الاسم الاصلي يعني "البلبل الصغير" والاسم المختصر ليس له اي معنى.  وصل والداه الى الولايات المتحدة ولم يكن معهما الا شهادة التعليم المتوسط، مما حتم عليهما العمل المتواصل طيلة حياتهما من اجل رعاية العائلة، لكن ذلك كان يعني تفويت فرص مواصلة التعليم الذي كان في امانيهما الكبار.

يقول ايضا انه بسبب تضحيات والداه اصبح هو الشخص الاول الذي يواصل تعليمه الجامعي. لكن العامل الاقوى هو مثابرته واجتهاده وتفوقه في المدرسة. فبسبب هذا التفوق المتميز حصل على منحة كاملة للدراسة في جامعة هارڤـرد عام 1940 وهو بسن السادسة عشرة.

في هارڤـرد بدأ بدراسة علم الاجتماع والانثروبولوجيا والاقتصاد، لكنه، وفي السنة الدراسية الثانية، كان عليه ان يترك الدراسة ويلتحق بالخدمة العسكرية عندما قامت الحرب العالمية الثانية، حيث ارسل للخدمة في شمال افريقيا وايطاليا وجزيرة صقلية. وبسبب اجادته للغة الالمانية استخدمته وحدته العسكرية لكتابة وترجمة الاتصالات العسكرية بين الالمانية والانگليزية. انهى خدمته العسكرية بنهاية الحرب عام 1945 فعاد الى بوسطن ليواصل دراسته في جامعة هارڤـرد. في السنة الثالثة والرابعة للدراسة شغف بالاقتصاد على وجه الخصوص وكان لتتلمذته على يد وسلي ليونتيف الاثر الكبير في ذلك، فرافقه وحصل تحت اشرافه على البكالوريوس عام 1947 والماجستير عام 1949. كما عمل على مساعدته في التدريس والبحث وخصوصا في اكمال مشروعه المعروف بتحليل مصفوفة المدخلات – المخرجات الاقتصادية.

ومن خلال اهتمامه بالاقتصاد وعمله مع ليونتيف، رأى ان عليه دراسة الاحصاء وخاصة نظرية الاحتمال بشكل جيد، فاستغل فرصة توفر منحة دراسية في جامعة كولومبيا لمدة سنة للتسجيل في كورسات مكثفة في الاحصاء. بعد ذلك مباشرة، في عام 1949، حصل على وظيفة استاذ مساعد في   MIT لتدريس الاحصاء والاقتصاد القياسي، وفي نفس الوقت واصل العمل في اطروحة الدكتوراه فاكملها في هارڤـرد عام 1951. استمر في عمله كاستاذ للاقتصاد في MIT  لمدة 45 عاما متواصلا حيث نال درجة الاستاذية عام 1958، وتقاعد من الخدمة الجامعية عام 1995.

عندما بدأ العمل في   MIT كان من حسن حظه، كما يقول سولو نفسه، ان يكون مكتبه الاكاديمي في قسم الاقتصاد مجاورا لمكتب پول سامولسن، مما اتاح له ان يبدأ معه صداقة طيبة وعمل مثمر امتد الى وفاة سامولسن عام 2009، ويستطرد انه في الحقيقة ملئ بالعرفان للعلاقات الطيبة المثمرة مع زملائه في العمل اينما حل، سواء في خدمته العسكرية او الاكاديمية في الجامعة وضمن اللجان العديدة التي عمل معها في ميادين مختلفة. حيث عمل في المجلس الاقتصادي الاستشاري للرئيس كندي مع زملاء رائعين مثل جيمس توبن ووالتر هلر وآرثر أوكون، وعمل في مجلس امناء البنك الاحتياطي الفدرالي في بوسطن مع فرانك مورس.

بدأ عمل سولو في نظرية النمو الاقتصادي في النصف الثاني من عقد الخمسينات. ففي عام 1956 نشر بحثه الاول في هذا المجال بعنوان "مساهمة في نظرية النمو الاقتصادي" وتبعه في العام الثاني ببحث مكمل عنوانه "التغيير التكنولوجي ودالة الانتاج الاجمالية". ورغم ان هذه المساهمة النظرية اعتبرت من قبل البعض بكونها تحويرا واضافة ومعالجة رياضية لنموذج النمو الاقدم لـ هارود-دومار، الا ان المساهمة الاصيلة كانت في ما كتبه سولو نظريا ووجده تطبيقيا من توسيع لعوامل النمو. فقد أكد سولو ان النمو لايتحدد فقط، كما اقر النموذج القديم، بعاملي العمل ورأس المال انما هناك عامل ثالث وهو التقدم التكنولوجي. لقد لاحظ سولو عمليا عند تحليل البيانات الاقتصادية ان هناك ما يقارب من نصف معدلات النمو الاقتصادي لا يعود تفسيرها للعمل او رأس المال، ونصف النمو هذا الذي ليس له تفسير سمي بـ متبقي سولو Solow’s Residual . وبالتقصي الاضافي وجد سولو ان ما يفسر ذلك النصف الثاني من النمو هو العامل التكنولوجي المتمثل بالابتكار والابداع في العملية الانتاجية. وبهذا التأكيد النظري والتطبيقي احدثت دراسات سولو التحول في الاعتقاد الجاري عن العوامل الاساسية التي تسهم في النمو الاقتصادي. واعتبارا من عقد الستينات أخذت الجهات المسؤولة عن النمو والسياسة الاقتصادية في القطاعين العام والخاص تولي اهتماما اكبر برعاية التقدم التكنولوجي عن طريق دعم وتمويل البحوث ودراسات التنمية وتشجيع ومكافأة الاختراعات والابتكارات وتطوير المكننة ووسائل الانتاج الاوتوماتيكية التي تتطلب تسخير المعرفة والخبرة في هندسة وادارة الانتاج.3524 سولو

وفي هذا الصدد ايضا قام سولو بتصنيف عامل رأس المال التكنولوجي (المكائن والآلات) بموجب تاريخ الصنع، ذلك ان المعرفة والتجربة والخبرة تتحسن بمرور الزمن وتؤول الى تطوير الآلآت وتعديل تصاميم المكائن وبالتالي الى تحسين وسائل وطرق انتاجية متقدمة على طول الخط مما يحتم احتساب الاختلافات في فاعلية اجيال متعاقبة من تلك المكائن في ميدان الانتاج وتزايد الانتاجية. ولهذا فقد ميز بين رأس المال القديم والحديث، معتبرا رأس المال الحديث  أكثر كفاءة من القديم وأعلى قيمة منه.

كما انه كان اول من عرّف بمفهوم ما نسميه اليوم بالـ Sustainability  كونها النتائج الاجتماعية التي تسمح للاجيال القادمة ان تكون في حال على الاقل يساوي، ان لم يكن افضل، من حال الاجيال الحالية. على ان اول مايتطلبه ذلك هو رأس المال الطبيعي والبشري والتكنولوجي الذي يتيح للاجيال القادمة ان تبتكر وتبدع وتحقق مستوى المعيشة الذي يجعلها تحيى وتتمتع بدرجات اعلى مما شهدته اجيال آبائها. كما انه يتطلب توازنات موازية مثل التوازن الجوهري بين النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والاحوال البيئية. ولهذا فقد اعتبرته بعض الادبيات الاقتصادية المؤسس لنظرية النمو النيوكلاسيكية، وقد سمى النموذج الاقتصادي النيوكلاسيكي للنمو باسمه     Solow’s Model of Economic Growth. على ان بعض المصادر تسميه Solow - Swan Neoclassical Model of Economic Growth

و سوان هو تر ڤـر سوان  Trevor W. Swan   اقتصادي آخر كان قد عمل على انفراد وبمعزل عن سولو على مراقبة معدلات النمو الاقتصادي نسبة لتغير العوامل المؤثرة. وكان قد نشر نتائج بحثه في The Economic Record عام 1956 ، أي في نفس العام الذي ظهر فيه بحث سولو الاول المذكور آنفا. من الجدير بالذكر ان كلا الباحثين كانا قد نهجا منهجا متشابها في اعتبار معدل الادخار عاملا مستقلا ، مما آل الى تسمية كلا النموذجين بالـ Exogenous Models الا ان اتساع وتطور دراسات النمو بعدهما ادى الى ظهور نماذج معدلة ومحورة، كان من ضمنها ما اعتبر معدلات الادخار تتباين مع الوقت وبموجب معدلات تدفق الدخل وسلوك المستهلك، حيث لا يصح بعد ذلك اعتبارها exogenous  ولهذا سمي هذا النوع من نماذج النمو بالـ  Endogenous Models .

ولقد اُعتبر سولو الاقتصادي الذي كان اقتصاديا كليا   Macroeconomist قبل ان يظهر مفهوم الاقتصاد الكلي. فعلاقته الاكاديمية الطويلة وبحوثه المشتركة مع سامولسن في قضايا النمو الاقتصادي واهتمام بعض زملائهما وطلابهما في هذا الموضوع ساهم في صياغة اتجاه رئيسي لدراسة النمو ، ليس فقط كموضوع هام في البحث الاكاديمي، انما كعامل حاسم في التأثير على السياسة الاقتصادية. وبسبب ان منشأ وتطور هذا الاتجاه كان في قسم الاقتصاد في MIT ، اصبحت تلك ظاهرة معروفة آلت الى تسمية اولئك الاقتصاديين بـ "رجال النمو" Growth Men.

لم يكتف سولو بالعمل مع سامولسن في موضوع النمو الاقتصادي، انما عمل الاثنان معا في مواضيع هامة اخرى ونشرا معا، ;كدراساتهما حول نظرية رأس المال ومنحنى فيلبس، ولربما كان اشهر ما نشرا معا هو الكتاب الرائد في البرمجة الخطية والتحليل الاقتصادي.Linear Programing and Economic Analysis المنشور عام 1958 من قبل مؤسسة مگرو-هل للنشر.

في مقابلة أجراها معه دگلص كلمنت ونشرت ضمن موقع البنگ الاحتياطي الفدرالي – فرع منيابلس في سبتمبر 2002 ، تحدث سولو بصراحته المعهودة عن قضايا كثيرة منها، بالطبع،  نظريته الرائدة في النمو الاقتصادي ، وما سمي متناقضة سولو ، واصلاح نظام المساعدات الاجتماعية، والمنهج الكينزي في حل المشكلات الاقتصادية والازمات الكبرى، ومواضيع اخرى ثانوية. 

متناقضة سولو Solow Paradox

يتحدث سولو عما شهده في الواقع العملي كنقيض لما كتبه نظريا واثبته عمليا في السابق ضمن نظرية النمو الاقتصادي النيوكلاسيكية حول الارتباط بين نمو معدلات النمو الاقتصادي مع تطور رأس المال التكنولوجي. النقيض، كما يبينه سولو في هذه المقابلة،  يتضح في النظر الى فترة ربع قرن بين 1970 و 1995 التي لم تنمو فيها الانتاجية الا بمعدلات ضئيلة في حين انها ذات الفترة التي شهدت ظهور الكومبيوتر والازدياد المضطرد في تطبيقاتها العملية في شتى الميادين! ويقارن ذلك بما حدث في الماضي ويقول ان الاستنتاج المنطقي هو ان دخول الكومبيوتر بعظمتها لم تؤول الى النجاح الباهر والقفزات الكبيرة في الانتاجية الذي احدثته الكهرباء ومكائن الاحتراق الداخلي فيما مضى! ويتساءل: ماهو السر؟ ويجيب ضاحكا: ان كل ما اعرفه هو ان سكرتيرة مكتبي الاكاديمي كانت تزودني بكل ما احتاج، ولكن بعد شيوع الكومبيوترات الشخصية اصبحت انا الذي يزود سكرتيرتي بما تحتاج!  ويواصل بأن قسم من ذلك التناقض أُزيل بعد ان تصاعدت الانتاجية بعد عام 1995 لكننا ما نزال لا نعرف ما السبب وفيما اذا سيتقلص التناقض كليا.

الاصلاحات في قانون المساعدات الاجتماعية Welfare Reform

ينتقد سولو جملة الاصلاحات التي جرت على قانون المساعدات الاجتماعية في عهد الرئيس كلنتن التي تلزم المستفيدين من قانون المساعدات بايجاد عمل، والذين ستسقط استحقاقاتهم للمساعدات حال انخراطهم بالعمل.  ويقول لا جدال حول ضرورة شعور اولئك المواطنين بالمسؤولية وعدم الاتكال كليا على مساعدات الدولة، والحق يقال بأن الاستفتاءات تشير الى ان اغلبهم يفضل العيش معتمدا على عمله كبقية المواطنين لكن المشكلة تكمن في ان طبيعة سوق العمل لاتسمح باستيعاب اعداد هائلة من العاملين عديمي الخبرة وقليلي التعليم والتدريب والذين ليس لهم مهارة في اي شئ.  ثم اذا ما فرضناهم على هيكل سوق العمل الجاري فان ذلك سيؤدي الى انخفاض في معدلات اجور اولئك المتشبثين بالكاد في سوق العمل والذين يستلمون الحد الادنى في سلم الاجور، وربما يؤدي الى سقوط جزء منهم في حيز استحقاق المساعدات! وبهذا سنكون قد ازدنا الطين بلّة واصبحنا جزءً من المشكلة وليس جزءً من الحل. فما لعمل؟ يقترح سولو بأن البديل الافضل هو خلق سوق عمل جديدة بهيكل آخر لايتطلب اي درجة تعليم ولا تدريب ولا مهارة ومثال ذلك الخدمات العامة البسيطة التي يحتاجها القطاع العام اضافة الى توفير نوع من المحفزات والفوائد للقطاع الخاص الذي يختار ان يستوعب قسما منهم. ويؤكد ان علينا ان ندرك بأن الحل لا ينبغي ان يكون اما عمل او مساعدة، فبالامكان صياغة نظام هجين يقلل من الحاجة الى المساعدة تدريجيا ويعالجها على الامد البعيد كأن يكون شيئا شبيها بالـ Wage subsidyأو تطويرا لما معروف بالـ EITC: Earned Income Tax Credit.

ما يزال كينزيا Still a Keynesian 

على سؤال فيما اذا كان لحد الان يعتبر نفسه كينزيا، يجيب سولو كما يلي:

يقول اننا نعرف بدون شك بان ليس هناك نظاما اقتصاديا افضل لادارة السوق الاقتصادية من النظام الرأسمالي ذي الحسنات الكثار، لكننا نعرف ايضا دون شك بانه ليس نظاما مثاليا وان فيه من الاخفاقات ما يؤدي الى أزمات كبيرة. وهنا يأتي الايمان بالتدخل الحكومي حين يخفق ذلك النظام وهي الفكرة التي اقترنت بكينز، ولا شئ آخر بديل عنها أو افضل منها. على ان طبيعة وشكل ومدى التدخل الحكومي حين يخفق النظام الرأسمالي يمكن لها ان تأخذ اشكالا مختلفة. فمثلا انني أرى اننا في الولايات المتحدة تعودنا ان ننتهج حلا واحدا لأزمة واحدة ونستخدم وسيلة واحدة ونلقي المسؤولية على عاتق جهة واحدة. والافضل ان تكون لنا وسائل متعددة لاهداف مختلفة. اعتمدنا وما نزال نعتمد على سحرية الحل الذي يقدمه البنك الاحتياطي الفدرالي مركزا بما يرتأيه مجلس الامناء فيه وفي كل مرة تكون عيوننا شاخصة فقط على ما يتفوه به رئيس المجلس التنفيذي للبنك من قرارات تقضي بارتفاع او انخفاض في سعر الفائدة مهما تكن أزمتنا الرئيسية سواء كانت تضخم او بطالة ام كساد. ولا اشكك في قدرة المجلس او رئيسه او أهلية البنك الاحتياطي الفدرالي لكنني افضل ان تكون حلولنا متعددة الجوانب. وعموما أرى ان تغيير السياسة النقدية يصلح اكثر للازمات قصيرة المدى، في حين تغيير السياسة المالية يناسب اكثر في حل الازمات طويلة المدى.

في عام 1972 حاز على عضوية اكاديمية العلوم الوطنية

وفي عام 1999 فاز بالوسام الوطني للعلوم

وفي عام 2006 كرمه الامير البرتغالي هنري بشرف الصليب العظيم

وفي عام 2014 قلده الرئيس أوباما وسام الحرية الرئاسي من الدرجة الاولى

يشير زملاء واصدقاء سولو بأنه رجل دمث الاخلاق ولطيف المعشر ويتمتع بخفة دم وسرعة البديهة. فلا عجب انه شخصية محبوبة من قبل الزملاء والطلاب. وفي المقابل يحمل هو ايضا اعترافا بالفضل واحتراما وتقديرا لزملائه ولطلابه في MIT.  الطلاب الذين كرس لهم جزءً كبيرا من وقته. يقول انه لو لم يكرس الوقت الواجب تكريسه للاهتمام بطلبته لازداد معدل نشاطه في البحث والنشر بما يقارب 25% خلال حياته الاكاديمية لكنه سعيد بتلك الرعاية التي انجبت افضل الطلاب حيث فاز خمسة من طلابه بجوائز نوبل في الاقتصاد ومضى اغلبهم ليتبوأ مناصب عالية في عالم التجارة والاقتصاد والحقل الاكاديمي.

يعترف سولو بفضل كل المجالات التي درس وعمل فيها. من مدارسه الابتدائية والثانوية حيث يعزو تفوقه الى الاهتمام الاستثنائي به من قبل بعض المعلمين المخلصين، الى جامعة هارفرد واستاذه ليونتيف وبقية من درسوه، الى خدمته في الجيش والضباط الذين عمل تحت امرتهم، الى قسم الاقتصاد في MIT ورفقته لسامولسن والزملاء الآخرين وطلابه الاعزاء، والى زوجته واطفاله الثلاثة الذين وفروا له بيتا جميلا هادئا وجد فيه الراحة والاسترخاء والسلام. بقي ان اقول ان سولو الآن يحث الخطى للاحتفال بعيد ميلاده المائة.

***

ا. د. مصدق الحبيب

درجافين اسم كبير في تاريخ الادب الروسي، ولكنه يكاد ان يكون شبه مجهول للقارئ العربي عموما، وحتى للقارئ الذي يتابع  الادب الروسي، اذ لا يعرف هذا القارئ المتابع ماذا تعنى القصيدة التي يسمونها بالروسية - (اودا)، واين ظهرت وكيف وصلت الى روسيا، وماهي مكانتها واهميتها في تاريخ الشعر الروسي، وهي القصائد التي ابدع فيها درجافين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في روسيا، واصبح – ولحد الان ونحن في عام 2023 – واحدا من ابرز روّادها الاوائل، وهذه القصائد هي التي اوصلته الى الاوساط العليا، وجعلته يشغل تلك المناصب الكبيرة الاهمية في الامبراطورية الروسية (منها وزير العدل في تلك الامبراطورية الواسعة !)، وذلك بعد ان اطلعت على تلك القصائد الامبراطورة يكاترينا الثانية  بنفسها، وجعلته قريبا من الاوساط الحاكمة العليا آنذاك، وهذه ظاهرة نادرة جدا في تاريخ الادب الروسي (والادب العالمي ايضا)، وتستحق هذه الظاهرة الدراسة المعمقة من قبل المتخصصين العرب لتحديد ابعادها كافة واستخلاص دروسها .

تحتفل روسيا رسميّا هذه الايام بمرور 280 سنة على ميلاد درجافين، ونود ان نتحدّث في مقالتنا هذه عن ابرز نقاط هذه الاحتفالات، والتي تعني – فيما تعنيه – ان روسيا تتذكر مبدعيها كافة ولا تنساهم، وتحتفل في كل مناسبة من مناسبات مسيرة حياتهم بشكل حضاري واسع النطاق، وتربط حتما تلك الاحتفالات بواقعها المعاصر ومشاكل عصرها الحالي، و شئنا ام أبينا، تبرز امامنا رأسا (عندما نرى هذه الاحتفالات في روسيا او غيرها من البلدان المتقدمة) ما يحدث بالنسبة لمبدعينا كافة في العراق او عالمنا العربي الكبير بشكل عام، هؤلاء المبدعين المنسيين – مع الاسف الشديد - حتى اثناء حياتهم بيننا،  والذين لا يذكرهم أحد بعد رحيلهم، ونظن، انه لا توجد ضرورة لذكر الاسماء طبعا، اذ يعرف جميع القراء مأساة هؤلاء المبدعيين المنسيين في بلداننا.....

ولد غافريل  رومانوفيتش درجافين عام 1743، ومرور 280 عاما على ميلاده لا تعتبر مناسبة تقتضي الاحتفالات الواسعة بها، اذ ان ذلك يحدث عادة عند مرور قرن او قرنين...الخ على ميلاد المبدعيين، ولكن الاوساط الثقافية الروسية، مع ذلك، تحدثت عن هذه الذكرى بشكل لافت للانتباه، مؤكدة على الجانب الوطني في شعره، فهو، مثلا، اول شاعر روسي استخدم كلمة (الوطن) بالمفهوم المعاصر لهذه المفردة في ابداعه، وربما يوجد من يقول، ان الصحافة الروسية تريد ان (تستخدم!) درجافين لاهداف سياسية معينة ترتبط بالاحداث الروسية اليوم، ويقصد هذا القائل طبعا  الحرب الروسية – الاوكرانية ونتائجها الواضحة المعالم على المجتمع الروسي، ويمكن اجابة هذا القائل هكذا -  وهل في ذلك ضير ؟ أليس من حق روسيا ان (تستخدم !) مناسبات ترتبط باسماء مبدعيها لتتحدّث عن تاريخها وعن حاضرها، وتخطط لمستقبلها عبر تلك الاحتفالات،المرتبطة بمبدعيها ؟ والجواب واضح عن هذا السؤال - طبعا من حقها، ويقول البعض - لكن الحديث عن درجافين اصبح مباشرا جدا، اذ يؤكدون في هذه المناسبة على اسم الامبراطورة يكاترينا الثانية، وكيف انتصرت على اتباع الامبراطورية العثمانية في حرب القرم، وكيف اصبح القرم منذ ذلك الانتصار في ذلك الزمن البعيد  جزءا من الامبراطورية الروسية، وان القرم الان هو احدى القضايا المطروحة بحدّة عالميا في احداث اليوم بين روسيا واوكرانيا، والتركيز على ذلك واضح  في مثل هذه الاحتفالات، وكل ذلك صحيح، وكل ذلك مقبول ومفهوم  في هذه الظروف المتشابكة والصعبة، فدرجافين يرتبط بشكل مباشر بهذه الاحداث .

ختاما لهذه السطور،  نرى، انه من الضروري الاشارة الى عمل جميل وفريد ضمن هذه الاحتفالات، وهو ما قامت به المكتبة العامة في بطرسبورغ، اذ نظّمت تلك المكتبة العامة المعروفة معرضا خاصا بهذه المناسبة للكتب التي أصدرها درجافين اثناء حياته والمصادر التي تناولت  ابداعه وتحدّثت عن مسيرته ومناصبه الرفيعة العديدة، وقد نشرت جريدة (ليتيراتورنايا  غازيتا) الروسية الاسبوعية خبر هذا المعرض  تحت عنوان  -  (المحافظ والوزير والعبقري)، وهو عنوان يلخّص فعلا مكانة درجافين في تاريخ روسيا وفي تاريخ أدبها ايضا، وتوقفت الجريدة بتفصيل عند بعض تلك المعروضات ونشرت صورا عديدة لها.

***

أ.د. ضياء نافع

لم اعرف انه سرياني الا بعد وفاته حيث عرفت من النعي بعد اكثر من أربعة عقود من الزمن.

في النصف الأول من عام 1983 أي في ذروة الحرب القذرة الطاحنة بين العراق وايران التحق الى وحدتنا س4 ف 3 لمش506 في قاطع زرباطيه شاب هادئ نحيل جميل هو الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو وبعد واجب الاستقبال المحكوم بالأمور العسكرية.. استدعاه وكيل امر السرية الملازم الأول (شاكر.. بغداد حي القاهرة) لتمتع امر السرية النقيب (سلمان اسماعيل فرحان جوهر المياحي) بالإجازة الدورية (كان محور ما نشرت تحت عنوان مذكرات جندي احتياط) ثلاثة أجزاء رابط الجزء الأول هو:

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=957281&catid=327&Itemid=1238

اخبره وكيل امر السرية بوجود ثلاثة اخوه من االموصل .. ان رغب ان يكون رابعهم في الموضع واخبره انهم من الاخوة الايزيديين فلم يعترض.. التحق معهم في الموضع فصاروا اربعه.

شخصياً كما اغلب افراد السرية حسبته من الأخوة الايزيديين لانسجامه السريع معهم.

بعد أيام تبين انه يكتب الشعر وكان يبحث عن صور جميلة يلتقطها بحسه المرهف في تلك البقاع القاسية والظروف الصعبة. كان حالماً وكان يردد بمناسبه وبدونها عبارة: (الجبلي فادي).. بتكرارها حسبتُ انه لها وهي له.. ان فيها منه ومنها فيه.. حتى ان امر السرية له الرحمة والذكر الطيب الدائم دوام مواقفه الطيبة كان يسميه او يناديه باسم (الشاعر الجبلي) او (المعلم فادي) حسب الموقف ويقول لا تسلموه سلاح فهذا شاعر يحتاج الى قلم ودفتر.. كان ذلك من باب التندر تارة والاعجاب تارة اخرى.. لأنه هادئ نظيف مطيع عسكرياً لا يتذمر من أي تكليف او واجب وما شكى من احد وما اشتكي منه احد طيلة مدة بقاءه في السرية وهي ليست بقصيرة حتى ان البعض حسب ان فيه هوس او مس.

توطدت علاقتي به وكنا نقضي معاً ساعات لكسر الملل والقلق والتعب وكان فيما بيننا ما يقربنا لبعضنا ولو انه عام ولم يقترب من المحظورات المقلقات الخاصات في تلك الظروف والساعات القاسيات المزعجات.

من احلامه التي تَنّدَرَ عليه فيها القوم هو مناجاته للكلمات السابحة في الفضاء كما كان يقول ويشير اليها كأنه يراها ويدعو الغير للتمتع برؤيتها فصار عند البعض فيه بعض جنون. ويمكنكم ان تتصوروا بعض تعليقات البعض.

حَلِمَ بما يعرف اليوم بثورة المعلومات او الانترنيت ربما قبل ان يحلم بها من سُجِلَتْ بأسمة.. الغريب انه وصاحب الانترنيت فكروا بها في نفس الفترة الزمنية ذاك مهندس وهذا شاعر.. وقد صاغ تلك الاحلام بكلمات اقرب الى الشعر اثارت الضحك والتندر والهمسات وبعض الاعجاب. احاول هنا ترتيبها او ترتيب معانيها و"مَوّْسقتها" وانا معذور لضعف المحاولة ولمرور ما يقرب من ثلاثة عقود وقت كتابتها الأولى

و نشرها واليوم تقترب من أربعة عقود وها انا اشهد له وهو قد غادرنا الى حياة أخرى من انه فَكَّرَ بها وصاغها وقالها في تلك الايام اي في ايام ما قبل حتى التفكير بالأنترنيت.. [قِصَتُها راسخة وتَذَّكَرْتَها عام 2010 وبحثت عنه وكتبت له عندما نشر مقالة عن ديوان الشاعر الراحل ابراهيم الخياط في الحوار المتمدن عام 2010 ولم استلم منه رد وحاولت مرة اخرى لكن دون جدوى وكتبت الى المشرفين على احد المواقع التي يكتب /ينشر فيها ولم استلم الجواب. (أعتقد عينكاوه)

ان صياغتها التالية محاولة اكيد فيها قصور فأعتذر (الموضوع منشور في 28.03.2012)

ستقتحم الكلمات السماء

وتزاحم القصائد النجوم

وتلتقي الافكار هناك بعيدا عن الرقيب

في فضاء لا يسيطر عليه

سعادتي ستكون في حيرة هذا الحاجب

اضحك.. لان كلماتي تتقافز من بين فَكّيهْ وفَكّيْ المقص

ستضج الاجواء بالهمسات وتفور المشاعر

لألتقي من لا أراه اليوم

ويلطم الرقيب.. ونضحك

سيصرعه طنين كلماتي

سيكون العالم اصغر من قبر من يقتل هنا

ليس فيه ارض حرام مشبعة بالألغام

قبل شهيقي الثاني سأتدفأ بزفير من يتوارى في كوكب اخر

خلف تلك الهضاب يا صاحبي

انعكاس ضياء ودماء

سيزدحم الفضاء

بالأغاني والضوضاء

لكن الشر مع الشر

سيدنسه

ويأخذنا ربما الى فناء]

كان الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو هكذا كنا نناديه يرفض ان يُقال على من يسقط قتيلا في تلك الحرب الملعونة شهيدا.. لآن الشهيد في زحمة افكاره هو من يسقط في المعمل او في الحقل او وهو يلقي قصيده او بين اذرع حبيبته. نحن كلنا جبناء كان يقول ويفسر ذلك بأن الشجاع من يرفض الحرب ويتقدم لعقوبة الاعدام غير نادم. كلنا جبناء لأننا نرفض الحرب ونشارك فيها ونطرب لسماع الاغاني التي تمجدها ونهتف لمن اشعلها ويديم اوارها. كلنا جبناء لأننا نلم اجزاء اجساد رفاقنا ونصلي عليهم وربما نزغرد نفاقا ونحن مرعوبين من القصف.

قال انا أُعلن لك اني جبان لأني أولاً هنا وثانياً أخاف ان اقول ذلك بصوت عالي ولكن لي طلب وهو من جبان ذليل يريد ان يكون شجاع بعد ان يقتل هنا.. طلبي هو: [ان لا تنقلوني من المكان الذي أُقتل فيه ولا تطلقوا عليّ اسم شهيد ولا ترسلوا بقايا جسدي الى اهلي أريد ان اتعفن هنا او تأكلني الجوارح عسى ان تُزكم جيفتي انوف مشعلي الحرب فيهربون وتتوقف او يرعبهم منظر نهش الجوارح لما تتفضل به القذيفة وتتركه من جسدي النحيل فيعتكفوا وتتوقف الحرب وبذلك سأكون انا سيد السلام.. بطل السلام ويقام لي مزاراً هنا تقام فيه مهرجانات الفرح والحب والشعر.

يا صديقي قال لي: جيفتي وجيفتك وجيف الأحبه الاخرين ربما تكون/ستكون السلاح الذي سندمر به الحرب.. لماذا لا نجرب ذلك؟

احذرك يا صديقي من نقلي الى اهلي بعد ان أُقتلْ لأن لعنتي ستطاردك وستطارد كل من سيساهم في ذلك او يتأسف على موتي.. ستدفعكم لعنتي الى الجنون او الانتحار.

سألته في احدى المرات: ما قصة ما يردده (الجبل فادي)؟.. قال انا لا اردد انا أُنشِدْ ولكن هل تَرَكَتْ فيك شيء يختلف عن الاخرين؟ فأجبته انها حيَّرَتْني .. أفردتُ الكلمتين وسرَدتُ معانيهما وحاولتُ الربط بينهما وكان سهلاً فالجبلي من الجبل وهو من سَكَنَهُ او بالقرب منه وتعلم منه فصار متمرس صابر محب قاسي دقيق حريص على ما بين يديه شجاع هذا ما تفرضه علية قساوة الجبل وجماليته.

والفادي من الفداء والبذل والتضحية والايمان وهو من يعرف ما يريد ولمن يضحي وكيف يقدم التضحية فالجبل هو فادي يتحمل القصف والبرد ويحمي من يلجا اليه ويمده بما يتيسر من ماء وغذاء والفادي جبل صامد يقابل فداء الجبل بفداء ويحاول حماية الجبل ليتبادلا الحماية فالجبل يفدي الفادي والفادي يفدي الجبل.

اكملت كلامي برجاء ان يُسِمعُني شيءً منها وكنتُ أعتقد انها قصيده بهذا العنوان لما فيها من موسيقى ومعاني واكيد انها تحكي عن الجبل والفداء.. قاطعني طالبا رايي بالاثنين (عمو وخديدا) (وهما الاثنين المتميزين من الثلاثة الايزيديه في السرية) الذين يشاركهم الموضع.. قلت له:

عمو: منافق يبحث عن المشاكل ويتربص بالجنود وهو غير محبوب.(بالمناسبة فان عمو كان برتبة عريف احتياط وهو من سنجار ايضاً ذو لحية طويله نحيف ويظهر من تعامل الاخرين معه انه اما ابن شيخ قبيلة او رجل دين)

خديدا: طيب هادئ متعاون محبوب قليل الكلام ملتزم حسن المعاملة محترم من الاخرين يحترم الجميع كان من المتميزين في اصابة الهدف بالبندقية الاليه كلاشنكوف حيث كنا وفي بعض الأحيان نتسلى بإقامة مثل هذه المسابقات).

ثم قال لي: جوابا على استفسارك عن (الجبلي فادي)

خديدا جبلي فادي

عمو جبلي فاضي

انا جبلي ضادي

تبسم لاستغرابي وقال:

خديدا: ترك الجبل وهو فادي

عمو: ترك الجبل وهو فاضي وسيبقى

وانا: تركته حالما بالضاد اي الكتابة

خديدا: ثائر صلب محب نزل لزيارة اهله كما فعلها في مرات سابقه ولكن هذه المرة وشيّ به من القريبين عليه ومنهم من على شاكلة (عمو) وحشروه بين الابلاغ عنه او اعلانه الندم وكان شرطه عليهم ان يترك ولا يتم استجوابه فاقترحوا التحاقه بخدمة الاحتياط

عمو:.. هذه افعاله وهو فارغ الا من الخرافة ولم يصعد الجبل كثائر وانما كأحد الجحوش*

انا: لم احمل السلاح في الجبل ولم اطلق اطلاقه واحده.. نزلت حالماً في ان اساهم في اقتلاع الأميه التي تنخر الاطفال واعلمهم القراءة والكتابة ليكون في المستقبل آلاف الشباب مثلي واحسن وحلمت ان اكتب قصائد للأطفال ليرددوها في افراحهم ومدارسهم واعيادهم واقنعت نفسي ان هذا نضال وواجب مهم. فشلت لأني وجدت نفسي مُجبر على تعليمهم الكذب والتصفيق وتمجيد القائد الرئيس والحزب وان اردد ما حشروه في الكتب المدرسية وأكون اول المصفقين في رفعة العلم.

(فادي) عند (خديدا ) ومن هم على حميد خصاله: فائها من فداء.. الفها من أعلى.. دالها من درجات.. ويائها من يقين.

(فاضي) عند (عمو) ورهطه: فائها من فضيحه او فراغ.. الفها من أرعن وضادها من (ض.. ).. وياءها من يُتْم

و (ضادي )عندي ومن هم على شاكلتي: ضادها من ضياع.. والفها من ألم.. ودالها من دجن.. ويائها من يأس.

فانا ضادي عندما فكرت بالكتابة بلغة الضاد واعتبرت ذلك نضالا لأشعر الان ان راسي تحت (بسطال)*خديدا وتحت(بسطال) عمو.. انا من يضع راسه تحت بسطال خديدا وهو يرفض ذلك ويعتذر وعمو يضع بسطاله فوق راسي وهو شامت شاتم.

كانت تلك المواقف والكلمات راكده في الذاكرة ولم اتطرق لتفاصيلها في ما كتبت سابقا تحت عنوان مذكرات جندي احتياط لكني ذكرت شيء عن (عمو). ونشرت بعضها تحت عنوان ""فادي الجبلي""

راكده الى ان صُدمتُ وانا اقراء اسم الشاعر( شاكر مجيد سيفو) في احدى الحملات التي تبناها موقع الحوار المتمدن عام 2010 فهرعت الى موقعه الفرعي لأجد انه نشر موضوعين فأرسلت له رساله على خدمة راسل الكاتب على اخر موضوع نشره ولم استلم الجواب ولكني سُعدت حينها لسلامته من تلك الحرب القذرة.

قلت له مرة.. لماذا وانت الساخط المتذمر لا تهرب من الجيش وهناك ما يمكن ان تحتمي به او يحميك؟

ضحك وقال : تقصد الجبل.. واستمر يقول.. ربما انت مجبر على تواجدك هنا.. انما انا جئت باختياري.. تركت الجبل ونزلت حالما ان أسمع ترديد الاطفال لكلماتي التي اكتبها او ما أُعَلِمُهمْ.. لكني اصبحت مُهْمِلاً بعد ان صرتُ مُهْمَلاً.. لأصبح انا من يعلم الاطفال حب القائد واغاني تمجيد القائد.. وفي اللحظة التي قرر فيها القائد( رائد العدالة الاول والمعلم الاول)* ان يكرمنا.. فكانت مكرمته لنا هي قبولنا في الجيش كمكلفين او احتياط.. يعني سمح لنا ان ندافع عن الوطن وهذه خطوة مهمه عنده في طريق اعتبارنا مواطنين من اي درجه لم يقرر بعد.. فَرِحَ لذلك بعض كبارنا وباركوا ذلك وهللوا وصفقوا ولم يعرفوا أنَ نزعت القائد المريضة أوحت له بان يقتل الكفار بالكفار حسب اعتقاده.. اي يتقاتل الكفار نحن مع الكفار المجوس عبدة النار الايرانيين كما يؤمن هو وفي النتيجة مهما كانت فهو قد تخلص من الكفار.

قلت له مستفزا اياه وماذا كنت تفعل في الجبل غير قتلنا نحن الابرياء؟

قال: رجال الجبل لم ينزلوا يوما ليقتلوا الابرياء وكانوا يتحاشون ذلك وقدموا في ذلك دماء زكيه .. كانوا ينزلون ليقنصوا اتباع النظام وجلاوزته وعملاءه من رجال امن ومخابرات واستخبارات وحزبيين ومتعاونين معه من المجرمين الذين يذلون الشعب ويحاولون قتلنا .. ولكن عندما تَهِبّونْ انتم(الابرياء.. قالها بتهكم) للدفاع عنهم وانتم تعرفون انهم مجرمون وقتله وتفتحون النار على ثوار الجبل فما كان الا ان يرد ثوار الجبل دفاعا عن انفسهم وقتلاً لكم لأنكم تدافعون عن من يذلكم ويهينكم .

قلت له عود الى الجبل حتى لا تهب للدفاع عن القتلة وعن النظام في حربه علينا وعلى الاخرين..

قال انت لا تعرف الجبل ولو انك قلت قد قضيت بعض خدمتك العسكرية فيه او في محيطه

الجبل يا صديقي لا يعرفه الا من يعاشره او يعيش معه.. الجبل لا يحب من يتركه.. ولن يسمح لمن نزل من دون تكليف او واجب ان يعود اليه مهما قدم من اعذار او اسباب لنزوله حتى لو قَبِلَ بعض رفاقه او أصدقاءه بتلك الاعذار او الاسباب.. سيلفظه الجبل او يدفعه الى الانتحار لأنه يشك بالعائد كل من في الجبل سواء كان بشر او حجر او شجر.

قلت له مره كيف تعيشون في موضع واحد وانتم بهذه التناقضات ومع تعسف عمو.. هل هناك ما يجمعكم أو تجمعكم؟

قال : انا وخديدا نلتقي في الكثير من الامور لكن المشكلة مع عريف عمو.. ثم سألني :هل هناك ما بين خديدا وعمو ما يجمعهم غير يزيديتهم؟.. وقال: إنَ ما يجمعنا هو رفضكم لنا وابتعادكم عنا وهنا لا اقصدك انت..

قلت له حقا انه سبب رئيسي.. ولكنك تلاحظ احترام الكثيرين لك وللعزيز خديدا.. قال هذا صحيح لكنه لا يكفي لان هناك الكثير من الامور التي تباعد بيننا انها امور عميقه تحتاج الى وعي ووقت وشجاعة لتجاوزها حينها لن تجد مثلي من يرغم على العيش مع شخص مثل عمو لا تربطه به اي علاقه سوى انهم يؤمنون بخرافة واحده .. انا اقدر صعوبة ذلك الان واتمنى مستقبلاً ان نلتقي دون حساسية دينيه او قوميه او غيرها .. تجمعنا الانسانية واحترامها

قلت له مره يبدو ان (عمو) مستأنس لرتبة العريف وربما مستفيد منها هنا او هناك.. قال هذا ما تعلمه وما تربى عليه وما سيبقى عليه ولكنه من ضمن ما سيبقى عليه ايضاً وسيلازمه طويلاً هو كُره الناس واحتقارهم له

كان الشاعر الجندي الاحتياط شاكر مجيد سيفو يلتقط صور جميله ويتدخل مرات ليضيف عليها ونحن في تلك الايام الكالحة منها:

كان السائق البديل للنقيب امر السرية.. الجندي احتياط (ارشد) من اهالي بلد يصلي ثلاثة مرات حسب المواعيد وكانت صلاة الظهر والعصر متميزة وهو يؤديها في العراء ويكثر من التسبيح فيها والدعاء باللسان واليدين والشفاه .. في احد الايام وهو فاردا يديه في الدعاء حط على كفه عصفور واطال الوقوف لعدة دقائق اثار انتباه الجميع.. كان ارشد قد تسمر اكثر ولا يستطيع انزال يديه الى ان طار العصفور وكنا انا وصاحبي من ضمن من شاهد الموقف.. هب ارشد مستفسرا معتقداً ان هناك بلاغ رباني جاء به هذا العصفور ويريد منا نحن ""آيات الله"" انا وصديقي شاكر سيفو التفسير فقاطعه صديقي قائلاً له اهرب اليوم من الجيش هذه رسالة العصفور لك.. ارتبك ارشد وهو الناجي للتو بفضل امر السرية من الاعتقال وفقا للأوامر التي نصت على اعتقال كل عسكري من اهالي الدجيل او بلد كان يتمتع باجازته الدورية خلال محاولة اغتيال صدام الفاشلة في ناحية الدجيل.

ثم قال لي صاحبي ان ارشد طيب وصافي لذلك اختاره العصفور وفعلا كان ارشد من انقى البشر فلا يعرف الكذب ولا الحيلة ولا الغش ولا التلفظ بكلمه واحده بذيئة يثق بالجميع لحد البلادة حتى اننا كنا نضحك وهو خلف مقود سيارة امر السرية العسكرية حيث نقول له وهو خلف مقودها انها احترقت يقول( ب لله) بلهجة اهالي بلد الكرام..

اللقطة الثانية: كان معنا الأخ ( علي عناد عبد) من اهالي كربلاء وهو شاب نحيف قصير متزوج وله طفل حديث الولادة.. في احد الايام نهض (علي) وهو يردد اغنية شاعت في وقتها للمطرب سعدون جابر تقول:

(ابو حسين علي يكرار علي

يا سيف الاسلام سيفك امانه

بيدين صدام سيف بمكانه)

تصاعد صوته وهو يرددها وخرج عن الموضع ليزيد عليها وهو يتحرك بعنف:

(علي عناد عبد.. يكَواد عبد

نعله عله ابيك تقبل مهانه

ابنك يكَلك مو ابنك انه

يكَواد عبد)

خر صاحبي شاكر سيفو على الارض ضاحكا مقهقها وهو يقول(همزين مو بس انه مخبل) وقال له بعد أن هداء الاثنين علي من الهيجان وهو من الضحك

(فيك ثائر يصرخ اما ان تسكته او يقتلك)

وقال وهو ينشد:

( علي عناد علي

يمغوار علي

الجبل فادي

يذل الاعادي

على عناد علي)

كنت اتصور حتى لحظة فراقنا ان (الجبلي فادي) هو عنوان قصيده لم تكتمل وانها تحكي قصة شاب ثائر ترعرع في الجبل او محيطة وتبادل مع الجبل المشاعر والمواقف وتعانقا كثيرا.. وفي القصيدة شيء عمن عاش معهم من اصدقاء وزملاء ورفاق.. وما تركوا وبالذات من غادروا سواء الحياة او الجبل.. ويمكن ان اتخيله وهو النحيل المحب الطيب في ليلة عاصفه جبليه وهو يتدثر من البرد بما تركه المغادرين من ملابس او افرشه ومع عصف الريح يسمع اهاتهم واحلامهم واناتهم وقصصهم.. واتصور انها تتضمن ما كتبه المغادرين من ذكريات على الصخور سواء بالحراب او العلب المعدنية الفارغة او حتى بأظافرهم وقد يفرد فيها موقع لمآسي الحرب وعني وعن ارشد وخديدا وعلي عناد والراحل الطيب امر السرية.. لا ازال اتمنى سماعها بصوت صاحبي الذي غادرنا قبل اشهر.

لروحك السلام أيها الشاعر الجميل شاكر مجيد سيفو

***

عبد الرضا حمد جاسم

.....................

* س 4 ف 3 لمش506: السرية الرابعة الفوج الثالث لواء المشاة506

* الجحش: تطلق على المتعاونين مع السلطة.

* زرباطيه: منطقه حدودية في القاطع الاوسط من الحدود مع ايران حصلت فيها معركه كبيره سميت بمعركة شرق زرباطيه

يعد هشام كامل عباس محمود الجخ، أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء الشعر العربي المعاصر في مصرنا الحبيبة؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق، حيث يتميز بطريقة إلقائه لشعره التي يعتمد فيها أسلوبًا مسرحيًا، يمزج فيها العامية بالفصحى مع خلفية موسيقية، بزغ نجمه قبل ثورة 25 يناير 2011، وأكسبت الثورة أشعاره زخما وانتشارا واسعين.

بدأت رحلة الجخ الحقيقية مع الشعر عندما استقال من وظيفته الجامعية عام 2009 رافضا أن يعيش الحياة التقليدية للموظفين، واتخذ هذا القرار ليتفرغ للشعر وليهتم بمشروعه الذي حلم به لمدة 15 عاما، وهو زيادة شعبية الشعر في مصر وإعادة الشعر على ألسنة الشباب والأطفال.

وهشام الجخ، هو شاعر مُعاصر من أصل مصري صعيدي من محافظة سوهاج، وُلد في الأول من أكتوبر عام 1978، ودرس في جامعة عين شمس كُلية التجارة وتخرج منها، وعمل أثناء دراسته بالغرافيك والتصميم والطباعة، وبعد تخرجه في عام 2003 استلم إدارة المركز الثقافي الذي كان يعمل به في الجامعة وقرر تركه في 2009؛ لأنه لم يتقبل حياة الموظفين الروتينية، وإضافة إلى ذلك أراد التفرغ والاهتمام بالشعر والقصائد، كما أنه حصل على شهادة دراسات عليا في إدارة الأعمال عام 2007 من نفس الجامعة، واشتهرت قصائد الجخ بأنها باللغة العامية المصرية، ولديه أسلوب إلقاء مسرحي، كما أنه مشهور بتشجعيه لتوحيد اليد العربية ونبذ الكراهية والتفرقة.

بدأت هشام الجخ مسيرته عندما ترك وظيفته في عام 2009 وكان لديه هدف سامي وهو زيادة شعبية الشعر المصري، وزيادة حُب الشعر لدى الشباب والأطفال، وبدأ مسيرته بحفلة شعرية جماهيرية مع موسيقى في عام 2010، واستمر في عمل حفلات شعرية جماهيرية، حتى قدّم في عام 2016 هذه الحفلات الشعرية في جميع محافظات مصر.

تميزت قصائده بأنها ثورية وجميعها باللغة العامية المصرية، وقام بنظم أكثر من 55 قصيدة، منها قصيدته الشهيرة التي تحمل اسم التأشيرة، والتي تتحدث عن العروبة، وأُطلق على هشام اسم الهويس، ويُقال إن سبب التسمية مُرتبط بالتدفق الشعري أو بسبب جذوره الصعيدية عِلماً بأن الهويس هي القنطرة التي تروي الأرض الزراعية.

قدم هشام الجخ عدد كبير جدا من القصائد بالعامية المصرية من ابرازها واهمها ” طبعاً ماصليتش العشا، عوّاد، لقطة الفراق رقم 105، خمسة الصبح، حمزة، المكالمة، أنا إخوان، ملك النحل، 24 شارع الحجاز، اختلاف، ايوة بغير، آخر ما حرف في التوراة، إيزيس، التأشيرة، 3 خرفان، رثاء جويرية،الجدول، مزحوم يا قطر الغلبانين، مديتش إيدي لحد، على ذكر آل النبي، أربعة، يا واخداني من الشيبة،آخر قصيدة، شيماء يا مكة، حمارين حبيبة، هجاء، قصيدة سكرانة، ماتزعليش، عشان غني، منطقي مشهد رأسي من ميدان التحرير، الرسالة الأخيرة، حظك كده، نانا، نادية، قالولك، اختلاف 3، مش طبيعي، حلقاتك برجالاتك، مش كفاية، ماكنتش هناك، في حب مصر، أباتشي، الوجهان، البغبغان، عبروا الرجال،مع ركعتين الفجر، طير ملاك، عمارة، مافيش حد مات، مسكين، طب ايه بقى؟، أسوأ ما قيل في الشعر، يا محملين حلمكم، خائن، ايوة بغير، جحا، مكملين، سري جداً إلى البحر، انسبحوا، أديني نجحت،مابتحلش”

لاقت قصائد هذا الشاعر رواجا كبيرا بين الشباب المصريين خاصة، كما وجدت طريقها إلى الانتشار وخارج مصر أيضا، ويعود ذلك لكون لغته العامية تبدو سلسة يفهمها ويشعر بها شباب الشام والمغرب العربي والخليجي.

كما ساهم في هذا الانتشار حضوره المكثف في مختلف الفضائيات، وانتشار حفلاته على موقع يوتيوب وبقية مواقع التواصل الاجتماعي، وقدم عددا من الحفلات الجماهيرية في أمسيات شعرية ومؤتمرات ومهرجانات وجامعات، وذلك على مستوى العالم العربي.

وفي الشهور الأولى من عام 2016 احتفل الجخ بأنه قدم حفلات شعرية جماهيرية في كل محافظات مصر البالغ عددها 27 محافظة.

أطلق عليه شعراء جيله لقب "هويس الشعر العربي"، والهويس هو القنطرة التي تقوم بضخ الماء لري الأرض الزراعية، وربما أطلقوا عليه هذا الاسم لارتباطه بالتدفق الشعري أو لارتباطه بصعيد مصر وبالأرض وبالحياة الفلاحية.

ورغم ما حظي به من شهرة في البلدان العربية فإن هشام الجخ يرفض إصدار دواوين شعرية تضم أعماله، وقصائده صوتية.

ومن أجمل قصائده الصوتية  التي اعجبتني قصيدته أُسَبِّحُ باسمِكَ اللهُ وفيها يقول :" قصيدته أُسَبِّحُ باسمِكَ اللهُ..وليْسَ سِوَاكَ أخْشاهُ..وأعلَمُ أن لي قدَرًا سألقاهُ.. سألقاهُ..وقد عُلِّمْتُ في صِغَرِي بأنَّ عروبَتِي شرَفِيوناصِيَتِي وعُنْوانِي..وكنّا في مدارسِنَا نُردّدُ بعضَ ألحانِ.. نُغنّي بيننا مثلًا: “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”وكنّا نرسمُ العربيَّ ممشوقًا بهامَتِهِ..لَهُ صدرٌ يصُدُّ الريحَ إذْ تعوِي.. مُهابًا في عباءَتِهِ..وكنّا مَحْضَ أطفالٍ تُحَرّكُنَا مشاعرُنا..ونسْرحُ في الحكاياتِ التي تروي بطولتَنَا.. وأنَّ بلادَنا تمتدُّ من أقصى إلى أقصى.. وأن حروبَنا كانت لأجْلِ المسجدِ الأقصى..وأنَّ عدوَّنا (صُهيونَ) شيطانٌ له ذيلُ.. وأنَّ جيوشَ أمّتِنَا لها فِعلٌ كمَا السّيْلُ..سأُبْحِرُ عندما أكبُرْ.. أمُرُّ بشاطئ (البحرْينِ) في (ليبيا).. وأجني التمرَ من (بغدادَ) في (سوريا).. وأعبُرُ من (موريتانيا) إلى (السودانْ).. أسافرُ عبْرَ (مقديشيو) إلى (لبنانْ).. وكنتُ أخبِّئُ الألحانَ في صدري ووجداني.. “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”.. وحين كبرتُ.. لم أحصلْ على تأشيرةٍ للبحرْ.. لم أُبْحِرْ.. وأوقفَني جوازٌ غيرُ مختومٍ على الشبّاكْ..  لم أعبُرْ.. حين كبرتُ.. كبُرتُ أنا.. وهذا الطفلُ لم يكبُرْ.. تُقاتِلُنا طفولتُنا.. وأفكارٌ تعلَّمنا مبادءَهَا على يدِكم..  أَيَا حكامَ أمّتِنا..  ألستم من نشأنا في مدارسِكُم؟.. تعلَّمنا مناهجَكُمْ.. ألستم من تعلّمنا على يدِكُمْ..  بأنَّ الثعلبَ المكّارَ منتظِرٌ سيأكلُ نعجةَ الحمقى إذا للنومِ ما خَلَدُوا؟.. ألستم من تعلّمنا على يدِكُمْ.... بأنَّ العودَ محميٌّ بحزمتِهِ.. ضعيفٌ حين يَنْفَرِدُ؟.. لماذا الفُرْقَةُ الحمقاءُ تحكمُنا؟!.. ألستم من تعلّمنا على يدِكم أن “اعتصموا بحبلِ اللهِ” واتّحدُوا؟.. لماذا تحجبونَ الشمسَ بالأَعلامْ؟.. تقاسمتُم عروبتَنَا ودَخَلًا بينكم صِرنا كَمَا الأنعامْ.. سيبقى الطفلُ في صدري يعاديكُمْ.. تقسّمْنا على يدِكم فتبَّتْ كلُّ أيديكُمْ.. أنا العربيُّ لا أخجلْ.. وُلِدتُ بتونسَ الخضراءِ من أصلٍ عُمَانيٍّ.. وعُمري زادَ عن ألفٍ وأمي لم تزلْ تحبَلْ.. أنا العربيُّ، في (بغدادَ) لي نخلٌ، وفي (السودانِ) شرياني.. أنا مِصريُّ (موريتانيا) و(جيبوتي) و(عَمَّانِ).. مسيحيٌّ وسُنِّيٌّ وشيعِيٌّ وكُرْدِيٌّ وعَلَوِيٌّ ودُرْزِيٌّ.. أنا لا أحفظُ الأسماءَ والحكّامَ إذْ ترحلْ.. سَئِمْنا من تشتُّتِنَا وكلُّ الناسِ تتكتَّلْ.. مَلَأْتُمْ دينَنَا كَذِبًا وتزويرًا وتأليفَا.. أتجمعُنا يدُ اللهِ.. وتُبْعِدُنَا يدُ (الفيفا)؟!.. هَجَرْنا دينَنَا عَمْدًا فَعُدنا (الأَوْسَ) و(الخزرجْ).. نُوَلِّي جهْلَنَا فينا.. وننتظرُ الغَبَا مَخرجْ.. أَيَا حكّامَ أمّتِنا سيبقى الطفلُ في صدري يعاديكُمْ.. يقاضيكُمْ.. ويُعلنُ شعبَنا العربيَّ مُتَّحِدَا.. فلا (السودانُ) مُنقسمٌ ولا (الجولانُ) مُحْتَلٌّ.. ولا (لبنانُ) منكسِرٌ يُداوي الجُرْحَ منفردَا.. سيجمعُ لؤلؤاتِ خليجِنا العربيِّ في (السودانِ) يزرعُهَا.. فيَنبُتُ حَبُّهَا في المغربِ العربيِّ قمحًا.. يعصُرونَ الناسُ زيتًا في فلسطينَ الأبيّةِ.. يشربونَ الأهلُ في الصومال أبدًا.. سيُشعلُ من جزائرِنا مشاعلَ ما لها وَهَنُ.. إذا (صنعاءُ) تشكونا فكلُّ بلادِنا (يَمَنُ).. سيَخْرجُ من عباءتِكم – رعاها اللهُ – للجمهورِ مُتَّقِدَا.. هوَ الجمهورُ لا أنتمْ.. هوَ الحكّامُ لا أنتمْ.. أتسمعُني جَحَافِلُكُمْ؟.. أتسمعُني دواوينُ المعاقلِ في حكومتِكُمْ؟.. هوَ الجمهورُ لا أنتمْ.. ولا أخشى لكمْ أحدَا..| هو الإسلامُ لا أنتمْ فكُفّوا عن تجارتكُمْ.. وإلّا صارَ مُرْتَدَّا.. وخافوا!.. إنَّ هذا الشعبَ حمَّالٌ.. وإنَّ النُّوقَ إن صُرِمَتْ.. فلن تجدوا لها لَبنًا، ولن تجدوا لها ولَدَا.. أحذِّرُكم!.. سنبقى رغمَ فتنتِكُمْ فهذا الشعبُ موصولُ.. حبائلُكُمْ – وإن ضَعُفَتْ – فحبلُ اللهِ مفتولُ.. أنا باقٍ.. وشَرعي في الهوى باقِ.. سُقِينا الذلَّ أوعيةً.. سُقينا الجهلَ أدعيةً.. ملَلْنا السَّقْيَ والساقي.. سأكبرُ تاركًا للطفلِ فُرشاتي وألْواني.. ويبقَى يرسمُ العربيَّ ممشوقًا بهامتِهِ.. ويبقى صوتُ ألحاني.. “بلادُ العُرْبِ أوطاني.. وكلُّ العُرْبِ إخواني”..

إن  دولة الإمارات الشقيقة لتشعر بالكبرياء والفخر حين  ألقي فيها هذه القصيدة لتحتفي بمبدع استثنائي في حياتنا الثقافية مثل هشام الجح.. وستبقى دولة الإمارات وفيّة لكل الشعراء  الذين جعلوا حياتنا أكثر اخضراراً، وأحاسيسنا أكثر شفافية، وحضارتنا أكثر تحضّراً.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

لشد ما أسعدنى تكريم رئيس جامعة القاهرة لى أثناء المؤتمر الصحفى الذى أقامته الجامعة بقاعة الاحتفالات الكبري معلناً إطلاق مشروعين طموحين .. أولهما: يتضمن تحديث شامل لمستشفى الفرنساوى وفق أحدث المعايير الدولية، وثانيهما: مشروع تطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية..

التطوير المزمع إحداثه يأتى فى إطار التركيز على مفاهيم جامعات الجيل الرابع، ولتأكيد أحقية الجامعة على أن تظل ضمن أفضل مائة جامعة على مستوى العالم..

أعرق جامعة وأحدث تطوير

منذ نحو 115 سنة مضت تأسست جامعة القاهرة كأحد أقدم ثلاثة جامعات فى الوطن العربي بالإضافة لجامعة الأزهر والقرويين..وقد تغير اسمها من الجامعة المصرية إلى جامعة فؤاد الأول ثم إلى جامعة القاهرة. وقد انضمت مؤخرا للوكالة الجامعية الفرانكفونية واتحاد الجامعات الإفريقية. وقد تخرج منها عدد كبير من قادة الفكر والرأى والزعماء وعدد ممن حازوا أرفع الجوائز العالمية ، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر نجيب محفوظ وياسر عرفات ومجدى يعقوب وطه حسين ومحمد حسين هيكل وعلى مصطفى مشرفة وغيرهم كثير..وحينما زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما مصر عام 2009 اختار أن يلقى خطابه من داخل أعرق جامعات الوطن العربي..جامعة القاهرة.

الجميل فيما قيل إن التطوير الذى تم الإعلان عنه وتم توفير التمويل اللازم له ذاتياً ليس إلا مجرد بداية ، وأن هناك تخطيط مستقبلى لإنشاء ثلاث كليات جديدة وهي كلية الطاقة الجديدة والمتجددة، وكلية علوم تكنولوجيا الفضاء، وكلية تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوتات. ما يعنى أن التطوير ليس الأول ولن يكون الأخير، بل هى حركة مستمرة فى هذا الصرح العلمى العريق.

ثلاثون عاماً على الفرنساوى

منذ عام كامل عكف مجلس إدارة المستشفيات الجامعية بمشاركة المتخصصين من أساتذة الجامعة على عمل دراسة علمية لتطوير مستشفى قصر العينى التعليمى الجديد (الفرنساوى) بالتعاون بين عدة أطراف منها مركز الاستشارات الهندسية بكلية الهندسة وإدارة المستشفى وأطراف أخرى معنية بعملية التطوير..

ومنذ ذلك الحين تم بذل الجهود لتأمين ميزانية مشروع تطوير المستشفى حتى تم التصديق عليها من لجنة الموازنة بالبرلمان ومن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، وهكذا بات من الممكن الحصول على تمويل مبدئى من عدة بنوك كان فى مقدمتها تمويل بقيمة 20 مليون جنيه من البنك الأهلى المصرى.

الفرنساوى لعب دوراً كبيراً فى إدارة أزمة جائحة كورونا، واستطاع استيعاب عدد كبير من الحالات المصابة مع تحقيق معدلات نجاح عالمية فى علاج الحالات المصابة؛ لهذا كان من الضرورى الالتفات إلى عملية تطوير شاملة لهذا الصرح الطبي الكبير بعد مرور ثلاثين عاماً على إنشائه.. وسوف تتضمن عمليات تطويره شراء معدات وأجهزة طبية حديثة لمواكبة التطورات العالمية فى مختلف المجالات الطبية، وكذلك تحديث البنية التحتية للمبانى والمنشآت. والأهم من هذا وذاك تحسين طريقة الإدارة وتحقيق إصلاح مالي وإداري وتحسين أحوال العاملين بها، لافتا إلي أن الشائعات التي تثار حول بيع مستشفى الفرنساوي غير صحيحة، حيث أكد الخشت خلال المؤتمر أن جامعة القاهرة بجميع قياداتها الإدارية والطبية قادرة على جعل الفرنساوى من أعظم المستشفيات وأنه لن يتم التفريط في العاملين بل سيتم توظيفهم بطريقة أفضل لخدمة المستشفى وخدمتهم. فلن يتم الاستغناء عن العاملين بالفرنساوى بل سيتم تطوير أداءهم على مهام تتلاءم مع طموحات التطوير وسنعمل على تحسين أحوال جميع العاملين ماديا واجتماعيا.

البشر أولاً.. قبل الشجر والحجر

المشروع الثانى فى جدول أعمال الخشت هو مشروع موجه للناس وللثقافة وللعلم .. حيث أكد الدكتور محمد الخشت فى مطلع حديثه عن مشروعات التطوير التى تتبناها الجامعة أنه لابد من النظر بجدية شديدة إلى دور العلوم الإنسانية والاجتماعية وأيضًا العلوم الطبيعية ويجب أن نهتم بالبحث العلمي في قضايا الوطن وتحديات وهموم الناس وتحقيق مقاصد التنمية من أجل الرقي والازدهار.

ولفت الدكتور محمد الخشت، إلى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة القاهرة كانت خارج أي تصنيف لكنها الآن أصبحت في مراكز متقدمة، مؤكدًا أنه يطمح في أكثر من ذلك، وأن إطلاق الجامعة مشروعا لتطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية يأتي في إطار التركيز على مفاهيم جامعات الجيل الرابع والربط بين مختلف العلوم لأن مشروع البحث الذى ستموله الجامعة فى إطار هذا التطوير ليس مشروعا فرديا وإنما يشترط للتقدم أن يكون من خلال فريق بحثي من تخصصات متعددة، مؤكدًا أن التكامل ليس بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وبعضها البعض فقط ولكن بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية..‏وقال الدكتور الخشت إن المشروعات البحثية التى سيتم تقديمها فى إطار المشروع يجب أن تركز على احتياجات المجتمع بالتكامل بين تخصصات عديدة، مشيرًا إلى أن حجم التمويل للمشروعات يبدأ من 200,000 جنيه ويصل إلى 1,000,000 جنيه بشرط أن تكون البحوث المتقدمة تخدم القضايا القومية وليست بحوثًا نظرية، وأن الهدف منها هو تحقيق تقدم على المستوى العالمي، وسد الفجوة المعرفية مع الجامعات المتقدمة، وخدمة المجتمع والناس.

كما فعلت الصين!

لعل أحد أهم الأسس والمرتكزات التى أدت إلى التطور السريع فى معدلات التنمية بجمهورية الصين الشعبية إهتمامها الكبير بالعمل الأهلى التنموى والمشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ بحيث تحولت البيوت الصينية جميعها فى كل شوارعها الريفية والحضرية إلى ما يشبه المصانع الصغيرة. هكذا بات المليار ونصف مواطن صينى جميعهم من المنتجين حتى غطى المنتج الصينى جميع ربوع المعمورة.. فماذا سيحدث إذا حلمنا كما حلمت الصين ثم حققنا هذا الحلم على يد أكثر من مائة مليون مصرى؟!

الحق أن من أدق وأهم وأعمق ما يهتم به المشروع الاجتماعى لجامعة القاهرة، هو التركيز على العمل الأهلى التنموى من خلال تشجيع الأيدى العاملة المصرية الماهرة على أن تسهم بدور فعال فى تدوير عجلة الاقتصاد المصري. ولطالما احتوت مصر على مهارات وحرف يدوية شديدة المهارة والتفرد، والدليل على هذا شوارع بأكملها لمثل هذه الحرف الصعبة كشارع النحاسين والخيامية وخان الخليلى والمعز، وغيرها كثير من شوارع القاهرة التى تخصص أهلها فى صياغة تحف حقيقية تباع اليوم بالمتاجر الإليكترونية بآلاف الجنيهات على أنها تحف أثرية مقلدة!

جامعة القاهرة تريد من خلال هذا المشروع تشجيع عمليات البحث العلمى والاستقصاء عن كيفية الجمع بين ما تحويه مصر من قدرات وطاقات بشرية مكنونة وبين ما تقدمه الدولة من فرص لتنظيم هذه الطاقات فى عملية اقتصادية مدروسة ومنظمة، بحيث يمكن توجيه طاقة العمل الأهلى الجمعى نحو عمليات إنتاج ضخمة وعمليات بيع وتصدير داخل وخارج مصر. بحيث يتحول المجتمع المدنى وتتحول الجمعيات الأهلية إلى جزء لا يتجزأ من روافد الاقتصادى القومى.

هذا ما يمكن أن نفهمه من تأكيدات الدكتور محمد الخشت أنه لابد أن يحدث تطور في العمل الأهلي وألا يعمل بشكل منعزل عن بعضه، ولكن من خلال قاعدة معلومات واحدة حتى لا تحدث ازدواجية في الخدمة الاجتماعية وحتى تساعد بعضها البعض وبالتالي الانتقال بالمجتمع نقلة حقيقية جديدة.

أعود فأوجه التحية للدكتور محمد الخشت على استضافته الكريمة بالمؤتمر، والشكر على تقديم درع الجامعة وشهادة تقدير غالية أعتز بها أيما اعتزاز. وأتمنى أن نرى جامعة القاهرة كعهدنا بها دائماً فى المقدمة محلياً وعربياً وعالمياً.

***

د. عبد السلام فاروق

كانت برفقة ابنها الكبير "بيتر" تتسوق عندما توقفت سيارة الاجرة امام منزلها،المرأة التي تبلغ من العمر آنذاك " 88 " عاما وجدت صعوبة في الخروج من السيارة السوداء، انحت قليلا، يكاد الوشاح الاحمر الذي تضعه على رقبتها يفترش الارض، انتظرت قليلا، قبل ان تشاهد مجموعة من الصحفيين يتزاحمون امام بيتها، قال لها احدهم: هل سمعت بحصولك على جائزة نوبل؟، لم تكن قد عرفت الخبر، ولهذا لم تبد عليها علامات الدهشة، تركت الصحفيين والمصورين لتلتفت الى سائق السيارة يعيد لها المتبقي من الاجرة، ثم انشغلت بالسلة التي تضع فيها الخضروات، بينما خرج الابن وهو يحمل عنقودا كبيرا من البصل، تعود لتسأل: ما الذي يفعلونه امام بيتها، قال احدهم: يبدو انك لم تسمعي الاخبار جيدا، لقد فزت بنوبل قالت بصوت مسموع " اوه.. يامسيح "، تجلس على دكة البيت، تقلب في سلة التسوق وكأنها تريد ان تقشر البطاطس طلبت من ابنها ان يجلب لها قدحا من الماء من داخل المنزل.. قالت للصحفيين ما ذا يريدون منها ان تفعل وهي تسمع خبر فوزها بجائزة كانت تستحقها منذ سنوات.

في اليوم التالي، اجرت معها لجنة نوبل مقابلة قالت فيها أنها لم تتفاجأ على الإطلاق بفوزها، لانها تستحق الجائزة واضافت ان هذا الامر لن يحدث تغيرا في حياتها، ستذهب كالعادة كل صباح لتتسوق بنفسها، فهي ماهرة باختيار انواع الخضروات.. وعن اهتمام الصحافة والنقاد بها بعد الفوز قالت: سيفقد الجميع الاهتمام خلال شهر أو شهرين، مضيفة: لا يمكنهم قضاء كل وقتهم في إجراء مقابلات. وليس لدي وقت لكل ذلك. لذا فإن مشكلة نوبل ستحل نفسهابنفسها.

كنت اجلس في المكتبة في احدى نهارات عام 1978 اتصفح مجلة الاقلام،عندما وقع نظري على اسم دوريس ليسينج، كان عنوان المقال يتكون من كلمتين " دوريس ليسنج " واسم كاتب المقال محمد درويش، كانت المرة الاولى التي اعرف فيها ان هناك كاتبة انكليزية مشهورة اسمها دوريس ليسنج، آنذاك كانت حصيلتي من قراءة الروايات التي تكتبها النساء تنحصر بين شارلون برونتي وشقيقتها اميل برونتي صاحبة الرواية التحفة " مرتفعات ويذرنغ "، وجين اوستن، والامريكية بيرك باك الذي ادهشتني بروايتها " الارض الطيبة " وهيرت ستو و " كوخ العم توم "، ومارغريت ميتشل التي شاهدت الفيلم المقتبس عن روايتها " ذهب مع الريح " قبل ان اقرأ الرواية. اما كاتب المقال " محمد درويش "فقد قرأت له من قبل عدد من المقالات عن الادب ينشرها في الاقلام، وكنت اعتقد انه كاتب لبناني، عندما انتهيت من قراءة المقال قررت البحث عن روايات السيدة ليسنج، وسافشل في الحصول على رواية مترجمة لها، ومع مرور الايام والشهور نسيت السيدة ليسينج، إلا ان وقع بيدي ذات يوم كتاب بعنوان " دراسات تمهيدية في الرواية الانجليزية المعاصرة " للناقد والمترجم المصري رمسيس عوض، وكنت في ذلك الوقت اقتني اي كتاب عليه اسم رمسيس عوض، حيث قرأت له كتبه الممتعة عن برتراند رسل، في الكتاب الجديد فصل خاص عن دوريس ليسنج واهميتها. تمر الايام والسنين فإذا بي ذات يوم اجد نفسي قبالة صاحب مقال دوريس ليسينج، محمد درويش، في ذلك الوقت كان صاحب المكتبة التي اعمل فيها وهو قريب لي، مهتما بالكتب الاجنبية سواء الادبية او الفنية او العلمية، وقد خصص جناحا ضخما لعرض هذه الكتب ومنها سلسلة بنغوين التي كانت تقدم روائع الادب الكلاسيكي، كان الزبون الذي يمعن النظر في الكتب الانكليزية رجل في الثلاثينيات من عمره، بشرته مائلة الى الاحمرار، قامته طويلة، عيناه تتحركان بين عناوين الكتب، تبدو على ملامح وجه ابتسامة خفيفة غير معلنة، بعد دقائق من تصفحة الكتب، التفت الي ليسأل عن نسخة من رواية " ابناء وعشاق " للورنس، وقبل ان اجيب قال: انه وجد نسخة عند الاستاذ يوسف عبد المسيح ثروة وقد اخبره بانها اشتراها من هذه المكتبة، قلت له ان الرواية نفذت، وكالعادة استعرضت عضالاتي على الزبون فاخبرته بان هناك طبعة عربية لها عن سلسلة روايات الهلال، وانني قرأتها واخذت اتحدث عن اعجابي بلورنس ه، ابتسم الزبون وهو يقول لي بصوت خفيض: لكن الترجمة لم تكن جيدة حذفت منها الكثير من فصول الرواية، انتبهت الى ان الزبون الانيق لديه معلومات هائلة عن الادب، قررت ان اطلب له قدحا من الشاي لاواصل حديثي معه، قال لي انه مترجم وكاتب وان اسمه محمد درويش، ما ان نطق بالاسم حتى قلت له: كنت اتوقع انك لبناني ضجك ضحكمة قصيرة، انتهزت الفرصة لأساله عن دوريس ليسنج فاخبرني انه بصدد ترجمة احد رواياتها، وهي اشبه بالسيرة، سالته اسئلة كثيرة لا اتذكرها الآن، بعدها غادر، لكنه سيصبح زبونا فيما بعد زبونا استقبله بين الحين والاآخر، ذات يوم سيفاجئني وهو يحمل بيده كتاب قائلا: احضرت لك دوريس ليسينج التي صدعت رأسي بها، كان الكتاب رواية " مذكرات من نجا ".

بعد سنوات يزورني الصديق كامل عويد في صحيفة المدى ومعه محمد درويش الذي كان يتابع ما اكتبه في الصحيفة، وذكرني بعامل المكتبة الشاب الفضولي الذي لا يتوقف عن الاسئلة. كان محمد درويش الذي رحل عن عالمنا قبل اكثر من عشرة ايام، طرازا فريدا من المترجمين المبدعين الذين تتنوع ترجماتهم، ولا شك ان قدرته على تقديم النصوص المترجمة بلغة تقترب من النص الاصلي هو اول ما يلفت انتباه من يقرأ ترجماته، والتي تنوعت بين الرواية والنقد والسير الذاتية، كان فيها يدهشنا حين يصل بين الرواية، والنقد الادبي والشعر والاقتصاد، مقالات فيها خلاصة تجربته في قراءة الادب والثقافة العالمية، والواقع ان انتاج محمد درويش اشبه بوحدة متناغمة العلاقات، لو نظرنا اليه من منظور دلالة الكتب التي ترجمها والتي شغلت فكره، وظلت تشغله منذ ان تخرج عام 1971 من قسم اللغة الإنكليزية في كلية التربية جامعة بغداد، وحتى حصوله على الماجستير في علوم الترجمة من جامعة هيريوت وات، الى مناقشته لرسالته للدكتوراه والتي كانت عن فلسفة اللسانيات والترجمة، الى مفارقته عالمه المدهش الترجمة ليرتحل عن العالم. اعني دلالة التميز التي كان محمد درويش يصبو لها، وحاول ان يجسدها في كل ما قدمه من ترجمات وكنب كانت اسلحته في مواجهة اهمال المؤسسات الرسمية في السنوات الاخيرة والمرض الذي حاصره. لكنه رغم ذلك اصر ان يجعل من اسمه علامة بارزة في تاريخ الثقافة العراقية.

كتبت دوريس ليسينج أكثر من خمسين كتاباً، وفي كل مرّة تقول لنفسها هذا هو الكتاب الأخير، ظلت صورة أمها الممرضة ترافقها حتى الساعات الأخيرة من حياتها، تقول: " كان قلبها دافئاً ولكنها لم تكن حساسة. من المحتم أن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. يصلون بعربة لوري، وبعضهم مات فعلياً. المحتم أن هذا مزّقها، تقدير ذلك أخذ مني وقتاً طويلاً".

تقول لكاتب سيرتها إنها تربّت على الحروب عن طريق والدها الذي كان جندياً في الحرب العالمية الأولى، وقد بترت له الحرب إحدى ساقيه: " كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة باشانديل حتى اليوم الذي مات فيه. كان يتساءل دوماً إن كان من الأفضل أن يموت معهم، ولكن على الرغم من ذلك لم يجعل الإصابة تعيقه، كان يفعل كل شيء"، ظلت الحرب تجثم على صدرها، وفي الرابعة والثمانين من عمرها ستقف أمام الكاميرات لتعلن إنها تكره الحرب مثلما تكره توني بلير – كان آنذاك رئيساً لوزراء بريطانيا: " كثيرون منا يكرهون توني بلير. أعتقد أنه كان كارثة لبريطانيا وقد عانينا منه لسنوات عديدة. لقد قلت ذلك عندما تمّ انتخابه: هذا الرجل رجل استعراضي صغير سوف يسبب لنا مشاكل وقد فعلنا، وبالنسبة لبوش، فهو كارثة عالمية. الكل سئم من هذا الرجل. إما أنه غبي أو ذكي للغاية، رغم أنه يجب عليك أن تتذكر أنه عضو في طبقة اجتماعية استفادت من الحروب".

تقول إن الحرب سمّمت طفولتها، وجعلتها متشائمة. تحس بثقل الحرب يزداد مع تقدمها في العمر: "سأفرح عندما أموت لأن ذلك سينقذني من القلق تجاهها". دهشتها قدرة الكاتب الالماني إريك ماريا ريمارك، على تصوير مآسي الحروب قرأت له "كل شيء هادئ في الميدان الغربي "،، لكنها أغرمت برويته " الرفاق الثلاثة " والتي تتحدث عن ثلاثة جنود ألمان يعودون بعد الحرب الى بلادهم ليروا الناس

دوريس ليسينج التي رحلت عام 2013 ظلت خلال الـ 94 عاماً التي عاشتها شاهدة على العصر الحديث بكل تناقضاته وتقلباته.. حياة ابتدأت من الحرب العالمية الأولى وامتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين لترى أفول نجم الشيوعية التي آمنت بها في بداية حياتها لتشاهد على شاشات التلفاز كيف انهار جدار برلين.. سنوات طويلة من زمن الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس الى زمن ديفد كاميرون.- رئيس وزراء بريطانيا في العام الذي توفيت فيه ليسينج -.

امرأة كتبت ضد العنصرية والاستعمار وناضلت في سبيل فضح جرائم الفصل العنصري واضطهاد المرأة، عاشت لاتعرف سوى الأدب طريقاً للحياة، كتبت بقسوة ضد الاستعمار والرأسمالية والجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية وخاضت معارك لا تنتهي في سبيل الحركة النسوية، تأتيها نوبل بعد أن سأمت من كل شيء وقررت أن تعتزل الكتابة رافضة عرض الملكة البريطانية بمنحها لقب سيدة الامبراطورية البريطانية حين ردت على صاحبة العرض بأن الامبراطورية لم تعد موجودة.. عاشت حياة أشبه برواية من رواياتها، فما بين مولدها بأيران في الثاني والعشرين من تشرين الاول عام 1919 من أبوين بريطانيين، الأب كان يعمل نقيباً في الجيش، والأم تمارس مهنة التمريض، فتحت عينها لتجد والدها وقد أصيب في الحرب العالمية الأولى فخرج منها مبتور الساق.. لايحظى بحب أمها وإنما بعطفها.. يعشق المغامرة وينتظر أن يرحل بأسرته ليبحث عن الثروة والحياة الجديدة..في جنوب أفريقيا عاشت دوريس حياة شاقة جعلتها تقول عنها في مذكراتها بأنها كانت سنوات الخيبة لكنها تحملتها بشجاعة وكبرياء، كانت طفولتها كما تصفها جرحاً مفتوحاً يسير على قدمين مما دفعها أن تجعل معظم أبطال روايتها يعيشون حكايات صعبة وذكريات أليمة مع سنوات الطفولة.. تعترف أن وعيها تفتّح حين قررت أن لاتكون مثل والديها: الرجل المقعد والمرأة المريضة بالوساوس.. ألا تقع في شرك النمطية، غذّت في داخلها روح الثورة والتمرد على الأوضاع، تعترف: " لقد صنعت لنفسي يوتوبيا خاصة، كان الأدب جزءاً منها أردت أن أقول للعالم ماذا لو جعلنا الظلم والفقر والحرب أموراً مستحيلة بالتأكيد إن الحياة سوف تكون أجمل وتمتلىء بالناس الرائعين".. تقرر أن تعيش حياة التمرد على سلطة الأم المهووسة بالنظام واحترام التقاليد فتهجر مدرسة الراهبات في الثانية عشرة من عمرها، ثم بيت أهلها وهي في الخامسة عشرة من عمرها لتعمل مساعدة ممرضة. تقرأ الكتب التي تستعيرها من الأصدقاء.. إنها سنوات الضياع والحرية والحب. في بداية الثامنة عشرة من عمرها تتزوج من أحد زملائها في العمل. وفي الحياة الجديدة سوف تجد مجتمعاً متغيّراً تواصل من خلاله السعي لتجد ذاتها، تنضم الى الدوائر السياسية وتعتنق الأفكار اليسارية ويدفعها حبها للحياة الى مغادرة مجتمع جنوب افريقيا لتبحر صوب لندن فتصلها في العام 1949 وهي تحمل معها طفلاً رضيعاً ومسودة أولى روايتها " العشب يغني" التي تروي فيها حكايات عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.. تنشر الرواية عام 1950 لكن كان على دوريس أن تنتظر اكثر من عشر سنوات حتى يعنرف بها الوسط الثقافي في لندن بعد أن تقدم روايتها " المفكرة الذهبية – ترجمت الى العربية لعنوان " الدفتر الذهبي " - التي صنعت شهرتها الأدبية وقدمتها كواحدة من المناضلات في سبيل حرية المرأة من خلال تقديم شخصية امرأة عصرية بعمق وتفاصيل مثيرة، وقد رأى فيها البعض سيمون دي بوفوار بنسخة إنكليزية

تكتب في سؤال حول نظرتها لقضايا المرأة: " ما أتمناه هو حصول المرأة على الاستقلال، بحيث لا تكون عبدة للرجل ولا للمرأة المسترجلة. حاولت في روايتي أن أخلق امرأة تقترب من هذا النموذج: حرة، ومستقلة، وأما حنونة، إنسانية دون أن تكون عاطفية، وذكية دون أن تكون متعجرفة. "

مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثلت تطوراً جديداً بالنسبة لدوريس ليسينج حيث تحوّلت كتاباتها الى مرحلة النضوج والتأمل عبرت عنها رواياتها " بيان مجز وخماسية العنف ومذكرات مَن نجا والحب مرة أخرى وتقرير عن الجحيم "، لتصبح حكوائية للتجربة النسائية من الطراز الرفيع تروي معاناة المرأة بدقة وشفافية بدءاً من الإرهابية عن امرأة برجوازية ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف الجيش الآيرلندي، الى " الجدات" عن سيدتين كل منهما تعيش قصة حب مع ابن الأخرى وصولاً الى " أعذب الأحلام " التي تقدم لنا فيها نفسها بأنها المرأة القادرة على تصوير أوضاع العالم بلغة شفافة. إنها المرأة التي تركت كل شيء..الأهل والمدن والايديولوجيات لتكتشف الحياة بصورة أكثر نقاء ولتؤكد لنا وقد تجاوزت التسعين من عمرها إن الإبداع لايشيخ وإن الموهبة الحقيقية تظل ساطعة طوال السنين.

كتب سومرست موم مقالاً عن رواية دوريس ليسينج " العشب يغني " أكد فيه أن هذه الرواية وصفت طبقة جديدة من البشر، الطبقة التي تعاني من الاضطهاد، دون أن ينتبه لها أحد، وقد تنبأ موم بمستقبل ليسينج، واعتبر نفسه محظوظاً إنه عاش ليقرأ مثل هذا الأدب.

في آخر حوار معها قالت للمحرر الأدبي لصحيفة الغارديان إنها لاتجد إجابات شافية حول وظيفة الكاتب في هذا الزمن لكنها تعتقد إن: " من واجب الكتّاب، إذا تعاملوا مع مهنتهم بصورة جادة، أن يضعوا أصابعهم على مواطن جروح زماننا، ولكن هذا ليس كافياً. كل منهم يستطيع إيجاد العيوب في الظروف السائدة ومن السهل أن يغدو مثل هذا العمل صرعة. في رأيي، يتحتَّم على المؤلِّف أن يصبح، بعض الشيء، شبيها بالنبي، يقتفي الخلل قبل أن يغدو ماثلاً للعيان، ويفقه الموضوع قبل أن يصبح نزعة سائدة، شاحذاً حسّه وحواسه لاستشعار أدق ذبذباته ".

في العام 1962 تنشر دوريس ليسينج روايتها " المفكرة الذهبية " – ترجمها الى العربية الراحل الكبير محمد درويش، وله الفضل في ترجمة العديد من اعمالها -، والتي حظيت باهتمام كبير وأثارت كثيراً من الجدل دفع دوريس لأن تقول: " إن الجدل حول الرواية يبدأ منذ يوم مولدها وهكذا بدأ الأمر مع المفكرة الذهبية "، كانت ترغب أن تكتب عن حياتها، عن السنوات التي أعقبت الحرب، وضعت تولستوي نصب عينيها، إنها تريد أن تكتب ملحمة قريبة من الحرب والسلم، تعتبر ستندال وتولستوي بأنهما " أخوايّ في الدم "، لكنها هذه المرّة لن تكتب تاريخاً للحرب ولا للبلدان، وإنما صورة لحياة امرأة ذكية، لكنها محبطة.. تقول في مقدمة الرواية: " اعتقد أن الماركسية كانت المحاولة الأولى في عصرنا، خارج نطاق الأديان السماوية، لتشكيل قوة أخلاقية عالمية "..المفكرة الذهبية على حد تعبيرها ليست بوقاً لعملية تحرير المرأة، إنها تصف الكثير من العواطف الأنثوية وتضع العداء والكره والظلم والتحرر مطبوعاً على الورق.

بطلة الرواية " آنا " امرأة متمردة على واقعها، كتبت رواية أولى حققت نجاحاً كبيراً لكنها تحتقر هذا النجاح، وتنظر باستخفاف الى روايتها، إنها اليوم قد غادرت الشيوعية وأوهامها باقامة المدينة الفاضلة، وتريد أن تكتب رواية جديدة، لكنها بدلاً من ذلك تملأ أربع مفكرات بأربعة ألوان بالعديد من الملاحظات، فهناك المفكرة السوداء التي تسجل فيها حياتها في روديسيا، والمفكرة الحمراء التي تخصصها لحياتها المضحكة والمبكية عندما كانت تعمل في السياسة وتتعرض للاعتقال، والمفكرة الصفراء تكتب فيها رواية عن حياة متخيلة وعن الأحلام التي رافقتها في شبابها، والمفكرة الزرقاء وفيها نتعرف على مواقف من حياة " آنا" ونظرتها الى زيف الصحافة وكونها أشبه بجلاد يريد أن ينتقم من الآخرين، وأخيراً هناك قسم صغير يدعى المفكرة الذهبية وفيه تحاول بطلة الرواية " آنا " أن تولّف بين هذه المفكرات المنفصلة، لتقدم لنا سرداً أشبه بشريط سينمائي عن حياتها، حياة دوريس ليسينج.

تؤكد ليسينج إن مهمتها كروائية ومدافعة عن حقوق الإنسان كانت: " جزءاً من واجبنا بأن نؤكد لأي شخص وبأية وسيلة مهما كانت صغيرة بأن الحياة ما هي إلا مغامرة رائعة.. أشك إن كان أي شخص من الناس من الذين نتبنّاهم، سينسون حجم القناعة المطلقة عندنا بعظمة الحياة، لإننا إن لم نأخذها، بالإيمان، سنأخذها بالمبدأ "

رفضت أن توصف روايتها " المفكرة الذهبية " بأنها دفاعاً عن الحركة النسوية ودعوة لتحرير المرأة، فهي تريدها أن تكون سجلاً لتحولات البطلة وهي تعيش في أكثر من مجتمع، فيما عدّها النقاد تعبيراً عن التفكك في حياة المجتمع ومحاولة للاندماج والتكامل. فعندما يسأل تومي وهو أحد أبطال الرواية " آنا " عن السبب الذي يدعوها الإحتفاظ بخمس مفكرات متفرقة، وكان بإمكانها الجمع بينهما في مفكرة واحدة يمكن تقسيمها إلى أقسام أجابت آنا إن هذا سيؤدي إلى نوع من الفوضى..حياة بطلة الرواية إنها أشبه برحلة أوديسيوس في البحث عن الهوية التي تناسبها في مجتمع بات يرفض الهوية الواحدة، فالمرأة المتحررة التي تتحدث عنها الرواية لم تعد متحررة بعد كل هذا، فهي في نظر الذين يؤمنون بالزواج ومؤسسته أصبحت تعني العاملة والأم الوحيدة أو تلك التي تقيم علاقات حرة مع الرجال.

حوّلت " المفكرة الذهبية" دوريس ليسينج الى أيقونة معارِضة تدعو للمساواة بين الجنسين، تكتب إن: " تقريراً علمياً يدّعي أن النساء كنّ الأصل البشري الأساس وأن الرجال جاءوا معهن متأخرين بكثير"،

ربما كانت لندن عند صدور المفكرة الذهبية مكاناً قاسياً بالنسبة لإمرأة مطلقة مثل دوريس ليسينج، إلا أن الادب عرّفها الى مجموعة من كتـّـاب وفنانين غاضبين اطلق عليهم جماعة " جيل الغضب " كانوا يؤسسون لثورة ثقافية وفنية سواء في مجال الرواية او المسرح او الرسم، وتقول ليسينج عن تلك الفترة " لقد كان وضعاً جذاباً جداً وظريفاً جداً ورائعاً، وكنت أتواجد هناك عصر كل يوم وكنت مستغرقة، ولسوء الحظ كانت لدي مسؤولية ميؤوس منها فلم أكن أستطيع الخروج ليلاً ولم أكن أستطيع تحمل تكاليف جليسات الأطفال، الحمد لله".

تكتب الروائية مارغريت آتوود: " كانت أول معرفتي بدوريس ليسينج عن طريق روايتها " المفكرة الذهبية " التي حملتها مع كتبي الجامعية في باريس عام 1963 حينما كنت أدرس هناك حيث اعتدت الجلوس يومياً على أحد مقاعد حدائقها لأهضم معها قطعة من التوست الفرنسي التي احتوت على الجبن وكارتونة صغيرة فيها عصير البرتقال، كان هذا جزءاً من غذائي اليومي الذي وصفه لي الأطباء بسبب ما أعانيه من مرض في المعدة كما كانت تفعل الروائية الإنكليزية أليسون كننغهام التي تعلمت منها كيف أسيطر على ذلك المرض،إضافة لتلك الرواية التي كانت مهدئاً لنفسي العليلة بما بثته من تجربة غنية مرّت بها الكاتبة ليسينج في حياتها حتى أبدعتها بهذا الشكل من التألق والإبهار. كان انصهاري مع رواية ليسينج شيئاً عجيباً حيث أنستني رجل الشرطة وهو يقف فوق رأسي ليقول لي إن الاستلقاء على مقاعد الحديقة بهذا الشكل يعد مخالفاً للقانون في هذه الساعة، لذلك كان عليّ أن أجد مكانا آخر لقراءتها،فكنت أصحبها معي المقاهي التي أرتادها وبعض الحانات، استطاعت الرواية بالتالي أن تفتح عيني على مشاكل المرأة منذ ثلاثينيات القرن الماضي خاصة ما يتعلق منها بقضية تحديد النسل وحتى قبل أن يشهد عصرنا انتشار التنورات القصيرة، هي سبقت نقاشاتنا في الكثير من المسائل التي كنا نعتبرها جريئة عند اجتماعنا على مائدة العشاء في تورنتو أيام مراهقتي وكأنها كانت تتنبأ بما سيحصل للمرأة لاحقاً ".

نقول " آنا " بطلة المفكرة الذهبية: " ان كل شيء يتصدع " تكتب دوريس ليسينج: " لا شيء اكثر قوة من هذه العدمية، استعداد غاضب لرمي كل شيء جانبا، الارادة، والتوق ليصبح جزءاً. هذه العاطفة هي احدالاسباب القوية التي ساعدت على استمرار الحرب. الناس الذين قرأوا ( جبهات الحرب ) ستذكى فيهم هذه العاطفة وان لم يدركو. لهذا السبب انا خجلة، واشعر دائما وكانني ارتكب جريمة ".

في معظم روايات دوريس ليسينج نقرأ عن التمرد وتشرذم المجموعات السياسية، وتجاذب الحقيقة والكذب، والحماس الاخلاقي والسخرية، وتعترف ليسينج ان الرواية كشكل لم تعد مقنعة، فالمجتمعات الكبرى التي انتجت روايات كبيرة قد تهاوت، وهذا ما يدعو الكتاب بان ينبهوا القراء : " أن ارض المجتمع تهتز تحت اقدامهم ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها ماخوذة من الفعل (عقد) الذي يعني الاحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بان العقيدة الصحيحة هي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها المسلم. ويحددون جوهر العقيدة الاسلامية بـ(التوحيد) الذي اتخذوه عنوانا لعلم العقائد كلها. ويرى آخرون ان العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به ايمانا جازما ، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به. ويرى فريق آخر بان العقيدة تعني الايمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق اليه شك، وانها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن اليها نفسه ، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها.. فيما يرى الدكتور صالح أن العقيدة في اللغة منحوتة من الفعل (ع ق د) في قولهم عَقَدَ البيع، وعَقد اليمين بمعنى: وثقّه وأكده. ويضيف بأن الاعتقاد هو التصديق، والتصديق هو الإيمان، والإيمان يعطي المعنى الاصطلاحي للعقيدة، ومعناه التصور اليقيني عن الخالق والمخلوق (الكون/الإنسان/ الحياة/ الموت/ النشور/البعث الجزاء. ويتفق معهم بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).

و(العقيدة) لها اكثر من معنى، فهي تعني فلسفيا وسياسيا وتعليميا (ايديولوجية).. وتتعدد افكارها من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، ومن الغيب المطلق الى العلم المطلق.لكن العقيدة ان ارتبطت بالدين فانها تخص (الله) والكون والوجود والحياة والموت.. وما له علاقة بها وما بينها.

ومع كثير من آراء أخرى بعضها يعتبر العقيدة ضرورة عيش وبعضهم يراها وهما، فأن خلاصة ما يقصده العلماء والفقهاء والدكتور صالح بـ(العقيدة) هي الفكرة التي يؤمن بها الأنسان وتتجسد في سلوكه، افعاله، تصرفاته.. وطريقة تعامله مع الناس.وقد تكون الفكرة (العقيدة) صحيحة وقد تكون خاطئة، وقد تكون حقا وقد تكون باطلا.. لكن صاحبها يعتبرها صحيحة وحقا.. ما يعني سيكولوجيا ان المؤمنين بالعقيدة يتوزعون على صنفين:

الأول، صنف يتطابق سلوكه، افعاله، تصرفاته مع محتوى عقيدته، سواء ذلك كان حقا (عمر بن الخطاب، وعلي بن ابي طالب) مثالا، او باطلا (بن لادن، وابو بكر البغدادي) مثالا.

والثاني، صنف يتناقض سلوكه ، تصرفاته، افعاله مع ما تدعو له عقيدته.. يجسده قادة احزاب الاسلام السياسي الذين استلموا الحكم في عدد من الدول العربية، وعملوا بالضد من تعاليم الشريعة الأسلامية بأن استفردوا بالسلطة والثروة.

العقائد.. والحروب الكبيرة

تفيد قراءتنا للتاريخ ان (العقائد الدينية) كانت هي السبب في نشوب حروب كبيرة راح ضحيتها مئات الملايين.. افدحها ما حصل بين المسيحيين الكاثوليك والبروستانت بين (1618- 1648) من حروب شرسة راح ضحيتها اكثر من ثمانية مليون قتيلا ، وآخرها ما حصل في العراق بين عامي (2006 - 2008) واصطلح سياسيا واعلاميا على تسميتها (حرب طائفية) فيما هي في جوهرها (حرب معتقدات) وصل عدد ضحاياه في يوم واحد من شهر تموز 2007 (مئة) قتيلا، ولسبب في منتهى السخافة ، ما اذا كان الآخر اسمه (حيدر او عمر!).

من هذا الأدراك ، كان توجه الدكتور صالح الطائي لأعادة قراءة العقيدة في الأسلام، ومن معرفته الغزيرة بتنوع المعتقدات بين المذاهب الأسلامية. فعلى سبيل المثال هناك اكثر من ثمان مدارس وفرق اسلامية بينها: المعتزلة، الأشعرية، الظاهرية، الأثرية، المرجئة، الكرامية، الأثنا عشرية.

اوائل من نقد المعتقدات

يعد ّ المعتزلة (ظهروا بداية القرن الثاني الهجري في البصرة) من اوائل الذين (تمردّوا) على ما يعدّه كبار علماء المسلمين خروجا على المعتقدات، وأول من قام بتفعيل للعقل الأسلامي في حرية التفكير وتغليب (العقل على النقل)، وأول من تجرأ على نقد العقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا، مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وامتازت بأن اعتمدت خمس عقائد: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويقصد به فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.

وثاني من نقد العقائد في الاسلام هم (القرامطة) الذين حظوا باهتمام كبير من الكتّاب العرب والأجانب ووضعوهم في موقفين متضادين:

الأول، يعتبرهم زنادقة وكفرة اعتمدوا عقيدة اخفاء ما يؤمنون به واظهار انفسهم انهم مسلمون. والثاني يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام، وأن قرمط .. مؤسس مذهب القرامطة وصف بأن افكاره مشابهة لافكار ماركس. وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، فيما نرى أن افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين. وما ميز قرمط (الذي كان يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس مع ابو سعيد الجنابي دولة القرامطة في البحرين " 855- 924 م") انه كان من صنف الذين تتطابق افعاله مع اقواله في تحقيق العقائد الأسلامية الداعية الى العدالة الأجتماعية، لدرجة انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وان يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا لأنهم كانوا واثقين من انه سينفقها على الفقراء. والأهم عقائديا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان العقيدة التي تنمّي شعور الجميع بالشراكة في المال، تنمّي لديهم الأدراك بأن القوة الأقتصادية هي السبيل الى النصر.

وثالث الذين احدثوا التغيير في محتوى العقائد وطرائق التفكير هم اخوان الصفا (ظهروا في البصرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي) واعظم انجاز احدثوه انهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة اسلامية هدفت الى التقريب بين الاديان والفلسفة. وبغض النظر عن مواقف علماء الاسلام التقليديين الذين وصفوهم بالهرطقة والالحاد والزندقة فان ما يعجبك فيهم انهم كتبوا في وصف الناس ما يعد سابقة في علم النفس كقولهم في الصداقة:

(واعلم بأن بين الناس من هو مطبوع على خلق واحد او عدة اخلاق محمودة ومذمومة .. وان بين الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره). ومن جميل ما قالوا وينطبق على واقعنا الان: (واعلم ان في الناموس اقواما يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين :لا الفلسفة يعرفونها ، ولا الشريعة يحققونها، ويدّعون مع هذا معرفة حقائق الاشياء.. وهم لا يعرفون انفسهم التي هي اقرب الاشياء اليهم).

طبعا ، ليس بمستطاع الدكتور صالح الطائي ان يكون مثل الحسن البصري فيؤسس فرقة ويقيم مجالسا في الكوت كمجالس البصري في البصرة. ولا مثل حمدان بن الأشعث (قرمط) فيؤسس فرقة ويقيم دولة (ويا ويله حتى لو فكّر!)، ولا مثل اخوان الصفا.. فيتسابقون على وصفه بالألحاد والزندقة والتبشير بأن من يقتله يدخل الجنة.. لكنه يستطيع ان يحدث نقلة او تغييرا، او دافعا نحو اعادة النظر بالعقائد في الاسلام ومذاهبه.. بمنظور علمي معاصر وطرح يناسب سيكولوجية الشخصية العراقية.. مع مفارقة مدهشة: ان المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا .. شيعة، وان الدكتور صالح الطائي.. شيعي ايضا!.. لكن موقفه ومواقفهم من (العقيدة) مختلف.

العقيدة.. من منظور الطائي

يتفق الدكتور صالح مع علماء الدين الأسلامي بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).لكنه يرى أن للتوحيد مبان أساسية يقوم عليها يوجز اهمها باحترام: الذات، والموجودات، و الآخر ومعتقده، طالما أنه يلتقي معك في الهدف الأسمى (التوحيد)، فيما يرى في الفرعيات انها نتاج مسائل معقدة من أهمها أثر الارتباط بالدنيا على الإنسان، اذ يرى ان الأنسان كلما كان قريبا من الدنيا مشغولا بها مهتما بتحصيلها.. كان بعيدا عن روح التوحيد، وكلما وظف هذه المخرجات لاستحصال الخير والمنفعة للجميع دون تمييز، كان أقرب للوحدانية بل ومنغمسا فيها إلى حد الشوق.

ويجري الطائي مطابقة بين ما قاله وبين نفسه فيجد انه (إنسانا عقائديا طالما أني وظفت المخرجات لخدمة هدف إنساني لا أبغي من وراءه نفعا شخصيا أو مكسبا دنيويا.)

وحين تسأله : وأين تضع عقيدتك في الكون؟ فأنه يجيبك: (الذي أعتقده أنها قربتني من جميع الثقافات التي أصبحت احترمها مثلما أحترم ثقافتي).

ذلك ان صالح يؤمن أن كل صاحب عقيدة مهما كان نوعها ومهما كانت تصوراتها عن الكون واللاهوت إنما هو كرة صغيرة وضعتها الدنيا على محيط دائرة عظيمة يقف عليه الجميع دون استثناء، وكل واحد منهم اختار له مسارا محددا يسعى من خلاله للوصول إلى المركز.

ويحدد صالح موضوع الأختلاف في (المركز).. فالآخر قد لا يؤمن بوجود شيء أو قوة عظمى في المركز فيما يقينه هو يدله على أن (الله) هو المركز، ويضع له احتمالين: فإن كان الله يجزي على المشقات التي تحملناها في سيرنا إليه فانه سيكون من الفائزين، والآخرمن الخاسرين.وان لم تكن هناك قوة فانه قد يتعادل مع الآخر او يكون هو خاسرا وخصمه فائزا.. ليصل الى مبتغاه الأنساني المتحضر بأن العقيدة التي لا تترجم إنسانيتك ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة التي لا تجعلك تحترم الآخر (المؤمن والملحد) ليست عقيدة صحيحة.

ويقر الطائي بأن الكهنة ورجال الدين لهم رأي آخر يتقاطع مع هذه الرؤية، وانه غير معني بما يفكرون!.ويستشهد بما حصل في العراق بعد 2006 معتبرا ان العقائد الصحيحة بريئة من كل ما حصل ولا يد لها فيه ولا تقره ولا تشجعه ولا تشرعنه بالمرة.ويصف الذين حملوا السلاح تحت راية (الله أكبر) بانهم لا يعرفون الله، وأنهم (من أصنام الإسلام السياسي الراديكالي المنحرف الذي صادر الدين وروح العقيدة).

ويذكّر بان الذي حصل بالعراق بعد 2006 كان قد حصل في العام السادس للهجرة، وانه اذا كانت هناك في هذا التاريخ مدرسة واحدة فإن المدارس الأخرى ولدت من رحمها وتحمل نفس توجهاتها ولكن بالضد. ويقرر بأن الذين أيدوا معاوية والذين أيدوا أعداءه.. كلهم واهمون، ولا يرتبطون بروح العقيدة، وقد حاول علي بن أبي طالب أن يوضح لهم وهمهم ولكنهم حاربوه وقتلوه.

القضية الأهم ان الدكتور صالح الطائي الذي وصفناه بانه (داعية التنوير الإسلامي العلمي) التقط أخطر إشكالية فكرية هي (النص المقدس) ليحلل ويناقش أثره في صناعة:(عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد).و انه اثبت أن كل هذه العقائد التي تؤمن بها المذاهب الإسلامية على اختلافها إيمانا منقطعا، وترفض مناقشتها تحت اي ظرف.. لا أصل ولا اساس لها في العقيدة! وانها ولدت بسبب المماحكة والتنافس بين المذاهب وبتأثير سياسي خالص، قاده الاسلام السياسي.. وتصريحه العلني بـأن (الدين الذي نتعبد به اليوم ليس الدين الذي جاء به محمد، لأنه تعرض الى كثير من التغيير الذي تسبب في تشويه صورته الإنسانية).

وما نرجوه ونأمله، ان تمنح المنابر الدينية والجامعات الأسلامية والأعلام.. الفرصة للدكتور صالح لأشاعة التنوير العلمي في اخطر سبب راح ضحيته مئات الملايين (العقائد الدينية والمذهبية) التي ما تزال تهدد العراق باقامة دولة الخلافة، وما يزال العراقيون يسكن قلوبهم الخوف والقلق من أن يعيد قدح زنادها من اشعل فتيلها لحظة يشعرون بخطر يهدد مصالحهم وامتيازاتهم وتفردهم بالسلطة والثروة، ليهب لنصرتهم قطعان آمنوا بعقيدة (دينية، مذهبية) دون تفكير، فيفزعون لنصرتهم مع انهم يعرفون انهم افقروهم واذلوهم.. وتلك هي دعوة الدكتور صالح عبد حسن الطائي، ان نفهم العقائد كما جاء بها صحيح الأسلام ليعيش العراقيون في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

كُتب عن هذه الثورة أو الانقلاب، كما يحلو للبعض تسميتها، كثيراً، قرأت بعضاً منها ولم تتسـنَّ لي الفرصة لقراءة البعض الآخر. وصف الثورةَ بعضُهم بالتقديس ووصفها آخرون بالكارثة، وقد اعتمد هذا على عاطفة الكاتب وأفكاره وميوله السياسية، كما هو شأن تأريخنا الطافح بالمتناقضات والكذب والخرافات أحياناً، نتيجة آراء الكاتب ومعتقداته والتأثيرات القومية والدينية والقبلية على ما يكتب. وكذا كان الرأي في الزعيم عبد الكريم قاسم أيضاً. ولما كنت عشتُ الثورةَ وعاصرتُ أحداثَها وقرأت كثيراً مما كُـتب عنها، وجدت تطرفاً في تقييمها وفي الحكم على الزعيم عبد الكريم قاسم. وإني هنا لا أناقش من كتب عنها، فقد يكون لهذا حديث آخَـرُ. ولكني أذكر بعض ذكرياتي عن بعض الأحداث التي مرّت عليّ، ولا سيّما الوجهِ الآخر (السَّـلبيِّ) الذي تحاشى ذكرَه أو دافع عنه الأنصار بتطرّف. وإنّي إذ أركِّز عليه ليكون القارئ الذي لم يعاصر تلك الأحداث على بيِّـنة من الأمر، فيعرف أسبابَ الكارثة. ولمّـا لم أكنْ ولست منتمياً إلى أيِّ حزب يصبّ العقل في قالب نحاس فيحجب الرؤيةَ إلى الأشياء التي لا يريد، ويهيض الجناحين من التحليق في الفضاء الرحيب، سأذكر بعضَ ما عاينتُ وسمعتُ وعشتُ بحياد تام، حيث أصبح كلّ شيء ذكرياتِ ماضٍ وكم من مياهٍ جرت تحت الجسور بعدها!

كان ذلك في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 14 تموز عام 1958 حينما أيقظني والدي من النوم على سطح دارنا المتواضع في الكاظمية وكنتُ متخرجاً قبل شهر من كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في بغداد. أيقظني والديً قائلاً إنَّ انقلاباً حدث والحكومة تغيّـرتْ. لم أُصدِّق أولَّ الأمر، ولكنَّ البيان رقم 1 الذي نادى المواطنين (نتوجَّه إليكم بالنداء للإفادة إلى السّلطات عن كلِّ المنتهكين والخونة والفاسدين لكي يتمَّ اقتلاعهم)، كان البرهان على الثورة/الانقلاب وربما كان بداية القسوة والعنف والفوضى في الوقت عينه. في السّاعة الثامنة صباحاً خرج الناس هاتفين بالموت للخونة وعملاء الإمبريالية. كان الهتاف في الكاظمية (حيث كنت فيها) لجمال عبد الناصر صباحاً حتى الظّهرَ، تحوَّلَ إلى عبد الكريم قاسم بعد الظهر.

ثم عرفنا بعد سويعات أنَّ هناك رئيسيْـن للثورة، هما: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، الذي تقلّـد مناصبَ القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء ووزير الدفاع، والعقيد الركن عبد السلام عارف متقلداً مناصبَ نائب القائد العام، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. ولم ندرِ بادئَ الأمر أنَّـهما كانا يسيـران في اتجاهين متضادّيْـن. أما الوزراء الآخرون، فكانوا تشكيلةً من رأسمالي وإقطاعي وماركسي ونازي وعروبي إسلامي وبعثي وكوردي، مما جعل الفكرَ في حَيْـرةٍ كيف يكون الانسجام، والمشارب مختلفة والتيارات متناقضة، ولأنَّ الخلافاتِ العميقةَ الكامنةَ في القعر قد تطفو على السطح قريباً، وهكذا كان. ومما يُـلفت النظرَ أنَّ الطائفيةَ الدينية لم تلعب دوراً في السنة الأولى على الأقلّ، وكأنَّـها لم تـوجد أو لم يُحسَب لها أيّ ُ حساب. والغريب أنَّ التشكيلة الوزارية لم تضمَّ فرداً واحداً من الحزب الشيوعي ذي القاعدة الشعبية العريضة حينذاك، والذي لعب دوراً هاماً قبل ذلك بتهيئة الرأي العام والتمهيد لإشعال فـتـيلِ الثورة وتأجيج نارها، ولكنّـا فهمنـا حساسيةَ الأمر. ورغم هذا، كان الحزب الشيوعي أولَّ المتحمسين والمساندين، وبخاصة لقاسم الذي لم يكن معروفاً لدى العامة من الناس لولاه. وبعد أسابيعَ قلائلَ بدأت الخلافات بين الرئيسين تتصاعد. فبينما كان عبد الكريم قاسم يُصرِّح في 27 تموز (ليست الوَحدةُ شيئاً يقرِّره إنسان بمفرده، بل يجب أن تُـقرِّرَه شعوب الدول العربية)، أخذ عبد السلام عارف في 5 آب يدعـو (إلى جمهورية ضمن الجمهورية العربية المتحدة). وفي 7 آب نزل مئات الآلاف من الشيوعيين وأنصارهم ومؤيديهم وكذلك من الأكراد الديمقراطيين والوطنيين الديمقراطيين لتأييد قاسم إلى الشارع بهتاف (اِتحاد فيدرالي وصداقة سوفييتية). وفي بداية أيلول أخذ الشيوعيون ينتقدون الوحدة ودَعَـوْا إلى تقييمها. وفي 12 أيلول بدأ العد التنازلي لعبد السلام عارف حيث أ أُعفِـيَ من بعض مناصبه، ومنها جمعاءَ في 30 أيلول 1958، وهو اليوم الذي صدر فيه قانون الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، ثم عُـيِّن سفيراً في بون في 12 تشرين الأول من السنة عينها بعد محاولتِه قتلَ الزعيمِ عبد الكريم قاسم بمسدسه الخاص، وأ ُودعَ السّجنَ بعد عودته " غيرِ المأذون بها " في 4 نوفمبر وتمَّ إغلاق جريدة البعث بعد ثلاثة أيام. ثم كانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني في كانون الأول 1958 بدعم الرئيس جمال عبد الناصر وفشلها. وهكذا بدأت القلاقل والفتن والدسائس تلعب أدوارَها، تغذّيها أطماع شخصية وحسد. وكان الصّراع على أشدّه بين هذه الفئات في السنة التالية، حيث كان دامياً قاسياً ذهب كثير من الضحايا الأبرياء جـرّاءه، وهي السنة عينها التي غيّر الزعيم عبد الكريم قاسم (سياسته) أيْ (بدّل گير) وجاء بفكرة (توازن) القوى. وكان أهمّ الحوادث عام 1959 هو تمرُّد العقيد الشواف في 8 آذار في الموصل، ومجزرة كركوك في 14-16 تموز، وخطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز واصفاً ما حدث حينذاك بأبشع من أعمال هولاكو، والاعتداء المسلح عليه في رأس القرية في 7 تشرين الأول الذي أدّت إصابته البليغة فيه إلى البقاء في المستشفى ما يقارب الشهرين.

عبد الكريم قاسم

أجمع معظم الكتّاب الذين كتبوا عن ثورة 14 تموز على أنَّ عبد الكريم قاسم كان وطنياً عفّـاً نزيهاً مخلصاً للعراق محباً لشعب العراق، ولا سيَّما الفقراءُ منهم، وكلّ من عاصر حكمَه لا ينكر ذلك. ولكنَّ هذا ليس بكافٍ، إذ أنَّ تفاعلَـه مع الأحداث يلعب دوراً في نجاح الحكم أو فشله. كان الزعيم عبد الكريم قاسم عنيداً وذا دهاء وإنْ كان محدوداً. ولما لم يكن حزبياً أو عشائرياً ولم يكن له أصدقاءُ كـثـرٌ في الجيش، وجد ضالّته في الحزب الشيوعي ووجد الأخير فيه خيرَ سند وعون. فقد كانت مصلحة مشتركة من حيث نظرتُـهما إلى الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة والعناصر القومية والبعثية وبعض الضباط (الأحرار) ذوي النزعة العدائية التقليدية للشيوعية. كان الشيوعيون مخلصين لقاسم، وكان قاسم حذراً، اِستغلَّهم بادئَ الأمر ضدَّ هجمات ناصر الإذاعية ومؤامراته المتكررة لتثبيت أقدامه، فأبلوْا بلاءً حسناً. ولما استتبَّ له الأمر، وحَـلِـيَ الحكـمُ في عينيه، قلب لهم ظهر المِـجَـنّ. والواقع أنَّ ناقوسَ الخطر أخذ يدقّ بعد تظاهرة الأول من مايس العمالية 1959، حيث حشد الشيوعيون ما قُـدِّرَ عدده بنصف مليون متظاهر جاءوا إلى بغداد من كلّ أنحاء العراق، مما دعا ممثلَ الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة المستر هنري كابوت لودج إلى القول " إنَّ عددَ أعضاءِ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي 6 ملايين ولكنه في العراق 8 ملايين ". ( كانت نفوس العراق حينذاك ثمانية مليون نسمة ). بدأ عبد الكريم قاسم يضغط عليهم في نهاية ذلك الشهر. ولما حدثت مجزرة كركوك في 14-16 تموز عام 1959، خطب قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز ناعتاً مَنْ قام بها بالبرابرة والفوضويين وشبّههم بأسوأ من هولاكو، وكان صوته مرتعشاً، ربما من الغضب أو خشية الفتنة أو الاثنين معاً، وأخذ يغمز قناة الشيوعيين، مما أعطى جُـرَعاً قويةً للجِّـهات المضادّة المعادية وشدّ أُزرَهم. ولما كانت المنظمات والاتحادات العمالية والفلاحية والطلابية بيد الشيوعيين، أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم يحطِّـم تلك الشبكة، وبدأها بإلغاء ما سُمِّي بلجان صيانة الجمهورية، التي كانت مُنظَّماتٍ شيوعيةً متوغلةً في دوائر الدولة تراقب الموظفين، ثمَّ أكملها بانتخابات جديدة وأخذ يأتي بالجماعات المعارضة كبدائل، بشتّى الأشكال والفنون، وكان يساعده عن طيب خاطر الزعيم أحمد محمد يحيى وزير الداخلية. فهذا الأخير كان لا يُجيز جمعيةً فلاحية ( شيوعية) بحجة تافهة، مثلاً، أنْ يكون الطابع الملصق على الطلب مائلاً أو منحرفاً أو أنَّ التوقيعَ عليه تخطّى إلى الجانب الأيسر منه...إلخ، يجعل الطلب مرفوضاً! وما شابه هذا كان كثيراً. ولعلّ المهزلة الكبرى كانت في إجازة حزب داود الصائغ (الشيوعي) وتمويله بدلاً من الحزب الشيوعي الحقيقي! فبينما كان الحزب الشيوعي (الحقيقي) يحافظ على الحكومة التي ليس فيها أيّ عضو منه ولم يُعترَفْ به (رسمياً)، ويسند قاسم بكل الطرق، كان قاسم يعقد اجتماعاً مع داود الصائغ، في المستشفى الذي يرقد فيه في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 ويخصّه بحديث لينشره في جريدته (المبدأ) التي أجازها قبل أيام قلائل من الاجتماع! والواقع أنَّ الحزب الشيوعي ربط مصيره بقاسم، فما يحدث لقاسم من سوء، يحدث له أيضاً. ولم تكن محكمة العقيد (شمس الدين عبد الله) العرفية التي كانت تحاكم المخلصين للزعيم والشيوعيين، وأصدرتْ أحكاماً اِعتباطية عليهم، بأقلَّ غرابةً، فوجود شاهدين  (أيّـاً كانا)، يحلفان بالقرآن الكريم، كافٍ ليضعَ المُتَّـهمَ (الشيوعيَّ) بين قضبان السّجن. و قد يكون ما ذكره الأستاذ حسن العلوي في هذا الصدد في كتابه (عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرين) وافياً: "إنَّ شمس الدين ظاهرة فريدة في الحكومات والأنظمة ... معارض كبير يقاضي أنصار الحكومة، ويحكم على محبّي زعيمها بالسجن." فالزعيم عبد الكريم قاسم يعرف هذا جيداً، بل هو من خطّط له، ليُضعفَ فئة ويقـوِّيَ أخرى، وقد قال أيضاً " القطار يسير والركاب يتخاصمون ولكنه سيواصل السير وسيصل "، ولكن مع الأسف لم يواصل القطار سيرَه ولم يصل! كان قاسم يعتقد ويريد الناس أن يعتقدوا أن الجيش هو من حرَّرهم، ولكونه قائدَ الجيش، فهو إذاً ذو مِنَّـةٍ كبيرة عليهم، ولذا وجبَ على الناس تمجيدُه واللهجُ بفضله مدى الحياة. وفي احتفال أُقيم في عام 1961 بذكرى وثبة تشرين، وكان ثمة حشد كبير من الناس، فأخذ الزعيم  يمجِّـد ثورة تموز كثيراً، ويقلل من وثبة تشرين، فقاطعه المحامي الشاعر علي جليل الوردي، وكان شيوعيا مردّداً هذا البيت :

واللهِ ما تشرينُ إلاّ مِـعبَـر ٌ*** يزهو به تمّـوزُ وَهْـوَ مُظَـفَّـرُ

فأجابه الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان يُعجبه مثلُ هذا التحـدّي، بقوله: إن الشاعر صادق، فهو يعني " وريش الخوافي قـوَّة ٌ للقـوادم ِ" – القوادم هي ريش جناح الطائر ويكون كبيراً وقوياً، وريش الخوافي هو الريش الناعم الذي يسند الريش الكبير - . ولما صرح الأستاذ كامل الچادرچي، زعيم الحزب الوطني الدمقراطي، بأنَّ على الجيش الرجوعَ إلى الثكنات وتسليمَ مقاليدِ الأمور إلى سلطة مدنية مُنتخبة ديمقراطيا من قبل الشعب، أثار القولُ حفيظَـتَه. وفي اليوم التالي خطب غامزاً قناة السياسيين القدامى متَّـهمَهم بالعجز وناعِـتَهم بـ (ساسة الصّالونات) ومتسائلاً (أين كانوا يومَ فجَّـرنا ثورة تمّـوز؟) وكان لا يحبّ أن يرى شخصاً قويّـاً محبوباً لدى الشعب سواه . فمثلاً عندما كان العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس محكمة الشعب، يحاكم أحد المتهمين في تمرّد الشوّاف في الموصل (8 آذار 1959)، ذكر أحدُ الجنود الشهود العقيدَ حسن عبود، آمرَ حامية الموصل الذي قمع التمرّدَ، واصفاً إياه بالرجل الحديدي، اختلجت عضلات وجه المهداوي ولم يعلق، وكان من عادته التعليق. وفي اليوم التالي ذكر جندي آخر العقيدَ حسن عبود ووصفه بالرجل (الحديدي) أيضاً، وهنا صرخ المهداوي فيه بحدة، أنْ لا رجلَ (حديدي) إلاّ الزعيم عبد الكريم، فضجّت القاعة بالتصفيق والهتاف للزّعيم الأوحد!

وربما كان هذا السَّببَ أيضاً في إبعاده الزعيمَ الركن هاشم عبد الجبار (أخاه في الرضاعة) قائدَ الفرقة

الخامسة التي كانت تحمي بغداد، والذي غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا ومات في أحد قطارات براغ مخموراً. ولذا كان يُبعد المخلصين ولا سيَّما العقائديّين منهم ويقرِّب المصفّقين والطبّالين والانتهازيين

والأعداء لإحداث ( موازنة ) يبقى بواسطتها في الحكم، ربما ليس طمعاً أو رغبةً في السلطة، ولكنّه يريد أن يُسعِدَ الفقراءَ من الشعب، فهو يحبهم ويحتاج إلى حبِّهم أيضاً، بل إنَّ حبَّهم إيّاه دواء له. والحقيقة إنَّ ثورةَ 14 تموز كانت ثورةَ الفقراء أو جاءت لأجلهم. فهو لا(يثق) بأحد فحسب، بل لا يريد أيّـاً من رفاقه أو حاشيته أن يشاركه في هذا الحُـبِّ. أما إذا لمع نجمُ أحدِ حاشيته أو كسب ثقةً وحباً، ولو محدوداً، من الشعب،

فسرعان ما يهمشَّه (يجمّـده) أو يعفيه من المنصب. والواقع أنه، بسياسته غير الحكيمة هذه، أصبح في عزلة واقعياً. وقد أصاب عبد الكريم فرحان عندما تساءل في كتابه -حصاد ثورة ص 232- " كيف يستطيع قاسم بعزلته وصراعه مع الشيوعيين، وحربه مع الأكراد، وتلاشي ولاء أجهزته أن يكسرَ شوكة الحزب (البعث-)  ويذله". لذا كانت الدائرة الواحدة مزيجاً من طوائف عدة أو أحزاب متنافرة أو آراء متناقضة، لتتخاصم وليبقى هو فوق التيار. وكذا كانت الحال في كركوك.3484 بهجت عباس

ملازم صيدلي احتياط – وحدة الميدان الطبية الرابعة – كركوك 1960

***

د. بهجت عباس

الورقة الأولى

بدأت الفكرة ضبابية في ذهني، كيف أكتب عن فنان صديق ..؟ حتى قلبت الأوراق، وعلى مرأى النجوم الساهرة، فتحت ديوان سعدي يوسف، وقرأت قصيدة (الليل في حمدان) فأحسست انني قد امتلكت شعورا ونبضا،  بإيقاع الزمن، وأستطيع أن أنصت قليلا لشفاه

الماضي، لقد عثرت على خيط البداية، إنها حمدان التي قال عنها سعدي قبل أكثر من

خمسين سنة:

نحن لا نسمع في حمدان إلا ما نقول

ليلنا والنخل والحلفاء والنهر القديم

حيث أوراق من الليمون في الماء تعوم

إنها خضراء كالماء، كعينيك إذا شئت أقول .

نعم إنها حمدان القرية التي احتفظت لأجيال طويلة، بمكانة خاصة، فهي تمضي حاملة                               الحيوية واليقظة، وتطير السنوات، ولكن شمس الأصالة تبقى فوق جبينها، وخيوط الحياة الملونة تتهادى متوهجة، تقول:-

إن عبدالكريم الرمضان أحد أبنائي الأعزاء، في هذه البساتين ضم أحلامه وعلى جذوع النخيل  رسم لوحته الأولى، فقد كان تلميذا في مدرسة حمدان الابتدائية، وكان المعلم يرسم وسيلة إيضاح لأكثر الصفوف، ويعلقها على جدران الصفوف، فكان الفنان الصغير تثير انتباهه، فيتأمل صورة رسم الحرف، ثم صورة الكلمة، وصورة الشكل الموضح، وحين يعود الى البيت، كان همه الوحيد – وأحيانا قبل تناول وجبة الغداء – أن يقلد تلك الحروف والكلمات والصور، بالإضافة إلى لوحة- حكمة الأسبوع-، فقد كان ينتظرها بكل أسبوع، فهو يعرف تماما ان الأستاذ محمد صالح الدغمان، في صباح كل يوم سبت، يقف، وبيده قطعة طباشير، ليخط – حكمة الأسبوع – وكان عبدالكريم الرمضان، يقف قريبا منه، ينظر بحرص شديد، وانتباه، كيف يسحب المعلم صورة الحرف، ويرسمه على اللوحة والرمضان يعد هذه المشاهدة درسا تطبيقيا، من أهم مصادر معرفته بأشكال الحرف، وصورة الكلمة العربية .

الورقة الثانية

إن ما يدفعني للكتابة عن الفنان الرمضان، ما يشكله من أهمية بين فناني العراق في الخط العربي، والرسم أيضا، ولكونه يحمل موهبة تشع ومضاتها، فهو يتميز بخطه الجميل، وخطه لا تخطئه أي عين، حتى ولو كانت غير عربية، أما رسمه فله سمات، وبصمات، وتمظهرات، فهو مولع بالزخارف، كما يميل إلى توظيف الحروف، وللحروف بطبيعتها أشكال في غاية الأناقة، ولذلك يجعلها معبرة بالدلالة التي يريدها، وتكون دلالتها واضحة حين يستخدمه، ضمن وحدات زخرفية، أو أشكال طبيعية، أو إنسانية، فهو يتأمل، يرصد ثُم يبدع، وإن كانت عجلة الحياة مسرعة، فهو يدور مسرعا معها، ليرى العالم، كما يريد، لا كما هو في الواقع .

الورقة الثالثة

في يوم من أيام الربيع، جلسنا معا (أنا والرمضان) على شرفات المساء التفت إلي عبد الكريم قائلا:- - صدقني أيها العزيز، إنني ما أزال أتذكر اللافتة الترحيبية، التي رفعتها مدرسة حمدان الابتدائية، بمناسبة قدوم الملك فيصل الثاني إلى أبي الخصيب، فقد كنت أنعم النظر فيها، وتأملتها مرات ... ومرات، حتى بقيت محفورة في ذاكرتي إلى الآن . ابتسمتُ بوجهه، فوجدته ينظر إلى البعيد، كأنه يريد أن يقرأ اللافتة من جديد أو يقرأ الماضي الذي كان يسبح في غمامات من نور....!

الورقة الرابعة

أبو الخصيب بالنسبة للفنان عبد الكريم، لوحة خضراء جميلة، واسعة المساحة تحمل عناصر الإبداع، فيها النخيل الطيب، والتمر المعسل، واللبن غير المغشوش، والأرض الخصبة الطيبة، وفيها الطيبون، والطيبات، إنها البساطة التي هي أصعب من التعقيد، يقول جون دان:- " أن تكون بسيطا أصعب بكثير من أن تكون معقدا " فأبو الخصيب السهل الممتنع، المبهم العذب، النغم الشرود، أرض مسكونة بالشعر، تتميز بالشفافية، ورهافة الحس، لذلك صور الرمضان ظلالها البهية، وأفياءها الندية، حتى وضع نفسه في ميزان من تربعوا على عرش الإبداع .

الورقة الخامسة

أخبرني مرة، ان لتشجيع المدرسين والأصدقاء دورا مهما، فقد دفعه هذا التشجيع    التشجيع لممارسة فن الخط والرسم، فكان الفنان الأول الذي يقوم بخط الإعلانات والملصقات الدعائية، ويصمم الكثير من النشرات الجدارية، وكان يعمل بإخلاص ويجد متعة وسعادة، وراحة في تقديم هذه الإسهامات، والرمضان قدم إسهامات جليلة وفعالة، في الإعداد للاستعراض الرياضي السنوي، لمدارس أبي الخصيب بالإضافة إلى إعلانات المسرحيات التي تعرض عادة في مدرسة المحمودية الابتدائية .

إن مما لاشك فيه، إن أبا الخصيب يبقى على استعداد دائم للحب، ولحب أبنائه الذين سجلوا حضورا في مجالات عديدة هنا، أو هناك ...! فهو يحمل حساسية مفرطة للوقوع في الحب أو يشاكس، بمحبة ليكون أهله من العشاق الذين يطرزون محبتهم بمروءة خالية من الشوائب .

الورقة السادسة

يقول الغزالي: " من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، وليس له علاج، "، ما أزال أتذكر، انني في مهرجان المربد الأول في بداية السبعينات، دنوت من سعدي يوسف، بعد أن رأيته، يقرأ وجهي، فسلمت عليه بحرارة، فرد التحية بأحسن منها، وهو يقول:- " أهلا بالخصيبي الأصيل، كيف حال عبد المعبود ....؟- إنه أخي ..- ضحك سعدي وقال:-

- أعرف أنه أخوك، ولكني أسأل عن صحته ...! لأنه أحد طلابي، هو والخطاط عبدالكريم الرمضان .- إنه بخير، والرمضان صديقي، وهو بألف خير- شكرا، وتحياتي لهما

إن الحياة جميلة، وليس كما يقول مارك توين: -" العالم مأوى للمجانين والحياة إنما هي كابوس مخبول، يحتل أدمغة الأحياء في صحوهم " حياتنا حلوة حتى لو اكتفينا بأحلامنا، وأنا لا أريد أن أتحدث عن لقائي بأدباء المربد، ولكنني أريد أن أشير إلى أمر مهم في حياة الصديق عبدالكريم الرمضان، لقد كان الشاعر سعدي يوسف مدرسا للغة العربية في ثانوية أبي الخصيب، وكان مشجعا لطالبه عبدالكريم، وموجها له، فقد كان سعدي قريبا من طلابه، يحس بأحاسيسهم، ويتفاعل معهم، والدليل على ذلك، انه في أحد دروس اللغة العربية، وقعت عيناه على د فتر المحفوظات، للطالب عبدالكريم حسن الرمضان، الذي كان يجلس في مقدمة الصف، وقد كتب بخط قلمه كلمة (المحفوظات) على غلاف الدفتر، وبالخط الديواني، سأله سعدي بعد أن ردد – يا من لا يملك أن تخفي عني عيناه – أهذا خطك....؟

- نعم أستاذ هذا خطي ..

- إن التاء، يا كريم، يجب أن لا تكون بهذه الصورة القصيرة، وان كانت جميلة، إنها تحتاج إلى مساحة أكبر، وأشار بيده إلى المساحة المطلوبة، وفي اليوم التالي دعا سعدي يوسف طالبه الرمضان، وقدم له هدية، مجموعة من أقلام القصب وعددها تسعة، مرقمة من أصغرها إلى أكبرها حجما، وأوضح له طريقة ميلان السلاية (سلاية القلم) واستمر تشجيعه للرمضان حتى يواصل استمرارية لهذا، النوع من الفنون الجميلة، ثم كلفه بخط وتصميم نشرة جدارية للغة العربية في المدرسة، بعنوان (المنهل)، وقد كتبها، وخطها الرمضان، بفرح واعتزاز كبيرين، لأستاذه الشاعر المبدع سعدي، وقد خط عنوانها بالخط الديواني كما أتم بعد هذه النشرة، نشرات جدارية عديدة .

الورقة السابعة

أرسلتُ نظراتي إلى الفضاء، لعلها تنشر سحائب رؤية جديدة، فقد كان التفكير

يملأ رأسي، ويشرب لوني، وأنا قد تأخرت كثيرا في كتابة الورقة السابعة، وقد أزهرت الأرض، وفاح الطلع، ولكي لا أجافي الحقيقة، والواقع، لابد من الإشارة، إن جوهر فلسفة الرمضان، هو، إن جمال الحياة ليس سوى انسجام المرء مع الطبيعة، وبهذا الانسجام، سيمضي الإنسان يفتش في الصمت عن سيمفونية العيش في الأحلام الوردية، حتى وان رحلت الأيام باتجاه خرائب السنين، فسترحل السنون باتجاه إبداع حقيقي أصيل، فالكتابة مهنة حزينة وجميلة معا،  ومما يكمل الصورة في أذهاننا، هو ان الفنان نفسه، ما زال مليئا بالأمل، ومسكونا بالإبداع، ويجهد نفسه من أجل فنه، ليطوّر إنجازاته فقد كان ومازال سباق الخطى، في كل وجهة من الخير هو موليها، إنه شخصية فنية تربوية كبيرة، يعد عمودا من أعمدة الفن الحديث، ورافدا من روافده المهمة، له دور مهم في خلق جيل من الشباب المدرك المتذوق، فقد كان لتدريسه في معهد الفنون الجميلة أثر كبير في خلق هذا الجيل الجديد، كما درّس في الدورات التأهيلية الخاصة بالمدرسين والمعلمين، وألقى محاضرات على طلبة جامعة البصرة، ولسنوات عديدة .

الورقة الثامنة

لن يهجر الحفيف الغصون، حتى لو كان الرمضان في الخريف الأصفر المحدودب المتجعد، سيبقى يرش الأزهار في الأرض القاحلة فيحييها، ويوزع العطر منها على الدنيا، وها هو يتذكر باعتزاز كبير أحد طلابه النجباء، كلما التقي به، يقول -: " كان طالبا مجدا موهوبا، انه عبدالكريم عبد ثابت، الذي أصبح فنانا معروفا، وقد توج إبداعه بالحصول على شهادة الدكتوراه - ولأني أعرف د. عبد ثابت وكنا نلتقي معا هنا أو هناك وهو الذي صمم غلاف مجموعتي الشعرية الموسومة بـ (ما قالته النخلة للولد)، فانه بحق، يعشق الحرف، كأستاذه الرمضان، وفاز بجوائز كثيرة، متقدمة في المعارض والمسابقات الدولية، ومن طلابه أبنه – وائل – وهو خطاط معروف وله مشغل، وقد فاز بجائزة اسطنبول

في الخط الكوفي في لوحة زخرفيه ذات بناء متوازن، في المعنى والتصميم كما ان هناك نخبة من طلابه الجيدين، لم تسعفني الذاكرة بتدوين أسمائهم .

الورقة التاسعة

"في الأمس كنت فرحا بالصباح، وفي المساء بكيت واليوم لأني كبرت أبدأ نهاري في شك لكن نهايته مقدسة لي ومشرقة " – الشاعر الألماني هلدرلن - مضت الأيام بطيئة، وكنت اسلي نفسي باستذكار أيام الجامعة والسيدة الجنوبية الطيبة، مثل الرطب القنطار " تنشأ في ذهن الشاعر علاقات عن طريقها، تتسنى له القدرة على استرجاع كمية أكبر من الماضي متى شاء " – أ . ريتشاردز – فالذكريات تمنحنا خبرات إضافية، وتجعل عيوننا أكثر اتساعا، حتى لو أحسسنا أحيانا بالرغبة في البكاء، أو المضي على أجنحة الصمت، ولكن مع الأطياب .

وهكذا سرت نحو ديار الذاكرة، لأكمل أوراقي، عن الفنان الذي عرفته دائب الحركة، وفي قلبه، حمرة الشفق المتوهج، يلملم ألوانه من خيوط الفضاء، وتتألق في عينيه، طمأنينة الطفل، على الرغم من عتمة الليل، بقيت فرشاته تتنقل، بين هذه اللوحة، أو تلك، ليؤدي رسالة الخلق والإبداع، مما لا شك فيه، ان الرمضان – عبدالكريم – يمتلك خزائن من الذكريات

والحكايات المليئة، بالأحاسيس والعواطف الإنسانية النبيلة، وقد عقد معاهدة حب وصداقة مع الفن، صداقة متينة وأصيلة، وها هو يواصل رحلته الجليلة بفن ينغم بألف لغة، ويهمس بألف شفة، رحلة صاعدة، مثقلة بأنواع الثمار، معذرة، يقول بلزاك: - " هناك ثلاثة أشياء أحببتها ولم أفهمها أبدا، الموسيقى، الرسم، المرأة " . صدق بلزاك، فـ "الفن ضرورة، ولكن، آه لو أعرف لماذا ....؟

الورقة العاشرة

نظرة سريعة، بددت كل غموض، فالرمضان لم يكن في يوم من الأيام في فضاء غريب، ولا في عوالم غير مرئية، إنه شجرة مثمرة تتهادى أغصانها بالثمار اليانعة، فهو يخط، يرسم، و يقرأ كثيرا،  يؤمن أن الخط والرسم، يتمتعان بعلاقة فنية متينة، وعميقة، وبقدرته الذاتية الإبصارية والتقنية، ربط بصورة جديدة،  بينهما في محاولات جادة، تجعل العمل الفني، يحمل هدفا واضحا، أو يتصف بصورة جديدة، أو بشكل له مقوماته، ونضجه لشغل فني ناجح، ومميز .

لقد مارس الرمضان فن الخط بأنواعه المعروفة، ومن خلال هذه الممارسة

كان يرى ان في الفنون ساحة أوسع، لمن يريد أن يقدم إبداعا جديدا، فسار إلى أمام بخطوات واثقة، ولم يبق في مكانه، كما أنه لم يكن حبيس قاعدة معينة ثابتة، أو أشكال تقليدية، فمضى يتناول موضوعات غير مطروقة، في لوحات فنية، شكلت له بصمة خاصة، بما يمتلكه من اجتهادات، وانتباهات، فعيونه مكتنزة بذكاء الرصد والتأمل، والفطنة . إن من يقف أمام لوحاته يقر ويعترف، أنه مبتكر ومبدع في مجالات الرسم والخط والزخرفة، وقد نجده مهتما بالواقع، اهتماما واسعا، وبشكل خاص بالأشكال الغنية والمتداخلة، وهذا ما نلاحظه، في معظم أعماله التي رسمها في الآونة الأخيرة، كالشناشيل، و- قرية من قرى أبي الخصيب . وغيرها من اللوحات، وهو في كل أعماله يبحث عن أبعاد، ومضامين قريبة من نفسه، حتى يمتزج الهمس بالهمس، ويظهر شذا العتمة، وربما يترك الواقع ليحلق قليلا بأجنحة الرومانسية، ليغيب وراء السنين، بفؤاد خفوق، موله، يتأمل في خشوع، ويطرق ليزيد الإبداع في إطراقه، فهو شاعر بالرسم والخط، فأرض أبي الخصيب أنبتته اخضرارا، فنما الخصب في غابات أعماقه .

الورقة الحادية عشرة

حين يرسم الرمضان، أو حتى حين يخط، لا يريد يكون أن رساما أو خطاطا (هذا ما عرفته منه) . فماذا يريد أن يكون .. ؟ على ما أظن، انه يريد أن يقدم ما يراه، هو كفنان، لا، كما يراه الآخرون، وهذا الأمر لم يأت له بيوم أ وبليلة، لأن الفن فاعلية راقية، ترتبط بالصنعة أولا، وبالخبرة، والمتابعة والإدراك ثانيا، وقد جمع بين الاثنين (الرسم والخط) لرغبته الشديدة في النوعين وحبه لهما، وهو يمتلك تأملا مشتركا بين لوحة الرسم والخط، ومن التأمل يبدأ إبداعه، كما يقول دوشامب فينون " إن حياة الفنان هي دائما إتمام" فالمجال الواسع الذي لا حدود له، يجده الرمضان في عالم الرسم، بكل أساليبه، او مدارسه أو مذاهبه، فهو يرى في الأقواس والمساحات اللونية شكلا من أشكال الحروف، ليس في الخط العربي، بل في كتابات الإنسان في أي مكان من هذا الوجود، فكل انحناءة وليونة لها تفسيرها، والخروج بشكل ناجح وناضج يربط ما يدركه صاحب العمل من العلاقة البعيدة، أو القريبة، في هذين النوعين من الفنون الجميلة .

الورقة الأخيرة

يسعى الرمضان عبر رؤية تجمع بين المحلية والعربية والعالمية، إلى ترسيخ

هويته الخاصة – كإنسان – وكأنه يقترب من قول تشيكوف:" إن أعظم ما أقدسه هو الإنسان " وعلى أية حال، فالرمضان قد يكون امتدادا لمدرسة هاشم الخطاط، أستاذه الأول، الذي كان له معه أكثر من لقاء، ليبحث معه عن بعض من السكون في الأيام المضطربة، لقد التقى الرمضان بالبغدادي هاشم مرات، ومرات، وعرض عليه لوحاته، فأعجب بها، وقدم بعض الملاحظات التوجيهية للرمضان، وأطلق عليه لقب(الجاحظ) . وفي أحد الأيام وقف أحد الطلاب يسأل البغدادي:-

- أستاذ لماذا تطلق على الرمضان لقب الجاحظ ... ؟- إن الجاحظ عرف في البصرة بأنه صاحب مدرسة موسوعية، لها منجزاتها وخصائصها، والرمضان سيكون مدرسة في الخط والزخرفة.

صدق هاشم فها هو الرمضان يسكن الأرض، وحين يصل نقطة يتحول بعدها إلى الجانب الآخر ليساير الركب الحضاري . و (الرجل العظيم هو من لم يفقد قلب الطفل) ويطول الخيط، ولكنه لا ينقطع، ففي سن مبكر منح الخطاط الكبير حامد الآمدي - إجازة في فن الخط – للرمضان .

وبعد أيها الأصدقاء، قبل أن ألملم أوراقي، أقول لكم، انني قدمت صفحات قليلة، عن واحد من مبدعي البصرة، المدينة الأصيلة التي أعطت الكثير وما تزال، وستبقى مدينة مبدعة .

***

حامد عبدالصمد البصري

لمناسبة ذكرى ميلاده الـ"93"

قال لي الاستاذ رشيد الخيون وهو يبتسم قبل ان ندخل المطعم: ارجوك لا تشجع خالد – يقصد صاحب الدعوى الصديق خالد مطلك – على الخوض في غمار المرحوم جاك دريدا او تحويل الجلسه الى بحث في شؤون ميشيل فوكو. كنا قبل يوم نجلس نحن الثلاثة في احدى الكافيهات ودار الحديث المشوق عن فوكو وفلسفته، فقد اكتشفت بعد سنوات من فراقي لخالد مطلك انه تحول الى درويش للفلسفة الحديثة، تفرغ لها سنوات يقرأ ويبحث ويجادل، ويكتب اجمل الكتابات عن فلسفة علم الجمال ولهذا ما أن تمر من امامه قضية ما إلا ويحيلها الى الفلسفة. لم اف بوعدي للدكتور الخيون فانا انتظر الفرصة للحديث عن الكتب وكنت قد اقتنيت من معرض ابو ظبي للكتاب آخر الكتب التي انتجتها المطابع العربية للفيلسوف الفرنسي الراحل دريدا وهو كتاب " أن تفكر: أن تقول لا "، ولهذا ما ان نطقت بعنوان الكتاب حتى وجدت رشيد الخيون ينظر إلي مبتسما، وقبل ان يتكلم قال له خالد: كتابك عن معتزلة بغداد والبصرة مصدر مهم، لكني احببت الفصل الذي كتبته عن " ثمامة بن اشرس "- لقد وجدته تفكيكي بامتياز.. ضحك رشيد الخيون، لكن موضوع جاك دريدا لم ينتهي.. قال خالد انه قرأ كتاب دريدا" أن تفكر: أن تقول لا " بالانكليزية كتاب " أن تفكر: أن تقول لا " يتضمن مجموعة المحاضرات التي كان يلقيها في جامعة السوربون عام 1961، ويناقش فيه موضوعة الرفض الذي يعتبره دريدا ابرز علامات التفكير الأصيل. حين لا نفكر، نمنح الثقة ونؤمن ونوافق. أما المفكر الحقيقي فقلق دائم وحركة من النفي المستمر، رفضٌ للتعصب العقائدي السياسي والديني، للأحكام المسبقة، للمسلّمات التي حاربتها الفلسفة منذ نشأتها. لا يمكن أن نقول "نعم" لكل ما نجده أمامنا من حقائق مخترعة أو وهمية، بل علينا أن نصر على قول "لا" باعتباره علامة على البحث الدائم عن نتائج أعمق.

ما ان يذكر جاك دريدا حتى تلوح في الافق عبارة " التفكيك " التي اصبحت ماركة مسجلة باسمه، استطاع من خلالها ان يثبت ركائز فلسفته عن الفكر المعاصر، واصبح ابرز الاسماء في المشهد الفلسفي، رغم ان البعض ينسب التفكيكية الى نيتشه الذي سعى الى تهديم التقاليد الفلسفية الغربية ورفع مطرقته في وجه الجميع.

قال خالد مطلك متحمسا ان دريدا ليس فيلسوفا فقط وانما هو نجم ثقافي ترجمت اعماله الى جميع اللغات، حتى ان أستاذه إيمانويل ليفيناس كان يرى في تلميذه الغريب الاطوار " كانط جديد "، ورغم مرور ما يقارب الـ " 20 " عاما على رحيله، فان كتبه لا تزال تحظى باهتمام القراء.

طيلة حياته التي بلغت "74" عاما ظل يتذكر مشهد الصبي الذي منع من دخول المدرسة. كان في الثانية عشر من عمره حين استدعاه مدير المدرسة لكي يطلب منه ان يحزم حقيبته المدرسية ويعود الى بيته قائلاً له:" سيشرح لك والدك السبب "، لم يفهم آنذاك أن ديانته اليهودية لم تتسبب في طرده من المدرسة فقط، وانما اسقطت الجنسية الفرنسية عن عائلته بعد ان الغي قانون الاهالي الذي يمنح اليهود في الجزائر الجنسية الفرنسية، هذا الابعاد القسري ظل مثل جرح لم يندمل:" كنت دائما في المدرسة مبعدا، منفيا، غريبا محروما من اوراقه "، اضطرت عائلته أن تدخله مدرسة يهودية كان معظم اساتذتها قد شملهم قانون الطرد الذي اعلنته حكومة فيشي عام 1942. منذ ذلك اليوم سيكتشف تعسف العزل، والخوف من الاضطهاد، وقد تعلم من تلك الحادثة أن لا يتعلق بالهوية الدينية او الوطنية وانه " لن يعتمد إلا على نفسه "، وان يترك اثرا في البلاد التي سحبت منه ذات يوم جنسيتها. كانت اكبر احلامه في شبابه ان يصبح لاعب كرة قدم محترف، وبسبب هذا الحلم يفشل في امتحان الثانوية، فقد كان يقضي معظم وقته في الملعب اكثر مما يقضيه في قاعة الدرس، الأمر الذي اضطر والده ان يهدده بالعمل معه في تجارته ان لم ينجح في السنة القادمة:" أردت أن أكون لاعب كرة قدم محترفا، لكن كان علي التخلي عن ذلك لأنني لم أكن جيدا بما يكفي". في طفولنه اصرت عائلته ان تذهب به بانتظام الى الكنيس، سحرته الموسيقه التي تعزف هناك، ولكن بعد ذلك كان الشاب دريدا: " مصدوما من الطريقة البلهاء التي كانت فيها عائلتي تؤدي الطقوس الدينية، لقد وجدت تلك الطريقة بلا فكر، مجرد تكرار اعمى " – ديفيد ميككس من هو جاك دريدا ترجمة رمضان مهلهل؟.

في الثالثة عشرة من عمره انتبه الى اهتمامه بقراءة كتب الفلسفة، ورغم انه عاش في بيت لا توجد فيه كتب، إلا انه استطاع ان يقرأ روسو ونيتشه:" عام 1943 قرأت نيتشه للمرة الاولى، وبالرغم انني بالطبع لم استطع فهمه تماما، فقد ترك انطباعا كبيرا عليّ.وهكذا كانت مفكرتي التي كنت احتفظ بها في ذلك الحين مليئة بالاقتباسات من نيتشه وروسو، الذي كان آلهي الأخير حينها. كان نيتشه يعترض على روسو اعتراضا عنيفا، لكنني احببتهما على حد سواء وتساءلت، كيف يمكنني التوفيق فيما بينهما "، قادته كتابات اندريه جيد باتجاه نيتشه:" كتاب اندريه جيد الاخلاقي هو الذي قادني الى نيتشه الذي لا ريب انني فهمته بشكل سيء، ونيتشه على نحو غريب قادني الى روسو، لقد احببت بدقة، ما يقوله جيد " ، تعلق باشعار بول فاليري التي حاول ان يقلدها، فكتب عددا من القصائد نشرت في بعض المجلات التي كانت تصدر آنذك في الجزائر.

في بداياته قرر أن يدرس الادب لكي يصبح استاذ جامعيا يعتمد على نفسه، ويتخلص من هيمنة والده ، إلا ان الفلسفة ظلت شاغله الاول: " في العمق فإن اختياري الفلسفة بالمعنى الدراسي والجامعي والوظيفي وقع في لحظة كنت فيها طالباً في الجزائر لم يكن قد درس اليونانية بعد ولم يكن بالتالي مؤهلاً لإجراء امتحان التبريز في الآداب، وبفضل دروس الفلسفة في الثانوية وما بعدها لم يعد بإمكاني أن أفصل بين الفلسفة والأدب وكنت أحاول في كل ما عملته فيما بعد أن أبيّن أهمية التحالف بينهما".

تفوق الكتب التي صدرت عن جاك دريدا عدد مؤلفاته التي كتبها، والغريب ان هذا المفكر الفرنسي كانت وكالة المخابرات الامريكية قد جندت جاسوسا لمتابعته ومعرفة إلى اتجاه يتطور فكره، وهل هو في طريق هجر الماركسية، والمثير انه في نفس السنة التي حاولت فيها أميركا التجسس على المفكرين الفرنسيين ذوي الميول اليسارية، كانت مؤلفات دريدا تتمدد في امريكا نفسها، وتجد لها اتباع وصدى اكثر مما موجود في فرنسا، ففي الثمانينيات كانت تفكيكية دريدا قد غزت مناهج البحث في العلوم الإنسانية في الجامعات الأميركية، ووجدت صدى ليس فقط في الجامعات وانما في الفكر والفنون وتحول دريدا بشعره الابيض الكثيف، ووجهه الاسمرالشبيه بالصقور، ذو الخدود العالية، بقميص مفتوح. كان لديه مظهر نجم سينمائي، وتشير سيرته الذاتية ان امه اصرت ان تسميه جاكي على اسم الممثل الممثل الأمريكي الطفل "جاكي كوجان "، الذي ظهر اول مرة في فيلم تشارلي شابلن" يوم المتعة " ، فيما اراد والده ان يطلق عليه اسم " ايلي " تقديرا لعمه ، لكن في النهاية انتصرت الام وسجل باسم جاك، وقد اعترف دريدا بان اسم الممثل الامريكي جعل منه مشاهد دائم للتلفزيون والسينما، يشاهد كل شيء من الأخبار إلى المسلسلات يقول ساخرا: " إنني أنتقد ما أشاهده، أنا أفكك في كل وقت."

عندما سئل هل يخاطب في كتبه قراء معينين اجاب قائلا:" انني اتوجه الى قراء اعتقد انهم قادرون على مساعدتي ومرافقتي وفهمي والاجابة عني والاجابة عني."

قبل تسعة عشر عاما عندما رحل جاك دريدا، بعد ان اكتشف في العام الاخير من حياته اصابته بمرض السرطان قال في حوار صحفي:" أترك هنا، قطعة ورق، ثم اذهب كي اموت "، وكانت قطعة الورق هذه هي "التفكيكية " التي شغلت الاوساط الفلسفية في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي ، فغطت على مواقف صاحب" "الكتابة والاختلاف" الذي كان أحد أبرز المشاكسين في الحياة الثقافية في العالم،، كما توضح مواقفه الناقدة في قضايا ومسائل سياسية واجتماعية وفكرية.

ولد جاكي إيلي دريدا في الخامس عشر من تموز عام 1930 في ضاحية بالقرب من العاصمة الجزائر لعائلة متوسطة الحال، الاب يعمل بائع متنقل، كان الثالث من بين خمسة أطفال، توفي شقيقه الأكبر "بول "عن عمر أقل من ثلاثة أشهر، قبل عام من ولادة دريدا، مما دفعه للاشتباه طوال حياته في دوره كبديل لأخيه المتوفى. يتذكر صورة والده وهومستغرق في جمع وطرح حساباته، وحين يعجز يستعين بابنه جاكي لينظم له دفتر الحسابات، وعندما يخطيء بالحساب كان الأمر بالنسبه له " كارثة ". لم تشغله الدراسة فقد كان غير ميال لها، يرسب في امتحان البكلوريا، ثم يرسب مرتين في امتحان القبول بالمدرسة العليا . في التاسعة عشر من عمره، ينتقل إلى باريس للدراسة في المدرسة العليا، تتلمذ على يد الفيلسوف الوجودي "جان هيبوليت"، الذي ارشده الى اهمية هيغل في تاريخ الفلسفة، ويلتقي دريدا بجان بول سارترالذي حلم ذات يوم ان يصبح مثله فيلسوفا يكتب الرواية ، لكنه لم ينجذب الى افكاره، فقد ذهب صوب هوسرل ونيتشه وهايدغر، قبل وفاته باقل من عامين سأله احد الصحفيين عن سارتر، وكان رده: " انا قرأته بتركيز شديد عندما كنت صغيرا، ومن ثم غادرت شواطئه، ادركت بأنه لم يكن فيلسوفا قويا.. ومع ذلك ما يزال شخصية محط الاعجاب في فرنسا.. لكن لا، انا لا ادين له باي شيء في الفلسفة ".

في المدرسة العليا سيتعرف على ميشيل فوكو الاستاذ الشاب الذي كان يكبردريدا باربع سنوات – ولد فوكو عام 1926 –، وقد ارتبط معه بصداقة حتى عام 1963 عندما تحدث في ندوة فلسفية بقسوة ضد كتاب فوكو " تاريخ الجنون في العصر الكلايسيكي " بحضور ميشيل فوكو الذي لم ينزعج في بداية الامر، بل ارسل بعد شهر رساله يشكره فيها على اهتمامه بالكتاب ويشير الى عمق صداقتهما، لكن يبدو ان فوكو لم ينس هجوم صديقه، فكتب عنه عام 1971 مقالا يسخر من وجهة نظر دريدا، لتحدث القطيعة التي استمرت عشرة اعوام، عندما دافع ميشيل فوكو عام 1981 عن جاك دريدا الذي اعتقل في براغ بعد مشاركته في مؤتمر ثقافي كانت سلطات براغ قد منعنه، فتحدث فوكو في الاذاعة ووقع على بيانات تطالب باطلاق سراح زميله، الأمر الذي دفع دريدا ان يقدم له الشكر. بعد موت فوكو يشارك دريدا في ندوة عقدت في جامعة نيويورك لتحية الفيسلوف الذي رحل عام 1984، وفي عام 1991 سيشارك في مؤتمر بمناسبة مرور 30 عاما على صدور كتاب فوكو تاريخ الجنون:" كانت مشاركتي في احياء ذكرى فوكو هي وسيلتي الوحيدة للمحافظة على ذاكرة الصداقة ".وعلى عكس فوكو سينجذب الى استاذه لوي التوسير الذي كان يكبره بـ " 12 " عاما، وستستمر صداقتهما حتى اليوم الاخير من حياة التوسير الذي توفي 1990، حيث يكتب في وداعة مقالة بعنوان " قراءة لغياب التوسير " – ترجمها الى العربية بختي بن عودة – يستذكر فيها سنوات عمله وصداقته مع استاذه:" منذ عام 1952 عندما التقى الاستاذ في مكتبه التلميذ الشاب الذي كنته آنذاك، في هذا المكان نفسه اشتغلت معه لمدة (20) عاما. وعندما نتذكر ليس فقط اللحظات الخفيفة والضحكات اللامبالية للايام التي تمر بل اللحظات الكثيفة للعمل، والتعليم، والفكر، والجدال الفلسفي والسياسي، وايضا الجراحات والتمزقات السيئة، هو جزء من حياتي، طويل وثري ومكثف.ها هو يتوقف اليوم. ينتهي ويموت كذلك مع لوي ". عام 1953 يسافر الى جامعة لوفان ليطلع على ارشيف الفيلسوف الالماني هوسرل، وبعد عام من دراسة ارشيف فيلسوف " الظاهراتية " يقدم بحثا بعنوان " مشكلة التكوين في فلسفة هوسرل" للحصول على دبلوم الدراسات العليا، في العام 1957 يحصل على شهادة تؤهله للتدريس بالمدارس الثانوية، في الوقت نفسه يحصل على منحة الى جامعة هارفارد للاطلاع على الارشيف غير المنشور لهوسرل، في نفس العام يتزوج من مارغريت أوكوتورييه التي كان قد تعرف عليها عام 1935، ورغم عدم إيمان جاك دريدا بمسألة الزواج، إلا أنه ارتبط معها بعلاقة قوية انتهت بالزواج في كامبريدج في التاسع من حزيران عام 1953، وقد عملت مارغريت في مجال التحليل النفسي وترجمت الى الفرنسية اعمال اللغوي الشهير رومان جاكوبسون.

بعد الشهر الاول من الزواج يلتحق بالجيش مجندا، وهي فترة كانت عصبية عليه حيث خدم في الجزائر، هناك يتم اختياره مدرسا في مدرسة خصصا لابناء الجنود، كان دريدا معارضا لسياسة فرنسا الاستعمارية، وظل يأمل حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يغادر الجزائر مع عائلته عام 1962، أن يتحقق شكل من الاستقلال يتيح التعايش بين الجزائريين والفرنسيين المولودين في الجزائر. عام 1959 يُسرح من الجيش، وبعد عام يقوم بالتدريس في جامعة السوربون حيث عمل مساعدا لغاستون باشلار وبول ريكور وجان فال،عام 1964 ينتقل للعمل في مدرسة المعلمين العليا بناء على دعوة من لوي التوسير، التي ظل يعمل بها حتى عام 1984.

عام 1966 يظهر جاك دريدا في المشهد الفكري الأمريكي في مؤتمر عن البنيوية في جامعة "جونز هوبكنز" في بالتيمور. وقد صدم دريدا جمهور الحاضرين بإعلانه أن البنيوية قد عفا عليها الزمن بالفعل في فرنسا، وأن أفكار السيد "ليفي شتراوس " كانت جامدة للغاية. وبدلاً من ذلك، عرض "التفكيك" باعتباره الفلسفة الجديدة التي ستنتصر في النهاية على حد قوله.

في عام 1967 ينشر جاك دريدا ثلاثة اعمال وهي " الكتابة والاختلاف " – ترجمه الى العربية كاظم جهاد –، في علم الكتابه – ترجمه الى العربية انور مغيث –، الصوت والظاهرة - ترجمه فتحي أنقزو -، وفي هذه الكتب سيظهر للمرة الاولى اسلوبه الخاص الذي اخذ يشد الانتباه حوله، وستصنع هذه الكتب حضورا لمفكر شاب، تاثر بالفلاسفة الالمان وخصوصا هوسرل وهايدغر، فقد وجد في كتاباتهما نقدا قويا لـ" الميتافيزيقيا " ومنذ تلك اللحظة سيرتبط باسمه مصطلح " التفكيك "الذي يُستشهد به كثيرا ولكن نادرًا ما يُفهم. لكن الغريب ان هذا المصطلح برغم غموضه دخل في اللغة اليومية. يؤكد دريدا ان تفكيك الأشياء يعني، أن كل بنية - سواء كانت أدبية أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية - التي تنظم تجربتنا، يتم تشكيلها والحفاظ عليها من خلال أعمال الإقصاء: "في عملية إنشاء شيء ما، يتم إهمال شيء آخر حتما ".

لعل ما يجعل مؤلفات جاك دريدا مهمة، هي الطريقة التي قدم بها أفكار كبار الفلاسفة والكتاب والفنانين، وكيف تعامل مع المشكلات ذات الاهتمام المعاصر. تتكون معظم نصوص دريدا من تأويلات متأنية للفلاسفة والادباء - من أفلاطون إلى جيمس جويس: " اصل الفلسفة هو افلاطون، وكل ما صنعته فيما بعد هو انها اتخذت في التحول مع كانط او هيغل. لكننا لا نستطيع القول بانها تطورت " - جاك دريدا حوارات ونصوص ترجمة محمد ميلاد -

بالنسبة لمنتقديه، بدا جاك دريدا وكأنه عدمي يهدد أسس المجتمع والثقافة الغربيين. يجادل منتقدوه بأنه من خلال الإصرار على أن الحقيقة والقيمة المطلقة لا يمكن معرفتهما على وجه اليقين، فإنه يقلل من إمكانية الحكم الأخلاقي.

والغريب ان " التفكيك " الذي ارتبط باسم جاك دريدا، رفض ان يعرفه قائلا ليس التفكيك مجرد منهج، ولا مدرسة فكرية، ناهيك عن ان يكون نظاما او فلسفة :" لقد كررت مرارا ان التفكيك ليس طريقة، وانه لا توجد طريقة ما اسمها طريقة دريدا، التفكيك ليس تقويضا، ولا تخليا، كما انه ليس تخريبا، انه اعادة فتح منظورات حركة، في افكار متحجرة او جامدة ". يجادل دريدا بأن الحقيقة الشفافة والقيم المطلقة بعيدة عن متناولنا. لكن هذا لا يعني أنه يجب علينا التخلي عن التصنيفات المعرفية والمبادئ الأخلاقية التي لا يمكننا العيش بدونها: المساواة والعدالة والكرم والصداقة. وانه من الضروري إدراك القيود والتناقضات المتأصلة في الأفكار والمعايير التي توجه أفعالنا، والقيام بذلك بطريقة تجعلها مفتوحة للتساؤل المستمر والمراجعة المستمرة. " لا يمكن أن يكون هناك عمل أخلاقي دون التفكير النقدي. "

في كتابه المثير " اطياف ماركس " – ترجمه الى العربية منذر عياشي - يذهب فيه الى ان ماركس هو مفكر القرن الحادي والعشرين:" ان نهاية شيوعية معينة كانت واضحة لبعضنا حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، وهذا لايعني ان ماركس مات او دفن، كما قيل تحت جدار برلين "، ولكي يوضح ان لا مستقبل بدون ماركس، فان دريدا لا يعني كل ماركس " لا مستقبل بدون بعض ماركس، ففي الماركسية اكثر من وجه، لذلك اذا وجبت الامانة وجب ان نكون امينين لمظهر معنى الماركسية ". ويؤكد دريدا ان فشل التطبيق الشيوعي لا يعني ان الماركسية انتهت من حيث وضعها اسئلة كثيثرة لا تزال مطروحة ايضا، المهم ان نعرف ماذا نختار من كل ذلك.ثم يقول:" اننا لا خيار لنا في الحفاظ على مظهر معين من الماركسية، فنحن نعيش عالما، او ثقافة، ظاهرة أو مستترة، مشبعة عميقا بهذا التراث. ان الماركسية وماركس كليهما صنعا القرن العشرين "، يصر دريد على ان وراثة لا يعني ان نحتفظ بها كما ورثناها، بل ان نستخدمها ونطورها ونفتحها على المستقبل، وليس اجدى من النقد الماركسي في مواجهة هذا النوع الراهن من الديمقراطية والليبرالية والسوق الراسمالية، ويعلن دريدا في مواجهة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد ان الانسانية كلها في خطر يكتب:" لم يكن العنف واللامساواة والتهجير والمجاعة وكل انواع الاضطهاد الاقتصادي اسوأ من الآن في كل التاريخ، وبدلا من التغني بهذا المثال الاعلى الذي اسمه الديمقراطية الليبرالية والسوق الراسمالية في نشوة نهاية التاريخ، وبدلا من تمجيد نهاية الايديولوجيات ونهاية الخطاب التحرري، يجب ان لا ننسى ان هذا النظام الجديد مبني على عدد لا يحصى من الالآم الفظيعة ".. ويدعو دريدا الرجال والنساء المضطهدين لتشكيل " الاممية الجديدة "، اممية دون تنظيم ودون حزب، ودون نظرية ودون ايديولوجية، الرابط فيها هو التعاطف:" رابطة بلا مؤسسة بين كل الذين قد لا يكونون مؤمنين بالاممية الاشتراكية الماركسية او بدكتاتورية البروليتاريا وبالتعاضد الاممي لكل عمال العالم، إلا انهم سوف يجدون انفسهم يستهلون الفكر الماركسي لتشكيل عالم جديد محسوس واقعي في الاطار النقدي لدولة القانون العالمي ".

تمتد هذه الفكرة في كتابه الاخر " ماركس وابناؤه " حيث يجيب على التقاشات التي فتحها كتاب " اطياف ماركس "،ويعيد التاكيد على ان " الرجال والنساء في سائر انحاء العالم هم اليوم، الى حد ما، ورثة ماركس والماركسية شاؤوا ذلك ام عرفوا به او لم يعرفوه ". ونجد الاهتمامات السياسية نفسها في مقابلاته مع اليزابيت رودينيسكو والتي صدرت في كتاب بعنوان " ماذا عن الغد ".

في التاسع من تشرين الاول عام 2004 يقطع التلفزيون الفرنسي برامجه ليعلن وفاة جاك دريدا بعد معاناة مع مرض سرطان البنكرياس.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الكتب النقدية

ابتدأت تجربتي في الكتابة بالشعر وقصيدة التفعيلة على نحو خاص، وترافق ذلك بكتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. ولم تبدأ تجربة النقد الأدبي إلا بعد قراءات موسعة في هذا المجال وكتابة مقالات في الثقافة العامة لها صلة بالنقد الأدبي بشكل أو بآخر. ويمكن أن أشير إلى مقالة بعنوان (الموضوع في الشعر) نشرتها لي مجلة (طروس) الصادرة عن اتحاد أدباء صلاح الدين في التسعينيات كأول مقالة في هذا المجال. وهي مقالة عن مدى صلاحية بعض الموضوعات للشعر حيث تجرأ عدد من شعراء الحداثة لتناول موضوعات نعتقد أنها لا تلائم الشعر ولكن  يمكن تناولها بأي شكل آخر ما عدا الشعر. ثم تتابعت المقالات، فجمعتها في كتاب بعنوان (في الأفق القريب) في إصدار خاص بطريقة الاستنساخ سنة 2002. وبعد أن اتسعت دائرة النشر في الصحف والمجلات للمقالات النقدية التي أكتبها صدر كتابي الثاني (بلورات من الحكمة) عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام في القاهرة سنة 2014 حيث كنت أدرس الدكتوراه في المملكة المتحدة. وقد ضم هذا الكتاب بعض مقالات كتابي الأول الذي فقدته بسبب الأحداث ومقالات جديدة في الثقافة العامة ونقد الشعر والقصة والرواية والمسرحية. كما تضمن الكتاب أيضا مقالات عن المناقشات الجامعية التي كنت أحضرها في الدوائر الأكاديمية ألخص فيها مضامين أطروحات الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنكليزي، وهي تتصل نوعاً ما بالنقد الأدبي.

وقد كان لموقع ومنتدى القصة العربية الذي يديره القاص السعودي جبير المليحان الفضل في احتواء مقالاتي النقدية التي تضمنها كتابي (بلورات من الحكمة) حيث أشرفت على أقسام النقد والشعر فيه. وقد مكنني ذلك من الاطلاع على التجارب الأدبية لعدد من الأسماء التي ستسطع في عالم الكتابة حينئذ في الثمانينيات والتسعينيات عندما انتشرت المواقع الأدبية على شبكة الإنترنيت حيث شاركت في معظمها مثل: منتدى من المحيط إلى الخليج، لغتي الخالدة، القصة القصيرة جدا في مختبر السرديات، الفينيق، الأقلام، مرافئ الوجدان وسواها.

وصدر كتابي (قراءات أدبية) عن مؤسسة شمس للنشر في القاهرة أيضا في سنة 2019 أي بعد خمس سنوات من صدور كتابي الأول منها، وقد ضم المقالات التي كتبتها في هذه الفترة عن نتاج شعراء وكتّاب عراقيين وعرب صادفتهم في مناسبة ما، أو في موقع أدبي ما، أو قرأت لهم، ولا تربطني صلة ما بهم. وقد تجمعت لَدَيَّ عدد من المقالات كتبتها ونشرتها في فترة السنين الأربع الماضية، وسأنشرها في كتاب قادم إن شاء الله.

إشكاليات الكتابة النقدية

لعل المشكلة الأولى التي تواجه النقاد هي اختيار الموضوعات للكتابة، فقد يطّلع الناقد على كتابات عديدة، دون أن يجتذبه أحد النصوص للكتابة عنه؛ لأنه ليس بذات العمق أو الغموض الذي يستدعي الكتابة. فالنص المرغوب لدى الناقد هو النص الذي لا يعطي نفسه بسهولة، والذي يقتضي من الناقد تفكيكه، وشرح ما خفي للقارئ عنه. ولا يعني هذا تلك النصوص التي تفتعل الغموض، ولكن النصوص التي تتكون بطبيعتها من طبقات عديدة للتفسير وإظهار المعنى.

والمشكلة الثانية التي تواجه الناقد هو أن بعض الأدباء يرسلون بنتاجاتهم له في سبيل الكتابة عنها، ولكن الناقد يمتنع عن الكتابة لعدة أسباب منها ضعف مستوى هذه النتاجات، أو أن الناقد سيخسر صداقة هذا الكاتب لو تناول نتاجه بالمنهج العلمي الصحيح ولم يجامله. وقد تناولت هذا الموضوع في مقالة لي بعنوان "حول العلاقة بين الناقد والمبدع" في كتابي "بلورات من الحكمة" الصادر سنة 2014. وقد قسمت العلاقة بينهما إلى ست علاقات هي: علاقات توافق وتضاد وحياد وتجاهل وتحامل ومجاملة. وأفترض في هذه العلاقات وجود توافق أو تضاد في المدارس الفكرية بين الناقد والمبدع؛ مما ينتج نظرة أحادية وجمود بالنسبة للتوافق أو إظهار السلبيات دون الإيجابيات بالنسبة للتضاد. وفي علاقة الحياد "يتفهم الناقد من مدرسة فكرية معينة المناشيء الفكرية للمبدع والاتجاهات الأسلوبية لإبداعه. ولكن الناقد هنا لا يتناول أعمال المبدع من قريب أو بعيد، وهذا يؤدي إلى فراغ ساحة النقد من الكتابات النقدية الرصينة". وفي علاقة التجاهل "لا يتفق الناقد مع المبدع وتوجهاته، ولكنه يحتفظ بآرائه لنفسه وبهمل نتاجات المبدع خشية ردة فعله أو لأسباب أخرى. وتسود هذه العلاقة الكثير من الأوساط الأدبية لسهولتها والشعور بالسلامة والارتياح من جرائها ولعدم ترتيب أية نتيجة مباشرة عليها. ولكن لها تأثيراً بعيداً في الوسط الأدبي حيث تؤدي إلى استشراء النتاجات الهابطة واختفاء المقاييس النقدية القادرة على تقويم تلك النتاجات." وفي علاقة التحامل "عندما يكون نتاج المبدع ذا قيمة عالية، ولكن الناقد هنا لغرض في نفسه أو لانحياز مهما كان نوعه، يتحامل على نتاج المبدع لتقليل أهميته والنيل منه. ولا يخفى ما لهذه العلاقة من أثر سلبي في الفعاليات الثقافية عموماً والساحة الأدبية خاصة." أما علاقة المجاملة وهي عكس علاقة التحامل  "حيث يرتفع بالنتاجات الهابطة إلى مستوى لا تستحقه، وتترك نفس الأثر السلبي للعلاقة السابقة."

والمشكلة الثالثة هو قلما نجد النصوص التي تستحق الكتابة عنها بعدما تفشت ظاهرة أدباء الفيسبوك، وأصبحنا نقرأ نصوصا ليست بالمستوى المطلوب. والملاحظ أنه في عصر ما قبل الإنترنت كان الناشرون سواء في النطاق الحكومي أو الخاص يدققون كثيرا قبل أن يوافقوا على نشر نص أو كتاب ما. وهذه من إيجابيات الرقابة في تلك الفترة، ولكننا لا بد أن نذكر أن سلبياتها كانت تكمن في منع نشر نصوص راقية؛ بسبب المواقف السياسية أو الشخصية أو المنافسات بين الكتاب أنفسهم.

المناهج النقدية

وفي مقالة أخرى من الكتاب نفسه بعنوان "النقد الانطباعي" تناولت فيها المقارنة بين المنهجين النقد الانطباعي والأكاديمي، وبينت أن المنهجين بحاجة إلى كل منهما؛ لأن المناهج الأكاديمية بدون تذوق والموهبة الشخصية في تمثل ذلك النص لا ينتج إلا دراسة باردة لا روح فيها والمنهج الانطباعي بحاجة إلى ترصين وقواعد علمية تسانده. وعموما فإن النص هو الذي يفرض المنهج الذي ينبغي أن يتبع في دراسته. وقد يحتاج الناقد إلى أكثر من منهج لدراسة النص كأن يكون المنهج النفسي والسياسي أو التاريخي الخ. وقد شاركت مرة في مناقشة رسالة ماجستير بالأدب الإنكليزي، واتخذت الباحثة المنهج النفسي في دراستها لمسرحيات كاتبة إنكليزية حديثة، ولم يكن ذلك كافيا لفهم نصوصها ما لم يتبع المنهج السياسي أيضا؛ لأن المشكلة التي تتناولها المسرحية مشكلة سياسية أساسا فكيف يتم تناولها نفسيا فقط؟

ومع ذلك فهل ينبغي لنا أن نتبع مدارس نقدية نشأت في الغرب، ونطبقها على نصوص نشأت في الشرق؟ عندما كتب الناقد الكبير د. علي جواد الطاهر مقالة نقدية تناول فيها مجموعة من قصائدي في منتصف الثمانينيات أذهلني بإشارته إلى الناقد العربي القديم ابن قتيبة، وإلى ناقد آخر اسمه بشر بن المعتمر، ولم أكن قد اطلعت على ما كتبه أي منهما؛ وبذلك قد وجّه الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بتراثنا النقدي، ولم يشر إلى أي ناقد غربي أو نظرية نقدية غربية حديثة، على الرغم من أن دراسته للدكتوراه كانت في بلد غربي هو فرنسا. لذلك فنحن بحاجة إلى نظرية أو ربما نظريات نقدية عربية تزاوج بين الأفكار النظرية العربية القديمة وما أنتجته النظريات الحديثة في هذا المجال والاشتغال على ابتكار نظرية لها خصوصية عربية. كذلك نحن بحاجة إلى ابتكار نصوص عربية لها جذورها في التراث العربي وامتدادها في العصر الحديث. أما تقليد الغرب في مناهجه ونظرياته ونصوصه، فلن يخلق لنا خصوصية تفرد لنا مكانا في الساحة الثقافية العالمية.

الأدباء وشهرتهم

تناولت في كتابيّ المذكورين آنفا وكتابي الثالث الذي سيصدر قريبا العديد من الشعراء والكتاب المعروفين منهم والمغمورين. وقد تناولت أحيانا أعمال كاتب أو شاعر بأكثر من مقالة كسمير الفيل من مصر وفرج ياسين وجمال نوري وطلال الغوار من العراق. ومرد ذلك لعدة أسباب منها سهولة الحصول على نصوصهم الإبداعية وجودتها. أما نصوص المغمورين، فإنها تصلني صدفة، أو اطلع عليها في موقع أدبي أو صحيفة أو مجلة أو كتاب. وأتذكر أني صادفت نصا بصيغة القصة القصيرة جدا أثار إعجابي هو "ذاكرة الشتاء" لكاتب فلسطيني غير معروف اسمه عمر مسلط. وكتبت عنه مقالة نشرتها في منتدى القصة العربية أثارت إعجاب الناقد المصري د. مصطفى عطية حيث علق بالقول إن النص النقدي قد تفوق على النص الإبداعي أو بصيغة أخرى أن النص النقدي أعلى من النص الإبداعي حسب تعبيره، أو كما يقول رولان بارت " أن الخطاب حول النص لا يمكن إلا أن يكون نصا هو ذاته". ولم أتلق أي رد من كاتب النص، وظل مجهولا بالنسبة إِلَيَّ عدة سنوات إلى أن ظهر في منتدى أدبي آخر، وهو يشكرني حيث أعاد نشر مقالتي مع النص. ومع ذلك فقد ظل ذلك الكاتب غير معروف بالنسبة إلي سوى أنه فلسطيني، وكنت آمل أن أقرأ له نصوصا أخرى ولكني لم أحظ بذلك. وقد أتاحت لي المواقع الأدبية التعرف على شعراء وكتّاب من مختلف الدول العربية حيث كتبت عن نتاجات بعضهم؛ مما أضفى تنوعا محببا للكتابة عنهم حيث عمقت تجربتي في الكتابة للتجارب المتنوعة التي أكتب عنها. عموما لا تهمني شهرة الشاعر أو الكاتب، ولكن ما يهمني هو النص أو بمعنى آخر مدى تناغم ذلك النص مع ما أفضله من الموضوعات أو الأشكال أو الأساليب.

***

فيصل عبد الوهاب

‏الدكتور إسماعيل مكارم غني عن التعريف، كاتب معروف منتج ساهم مساهمةً كبيرةً في إثراء الثقافة العربية. وبالذات في مجال ترجمة النتاجات الروسية لبوشكين ويسينين وآخرين كُثُر من أصلها إلى لغة الضاد.

عرفتُ الكاتب إسماعيل مكارم طالباً جامعياً جدياً رزيناً بكل معنى الكلمة، دقيقاً بكل دراساته، وسلوكه أيام دراسته في السبعينات في جامعة فارونِش (فارونِج - بالجيم الشامية) الروسية.

في ذلك الوقت كنا نتعلم في جامعة فارونِج، ولم نفكر آنذاك بالنشر ولم  نستسهله كما يفعل الشباب اليوم. كنا نتعلّم وكان شعارنا: أدرس، أدرس، ثم ادرس! المعلّق على بنايات منازل الطلبة.

والآن إطلعتُ على كتاباته صدفةً بفضل صحيفتنا "المثقف" التي أكنّ لها كل الإحترام، بعد فترة فراق طويلة، وجدتُه كما عهدته دقيقاً متأنياً في كل تراجمه.

الدكتور إسماعيل مكارم أستاذ رصين قرأت له القصيدة البغدادية، أعجبتني أولاً كونها عن مدينتي الحبيبة بغددا، ثانياً أني أعرف محبة صاحبها لدار السلام وأهلها وكل العراقيين.

أثّرتْ هذه القصيدة  على مشاعري وإحساسي وأنا أقيم بعيداً عن مدينتي بغداد، وهذا ما توقعته منه لأني اعرفه خير المعرفة  وخبرته، كان يحب العراق والعراقيين ويحب بغداد.

ما أجمل قوله عنها:

بغداد تفتح بيتها مرحبة،

تكاد تنزل من سمائها القبل،

هنا المحبة والإكرام عادتهم

أهل المروءة ما غابوا ولا رحلوا،

معنى ذلك انه يكتب هذه الكلمات بناء على تجربة شخصية عايشها مع العراقيين خبرهم وعرفهم.

وكتب طبعاً "أشعار دمشقية" عن دمشق التي عشقتها أنا وأشتاق لها دوماً

أشعار دمشقية

ورفرفت من ذرى الجولان قبّرة ٌ

تبكي على حالِها والدّمع ينهمر ُ

إني أخاف، هنا الفندالُ والتتر ُ

شِدّي الحزامَ ليبقى السّيفُ والحَجرُ

كذلك اعجبتني قصيدته عن الجولان، وأخرى عن فلسطين، إنها تجسد مواقفه الحقيقية التي عرفتها عنه أيضا في شبابة، فقد التقيته عندما كنا طالبا كما ذكرت وتركته ومنذ ذلك الحين لم التقِ به، وسبحان الله كنت أعتبره مثالي الأعلى فقد كان في السنة الثالثة أو الرابعة من الجامعة بينما أنا في الأولى، وعندما اطلعت على كتاباته رأيتها تتميز بالالتزام القومي وجدية إختيار موضوعات نصوصه وسمّو اللغة والاهتمام بها، وهناك مشتركات بيننا في إختيار الموضوعات كما سنرى.

ويقول عن فلسطين:

لبسوا قناعَ الحَضارةِ،

بَكوا على أمسِهمْ،

قالوا: كنا مُشردين.

أقاموا المَذابحَ،

والحَرائقَ،

وشرّدوا النساءَ،

والأطفالَ،

والشيوخَ،

وسرعانَ ما اتقنوا مهنة َ الجَلادينْ!

نادوا:

لنا هنا أرض ٌ ليسَ فيها شعبْ،

وجَعلوا من شعبنا

إسماعيلَ القرن العشرينْ.

**

وأكثر ما أعجبني طبعاً قصائده المترجمة من الروسية، فكما قلت إنه ترجمَ بوشكين، بالذات قصيدة أبانا الذي في السماوات حيث يحاكي فيها الشاعر بوشكين نصاً من الصلاة الربانية:

ابانا الذي في السماوات،

سمعت في الخلوة البسيطة،

كيف ردد رجل مسن صلاته الجميلة،

كان يرددها بخشوع وأنا استمع،

ابانا أيها الأب الذي في السماوات،

وأتي أن اسمك المقدس الابدي،

يشع في قلوبنا،

سيأتي ملكوتك،

وستكون مشيئتك معنا كما في السماء وأتي كذلك على الأرض

إنها ترجمة رائعة وكذلك قصائد يسينين مثل: رسالة إلى أمي، و المتسولة الصغيرة، أصلا هو من نفس مدينتنا فارونيتش (فارونيج- بالجيم الشامي) التي سكنا فيها وتعلمنا اللغة الروسية، وكنا ككل الشباب آنذاك نحب يسينين، ولا أزال أتذكر كم كان الفتيات والشباب مولعين بأشعاره وتذكرنا بشاعرنا العربي الراحل نزار قباني.

أغلب تراجم الدكتور إسماعيل اختيارات موفقة ورائعة، وكان محباً للتعمق فيها، وأتذكر جيدا أننا كنا في مناسبة سألناه عن أمنياته فأجاب وهو ذاك الشاب الرزين المتفائل المتحمس: أريد أن أؤلّف قاموسَ اللغة الروسية العربية.

وترجم  قصيدة نشيد الرّجال الرّوس للشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين، التي تقدم صورة عن واقع الشعر الروسي المعاصر اليوم. ونوردُ هنا مقطعاً منها: 

نشيد الرّجال الرّوس

من كان شاباً شجاعاً

قويا وشريفا،

من يحترمُ أبطال العصور الغابرة،

من تضيق به جدران المنزل،

من هو قادر على مواجهة الصِّعاب،

ولابد لي من  تسجيل إنطباعي وما جلب إنتباهي ايضاً: ترجمته قصيدة "الليلك" للشاعر الروسي المعاصر  نيكولاي مولوتشنيكوف، التي تذكرني بقصيدة بنفس العنوان تقريباً  "الليلك الشتوي"، لشاعرة دنمركية: ليسي سورينسين 1926-2004 لكنها تتسم ببعض الغموض عكس القصيدة الروسية الرومانسية الواضحة.

شجَيرة ُالليلك

لم تتفتحْ بعد أزهارُ الليلك

وأعيادُ أيار سَتأتي قريباً.

كلّ الأشياء تبَشرُ بقدوم الصّيفْ .

أنا لا أشكو هذا الرّبيعَ الطويلْ .

*

آه يا شُجَيرَة الليلك الجَميلة،

لا تأسريني بهذا العَبيرْ.

فهذا الأريجُ يُعْجبُني،

ويُثيرُ الآخرينَ قليلا.. قليلا.

ولنقرأ قصيدة ليسي سورينسين "الليلك الشتوي".

الليلكُ الشتوي

في داخل صقيع الضباب ينمو

عنقود الليلك الطفولي.

تَقَبّلُ الضياع، التخلي

الإستسلامُ لذلك

الذي هو.

ان تكونَ أجمةَ ليلكٍ بدونِ زهرةٍ أو ورقةٍ،

باقةُ أغصانٍ وباقةُ جُذورٍ.

متغيرةٌ تماماً، مثيرةٌ للعجب

بنفسها.

١٩٦٢

وأعجبتني جدا قصيدته النثرية المكرسة لشخصية الغريب، وسبحان الله فقد تناولت أنا أيضا نفس الموضوعة تقريبا بنفس الطريقة: كتبت قصة "المهاجر" و"الاستاذ الغريب" و قصصاً عن شخصية مغتربٍ، وأقول: إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب .

لنقرأ مقطعاً من قصيدته "حكاية غريب"

هل للغريبِ هنا قضِيّه؟

هل للغريبِ هنا حقّ السّؤالْ؟

هل للمُهاجِر ِهنا ذاك الإسمُ

أوالعائِلة ُ الكريمة ْ؟

ليس للغريبِ هنا سوى رقم ٍ

وبعض أحْرُفٍ كتبتْ  بدَفترْ .

هل لي ولكَ هنا جُغرافيا أو تاريخْ؟

ليس لي ولكَ هنا

أخيراً وليس آخِراً، أقول، صحيح أني إفترقتُ مع الكاتب الدكتور إسماعيل منذ أكثر قليلاً من أربعة عقود، إلا أننا إلتقينا كما يبدو في مجال الأدب من حيث لا ندري، حيث جمعتني وإياه قصائده ومقالاته.

***

د. زهير ياسين شليبه

رحل ميلان كوندير، وسيتوقف الجدال حول احقيته للفوز بجائزة نوبل للاداب.ولن يجد عشاق ادبه أنفسهم في موقف غاضب من جائزة نوبل التي ظلت تدير ظهرها لكاتبهم المفضل كل عام. رحل اكبر واهم روائي عن عمر " 94 عاما، ودخل بجدارة الى نادي افضل كتاب ادب القرن العشرين، ترجمت معظم أعماله إلى نحو " 80 " لغة، وبيعت منها ملايين النسخ ووضعت عنه كتب وأبحاث في لغات شتى.. لكن كونديرا الذي كان يعيش في عزلة تامه منذ سنوات قال بعد حصوله على جائزة كافكا لم يعد يبالي باية جائزة اخرى، وإن لم يحصل على جائزة نوبل فالامر عادي جدا وغير مهم، الم يقدم لنا في روايته "الخلود" كيف يجب على الانسان ان يقدم الصورة التي يصنعها لنفسه والتي هي أشد خلوداً من الانسان نفسه، فإذا كان الشخص فانياً، فإن صورته قد تكون مهيأة للبقاء. ولهذا ستظل صورة كونديرا عالقة في اذهان ملايين القراء، تدخل عالم الخلود الحقيقي، فيما الناس لا تتذكر نوبل وضجيجها إلا نهاية كل عام.

في حديثه إلى الروائي الامريكي فيليب روث في عام 1980، أعرب كونديرا عن أسفه لأنه يشعر أن "الرواية لم يعد لها مكان في العالم، قائلاً: "العالم الشمولي، هو عالم من الإجابات وليس أسئلة".، وتابع: "يبدو لي أن الناس في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر يفضلون الحكم بدلاً من الفهم، والإجابة بدلاً من السؤال، بحيث يصعب سماع صوت الرواية في ظل حماقة اليقين البشري الصاخبة".

قال لصديقه ومواطنه أنتونين ليهم: "لقد ولدت في الأول من نيسان. وهذا له مغزى ميتافيزيقي"، رفض ان تربط اعماله بالسياسة وقال ق لصحيفة اللوموند الفرنسية إن تسمية أعماله بالسياسة هو تبسيط مبالغ فيه، وبالتالي إخفاء أهميتها الحقيقية "

لا اتذكر التاريخ الذي وقعت فيه بحب روايات كونديرا، لكنني وجدت ذات يوم في مكتبة التحرير رواية بعنوان " الحياة هي في مكان آخر " من اصدار دار الاداب ترجمة رنا ادريس.. وكانت احد الاكتشافات الباهرة في عالم القراءة.. فهي رواية لا تتناول الاحداث او القضايا الكبيرة التي نعيشها، لكنها معنية بطبيعة العلاقات الانسانية. بطل الرواية " جازوميل " يعاني من محبة أمه الزائدة التي تترك اثارها على كل شيء في حياته، ولهذا يقرر ان يخترع له حياة اخرى من خلال شخصية اسمها " إكزافييه" الذي يحيا معه في عالم من الاحلام، عابراً من حلم إلى آخر، كما لو كان يعبر من حياة إلى أخرى، ولن نعجب حين يخبرنا الروائي أن هذه الحرية العجيبة ناجمة عن كونه بلا أم وبلا أب، ذلك أن انعدام وجود الأبوين هو شرط الحرية الأول، لا تبدأ الحرية حيث يُرفض الآباء أو يُدفنون، بل حيث لا يكون لهم وجود، حيث يأتي الإنسان إلى العالم دون أن يدري من أين.

يصبح جازميل الشاب الوسيم مثل كونديرا في الخمسينيات شاعراً، " كان يكتب قصائد عن الطفولة المصطنعة، عن الحنان، عن موت وهمي، عن شيخوخة وهمية، كانت تلك ثلاث رايات زرق يتقدم تحتها خائفاً نحو جسد المرأة الراشدة الحقيقي على نحو هائل".

وبرغم بلوغه سن العشرين، ولسبب لا يكشف عنه كونديرا، يظل جازوميل يقبل أن تختار له أمّه ملابسه، لذا لن نندهش حين نراه بعد ذلك يُوثق عشيقته الشقراء الصغيرة ويشل حركتها حين يمارس الجنس معها: " إن جوهر المشكلة أنها كانت تفلت منه، إنه لم يكن يتملكها تماماً". كان أي ميل للاستقلالية لدى العشيقة الصغيرة يسوء جازوميل، كان يود: " ألّا تكون أبداً في مكان آخر غير مغطس الحب ذاك، ألّا تحاول الخروج منه، ولو بالفكر، أن تكون مغمورة تحت سطح أفكار جازوميل وكلماته"، مثلما كان هو مغموراً في أفكار أمّه وكلماتها.

في النهاية يشي جازوميل بعشيقته إلى السلطات فيتم إلقاء القبض عليها والزجّ بها في السجن، وهكذا سيصبح سيدها المطلق، وسيكون في النهاية، قد أخذ بثأره من أمّه " إنها له، له، له"..ثم يقع الشاعر الشاب مريضاً حتى الموت، ويكتب كونديرا في نهاية الرواية مقطعاً شديد التهكم يقول فيه جازوميل لأمّه وهو لا يزال يمسك بيدها: " أنتِ الأجمل من بينهن جميعاً، أنتِ أكثر من أحببتُ".

كانت الرواية غريبة بالنسبة لي، كان من الصعب عليّ آنذاك ان افهم الطبيعة المعقدة لبطل الرواية.. لكن الرواية قدمت لي خدمة اخرى فقد ادخلتني عالما من القراءة جديد تماما.

بعد سنوات، اصبحت روايات كونديرا متوفره، اعدت قراءة " الحياة هي في مكان آخر ".. بدت الرواية تبدو لي مذهلة، لقد كنت قادرا بعد القراءة الثانية على استيعاب الفكاهة السوداء التي تتمتع بها روايات كونديرا

بدأت بعد ذلك محبتي بكونديرا واعماله.. وبدأت معها رحلة البحث عن كتبه وايضا سنوات الانتظار، فقد كنت في كل عام انتظر مثل آلاف من عشاق الكاتب التشيكي ان يحصل على جائزة نوبل، ولسوء الحظ فقد بلغ الثالثة والتسعين من عمره، وفي كل عام يصر اصحاب الجائزة على إيهام القراء ان كونديرا شخصية من الخيال لا وجود لها على ارض الواقع، وانه يعيش في مكان آخر. احد الاجابات الساخرة التي يقولها كونديرا حول عدم حصوله على جائزة نوبل انه ولد في يوم " كذبة نيسان " – ولد في الاول من نيسان عام 1929 – ولهذا يعتبر ان علاقته بجائزة نوبل اصبحت أصبحت مثل النكات التي تلقى بمناسبة الأول من نيسان مجرد اكاذيب. يقول انه في صباه حلم دواء من شأنه أن يجعل الانسان غير مرئي والى " الآن أرغب في الحصول على الدواء الذي يجعلني غير مرئي. ''

في كل حديث عن جائزة نوبل يتذكركونديرا مواطنه الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت الذي حصل على نوبل عام 1984 وكان قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ويقال أن السفير السويدي عندما اراد ابلاغ ياروسلاف سيفرت بفوزه بالجائزة كان يرقد في المستشفى وقال للسفير بحزن: " لكن ماذا سأفعل الآن بكل هذه الأموال؟".

الابن الوحيد لعائلة مثقفة من الطبقة الوسطى،ولد في مدينة برونو المدينة الثانية في ( تشيكوسلوفاكيا ) بعد براغ. والده متخصص في الموسيقى، ولا نعرف ما مهنة أمّه، ظل متعلقاً بوالده عازف البيانو الشهير الذي قاده إلى دروب بارتوك، وسترافينسكي، ورحمانوف. اضطر في سنّ مبكرة أن ينشغل بالسياسة، ففي التاسعة من عمره كانت بلاده تشيكوسلوفاكيا تنزلق نحو الحرب، وسيكتب في ما بعد أن العديد من أفراد عائلته زُجّ بهم في معسكرات الاعتقال النازية بسبب ميولهم الشيوعية، وأن البعض منهم لقوا حتفهم. عندما وقع انقلاب براغ عام 1948 كان ميلان في الثامنة عشرة من عمره، وقد سحرته دروب يوتوبيا الكادحين، فانضم للحزب الشيوعي:" اسرتني الشيوعية بقدر ما أسرني سترافنيسكي وبيكاسو والسيريالية " – السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا ترجمة وثام غداس -. بدأ حياته شاعراً، ويُقال أن مجموعته الشعرية الأولى: (أنا لا أقرأ التشيكية) حظيت بردود فعل إيجابية، لكن كونديرا اكتشف في ما بعد وبالصدفة سارتر الفيلسوف من خلال كتابه " الوجود والعدم، ليعنرف فيما بعد ان جان بول سارتر احد اساتذته في الفكر.وقد حاول في مجموعته الشعرية الثانية أن ينزع نحو الوجودية، الأمر الذي أثار نقمة الجهات الرسمية التي قررت فصله من الحزب عام 1950، وكانت أسباب الفصل تؤكد أنه من غير المعقول في بلد شيوعي، أن يبشّر الشعراء بالعدمية والوجودية. في سن السادسة والعشرين كتب قصيدة يمجّد فيها بطل المقاومة التشيكي (فوسيك) فاستحق عنها إعادة الاعتبار له، ليصدر قرار بإعادته إلى الحزب.

طيلة الستينيات قام كونديرا بتدريس السينما في الجامعة، وفي تلك الأثناء نشر روايته (المزحة) وهي درس عن الحب في زمن سيطرة الأيديولوجيات، وقد تُرجمت إلى الفرنسية بتقديم الشاعر الفرنسي الكبير أراغون، الذي وجد فيها تصويراً لأزمة الأحزاب اليسارية في أوروبا، في عام 1968 قرر الروس دخول براغ، لم يختر كونديرا الهروب، فقد أراد الاستمرار في إيمانه بالاشتراكية وبإمكانية التغيير من الداخل، لكنه في المقابل ترك نفسه، لأن يكتب بحريّة، الأمر الذي أدى إلى طرده عام 1970 من الحزب الشيوعي، وصدور قرار بمنع كتبه من التداول، بعدها أقيل من وظيفته في الجامعة، قرر أن يعمل في إحدى الصحف لتحرير باب الأبراج باسم مستعار: " ألّا يكون للمرء وجود علني أمر له محاسنه أيضاً". في هذه الفترة ينصرف لكتابة الرواية لتصدر له روايتان كبيرتان هما: (الحياة هي في مكان آخر) و(فالس الوداع) اللتان رسّختا اسمه كواحد من روائيي الجيل الجديد. عام 1975 يسافر إلى فرنسا ليقيم بصفة لاجئ، بعد أربعة أعوام يُجرّد من جنسيته التشيكية، فيُمنح عام 1979 الجنسية الفرنسية، لم يُحدث المنفى ولا الكتابة بالفرنسية، تغيراً في أسلوب كونديرا الروائي، وأقصى ما لاحظه النقاد أن رواياته باتت تحمل خصائص التقشف في اللغة والاقتصاد في الوسائل، وتجنب النزعات العاطفية، ولعل ما سمح لكونديرا بهذه النقلة، هو إصراره على إعادة كتابة ماضيه الشخصي، الأمر الذي جعله يمتنع عن إعادة طباعة أعماله القديمة التي تعود إلى فترة الخمسينيات والستينيات، فهو يعدّها غير ناضجة ولا تسحق القراءة: "إن أول نصّ يستحق الذكر هو قصة قصيرة كتبتُها في سن الثلاثين، بعنوان (غراميات مرحة)، من هنا بدأَت حياتي ككاتب".

يتصرف كونديرا مع قصة حياته الخاصة كروائي، فينبّهنا في (خفّة الكائن التي لا تُحتمل) إلى "أن الشخصيات الروائية لا تولد من جسد أمّ، بل من بضع كلمات موحية، من استعارة، من موقف أساسي"، وهو أقرب إلى تصور سارتر في (الوجود والعدم)، الكتاب الذي اعتبره كونديرا أشبه بالإنجيل، كان سارتر في الكلمات يصرّ على أن نسيان الطفولة والسكوت عن الأشياء التي تمّ تلقيها وتعلمها، أشبه بقانون رفض الهوية.

عندما يسأل عن الروائي المفضل لديه يجيب بسرعة: أنا أحب تولستوي كثيرا. إنه أكثر حداثة من دوستويفسكي. ربما كان تولستوي أول من أدرك الدور اللاعقلاني في السلوك البشري. الدور الذي يلعبه الغباء في حياة الناس " – فن الرواية ترجمة بدر الدين عردوكي -

رواية بعد أخرى نستكشف مع كونديرا مفارقات الوجود الإنساني، ما من أحد أكثر منه موهبة في الكشف عن الضلالات التي نعيش فيها، والأدوار التي فُرضت علينا كي نلعبها في الحياة، وأكاذيبنا، واستعراضاتنا الجنسية، وحيلنا ومراوغاتنا لصدّ " خفة الكائن التي لا تحتمل"، ولا أحد مثله باستطاعته المزج مزجاً بارعاً وبطريقة أقرب إلى كتابة النوتة الموسيقية، بين الخيال الروائي، والمقالة الفلسفية، أن فكرته الأساسية في معظم أعماله الروائية، هي أن لاوجود للهوية، لأنّ مظهرنا الجسدي أمر اعتباطي، دائم التحوّل، وذاكرتنا لا يمكن الوثوق بها كثيراً، وحتى آرائنا وأفكارنا وأذواقنا وأنماط عيشنا، إنّما تصوغها الصدفة، يخبرنا كونديرا أن الإيجابي هو الذي أدرك الطبيعة التراجيكوميدية للحياة الإنسانية، والسلبي هو ذلك الذي يسعى دوماً إلى إقناعك بالانتماء إلى شيء ما، بلد أو حزب، أو دين أو عائلة.

يكتب كونديرا: " بعد نشري لكتابي الأول (المزحة) الكثير من القراء اكتشفوا أن شخصيات الرواية موجودة بينهم وهم يلتقون بها في الطرقات والمترو ومقاهي الرصيف". ويضيف صاحب (الضحك والنسيان) إن دراسته للموسيقى والسينما مكّنته من أن يتناول الموضوعات الأكثر قتامة بأسلوب هزلي، من (خفة الكائن التي لا تُحتمل) إلى (الحياة هي في مكان آخر) مروراً بـ (المزحة والجهل)، ظلّت الفكاهة سمة مميزة لكتاباته، وهو يقول لمحاوره كريستيان سالمون: " إن التسلية والإمتاع كانت وسيلته لتمرير أفكار يعتقد بها، فهو يعتقد أن الرواية يجب أن تجمع بين المعنى الجادّ والأسلوب المُسلّي، على غرار ما قدّم تشارلز ديكنز في رائعته (أوقات عصيبة) - ترجمة: عز الدين محمد زين -

يؤكد كونديرا في كل أعماله الروائية أن العالم الذي نعيش مآسيه، لا يساوي دم من ماتوا ليجعلوه مكاناً أفضل، فهدف النسيان والسخرية عند الإنسان، هو تجاوز التاريخ ثم الانصراف لما هو أهم، سواء كان حياة أو فناً أو موقفاً أخلاقياً أو صمتاً مطبقاً.

في معظم رواياته يحاول ميلان كونديرا الخروج إلى ادراك فلسفي للحياة المعاصرة. وفي رأيه ان الروائي لا يملك الحق في تقييد نفسه بالانتماء والانحياز لا الى المذهب السياسي ولا الى العقيدة ولا الى الايديولوجيا

- انت شيوعي. ياسيد كونديرا

- لا، انا روائي

- انت منشق ؟

- لا انا روائي.

- انت يساري، ام يميني؟

- لا انا روائي – فلسفة الحياة عند كونديرا ترجمة اشرف الصباغ -

لماذا احب ان اقرأ كونديرا دائما، بالنسبة لي ولكثير من قراء رواياته، نجد ان صاحب " المزحة " يمنحنا بعضا من روحه المتمردة التي تتسلل من بين صفحات رواياته. نقرأ كونديرا لأننا نريد أن نكون مثله في مرحلة ما من حياتنا. كل كتاب من كتب ميلان كونديرا هو تجربة شخصية. نقرأها لأننا لا نريد أن يقال لنا ما يجب أن نفعله،ولأننا ايضا نكره أن يقال لنا ما يجب أن نفعله. والاهم من هذا كله دعوته للحقيقة والحرية الداخلية التي بدونها لا يمكن التعرف على حقيقة الانسان. يكتب كونديرا:" أن تكون كاتبا لا يعني أن تلقي مواعظ عن الحقيقة، يعني القدرة على اكتشاف الحقيقة ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عندما قرأت خبر رحيل الاستاذ والمعلم ثامر مهدي، تذكرت احلامه واشواقه لهذا الوطن الذي ادار له ظهره، وتراءت لي السنوات التي قضيتها بصحبة " ابو لؤي ". ربما لا اتذكر السنة التي تعرفت فيها على ثامر مهدي، فمثل هذا الانسان يجعلك تشعر انك تعرفه منذ زمن بعيد، فلفرط حميميته تكاد توقن انه احد اقاربك، فصاحب الوجه المبتسم كان يشيع الحميمية والاطمئنان من حوله، وتظل تسأل ترى من اين جاء بكل هذه الطيبة التي ينثرها على الآخرين؟. لم يكن ثامر مهدي استاذا للجماليات في كلية الفنون الجميلة ولا كاتبا متميزا للسيناريو الدرامي، ولا فنان وجد ان طموحاته اكبر من خشبة المسرح، لكنه كان مثقفا اصيلا ومبدعا، وقبل كل هذا انسانا يحمل معرفته الخاصة وذلك الولع التواق الى تحويل الفن الى قيمة جمالية وفكرية. ولعل بسبب تلك المعرفة وذلك الوعي ارتبط اسم ثامر مهدي باروع افلام السينما العراقية " الظامئون " وبأهم انتاج درامي عراقي " حرب البسوس "، وبجيل من الطلبة حاول ان يحقق احلام اساتذته ورؤاهم الفكرية والجمالية للمسرح والسينما والتلفزيون العراقي.

قادتني الصدفة الجميلة للتعرف على الاستاذ، عندما اخبرني الصديق جواد الشكرجي اننا سنذهب في سيارة " الفولكسن واغن " الى مدينة الحبانية حيث يتم تصوير مسلسل " حرب البسوس " وكان جواد يمثل فيه اول ادواره المهمة، شخصية جساس ابن كليب. لم اكن اعرف ثامر مهدي، كنت اشاهده في كلية الفنون الجميلة متأبطا ذراع احمد عباس صالح او منهمك في حوار مع المخرج جعفر علي او يجلس في الكافتريا وحوله شلة من المحبين، وكنت اسمع عنه من خلال احاديثي مع الخال خليل شوقي الذي كان يسميه " بابا ثامر " . كانت السيارة التي ذهبنا بها واصبحت فيما بعد سيارتنا الخاصة انا وجواد الشكرجي هي ملك لثامر مهدي الذي اعلن انه سيتتلمذ على يد جواد ليصبح سائقا ماهرا، واستمرت هذه التلمذة لسنوات، كان فيها الشكرجي " يزاغل " من اجل ان تبقى السيارة اطول فترة ممكنة معنا، في الوقت نفسه ك ثامر مهدي مستمتعا بما يجري

اتذكر الآن الحوار الاول الذي جرى بيني وبين ثامر مهدي عن مستقبل الدراما، يومها كنت قد نشرت في صحيفة الجمهورية مقالة عن الدراما العراقية، لم اكن اتوقع انها ستحظى بمتابعته وكأي شاب متحمس وقليل الخبرة والمعرفة، اخذت احاجج المعلم واحاول ان استعرض قراءاتي، فيما هو ينظر اليه مبتسما، وما ان انتهيت حتى تدفق محاججا على طريقة سقراط الذي كان يعشقه، فاضاف العمق الى فكرتي، وخلع عن حماستي ثوب المغالاة الساذجة، وعلمني كيف اضع افكاري موضع المساءلة، لأجد نفسي امام شخصية ساحرة امتزجت فيها الرؤية الانسانية، مع جمالية فنية متميزة، كان وهو يحاول أن يصحح خطواتي الأولى في كتابة النقد الفني، يعلمني درساً في كيفية مخاطبة القارئ بلغة مفهومة ذات دلالات واضحة.

ظلت النزعة السقراطية في الحوار هي التي تَميز ثامر مهدي سواء في قاعة الدرس او في جلسات الاصدقاء او في الندوات التي كان يحضرها. ولم تكن رفقتي وحواراتي معه طيله السنوات التي كنا نلتقي بها بشكل يومي، تحمل طابع التلمذة او الصداقة فقط، وانما قبل ذلك وبعده تحمل معنى الابوة، التي يتغلب فيها معنى الأب على معنى الاستاذ او الصديق، فكان ثامر مهدي يتعامل مع طلبته والمقربين منه من مفهوم الرعاية الابوية لطلبته انسانيا ومعرفيا، فكان بيته مفتوحا للجميع لايتردد في رفدنا بكل ما ينقصنا في مجال الفن والفلسفة، هذه الانسانية التي امتزجت بنزعة وجودية كانت ترى في التمرد على الواقع سبيلا لبناء قدرات الانسان. هذا التمرد الذي دفع ثامر مهدي ثمنه حين تم نقله من كلية الفنون الجميلة التي كان يعشقها الى جامعة الكوفة عقابا على مشاكساته ورفضه الانتماء الى " الحزب القائد ".

اتسمت حياة ثامر مهدي الثقافية بسمة الموسوعية التي كانت تضرب في كل اتجاه، وتتنقل ما بين حقول المعرفة، في سعي لا يكف عن الحركة والكتابة، تصل صاحبها بكل فروع الثقافة وتجعل من مسيرته متعددة الادوار، فنجده استاذا جامعيا، ومشتغلا في النقد الفني وصاحب مسيرة في مجال الدراما السينمائية والتلفزيونية، وكان قبلها مخرجا مسرحيا خاض تجربة يتيمة " كاليغولا " وكتب مسرحية وحيدة " فائض عن الحاجة "، وعددا من القصص القصيرة، نَّظر للمسرح المدرسي وضرورته. ووضع كتابا منهجيا للتاليف التلفزيوني، وفي الوقت نفسه ترجم عدد من الكتب تنوعت بين الفلسفة وعلم الاساطير والجماليات. وبسبب تلك المعرفة وذلك الوعي، ارتبط اسم ثامر مهدي بالسعي لكتابة درامية حديثة، ولعل سيناريو فيلمه "الظامئون " كان علامة تمرد على طرائق السينما العراقية في اختيار موضوعاتها، وايضا رغبة متمردة لتقديم شخصيات واقعية تواجه صراعاً مضاعفاً. فهي تقاوم الوقع الاجتماعي المتخلف من جانب ومن جانب آخر تواجه الطبيعة القاسية التي تعطلت بسبب الجفاف الذي أوقف كل شيء ولم يبق سوى الموت. كان ثامر مهدي آنذاك يخطو خطواته الأولى في السينما وكان الامتحان الأول الذي كما أخبرني، أن رواية الظامئون عالم يموج بالحركة والحركة فيها ليست عشوائية بل هي صراع محدد يدور وفقاً لقوانين فكر محدد وهو لهذا صراع واقعي في الدرجة الأولى لاتحركه بطولات فردية زائفة أوحوادث مفتعلة ولهذا سعى أن يقدم سيناريو يجمع بين ذاتية الإنسان وبين الحدث المليء بالحركة والشخصيات.. فنحن في الفيلم أمام شخصيات تجمع بين البساطة والتعقيد، فهي شخصيات عادية الى درجة غير عادية.. ولم يقتصر عمل ثامر مهدي وبالتعاون مع المخرج المبدع محمد شكري جميل، في الظامئون على ترجمة رواية عبد الرزاق المطلبي الى حركة مستمرة على الشاشة بل تعدى ذلك الى خلق حياة تشد المتفرج، وتعيش وتنمو في مشاعره وفكره معاً.

في حوار قصير اجريته معه ونشر في صحيفة الجمهورية في بداية الثمانينيات سألت ثامر مهدي عن مفهومه للعمل الفني، فكانت اجابته مرتبطة بمفهومه لقيمة العمل الفني ومدى قدرته على الاستمرار قائلاً:" العمل الفني يجب ان يرتبط بالمعرفة، وان هذا الارتباط هو الذي يحدد قيمة هذا العمل من حيث ما يخلقه في وعي المتفرج او ما يعكسه في وعي الفنان، ويفضي ذلك الى ان كل عمل فني يفترض ان يصدر عن رؤية متكاملة للواقع ".

في واحدة من المتع التي عشتها مع الاستاذ، هي الحوارات التي كان يجريها مع المخرج عمانؤيل رسام عن تصوره لمسلسه " حرب البسوس "، آنذاك انتبهت للملاحظات الدقيقة التي يطرحها الاستاذ، ولحالة الانصات التي تملكت المخرج القدير، ومن خلال الحوار تتكشفت لي نظريته المتكاملة في الدراما، وفي اهمية الصورة التلفزيونية وتاثيرها على المتفرج، وفي الدور الذي يلعبه الحوار الذكي، واكتشف أن الأمر لا يتوقف عند كتابة سيناريو لرواية او تحويل حكاية تاريخية الى مسلسل تلفزيوني، لكنه ينزل الى التفاصيل، احساسه بالصورة، بالكلمة، بموسيقى الجملة، بالحركة الداخلية التي ستنفجر بحركة ابداعية على الشاشة، بشخصية الممثل ومقوماتها، بالعلاقة الجدلية بين مجموع الممثلين وبين النص الذي سيقدمونه. قال لي مرة عليك ان تقرا باستمرار، فكتابة السيناريو او المسرحية حرفة، والاتقان وحده ليس كافياً. إن الحرفة هي الجهاز الذي ينفّذ به الفنان الموضوع الذي يريده، لكن هذا الجهاز يحتاج أن يمتلئ بمادة، فلا يمكن أن تعمل السيارة من دون بنزين. و" بانزيننا " نحن الكتاب هذه واشار الى مئات الكتب التي كانت تحتويها مكتبته المنزلية.

سألته ذات مرة وهو يقول لي انه في الطريق لدخول عقده الخامس:

- بأي معنى يفهم ثامر مهدي الحياة؟

-بالولادة والموت

-لو قدّر لك أن تعيش بدون كتابة .. فماذا تفعل؟

-يمكن أن أصاب بمرض الكآبة، فالأيام التي ليس فيها مشاريع او دروس او اصدقاء، أيام تعيسة.

قلت له بعد ان شاهدت حلقات مسلسله "حرب البسوس":

- لو لو طلب منك ان تكتب نقدا.ماذا ستقول؟

- اقول ان كاتب السيناريو يحتاح أن يجدد نفسه من أجل أبداع اكثر جدية وحيوية لرؤيته وإحساسه.

ثامر مهدي المولود في بغداد عام 1942 تجرأت ذات يوم لاطلب منه ان يتحدث عن طفولته، فقد كنت اعتقد ان ثامر مهدي ولد هكذا، حياته كلها حوارات وجدالات وبحث وافلام ودروس، من الصعب ان اتخيله بصورة اخرى غير صورة الرجل الذي يثير زوبعة من الاسئلة ومعها فواصل من الضحك اللذيذ.. قال لي وكأنه يتذكر شريطا سينمائيا:

-كانت طفولتي طويلة وممتعة

يرحل ثامر مهدي ويسحب وراءه باب زمن جميل، اضاف فيه الى حياتنا نحن الذين عرفناه ما يجعلها اجمل وأقرب الى الفهم، وزودنا بما يجعنا اكثر وعيا، رحل وترك لنا على الاقل حق استثمار الذكريات الجميلة والصادقة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: تعدّ (العقيدة) موضوعا دينيا وفلسفيا وفكريا معقدا جدا وخطرا جدا، فبسببها نشبت حروب كبيرة راح ضحيتها مئات الملايين سواء بين الجماعات المنتمية لأديان مختلفة، او بين الجماعات المنتمية لدين واحد.. آخرها ما حصل في العراق بين عامي 2006 و2008 والتي اصطلح على تسميتها (الحرب الطائفية) فيما هي في جوهرها (حرب معتقدات).

في هذه الحلقة والتي تليها نقدم شخصية معروفة عراقيا وعربيا، يعد أول أكاديمي عراقي ينجز (81) كتابا معظمها تحاكم نقاط الخلاف بين اليمين واليسار الاسلاميين ليخرج بموقف فكري يرى انه الصائب وما دونه خطأ وباطل، ليكون الدكتور صالح الطائي أول داعية أكاديمي إسلامي عراقي شيعي يعتمد العلم في تحليل اثر (النص المقدس) في  صناعة: (عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد)، ويعمل على تحقيق مشروع كبير آخر يخص العقائد الإسلامية التي بسببها يختلف المسلمون ويتقاتلون! صالح الطائي

الدكتور صالح الطائي

نشأ (الولد صالح) وتربى على يد حكيم أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه يجيد الحكمة قولا وعملا. ويعترف له بأنه تعلم منه منظومة الأخلاق والآداب والدين، وان لمعلميه أيام زمانه كان لهم الأثر الكبير على نشأته.

واللافت في هذا الفتى انه قضى طفولته ومراهقته وشبابه في مدينه إسلاميه يصفها أنها كانت مغلقة؛ هي مدينة الكاظمية، بكل ما تحمله المدن الإسلامية من انغلاق على الآخر نتيجة المماحكات الفكرية والسياسية والعقائدية. ومع أنها تركت على نمط تفكيره أثرا جعله يندفع مع الباقين، مع القطيع دون تفكير بالتفرد، لكنه أدرك بعد حين أن الحياة لا يمكن أن تكون سعيدة ومفرحة اذا كانت بلون واحد، وأن طيف الألوان هو الذي يجعل الحياة بهيجة وسعيدة.

وهذا الوعي الإنساني المبكر هو الذي دفعه الى أن يعيد النظر في طريقة تفكيره، لا سيما بعد ان تخصص في محاكمة الفكر الديني والتاريخ الاسلامي والحضارة الإسلامية، بأن يحاور ويحاكم (عقائد) ترسخت في العقل العربي عبر أكثر من ألف سنة وكأنها مسلمات، محاكمة أكاديمية حداثوية متطورة تقوم على المنطق والعقل والحياد.

ما كان ولن يكون الأمر سهلا أن تنتقل من ضفة نهر المعرفة الى الضفة الأخرى، وتمشي وحيدا، فيما الملايين في الضفة الأخرى يمشون قطعانا. لكن الشاب (صالح) اكتشف في هذا العبور.. منطقة واسعه جدا ومبسوطة ومريحة بين ما صار يسمى اليمين الإسلامي واليسار الإسلامي، وأدرك أن أفضل طريق بين مناطق الاحتكاك والتماس والتشدد او التعصب بمفهومه السيكولوجي؛ هو أن  يتمتع بالاعتدال، ولا يكون محسوبا على هذا أو ذاك، ويحذر من (الدوغماتية) التي شغلت  مناطق الاحتكاك والتماس، بين ما يمكن ان نسميه اليمين الإسلامي واليسار، وهي محنة أصيب بها كبار المفكرين في الإسلام عبر التاريخ.

ولقد انجز داعية التنوير الإسلامي العلمي (81) كتابا معظمها تحاكم نقاط الخلاف بين اليمين واليسار الإسلاميين، ليخرج بموقف فكري يرى أنه الصائب، وما دونه خطأ وباطل. والتقط أخطر إشكالية فكرية هي (النص المقدس) ليحلل ويناقش أثره بأربعة مؤلفات في صناعة: (عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد). والمدهش انه اثبت أن كل هذه العقائد التي تؤمن بها المذاهب الإسلامية على اختلافها إيمانا منقطعا، وترفض مناقشتها تحت اي ظرف..لا أصل ولا اساس لها في العقيدة! وانها ولدت بسبب المماحكة والتنافس بين المذاهب وبتأثير سياسي خالص، قاده الاسلام السياسي.

وجاهر (الرجل) أمام جمهور مختلف الاعتقاد: (إن الدين الذي نتعبد به اليوم ليس الدين الذي جاء به محمد، لأنه تعرض الى كثير من التغيير الذي تسبب في تشويه صورته الإنسانية). ومع أنه أغضب جماعتي اليمين واليسار الإسلاميين، إلا أنه واصل منهجه العلمي الذي به يصحح ما تركه السلف واعتبروه مقدسا، لأنه رأى فيهم أنهم أقل منا فكرا واجتهادا وامكانيات، لا بسبب قصور عقلي، وإنما بسبب ما توصل له العلم اليوم من تطور هائل، وصل الآن الى ابتكاره الذكاء الاصطناعي، لدرجة انه يمكننا ان نسمع الآن خطبة لعمر بن الخطاب بصوته!

ومع أن الدكتور صالح يدرك أن الجامدين على النص والمتطرفين والراديكاليين لا يعجبهم هذا الامر، لأن اغلب الكهنة يتاجرون بدمعه المسكين لتحقيق مآربهم الخاصة كما يصفهم، وانهم سيخسرون الكثير من المكاسب إن تخلص اولئك المساكين من ثقافة القطيع.. فأن ما يعجبك في هذا المفكر الإسلامي (الدكتور صالح عبد حسن الطائي) أنه ماض في تحقيق مشروع كبير يشبه مشروع (اثر النص المقدس) ولكنه يخص العقائد الإسلامية المختلف بشأن أدائها، مثل: أداء الصلاة، الاذان، الوضوء وهي مسائل عقدية اختلف المسلمون بشأنها اختلافا كبيرا وغريبا، رغم أن النبي عملها أمامهم على مدى عشرين عاما.. وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

ينحدر الشيخ مصطفى عبدالرازق من أسرة عريقة في العلم والسياسة والعمل الوطني، فوالده “حسن بن أحمد بن محمد بن عبدالرازق” الذي يُعرف في كُتب التاريخ باسم “حسن عبدالرازق” من مؤسسي حزب الأمة ٢٠ سبتمبر ١٩٠٧، كان له دور وطني  في ثورة ١٩١٩، وما تبعها من أحداث حتّى اغتيل أمام مقرّ حزب الأحرار الدستوريين في ٦ نوفمبر ١٩٢٢، وعمّه محمود باشا عبدالرازق، هو من رعى الجمعية الخيرية التي أنشأها الإمام محمد عبده؛ حتى آتت ثمارها في الحياة الاجتماعية والفكرية، وأخو الشيخ مصطفى عبدالرازق هو القاضي علي عبدالرازق المعروف بكتابه “الإسلام وأصول الحكم” سنة ١٩٢٦.

وُلد الشيخ مصطفى عبدالرازق بقرية أبو جرج من قرى محافظة المنيا عام ١٣٠٤هـ – ١٨٨٥، الابن الرابع بين سبعة أبناء وبنتين، التحق في سن السادسة بكتّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ شيئا من القرآن الكريم، وفي سنّ الحادية عشرة التحق بالجامع الأزهر.

يُعد الشيخ مصطفى عبد الرازق، أقرب الأزهريين إلى الأستاذ محمد عبده، وأكثرهم تأثرا به فكريا وعاطفيا؛ حتى أنه توقّف عن الدارسة بعد موت الإمام قرابة عامين لشدة حزنه على رحيله، ومتأثرا بالأجواء الصدامية التي عاشها الإمام في آخر حياته، فأول كتاب بعنوان “الإمام محمد عبده” كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق عام ١٩١٤م.

بدأت علاقة الشيخ مصطفى بالإمام محمد عبده مبكرا منذ الطفولة، فكان الإمام صديق والده ورفيقه في العمل الوطني، وعندما سطعت شمس الإمام المعرفية بدروسه المسائية في الرواق العباسي بالأزهر على مدار سبع سنوات – كان الشيخ مصطفى طالبا بالأزهر، فلم ينقطع عن دروس الإمام الذي شجّعه على القراءة خارج مناهج الأزهر التقليدية، فقرأ العديد من الكتب في الفلسفة والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، حظي الشيخ مصطفى عبدالرازق بصحبة أطول مع الإمام من صحبة الشيخ المراغي الذي كان يعمل في السودان بترشيح من عبده، فلم يجلس الشيخ المراغي إلى دروس الإمام كما تداولت بعض المراجع، ولم يكن شاهدا على صراع الإمام مع الخديوي عباس الثاني، والمحافظين داخل الأزهر مثلما شاهدها الشيخ مصطفى عبدالرازق.

كذلك ارتبط الشيخ مصطفى عبدالرازق بصداقة قوية مع الدكتور طه حسين، فيروى الدكتور حسن محمود أنّه كان يرى “الشيخ الجليل في رقّته وحيائه يسير عصر كل يوم في الطريق الزراعي الطويل المنبسط أمام القرية منفردا حينا أو بصحبة صديقه د. طه حسين وزوجته الفرنسية، وكانا ينزلان صيف كل عام ضيوفا على آل عبدالرازق.

فعندما يعود أبناء حسن باشا عبدالرازق إلى القرية تدبّ في القصر الكبير الحياة، وإذا بهم في تواضع العلماء وسخاء أهل الريف يخالطون الكبير والصغير، ويعرفون أهل القرية شيوخا وشبابا وأطفالا يُلاطفون، ويسألون.. والقصر مأوى للغريب والمحتاج والموائد حافلة ليل نهار بالضِّيفان من كل فجّ.. كانوا قدوة في البرّ بالنّاس والتّرفق بأهل القرية يُعينون المحتاج، ويُعلمون الفقير، ويُشجعون على العلم… وإذا سافر أبناء قرية أبو جرج للدراسة في القاهرة فإنّه يُكتب في خانة ولي الأمر، بيت عبدالرازق إشارة إلى قصر آل عبد الرازق في القاهرة خلف قصر عابدين، يلتقي فيه يوم الجمعة أبناء أبو جُرج في القاهرة”.

ويقدم أحمد أمين صورة لمنزل صديقه الشيخ مصطفى عبدالرازق بقوله: “كان منزلا يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسرة الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، وكان أصدقاء الشيخ من الشباب ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل”.

ففي منزل آل عبدالرازق كانت تنعقد اجتماعات مجلة السّفور، وفيه أعلن عن قيام “الحزب الديمقراطي” ووضع مصطفى عبدالرازق، ومحمد حسين هيكل، وعزيز ميرهم، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي في ١٠ سبتمبر ١٩١٩، ميثاق الحزب الذي خرج منه الوفد، وحزب الأحرار الدستوريين والحزب الاشتراكي المصري.

بعد حصول الشيخ مصطفى عبدالرازق على العالمية من الأزهر دُعي للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي، إلا أنّه استقال بعد عام، وسافر إلى فرنسا سنة ١٩٠٩، ليُدرس في السوربون، ثم انتقل بعد عامين إلى جامعة ليون سنة ١٩١١، ليُحاضر في أصول الشريعة الإسلامية، واضطرته ظروف الحرب العالمية الأولى إلى أن يعود لمصر سنة ١٩١٤، بعد أن حصل على درجة الدكتوراه برسالته: “الإمام الشافعي أكبر مُشرّعي الإسلام”، وترجم إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنار ميشيل رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده، كما ألّفا معا كتابا باللغة الفرنسية عن الشيخ محمد عبده.

عُيّن الشيخ مصطفى عبدالرازق موظفا في المجلس الأعلى للأزهر سنة ١٩١٥، ثم مفتشا بالمحاكم الشرعية سنة ١٩٢٠، وفي سنة ١٩٢٧، انتقل الشيخ إلى جامعة فؤاد الأول بترشيح من الدكتور طه حسين؛ ليعمل أستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب حتّى صار أستاذ كرسي الفلسفة سنة ١٩٣٥م، وُصف الشيخ بأنّه رائد الفلسفة الإسلامية لإدراجها ضمن الدراسات الجامعية في الجامعة المصرية الأهلية، لكنه كان ينفي، ويُؤكد أنّ رائد هذا العمل هو المستشرق الإيطالي “سانتلانا”.

التفّ حول الشيخ فترة عمله بالجامعة ١٩٢٧-١٩٤١، عدد من صفوة الطلاب أصبحوا فيما بعد أساتذة للفلسفة والاجتماع، منهم: توفيق الطويل، وعلي النشار، ومحمد عبدالهادي أبو ريدة، وعثمان أمين، ومحمد مصطفى حلمي، وأحمد فؤاد الأهواني، قدّم لتلاميذه شخصيات لم تكن قد نالت حظها من الدرس والبحث، أمثال البهاء زهير الذي يمت إلى مصر والمصريين بصلة، والليث بن سعد، فقيه مصر الأول، والكندي فيلسوف العرب، والفارابي المعلم الثاني، وفخر الدين الرازي، ومن كتبه في الدراسات الفلسفية “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، “فيلسوف العرب والمعلم الثاني”.

عرف الشيخ طريقه إلى الصحافة منذ كان طالبا بالأزهر، فشارك شباب جيله من المثقفين  الكتابة في مجلة “الجريدة” حتى أغلقت في ٣٠ يوليو ١٩١٥، وشارك في جريدة “السفور” التي أصدرها “عبدالحميد حمدي” أحد أعضاء حزب الأمة، فكان من الأقلام التي كتبت في جريدة “السفور” مصطفى عبدالرازق، ومحمد كامل البنداري، وعزيز ميرهم، ومحمد حسين هيكل، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي ومحمد أحمد الغمراوي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد كامل سليم، ومحمد عبدالواحد خلاف، وأحمد زكي، وأحمد أمين.

وكان الشيخ مصطفى عبدالرازق أول شيخ أزهري يتولى وزارة الأوقاف، حيث تولّاها تسعِ مرّاتِ على فترات من ٢٧ أبريل ١٩٣٨م حتى ٢٧ ديسمبر ١٩٤٥م، كان فيها نموذجا للنزاهة والصدق والسماحة، أولاها: في وزارة محمد محمود، والثانية: في الفترة من ٢٧ أبريل ١٩٣٨حتى ٢٤ يونيو ١٩٣٨، وبعد أن استقالت الوزارة، وعندما أعاد محمد محمود، تشكيل وزارته الرّابعة أسند إلى الشيخ مصطفى عبدالرازق بك وزارة الأوقاف للمرة الثالثة من٢٤ يونيو ١٩٣٨حتى ١٨ أغسطس ١٩٣٩، وفي وزارة حسن صبري الأولى من ٢٧ يونيو ١٩٤٠ – ١٤ نوفمبر ١٩٤٠، أسند للشيخ وزارة الأوقاف للمرة الرابعة، وشغل الوزارة للمرة الخامسة في حكومة حسين سري الأولى من ١٥ نوفمبر ١٩٤٠ – ٣١ يوليو ١٩٤١، واختير وزيرا للأوقاف للمرة السادسة، وهو يحمل لقب باشا في وزارة حسين سري الثانية من ٣١ يوليو ١٩٤١ – ٤ فبراير ١٩٤٢، وتولّى الشيخ وزارة الأوقاف للمرة السابعة في وزارة أحمد ماهر الأولى من ٨ أكتوبر ١٩٤٤ إلى ١٤ يناير ١٩٤٥، وللمرة الثامنة في حكومة أحمد ماهر الثانية في الفترة من يناير ١٩٤٥، إلى ٢٤ فبراير ١٩٤٥، التي انتهى عملها باغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر، وأتت بعدها حكومة محمود فهمي النقراشي التي أسندت وزارة الوقاف للمرة التاسعة والأخيرة إلى الشيخ مصطفى عبدالرازق.

 ففي ٢٢ أغسطس سنة ١٩٤٥، أصبح منصب شيخ الأزهر خاليا بوفاة الشيخ مصطفى المراغي، فرشّح الملك فاروق الشيخ مصطفى عبدالرازق لمشيخة الأزهر؛ ما أثار أزمة بين القصر وهيئة كبار العلماء، إذ أنّ قانون الأزهر ينصّ على اختيار شيخه من بين أعضاء هيئة كبار العلماء، وقدّم الشيخ مأمون الشناوي وكيل الأزهر حينها استقالته من منصبه احتجاجا على تخطّيه في الاختيار، وهذا ما دفع وزارة النقراشي إلى تعديل قانون الأزهر، فألغت الشرط الخاص بعضوية هيئة كبار العلماء، وعدّلت المادة التي تشترط التدريس لمدة عشر سنوات في الأزهر؛ لتصبح خمس سنوات من التدريس في الأزهر أو في جامعة فؤاد الأول أو جامعة فاروق الأول، ووافق مجلس النواب بجلسة ١١ديسمبر ١٩٤٥على تعديل قانون الأزهر، وأسندت إلى الشيخ مشيخة الأزهر في ٢٧ ديسمبر ١٩٤٥.

 لم يستمر الشيخ مصطفى عبدالرازق في مشيخة الأزهر سوى بضعة شهور، فاضت بعدها رُوحه إلى بارئها.. ويروى الدكتور محمد البهي، وزير الأوقاف وشئون الأزهر (٢٩ سبتمبر ١٩٦٢ – ٢٥ مارس ١٩٦٤) في مذكراته: “حياتي في رحاب الأزهر” ما لاقى الشيخ مصطفى عبدالرازق أثناء مشيخته للأزهر (ديسمبر ١٩٤٥ – فبراير ١٩٤٧) من صعوبات ومعوقات من المشايخ وكبار رجال الإدارة الذين حرّضوا الطلاب ضده، ويصل “البهيّ” في سرده إلى دراما ما حدث للشيخ الجليل في آخر يوم من حياته، قائلا: ترأس الشيخ مصطفى عبدالرازق يوم وفاته اجتماع مجلس الأزهر الأعلى، وكان البهي ينتظره في مكتبه بناء على طلبه لحين الانتهاء من الاجتماع، فلما انتهى الاجتماع ودخل المكتب رأيته منفعلا وغاضبا، وقلما كان يغضب، فسألته: “أحدث أمر غير عادى في المجلس؟ فقال: هيّا بنا إلى السيارة لأوصلك إلى المنزل في طريقي، وكنت أنا أسكن في العباسية الشرقية، بينما هو يسكن في منشية البكري.

بعد ذلك، وأثناء الطريق ذكر لي، أنه كان من بين الموضوعات المعروضة على مجلس الأزهر الأعلى: تعليم اللغة الإنجليزية في معهد القاهرة على سبيل الإلزام كتجربةٍ يمكن أن يتضح منها فيما بعد: مدى استعداد طلاب الأزهر وهم كبار في السن لتعلم اللغة الأجنبية، وهذا ما تصدّى الشيخ حسنين مخلوف وكان بحكم وظيفته (مفتى الديار المصرية) عضوا في المجلس الأعلى للأزهر، ووصف قرار الشيخ بتعليم اللغة الإنجليزية في الأزهر بأنه إضعاف للدين، تلك الحجة -على حد تعبير البهي- التي كانت ولاتزال هي الحجة في مواجهة أي تغيير يطرأ على نظام الدراسة أو على الكتب الدراسية أو على المدرسين في الأزهر.. غضب الشيخ مصطفى من اتّهام الشيخ حسنين مخلوف، وواجهه بأنّ إضعاف الدين لا يكون أبدا عن طريق أسرة عبدالرازق، ويكفى أن ينظر أيّ شخص في آثار الجمعية الخيرية التي أنشأها الشيخ عبده، وقام على أمرها محمود باشا عبدالرازق؛ ليحكم على صلة أسرة عبدالرازق بالإسلام، ومدى عنايتها به”.

ويكمل البهي قائلا: “وصلت السيارة إلى منزلي فاستأذنت الشيخ، بعد أن وعدته بالذهاب إليه في منشية البكري في السادسة من مساء اليوم نفسه، لكن من الأسف ما إن وصلتُ إلى منزله حتى علمتُ بالخبر المؤلم، وهو وفاته أثناء استراحته بعد الغداء على أثر أزمة قلبية حادة”، ويُعلق البهي بقوله: “هكذا كانت وفاته بسبب بعض الشيوخ”!

رحل الشيخ عن عالمنا في يوم ١٥ فبراير سنة ١٩٤٧، بعد اثنين وستين عاما، وقد لخّص الدكتور “أبو الوفا الغنيمي التفتازاني” منهج الشيخ في أنّه كان يرى “بناء ثقافتنا وإعادة مجد أمتنا يكون بانفتاحنا على ما هو جديد مع احتفاظنا بالقديم بحيث لا يطغى القديم على الجديد، ولا الجديد على القديم، وأن نكون يقظين تجاه محاولة تشوية تراثنا الفكري الإسلامي، وأن نثق بأنفسنا وبتراثنا الحضاري، وأن ننشر ما لم ينشر منه حتى نحكم عليه الحكم الصحيح”.

***

ا. د. عبد الباسط سلامة هيكل

توفي الكاتب السويسري بيتر بيري، المعروف باسمه المستعار "باسكال مرسييه"، في برلين عن عمر 79  عاما. وقد برز عام 2004 ب 1977 مع روايته الثالثة "قطار الليل إلى لشبونة". والتي ترجمت الى 40 لغة وبيع منها ملايين النسخ وحُلت الى فيلم من اخراج بيل أوغست عرض عام 2013.

استاذ الفلسفة الذي تخصص بدراسة الوجود والزمن استعار اسمه من فيلسوفين فرنسيين هما بليز باسكال ولويس سيباستيان مرسييه.كتب مدير دار النشر التي تتولى نشر اعماله:" فقدنا مفكرا وروائيا عظيما، لقد أظهر بيتر بيري طوال حياته باسمه وتحت اسمه المستعار، كيف تلهم الأفكار والقصص بعضها البعض، فقد تعلم الفيلسوف من الراوي، وتعلم الراوي من الفيلسوف، تجلب رواياته أسئلة الإنسانية العظيمة إلى الحياة. كتبه باقية ونحن نشكره على ذلك". وصفته  مجلة دير شبيغل بأنه "كيس الملاكمة" يتلقّى لكمات النقد الأدبي.

في الخمسين من عمره قرر "بيتر بيري" ان يجرب حظه مع الرواية قال لزوجته:" لقد وجدت هدفي " يعترف ان كتابة الرواية هي اكثر الاشياء حميمية في حياته، نشر روايته الاولى عام 1995 تحت اسم مستعار قال ان الاسم الجديد يمنحه اناقة يفتقر اليها اسمه الحقيقي " بيتر بييري"، لم تحظ روايته الاولى ولا الثانية بالاهتمام فقد اعتبره النقاد مجرد استاذ للفلسفة يحشر انفه في عالم غريب عليه. العام 2004 سيصبح عام السعد بالنسبة له حيث نشر روايته الثالثة " قطار الليل الى لشبونة " التي وضعت في مصاف الروائيين الاكثر مبيعا، عام 2007 ينشر روايته الرابعة " ليا "  وعام 2020 نشر روايته الاخيرة " وزن الكلمات " وفيها يقرر مترجم ان يتحول الى روائي، بعد ان شعر بالملل من ترديد كلمات اآخرين.

 ولد بيتر بيري في الثالث والعشرين من حزيران عام 1944 لعائلة من الطبقة المتوسطة  في إحدى ضواحي مدينة بيرن السويسرية. كان والده موسيقيا، تعلق بالرياضه في صباه، لكنه سيتحول الى دراسة اللغات حيث تعلم اللغة اللاتينية و درس فقه اللغة الكلاسيكية في جامعة بيرن، انقطع عن الدراسة ليسافر الى لندن بعد ان ارتبط بعلاقة عاطفية، التحق بجامعة روبرت كارل في هايدلبرغ لدراسة الفلسفة واللغة. عام 1971 يحصل على الدكتوراه عن فلسفة الوقت عند الفيلسوف الانكليزي  جون ماك تاغارت، عمل استاذا للفلسفة في عدد من الجامعات الالمانية، عام 2007 اعلن تقاعده وانتقد النظام الجامعي الذي قال ان اموال بعض الجهات اثرت كثيرا على هيبة وجديته.

تركزت أبحاثه على الفلسفة التحليلية وعلم النفس الفلسفي ونظرية المعرفة والفلسفة الأخلاقية. عاش سنواته الاخيرة  في بيت صغير في ضواحي برلين، كان يمارس هوايته في تعلم اللغات حيث اتقن  اليونانية والفرنسية والإنكليزية والعبرية والسنسكريتية، ودرس اللغتين الروسية والعربية.

في روايته " " قطار الليل الى لشبونه " يخوض باسكال ميرسيه في مسألة الهوية الوطنية والشخصية، ونرى في ملامح بطل الرواية ريموندوس غريغوريوس الاستاذ المتخصص في اللغات القديمة، ما يذكرنا باوديسيوس ورحلته 20 عامًا من البحث عن المدينة والذات.

بطل ميرسييه في الخمسينيات من عمره يعيش منعزلا مع كتبه ودروسه وطلبته، تبدأ ازمته الوجودية عندما يلتقي امرأة برتغالية تطلب منه البحث عن كتاب بعنوان "صائغ الكلمات"، يتخلى غريغوريوس عن حياته الرتيبة ليبدأ برحلة اوديسية الى لشبونة، رحلة يمكن ان نصفها بانها مغامرة لمعرفة الإنسان لنفسه التي تبدو غريبة عنه، وسنجد ميرسييه يقتبس من كتاب المقالات للفيلسوف الفرنسي مونتاني هذه الفقرة التي تعبر عن الهدف من رحلة بطله  غريغوريوس:" لقد خُلقنا جميعا من قطع غير متجانسة ومن نسيج في غاية التشوه والاختلاف. لكل قطعة منه ولكل حلقة هويتها الخاصة. إننا مختلفون عن ذواتنا اكثر من اختلافنا عن الآخرين ".

تطرح الرواية عددامن الأسئلة حول تعدد الذات الإنسانية... "إذا كان صحيحاً أننا لا نعيش إلا بجزء صغير مما يعتمل في دواخلنا فما مصير بقية الأجزاء إذاً؟". حتى إن رحلة القطار في الرواية هي لاستكشاف الذات والبحث داخل النفس البشرية ومحاولة استكشافها بكل ما فيها من تناقضات عصية على التفسير والفهم. كما انها تناقش من زوايا اخرى الكثير من القيم، مثل الإخلاص والكرامة، وتسلط الضوء أيضاً حول الانظمة الدكتورية التي كانت تحكم البرتغال وتوحشها. فالطبيب اماديو في قطار الليل يعاني من إشكالية أخلاقية بين مهنته كطبيب تحتم عليه أن يعالج الجميع دون تفرقة، أو أن ينتصر لحسه الثوري، وذلك حين يصاب الضابط الذي يلقب بجزار لشبونة، فيحتار بين تركه يموت لأن في موته راحة للبلاد  او أن ينتصر لمهنته وينقذه من الموت المحقق، فيقرر ان ينتقذه مما يجعل اهالي يعاملونه باحتقار وكراهية شديدة، بعد ان كان بطلا في نظرهم .

في الكثير من الحوارات الصحفية يطرخ على مرسييه سؤال: هل كتابتك ذاتية؟ لا يستطيع  صاحب قطار الليل ان ينفي صفة الذاتية عن روايته، لكن يحاول ان يثبت ان معظم رواياته ذات طابع انساني. ان ابطال الروايات ينشغلون باللغة والفلسفة والبحث عن معنى الحياة، وهي اسئلة طالما تناولها باسكال مرسييه في ابحاثه ومقالاته الفلسفية  لكنه تعود ان يقول  إن رواياته لا تستند الى حياته، لكنه يتراجع احيانا ويعترف ان هناك صفحات داخل الروايات الخمسة التي نشرها تمثل جانبا من حياته، يصر على ان الرواية محاولة ذاتية لاستكشاف العالم، تعلم من كافكا كيف ان على الادب ان يكافح من اجل نصرة القيم الاخلاقية والانسانية. ما هو الادب ان لم يكن نوعا من انواع بث اليقظة في النفوس ؟ يعمل الكاتب على خلق عالم يتمتع بالغرابة والحيوية لكي يتمكن القارئ أن يجد نفسه فيه  ويختبر معتى وجوده

كيف انتقل مؤلف كتب "عمل الحرية" و"الكرامة، أسلوب حياة" من الفلسفة الى الادب يقول انه تعلم من الفيلسوف الفرنسي باسكال ان الانسان يبحث في داخله عن مكانٍ له.في اخر عمل روائي له " وزن الكلمات " يخبرنا ان الحياة ليست هي الحياة التي نعيشها، إنها الحياة التي نتخيل أننا نعيشها.".

قال بيري ذات مرة إن رواياته تتطرق  إلى نوع العلاقة التي تربط الانسان يذاته. يشرح بيري الأفكار الفلسفية الكامنة وراء "العلاقة التي نتمتع بها مع حياتنا الخاصة تسترشد بالسؤال: هل أفعل ما هو مهم حقا بالنسبة لي مع الوقت المتاح لدي. أم أن الوقت الذي سُرق مني بطريقة ما". "ثم يأتي السؤال التالي: ما الذي يعنيه المهم؟ الجواب يمكن أن يكون حقًا فقط: ما يساعدني في أن أصبح ما أتمناه." يقول ان معظم رواياته هي اشبه بمفاتيح مفاتيح تفتح ممرات للخيال، وتكمن السعادة في هذه الأروقة".

يرسم لنا في رواياته أجواء المدن التي يتجول فيها ابطاله، ويدع القراء يجمعون أجزاء الخارطة، ينهي روايته " فطار الليل الى لشبونة " بهذه الجملة الملهمة " الحياة ليست ما نعيشه، إنها ما نتخيل ان نعيشه ".

كان مرسييه قد قرر التوقف عن النشر، عَبر لناشره عن يأسه مما يجري في العالم، عام 2019 حمل كومة  من الأوراق لفها بشريط ووضعها في خزانته الشخصية  وأغلق عليها . قال للناشر " هذه الرواية سكتون آخر اعمالي، اتمنى ان تصدر بعد موتي". لكن " وزن الكلمات " ستظهر بعد عام، ولم يتخيل باسكال مرسييه انها ستكون  الكتاب الاخير في حياته وان قطار الايام سيتوقف وهذه المرة لم تكن لشبونه مجطته الاخيرة، وانما ضاحية من ضواحي برلين.

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

السيد محسن الامين العاملي

ولد السيد محسن بن السيد عبد الكريم الحسيني العاملي في قرية شقرا من جبل عامل سنة 1283هـ ونشأ فيها وأكمل مقدّماته العلميّة ثمّ هاجر إلى العراق قاصداً النّجف الأشرف بلد العلم والايمان ومدرسة المجتهدين، وأقام فيها سنوات يطلب العلوم الإسلاميّة وقد حرص السيد على تحصيل اكبر قدر من المعرفة فقد جدَّ في دراسته وحضر دروس المراجع والأعلام، وكان قويّ  الحافظة فطناً ألمعيّاً لبيباً شاعراً ينظم الشعر الممتاز، له في المديح والرثاء والحكمة ما يثير الاعجاب والثناء وقد انهى المقدمات والسطوح والمباحث العالية وحاز على درجة. الاجتهاد والفضل الواسع . من كبار المراجع وبعد اكمال السيد لمتطلبات الدراسة والتمكن وجد ان واجبه في بلاد اخرى فغادر السيد العاملي النجف الى مدينة دمشق الشام ليكون مدلا على الحقّ و مبشراً بالإيمان العلوي الصافي والصدق النفسي والتقوى، وقد بثّ في تلك البلدان مكارم الأخلاق والفضائل الإسلاميّة، وأقام في دمشق واعتبرها مركزه الدائمي. وهناك ظهرت دعوته الاصلاحية وأخلاقه الساميّة، وذاع صيته في البلدان الإسلاميّة كرجل مصلح وتنويري ومؤمن ايمانا صلدا، ولاجل ان تصل دعوته فقد أَلَّفَ وصنّف الكثير من الكتب والرسائل، وكان اكثرها اجابات عن الأسئلة التي ترده من اتباع المذاهب الاخرى فيجيب عنها. ثم جمعت فكانت جزءا مهما من مؤلفاته وله اراء تفرد بها في السلوك الطقوسي الشيعي.

ولاراء السيد العاملي مقدمات منها كتابات السيّد مهدي البصري (ت 1358هـ  (اذ له عدّة مقالات في الصحف العراقيّة ينتقد فيها بعض الممارسات في الشعائر الحسينيّة، وذلك بعد عودته من الكويت واستقراره في مدينة البصرة سنة 1343هـ، وكانت صحيفة "الأوقات" ـ التي تصدر في البصرة آنذاك ـ  قد ساهمت مساهمة كبيرة في نشر تلك المقالات.  ثم ألّف البصري رسالة مستقلّة دوّن فيها جميع انتقاداته وإشكالاته على بعض الممارسات في الشعائر الحسينيّة، سمّاها "صولة الحقّ على جولة الباطل" و طبعت في العراق سنة 1343هـ .

وفي عام 1344هـ صرّح السيّد محسن الأمين من مقرّ إقامته في العاصمة السوريّة دمشق بارائه في تاييد راي البصري في ضرورة تصحيح بعض الممارسات التي تعد من الشعائر الحسينيّة التي كان يُقيمها بعض محُبّي أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها ضرب الرؤوس بالسيوف (التطبير).

ولم يكتفِ الأمين بالتصريح فقط، بل دوّن آراءه في رسالة ألّفّها سمّاها "التنزيه في أعمال الشبيه"، أثبت فيها لزوم تنزيه مجالس العزاء من الأعمال غير المقبولة ودعا الى وجوب التحرّز من إدخال بعض المحرّمات في مجالس التعزية . وقد طُبعت هذه الرّسالة أوّلا بمطبعة العرفان سنة 1347هـ، ثم توالت طبعاتها، وتُرجمت إلى عدّة لغات.

وقد انتشرت هذه الرسالة وأحدثت ردود فعل عارمة في اكثر من مكان، ووجد الموافقون لآراء السيّد الأمين ان الرسالة معبرة عما في رأيهم من رغبة في اعلاء شان الحسين الشهيد بكل ما يليق به صلوات الله عليه فرفعوا أصواتهم عالياً مؤيدين دعوته،  وكأنّهم كانوا ينتظرون من يقوم بهذا الدور ممن هو على مستوىً رفيع كأن يكون من كبار المجتهدين،  فجاءت هذه الرسالة لتكون لهم صوتا دينيا معتبرا، لا سيّما أنّ صاحبها علم من الأعلام الذين لا يشكّ أحد في ولائه وإخلاصه وتفانيه من أجل الدين الحنيف. ولا في اجتهاده وعلمه الغزير فنشروا الرسالة في اوساط اهل العلم ومثلما وجد فيها المتوافقون معها فرصتهم للاعراب عن رايهم وجد فيها المخالفون لها فرصة للتنديد بآرائه التي تشكل خطراً يُهدّد في رايهم الشعائر معارضة شديدة وقاسية واستخدمت للمعارضة كل الوسائل ولقد عارضها بعض الناس ربما عن حرص ديني وخُلوص نيّة ومحبة للحسين ع وربما اتباعا لما الفوه من ممارسات  اسلافهم بحيث بدت عندهم تلك الممارسات فعلا مقدسا، وهم يعتقدون أنّ واجبهم الدينيّ يُحتّم عليهم ذلك وعارضها قسم منهم حماية لاوضاعهم الاجتماعية ومردوداتهم المالية .واستغلّها البعض الآخر ذريعةً لتمرير ألآعيبهم على النّاس البسطاء.

وكان السيّد مهدي البصري حادا في مقالاته ورسالته وشديدا في انتقاده لبعض الاعمال التي تقدم على انها من الشعائر الحسينيّة كضرب الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل. وبعد أن كتبَ السيّد مهدي البصري رسالته "الصولة" وكتب أيضاً عدّة مقالات اخرى في الصحف العراقيّة ينتقد فيها بعض الشعائر الحسينيّة، وبعد ان ظهرت رسالة التنزيه للعاملي مؤيدا البصري وجّه أهالي البصرة عدّة استفتاءات إلى علماء النجف الأشرف يطلبون منهم بيان الحكم الشرعي لهذه الممارسات، فكان جوابهم بين مؤيّد لها ومعارض. فأيّد اقامة تلك الممارسات كشعائر الميرزا حسين النائيني (ت 1355هـ) والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ت1373هـ)، وعارضها وحرمها وندد بها السيّد أبو الحسن الأصفهاني منتصرا للسيد العاملي الذي قام بالدفاع عن الآراء الواردة في رسالة "الصولة"، عندما شرع بكتابة عدّة مقالات في الصحف البيروتيّة، ينتقد فيها بعض الشعائر الحسينيّة كضرب الرؤوس بالسيوف وضرب الظهور بسلاسل الحديد. وعندها قام بتأليف كتابين مهمّين في هذا الموضوع هما: "إقناع اللائم على إقامة المآتم" ، و"المجالس السنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة وقد طُبعاً معاً سنة 1343هـ.

ان كتابه "المجالس السنّية" كتاب كبير يقع في خمسة أجزاء، ألّفه السيّد الأمين لكي يكون مرجعاً لخطباء المنبر الحسينيّ، فقد ضمّنه الوقائع التأريخيّة الصحيحة في حياة الأنبياء وأهل البيت (عليه السلام) ووقف عند الصحيح مما جرى في واقعة الطّف. الذي خصص الجزء الأوّل منه للواقعة وكان الجزء الثاني في قصص الأنبياء وغزوات نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، والثالث في حروب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والرابع في أخبار معاوية والإمام الحسن (عليه السلام)، والخامس في أخبار جميع المعصومين وتواريخهم. وقد طبع عدّة مرّات، وتُرجم جزؤه الخامس إلى اللغة الفارسيّة. ويشار الى ان ممن وقف ضد رسالة ودعوة التصحيح عند السيد محسن الامين العاملي وعارضها الشيخ عبد الحسين صادق العاملي (ت 1361هـ) وهو آنذاك من أكبر رجال الدين في النبطيّة بلبنان وكان لموقفه في ذلك الوقت ردود افعال مضادة ومؤثرة على رسالة "التنزيه" من مختلف طبقات المجتمع: علماء، وفضلاء، وخطباء، وشعراء، وعامّة الناس. واختلفت اساليب هذه الردود حسب مستوى الناس وثقافاتهم: فمنهم من اكتفى بكلمات الاستغفار والدعوة لصاحب الفتوى بالهداية، وأظهر آخرون معارضتهم لها باللسان والكتابة والشعر، وتجاوز البعضُ الحدودَ فاتّهم السيّد الأمين بتُهم باطلة، وتجاسر آخرون عليه وعلى مؤيّديه بالسب واللعن  لكن السيد كان يتحلى بالخلق الكريم فلم ينزل الى مستوى السباب والاتهام والافتراء كما تحلى بشجاعة عالية تعامل مع معارضةَ عددٌ كبير من رجال الدين، وفي مقدّمتهم مراجع دين، ومجتهدون، وكتّاب معروفون،كانوا يؤيدون تلك الممارسات او يخافون التصريح بمعارضتها من عموم الناس ولم ينته الجدل فقد بدأ ولا يزال يتصاعد بين اوساط المتعلمين والمثقفين ومعهم المتمسكون بالاعراف التي ورثوها عن ابائهم في طقوس عاشوراء.

السيد هبة الدين الشهرستاني

وهو السيد محمد علي بن حسين العابد يعود نسبه الى الشهيد زيد بن علي بن الحسين ولد في مدينه سامراء في٢٤ رجب ١٣٠١ هج وتعلم الاساسيات وهاجر مع والده الى كربلاء في١٣١٨ هج وبعد سنتين وهو في مقتبل العشرين  من عمره مكث بالنجف للدراسه  مدة خمس عشرة سنه ودرس على الشيخ حسين النوري وعلى الاخوند الخراساني واليزدي وتولى تدريس المعارف الدينية فكان من تلامذته الشيخ جعفر النقدي ومحمد رضا الشبيبي والشيخ علي الشرقي وغيرهم وقد انشا علاقات مع الشيخ محمد عبده ومع صحف الهلال والمقتطف وطاف في اغلب البلدان العربية والإسلامية وتعرف على الثقافات المختلفة.

له من المولفات مايقارب ٥٣ مخطوطا و ٢٥ مطبوعا منها الدين في ضوء العلم وكتابه الشهير نهضة الحسين ع وانشا الرجل عددا من الجمعيات الإسلامية لنشر الثقافة واصدر مجلة اسماها مجلة العلم كما اسس مكتبة ممتازة في الكاظميه كان يريدها ان تكون موسسة ثقافية كبرى

شغل السيد  هبة الدين مجموعة مهام منها  توليه وزارة المعارف عام ١٩٢١ وقاضي القضاة الجعفري ورئيس مجلس التمييز الشرعي لمدة ١٢ سنه وتوفي رحمه الله في ٦ شباط ١٩٦٧ ودفن في مكتبته بالكاظمية.

يعد كتابه نهضة الحسين ع من الكتب المهمة التي يجب الاطلاع عليها ففيه حدد معنى الخلافة عن النبي انها رعاية الملهم لتعليم الامه ارقى العادات وازكى العبادات وافضل المعاملات وهو هنا افلاطوني وفارابي النزعة اذ يرى ان مشروعية السلطة للمدبر الاعلم المربي للامة ويرى انها اخت النبوة وعلى هذا المعيار تساءل من من الخلفاء لديه هذه القدرة وهو بهذه المواصفات ليكون ولي امر الامه واشار الى اهلية امير المومنين والحسن ثم الحسين ع وعلى اهلية الحسين اعتبر السيد هبة الدين ان الحسين لا يزال وليا للامة ومعلما لها وعلينا ان نتعلم دائما من الحسين فهو الفلسفة لكل الحركات التقدمية وهو الاساس لكل المباديء العادلة وقد سرد السيد حركة الحسين بتفاصيلها من مكة الى كربلاء وما حصل فيها من احداث حتى استشهاده يوم العاشر من محرم ٦١  هج وما جرى لعياله ودور السيدة عقيله بني هاشم في مواصلة الثورة ثم تناول تاريخ العزاء الحسيني من عصر البويهيين حتى عصره رحمه الله

وقد اشاد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بالكتاب فقال ما زلت احث على قرائته رعاية للحق والعلم والمروءة فانه من الاثار الخالدة ومن أجل كتب الدهر وليس من كتب العصر ومن الابداعات الجاريات الى الابد وليس من الساريات الى امد

والجدير بالذكر انني حينما تابعت مصادر الكتاب وجدته يقف عند المصادر الموثوقة التى تنال احترام المحققين  ولم اجده يقف عند تلك التي أشار العلماء فيها الى الخلل   ويذكر السيد ان ما حدا به لتاليف الكتاب غفلة الناس عن اهمية ثورة الحسين ع فعرضها عرضا موضوعيا واجتماعيا رائعا.

طبع الكتاب في عام ١٩٦٩ لكنه قد فرغ منه في ١٣٤٣ اي  مطلع ستينات القرن الماضي ولكنه لم يطبعه خوفا من جهلة الناس

 وفي هذه السنه كتب السيد مهدي القزويني مقالات عن نهضة الحسين يدعو فيها الى تطوير شعائر الحسين واصلاحها وضمنها بكتاب.

 وكذلك السيد محسن الامين العاملي في كتابه اقناع اللائم على اقامة الماتم وكتابه المجالس السنية فكانت الاحتجاجات على السيد محسن الامين قد جعلت الكثير ممن يرى رايه ولكنه لم يفصح خوفا من جهله العامة الا السيد هبة الدين الذي ناصره علنا وقد عارض السيد محسن الامين الشيخ النائيني ومحمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الحسين صادق العاملي والشيخ محمد جواد البلاغي رغم ما بينهما من صداقة وطيدة.

اما من وافق السيد محسن الامين المرجع الامام السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ عبد الكريم الجزائري وهبة الدين الشهرستاني والشيخ جعفر البديري والشيخ محسن شرارة العاملي ولكن الكثرة الكاثرة ناغمت عوام الناس الذين تحركهم العاطفة.

لقد كان الاولى بدل هذه المعركة حامية الوطيس ان نتساءل كيف نستقدم الحسين ع من عالمه العلوي ليكون موجهنا لحياه ارقى وكيف نتوسل به لكي يرشدنا الى طريق بناء الانسان الارقى لاننا نعتقد ان الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة كما وصفه جده المصطفى ص.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

حينما تقف أمام المرآة، لتسترجع وجوها من خلال وجهك. وجوه تعْرفها وعاشرتها وتعايشت معَك عن قرب، طبيعي إنه (الزمان) بعض منها تلون بتلون الوهم! وبعض منها انسحب من المشهد الإبداعي والفني، لأسباب ذاتية؟ وبعض البعض ظل إلى حين ينحت في الصخر، ايمانا باللذة السيزيفية، وعشقه الأبدي لأبي الفنون. لكن طبيعة الوضع المستهجن، وتفاقم اللوبيات، سعى من كل الزوايا أن ينسف ذاك العشق، وبالتالي انهارت قيم المسرح في المغرب، ولم يعد إلا اللهاث والهرولة نحو "الدعم" كأن المسرح يصنعه "المال" بالعكس تصنعه الإرادة والرغبة والرجالات الصادقة، فبوجود رجالات والتي كانت تضحي بوقتها وبقوت يومها. من أجل إعلاء كلمة المسرح في الفضاء والمحيط الذي تنوجد فيه تلك الأيادي الناصعة، ناصعة وبدون مزايدات من عملاء الإحباط. بحيث الساحة المسرحية عبر ربوع المملكة، تتوفر وتحمل في أحشائها رجالا ونساء، كانوا قرابين للمسرح.

إذ يعتبر المسرحي "عبد السلام بوحديد" واحد من القرابين ومن زمرة الأثريين في الميدان المسرحي، ولا نغالي هاهنا، بأنه يعَد رمزا من رموز المسرح الطنجي، لكن المؤسف جدا لم ينل حظه من التعريف والمواكبة، كأحد قيدومي الحركة الجمعوية والثقافية ومن الفعاليات الأساس في النسيج المسرحي بطنجة. فحتى الإعلام المحلي وشباب المسرح لا يهتم أو يحاول ممارسة نوع من البحث عن مثل هاته "الأسماء والوجوه " التي لازالت قيد الحياة؛ لتوثيق ما لا يستطيع أحد توثيقه في المستقبل - وإن كنا نعلم مسبقا أن (لصوص المعلومات) سيتبنون هاته الورقة بدون ذكر [مرجعها] إنه طبع {أشباه الباحثين}- وأبعَد من هذا يمكن أن تفيد التجربة الفنية (الحالية) ليس بالنصائح والإرشادات؛ بل من باب المؤانسة والسند المعنوي، لفهم مكونات النسيج المسرحي . ماضيا لخلق نوع من المقاربة بين ماكان وماهَو كائن توثيقيا وتاريخيا. وممارسة. ولكن يبدو أن العَبت يُمارسُ علينا؟ أو نحن نُمارس العبت؟ أمام مشهَد لم يعُد يبالي بأي شيء[؟!؟] وإن تمت التفاتة الرائعة للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي بطنجة في (الدورة 11/- 2017 ) بتكريمه. وقبلها بتطوان في (الدورة- 18/2016) من المهرجان الوطني للمسرح. فكان من باب الأولى أن يتم تكريمه، من لدن الجمعيات الطنجاوية. قبل هذا الوقت؟ اعترافا لمساهمته الغنية والحافلة بالعطاء والإشعاع في المشهد الثقافي والمسرحي بشمال المغرب، ولا يمكن أن ينكر التاريخ، ولو حاولت بعض الأيادي/ العقول الآثمة ممارسة القفز عن بعض الوجوه، أو محاولة محوها كفعاليات في المشهد الثقافي والمسرحي ببلادنا ف "بوحْديد" مسرحي لا يعوض، في الساحة المسرحية المغربية عموما، إذ يعتبر بدون منازع من الوجوه الدينامية في زمن دينامية المسرح. ومن قدامى الممارسين المسرحيين بجهة الشمال، رفقة أسماء ووجوه كانت من رواد مسرح الهواة بالمغرب. لكن تنكر لها الفضاء ومسرحيوه: كعبدالعزيز شقرون/مصطفى الخمسي/ علي العمراني/محمد الصنهاجي/ محمد أبوزيد/ع العزيز الناصري /.../ وهؤلاء لازالوا على قيد الوجود.

مسارات:

بداهة أن مسار "عبد السلام بوحديد" حافل بالعطاء والحركية، بعدما رأى نور الوجود عام1940 وبدأ يحتك مع دروب طنجة الدولية، ونيله مقعدا دراسيا بثانوية محمد الخامس، وانخراطه في المشهد الفني، بهَوس لا نظير له، لخدمته، ولتلبية رغباته كذلك؛ وصقل شخصيته وموهبته من خلال مسارات متعددة /التشخيص/ التأليف/ التسيير/التنظيم/.../ ابتداء من عام 1954 حينما شارك في تأسيس جمعية "نور العمل" المسرحي، التي قدمت مسرحية "نهاية الظالم"والتي شخص فيها مع بعض الاخوة. وفي سنة 1956انضم الى جمعية "الوعي القومي" وشارك في عِدة أعمال تحت إشراف المرحوم [ع السلام الشاوني] لذي كان مؤلفا ومخرجا للجمعية. ومن بين تلك الأعمال/ عاقبة الفساد/ اللقيط/ جريمة شاب/ مال الشيطان/الوصي /.../ والغريب أن هاته العروض لم تكن محصورة في طنجة بل امتدت للعديد من مدن الشمال) ذاك الوقت) لكن في سنة 1959 سيغير الفنان " عبد السلام بوحديد" مساره بتأسيس فرقة الاتحاد المسرحي الطنجي رفقة المرحوم ع السلام المرابط / محمد الصالحي/محمد المراكشي / محمد غيلان /أحمد الصالحي/.... / حيث مثل معهم مسرحيتين الخيانة والنفاق / سقوط غرناطة / لكن مضايقة السلطات لهاته الجمعية بالذات، ساهمت في عودة المسرحي "عبد السلام بوحديد" إلى جمعية "الوعي القومي""1960 ومن خلالها شارك " بوحْديد" في تدريب وطني بغابة المعمورة مسار "تكوين الممثل" لكن الوظيفة فرضت عليه الانتقال لمدينة الرباط، ولكن ظل كمندوب لجمعية "الوعي القومي " يمثلها بالعاصمة، مما أتيحت له المشاركة مرة ثانية في تدريب وطني من (الدرجة -2) في مسار [تكوين الممثل] بغابة المعمورة سنة 1962 وبحكم توطيد علاقته بالجاليات، وتواصله معها، أتيحت للجمعية بجولة فنية بكل من بلجيكا وهولندا و ألمانيا بثلاث مسرحيات من تأليف و إخراح "عبد السلام الشاوني" وذلك في 1965 وبعْد مشاركتها في المهرجان الوطني لمسرح الهواة [الدورة-8/1966] بالرباط بمسرحية "من وراء الستار" و هي من تأليف و اخراج عبد السلام الشاوي. أصبح ع السلام بوحديد" رئيسا للجمعية "الوعي القومي" في 1968 بحيث أغلب أعمال الجمعية كانت له أدوار مُهمة؛ والتي أتقنها وأبهر الجماهير بأدائه؛ حسب ما قيل لي ممن شخصوا معه بعض الأعمال، ولم يقتصر دوره في التسيير والتمثيل بل مارس الإقتباس والتأليف والإخراج كمسرحية - الطماع/من المسؤول) إنجاز (للجمعية "الوعي القومي " ولكن البعض ينسب تأليفهما للمرحوم (الشاوني) ومع جمعية النهضة الثقافية التي أسسها في 1972 ألف نص /أصوات القادمين /الانتخابات / بين البارح و اليوم/ هاته الأخيرة تم إعطاؤها صفة [الجماعي] وفي هاته الجمعية: قام بإخراج مسرحية "لمن أشتكي" ومنها انطلق يمثل طنجة:كمستشار في المكتب الأول للجامعة الوطنية لمسرح الهواة سنة -1975 - الذي ترأسه (ع الكريم بناني([مراكش] ولم يفلح؟ وأعيد انتخاب مكتب ثاني في 1976 فكان الفنان" ع السلام بوحديد من ضمنه كنائب الكاتب، بحيث عاش ردحا من الزمن مع الجامعة! لكنه لم يستطع البوح عما كان في كواليس هذا "الكائن العجيب" في المشهد المسرحي، ولاسيما أنه ساهم في تأسيس الاتحاد المغاربي لمسرح الهواة . وظل متشبثا بالجامعة، حتى أنه رفض مشاركتنا والمساهمة في تأسيس الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي؛ والتي تأسست في عقر داره (طنجة)؟؟

الظاهرة:

فالمبدع " عبد السلام بوحديد" يعتبر مسرحي شامل وظاهرة تستحق الوقوف عنها في النسيج المسرحي، بعلاقته بالبنية المجتمعية . بمعنى: أن نشاطه المسرحي يتوازى ووظيفته بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، طبعا المسألة لا يحذوها المنع مثل وظائف [حمل السلاح] ولكن هو كيف استطاع أن يكافئ بين هوسه، ومحيطه الوظيفي الذي يغلب عليه الطابع الديني الصرف؟ وأن يوازي بين نشاطه المسرحي و نظرة الفقهاء للفن عموما وقضية "التحريم"التي هي المعيار الموجه للمسرح والطرب عموما؟  ولاسيما أن للحاج " بوحديد" علائق وطيدة مع الخطباء والأئمة والوسط الديني كله، وفي نفس الوقت يحْضر مَواسم أغلب الأولياء المحيطة بالشمال، هَذا حق فردي، وغِداء روحي له ولغيره، لكن هل المسرح كان لا يشبع روحه؟ ما أعتقد، فطعْمه وطعامُه [المسرح]: باعتبار أنه كان يتحمل مسؤوليات متعَددة، من جوانية المسرح، كرئيس جمعية النهضة الثقافية و الكاتب العام للاتحاد الإقليمي لمسرح الهواة ورئيس مجلس دار الشباب حسنونة وعضو في الجامعة الوطنية لمسرح الهواة!

هنا نستشف نوع من النضالية المتفردة بين الموهبة والعشق والوظيفة ذات إطار ديني بدون مواربة أو مزايدات، ولربما الإطار الوحيد في هَذا القطاع الذي انغمس في عوالم الإبداع والثقافة؟ ربما هنالك مؤثرات لاشعورية خلفتها علاقة "الثقافة والأوقاف" التي كان وزيرها أنذاك: الأستاذ "المكي الناصري " في بداية السبعينيات من (ق، م) إضافة لعلاقته قيد حياته ب" محمد حَداد" المناضل القح والذي يعتبر من الرعيل الأول في المسرح المغربي وفي الشمال (طنجة) بحيث في أوج عطاء [ع السلام بوحديد] الوظيفي شارك في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بتطوان(الدورة- 20/1980)إذ شخص في مسرحية "في انتظار زمن الجنون" تأليف "رضوان حدادو"/اخراج "عبد العزيز الناصري " وظل صامدا حتى ساهم في تأسيس الفرع النقابي للمسرحيين عام 1993 و تحمل مسؤولية الأمانة الجهوية للفرع .

فالحديث عن وجوه لم تنخرط في زمرة اللوبيات والمناورات والدسائس، أفضل ومن باب الأولى أن يهتم بها أي مهتم بالمجال المسرحي، ليس تقديسا أو تصنيما بل: تشريفا لهم وتعريفا بكفاحاتهم في المشهد الثقافي والمسرحي... وإن كانت لهم هفوات وأخطاء... بدل اللغو والإطناب، واللهث وراء أضواء حارقة وسيولات مالية، تساهم في هَدر الكرامة، والانبطاح كلي (هذا واقع)[الآن] ولا نغالي بأن هنالك وجوه وأسماء، تضاهي " الحاج- ع السلام بوحديد " في العطاء والتضحية؛ ولكن يبقى شيخنا قيدوم ثم قيدوم المسرحيين بدون منازع، ورجل بما تحمله الكلمة من معنى، في الجد والتضحية والمساعدة والضبط والحزم.

وبناء عليه؛ فهاته الأسطر ما هي تدوين سريع لتاريخ رجل/ علامة ساهم بكل ثقله في بناء صروح مسرح فاعل وفعال والذي حاولتْ و تحاول بعض "الأيادي الماكرة " هَدمه من أجل تسويق التفاهة والتسطيح في السوق الثقافية والإبداعية . وبالتالي لا تدعي لنفسها الإحاطة والشمولية في حق " ع السلام بوحديد " المسرحي الحر الذي لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يعَوض في منطقة الشمال.....

***

نجيب طلال

من الذكريات الصحفية الجميلة والطريفة التي لا تُمحى من الذاكرة أنني التقيت في منتصف حزيران 1997 نقيب الصحافة اللبنانية الأسبق الراحل محمد بعلبكي، صاحب جريدة "صدى لبنان"، على هامش اجتماع الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب في دمشق، وهو الاجتماع الذي شهد عودة نقابة الصحفيين العراقيين إلى الاتحاد العام للصحفيين العرب بعد انقطاع دام ما يقرب من السبع سنوات، وكان الرجل في وقتها قد بلغ الخامسة والسبعين من العمر، لكنه كان أكثر الحضور حيوية ونشاطاً ومرحاً وتفاؤلاً وقدرة على مد جسور علاقات التعارف والصداقة مع الحاضرين إلى الاجتماع من مختلف النقابات الصحفية العربية، وحينما كان يسأله البعض مازحاً متى تتقاعد يا أستاذ محمد، ألا يكفيك خمسة عشر عاماً وأنت نقيب للصحفيين؟ كان يجيب باسماً : ومن قال لكم أن الصحفي يتقاعد؟، كلمة المتقاعد تعني" مُت .. قاعداً "، والصحفي لا يموت إلا واقفاً. لكنه عندما بلغ الثانية والتسعين من العمر، أعلن في تصريح لجريدة كويتية انها المرة الأخيرة التي يكون فيها نقيباً للصحفيين بعد مضي 33 سنة متواصلة وهو في هذا المنصب، فاز فيها مرات عديدة بالإجماع، رافضاً أن يطلق عليه لقب " شيخ الشباب" إنما " شاب الشيوخ "، مؤكداً أنه لن يتقاعد عن الصحافة، بل سيتفرغ لكتابة مذكراته.

ولأن حياتنا عرضة للمصادفات التي تأتي من دون تخطيط مسبق، فقد يحدث أن نلتقي أشخاصاً لم يخطر في بالنا أننا سنلتقيهم مرة أخرى، لكن سرعان ما نجدهم امامنا وجهاً لوجه، ونلتقي بهم مجدداً، وإن كان اللقاء عابراً وفي دير تاريخي على ارتفاع أكثر من ألف متر عن سطح البحر، مثلما حدث لي وأنا ألتقي بعلبكي مرة أخرى بوجهه البشوش، ومزاحه اللطيف، وروحه المرحة التي تركته عليها في لقاء دمشق، وهو يعلمني أنه قد تراجع عن تصريحه الصحفي، ولن يتقاعد أبداً، وسيبقى نقيباً للصحافة في لبنان مدى الحياة!. أما هذه المصادفة التي جمعتني به بعد سبعة عشر عاماً من لقائي به في دمشق، فقد بدأت حين عرض عليَّ صديق العمر الصحفي والاعلامي اللبناني سعيد طه أثناء رحلتي إلى بيروت عام 2014 مرافقته لحضور مؤتمر لتجمع البيوتات الثقافية في لبنان يقام في دير مار سركيس وباخوس في بلدة قرطبة، وهي بلدة جبلية نائية بعد نهر ابراهيم في جبل لبنان يصل المسافر اليها عبر طريق معبد تليه طرقات جبلية وعرة تنقله الى وسط الغيوم التي تحيط بالطريق من كل جانب، ولما كان سعيد لم يصل الى هذه البلدة منذ عشر سنوات فقد التبست عليه بعض الطرقات وامضينا وقتاً طويلاً في البحث عمن يرشدنا الى البلدة والدير الذي وصلناه بعد طول عناء، وبعد ان انتهت جلسة المؤتمر الافتتاحية ليتوجه الحضور الى دعوة الغداء التي اقيمت في رواق قديم داخل الدير، وفي الباحة الخارجية الواسعة لدير مار سركيس كان اللقاء مع بعلبكي الذي لم تبدو عليه علامات التقدم بالعمر، بل أنه مازال محافظاُ على أناقته وحيويته ومرحه وذاكرته، ولفت انتباهي سيدة مجتمع جميلة وأنيقة كانت برفقته وتعتني به ولا تتركه لحظة واحدة، وخَّمنت أنها قد تكون ابنته أو احدى قريباته، أو سكرتيرته ، لكنها سرعان ما قدمت نفسها لي بأنها "مدام بعلبكي"! .

والمدام التي تزوجها نقيب الصحافة اللبنانية وهو على مشارف السبعين بعد وفاة زوجته، هي كما يبدو المحفزة له على عدم التقاعد، وان كره الكارهون من أصحاب الصحف والمطبوعات الذين يمنون انفسهم في كل دورة انتخابية بأن يعلن النقيب خلوده الى الراحة بعد هذه العقود الطويلة التي امضاها نقيباً للصحافة، لكن للمدام رأيٌ آخر، فقد وظَّفت خبرتها ولباقتها الاجتماعية لإقناع أصحاب النفوذ والمصالح والصحف والمطبوعات بأن يبقى زوجها نقيباً للصحافة تكريماً لتاريخه الطويل في العمل المهني. صحيح ان ادارة نقابة في بلد مثل لبنان تحتاج الى جهد قد يرهق رجلاً في مرحلة الشيخوخة مثل بعلبكي، وإن كان يشعر بالحيوية والتفاؤل، تسنده في ذلك سيدة واثقة من نفسها، لكن ليس من المؤكد أن وراء كل نقيب يرفض الموت قاعداً، سيدة!، ومع ذلك فقد اضطر بعلبكي في العام 2015، لأن يفقد رغبته في الترشح مجدداً بسبب الإرهاق والمرض والتقدم في العمر.

في الثاني عشر من آذار 2017 يرحل بعلبكي عن عمر ناهز السادسة والتسعين عاماً، امضى 32 عاماً منها نقيباً للصحافة اللبنانية، وهي ليست النقابة التي تضم الكتاب وأصحاب الرأي والقلم، فهؤلاء تجمعهم نقابة محرري الصحافة اللبنانية التي كان يرأسها وقتذاك ملحم كرم الذي توفي قبل بعلبكي بتسعة أعوام، لكنها أيضاً، أي نقابة الصحافة اللبنانية، لا يمكنها أن تبقى بمعزل عن التيارات السياسية والحزبية المتصارعة، وعن أصحاب النفوذ والسلطة والسلاح على الرغم من طابعها المهني المحض، ومن أدلة ذلك أن نقيبها الذي سبق بعلبكي، الشخصية السياسية والاجتماعية اللبنانية المعروفة، الأديب والكاتب والصحفي رياض طه، صاحب مجلة الأحد، وصحيفة جريدة " الكفاح" قد اغتيل في يوم 23 تموز العام 1980 وهو بمنصب نقيب الصحافة اللبنانية، وبعمر لا يتجاوز الثالثة والخمسين عاماً.

ولا يموت الصحفي إلّا واقفاً، لا متقاعداً، كما كان يردد محمد بعلبكي.

***

د. طه جزّاع - بغداد

في المثقف اليوم