شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

كانت المعارضة الإسلامية بعد استشهاد السيد محمد باقر الصدر والتي اتخذت من ساحات الهجرة ميداناً لعملها، منقسمة ومشتتة ولم تلتق على قائد واحد ولا حتى على مجموعة قيادة. ورغم أن السيد الصدر قد دعا الى تشكيل قيادة جماعية اسماها القيادة النائبة، إلا أن الشخصيات المعنية لم تستطع أن تنسجم مع بعضها البعض، فمات المشروع بسرعة.

في بداية تلك السنوات، أي منذ عام 1980 كانت مجاميع المهاجرين من الدعاة تصل الى سوريا وإيران، وسرعان ما يعيدون ارتباطاتهم التنظيمية.

وصل الى سوريا السيد محمد باقر الحكيم، وكانت قيادة حزب الدعوة تفكر في تلك الفترة بضرورة تقديم شخصية قيادية لتكون واجهة التحرك المعارض ضد نظام صدام، وكان من بين الأسماء المطروحة للتداول عميد المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله، لكن القرار وقع في النهاية على السيد محمد باقر الحكيم، لعدة مرجحات، أبرزها كونه أحد مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية، ويحمل توجهات خط الإمام الشهيد محمد باقر الصدر.

اصطحب القيادي الكبير السيد حسن شبر في سيارته الخاصة (فيات نصر) السيد الحكيم واتجها نحو إيران ليبدأ العمل كقائد للمعارضة. كانت الحرب قد بدأت، وتوقفت حركة الطيران الإيراني. وبعد رحلة عدة أيام وصلا الى طهران ليلاً فقصدا مباشرة منزل زعيم الثورة الإسلامية الامام الخميني قدس سره، فباتا ليلتهما هناك، بعد ان اجتمعا مع نجله السيد احمد الخميني رحمه الله.

بعد فترة وجيزة من العمل بدأ الاتفاق يتفكك بالخلافات، وهي الحالة التي تطبع معظم الاتفاقات السياسية في أجواء المعارضة والحكم. وقد تسارعت وتيرة الخلاف لعاملين أساسيين: الأول أن الاتجاه العام في الجمهورية الإسلامية كان على الضد من العمل الحزبي. والثاني أن المشرف على فصائل المعارضة كان رجل دين واسع النفوذ هو مهدي الهاشمي المقرب من آية الله الشيخ المنتظري رحمه الله، وكان الهاشمي يعادي مدرسة الامام الشهيد محمد باقر الصدر، ويكره امتداداتها.

نتيجة هذين العاملين واجه حزب الدعوة مشكلة العمل والتحرك في ايران، مع انه صاحب الجماهيرية والحضور الأكبر داخل العراق وخارجه، الأمر الذي يستدعي أن تدعمه ايران وتستفيد من معارضته لنظام صدام. وكان حزب الدعوة في تلك الفترة قد شكل قواته العسكرية (قوات الشهيد الصدر) من الشباب المجاهد حيث يتلقون تدريباتهم في معسكر الشهيد الصدر في مدينة الأهواز، ثم يتوجهون على دفعات في مهمات قتالية وعسكرية، وقد استشهد منهم المئات في مواقف بطولية نادرة.

لجأ مهدي الهاشمي الى دعم كافة الشخصيات والفصائل العراقية، لضخ أسباب القوة فيها وحملها على منافسة حزب الدعوة، وكانت منظمة العمل الإسلامي المرتبطة بالسيد محمد الشيرازي رحمه الله، وبالسيدين محمد تقي المدرسي وهادي المدرسي، من أكثر الجهات التي تلقت دعمه، لصلة قرابة وصداقة وثيقة وقديمة بينهم وبين مهدي الهاشمي.

لكن هذه المحاولات لم تسفر عن نتيجة مُقنعة. فلقد استمر حزب الدعوة القوة الأكبر في الساحة، فلجأ مهدي الهاشمي الى خطوة ذكية حيث استغل نفوذه وعلاقاته في إيران، ليُقنع قادتها بتبني مشروع تشكيل جبهوي يضم جميع الفصائل الإسلامية المعارضة، اطلق عليه اسم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق). وقد عبّر عن الهدف الحقيقي من وراء تأسيسه بقوله:

(لقد صنعنا المجلس الأعلى لنذبح به حزب الدعوة في حال وافق على الدخول فيه أو رفض ذلك).

وكان يقصد بذلك أن الدخول في المجلس الأعلى سينهي قوته وسيكون تحت سلطة القرار الإيراني، وفي حال رفضه فانه سيكون متمرداً على رأي ولاية الفقيه، وهي تهمة كفيلة بأن تُنهي أي كيان.

خطوة ذكية من رجل ليس لأساليبه حدود، فلقد كان مهدي الهاشمي سلطة كبيرة، ترتبط به خطوط سرية وشبكات مخابراتية وإمكانات عسكرية ومالية كبيرة. وقد تحول الى مشكلة ضاغطة على قيادة الدولة، يصنع لها الأزمات، ويؤثر على مراكز القرار، حتى كان يخشاه كبار المسؤولين الإيرانيين، لما كان يُعرف عنه من اعتماده أي أسلوب من اجل تحقيق أهدافه بما في ذلك الاغتيالات. ولم تنته مشاكله وأزماته حتى تمت محاكمته واعدامه بعد تدخل من الامام الخميني بضرورة محاكمته.

تم الإعلان عن تشكيل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، بنظام يجعل القرار النهائي للجنة إيرانية باسم (مكتب الاسناد)، فأي قرار تتخذه قيادة المجلس والهيئات التابعة لها، يجب أن يوافق عليه (مكتب الاسناد) قبل تنفيذه، بما في ذلك تعيين أصغر موظف وسائق وحارس.

لقد وضعت القوى الإسلامية العراقية نفسها في موضع المحتاج الى الوصاية، وظلت على هذا المنهج قانعة راضية به. لم تعرف قيادات المعارضة الإسلامية إنها تتعامل مع وضع إقليمي في غاية التعقيد، وأن حكوماته تستخدم أي عامل للسيطرة والتوجيه ضمن حسابات التوازن مع بعضها البعض. وكان عليها لكي تتجاوز أن تكون أداة صراع بيد الحكومات، أن تنظم نفسها تحت قيادة عراقية واحدة.

لم تستفد القوى الشيعية من تجربتها في المعارضة حين عادت العراق، فقد ظلت على اختلافها، وكانت تلك فرصة ثمينة للحكومات الإقليمية لكي تستغلها في دعم هذا واضعاف ذاك في عملية متحركة عميقة الأهداف.

للحديث تتمة

***

سليم الحسني

٢٢ كانون الأول ٢٠٢٢

 

يصعب قبول الفكرة التي تقول ان الشهرة هي التي دفعت الرؤساء نحو الكتابة، بأجناسها المتعددة (الرواية، الشعر، السيرة) وغيرها من أجناس الأدب، هناك بعض أمثلة لرؤساء دول طرقوا أبواب الكتابة، اختاروا الشعر منها، السؤال : ما الإغراء الذي تحققه الكتابة لعالم المشاهير؟ وما الغاية التي  يحققها هؤلاء في كتابات تبدو في أفضل حالاتها، لا ترتقي فنياً الى المستوى الشعري العالمي، أو تصنف ضمن تجاربه المهمة؟ هل وجد أولئك في الشعر بوابة سهلة في خوض مغامرة الشعر للعبور نحو المجد؟ أم أن الأمر يتصل بمسلمات ومنطلقات دالّة على هويات خاصة.

ان شخصيات مثل هوشي منه، وماو تسي تونغ، وسنغور على درجة من الاهمية في التاريخ الانساني الوطني، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا في الفكر والممارسة، لكنهم أثاروا فينا فاعلية الجدل، واقتحام القناعات المزروعة فينا، وجدوا سبيلهم للتعبير عن عالم أكثر انسانية، في مواجهة جحيم الحياة، من خلال الشعر، كانوا شعراء أصلاً فارادوا ان يكتبوا تاريخهم شعراً.

محاولة تتبع من هذا النوع، تدعو لتفحص العالم الشعري لدى هؤلاء وما يحمله من اشكال للوعي وتداعيات لديه، ويمكن العودة الى تفحص تمهيدي لحوار محتمل بين الشعر وعالم السياسة بوصفهما ممثلين لثقافتين مختلفتين، ومن الانصاف القول ان هؤلاء (الرؤساء) لم يرد في خاطرهم ان شعر المقاومة ضد المحتل الاجنبي سيقودهم الى سدة الرئاسة في بلدانهم، انما الشعر كان قادراً على امتصاص رحيق الكارثة ومقاومتها في حينها، كان الذيوع والانتشار يعود للشعر ذاته، يحمل حرارة الانفعال في الأحداث المفصلية في تاريخ الشعوب، وهكذا كانت الفرصة مواتية للشعراء، أن يقولوا ما لا تستطيع قوله البندقية، واكتشف الشعراء أن فنهم يكاد يحمل خصوصية الهرب من سطوة الرقابة والبوليس لتصل قصائدهم إلى آذان الجمهور وأفئدتهم. كانوا نماذج مكتنزة بالمعرفة والرؤى.

أهم هذه الشخصيات الثلاث وأكثرها حضوراً متميزاً التي نتناولها في الدراسة هي شخصية الشاعر (الرئيس) سنغور إذ تحمل قصيدته معاني عديدة تقدم للإنسان معرفة لا تضارعها معرفة، لا يستطيع أن يوفرها علم آخر لأنها وحدها تحلق فوق الواقع، انها انشودة الأسرة والوطن والصداقة والحب واللامرئيات، وسنغور من خلال أشعاره وكفاحه السياسي أراد أن يفعل الكثير ليحرر شعبه ويرد اليه وعيه بماضيه وعظمته وان يلهب في الوقت نفسه مشاعر التقدير والتعاطف والاعجاب عند اولئك الذين لا يعرفون أفريقيا، أو الذين لا يعرفون عنها سوى أفكار واهمة.

حياة الشاعر سنغور (1906-2001) حافلة بالأحداث والمفاجآت، فالطفل المتسكع المتمرد على ظروف الرفاه والبذخ أصبح أول رئيس للسنغال عام 1960ثم أعلن تخليه عن الحكم طواعية عام 1980، ولد سنغور في وسط عائلة ميسورة، أبوه كان تاجراً، الا انه تعاطف مع فقراء السنغال، مما عرضه لعقاب أبيه، تلقى تعليمه في المدارس الكنسية الفرنسية بالسنغال، ثم انتقل عام 1928 الى العاصمة الفرنسية ونال شهادة الليسانس من جامعة السوربون برسالة عن (الجنس عند بودلير)، صدر له عام 1948 ديوان شعري (ظلال سوداء)، قصائد عن الحرب والأسر، كما صدر له كتاب (الشعر المالاغاشي) الذي كتب سارتر مقدمته، في عام 1958صدر له ديوان (الأثيوبيات)، وديوان المسائيات عام 1961،ومنح درجة الدكتوراه الشرقية من جامعة السوربون.

فضلاً عن ذلك كان سنغور واحداً من كبار زعماء افريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين، اتسمت الحياة السياسية في عهده بالاستقرار، وتبني التعددية الحزبية في العمل السياسي في الاتجاه نحو اليسار والليبرالية.

القصيدة عند سنغور تضم حشداً من الصور اللامعة، تتراءى أحياناً هادئة وتتلاحق مثل نهر يتموج ماؤه في ضوء القمر، صور متزاحمة ولمّاحة دائماً، مهمتها أن تؤدي الى معنى خفي عميق، الطبيعة كلها، وخاصة الطبيعة الأفريقية مدعوة في القصيدة لخدمة الرمز.

ليست القصيدة السنغورية نسيجاً من الصور فحسب، بل ان أبرز ما فيها إيقاعها، وفي دراسة له عن سان جان بيرس، يعترف بأنه انسان سمعي، تثيره القصيدة في ايقاعها الشعري وموسيقاها، الصورة برأيه بدون ايقاع تفقد قيمتها الشعرية، وهو كأفريقي، يتمتع بحساسية مفرطة للايقاع وتنوعاته الدقيقة، ايقاع القلب والدم والشهيق والزفير والليل والنهار والموت والميلاد.

الكلمة أساس الايقاع في شعر سنغور، انها ليست جوفاء بل من ماء ودم، أشعاره تحفل بكلمات تشير الى مظاهر الطبيعة التي طالما عاش الافريقي في صراع معها منذ فجر التاريخ. في اشعاره تتردد كلمات بعينها (الماء)، المتدفق الذي يجلب معه الحياة، ثم (الريح) التي تثير العواصف وتشيع الخوف، و(الليل) الساحر الذي يبعث على السكينة، وكلمات اخرى: الدم، الأيدي، العيون، الصوت، والأصوات في شعره تتعدد وتتنوع، منها ما هو مدوّي، ومنها ما يهمس ويتمتم، وأصوات النائحين، والمحاربين، وغيرها لتكشف جميعاً عن سر الوجود.

تتمتع لغة سنغور بوفرة محصوله اللغوي وثرائه وبساطته، وكلماته جديرة حقاً بالاختيار والانتقاء، واذا كان الايقاع عند سنغور عنصراً جوهرياً في بناء قصيدته، فانه لا يضحي بموسيقية الشعر في سبيل الايقاع، فاذا كان الزنجي يُرقص حياته فمن المؤكد انه يغنيها أيضاً.

سنغور يتمتع بحساسيةفائقة للموسيقى التي لا تنفصل بحال عن مظاهر النشاط الاجتماعي الأفريقي كافة، منذ أقدم العصور، ليست الموسيقى نشاطاً جمالياً بسيطاً، بل هي قادرة على محاكاة الطبيعة، حافلة بالأصوات والضوضاء، وهذا هو الجديد الذي أضافته الموسيقى الأفريقية الى تراث الموسيقى العالمية.

الشاعر مدين بلا شك الى سني طفولته التي أمضاها في الغابة والحقول مخالطاً الفلاحين، مصغياً لأناشيدهم وتراتيلهم وأساطيرهم التي تتحدث عن عالم مدهش غير منظور، عالم أسرار الروح الافريقية التي عبّر عنها أصدق تعبير في أشعاره، يشدّه وثاق سحري اليه:

أيها الموتى يا من أبيتم أن تموتوا وعرفتم تحدي الموت/

حتى في السي، في السين، في عروقي الرقيقة، ودمي الذي لا يفنى/

له قصيدة مشهورة بعنوان (صلاة للاقنعة) يقول فيها:

يا اقنعة يا اقنعة!

احييك في صمت/ لست انت الآخر، جد ذو رأس أسد/

أنت حارس هذا المكان من كل ضحكة. امرأة وابتسامة فاترة/ الافريقي يعيش في شركة أليفة مع الموتى، ويصغي لصوتهم الحي.

***

جمال العتّابي

في بداية عام 1984 قرر حزب الدعوة تشكيل لجنة ثلاثية لجمع تاريخه وتراثه من قياداته والشخصيات التي انتمت اليه، سواء استمرت معه في التنظيم أم انفصلت عنه.

كان العضوان الآخران في هذا المشروع المرحوم الأستاذ صالح محمد الأديب أحد مؤسسي حزب الدعوة، والاستاذ الكبير السيد حسن شبر رحمهما الله. وقد استفدت من تلك التجربة الكثير، ولا أزال أشعر بفضلهما عليّ في فتح أبواب مقطع مهم وحساس من تاريخ العراق، كاد أن يلفه النسيان، كما أن طبيعة العمل والاطلاع على خصوصيات مهمة، ووثائق نادرة، وأحاديث سرية، ومواقف غير معلنة، وغير ذلك من شؤون الحدث التاريخي، تعد تجربة نادرة لمن يهتم بالتاريخ.

خُطط للمشروع أن يبدأ نشره حالما تسمح الظروف السياسية، وقد بادر الاستاذ حسن شبر بالكتابة ونشر عدة أجزاء عن تاريخ حزب الدعوة.

لقد فرضت المهمة لقاء شخصيات لم يتحدثوا من قبل عن وقائع التأسيس وظروفه وما تلاه، وبقوا صامتين يختزنون تجربة كبيرة بداخلهم، يحرصون على تفاصيلها الدقيقة، ويشعرون بالخوف عليها من الضياع، لكن الظروف لم تكن تسمح بالبوح بها أو نشرها في وسائل الإعلام، ففي أواسط الثمانينات كان نظام صدام على أشده في القوة والقمع، وكان لا يزال في العراق رجال من الرعيل الأول يكتمون انتماءهم للدعوة، ويتخفون عن الانظار، مما جعل مجرد التفكير بالنشر يتلاشى كلياً بمجرد تذكر اصدقاء الأمس.

لم يكن الحصول على تلك المعلومات النادرة، من أفواه أصحابها، عملية سهلة لهذه الاعتبارات ولأسباب شخصية أخرى تتعلق بهم، لكن السيد حسن شبر والأستاذ صالح الأديب بذلا أكبر الجهود لإقناع الشهود على التاريخ بالكلام، وهذا ما كان.

مضت الشهور والسنوات، والمعلومات تتجمع بشكل تصاعدي، تتطلب السفر والتنقل والسهر، وكان الاستاذ شبر حيوياً نشطاً لا يتعب، ولا يتكاسل، بل كنت أشعر في أوقات كثيرة أنه أكثر نشاطا مني وأنا الشاب يومذاك.

عندما رحل عنا الحاج الأديب بعد مرض لم يمهله طويلاً، شعرنا بوحشة كبيرة، إنه الركن الثالث والأول في المشروع، إنه الروح الطيبة الندية التي تمسح بكلماتها العذبة على أحاسيس التعب، فتفجر القوة بأقصى مدياتها.. إنه القلب الكبير الذي يستوعب الاخرين دون أن يضيق بهم، بل كانوا يضيعون في فسحة صدره الرحب.. إنه الإنسان الفياض تواضعاً وأدباً، يتصرف كداعية ينتمي لحزب الدعوة وليس أحد مؤسسيه.

ذات مرة شكوت له شخصا التقيته ليزودني بمعلومات عن مقطع من تاريخ الدعوة، وقد نال من بعض قدماء الدعاة، فأطفأ حرارة الشكوى بحكمته التلقائية: (هذه طبيعة البشر، بعض الناس تكون ردة فعله قاسية، وبعض الناس يمتص ردة الفعل، أنا أقول لك أن قسماً من الحق معه وهذا من حرصه، ولكن عليه أن يغير من نفسه فلا يقسو على أخوته، وأرجو في المرة القادمة حين تلتقي به أن تخبره بأن أخوته يكنون له التقدير والاحترام).. كلمات صادقة كان يلتزم بها قبل أن يقولها.. كان يجسدها في سنوات عمره الطويل، فخرجت واضحة مقنعة. ثم أنهى كلامه بالقول: (نحن أمامنا مهمة جمع التاريخ، أما المشاعر فهي خاصة بأصحابها، ونحاول ان ننصح ونصحح الخطأ اثناء هذه المهمة). وقد علمت بعدها، أن الحاج صالح الأديب قام بالفعل بزيارة ذلك الشخص وأعاد التواصل معه.

أيام وشهور وسنوات، كنت أسجل وأدون أحاديثه عن تاريخه في حزب الدعوة، يذكر الوقائع بتفصيل مذهل كأنه يقرأها أمامه، كأنها حدثت قبل لحظات، بدقة وأمانة علمية، حتى انه أحياناً يستدرك فيغيّر كلمة مما قال، مع ان المعنى هو واحد، لكنه يريد أن يذكر نص ما سمع قدر الإمكان.

في كل مرة، كنت أشعر بأن الجلسة معه قصيرة جداً، لكن عقارب الساعة تخذل المشاعر، فاقترح عليه أن نواصل الحديث في يوم آخر، فيبادر بأدبه الجم المعروف عنه: (لقد أطلت عليك، لم أقصد أن أتعبك) فاعتذر اليه بأني لا أريد إرهاقه أكثر. ويواصل حديثه حتى أشعر ان الوقت تأخر به، وأن أمامه ٤٥ كيلومترا يجب أن يقطعها في طريق عودته لمنزله في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

كنت أحاول في مرات كثيرة أن أضرب معه موعداً مبكراً، حتى يمكنه العودة لمدينة (كرج) قرب (طهران) قبل مغيب الشمس، أو أزوره في مسكنه، لكنه يرفض ذلك، مراعياً عملي كرئيس تحرير لجريدة الجهاد وساعات الدوام، وكان يقول: (هذا عمل مهم وذاك عمل مهم، ولا ينبغي أن ننجز عملاً على حساب آخر). وقد اقنعته بزيارة منزله أيام الجمع، لكنه عاد بعد فترة وأصر على عقد اللقاءات في مكتب جريدة الجهاد في طهران، لأنه شعر بأن الاستاذ حسن شبر لديه التزاماته الكثيرة وان طول الطريق يؤثر على جدوله المزدحم.

لم أكن أسجل من الأستاذ المرحوم صالح الأديب سيرته الشخصية، بل هي سيرة حزب، الى جانب سلسلة دقيقة الانتظام من القيم والأخلاق النادرة.

أيام وشهور وسنوات بين كبيرين في خصائص كثيرة (شبر والأديب) أقضي ساعات طويلة، وأحياناً النهار بطوله وشطراً من الليل، تتلوها المكالمات التلفونية مع الاستاذ شبر، حول جدول المواعيد واللقاءات والأسفار، وحول تنظيم هذه المجموعة من المعلومات وتلك، ومستجدات أخرى.

أوراق وأشرطة تسجيل ووثائق.. تحكي قصة مسيرة حركية انبعثت من عتمة الزمن، من ركام ثقيل من الجمود والإحباطات.. من قناعة سائدة بأن الإسلام طقوس مجالها مساجد باردة، وكتب تتحدث عن سيرة الماضين دون اكتشاف دلالاتها، وتفاسير قديمة للقرآن تعيد ما كتبه السابقون.

من تلك الضواغط الكابحة، ومض ضوء في الظلام، كان بريقاً لامعاً، تحول في غضون سنوات قليلة الى حركة تزيل الجمود، الى تيار يصنع تاريخاً جديداً، اسمه حزب الدعوة الاسلامية.

لكن الصورة المشرقة لعقود من النضال والكفاح والتضحية والإخلاص، ضاعت بعد عام 2003، فتشوهت مواقف المضحين في السجون والقبور والميادين، على يد مجموعة قليلة العدد، فقدت توازنها أمام المكاسب والامتيازات والسقوط في الفساد، فصار اسم الدعوة سُبة وللأسف، لأن الناس لا يهمهم الماضي والمفهوم والنظرية، إنما يحكمون على ما يرون أمامهم، ولهم الحق الى حد كبير. وكانت النتيجة أن الصفحات الوضّاحة احترقت على يد أشخاص كشفتهم الأيام سريعاً في أول تجربة مع الإغراء السلطوي. والأكثر مرارة أن هؤلاء لا يريدون أن يطفئوا النار المشتعلة وهي تلتهم بقايا صفحات حزب الدعوة.

***

سليم الحسني

١٧ كانون الأول ٢٠٢٢

 

 

منذ أوائل الثمانينات كانت زيارات المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله لإيران متقاربة، وكان جدوله في تلك الزيارات أن ألتقيه يومياً من الساعة الثامنة صباحاً الى العاشرة.

كانت الأحاديث تتنوع وتتشعب، عن حزب الدعوة الإسلامية، والمعارضة العراقية والفكر والثقافة والسياسة.

في إحدى زياراته قدمتُ له كتابي (المعارضة العراقية، رؤية من خلال الشعر) وكان رحمه الله قد كتب مقدمة الكتاب. ولأن فيه استشهادات نقدية عن قصائد من فترة الستينات، فان ذكرياته عن تلك المرحلة جرت على لسانه، وراح يحدثني عن عمل حزب الدعوة الإسلامية في تلك السنين الصعبة، وكيف أنه كان حركة لها وزنها وثقلها، استطاعت أن تغيّر وجه العراق وتنقل أجواءه من الركود والخمول الى أجواء الوعي والمبادرة.

تحدث عن كتابه (إسلوب الدعوة في القرآن) وقال بأن أجواء العمل الحركي هي التي جعلته يكتب ذلك الكتاب، وأن تلك الأجواء وما بعدها هي التي مكّنته من تأليف (قضايانا على ضوء الإسلام)، وكان يشير أن تلك المرحلة هي التي صنعته وصنعت غيره بحكم المعاناة والاندكاك مع واقع ما كان يجري.

ثم دار الكلام عن الفهم الواقعي والفهم النظري، فأخذ يتحدث بلهجة فيها قدر واضح من رغبة المراجعة الجادة، وأشار الى ان الفهم النظري بعد فترة من العمل صار يطغى على الفهم الواقعي. وأذكر كلمته بنصها: (نشرات الدعوة أخذت تميل الى التجريد).

هزّتني كلمته، فلم نكن وقتها نتقبل رأي من يقول بأن النشرة قاصرة. كانت مقاييسنا تقوم على نظام صارم يدور حول النشرة باعتبار أن (صوت الدعوة هي النبراس) تلك المقولة المتداولة في أجوائنا، محاطة بهالة من القدسية والفخامة والسمو في طبقات عليا لا تقبل النيل والقدح.

ثم جاءت هزة عنيفة أخرى وهو يتحدث بطريقته الهادئة التي يملك بها روح السامع وعقله. فحين سألته عن رأيه في (المرحلية) المعتمدة من قبل حزب الدعوة كخط استراتيجي في كفاحه. أجاب بأن المرحلية كفكرة صحيحة، لكن ليس بهذه الطريقة الهندسية التي اعتمدتها الدعوة.

لم يؤثر بي رأي السيد فضل الله، فلقد عشتُ وكبرت على صحة هذه النظرية فكيف أتخلى عنها بسهولة؟ لكنني بعد أن تركت العمل الحزبي، صرتُ أنظر الى السنوات الماضية على أنها كانت تحلّق بعيداً عن الواقع.

كان حزب الدعوة ناجحاً الى أبعد المستويات في عمله التغييري وسط المجتمع، لكن تقديراته السياسية لم تكن واقعية. كان الفهم النظري قد غلب على الفهم الواقعي، فكان ما كان.

للحديث تتمة

***

سليم الحسني

٩ كانون الأول ٢٠٢٢

 

بقلم: هيلاري مانتيل

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما اندلعت أخبار مشكلة سلمان رشدي، أول ما توارد إلى خاطري اليوم الذي حاولنا به شراء مكتبة في مدينة جدة. وجدة مدينة سعودية كوزموبوليتانية وشديدة الرخاء. ولو قارنتها بالعاصمة الرياض، ترى أنها متحررة ومتلونة، كذلك ثرية جدا. ومراكز التسوق فيها ذات هواء مكيف وقارس البرودة،  وتشبه معابد من الرخام والزجاج. يخيم علبها لون أخضر وتتخللها نافورات ذات خرير. وهي محاكاة لتصور المسلم عن الجنة. ولكن تغيب عنها الحوريات، يمكنك شراء فرو ثعلب، إن أردت، أو بورتريه للملك فهد، أو كعكة محلاة أمريكية أو كنبة عملاقة مدمجة بجهاز موسيقا مع مكبر للصوت إن كنت مغرما بهذا الذوق، غير أنك لن تجد مكتبة في أي ركن من هذه الأركان. وكلامي يدور عن عام 1983. وعلى الأرجح إن السبب هو عدم وجود طلب عليها.

حينما سافرت أول مرة إلى جدة توقعت أنني في مدينة محرمة: مدينة دون مكتبة. ففي مراكز التسوق رفوف للصحف، والمجلات، بعدة لغات، وفي بعض الحالات عدد محدود من روايات غرامية حيث تلتهب العواطف بين الطبيب والممرضة. وهناك مخازن تدعى متاجر الكتب لكنها تبيع القرطاسية. ولا شك يوجد فيها الكتاب، القرآن الكريم. والرفوف التي تحمله تكون معزولة وبعيدة عن متناول الأيدي. وعليها المجلدات الضخمة ذات التجليد الصلب والبسيط التي تتشابه في ذهني مع موسوعات الأطفال. وكانت مثل هذه الموسوعات متوفرة في بيوت الطبقات الطموحة لدينا. بالنسبة للرقابة يومذاك فقد كانت متنمرة، غير أن الضحية هي الصور وليس النص المكتوب. أما الصحف الأمريكية والأوروبية فقد كانت تغطي بعض الفقرات منها خطوط سود مرسومة بأقلام شنيار غليظة*. والمستهدف بالبتر والحذف هو الصور وليس أعمدة الأخبار. والمقصود بالصور صدر جوان كولينز العاري، وساقي زولا بود الممشوقتين. وهذا على سبيل المثال فقط. الثقافة في السعودية هي ثقافة فيديوهات. فلربات البيوت أمهات. والأم تعيش في الخيمة لكن البنت تنفق أيامها في شقتها المدينية وتشاهد المسلسلات المصرية على شاشة التلفزيون. أما طلاب الجامعات فلا يشترون الكتب، ويقول لهم أساتذتهم الأوربيون: من المفيد للجامعة شراء ما يكفي من الكتب الأكاديمية، وإتاحتها للجميع في مكتبة عامة. وصديقتي المسلمة القريبة من قلبي وهي امرأة لديها خبرة سياحية واجتماعية تحمل إجازة بالأدب الإنكليزي. وقد حصلت عليها من الباكستان. وذكرت لي في أحد الأيام إنها منذ يوم زواجها لم تقرأ سوى كتاب واحد. خلال أعوامي الأربع في المملكة تحسنت مصادر الكتاب. وأصبح من الوارد شراء مختارات محدودة من الكتب ذات الغلاف العادي. كان المسافرون يحملون معهم قائمة  بعناوين لإحضارها -  ولكن توجب عليهم الحصول على هذه المشتريات من رجال الجمارك السعوديين. بعض الحكومات تضع قائمة بالمؤلفات الممنوعة،  ولكن لو كان لدى السعوديين قائمة فالحظ لم يحالفني بالاطلاع عليها: وتعلم من الشائعات فقط ما يستفز السلطات، وحظك يتوقف على نوع ضابط الجمارك الذي يفتش حقائبك، هل هو متشدد أم لطيف المعشر. وكنا نعتقد أن ضباط الجمارك لا يقرأون بالإنكليزية، وإن أمكنهم لن يهدروا وقتهم بالقراءة. ويحكمون على الكتاب من غلافه. ونسختي من "المملكة"، العمل الخالد لروبرت لايسي مرت بسلام بعد تغليفها بغلاف مزيف من الورق المجلل بالغبار. وكان من كتاب عن "لويس وأنطوانيت" لفينسينت كرونين. وربما لم يكن هذا التصرف حكيما، فالسعودية العربية دون صلات ملحوظة مع النظام القديم: ولكن كنت متيقنة أن الجمارك لن تلاحظ العلاقة. وسريعا ما اتضح أن الجمارك بدأت تهتم بالكلمات. مثلا كلمة "لحم خنزير" على سبيل المثال. فقد كان للرقابة مكتب خاص بالأطعمة. وكان واجب بعض الضباط تفتيش حاويات الأطعمة المستوردة، والتأكد من أنها تخلو من مزيج المرق المجفف. وقراءة المكونات المسجلة على العبوة. وشطب تلك الكلمة الفظيعة أينما وجدت. ولاحقا انتبهت أن الكلمات ذات أهمية قصوى، وهي ليس كما خيل لي أول الأمر غير ذات شأن في هذا المجتمع. أنت لا تستطيع إلغاء وجود لحم خنزير في العالم، ولكن لو أنك نبيه يمكنك عدم نطق الكلمة. ولو أن أقلام التلوين لديك تعمل وكثيرة يمكنك إخفاء الاسم وبالتالي وبالتدريج إلغاء المادة نفسها، لتترك بمكانها مفهوما باهتا دون اسم يتلاشى من أذهان الكفار، فهو في اانهاية لحمة ستفقد وجودها شيئا فشيئا لأن الكلام عنها من المحرمات.

يقال: في مدينة قم المقدسة يحتفظ الإيرانيون بقرآن يبلغ حجم صفحاته مترين مربعين، وكل رقاقة جلدية تحمل نقوشات يدوية. ولكن السعوديين يستهزئون بمثل هذه الاستعراضات، ويعتقدون أنها خيلاء، ولكن الشيعة يفضلون الزخارف. ويعقدون مباريات لقراءة القرآن، بحضور جمهور واسع، وتقديم جوائز مالية ضخمة. ثم أدركت أن الكتاب الموجود على الرف في متاجر القرطاسية ذو علاقة بسيطة، إن وجدت، مع القرآن الكريم. فهو كتاب من أجل الحياة ولغته مقدسة. وسطوره مشحونة بالأهمية والمهابة، ويمكنها أن تشفي المرضى. وكل كلمة مقاتل صغير في حرب تدور على مدار الساعة.

نشرت جريدة عكاظ اليومية في آذار عام 1986 عمودا كئيبا يتنبأ بسلطة الكلام. قال الكاتب:"حرب الكلام أكثر ضررا من الحرب العالمية الثانية. فالكلام يجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة. والكلمات - المدونة في الصحف والمجلات والكتب والتي تبثها الإذاعة ومحطات التلفزيون - هي أدوات تعمل على قتل الروح البشرية". والمؤامرة العالمية ضد المسلمين، وهو مدار كلام طهران في الوقت الراهن، ليس فانتازيا كبار السن المصابين بالبارانويا: في المملكة هذه الفانتازيا تبدو حقيقة تتناقلها كل الأمة. والشباب العربي الطامح، كما تقول الصحف، يسافرون إلى أوروبا للدراسة، وقد حركت إمكانياتهم حسد مضيفيهم، ولذلك عملت أوروبا على تدميرهم، بإدمان المخدرات والعلاقات الجنسية مع العاهرات. وفي متاجر ماركس وسبنسر في لندن، ينتشر عملاء متدربون جهزتهم الصهيونية، بانتظار القفز على الزوار العرب، واتهامهم بالسرقة، وإيداعهم في السجون وتعويم عارهم في كل أرجاء العالم من خلال وكالة رويترز ويونايتد بريس.

وفي تشرين الثاني 1986 نقلت المجلة السعودية إعلانا عن "المدير العام للبحوث والأحكام والهداية الدينية" يحذر من نوع معين من بلاط الأراضي الذي تم استيراده إلى المملكة. فهذا النوع يهدف "عمدا لاستفزاز عواطف المسلمين". فهو يخفي في طرازه الغامض - شيئا لا تلاحظه العين العادية، ولكن هذا ممكن بالملاحظة القريبة - وهذا الشيء هو كلمة "الله" و"محمد". وهذا ما ادعت به السلطات. إن عين المؤمن ثاقبة جدا. ولو أن البلاط يستفز دين الإسلام، ماذا يمكن أن تقول عن رواية مثلا؟.

ورد فعل السلطات السعودية على "آيات شيطانية" كان متدنيا، وآية الله، الذي ينظر إلى الإسلام السعودي بشيء من التهكم ويعتقد أنه "إسلام أمريكي"، قد خفف من غلوائهم. وليس من الصعب أن تتخيل عمق الغضب والقلق. أول رد فعل شعبي في الغرب على إباحة دم الكاتب، كان، على ما أعتقد، هو الدهشة المختلطة بمشاعر قريبة من عدم التصديق. فالموضوع كان "عن رواية فقط". لا يمكننا أن نفهم أنه بمقدور شعب أن يثور ضد حكاية.

فالروائيون يتبنون خدعا متعددة لإخفاء نواياهم. ولو تابعوا إنسانا حقيقيا وأضافوه إلى شخصيات الرواية يمكنهم، بكل يسر، تغطية مساره بما يكفي لتحاشي أي مسؤولية تضعهم في قفص الاتهام. وإذا اعتقد النقاد أن العمل "مباشر" و"ودعائي" يمكنهم الاحتجاج بقولهم أنهم يستعملون الاستعارة والخدع الكتابية والمجاز.

وبوسعهم مثل سلمان رشدي، أن يصورا شخصيات حالمة. الكتاب لا يتحدثون عن غربتهم، ولكن يفضلون الكلام عن الشخصيات المستقلة، وعن الدور الهامشي للكاتب في الحبكة، والذي تحمله العملية الإبداعية بتيارها الجارف. وهذا جزء من الإبهام الصوفي، والكتاب يستمتعون به. وفي الغرب لا يوجد ضير في انفصال الكاتب عن تفاصيل النص بهذه الطريقة.

وطبعا في أمكنة أخرى - منها الكتلة الشرقية أو جنوب إفريقيا - تعتبر الرواية وسيطا ناقلا للأفكار على نحو فعلي. والرواي مجبر على أن يكون حاضرا مع أفكاره ومواقف شخصياته، ولا يمكن منحه أية خصوصية.  وتعمد الرقابة لتخريب خطوط الدفاع في أي رواية ومحاسبتها على المضمون المستتر. وعلى هذا الأساس تعاقب وتدين الكاتب. في مكان آخر قد لا تتدخل الرقابة وتفكك الأسلوب. وربما لا تعلم بوجود أصول للأسلوب. وشعار الفن للفن لا يعنيها على الإطلاق. وقد تكون آيات شيطانية عملا فنيا عظيما، وقد تكون النقوش على بلاط الأرض متقنة، ولكن كلاهما سياسة. ومبدأ التميز والنوايا الحسنة، وهو مبدأ اعتدنا على اللجوء إليه للدفاع عن العمل الفني المتهم، لن يفيد رواية رشدي، والمقصود هنا البلدان التي لا تقر بهذه الأساليب. في طهران لا يوجد غير الإحساس بالتآمر. وهي فكرة بديهية.. أن هناك مؤامرة دولية ضد الإسلام، ورشدي أحد "المرتزقة" المتورطين بها.

وإن كان لا يمكن التعبير عن أسلوبه فنيا، لا بد من استخدام لغة سياسية، ومن المستحيل أن تشعر بالارتياح لكلام السياسيين.

حينما أعربت الحكومة البريطانية عن تفهمها لاستفزاز المسلمين بهذه الرواية، فهي تقر بوجود اعتداء على بعض الثوابت. وهذا ليس قريبا من فهم طبيعة الاعتداء. وقد ذكرت رئيسة الوزراء أنه يجب على الأديان العظيمة أن تكون قوية بما يكفي لتتحمل الانتقادات، وكان بيانها خطيرا لأنه عريض ومتسع. بخلاف المسيحية الحديثة لا يتقبل الإسلام التسامح. ونظريا هو يؤمن بالعقيدتين المسيحية واليهودية، فهما من 'أهل الكتاب'، ولكن على الأقل لا تسمح المملكة بأي عبادة غير العبادات الإسلامية. وتعكس بذلك تعصبها ضد العالم الخارجي. ويجد المؤمنون في جدة صعوبة في تصور إخوانهم المتدينين وهم يؤمون المساجد بحرية في بريطانيا. ويبدون شكا واضحا بذلك، وإن كنت في بريطانيا يبدو الإسلام عقيدة تنظر لنفسها وتجرد أدوات ذاتية للحماية. وإن كنت في الشرق يبدو أنه شيء حيوي وعلني ونشيط.

ويمكن أن تقول نفس الشيء، قبل فترة غير بعيدة، عن المسيحية. إن لم نكن مستعدين للتفكير بتاريخنا، والدخول فيه قليلا، لا يمكننا أن نعلم ماذا يعني الكاتب المسلم حينما يناقش "المحنة الروحية والتعذيب". فالجاهل والعلماني لا يفهم الوحي الإلهي. والأصوليون حين يتطرقون للفكرة الحديثة والعملية والتي تدعو إلى أن تعيش وتسمح لغيرك أن يعيش، على أنها مقولة ميتة ولا يمكن قبولها.

في أول بضعة أيام بعد إصدار إيران فتوى القتل، أصبح الدعم الذي حاز عليه سلمان رشدي مؤثرا وبالأغلبية المطلقة. ولكننا معتادون على عدم استقرار النخبة ومناوراتهم، وحينما نقابل عدوا صلبا، ولا يبدو أن لديه أية إمكانية للتفاهم، سرعان ما نشكك بقضيتنا وقيمنا: وربما التهذيب مجرد أنقاض غربية. فالعودة إلى الوراء وتتبع التفاصيل أمر لا يسر .

لا يسر أحدا أن يسمع أن عضوا شابا في البرلمان قال مؤخرا إن "اثنين أو ثلاثة" من أصدقائه، أخبروه أن الرواية هي "من الدرجة الثانية". وأعلن أن رشدي كسب منها مبلغا طائلا، وعليه أن يتحمل نفقات حراسه الشخصيين: نحن لا نتوقع من المشرعين أن يقرأوا، ولكننا نتوقع منهم أن يميزوا بين المصاعب الخاصة نتيجة مشكلة شخصية، وبين مشكلة ذات علاقة بالرأي العام.

ومثلما أن ردة هؤلاء الذين يشككون بأصالة رشدي شيء غير سار، الدعوة لسحب الكتاب من السوق عمل غير مقبول. نحن ربما نفهم أن كتاب قصص الأطفال والقصص الاجتماعية الخفيفة والمسلية لن يعمدوا لتزكية الآيات الشيطانية. وبالتأكيظ حرية التعبير عن قناعاتهم مضمونة.

نعود إلى جدة، المرأة التي قرأت كتابا واحدا منذ يوم زواجها ذكرت في أحد الأيام ببلاغة تحسد عليها إن التعزية الوحيدة لمن يعيش في مجتمع عقائدي مؤمن، وفي مجتمع إسلامي متماسك - هو الإحساس بالأمان لدى المؤمنين، وعدم التعرض للقصف المستمر الذي تقوم به منظومة القيم الغريبة.

لكن المسلمين في بريطانيا يعيشون تحت هذا القصف. وعليهم أن يقبلوا به ويتعايشوا معه بأفضل صورة ممكنة. إنما لا يزال لعقيدتهم إمكانيات تسهل التعزية والسلوان، والقليل من النتائج الطيبة ستنبع من هذا الوضع المؤسف، لو أن الناطقين باسم المجتمع الإسلامي، بالإضافة للمسلمين المستنيرين والمثقفين، والذين ولا شك أقلقتهم واستفزتهم الفتوى الإيرانية، سيعملون على توضيح طرق السلوان لكل بريطاني مصاب بداء الشك والتعصب.

***

...................

* المقصود صور النساء في الإعلانات التجارية. وكانت صحف مصر الحكومية  منذ عام 2000 وحتى سقوط نظام مبارك تفعل نفس الشيء. وكانت توزع في حلب ودمشق بصور تحمل مستطيلات ومربعات سوداء تحجب أجزاء من جسم المرأة في الإعلان التجاري. وانتشرت في حلب قبل الأحداث الحالية إعلانات تروج لأناقة المسلمات، ولأناقة المحجبات، وتزامن ذلك مع اعتراض النساء بثياب أوروبية أو المرأة التي تقود سيارة. "هامش مترجم".

هيلاري مانتيل   Hilary Mantel

كاتبة بريطانية. حازت مرتين على البوكر عن روايتيها "قصر الذئب" و"أحضروا الجماعة". حصلت أيضا على جائزة والتر سكوت للرواية التاريخية عن آخر رواية لها وهي "المرآة والضوء". عاشت لفترة وجيزة في جنوب إفريقيا والسعودية وكتبت عن تلك التجربة مجموعة روايات ناقدة تلوم بها عدم قدرة المواطن الغربي على الاندماج بحضارة الآخرين، واختبائه وراء جدار العنصرية أو التكبر. تعتبر مانتيل من الأصوات اليسارية في شمال أوروبا. وهذا المقال منشور في كتابها الأخير "مقالات مانتيل". توفيت عن 70 عاما عام 2022 جراء أزمة قلبية مفاجئة.

يُظهر لنا التاريخ الادبي الإبداعي أنه يوجد هناك أناس يبرزون في موضوع ما وتسجل اسماؤهم بحروف من ذهب وماس، وفي المقابل يوجد هناك أناس/ مبدعون يبذلون ويقدّمون محاولات جديدة وجادة، غير أنهم لهذا السبب أو ذاك، يمضون في فترة ما من العمر في طريق المجهول، متحسرين على ما فاتهم وما بات ذكرى دافئة، لكن غير متحققة على أرض الواقع، من هؤلاء الكاتب العربي المصري عادل كامل وذاك الفتى المجهول من أصدقائي/ أحتفظ باسمه تحسبًا وتقية.

أما الكاتب عادل كامل (1916- 2005)، فهو كاتب مصري عربي.. روائي كتب القصة القصية والمسرحية أيضًا، ويُذكر له أنه تقدّم عام 1943 إلى مسابقة مجمع اللغة العربية بروايته "ملك من شعاع"، فيما تقدم نجيب محفوظ بروايته "كفاح طيبة"، وجاءت النتيجة في حينها ليفوز عادل كامل بالجائزة الأولى في تلك المسابقة، في حين فاز نجيب محفوظ بالجائزة الثانية!!، وقد اعتزل عادل كامل فيما بعد، في اعقاب رفض مجمع اللغة العربية ذاته روايته "مليم الأكبر"، بالضبط كما فعل مع رواية "السراب" لنجيب محفوظ. عادل كامل توقف فترة مديدة من الزمن لمعاودة الكتابة والنشر، وقد نشرت له دار الهلال عام 1993 روايتي "الحل والربط" و"مناوشة على الحدود" في كتاب واحد حمل اسم "الحل والربط"، غير أن هذا الكتاب الروائي لم يُحقّق لصاحبه ما صبا إليه، فعاد إلى نوامه السابق، فيما واصل نجيب محفوظ رحلته مع الابداع الروائي، فراح يُصدر الرواية تلو الروية مما أهّله للتربع على عرش الرواية العربية وأوصله بالتالي إلى أرفع الجوائز، وأثمن الاوسمة. لقد أصدر عادل كامل، بصورة متقطعة، عددًا من المؤلفات هي: مسرحية ويك عنتر ويك تحتمس.. قصص قصيرة ضباب ورماد، غير أن هذه الاعمال الأدبية لم تُحقّق له ما سعى إليه وهدف، فعاش على ما بدا صمته القاتل حتى أخريات أيامه. أما زميله في الكتابة نجيب محفوظ، فقد قال عنه إنه "في طليعة كتاب جيلنا بغير جدال".

يطرح هنا السؤال: ما الذي يجعل كاتبًا يتفوّق على ذاته وكبريائه وربّما حاجته المعيشة اليومية كما هو الامر مع ذلك الفتى المجهول؟.. من نظرة متفحّصة يتبيّن لنا أن الكبرياء، وربما عدم الشغف، هما ما قضى على تواصل الابداعات الروائية لعادل كامل، وهو ما تسبّب في صعود نجم زميله نجيب محفوظ، وفي المقابل في هبوط نجمه. فما هو السبب في هبوط وانخفاض نجم صديقي ذاك الفتى المجهول؟.. للإجابة على هذا السؤال سأعود إلى أبداعات هذا المذكور، بل إلى حياته التي ارتكزت عليها تلك الابداعات، فقد ابتدأ المقصود حياة صعبة قاسية مع والدين أم رومانسية الهوى وأب واقعي المشرب، وأتصور أن الخلاف دبّ بين هذين المتنافضين، هوى ومشربًا، وأنهما التقيا في حافلة، فنزلت الأم ممسكة بيد ابنها فيما لحق بها الاب في اللحظة الأخيرة ليمسك بيد ابنه الأخرى، وليشدّ كلٌ منهما من ناحيته فيما تتأهب الحافلة للانطلاق. تلك اللحظة الصاعقة تركت آثارًا على الابن الممزق المكلوم، وكان أن غرست في أعماقه بذرة الابداع وربّما أحيتها، فمثل هذه البذرة موجودة وقائمة في كل واحد من إخواننا بني البشر، كما يُجمع العديد من الدراسات، ويمضي الوقت ليجد ذلك الفتى، ذاته واقفا على منصة الابداع المسرحي، مشاركًا في تمثيل العديد من المسرحيات، ومتألقًا بصوته الجهوري الأجش.. وتشاء الظروف أن يرتبط ذاك الفتى الذي اضحى شابًا بصبية اختارها قلبه، فينصرف عن التمثيل المسرحي، ليتعلّم مهنة تدرّ عليه دخلًا محترًما وليسجل بالتالي النجاح المادي تلو النجاح، هكذا يبات لديه كل ما يهفو إليه كثرٌ آخرون.. الأرض.. البيت والحديقة الغناء. ويمضي ذاك الفتى في دروب الحياة وشعابها ساهيًا عن حلمه ومؤجلًا إياه عشرًا من السنوات تليها عشر.. إلى أن يرفع رأسه وهو في السبعينيات من العمر. في هذه السن وبعد كل تلك النجاحات المادية، تستفيق روحه لتجد ذاتها وقد حقّقت كلَّ ما أرادته وتمنّته، باستثناء حلمها الأول والاهم، وهو التمثيل المسرحي. عندها يعود متخبطًا مرتبكًا ليصل ماضيًا انقطع بحاضر تواصل غير عابئ به وبأحلامه الصغيرة، فيطرق كل ما يأتي في طريقه من أبوابـ ابتداءً بأبواب العديد من المسارح، ودور الإنتاج السينمائي، إنتهاء بأبواب الانتاجات التلفزية، وهكذا يفلح مرة ويتخيب أمله مرات، إلى أن يطرق المرض اللعين بابه، فيسألني إذا متّ هل ستكتب عني. فأصمت وأبتلع ما عزمت على طرحه والرد به من كلام، مفكرًا فيما يمكنني أن أفعله ردًا على سؤاله ذاك. وها أنذا أفكر في الكتابة عنه تخوفًا وتقية، متذكرًا تجربة كبيرة في حياتنا العربية هي تجربة عادل كامل الخائبة في مقابل تجربة نجيب محفوظ الفالحة.

السؤال الذي يفرض ذاته في مثل هكذا وضع، ما السبب في خبو نجم وتألق آخر في سماء الابداع عامة؟.. لماذا يواصل البعض المُضي في طريقه الشائك العصي، فيما يتوقف البعض الآخر رغم حضور الموهبة والجاهزية؟.. ثم هل تعلو الموهبة وترتفع فوق كل المصاعب والمعوّقات كما تقول لنا معظم السير وجُلّ الكتابات حول عظماء الابداع ونجومهم؟ وهل يُفترض بالمبدع الحقيقي أن يندفع على جسر التعب غير عابئ بأي معوّق حتى يصل إلى الراحة الكبرى؟.. أجيبوا انتم ولا تنسوا أن الشغف المجنون يصنع المعجزات.. بالضبط كما يفعل المحبون عندما يصلون إلى مصارعهم.. أو حافتها.

***

ناجي ظاهر

بقي منسياً ومهملا ولا يريد له البعض أن يجلس في مقهى الوجودية الى جوار هايدغر وسارتر وميرولو بونتي، حتى بعدما ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات. غاب اسمه عن دليل اكسفورد في الفلسفة – ترجمه الى العربية نجيب حصادي – ووضع بدلاً منه مواطنه الاسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت (1883-1955) – صاحب الكتاب الشهير " موضوع زماننا " – ترجمة علي ابراهيم الاشقر - الذي طرح فيه فكرة ان الجيل ليس حفنة من الرجال العظماء، وليس مجرد جمع كبير، إنه عبارة عن جسد اجتماعي جديد متكامل، باقليته المختاره وجمهوره العريض، الذي جيء به الى حيز الوجود يحمل مشروعا حيويا موحدا. اورتيغا غاسيت الذي كتب الرواية والمسرحية والمقال النقدي، كان يستخدم معظم الوسائل الادبية في سبيل طرح افكاره الفلسفية وشرح نظريته الشهيرة عن " الظرف " – انا اكون أنا وظرفي، وإذا لم أنقذ ظرفي فما انقذت إذن نفسي –، ان الوعي بالظرف بالنسبة لاورتيغا يعني أن يؤسس الانسان علاقة اخصب بالعالم، وهذه العلاقة تتحول الى نوع من الحركة والثراء.. ولهذا لابد للمرء أن يعتمد على ظرفية معينة، وحتى يتسنى له ذلك عليه ان يقرر في كل لحظة ما سيقوم بعمله في اللحظة التالية، بل ربما في سنوات قادمة، في كتاباته الفلسفية والتي صنفت ضمن الخانة الوجودية".اعتبراورتيغا الحياة البشرية وجودا جذريا، ينبثق منه كل وجود آخر، ويقطع الطريق على الذين ينادون ان الحياة مستحيلة عن غير طريق العقل. لقد سعى اورتيغا الى احياء التفاهم بين العالم والعقل. يكتب عبد الرحمن بدوي ان اورتيغا ليس لديه مذهب فلسفي بالمعنى الدقيق، بل ان نزعته الوجودية يتنافى معها ان يكون له مذهب – عبد الرحمن بدوي اورتيغا وتمرد الجماهير مجلة الثقافة 1960 –، فهو يريد من خلال الفلسفة ان يقدم لنا موضوعات زماننا، وان اصلح طريقة للحياة هي باحترام شرطنا الاساسي الارضي، نحن موجودون وموضوعون في الـ (ها هنا) وهذه الجملة تحتوي على كل شيء. في كتابه: " محاضرات في الميتافيزيقيا " – ترجمة علي ابراهيم الاشقر –، يقدم اورتيغا تصورا لفلسفته والتي تكون نقطة البداية فيها " العقل الحيوي في مقابل العقل المجرد أو العقل النظري كما تصوّره المثاليون. العقل الحيوي يَّثبت الفرد وواقع الأشياء، وهو أسلوب في التعامل، طريقة في الحياة أو الحياة نفسها. هو الفعل أو تحقيق الحياة باعتبارها مشروعا. العقل الحيوي هو " الأنا في موقف"، مهمته إدراك هذا العالم، وعلى هذا النحو يجعل أورتيغا من الحياة انطلاقا لفلسفته، ولعل إحساس اورتيغا بالحياة كنقطة بداية، إنما نشأ بسبب حربين عالميتين كان فيها شاهدا على مصير الانسان وهو معلق بين الحياة والموت، يرى كيف تنهار القيم التي وضعها القرن التاسع عشر، وكيف يتحول العلم إلى آلة تسحق الانسان، والتقدم إلى غزو وحروب، والقوة إلى استعمار، والإنتاج إلى استغلال، والتقدم إلى يأس.

كان اورتيغا تلميذا لفيلسوفنا المنسي " ميغيل دي أونامونو " الذي اهتم بالرواية والمسرح والفلسفة والسيرة، واشتركا معا في ولعهما الخاص بعمل ثيرفانتس " دون كيخوته " حيث اصدر اورتيغا عام 1914 كتابه " تأملات حول دون كيخوته، وهو سلسلة مقالات فلسفية ضمنه نواة مبدأه الفلسفي المتعلق بأن الحياة البشرية هي الحقيقة المطلقة والتي صاغها في عبارته الشهيرة " أنا هو، أنا وظروفي ". وكان أونامونو قد اصدر عام 1905 كتابه " حياة دون كيخوته وسانتشو " –ترجمه صالح علماني – وقد تزامن صدور الكتاب مع احتفالات اسبانيا بالذكرى المئوية الثالثة لطباعة دون كيخوته اول مرة. وقبل صدور الكتاب نشرأونامانو مقالة بعنوان " حول قراءة دون كيخوته وتفسيره ". كما انه تناول شخصية دون كيخوته في كتابه " الشعور الماساوي بالحياة " - ترجمه الى العربية علي ابراهيم اشقر –. يحاول أونامونو في كتابه عن " دون كيخوته " ان يستفيد من بطل رواية ثربانتس ليحدد لنفسه الدور الذي يجب ان يقوم به المثقف وهو يواجه ما يدور في مجتمعه. ويسعى ايضا ان يحرر دون كيخوته من سجن الخيال الروائي ليجعل منه شخصية واقعية، ليقدم لنا صورة ذاتية او قناع يختاره أونامونو ليفسر لنا قيم الشجاعة والعاطفة والايمان، فهو من خلال متابعته الدقيقة لحياة دون كيخوته يفرض رؤيته على نص ثربانتس، ويقدم نصا موازيا ومختلفا يمكن ان نسمية " حياة دون كيخوته وتابعه سانشو مثلما رواها السيد ميغيل دي أونامونو: " ماذا يهمني ما اراد أو لم يرد ثربانتس، وضعه او ما قد وضعه فعلا ؟ فما هو حي هو ما اكتشفه أنا، سواء أورده ثربانتس ام لم يورده، هو ما اضعه وافرضه واخفيه. وما نضعه نحن جميعا " – حياة دون كيخوته وسانتشو ترجمة صالح علماني -. ونجد ان اونامونو يتخذ من دون كيخوته رمزاً لنضال الانسان في هذا العالم، فكفاحه تعبير عن النزاع بين العالم كما هو، وكما يصوره لنا العقل والعلم، وبين العالم كما نريده أن يكون. فدون كيخوته لا يذعن اللعالم ولا لحقيقته ولا للعلم ولا للمنطق، ولا للفن ولا لعلم الجمال، ولا للأخلاق، بل يثور على هذا كله، وينتهي إلى اليأس بعد أن رأى عبث النضال، ومن هذا اليأس يولد الأمل البطولي، الأمل اللامعقول، الأمل الجنوني، فدون كيخوته انهزم، لأنه بانهزامه قد انتصر. يتخذ أونامونو من دون كيخوته وسيلة لطرح أسئلة العصر التي تضع الفكر في مواجهة ما يجري على الارض، ولعل أهم الأسئلة التي يطرحها أو نامونو من خلال الفارس دون كيخوته، ما تتعلق بالعدالة بوصفها سؤالا راهنا يستدعي تفكيرا مغايرا حتى ولو كان يستند إلى شخصية الأحمق الذي يعلمنا أن نكون حكماء.

اطلق عليه اصدقاؤه وصف البومة التي تنفذ عيناها في ظلام الروح، وتحوم حول الوجود. كان فرديا معتزاً بفرديته وسط جو مشحون بصراع سياسي بين قوى اليسار والجماعات اليمينية، ظل يؤمن حتى اللحظة الاخيرة من حياته بقيمة الانسان الفرد: " كون المرء انسانا يعني ان يكون شيئاً " وقد اطلق أونامونو صحيته الشهيرة " انا ودائما انا ". فالانسان بالنسبة لهذا الفيلسوف الاسباني غاية سامية: " البشر هم غاية بحد ذاتها، وليسوا وسائل ".

تغيب عن ذاكرة ميغيل دي أونامونو ايام طفولته الاولى، ويخبرنا انه يسترجع حياته من خلال الوثائق التي تقول ان يوم مولده كان في التاسع والعشرين من ايلول عام 1864 في مدينة بلباو التي تقع شمال إسبانيا، كان الابن الثالث لصاحب مخبز لبيع الحلويات، عمل في السياسة وترشح للانتخابات البلدية التي فاز عام 1869، إلا ان الاب سيتوفي وكان عمر ميغيل ست سنوات، ولهذا يخبرنا انه لا يتذكر ملامح والده جيدا: " كل ما اتذكره عندما كان ابي جالسا يتحدث بالفرنسية مع رجل فرنسي، إني لاستنتج فعل اللغة وسحرها الذي تكشف آنذاك أمامي " – من ذاكرة الطفولة والشباب ترجمة بسام البزاز -. في الخامسة من عمره ياخذه والده الى مدرسة خاصة، هناك اكتشف ولعه بالحكايات: " كنت اجمع العديد من زملائي بعد ان يامرني المعلم: (ميغيل، احك لهم قصصا)، فآسرهم واشد انتباههم بقصص من قصص التشويق " – من ذاكرة الطفولة والشباب ترجمة بسام البزاز – في تلك السنوات عثر على روايات " جول فيرن " وكانت كلها تدور في عالم الخيال، امضى سنوات طفولته يدرس اللاهوت، في الثامنة من عمره يشهد الحرب الكارلية الثالثة التي نشبت في إسبانيا عام 1872 وانتهت عام 1876. حيث تمت محاصرة مدينته التي استولت عليها فيما بعد قوات جوتيريز دي لا كونشا.تفتح وعيه على مآسي الحروب، ويتذكر تلك القنلة التي سقطت على منزل مجاور لمنزلهم، حيث تركت في نفسه اثرا قويا ضد استخدام القوة والعنف، وغرست فيه اهتماما قويا بشؤون بلاده، وفي كتابه " من ذاكرة الطفولة والشباب " يكتب أونامونو أنه قبل هذا التاريخ " لا احتفظ الا بالذكريات المنفصلة ". يكمل دراسته الثانوية وفي هذه الفترة يقرأ مؤلفات ديكارت وبسكال وكانط وهيغل، عام 1880 دخل جامعة مدريد ليدرس الآداب والفلسفة، حصل على الدكتوراه برسالة عن اللغة، عاد الى بلدته بلباو، وظل بها يمارس مهنة التعليم، والكتابة في المجلة الاسبوعية "صراع الطبقات".. عام 1881 يعمل استاذا في الجامعة يلقي محاضرات عن الادب اليوناني والفلسفة الاغريفية، بعد سنوات يتم اختيارة مديرا لجامعة سلمانكا، اهتمامه بالسياسة يدفع ادارة الجامعة الى فصله بعد سنوات، عند اندلاع الحرب العالمية الاولى يقف الى جوار الحلفاء ضد المانيا، اخذ يكتب مقالات في الصحافة ضد النظام الاسباني مما ادى الى صدور حكم بسجنه ست سنوات، يخرج بعفو ملكي ليعود الى الجامعة، عند تولي ميغيل بريمو دي ريفيرا منصب رئيس الوزراء عام 1923 خاض أونامون حملة ضده بسبب نهجه الدكتاتوري، مما ادى الى نفيه إلى جزيرة فورنفنتورا، يصدر قرار جديد بالعفو عنه، لكنه يرفض العودة إلى إسبانيا، ويقرر العيش في باريس عاد إلى إسبانيا في عام 1930 واستقبل استقبالا حافلا من الثوار الذين حطموا عرش الملكية والدكتاتورية. وفي سنة 1931 عين "مديراً مدى الحياة" لجامعة سلمانكا،. في عام 1935 منح وسام ولقب "مواطن الشرف لسنة 1935" واختير نائباً في الجامعة التاسيسية التي وضعت دستور الجمهورية الاسبانية الناشئة، عندما قامت الحرب الاهلية وقف الى جانب فرانكو ضد الجمهوريين، لكنه سيكشف بعد عام تورطه في مساندة فرانكو وجماعته، حيث اخبر بعض المقربين منه أنه قلق ونادم على دعمه للإنقلابيين على الجمهورية،وأن هذه الطغمة العسكرية لن تأتي إلا بالموت والدمار، ووجد الفرصة سانحة عندما قررت اسبانيا عام 1936 الاحتفال بذكرى اكتشاف اكتشاف كولومبس لاميركا،حيث حاولت، وحاولت السلطة ان تجعل من المناسبة فرصة لاندماج النخبة الجامعية في مشروع فرانكو، وقرَّرت القيادة العسكرية آنذاك تنظيم هذه الذكرى في مدرج جامعة سلامنكا التي كان أونامونو عميدا لها امتلات مدرجات الجامعة  بشباب كتائب فرانكو وبالقيادات العسكرية ورجال الكنسية. كانت علامات الانزعاج والقلق بادية على أونانومو، لمنه قرر في هذه المناسبة ان يصمت ولا يلقي بكلمة، فتقرر ان يلقي احد الاساتذة كلمة الجامعة فوقع الاختيار على فرانسيسكو مالدونادو الذي ألقى كلمة حماسية تغزل فيها بفرانكو وحكومته، مؤكدا ان اسبانيا تحتاج الى طبيب جراح مثل فرانكو يقطع اللحم الحي برباطة جأش وبدون رحمة مادام في ذلك علاج. الكلمات الهبت حماس الحضور واخذت القاعة تردد عاش الموت وما أن انتهى مالدونادو من كلمته حتى وقف أونامونو ليتكلم بلهجة تنم عن امتعاض عميق وانطلق في خطاب مرتجل يعتبر اليوم من أهم ما قدمه مثقف معاصر في مواجهة سلطة غاشمة، أعلن أونامونو أن إستأصال القوميات يذكره بأنه فاسكي ويُشرِّفه ذلك، وأن رئيس الكنيسة الحاضر في المنصة كتلوني ولن يفيده التنكر لذلك. وبصوته الهاديء واصل أونامونو قائلا: " تعرفون أنني لا أستطيع الصمت عن الكلام، بل أعتبر أن الصمت أحيانا يساوي الكذب، ولذلك أنا مضطرّ للتعليق على ما يسمى بخطاب الافتتاح للأستاذ مالدونادو، تحدّث الخطيب عن خوضنا لحرب عالمية لنشر الحضارة المسيحية، وأنا لا أرى في مثل هذا الخطاب إلا حربا ضد المدنية، تحدث الخطيب الجليل عن النصر العسكري وبالقوة والمشرط الذي يستأصل الآخر، ولم ينتبه أن النصر بالقوة لا يعني شيئا وأن الحضارة تُنشر بالحوار والاقناع لا بالقوة والسيف". لم يتمالك احد الجنرالات أعصابه وبدأ يصرخُ عاليا ويقاطع أونامونو بشعارات " عاشت اسبانيا " و" الموت للمثقفين "، لكن الفيلسوف الاسباني لم يتوقف وواصل كلمته قائلا: " سمعتُ شعارات في هذه القاعة الموقَّرة تُنادي بالحياة للموت وهذا الصراخ لا يختلف عن المطالبة بالموت للحياة، " الجنرال ميلان يُعاني من إعاقات حصدها في الحرب بشهامة وشجاعة نادرة، كذلك كان سيرفانتيس قبل ان يكتب ملحمته دون كيشوت، لكن تشابه الحالات لا يعطي القاعدة، للأسف في اسبانيا ارتفع عدد معاقي الحرب بشكل مهول، وإذا لم يساعدنا الرب سيتضاعف عددهم، والذي يقلقني أن يحاول الجنرال وضع قواعد لعلم النفس الجمعي، وأن يحاول ذلك وهو مُعاق يفتقد لعظمة سيرفانتيس الذي كان إنسانا كاملا رغم إعاقاته الجسدية، المعاق الذي لا يحمل مثل صفات سيرفانتيس وقوته المعنوية من المُنتظر أن يجد متعته في المزيد من المُعاقين، الجنرال يريد إنشاء إسبانيا جديدة، ولن تكون إلا اسبانيا بائسة على شاكلته، ولن تكون إلاًّ نسخة من شخصه، نسخة مــعاقـــة "، لم يجد الجنرال مفرا من أن يشهر بمسدسه وسط صراخ وشعارات شباب الكتائب والجنود، وهدًّد بقتل أونامونو على المنصة، لكن أونامونو واصل كلامه هادئا: " أنتم في معبد العلم والمعرفة وأنا كبير كهنته، أنتم تُدنسون الآن قداسة المكان.اثارت الخطبة حفيظة الجنرالات فقررت الحكومة فصال أونامونو من الجامعة واصدار امر بوضعه تحت الاقامة الجبرية الى ان يُقدم للمحاكمة، لكن الموت كان اسرع، حيث تعرض الازمة قلبية حادة، لتعلن وفاته في الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني عام 1936.

رفض أونامونو ان يوضع في خانة معينة من خانات الفلسفة، او يدرج تحت مذهب من المذاهب الفكرية، قال عن نفسه: " لا أريد أن يضعني الناس في خانة،لأني أنا ميغيل دي أونامونو، نوع فريد شاني شأن أي إنسان آخر يسعى إلى الشعور الكامل بذاته ". فلسفته الوجودية تهتم بالانسان اولا حيث يرى ان موضوع الفلسفة الاساسي هو الإنسان الموجود الحيّ، الإنسان المفرد الذي يولد ويموت، ويتفلسف لا يعقله فحسب، بل وبإرادته وعاطفته وروحه وبدنه: " فالإنسان يتفلسف بكل أجزائه ". ولهذا يقول: أنا إنسان، وليس ثمَّ إنسان بغريب عني". والانسان في فلسفة أونامونو الوجودية غاية وليس وسيلة. والحضارة كلها هيئت له، والمسألة الكبرى بالنسبة إلى الإنسان هي البقاء، ومن هنا كان طموح الإنسان إلى الخلود. ويقتبس اونامونو عبارة كيركغارد الشهيرة: "المهم بالنسبة إلى من يوجد أن يوجد وجوداً لا نهاية له". لكن جوهر هذا الانسان هو "الاسى" او " الخوف من الموت "، وهو في سبيل ذلك انما يصارع طوال حياته. وتتخذ فكرة الكفاح في فلسفة اونامانو اشكالا متعددة، فهو لا يكافح الموت فحسب، وانما يكافح الحياة نفسها ايضا، ولا يبقى له إلا ان يقاوم حتى النهاية، ولهذا فالانسان عند اونامونو هو الانسان المتحفز للصراع باستمرار، المكافح في سبيل الحفاظ على الحياة دائما، وليس امامه في سبيل البقاء والخلود والانتصار غير حلول ثلاثة يوردها في كتابه الاساسي "  الشعور الماساوي بالحياة ":

الاول: ان يعرف الانسان انه سيموت موتا كليا، وفي هذه الحالة سيكون عليه ان يعيش حياته في يأس وقلق كبيرين

الثاني: ان يعرف الانسان انه لن يموت نهائيا، بل سيبقى جزء منه خالد، وفي هذه الحالة سيطمئن على مصيره

والثالث: ان يعرف الانسان انه لا يدري يقيننا ما هو الحق في هذا الامر، اهو سيموت ام لن يموت، وفي هذه الحالة يكون الانسان في صراع دائم مع نفسه، ونضال مستمر ليبقى وجوده ثريا بالتجارب والخبرات والانتصارات.

عن طريق هذه الحلول يتوصل أونامونو الى أنه من الصعب وضع الإنسان في إطار محدد، لأنه متجدد بإستمرار، يرفض القوالب الجامدة. والإنسان لا يتميز فقط بالفكر،بل إن أهم ما يميزه هو الإحساس والمشاعر والوجدان وهي تتسم بالحيوية والتجدد. ولذلك كان اهتمامه الدائم بالتنقيب فى أعماق الإنسان الفرد الذى يعد بداية انطلاقه نحو الخارج. واستحوذ علي اهتمامه المصير الإنساني، إنطلاقاً من الأبعاد الوجودية التي تتمثل في القلق واليأس والحرية والمعاناة والشك والصراع، وغير ذلك من الأبعاد التى تلتصق بالمصير الإنساني.

يكتب حسن حنفي: " إن فلسفة أونامونو هي فلسفة ملتصقة بمأساة الحياة، وتفكير في المعني اللآسيان للحياة. إنها تنبثق من الإيمان، وتستند إلى اللامعقول.. إنها فعل جوهره النضال، ولا نتيجة لهذا النضال غير هزيمة الإنسان، لكن هذه الهزيمة نفسها هي أروع انتصار" – دراسات فلسفية الجزء الثاني -

لعب كيركغارد وفلسفته تأثيره كبيراً علي أونامونو، بل ان هناك تشابها بيهما متمثلاَ في نظرتهم الى تراجع دور العقل في حياة الانسان واهمية الاحاسيس والمشاعر: " إن الأسبقية ليست للأفكار، وإذا طبقنا ذلك علي التفاؤل والتشاؤم نجد أن أفكارنا ليست هي المسؤولة عن تفاؤلنا أو تشاؤمنا وإنما تفاؤلنا أو تشاؤمنا يشكل أفكارنا ". ونجد أونامونو يتساءل: لماذا لم يتم وصف الإنسان بأنه عاطفي أو ذو حساسية؟ ولعل ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الشعور وتلك الصفة هي اكثر وضوحاً عن العقل بمعني آخر إن الشعور وليس العقل، ومن اجل فهم كيركغارد يتعلم انونامونو الدانماركية لقراءته بلغته الاصلية، وكان يقول ان هناك رابطة روحية بينه وبين الفيلسوف الدنماركي الشهير، 

إن الإنسان الذي يسلط اونامونو الضوء عليه في فلسفته الوجودية، هو الإنسان الملتصق بالحياة المتفاعل معها. هو الآخر المتواجد أمامنا الذي يتعامل معنا ونتعامل معه، ويشعر بنا ونشعر به، هو أنا وانت، وهو ذلك الآخر القريب منا والبعيد عنا.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

نظلم آباءَنا مرّتيْن؛ مرّة حين لا نقدّر نفاسةَ نصائحهم لنا إلّا بعد أن نَـكبُر ونُنجِب، ومرّة حين يرحلون ونتوانى في رثائهم إلى حين. والحقّ أنّ الأعذار إنْ غابت في المَظْلَمة الأُولى، فلن نعدمها في الثانية؛ لأنّ صدمة رحيل الأحبّة قد تعقل لسان القلم وتلجمه، وكثرة مآثرهم قد تزدحم في الذهن وتصطخب حتى لا تجد لها مَنفذا، وشدّة القرب على عكس ما يعتقد البعض قد تصبح حاجزا أمام البوح وحجابا عن التعبير، وساعتها يصبح الصمت خير معبِّر عمّا في الأحداق من عَبَرات وما في الصدور من زفَرات، ومع هذا يبقى "رثاءُ الأبِ ديْنٌ أيُّ ديْن" على قول أمير الشعراء شوقي، وتبقى مقولة: "أن تأتي متأخّرا خيرا من أن لا تأتي أبدا" صالحة للاستشهاد.

رحل أبي –وليس في الناس كأبي- ظُهر السادس من مايو عام 2014 إثر أزمة قلبية حادّة، فاضت على أثرها روحُه إلى بارئها في دقائق معدودات، وعلى قدر ما كانت هذه النهاية المباغِتة صدمةً مروّعة وضربةً للظهر قاصمة، إلّا أنني واثق من أنه كان مرتاحا لذلك، لأنه عايش جدّي رحمة الله عليه طريح الفراش لسنوات جرّاء جلطة دماغية جعلتْه في حاجة على مدار الساعة إلى مَن يطعمه ويسقيه ويحمّمه ويمرّضه، وعلى أثرها تَمنّى الوالد أن يموت واقفا كشجرة السنديان ولا يهزمه المرض بهذه الصورة المفجِعة، ويظلّ على العهد جبلا أشمّ يأنف أن يكون محطّ شفقة، ويكره أن يكون كَلًّا على غيره حتى لو كان هذا الغير أعزّ أبنائه وأحنّ بناته.

قاسى رحمة الله عليه من طفولةٍ  بائسة، وأكثر ما قاساه كان حرمانه من تعليمٍ شغف به وطمح إلى استكماله حتى أقصاه، فبعد سنوات قلائل نال فيها إعجاب مدرّسيه وتنبّأوا له بمستقبل باهر وقتما كان التعليم قليلا والباب على مصراعيه مفتوحا للأذكياء أمثاله، إذْ بجدّي رحمة الله عليه يضنّ به على مدرسة لا تنتج قمحا ولا تدرّ حليبا على حدّ تفكيره، ويجود به للعمل في فلاحة الأرض واكتساب القرش والقرشين باعتباره أكبر أولاده ولا بدّ له من دفع النصيب الأوفر في مجابهة سنين داجية ملؤها الفقر والجهل والمرض. وعبثًا حاول المدرّسون إثناءَه عن ذلك تارةً بالترغيب عبر الإغراء بتوفير ما يلزمه من أدوات مدرسية وملبس، وتارةً بالترهيب عبر مَحاضر رسمية يدفع بموجبها غرامة مالية، ولكنه ركب رأسه ومضى في طريقه غير آبه، يتلقّى المَحضر بصدر رحب وعصَب بارد فينقدهم غرامةً تساوي أجرة نصف يوم ويستعين بالنصف الثاني على إعالة أسرة ضخمة على عادة القوم آنئذ.

وضمن مسلسل القسوة ذاتها، لم تكتف الخدمةُ العسكرية الإجبارية بثلاث سنوات اقتطعتْها من بواكير شبابه وقذفَت به في أتون حرب أهلية يمنية اندلعت في ستينات القرن الماضي لثمان سنوات وكانت للجيش المصري كفيتنام للجيش الأمريكي، بل استدعتْه في نكبة 67 ثمّ أعادت الكَرّة قبيْل 73 ضمن خطة التمويه التي أعدّها الداهية أنور السادات ورفاقه، ولا ريب أن هذه الخدمة العسكريّة شبه الممتدّة كان لها بالغ الأثر في بناء شخصيته الجَلْدة الأَبِيّة المُشِعّة بالأمان والزاخرة بالعطاء. زِد على ذلك رصيدا إضافيا من خبرة الحياة اكتسبها إبّان اغترابه في العراق والعمل به أيام سمْن دجلة وعسل الفرات.

ولا أخفيكم سرّا، أنّ سؤالًا عن تكلفة بيت بنيتُه أو ثمن أرض اشتريتُها أو حتى مصاريف زواجي، لن تجد له جوابا سوى في ذاكرته المرتَّبة كذاكرة حاسوب، وفي أوراق له محفوظة يخطّ بها كلّ شاردة وواردة؛ إذ كان خير من أُسلّم إليه مفاتيحي وأُودعه سرّي، ليس لأنه الأب  فقط والابن ملْك أبيه وغرْس يديه، ولكن لحكمته وحنكته وخبرته، وكيف لا؟ وهو الذي يصدّره الناس في مجالسهم ويقصدونه في حوائجهم ويحلّون بين يديه مشاكلهم، فيُوَكِّلونه في زواج ويُشهدونه على اتفاق ويَشتري لهم ويبيع ويَستشيرونه فيشير، ولا زالت الحقيبة الرمادية الضخمة تحت سريره شاهدة على فيض من الودائع المحفوظة لديه؛ وثائق زواج، قوائم منقولات، عقود بيع وشراء، إيصالات أمانة، إضافة إلى أموال بالعملات المحلية، وأخرى بالدولار لمغتربين دأبوا على تحويل ما يدّخرونه إليه، ومنه إلى زوجاتهم الأمّيات اللائي لا يعرفْن الفرق بين الدولار والسولار، بل إنّ بعض السيّدات كانت تُودعه ذهبها لحفظه بعيدا عن يد زوج منفلِت تخشى أن تمتدّ يده لبيعه عند أوّل نازلة!

كم من مواقف باهرة تدلّل على بذله أقصى الجهد ليعبر بي إلى نجاحات أدين له بها ما حييت، منها ما لم أطّلع عليه بحكم طبيعته الوَقورة الكَتومة، ومنها ما اطّلعت عليه عبر أقرباء اعتبروه مثلا يُحتذى وراحوا يروون عنه على سبيل المدح والفخر معا؛ كذاك اليوم الذي غرّد فيه قلبُه إثر تفوّقي في الثانوية العامة، وراح يزفّ الخبر بعيون رطبة لامعة إلى أحد الأطباء من أقرانه، ولمّا أشفق هذا الطبيب على حالتنا المادية غير الميسورة ونصحه بإدخالي كلية الصيدلة والابتعاد عن طريق الطب، بحجّة أن طريقه طويل ومكلِّف، إذْ به يطوي أسفا شديدا بين جوانحه ويردّ بصرامته المعروفة: سأُدخله الطب ولو اقتضى ذلك بيع ما ألبسه من جلباب! وقد وفّى في ذلك وكفّى وهو العصامي المُعتدّ بذاته الذي شمّر عن الساق والذراع، وشقّ الأرض بالفأس والمحراث، وكلّ مُناه أن يرى بَنِيه زرعًا يانعًا يَكبر ويُزهر ويُثمر أمام ناظريه.

ربّما لم يوجّه إليّ يوما نصيحةً مباشرة أو وصيّةً مجرَّدة، على طريقة: افعل ولا تفعل، وحذار وإيّاك، ولكنه كالعظماء والوجهاء لم يألُ جهدا في إزجاء الوصية تلو الوصية والنصيحة وراء النصيحة ولكن بطريق القدوة العمليّة؛ فعلّمني أن الرجولة مسئولية، والاحترام أكثر ما يزين الرجال، وصلة الرحم كالماء والهواء، والطموح لا يحدّه حدّ، وعزّة النفْس أغلى ما يكنزه المرء، واللفّ والدوران حيلة العاجز المِهذار، والإمّعات والمتملِّقين هم أخسّ أصناف العبيد.

 كلّما أمسكْت بأوراق نقدية لأحصيها، تذكّرْتُني صبيًّا يوم وضع رزمة من الجنيهات بين أناملي، وعلّمني كيف أعدّها بيسر وسرعة تنافس عدّادة النقود في البنوك. وكلّما نقرْت بأصابعي على آلة حاسبة تذكّرْتُه يوم يبيع الأرز فيمليني الموازين وسعر الطنّ، وقبل أن أظفر بالنتيجة بعد جهد يكون قد تحصّل عليها في ذهنه دون ورقة وقلم. وكلّما حانت منّي التفاتة إلى الهدايا التي في حوزتي، لم أجد أثمن من تفسير الجلاليْن الذي جلبه إليّ على كتفه من بغداد.

 وما من مناسبة عائلية كبرى مرّت بي إلّا ودمعَت عيناي لغياب هامته العالية وقامته المَهيبة وصوته المجلجِل وحضوره الأخّاذ، وتمنّيت لو أمهله القدر ليزوّج أولادي ويرى أحفادي وتقرّ بهم عينُه، ولأضع بين يديه كتبي التي أهديتُه واحدا منها، ولأسافر معه إلى بلاد العالَم شرقا وغربا، ولكن إرادة الله غالبة وكفاه سبحانه فضلا أن أكرمه بحجّ بيته الحرام وملازمة المسجد ومزاولة الكثير من أعمال البرّ في سنواته الأخيرة.

والحقّ أنّ الأسى أحيانا يعضّني بأشرس أنيابه وينشب مخالبه في أعمق أحشائي؛ لأنّي قضيتُ شطرا كبيرا من عمري مغتربا عنه ففاتني خدمته حين في السنّ طَعَن، ولم أحمْل نعشه حين إلى القبر ظَعَن ، بل ولم أتمكّن من زيارة قبره إلى الآن رغم مضيّ السنين الطوال! وعذري وعزائي بأنّ هذه الغربة المؤلمة وتوابعها المريرة لم تكن باختياري، وهو على ذلك من الشاهدين بل والناصحين، والحمد لله أن جعل في الدعاء والصدقة متنفَّسا نجبر بهما ما انكسر ونعوّض بهما ما فات، ولعلّ الله جلّ في علاه يحشرنا سويّا في جنة النّعيم على الأرائك متكئين وإلى وجهه الكريم سبحانه ناظرين هانئين.

والعجيب –وكل خلْق اللهُ عجيب- أن الموت قد يفتح لنا أفقا جديدا فيمن نحبهم ويُرينا ما كنّا عنه غافلين حال حياتهم، ومن ذلك أني لم أنتبه إلى جمالية اسمه (لطفي) سوى بعد رحيله، فهو اسم عربي أصيل مشتقّ من اللُّطف، ويحمل معنى الرأفة والرقّة والدقّة، ولكن لتفرّده وتميّزه وثاقب نظرته رحمه الله، لم يكن لطفه ورأفته من النوع الليّن الرخو الذي يصنع رجالا من خزف ينكسرون عند أوّل عثرة، بل من النوع الجادّ الصارم الذي يصنع رجالا من ذهب يصمدون أمام الحرّ والقرّ ويجتازون الوِهاد والأطواد، وذلك على طريقة: "ومَن يَكُ حازمًا.. فليقْسُ أحيانًا على مَن يَرحمِ".

رحمك الله يا أبي، وأذاقك في الجنة من النعيم بقدر ما في الدنيا تعبت وشقيت، وإنّا وإيّاك على الموعد في الفردوس الأعلى إن شاء رب العالمين الرحيم الودود ذو الكرم والجُود.

***

د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

 

قيل خمسون عاما، نصف قرن، خلت تركت العراق للدراسه طوعا قارئي الكريم. كان كما هو الان في مساء يوم خريف تشريني توجهت مع عائلتي وبعض من الاقارب والاصدقاء المقربين من الكرادة الشرقية في الرصافة إلى المحطة العالمية في الكرخ للسفر بقطار الشرق السريع المتجه صوب تركيا لاكمال دراستي الجامعية.

البحث عن عشب الخلود يتطلب الكثير واحيانا نصارع حنفيش الذي ينتصر في نهاية الامر ويسرق العشب منا. انها سفر يطول بين باكورة حلمنا ألذي لا يعرف اين تكون المحطة الاخيرة.

 تلك السفرة استمرت لثلاث ايام قبل أن اصل إلى أنقرة عاصمة تركيا عام ١٩٧٢ (عام تاميم النفط في العراق).

 كان معي في مقصورتي طلاب من البان كوسوفو من جمهوريات يوغسلافيا السابقة وممن كانوا يدرسون العلوم الدينية في النجف الاشرف. هؤلاء الطلبة كانوا فرحين ويغنون اتذكر احدهم واسمة (جمال بيرام) كان يدق على البزق يشاركه الآخرون بالغناء.

كان رجال الجمارك والشرطة في الحدود العراقية التركية يفتشون كل شي وأحيانا يصادرون ما يشتهون هذا ممنوع وذاك كذلك وتكرر هذا حين وصلنا بالقطار إلى سوريا ثم عدنا مرة أخرى إلى تركيا. اخيرا بعد عناء ثلاث ايام سفر وصلت محطة قطار أنقرة. وقفت على الرصيف وحيدا بعد ان غادر معظم المسافرين ابحث عن وجه صديق فلم أجد أحدا حيث كان من المفروض ان ينتظرني اخي الكبير رحمه الله (علي) في المحطة و الذي كان قد سبقني للدراسة في تركيا بعام.طبعا على نفقة الخاصة اي من جيب الوالد الف تحية لروحه الطيبة انار الرحمن قبرة بقبس من عنده الى يوم الدين. اقول وانا في حيرتي تلك وإذا بشابين يقتربان مني وفي يدهم صورة فوتوغرافية لي فقلت لهم هذه صورتي. كانا رفيقان لاخي الذي لم يتمكن هو بنفسه ترك الجامعة واستقبالي. كان أحدهم واسمه (عثمان اوجمان) كردي من مدينة اورفا (الرها) يدرس في جامعة أنقرة فرع الآثار الذي اصبح لاحقا اي ابو عمر مدير لمتحف مدينة مانيسا في تركيا والاخر كان المرحوم المهندس نامق قوجه قصاب رحمة الله عليه و رضوانه صديقنا من اربيل. المهم قارئي الكريم استقلنا سيارة اجرة (تكسي) واتجهنا إلى مركز المدينة خسث بناية (قزل ئاي، الصليب الأحمر) من المؤسف ان تلك البناية قد غيبت تخت زحف العمارات الشاهقة التي غزت مركز المدينة اليوم. هناك حيث شقتنا في الطابق العاشر من عمارة وسط العاصمة (زرت أنقرة قبل عشر سنوات مع زوجتي لاسترجاع بعض الذكريات فوجدتها قد تغيرت جذريا) العمارة التي سكناها قبل خمسون عاما لا تزال قائمة ولله الحمد في حين بناية الجامعة هدم .

ذلك اليوم الخريفي بدأت رحلتي مع الحياة في المهجر ولم تنتهي ما عدا سنوات الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياط، فها انا اسافر من بلد لآخر وأقيم فيها سنوات واتعلم لغاتها التي وصلت العشرة وثقافاتها الواحدة بعد الاخرى ومنذ ذلك اليوم.

كنت قد حصلت على قبول من كلية الطب في أنقرة لكن المرحوم اخي علي نصحني أن ادرس اللغة التركية أولا ثم الاستمرار في الدراسة الجامعية وذلك لوجود فارق كبير بين اللغة التركمانية اللهجة الكركوكية التي اجيدها وبين اللغة التركية الاستانبولية المستخدمة في الدراسة الجامعية. ومن لا ينصاع لمشورة أخيه الكبير . وبذلك سجلت نفسي في جامعة أنقرة كلية الآداب لدراسة اللغة التركية التي استمرت عاما دراسيا كاملا. تعرفت على بعض الأصدقاء وتاقلمت مع الحياة في العاصمة التركية. وكنت احضر دروسي يوميا وقد أضافت مدرسة اللغة التركية نكهة خاصة للدروس حيث لم نكن قد تعودنا أن تدرسنا سيدة في العراق.

قدمت الى اكاديمية المعمار سنان في استانبول باني العديد من جوامع تركيا وبعد امتحان اليوم الاول وكان على شكل رسم من الخيال لفنجان قهوة مقلوب على طرف صحن صغير. والسؤال الثاني كان كتابة انشاء لقول احد الفلاسفة وفي اليوم التالي كانت المقابلة. رجعت بعد الامتحان الى الفندق في في منطقة بي اوغلو العريقة. رن التلفون في منتصف الليل واذا بصوت اخي يطلب مني التوجه فورا الى انقرة لاني قبلت في كلية الصيدلة كنت قد اجريت العديد من الامتحانات القبول في العديد من الجامعات. حصلت القبول في جامعة انقرة فرع السومريات. هكذا منتصف الليل كان علي اترك استانبول واتوجه الى العاصمة انقرة بالباص الذي يقلع حاملا المسافرين وباستمرار من محطة الباصات الى معظم المدن التركية. وصلت صباحا الى انقرة وتوجهت الى الجامعة فرحا كي اسجل في الجامعة. المفاجأة كانت تنتظرني حيث ان اسمي حذف من القائمة المقبولين وحل محلها اسم اخر (سعيد قلنجي) واسمي بقى في قائمة الاحتياط. ولاسباب سياسية كما قيل لي لاحقا. بهذا فقدت كذلك مقعدي في كلية المعمار سنان في استانبول.

اصبت بكابة وقنوط وقررت العودة الى الوطن. وانا على حالي تلك وانا اتمشى في احد شوارع العاصمة واذا بي التقي بصديق وقريب لي وهو المرحوم الدكتور اكرم بامبوخچي فاستفسر عن حالي واحوالي. شرحت له بالتفصيل الممل ما حل بي. قال ممازحا بسيطة. الان نذهب الى الجامعة واسجلك في احد الدراسات العليا واذا رغبت تتمكن العام القادم من تبديل فرعك. شكرته على الممازحة. فرد علي بانه جدي في حديثه. وفعلا ذهبنا وقابل عميد الكلية المرحوم البروفيسور حيدر قرال الذي قابلني برحابة بهيئته الوقورة الابوية. وطلب مني المجيئ لاداء امتحان القبول في بداية الاسبوع. المهم بدات بالدراسة واستمريت الى لن انهيت دراستي الجامعية دون ان اغير الكلية والجامعة.

خلال الخمسين عاما خلت سكنت عدد من الدول من جمهوريات وملكيات ومن اشتراكية الى راسمالية وتعلمت لغاتها وجمعت من علومها وثقافتها.لي صديق ورفيق هنا وهناك. لكني بقيت صادقا لسنوات شبابي وملاعب طفولتي وصباي بين كركوك و بغداد واصدقاء طفولتي لا ازال اراسلهم بين الحين والاخر. اسال عن كل وجه قابلته يوما ساعدني في سفرتي الطويلة وادعوا للجميع الصحة وراحة البال.

تحية إجلال واحترام إلى كل فرد ممن قابلته والى اساتذتي في سفري الخمسيني هذه. والى أرواح من رحلوا عنا جميعا السكينة والطمأنينة والف سلام. الشكر والف شكر لجميع المدرسين والمدرسات والاداريين اللذين علموني كيف يغدو المرء انسانا في سفري الطويل هذه.

 تلك كانت احدى المحطات وتليها محطات اخرى في المستقبل انشاء الرحمن ولقاء يجمعنا معكم بعد حين.

***

د. توفيق آلتونچى

(إن اكثر الجنات حقيقة هي تلك التي فقدناها).. بروست

دائماً ما أجد احد الاصدقاء من المهتمين بالكتب يقول: لست مضطراً لأن اعكف على قراءة رواية تتكون من سبعة كتب، انه عمل متعب، واصحاب هذا الرأي يشيرون إلى رواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود". وهي بالتاكيد أطول رواية على الإطلاق، تبلغ صفحاتها ضعف صفحات رواية تولستوي " الحرب والسلم "، من لديه الوقت لذلك ؟، هناك في عصرنا الحالي محاولة للكاتب النرويجي " كارل أوفه كناوسغارد" من خلال روايته " كفاحي " التي تقترب عدد صفحاتها من رواية مارسيل بروست، وكان كناوسغارد قد اعلن للقراء ان روايته ستتفوق على رواية بروست بعدد الصفحات لكنه استدرك قائلا: " اما الفن .. لا يجرؤ احد ان ينازل العبقري الفرنسي ".

في كتابه الممتع " كيف يمكن لبروست ان يغيّر حياتك ؟" – ترجمة يزن الحاج - يشير الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون إلى موقف مارسيل بروست من القراءة، فهو يقول لاندريه جيد:" أؤمن على عكس ما هو سائد بين مجايلينا، أن بامكان المرء ان يمتلك فكرة شديدة السمو عن الادب، وان يسخر ببراءة منه في الوقت نفسه".

عندما كان مارسيل بروست في الثامنة والعشرين من عمره، كانت حياته رتيبة، لم ينجز شيئا، يعيش في منزل عائلته، دائم المرض، كانت تزعجه محاولاته لكتابة رواية منذ اربعة اعوام، لا توجد اشارات انه سينجز شيئا مهما .. يعثر على كتاب للناقد الانكليزي جون رسكن المشهور بكتاباته عن فنون عصر النهضة، وستدفعه قراءة رسكن إلى تاجيل طموحاته في اكمال روايته، يقول في احدى رسائله ان قراءة رسكن ساهمت في:" استعادة الكون فجاة قيمة لا نهائية في نظري " ويعزو بروست الأمر الى ان جون رسكن كان عبقريا في تحويل انطباعاته الى كلمات، وسيساهم رسكن في جعل بروست اكثر حساسية مع الكلمات، ولهذا قرر صاحبنا ان يصبح باحثا متخصصا في اعمال رسكن، وبعد عام يتوفى رسكن فيقرر بروست ان ينشر مقالات عنه ويجمعها في كتاب "أيّام القراءة" ينشره عام 1905، . في بداية الكتاب يكتب بروست:" قد لا يكون في طفولتنا أيام عشناها بامتلاء،إلا تلك الايام التي اعتقدنا أننا تركناها دون ان نعيشها، تلك التي قضيناها برفقة كتاب مفضل " ويخبرنا من خلال كتابه أن القراءة لا تعني الهروب من الحياة التي تحيط بنا. كان بروست يتحين الفرص لكي ينزوي في ركن من المطبخ ممسكا كتابه بيده، يجد نفسه وسط الصحون وبالقرب من المدفأة، يشرع في القراءة. وفي الليل حين يصعد السلم إلى غرفته يستغرق في قراءته، وما ان ينتهي من الصفحة الأخيرة من الكتاب، حتى يجد نفسه يحاول ان يوقف السباق المحموم من الكلمات التي تدور في راسه:" لكي استرجع انفاسي، مع تنهيدة عميقة . وحينئذ، لكي اساعد الاضطراب الذي بقى ردحا طويلا مطلق العنان في داخلي " – ايام القراءة ترجمة زهرة مروة - . يقول بروست ان القراءة اتاحت له ان ان يعيد التفكير في كتابة روايته وساعدته ان يمتلك عقلا نقديا يكون قادرا على الوصول الى الحياة الداخلية للكلمات .

دائما يثار السؤال: من قرأ رواية البحث عن الزمن المفقود، والتي تحتوي على 500 شخصية رئيسية ومايقارب الثلاث الآف اسم علم؟ ظل القراء منذ وفاة كاتبها عام 1922 يبحثون عن اصولها وعلاقاتها والاماكن التي عاشت فيها ؟ ..صدرت الترجمة العربية للرواية باجزائها السبعة المرة الاولى في منتصف السبعينيات حيث قام بالترجمة المترجم السوري القدير الياس بديوي، الجزء الاول بعنوان " جانب منازل سوان " صدرعام 1977، الا ان المشروع توقف عند الجزء الرابع الذي صدر عام 1982، بعدها يعود المترجم في منتصف التسعينيات ليترجم الجزء الخامس، وبعد وفاته يكمل المترجم جمال شحيذ ترجمة الجزء السادس الذي صدر عام 2003، والسابع الذي صدر عام 2005 – اعادت دار الجمل طباعتها كاملة بترجمة الياس بديوي وجمال شحيذ - اتذكر ان جريدة اخبار الأدب المصرية أصدرت عددا خاصا احتفالاً بذكرى بروست والتقت بعدد من الكتاب لتسألهم من اكمل قراءة البحث عن الزمن المفقود، وكانت المفاجاة ان نجيب محفوظ وحده الذي اجاب بكلمة نعم فقد قرأ الرواية كاملة بنسختها الانكليزية، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات حسب قوله .

ولد مارسيل بروست في العاشر من تموز عام 1871 الاب طبيب مشهور والام يهودية من عائلة ثرية كانت تهوى القراءة وزيارة المتاحف، تعرف من خلالها على كتابات سان سيمون وفلوبير وبودلير وديكنز، في التاسعة من عمره أصيب بمرض الربو الذي رافقه حتى اليوم الاخير من حياته، في مراهقته تعلق بعدد كبير من النساء، اصيب بانهيار عصبي بعد وفاة والدته وهو في الرابعة والثلاثين، عاش نصف حياته ممددا على السرير في غرفة اضيئت بمصباح اخضر اللون، وعزلت جدرانها بمادة تمنع وصول أصوات الخارج اليه، أدمن الوحدة والانعزال بناءً على وصايا أمه التي كانت تخاف عليه بشدة .

بعد واحدة من خلواته الليلية، جلس في غرفته يقرأ مرتجفاً من البرد،قدمت إليه امه فنجاناً من الشاي مع صحن من الكعك الذي ما أن وضع قطعة منه في فمه حتى غمره شعور بالنشوة، أغمض عينية ليسترجع ماضياً كان قد اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة. أعاده طعم الكعك إلى بيت عمته التي كانت تحضّر له كلّ صباح هذا النوع من الكعك مع كوب من الشاي. .ليتجه بعدها إلى مكتبه الخشبي يخرج الأوراق ليخط الجملة الأولى في روايته: " كثيرا ما أويت الى سريري وكانت عيناي احيانا حالما اطفيء شمعتي، تغتمضان بسرعة لاتدع لي متسع من الوقت اقول فيه أنني انام " . سيستغرق تاليف الرواية خمسة عشرعاما، اراد خلالها ان يؤكد وجهة نظر مفادها ان الحياة يعيشها الانسان وهو يتطلع إلى امام، لكنه يفهمها وهو ينظر إلى الوراء .وفي مرحلة من مراحل حياتنا، يكون ما هو وراءنا أكثر إثارة للاهتمام مما هو امامنا .في البحث عن الزمن الضائع يحاول بروست تذكر الماضي مع أمه، وأيام طفولته الأولى، حين كانت أمه أحياناً ترفض الصعود الى غرفته لتطبع قبلة على جبينه قبل ان ينام، أراد ان ينتشل الأيام الماضية من هوة النسيان .

رفضت دور النشر مخطوطة الجزء الأول من روايته، وتساءل الناشرين لماذا يحتاج الكاتب الى ثلاثين صفحة ليصف تقلّبه في فراشه قبل أن ينام. نشر بروست الرواية على حسابه لتصدر عن دار صغيرة . كان أندريه جيد رفض المخطوطة عندما قدمها بروست لدار غاليمار، لكنه اعتذر عن تصرفه الاحمق كما وصفه فيما بعد .

بدأ كتابة رائعته بعد جدال مع الناقد الشهير سانت بوف الذي كان يرى ان حياة الفنان تتحدد في أهمية عمله الادبي او الفني . كان بروست، رجل انعزالي جداً، كما يقول في العديد من رسائله، كرس معظم ساعات الاستيقاظ لعمله الروائي،، تحدث في الرسائل دون توقف، مثلما كان يتحدث في البيت مع مديرة منزله سيلين التي كان يتحدث معها وهو ممدد على السرير متكئا على وسادتين، بينما كانت تقف عند حافة السرير.

ظل يوصف بانه شهيد الجمال الذي ضحى بحياته من اجل ان يكمل روايته، حيث نقح اجزائها الأخيرة وهو على فراش المرض. لم يتنازل عن اوقات الكتابة من اجل اللقاء بشخص ما او مجاملة صديق، لأن ذلك كما يخبرنا في رسائله يشبه التضحية بالحقيقة لمصلحة الوهم، يكتب جان كوكتو الذي حضر وفاة بروست، وقرأ بعض من رسائله ان:" الاوراق التي سجل عليها بروست ملاحظاته وافكاره ورسائله تبدو لنا مثل ساعة تدق على الذاكرة ".

بصف النقاد رواية " البحث عن الزمن المفقود " بانها اشبه بسمفونية. المواضيع الرئيسية فيها - الحب والفن والوقت والذاكرة - منسقة بعناية وذكاء في جميع أنحاء الكتاب. تصف الصفحات الاولى، التي أطلق عليها بروست العرض، بطريقة دقيقة الهدف من البحث، وهو إيجاد إجابة لأسئلة الحياة الأساسية: من أنا؟ ماذا أفعل من هذه الحياة؟ كما يشير عنوان بروست، فإن الشخصية الرئيسية، المعروفة باسم الراوي أو مارسيل، تبحث عن هويتها الخاصة وعن معنى الحياة.

على مر السنين، نشرت العديد من الكتابات عن بروست وملحمته الروائية، وكان هناك الكيثر من القراء الذين يقولون إن بروست غير حياتهم من خلال منحهم طريقة جديدة إلى العالم، وجعل الرؤية الى الحياة واضحة، رؤية تجعلنا ندرك كيف نتفاعل مع الآخرين، مما يوضح لنا عدد المرات التي نخطئ فيها في افتراضاتنا الخاصة ومدى سهولة الحصول على وجهة نظر متحيزة تجاه شخص آخر. ولهذا يجد علم النفس شخصيات بروست غنية ومعقدة وهي مخلوقات ذات "تنوع غير محدود". يكتب الناقد الشهير جورج ستاينر وهو يضع مارسيل بروست في الطبقة العليا من الكتاب: "كان بروست الرجل الذي علق القمر من أجلي. إنه مع شكسبير استطاع امتلاك موهبة متنوعة.عندما تقرأ بروست، لبقية حياتك، يصبح جزء منك،بالطريقة التي يعتبر بها شكسبير جزءا منك.لا أريد المبالغة، لكنني أشعر حقًا أنه الكاتب العظيم في القرن العشرين "- في قلعة ذي اللحية الزرقاء ترجمة الحسين سحبان - .

عندما يسالني قراء شباب عن خوفهم الاقتراب من البحث عن الزمن المفقود، اقول لهم دائما: على الرغم من أن رواية بروست تتطلب قارئا يقظا، إلا انها ليست صعبة أبدا. وعلى الرغم من طولها وتعقيدها، سيجد القارئ ان الوصول الى معانيها سهل جدا. وصف فلاديمير نابوكوف، الذي اعتبرها أفضل رواية في عصرها، موضوعاتها الرئيسية وأسلوبها قائلا: "تحويل الإحساس إلى عاطفة، وجذر ومد الذاكرة، وموجات من العواطف مثل الرغبة والغيرة والنشوة الفنية. "هذه هي مادة هذا العمل الهائل والشفاف والخفيف بشكل فريد."

النصوص العظيمة هي تلك التي تتطلب قارئا محبا يجد نفسه في قلب الحدث. في حالة بروست، وبسبب السرد الحميم والجذاب، يصبح القارئ رفيقا للبطل وهو يسعى لاكتشاف حقيقة الحالة الإنسانية. ومن أجل اكتشاف حقيقة تجربتنا الانسانية يستخدم بروست ادواته الادبية الاستثنائية في الملاحظة والتحليل. رأى جوزيف كونراد في عمل بروست مفتاح عبقريته: "عمل بروست هو فن عظيم يعتمد على التحليل. لا أعتقد أنه يوجد في جميع الأدبيات الإبداعية مثال على قوة التحليل مثل هذا "..بعد ان انتهيت من قراءة "البحث عن الزمن المفقود اكتشفت ان رواية مارسيل بروست قد صهرت كل الروايات التي قبلها، بل صهرت الروايات التي قرأتها، وظل صوت مارسيل بروست واضحا وهو يطالبني بان اكون ما انا عليه .

بفضل قطع البسكويت، عشنا مع البحث عن الزمن المفقود لحظات اطلق عليها وصف " اللحظة البروستية " لحظة تذكر مفاجئ وحاد، لا إرادي، ينبثق فيها الماضي منطلقا من رائحة او طعم . ومن خلال هذه اللحظة يعلمنا بروست ان الحياة ليست بالضرورة خاملة او خالية من الاثارة، كل ما في الامر اننا ننسى ان ننظر اليها بالطريقة الواجبة " ننسى كيف هو الاحساس بان نكون احياء " . ان لحظة الشاي يجعلها بروست لحظة محورية في الرواية لانها تبين مل ما يريد ان يقوله في الرواية عن تقدير الحياة بقوة . انه يريد ان يشير الى السبب الذي يجعلنا ان نحكم على الحياة احكاما خاطئة، احكاما لا تنطلق من الحياة نفسها، بل تنطلق من تصورات ليسبها شيء من الحياة .

بالنسبة لي كقارئ كانت قراءة بروست لأول نوع من انواع التحدي، فكرت في مرات كثيرة التخلي عن قراءة " البحث عن الزمن المفقود"، اعتقدت أنه بإمكاني قراءة الكثير من الكتب الأقصر والأكثر إمتاعا في الوقت الذي اقضيه مع هذه الرواية الطويلة، وكنت أسأل نفسي باستمرار: ما الهدف من كل هذا؟ وكان هذا السؤال يرافق بروست اثناء كتابة الرواية حيث كرس رسائل لا نهاية لها والعديد من المقابلات الصحفية لدحض منتقديه وشرح الحلقات التي ما زالت قادمة .

نحتفظ لمارسيل بروست بصورة المريض الذي نادرا ما يغادر الفراش، لكن سيرة حياته تقول انه برغم معاناته كان يذهب بانتظام لحضور الحفلانت الموسيقية ومعارض الرسم . حصل بروست على شهادة جامعية من السوربون حيث درس الادب والفلسفة، كان يجد متعة في محاضرات الطبيب النفسي والفيلسوف الفرنسي المنسي فيكتور إيجر عن فلسفة سقراط، وقرأ مؤلفات ديكارت وفلسفة هيغل، كما كان مهتما بالتعرف على مفاهيم الايمان بالروح الانسانية عند كانط، وكان يقضي ساعات في قراءة كتب هنري برغسون وقد وجدت في مكتبته نسخة من كتاب برغسون " المادة والذاكرة " عليها هوامش وملاحظات.كان بروست قد استطاع من خلال روايته ان يحقق رغبة برغسون ان نعطي للاشياء بعدا جديدا حيث تمنى برغسون وصول فن " يوسع إدراكنا ليس للمساحة بل نحو العمق، دون ان نعزل الحاضر عن الماضي الذي يحمله معه " .

في واحدة من رسائله يكتب بروست ان ما اراد ان يقوم به في " البحث عن الزمن المفقود " يشبه بما اراد ان يفعله انشتاين، فهو حسب قوله اراد ان يعتمد على فضائل العلم في دقة اللملاحظة والامانة في تناول الحقائق، والاصرار على اكتشاف بعض القوانين العامة، ولعل اول الثيمات التي اراد ان يقدمها في روايته هي ثيمة الزمن، فقد كان بروست مسكونا بهاجس زوال اللحظات المؤقتة، وبحالة التغيير الدائمة لكل شيء من حولنا، وبالتغييرات التي يحدثها الزمن في اجسادنا وعقولنا . ان كل البشر سواء قبلوا هذه الحقيقة او انكروها، منغمسون في الزمن، وحياتهم عبارة عن معركة مع الزمن، ولهذا اراد بروست .أراد بروست أولاً وقبل كل شيء أن نكون ممتنين لظروفنا الأولية في الحياة. لقد أراد منا ألا نيأس مما هي عليه حياتنا، بل بالأحرى، أن نشعر بالتقدير لما لدينا.الملاحظة الثانية المهمة التي يقدمها بروست هي أن الامتنان للذات أو حب الذات لانه مهم للغاية حيث يشعرنا ا بالأمان. في الرواية، يقضي البطل الكثير من الوقت في مطاردة امرأة " خفقان القلب في الحب هو كل ما يريد بطل الرواية أن يعيش من أجله " .يجب أن نكمل أنفسنا من خلال حبنا لذاتنا. يجب أن نقبل أنفسنا تماما كما نحن. الملاحظة الأخيرة المهمة حول الحياة التي قدمها بروست هي أنه يمكن الاستمتاع بالحياة على أكمل وجه إذا كنا ممتنين لكل لحظة كما هي.

في مساء السابع من تشرين الثاني عام 1922 قال مارسيل بروست لأحد اصدقائه إنه إذا عاش هذه الليلة فإنه سيثبت للأطباء انه أقوى منهم، ومن بين هؤلاء الأطباء كان أخوه روبرت الذي توسل لمارسيل من أجل ان يعالج في عيادة طبية، ما حدا بمارسيل منعه من دخول البيت . فقد كان بروست يتشاءم من عيادات الأطباء، فهو يتذكر أن أمه أخبرته انها كادت تموت عند ولادته، كان فرانسوا مورياك قد أجبره على تناول الطعام بصعوبة فيما بروست يقول لضيفه: "لا تتصور كم كنت قريبا من الموت ." قال لمربيته: حان الوقت "لمناداة الأطباء"، كان يهمس بصوت مضطرب:أمي، ثم دخل في حالة غيبوبة .. يسرع أصدقاؤه إليه فيجدوه هادئا فاتحاً عينيه ممسكاً بيد شقيقه الذي طالما تحدث معه عن الماضي، عن أبيه عن أصدقائهما القدماء .. لم يستمر طويلاً في تذكر الزمن،فقد كان شبح الموت أقرب إليه ليغادر الحياة في صباح الثامن عشر من تشرين الثاني عام 1922 .

***

علي حسين

....................

* بمناسبة مرور مئة عام على رحيله وضعت بلدية باريس هذه اللوحة امام المبنى الذي كان يسكن فيه بروست .

 

يوم الشهيد تحية وسلام

بك والنضال نؤرخ الأعوام

بك والضحايا الغر يزهو شامخا

علم الحساب وتفخر الأرقام

وبك (القيامة) للطغاة تقام

محمد مهدي الجواهري

عرفت والد الشهيد سامر مهدي صالح السلمان، عندما كان يدرسنا في الصف الأول الابتدائي عام 1954 في مدرسة فيصل الثاني في مدينة الحلة، وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 سميت في الوثبة تيمنا بوثبة كانون 1948 والتي أسقطت معاهدة بورت سموث الجائرة، كان انذاك يدرسنا استاذ مهدي صالح السلمان، درس الموسيقى والأناشيد، كان بحق مربيا للأجيال، دمث الأخلاق، أحبه طلابه، ويحترمه زملائه من الأساتذة .

ومرت السنين وشاء القدر أن التقيه في غرفة التحقيق، في أمن الحلة، وكنت معتقلا في دائرة الأمن في غرفة انفرادي، بعد إلقاء القبض علي عند مداهمة الامن لمنزلنا ليلا في محلة المهدية، وكبست معي مستمسكات حزبية وطلابية، ومنها جريدة (كفاح الطلبة) الصحيفة المركزية للإتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، وفي يوم مقابلة عزيز الحاج وكان يدلي باعترافاته ويحاوره محمد الصحاف من على شاشة التلفزيون وكذلك محطات الإذاعة، نودي علي للتحقيق في غرفة معاون المدير، أي معاون كامل سلوم السامرائي مدير أمن الحلة والفرات الاوسط، لضبط أفادتي، وكان جالس استاذي مهدي صالح السلمان، استغليت فرصة خروج المعاون سألته بعد أن عرفته بنفسي، لماذا انت هنا؟ أجابني قائلا انهم يسألوني عن رفيقكم سامر، وكان الاستاذ مهدي صالح قد ربى أولاده سامر وليالي وزاهر، تربية تقدمية من النواحي الثقافية والإجتماعية والسياسية، لكونه كان قريبا من الشيوعيين ومن مناصري القائمة المهنية في انتخابات المعلمين، بعد ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة عام 1958 .

بعد أن أنهى سامر دراسته الثانوية الفرع العلمي وبتفوق في الحلة، اختار الدراسة في جامعة بغداد كلية الهندسة، وكان رياضيا يحب كرة القدم وكذلك كرة الطائرة والعزف على العود، نشط في العمل الطلابي، وقام بتشكيل جمعية اجتماعية عملها، عقد ندوات ثقافية وأقامة سفرات وحفلات ترفيهية للطلبة، ومساعدة الطلبة الجدد في كلية الهندسة وكان ماهرا في عزف العود من خلال معرفته عائليا، كان متفوق دراسيا، كان يناقش في الأفكار الماركسية من خلال قرأته للأدب الماركسي وكتب جيفارا وروجيه دوبريه وكاسترو هوشي منة وغيرهم، والتي كانت منتشرة في الستينات من القرن العشرين، وكانت موضع إهتمام المثقفين من الشيوعيين والديمقراطين، وكان لضهور الأفكار الجيفاروية أنذاك دورا مهما بالتأثير على الشباب، جاء الانشقاق في صفوف الحزب الشيوعي العراقي والذي قاده عزيز الحاج وحسين جواد الكمر (أبو بسام)، جرى فيه اعتقال قادة من الحزب (ل.م) وهما زكي خيري وبهاء الدين نوري، وانحاز والتحق بهم عدد غير قليل من التنظيم الطلابي إلى جانب (ق. م)، وأعلن عدد من الرفاق في سجن نقرة السلمان انحيازهم إلى القيادة المركزية، رفعت القيادة المركزية شعار الكفاح المسلح لاسقاط نظام البعث، وبنيت هياكل تنظيمية لها في الاهوار الجنوبية من العراق، وعملت الأجهزة الأمنية والاستخبارتية لمتابعة تنظيمهم، حتى تم إلقاء القبض على سكرتير اللجنة المركزية لهم عزيز الحاج علي حيدر، وظهر على شاشة التلفزيون وهو يدلي باعترافاته ويعلن عن ندمه، وجرت حملات اعتقالات واسعة في صفوف القيادة والكادر، ونتيجة اعترافات الحاج تم اعتقال كل من كاظم الصفار وبيتر يوسف واخرين انهاروا في التحقيق، ولكن كان هناك رفاق شيوعيين اخرين صانوا لقب الشيوعي الوطني وهم الشهيد متي هندو واحمد محمود الحلاق وسامي محمد علي ومحسن ناجي البصبوص وكذلك محسن حسين حمادي الحسن الذي اغتيل من قبل الأجهزة الأمنية العراقية في لبنان خلال ملاحقتهم لرفاق هربوا إلى لبنان،

تشكلت بؤرة ثورية في اهوار العراق، أقدمت على نشاطات ثورية منها احتلال مركز للشرطة والحصول على كمية من السلاح وكان من الملتحقين الخالد خالد أحمد زكي الذي ترك إقامته في لندن ودخل العراق للالتحاق برفاق الدرب، ولكنه استشهد في معركة غير متكافئة، بوجود مروحية عسكرية لتمشيط هور الغموكة وبقية الاهوار، علما بأن الاهوار هي ارض منبسطة، ليس فيها سوى البردي والقصب ورعاة الجاموس، وبالنسبة للشهيد سامر مهدي صالح الذي ترك إكمال دراسة الماجستير ملتحقا في انتفاضة الاهوار،

يتحدث عنه رفيقه مؤيد الالوسي واقتبس من ماجاء برسالته المكتوبة في ايار 2010 يكتب :

حيث تم تشكيل تنظيم أتحاد الطلبة في كلية الهندسة في عام1965 بمبادرة من الزميل الفقيد عطا فاضل الخطيب، والذي عرفناه لاحقا كان عضوا في الحزب الشيوعي، عقد الاجتماع التأسيسي لاتحاد الطلبة بحضور كل من عطا فاضل الخطيب، ومصطفى العاني، كاكا عثمان، في قسم الكهرباء، سعدون كمونة، ومؤيد الالوسي، وبعد فترة وجيزة رشحت أنا الزميل سامر مهدي صالح لعضوية الحزب، وعملنا سويا في خلية واحدة وارتبطنا (سامر وأنا مؤيد الالوسي) الحزبيين الوحيدين في مجموعة (ق. م) استمر الشهيد سامر بعمله في التنظيم الحزبي لكونه التحق بدراسة الماجستير وكان العام1967_ 1968 وكان عام حافل بالنشاطات الطلابية وبلغ سامر وأنا كل على حدة التحاق في جبهة الكفاح الشعبي المسلح، وقد ترك سامر مهدي صالح دراسة المانجستير، وقد استشهد سامر مهدي صالح، كان بأسم (سمير الحلي) مهندس اغتيل عام 1968 ومعه مجموعة من البواسل. [انتهى الاقتباس].

قدم الحزب الشيوعي العراقي شهداء بواسل، اغتيلوا على يد عصابة قصر النهاية ومخابرات النظام بعد انقلاب البعث عام 1968 منهم عضوي اللجنة المركزية للحزب ستار خضير وشاكر محمود و، ومن الكوادر محمد الخضري والقائد الفلاحي كاظم الجاسم استشهد في قصر النهاية والعبادي والدجيلي وعبد الأمير سعيد وغيرهم .

و استحق الحزب الشيوعي العراقي لقب حزب الشهداء، والشهادة فرضت عليهم، لأنهم يحبون الحياة، كانوا يناضلوا من أجل غدا مشرق يسوده الأمن والسلام، وينعم الشعب به في ظل مجتمع الاشتراكية العلمية.

للشهيد المهندس سامر مهدي صالح وكل شهداء الحركة الشيوعية والديمقراطية في العراق المجد والخلود.

***

محمد جواد فارس

طبيب وكاتب

 

واليوسفي رمز ثورة ملك وشعب

انتصر الفريق الوطني لكرة القدم على منافسه الإسباني الذي يعد من أقوى الفرق الكروية في العالم. انفجر المغرب والأقطار العربية فرحا وغبطة من المحيط إلى الخليج. خرج عاهل البلاد يجول الشوارع مرتديا القميص الوطني وراية البلاد الحمراء تتوسطها نجمة خضراء ترفرف بيديه الكريمتين وسط هتافات شعب برهن دائما عن اعتزازه بانتمائه وتعطشه الدائم لتحقيق ريادة وطنه إقليميا ودوليا. ذكرني الحدث بالفترة التاريخية التي عبرت عن صدق تلاحم الشعب المغربي قاطبة مع عرشه. سميت في البداية باسم ذكرى 20 غشت، وأعطاها الملك الراحل محمد الخامس اسما بمدلول جديد "ثورة الملك والشعب". إنها الذكرى التي ساهم في تصميم بروتوكولات إحيائها المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، كرجل نعته البعض كزعيم بحجم وطن، والبعض الآخر كزعيم إجماع وطني. ربطته علاقة حب واحترام مع الملوك الثلاثة. مكانته الاعتبارية في الدولة المغربية ربما مرتبطة بكونه الأعمق فهما للتناغم المبحوث عنه بين الملكية والشعب المغربي. تجبرت في أحيان كثيرة الانتهازية المستثمرة في الابتزاز واستغفال الجماهير، فقابلها نوع من الحكمة والتبصر المضعف للمخاطر والتهديدات الداخلية والخارجية. تجبر البعض كأفراد بسلطة فرنسا، واحتمي البعض الثاني بالأجنبي، وامتد البعض الآخر بإيديولوجيته التقليدية إلى الخارج بمنطق الذات الرابحة على حساب الوطن، ووصلت البلاد إلى مفترق طرق تحت أشعة الشمس المنيرة، فاختارت الدولة وقواها الوطنية الحية بلا شك الطريق الصحيح. وصاح الشعب اليوم مخاطبا نفسه ودولته وهو يقارع رياضيا فرق شعوب متقدمة للغاية "سيير ... سيير .....". لقد عبر بحماسه المنقطع النظير عن استعداده الواضح لخدمة المستقبل.

أعود لتاريخ هذا الرجل، عبد الرحمان اليوسفي، المجسد باستحقاق لأمجاد هذا الوطن الأبي بملوكه وبطولاته وحكمة رواده وتفانيهم في الكدح المتواصل لتجاوز المصاعب والفترات المرهقة. إنه التاريخ المجيد الذي سطع فيه نجم شعار المملكة "الله، الوطن، الملك"عاليا في السماء.

والعالم يتابع الفرحة العارمة المغردة فوق الرؤوس مخالجة النفوس، تعيد الذاكرة إلى سطح الأحداث أمجاد الماضي، وكأنها تحاكم علانية جيوب المقاومة التي تمكنت في فترات مصيرية من تاريخ المغرب المستقل من اختراق الروح الجماعية وتعكير أجواء الفرحة المغربية في فترات كان الشعب في أمس الحاجة إليها. لو لم يكن المناوئون للمستقبل بيننا، لوصلت البلاد اليوم بلا أدنى شك إلى مستويات الدول المتقدمة سياسيا وحقوقيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

بالاحتفاء بالفرحة الحالية لا يمكن للفاعل الجاد إلا أن يستحضر روح الزعيم اليوسفي بجذور أدائه السياسي التاريخي الذي لم يدخر خلاله جهدا في التعبير عن استماتته في الدفاع على العرش والوطن. إنه عبد الرحمان كحضور قوي في مقاومة الاستعمار وزعيم في مشروع بناء المغرب الديمقراطي الحداثي. إنه شخصية سياسية مغربية فذة. تميز باستثنائية لافتة في مسار سياسي وطني لعب فيه المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد أدوارا ريادية. لقد ساهموا جميعا بشكل لافت في إغناء قاموس تدبير الشأن العام مؤسساتيا وأخلاقيا وميدانبا.

بعدما سلمه بوعبيد المشعل، أقسم وهو يؤبنه بالسير على دربه. اعتبر المناضلون هذه الخلافة طبيعية للغاية نظرا لاستثنائية عبد الرحمان بتطلعاته ومواقفه وحكمته ورصانته. تحمل المسؤولية في زمن إعلان النظام العالمي الجديد وتأسيس المنظمة العالمية للتجارة بمراكش سنة 1995. وجد نفسه أمام مستجدات العصر الضاغطة في كل المجالات. وجد نفسه أمام فئة ديمغرافية من جيل الستينات، وأمام شعار حرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال. هو رجل يتأمل أكثر ما يتحدث، تحمل المسؤولية الحزبية والحكومية في زمن استثنائي وبقي السؤال في شأن مدى قدرة الواقع على تملك التحديات أولا والانخراط في رفعها ثانيا معلقا إلى اليوم.

في إطار الاستمرارية بطاقتها الايجابية انخرطت الدولة في منطق سياسي جديد/ قديم اعترافا بنفعية ورمزية وجود اليوسفي زمن التحولات الجارفة. فتحت باب الإصلاحات الدستورية وتطورت الأحداث بعدما اعتزل العمل السياسي زمن الربيع العربي وإعادة بناء منطقة الشرق الأوسط حسب تفاعل القوى الدولية المتصارعة اقتصاديا ووزنها السياسي في العلاقات الدولية. بوأ حزبه الصدارة في المشهد السياسي المغربي في سنتي 1998 و 2002. لم يتقاعس قط في تسخير رصيده النضالي والحقوقي كاملا لمصلحتي الدولة والمجتمع. والمغرب يبحث عن تحديد مصيره، برز اليوسفي بإعلانه اندلاع "ثورة الملك والشعب" رسميا. لم يفارقه حلم ترسيخ مقومات بناء المغرب الحديث تحت شعار "الله، الوطن، الملك". توج المسار الطبيعي بتحميله مسؤولية قيادة الجهاز التنفيذي مسميا المرحلة تارة ب"التناوب والتوافقي" وتارة أخرى ب "مرحلة الانتقال الديمقراطي التوافقي".

تحمل الرجل مسؤولية إنعاش قلب البلاد من السكتة القلبية زمن قيادة عائلة بوش الأمريكية للعولمة. دخل ساحة المعركة الفكرية الجديدة برصيد زاخر بالتراكمات وبنبذة حياة تكوينية وسياسية ثمينة. له حس تنظيمي مبهر. عرف بحرصه الشديد كيف يفك رموز أدق القضايا وأعقدها. امتاز بقلة الكلام وببلاغة الصمت وبقدرة هائلة على الاستماع. إنها الخاصيات التي جعلت منه زعيما مغربيا وعربيا وعالميا من نوع خاص. كان موجودا بقوة في منظمات المجتمعات الدولية العربية والدولية (المحامون العرب، الجامعة العربية، الأممية الاشتراكية،....). سخر فنون الخطابة لرفع مردودية تدبير الأوراش التدبيرية الحزبية والوطنية.

تراكم الحكمة والخبرة في حياته منذ صباه جعل منه رجل استثنائي يتقن تبادل الإشارات والرموز البناءة بسلمية ناذرة. إنه رجل الأسلوب اللبق والمعروف بتشبثه بالوفاء بتعهداته ولمنطوق كلماته. عرف بالجرأة والصدق في فترتي المقاومة ومفاوضة المستعمر العصيبتين. عاش الصدام بين السلطة والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. شارك بقوة في إعداد التقرير الإيديولوجي ونصرته سنة 1975. لم يدخر جهدا في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة المغربية.

تطلعات الرجل الواقعية والقابلة للتنفيذ ديمقراطيا وحقوقيا جعلته يراهن على تقوية القدرة الترابية مغربيا على تملك إرادة العبور بالبلاد إلى بر الأمان. فترات زعامته بقيت ساطعة في الأذهان وفاتنة للعقول بجديته وأهدافه ومراميه وصبره. فبالرغم من الصعوبات والصراعات الداخلية (حزبيا) والخارجية تفوق على جيوب المقاومة المصلحية. بوجوده البارز تم التقارب القوي مع عرش المغاربة في العشرية الأخيرة من عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله وتوطد في العهد الجديد. هو معدن مواقف ومبادرات وأفكار ونضالات بارزة تاريخيا. لم يفارقه طوال حياته أمل فتح الآفاق الواعدة أمام الأجيال للتمتع بنماء تراب بلادهم.

عبد الرحمان زعيم إجماع وطني امتد صداه الساطع منذ سنوات شبابه ليمتد إلى آخر لحظات حياته. هو رصيد هائل للقيم الوطنية في تاريخ بلد يتطلع للمستقبل. وبذلك، أعتبر هذا المقال بمثابة وسيلة وصل لتيسير اطلاع أبناء اليوم والغد على معنى الزعامة الوطنية، ومعنى حق أبناء الوطن في تذوق ملذات ومستلزمات التطلعات الوطنية الجديدة في الألفية الثالثة. أطمع أن أتفوق في رسم معالم الوفاء لهذه الشخصية النموذجية بالمغرب وإيفائها حقها. محتوى هذا النص لا يميل لتمجيد الذاكرة بل لفتح النقاش من جديد في قضايا الماضي بزعاماته وتراثه السياسي لتجنيب البلاد آفة الانزلاق في حافة التفاهة الثقافية والتيه السياسي الذي يميز مرحلة ما بعد الحداثة العالمية بصراعاتها الجديدة. إنه رهان تحقيق ديمومة فرحة شعب بحدة تتعدى بمداها وأبعادها منسوب الغبطة التي عبر عنها المغاربة وهم يتابعون فريقهم الوطني في منافسات كأس العالم لسنة 2022 وهو يهزم أحسن الفرق المصنفة عالميا.

ريادة في حزب الاستقلال

اليوسفي كشاب لم يكن عاديا أبدا. كانت له مكانة راقية عند الشهيد المهدي بن بركة. وهو دون العشرين سنة من عمره تعرف عبد الرحمان على هذا القائد الفذ في فترة حساسة كان فيها حزب الاستقلال يستعد لتقديم عريضة الاستقلال. لقد كان اليوسفي من النخب الشابة الرائدة التي يعدها المهدي لمرحلة ما بعد الاستقلال. أدى القسم بين يديه. شكل بسرعة خلية تابعة لحزب الاستقلال في ثانوية مولاي يوسف. عمل على امتدادها إلى المدرسة المولوية التي يدرس بها الأمير مولاي الحسن ولي العهد. بالخليتين انطلقت عملية المطالبة بالاستقلال من خلال مظاهرة في الرباط. اشتدت المقاومة. تم اغتيال الزعيمين الحاج أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي. طرد اليوسفي من الثانوية وداخليتها. استقر مؤقتا في منزل شيخ الإسلام بالرباط. ابعد هذا الأخير عن العاصمة قسرا. اضطر عبد الرحمان للبحث عن مخبئ جديد. آواه المناضل زين العابدين بن إبراهيم لفترة قصيرة. لجأ لمدن أخرى قبل أن يستقر بالدار البيضاء. كدح ليل نهار. بصم الحركة النضالية وقواها بالعاصمة الاقتصادية. برهن على قدرة كبيرة في التنظيم الحزبي. اشتد عليه الخناق من السلطات الفرنسية. نقل إلى طنجة وبدأ نشاطاته الإعدادية لاستقبال الملك محمد الخامس (سنة 1947). دخل طنجة محاطا بمناضلين أوفياء. تم تنظيم لقائه مع أمه الحاجة بعدما اعتقدت بموته. نحج في تأسيس فرع لحزب الاستقلال من أبناء المدينة ونواحيها، وشكل خلايا في مدينة البوغاز قادرة على تعبئة السكان. نجحت زيارة عاهل البلاد الذي شعر بارتياح كبير وسط شعبه الملتحم بعرشه. وكان الخطاب الملكي التاريخي الذي أكد من خلاله الملك مدى تعلق المغرب بالجامعة العربية متجاهلا الوجود الفرنسي.

بعد نجاح الحزب في الترويج لمذكرته حول حقوق الإنسان سنة 1948 بالأمم المتحدة، وبعدما كون جيلا من المناضلين والزعامات بالدار البيضاء، توجه عبد الرحمان إلى فرنسا سنة 1949 قصد متابعة دراسته الجامعية والترويج للقضية المغربية. وصل إلى مدينة الأنوار في وقت كان عبد الرحيم بوعبيد يستعد للعودة إلى المغرب ليشتغل محاميا بمحاكمها بعد إنهائه لدراسته الحقوقية. تخصص اليوسفي ورفاقه بباريس في التعريف بالقضية المغربية لدى الأوساط الفرنسية والدولية. تكلف بتنظيم صفوف المناضلين والطلبة والعمال بفرنسا. تضايق الفرنسيون من تحركاته، فطلب منه مغادرة العاصمة إلى مدينة بواتيي. استقر بها خلال السنة الدراسية 1951-1952 وحصل على الإجازة. ازدادت حدة مضايقته، فغادر سنة 1952 فرنسا إلى مدريد مكلفا بمهام نضالية جديدة.

لمع نجمه لدى القيادات الاستقلالية. طلبه الحاج أحمد بلافريج كمساعد في الولايات المتحدة الأمريكية. في نفس الوقت طولب من أجل الالتحاق بالزعيم علال الفاسي بالقاهرة. فضل اليوسفي عدم الابتعاد عن العالم العربي. تصادف طلب علال الفاسي مع حدوث انقلاب بمصر، فعرقلت مسطرة حصوله على التأشيرة للدخول للقطر المصري. انتظر كثيرا بمدريد إلى أن اضطر للعودة إلى مدينة البوغاز. التحق بصديقه الدكتور عبد اللطيف بن جلون. تكلفا بإعداد الترتيبات لإنجاح الاحتفالات بعيد العرش لإبراز المكانة التي يحتلها السلطان المحبوب لدى المغاربة. فطن اليوسفي منطق مذبحة كاريير سنترال وهدف بونيفاس وتهديدات المقيم العام الجنرال غيوم المتكررة للملك. اصطدم مع اليزيدي في موضوع نشر ريبورتاج حول المذبحة. خلع ونفي الملك إلى جزيرة كورسيكا. أمام هذا الحدث غير المقبول، نحج عبد الرحمان اليوسفي إلى تثبيت ثورة الملك والشعب. كان الهيجان الشعبي قويا بطنجة ضد الاعتداءات على رمز سيادة البلاد. أنهك عبد الرحمان نفسه جراء الدور الكبير الذي يقوم به ليل نهار في حركة المقاومة في إطار ثورة الملك والشعب. التهبت إحدى رئتيه وتدهورت حالته الصحية. توقف عن العمل وانتقل إلى مدريد. اجريت له عملية جراحية فعاش ما تبقى من حياته برئة واحدة. عاد الملك إلى عرشه وفندت مقالب المقيم العام، وأخذ الوطنيون يستعدون للمفاوضات من أجل الاستقلال.

وهو في جونيف بسويسرا لقضاء فترة نقاهة والخضوع لمراقبة طبية، كان دائما يوصي المناضلين بعدم إرهاق ولي العهد الحسن الثاني بمشاكلهم وخلافاتهم. عاد إلى المغرب في صيف 1956. ترأس اجتماع المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير. التحق بالوليدية بالملك محمد الخامس الذي كان يقضي بها عطلته الصيفية. في ذلك اللقاء، تم ترسيم إحياء ذكرى ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت من كل سنة. في نفس الذكرى سنة 1956 وشح اليوسفي صدر الأميرة لالة عائشة بوسام عبارة عن قنبلة صغيرة صيغت من الذهب.

في السنوات الأولى من الاستقلال تريث اليوسفي في تحركاته وأنشطته. لم يكن راضيا عما يجري داخل الحزب. بعد سنة عن انضمام المغرب في أواخر 1957 إلى مجموعة دول عدم الانحياز، اجتمع اليوسفي ببعض رجال جبهة التحرير الوطنية الجزائرية. تم الحديث عن مؤتمر الأحزاب الثلاث ومستقبل أقطار المغرب العربي في مواجهة التحديات. تقوى التواصل بين عبد الرحمان وقادة حزب الدستور بتونس وجبهة التحرير الجزائرية. الرهانات المستقبلية كانت مرتبطة أيضا بإحداث ما سمي في البداية بالسوق الأوربية المشتركة، والذي تحول إلى اتحاد أوروبي. كان حاضرا بقوة في النقاشات المغاربية. اختطفت الطائرة التي كانت تقل زعماء الجزائر وعلى رأسهم بن بلة. تم إقرار محاكمة القادة الجزائريين. نصب عبد الرحمان نفسه محاميا يدافع عن أحمد بن بلة ورفاقه. السلطة التقديرية لليوسفي جعلته يعطي اهتماما بالغا للثورة الجزائرية. ساير النقاش والجدل الذي صاحب تنصيب حكومة الحاج أحمد بلافريج. تابع بامتعاض استفحال الأزمة بين صفوف الاستقلاليين. التزم الصمت والحياد وكأنه قطع الصلة بحزب الاستقلال منذ 1956. تابع كذلك ما روجته صحافة الاتحاد المغربي للشغل وما كان يردده عبد الله إبراهيم. هذا الأخير لم يشارك في الحكومة الجديدة وتفرغ لمعارضتها. اشتدت الانتقادات وسقطت حكومة بلافريج قبل سنة من تعيينها بعدما قدم عبد الرحيم بوعبيد استقالته منها.

في سنة 1958 تشكلت حكومة عبد الله إبراهيم. امتنع عبد الرحمان اليوسفي أن يتولى فيها حقيبة وزارة العدل. سقوط حكومة بلافريج وتنصيب حكومة عبد الله إبراهيم كان لهما أثر جد سلبي على وحدة حزب الاستقلال. كهذا تم إعلان تأسيس حركة 25 يناير سنة 1959. إنه الحدث الذي جعل اليوسفي يعود بقوة إلى الحياة السياسية المغربية. قائد الحركة الجديدة البارز كان هو المهدي بن بركة. كان كل من البصري وعبد الرحمان لا يدخران أي جهد للتذكير بالحاجة إلى قيادة جماعية للحزب الجديد. أصدرا في 2 أبريل 1959 جريدة التحرير، الأول سينصب مديرا لها والثاني رئيسا لتحريرها. استعانا بطاقتين فكريتين بارزتين محمد باهي ومحمد عابد الجابري. أسست بعد ذلك الجامعات المستقلة المتحدة لحزب الاستقلال نعتت بالجناح اليساري في الحزب. في 6 شتنبر 1959 تم الإعلان رسميا عن تنظيم المؤتمر التأسيسي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الجديد. إنه الحل الذي واجه به اليساريون في حزب الاستقلال الدعوة القضائية التي رفعها ضدهم علال الفاسي والحاج أحمد بلا فريج في شأن الأحقية من عدمها في تأسيس الجامعات المتحدة المستقلة داخل حزب الاستقلال. الأمر اللافت في هذا التأسيس كان رفعه لشعار "لا حزبية بعد اليوم"، وهو نفس الشعار الذي رفعه زعماء ثورة الضباط الأحرار في مصر وعلى رأسهم جمال عبد الناصر. حضر بن بركة احتفالات الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية الشعبية الصينية. تفاعلت الجريدة مع الحدث بنشر استجواب مع السفير الصيني. وجدت الجريدة نفسها في خضم الحرب الباردة ما بين الشرق والغرب. امتعض اليوسفي من هذه المبادرة الإعلامية التي قام بها عبد اللطيف جبرو. اعتبرها مبادرة غير مسؤولة.

توافد المناضلون على حركة 25 يناير. تم طرد بن بركة من حزب الاستقلال. أحس علال أن حزبه يضعف. قرر إحكام قبضته على حزبه بتكثيف وجوده إعلاميا وتنظيميا. تخلص من بلافريج في أول مؤتمر بعد ظهور الحركة الجديدة التي نعتها علال بالانفصالية. وضعية الحزب الجديدة ستجعل قيادته أكثر استعدادا للتقرب من الدولة. ساند الحزب وإعلامه القوى المعارضة لحكومة عبد الله إبراهيم. التحقت جريدة الحزب "العلم" بالحرب التي تشنها جريدة "ليفار" التي يترأسها أحمد رضا اكديرة على حكومة عبد الله إبراهيم. كانت الانتقادات تخص التوجهات الاقتصادية والمالية التي يشرف على بلورتها وتنفيذها عبد الرحيم بوعبيد ويدعمها الملك محمد الخامس طامحا من ورائها تحقيق أفق استقلال المغرب اقتصاديا عن فرنسا.

كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فطنة اليوسفي ونباهته وصدقه وبساطته وتواضعه ورصيده المعرفي بوأه رئاسة جريدة "التحرير" بالدار البيضاء في عهد رجل الأمن المعروف محمد الغزاوي رئيس المديرية العامة للأمن الوطني الذي يراقب كل صغيرة وكبيرة. ساند اليوسفي عن طريق الجريدة حكومة "عبد الله إبراهيم" وبرنامجها السياسي. كان دائم الاتصال مع عبد الرحيم بوعبيد المشرف على البرامج الاقتصادية وكنائب لرئيس الحكومة. بقوته كوزير للداخلية، كان أوفقير يتضايق من الحكومة والخط التحريري الذي يقوده اليوسفي. تم تأسيس الدرهم المغربي كعملة وطنية، وبنك المغرب كمؤسسة لإصدارها، وبنك التجارة الخارجية، وبنك التنمية الاقتصادية، وصندوق الضمان الاجتماعي، وصندوق الإيداع والتدبير، وغير ذلك من المؤسسات التي تضمن للمغرب استقلاله المالي والاقتصادي.

في نهاية 1959 تم حضر صدور الجريدة وحجزها، وألقي القبض على مديرها محمد البصري ورئيس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي، وتوالى توجيه التهم للقياديين ومن معهم، منها القذف في السدة العالية بالله، ومحاولات اغتيال ولي العهد الأمير الحسن الثاني،والتآمر على سلامة الدولة ومؤسساتها الوطنية والإخلال بالأمن العام. كانت ردة الفعل قوية روجت لها أسبوعية "ليفار" التي لم يدخر مديرها أحمد رضا اكديرة أي جهد للوصول إلى اتخاذ قرار إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم بالسرعة المطلوبة. دام الصراع على أشده بعد إطلاق سراح اليوسفي والبصري وأقيلت الحكومة في شهر ماس 1960. في يوليوز 1963 اعتقل اليوسفي مجددا بتهمة تسليح السكان وخلق منظمات سرية (منظمة شيخ العرب) خارج العمل السياسي. حكم عليه بسنتين مؤجلة التنفيذ بسبب التستر وعدم التبليغ.

تم تغيير اسم الجريدة من "التحرير" إلى "الرأي العام". التحق المسؤولان عن هذه الأخيرة، أحمد بن سودة ورفيقه عبد الهادي بوطالب، إلى صفوف الاتحاد. غادر بن بركة المغرب في يوم 21 يناير 1960. غادر البصري السجن بعفو من الملك محمد الخامس في يونيو 1960. بقي اليوسفي خارج الوطن إلى أن أطلق سراح رفاقه المقاومين. غياب عبد الرحمان وبن بركة والبصري في السحن سبب في حدوث فراغ سياسي في البلاد. لولا عبد الهادي بوطالب الذي اتخذ مبادرة سد الفراغ الإعلامي لوئدت حكومة عبد الله إبراهيم مبكرا. حال دون إقالتها زلزال أكادير المدمر. اشتدت الانتقادات وتقوى التحالف بين علال الفاسي وأحمد رضا اكديرة إلى أن اتخذ الملك محمد الخامس قرار حل الحكومة. أصبح الملك رئيسا لحكومة جديدة ويساعده ولي العهد في تدبير شؤونها. غادرها الاتحاديون وحل محلهم الاستقلاليون. غادر عبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد المغرب للاستراحة. نظم عبد الرحمان اليوسفي اجتماعا حزبيا تحدث فيه عبد الهادي بوطالب بلهجة معارضة مفصلا مطالب القوات الشعبية قائلا "نحن لا نريد دستورا ممنوحا لأن الدستور ما هو إلا حق طبيعي لكل الشعوب". غادر بوطالب وبن سودة سفينة الاتحاد وخزن اليوسفي لهذا الطلاق غير المفهوم. عبد الهادي بوطالب هو من اعتبر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم مرتبطة برفضه الموافقة على أن يقوم ضابط أمريكي بدور مستشار فني في القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية.

رمزية دفن جثمان عبد الرحمان اليوسفي إلى جانب رفيقه المرحوم عبد الله إبراهيم

بنفس المنطق جيوب المقاومة تقف معرقلة لعمل الحكومتين الإصلاحيتين، حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1960 وحكومة عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998-2002. التكتلات الحزبية المناوئة المتحالفة مع طاقات إعلامية تم إحداثها كانتا سلاح عرقلة الاستمرارية في تحقيق التراكمات وترسيخ المكتسبات. الكل يتذكر الأسباب التي كانت وراء رفض عبد الرحمان منصب وزير العدل في حكومة عبد الله إبراهيم. الحاج امحمد باحنيني تولى المنصب ونال رضا الصف الديمقراطي في قضية المقاومين. تم إطلاق سراحهم، وعاد عبد الرحمان إلى أرض الوطن في يونيو 1960 قادما من سويسرا التي قضى بها فترة نقاهة. في شهر ماي 1960، صدر بلاغ ملكي أنهى مهام حكومة عبد الله إبراهيم. طلب من المغفور له الملك محمد الخامس وولي العهد الحسن الثاني آنذاك البقاء بعيدا عن السلطة التنفيذية، لكن في ماي 1963 تم تنصيب حكومة جديدة برئاسة الملك وولي عهده. طلب من عبد الرحيم بوعبيد المشاركة فيها والاستمرار في تنفيذ أوراش الحكومة السابقة، لكنه اعتذر معلنا بالمناسبة للرأي العام أن بعض السياسيين يحلمون بتثبيت نظام غير ديمقراطي. وأضاف، الشعوب لا يمكن لها أن تتعلم الديمقراطية إلا بترسيخ قيمها فيما بينهم بالممارسة والتمثيلية الحقيقية.

ابتداء من أكتوبر 1960، سيتولى عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم مهام المعارضة الحزبية للحكومة القائمة. نظموا جولات لشرح السياسة التي كانا يدافعان عنها في السابق خاصة قضية جلاء الجيوش الأجنبية وعدم حاجة الجيش المغربي لمستشارين فنيين أجانب خاصة استمرار وجود قواعد عسكرية فرنسية. انسحب الشوريون ولم يؤثروا عن قوة حزب الاتحاد. كثر النزول إلى الشوارع مؤيدا فكرة طرد الجيوش الأجنبية ومستشاريهم ودعم ومساندة الثورة الجزائرية. تراجع عبد الله إبراهيم وقلل بالتدريج من أنشطته، بينما أصر عبد الرحيم بوعبيد على تكثيفها وتقدم التظاهرات في الشارع العام، بينما ظل اليوسفي منشغلا بقضايا المغرب الحيوية وبقضايا الجزائر وإخلاء سبيل قادة الطائرة المخطوفة واستقلال الدول المغاربية المتبقية.

ابتداء من سنة 1962 ستتوتر العلاقات داخل الحزب. اشتد الصراع بين القياديين النقابيين المحجوب بن الصديق وعمر بن جلول. لقد شكك هذا الأخير في إخلاص المحجوب للخط النضالي للحزب في توقيت كان فيه الاتحاد المغربي للشغل رياديا بأدواره في حركة 25 يناير. أصبح عمر مستهدفا من طرف الشرطة ونقابيي بن الصديق. خضع للاعتقال والتعذيب والمحن. انفجر في صيف 1962 مقر طبع جريدة التحرير التابع للإتحاد المغربي للشغل. تم اتهام القادة الجزائريين المناوئين لبن بلة وتم اعتقال الجزائري الذي يشتغل كأجير بالمطبعة. تم تحميل عبد الرحمان اليوسفي مسؤولية الانفجار نظرا لعلاقته الوطيدة مع بن بلة وتوجيه الخط التحريري للجريدة لموالاته ودعمه.

عاد بن بركة لحضور المؤتمر الوطني الثاني على أساس توافق ما بين القيادات الحزبية والنقابية. اشتدت المراقبة البوليسية على منزله وتحركاته وكاد أن يغتال في حادثة سير بعدما صدمته سيارة الشرطة التي تراقبه ليل نهار. تدخل اليوسفي لتلطيف الأجواء بين عمر والمحجوب. دعا هذا الأخير لوجبة عشاء بعين الدياب بالبيضاء وتم توافق بينهما، لكن بن الصديق لم يف بوعده. منع عمر من الدخول للمؤتمر. اعتقل في مقرات النقابة وعذب من طرف الموالين للقيادة النقابية. اتهم اليوسفي أفقير كونه وراء ما يقع بين القيادات الحزبية والنقابية من صراعات وعداء ولما تعرض له بن بركة. انتهت سنة 1962 بمشاكلها العويصة ومحنها المنهكة، وتم استقبال سنة 1963 بخروج حزب الاستقلال من الحكومة وعقد المؤتمر الثالث للإتحاد المغربي للشغل. التقى الاتحاديون والاستقلاليون مجددا في المعارضة. إنه الخروج الذي أغضب كل من الدويري وعلال الفاسي وامحمد بوستة. تم التصريح من طرف علال برفض إملاءات اكديرة، فانفض بذلك التحالف ضد القوات الشعبية الذي جمع لمدة ثلاث سنوات رضا اكديرة بالاستقلاليين.

انشغل اليوسفي بهذه الوضعية الجديدة وحاجة البلاد إلى دور مشترك لمواجهة أوضاع ما بعد رحيل أب الأمة. التقى عبد الرحمان مع علال للتفاهم بين الحزبين بالرغم من كون جروح 1959 لم تندمل بعد. الهجومات على حكومة عبد الله إبراهيم كانت قاسية. دفاع علال الفاسي على الدستور الممنوح بقي منحوتا في ذاكرة القيادات الاتحادية. عدم التفاهم التام وعدم اعتماد المرشح المشترك في الدوائر الانتخابية فوت الفرصة على الحزبين للحصول على الأغلبية في أول انتخابات بالبلاد. ترشح اليوسفي في طنجة فخسر، بينما فاز بدائرته صديقه الدكتور عبد اللطيف بن جلون. كان الصراع حادا بين الفديك والمعارضة المتمثلة في الإتحاد والاستقلال.

أفقير كان يراقب كل صغيرة وكبيرة بالبلاد بصفته المدير العام للأمن الوطني. كان هدفه إفشال كل تقارب بين القصر الملكي والإتحاد. هاجم الاتحاديين وهم مجتمعون في مجلسهم الوطني. فلولا حضور الصحافة الوطنية والدولية للفق لهم تهمة التآمر على النظام. اعتقل كل القادة. أطلق سراح عبد الرحيم بوعبيد، ثم التحق به اليوسفي بعد ذلك للمشاركة في المفاوضات مع الحسن الثاني في شأن تشكيل حكومة تناوب مبكرة سنة 1965. اختطف بن بركة في 29 أكتوبر من نفس السنة، وأجهضت المشاورات من جديد بسبب أفقير.

تعب عبد الرحيم بوعبيد بسبب كثرة انشغالاته وأنشطته، فخلفه اليوسفي مؤقتا مانحا له فترة راحة لاستجماع قوته. اهتم بالفريق البرلماني واعتبره القوة الضاربة للحزب. نسق بشكل متواصل مع رئيس الفريق عبد اللطيف بن جلون والدكتور الحبابي وعبد الواحد الراضي وعباس القباج ومحمد التبر. كانت سنة 1964 حافلة باجتماعات اليوسفي مع البرلمانيين. تم اقتراح طرح ملتمس الرقابة ضد حكومة باحنيني وتم اعتبار ذلك مؤامرة اتحادية ضد النظام بعد فشلهم في حدث 1963. اشتد النقاش العمومي والشعبي في شأن هذا المطلب. عاد عبد الرحيم بوعبيد من فرنسا في أكتوبر 1964 وأعطى للحملة الشعبية في هذا الموضوع زخما كبيرا.

الأحداث التي عرفتها الجزائر سنة 1965 ستجعل اليوسفي ينشغل من جديد بمصير رفاقه هناك. دافع على صديقه الحميم الحسين آيت أحمد في محنة اعتقاله. أخذ مجموعة من الأساتذة المحامين المغاربة ونصب الفريق في الدفاع على الحسين. حكم على هذا الأخير كأحد أبطال الثورة الجزائرية ببرودة دم بالإعدام. سارع اليوسفي الزمن، والتحق برئيس الجمهورية أحمد بن بلة. لم يفارقه إلى أن تم الإعلان رسميا عبر التلفزيون الجزائري عن إصدار عفو رئاسي يلغي حكم الإعدام. في بداية استقلال الجزائر، عمل اليوسفي كل ما بجهده لترسيخ الحاجة إلى اعتبار المغرب والجزائر ينتظرهما مصير مشترك. أزيح بن بلة من الرئاسة على إثر انقلاب قاده هواري بومدين. اعتقل بن بلة خمسة عشرة سنة في سجن سري إلى أن توفي بومدين.

توترت الأوضاع مغربيا. تعب عبد الرحمان من عنف المضايقات. غادر المغرب وبقي بفرنسا من 1965 إلى 1980. اشتد القمع الذي يمارسه أوفقير الذي نجح في تفريق إرادتي الملكية والإتحاد في التعاون في بناء دولة ديمقراطية. كان التأثير الفرنسي في توالي الأحداث واضحا. تدخل أفقير بالحديد والنار لإفشال احتجاجات الدار البيضاء ضد قرار وزارة التعليم. هكذا دخل المغرب عهدا مظلما يتحكم فيه أفقير. حرم الإتحاد من مزاولة أي نشاط سياسي أو إعلامي. منع الحديث عن قضية المهدي بن بركة. وكثرت الاعتقالات في صفوف الاتحاديين.

اليوسفي والأمل في بناء مغرب ديمقراطي

فقد المغاربة زعيمهم الملك محمد الخامس رحمه الله يوم 26 فبراير 1961 وتولى الملك بعده الحسن الثاني يوم 3 مارس من نفس السنة. تم استقال الوفد الاتحادي ورفعت المذكرة في موضوع الإصلاحات الدستورية والسياسية إلى القصر الملكي وقعها عبد الرحمان اليوسفي باسم حزبه فسلمها من يده ليد المدير العام للديوان الملكي أحمد رضا اكديرة. تم نشرها بعد عشرة أيام بجريدة التحرير لتعميم الفائدة لدى الرأي العام. الترتيبات الزمنية خلال الثلاث أشهر الأولى لسنة 1961 كانت هامة للغاية. توفي الملك يوم 26 فبراير، وخلفه ولي العهد يوم 3 مارس الذي استقبل بنفسه الوفد الاتحادي يوم 8 مارس، ورفعت المذكرة يوم 13 مارس، ليتم نشرها إعلاميا بعدما صرح الملك الحسن الثاني للإعلام البلجيكي التلفزيوني أنه لا يعرف بالضبط ماذا تريد المعارضة.

أهم مقررات الهيئات المسؤولة في الحزب كانت تعبر في مجملها عن إرادة الاتحاديين في خدمة الصالح العام بفعالية من خلال مؤسسات تمثيلية ديمقراطية في إطار نظام ملكي دستوري يضمن مشاركة الشعب في الحكم ومراقبة أعمال الحكومة وكل المؤسسات التمثيلية في مختلف الوحدات الترابية.

أعطي الانطباع أمام هذا التفاعل الإيجابي أنه هناك تقابل لسلطتين تقديريتين. الأولى تطمح في تجاوز آفة التخلف والجهل أولا من خلال بلورة وقيادة مشاريع مسار تنموي تقوده دولة قوية (نظام رئاسي). والثانية، ترى أن الوضع المغربي مغاير لأوضاع مجموعة من الدول الجمهورية التي اختارت الخيار الأول، وتعتبر تحدي ترسيخ الديمقراطية لا يمكن تحقيقه إلا بتمكين الشعب المغربي من ممارستها في تدبير الشأن العام.

بذلك، طالب الاتحاد بمجلس تأسيسي منتخب كتعبير عن تجاوب حقيقي بين الملك وشعبه في أفق تحويل هذا الأخير إلى مقرر في كل المجالات الحيوية بالبلاد من خلال مؤسسات تمثيلية تتحمل المسؤولية كاملة أمام الملك والرأي العام. لقد كانت المذكرة واضحة في شأن استمرار النظام الملكي ومسألة ممارسة الحكم المباشر من طرف الملك. الثقة التي تجسدت بقوة في إطار ثورة الملك والشعب ومقاومة الاستعمار يجب أن تترعرع زمنيا بوثيرة سريعة. سلطة الشعب يمارسها عبر الانتخابات النزيهة التي تتوج بانبثاق مؤسسات ديمقراطية حرة تمكن النخب الوطنية الترابية فرص خدمة البلاد وضمان ديمومة تنميتها واستقرارها.

إفشال أفقير بأطماعه المبطنة لكل محاولات التقارب بين الاتحاد والعرش

واليوسفي في المنفى، لم يسمح لنفسه بالارتكان في مواقع خارج مجريات السياسة في بلده وفي الجزائر وفي العالم العربي خاصة ما يتلق بفلسطين. لقد ساهم عربيا في تقوية الجبهة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان. التحق بجونيف وتابع مداولات الهيئة الفرعية للأمم المتحدة المختصة بقضايا حقوق الإنسان. التزم بواجبه كمحام ورافع في محكمة سويسرية على الفدائيين الفلسطينيين الذين اتهموا بالقيام بعملية فدائية ضد طائرة إسرائيلية في مطار سويسري. نقل دفاعاته على شاشة قناة التلفزة المغربية. أحدثت هذه التغطية ضجيجا كبيرا ذهب ضحيته العربي الصقلي، وهو ابن أخت عبد اللطيف بن جلون. استبعد من منصبه كمسؤول عن قسم الأخبار. استمر اليوسفي في أنشطته العربية متنقلا بين فرنسا وسويسرا من جهة، وبين بعض الدول العربية كمصر وسوريا والعراق. استمر في تتبع الأحداث مغربيا وكان يتألم عندما يتم إخباره بالإنزلاقات السياسية غير المبررة.

اليوسفي يحدث انفتاحا وانفراجا توج بنجاح المؤتمر الاستثنائي

حكمة الرجل الدائمة وكفاءته الفكرية والسياسية جعلت الدولة المغربية تعتبر سنة 1964 أن حزب القوات الشعبية مشخصا في عبد الرحمان اليوسفي يؤمن بصلاحية النضال الديمقراطي. في نفس الوقت تم اعتبار الحزب مشخصا في الفقيه البصري وعمر بن جلون معارضا يراهن أكثر على العنف من خلال تنظيمات سرية لبلوغ أهدافه السياسية. في منتصف 1966 غادر البصري المغرب باحثا عن فرص القضاء على نظام الحكم. تم تنظيم عمليات مسلحة سنة 1973. اعتقل العديد من المقربين من البصري وعلى رأسهم عمر بن جلون. رغم الحكم بالبراءة على المعتقلين، تم نقل عمر واليازغي والقرشاوي والحلوي وكرم إلى معتقل سري، ولم يطلق سراحهم إلا في منتصف 1974. في تلك السنة المحورية، كان المغرب يستعد للتعبئة الشاملة لاسترجاع الأقاليم الجنوبية. وقع نوع من الانفراج داخل البلاد. اشتد الصراع داخل الحزب. توالي المحن جعل عمر بن جلون يعبئ المناضلين بعدم تنفيذ قرارات القيادات بالخارج.

الحزب بالنسبة لبن جلون يجب أن يتم تسييره من طرق قيادة بالداخل تراهن على النضال الديمقراطي. المناضلون تعبوا من أداء الثمن الباهظ لقرارات ارتجالية مملاة من الخارج. تمت مباركة اليوسفي نظرا لنضجه وتبصره العاليين وكلف بإخراج الإتحاد من المنطقة الرمادية المتميزة بالخلط والغموض. هكذا في 15 شتنبر 1975، تم تغيير اسم الحزب من الإتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ترتب عن هذا القرار تنظيم المؤتمر الاستثنائي أيام 10 و11 و12 يناير 1975 الذي أوضح من خلاله الاتحاديون خطهم النضالي واعتمادهم على قرارات قيادات داخل التراب الوطني. اتخذ قرار النضال الديمقراطي، وتم تهميش رسالة البصري التي تطرق فيها لتصوره للوضعية السياسية بالمغرب، وكيف يجب أن يتعامل معها الحزب.

المؤتمر الاستثنائي كان بمثابة إعلان القطيعة بين البصري واليوسفي. هذا الأخير كان من أكبر الأقرباء لرفيقه في درب المقاومة في إطار ثورة الملك والشعب والنضال بعد استقلال البلاد. لم يمل ولم يكل اليوسفي في السابق في الدفاع عن البصري، لكن السلط التقديرية والتصورات الشخصية وضعت حد للتواصل بين القيادتين. المؤتمرون رفضوا قراءة رسالة البصري وأنصتوا بإمعان واهتمام كبيرين للرسالة الصوتية التي بعثها اليوسفي من منفاه. لقد عبر عمر بن جلون عن ملله وكلله من المواقف الاندفاعية العاطفية والشعارات الحماسية، ودعا الالتزام بالمسؤولية التاريخية لضمان استمرار حركة التحرير الشعبية ببلادنا، وبعث الروح في الاتحاد من جديد.

عكس رسالة البصري التي جاء فيها: "قدموا استقالتكم أنتم ودعوا النظام يواجه المجهول واجعلوه يبحث عنكم بشروطكم"،هنأ اليوسفي المؤتمرين معتبرا المؤتمر فوزا تاريخيا عظيما، وطلب منهم تقديم التحية لعبد الرحيم بوعبيد نظرا لما عاناه داخل المغرب وخارجه، ولما عبر عنه من حنكة وحكمة في قيادة الاتحاد وسط العواصف العاتية والزوابع العنيفة. انتخب عبد الرحيم كاتبا أولا للإتحاد وحسم التباعد بين اليوسفي والبصري بشكل نهائي.

اليوسفي والتعبئة من أجل نصرة القضية الوطنية

تحرك اليوسفي من منفاه دفاعا على مغربية الصحراء.اعتبرها القضية الوطنية الأولى لدى مختلف المنظمات العربية والدولية. دافع باستماتة على حق المغرب في صحرائه وفي استكمال وحدته الترابية. التقى اليوسفي أستاذه الإسباني الذي أصبح عضوا هيئة المحكمة الدولية بلاهاي. اقترح بعد ذلك عبد الرحيم مطالبة محكمة العدل الدولية بأن تقوم بدور التحكيم في النزاع المفتعل. توجه اليوسفي إلى لاهاي وتابع جلسات محكمة العدل الدولية والتحق به في هولندا الشهيد عمر بن جلون. تابع اليوسفي الدفاع على الصحراء كل حياته. كثف من حدة مرافعاته المقنعة عندما تحمل مسؤولية قيادة الحكومة سنة 1998. سحبت مجموعة من الدول اعترافها بالجمهورية الصحراوية الوهمية وعلى رأسها الهند.

اليوسفي كاتب أول لحزب القوات الشعبية

تم توديع الروح النقية الصافية لعبد الرحيم بوعبيد يوم 8 يناير 1992. احتفي بجنازته بموكب جماهيري غير مألوف يليق برصيده النضالي وشخصيته الفذة. كان الشعار المدوي في موكب جنازته "عبد الرحيم ارتاح ارتاح سنواصل الكفاح". خاطب اليوسفي جثمان رفيقه بكلمات صادقة ووازنة. اعتبر فقدانه فاجعة كبرى صعبة التحمل، وخسارة لا تعوض بالنسبة لحزب القوات الشعبية. إنه في نظر اليوسفي من رواد زعامات المغرب المستقل. ثمار جهاده الأكبر واضحة. لقد شيد ركائز العمل السياسي الجاد طيلة ثلاثين سنة. بحصيلة انجازات ونضالات مدرسة عبد الرحيم، يقول عبد الرحمان، ساعة قيام الديمقراطية آتية لا ريب فيها. أنهى كلمة تأبينه بالقول:" قسما يا أخي عبد الرحيم بوعبيد إننا لجهادك لمواصلون وبما ضحيت من أجله لمتشبثون ولتراثك النضالي لحافظون".

رحيل زعيم الإجماع الوطني

غادر الزعيم الاستثنائي عبد الرحمان اليوسفي الحياة في ظرفية استثنائية فرضت على المغاربة الجهاد من أجل الوجود لمحاربة انتشار وباء فيروس كورونا. وصفه فتح الله ولعلو بكونه مجاهد من أكبر المجاهدين وطنيا وعربيا وكونيا. مدرسته الأولى كانت ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي. الحكمة جعلته من رواد الحكمة النضالية طوال حياته. ربط النضال الديمقراطي بالكرامة وقضايا حقوق الإنسان والتنمية الترابية. إنه كتبه الثلاث تحت عنوان "عبد الرحمان اليوسفي: أحاديث في ما جرى، شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة" تعتبر اليوم مرجعا ثريا وموجها نموذجيا لشباب العالمين التقدمي والوطني. لقد تفوق في ربط مواقف وتصورات حزبه التاريخية بالعمل التنفيذي. عاش متناغما بأفكار وأفعال وبرامج في مرحلتي النضال والمرحلة التاريخية التي أنعش فيها قلب البلاد المتعب وهو وزير أول لفترة انتدابية تاريخية جسدت مسؤولية الحكومة أمام البرلمان بشكل واضح. ترك البصمة الكبرى والنموذج المبهر في تعاطيه مع الشأن العام المغربي.

خاتمة

والفرحة العارمة تتلألأ اليوم داخل نفوس المغاربة والعرب تفاعلا مع زعامة رياضية من نوع خاص، أزف للقارئ بشرى قرب صدور كتابي تحت عنوان "عبد الرحمان اليوسفي: زعيم إجماع وطني بحجم أمة". سأخصص الكتاب لتسليط الضوء على حكمة الرجل وهو يقاوم طوال حياته بكل ما لديه من قوة أولا من أجل استقلال البلاد وثانيا للرفع من قيمة حصيلة الجهاز التنفيذي الذي ترأسه خلال فترة 1998-2002.

قررت إصدار هذا الكتاب في هذا التوقيت الزاهي والماتع بأحداثه ومجرياته. انتصر الفريق الوطني على أعرق الفرق العالمية (بلجيكا وكندا وإسبانيا) وتأهل لدور الربع في تظاهرة كأس العالم نونبر- دجنبر 2022. انفجر حب الوطن في نفس كل مواطن. خرج المغاربة إلى الشارع مفتخرين بانتمائهم. تخلصت الأمة ومؤسساتها بحكمة وتبصر من جيوب المقاومة. ترسخ في الأذهان المعنى الجديد لثورة الملك والشعب. لم يعد بيننا رجلا أمنيا متسلطا أو عميلا لقوى خارجية. مواقف الدولة في العلاقات الدولية جريئة ارتقت لتكون مواقف وطن وأمة. فندت مصادر الشرعية السياسية التي كان يتمتع ويتباهى بها رواد القبيلة والعقيدة. تجبر ظرفيا رواد الابتزاز المطالبين بالنصيب من خيرات البلاد، ومنهم من حقق ذلك وابتعد، ومنهم من تنتظره المحاسبة التاريخية. نحن اليوم أمام دولة قوية بمؤسساتها وشعبها تقود معركة ضارية ضد رواد الفساد والغنيمة والابتزاز طامحة تمكين الشعب المغربي الوفي من تذوق ملذات الديمقراطية من طنجة إلى لكويرة (حرية، تعليم، صحة، تشغيل، سكن، ...).

***

الحسين بوخرطة

وضع السماعة جانباً وتحدث إلى الرجل الآخر، الذي طلب مني الجلوس على الكرسي القريب، ثم بدأت الأسئلة. فرويت لهم ما حدث وسبب هروبي ومجيئي إليهم.

ـ وما اسمك الحقيقي؟. 

ـ زياد عبد الملك عبد الرحمن.

ـ هذا اسمك في قرص الدلالة، ولكن اسمك في الهوية مدون زياد عبد الملك الناصر. ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟

ـ الهوية صادرة عن معهد التكنولوجيا الذي تخرجت منه وهي جهة مدنية، وأنا أحتفظ بها دائماً في ملابسي المدنية التي أرتديها أثناء ذهابي في الإجازات الدورية.

ـ واسمك في القرص غير هذا.

ـ القرص. قرص دلالة في خدمتي العسكرية.

ـ نحن نعرف جيداً أن خريجي المعاهد والكليات يصبحون ضباطاً حين يساقون إلى الخدمة العسكرية في العراق، وأنت تقول الآن أنك جندي عادي. أليس هذا غريباً ؟

ـ رتبتي مثبتة في قرص الدلالة.

ـ أترك قرص الدلالة وأجب على سؤالي.

ـ السبب عيني اليمنى.

ـ ما بها؟

ـ قصر نظر حاد.

ـ لنترك هذا الآن .. أتستطيع أن تخبرنا كم من السنوات عملت في جهاز الاستخبارات العسكرية؟

وقع سؤاله كالصاعقة، وشعرت بأن الدم يصعد نحو راسي، وبدأ صدري يضيق وأنفاسي تتقطع ومرارة وجفاف يملآن فمي.

ـ ماذا ! لا علاقة لي بمثل هذا العمل.أنا جندي هربت من الجيش واحتميت بكم خوفاً من الموت.

ـ ليست تلك هي الحقيقة، اسمك مبعث للشك وكذلك اختلافه، وكيف تسنى لك أن تكون وسط هؤلاء النسوة والرجال المهجرين؟ وكيف فلت من إجراءات وحدتك العسكرية؟ أيضا ملابسك المدنية.

ـ لقد حدثتكم عن هذا..وإذا كنتم تظنون سوءا في الأمر، فهل من المعقول لرجل المخابرات أن يأتيكم طواعية؟

ـ المهام تتنوع والواجبات أيضا... وهل تريدنا أن نعقل تلك الرواية التي لا يصدقها إلا الأغبياء؟ حدثنا بصراحة لتكون بمأمن عندنا.

ـ والله لقد رويت لكم الحقيقة ولم ألفق أي حرف فيها.

ـ حسناً.. كم من المعارك شاركت فيها؟

ـ كثيرة..

ـ وكم قتلت من جنودنا.

انعقد لساني فلم أجد جواباً. وبدأ جبيني يتفصد عرقاً ولكني تداركت الأمر، وأخرجت كلمات فزعة كنت ألوكها تحت أسناني.

ـ الله يحكم يوم الحساب.

فقال المترجم وهو يتضاحك بخبث

ـ وهل ننتظر إلى ذلك اليوم؟

أخذ العسكري الآخر يتحسس لحيته ويفركها، وهو يطلق سيل كلمات بالفارسية ويوجه نظرات حادة نحوي وكأنه يتوعدني.

تمنيت لحظتها لو رجعت بي الساعات إلى الوراء، لأكون أكثر يقيناً وتروياً في اتخاذ قرار الهروب. فقد تبين لي عند هذه اللحظات أني من النوع الذي لا قدرة له على إكمال الشوط حتى نهايته، وأنّ خياري لم يكن مضموناً.

كان المترجم خلال ذلك يدون في دفتر أمامه بعض الملاحظات، وفي الوقت ذاته يحدث الآخر. وبعد فترة وجيزة نظر نحوي ووجه لي حديثه.

ـ يبدو أنك لا تريد أن تخبرنا بما تعرف، وتراوغ في كلامك.

ـ لا لم أراوغ أو أكذب، أقسم بالله على هذا.

ـ إذن نطلب منك شيئا آخر، مسألة ليست بالعسيرة، ونعتقد أنك لن تخذلنا.

ـ لم لا، إن استطعت ذلك.

استدار إلى الخلف وأصبح وراء المنضدة، ثم أخرج من الجرار غلافاً كبيراً وفتحه فارشاً دفتيه فوق المنضدة، وطلب مني الاقتراب لمحاذاته وأخذ قلماً ناولني إياه قائلاً، مشيراً بإصبعه نحو موقع بارز من الخارطة.

ـ هذه هي فتحة سرتنك بين الجبلين. قلت إنّ وحدتك تقع خلف الفتحة.. حدد لنا على هذه الخارطة أماكن وأعداد القطعات العسكرية ما وراء الجبلين، أعتقد أن المهمة يسيرة عليك، أليس كذلك ؟

شعرت برعدة تكتسح جسدي، وراحت أصابعي ترتعش فسقط القلم منها.

ـ لا معرفة لي بمثل هذا الأمر، فأنا جندي بسيط لا أملك خبرة بذلك.

ـ إذن أنت تمتنع عن التعاون، ما عليك غير تحمل النتائج، ها قد كشفت عن مهمتك، لا نريد إضاعة وقتنا معك. أسم كريه وهويتان مختلفتان وملابس مدنية ورواية هروب غريبة متهاوية لا تعقل في مثل أوضاعكم وأوضاعنا وفي جبهة قتال. وفوق كل ذلك تمتنع عن أن تدلنا على مواقع القطعات العسكرية رغم ادعائك طلب الحماية لدينا.

ـ والله الكريم ما تكلمت إلا الصدق ولا معرفة لي بالقطعات العسكرية هناك.  

شعرت بعد ذلك بالقلق يكتسحني، ورهبة تسيطر عليَّ، تلمست ذلك في السكون الثقيل الذي خيم على الملجأ، وتلك العينين الحادتين وهما تثقبان صدغي مثل إطلاقات بندقية، وتحفران في دماغي مثل مثقب.

بصوت كنت أشعر به يلوك الضغينة وكأنه صادر عن بوق، صرخ بي العسكري الملتحي بقوة وهدير وبرطانة فارسية ما كنت أفقه منها حرفاً، ولكنه كان يكرر خلالها إسمي كاملاً، وكان وجهه محتقناً. كنت أدرك أن جمله التي يقذفها بوجهي تعني بغضاً وتهديداً ووعيداً وليس شيئا آخر. ركزت بصري نحوه وشعرت ببلاهة وتحجر يغطياني بالكامل، وما عدت بحاجة لقول كلمة أخرى حتى لو وجه لي سؤالا. قررت أن أصمت على الأقل الآن.

نودي على الحرس في الخارج، فجاء وسحبني من يدي وعاد بي مرة أخرى حيث الملجأ الأول. لم أجد هناك أحداً، كان الملجأ فارغاً. جال نظري بجدرانه الطينية الصماء. أردت أن أحادث أحداً، أن أشكو له حالي، أن أصرخ أو أبكي ولكني ما فعلت غير الصمت. لم تشغلني أصوات القذائف المتساقطة ودويها الذي يهز الأرض. لم أعد أفكر بالحديث وما جرى في التحقيق. ذهب تفكيري بعيداً جداً حيث الشارع المفضي إلى بيتنا. أسمع ضجيج الناس وأصوات الأطفال وهم يتراكضون خلف بعضهم دون دراية بما يجري في جبهات القتال. أخي الصغير مروان يلاحقني بنظراته من بعيد ثم يصرخ ويأتيني مهرولاً. جاء زياد .. جاء زياد، ثم يقفز متشبثاً برقبتي ويروح يقبلني بفمه الصغير الطري ورائحة الطفولة المخلوطة بالتراب تملأ ثيابه، بعدها ينسل من بين يديَّ راكضاً نحو البيت ليخبرهم بقدومي. شجرة الخروع التي أبغضها وأعدها شجرة شؤم، مازالت تقف صامدة وسط باحة الدار، أي جلد تحمله تلك الشجرة العجفاء لتصمد كل هذا الزمن، اصفرت أوراقها وتيبست أغصانها ولكنها بقيت واقفة تحمل ثمارها الشوكية الكريهة. صورة جدي المعلقة في الإيوان البراني تحدقني بعيون رضية، وتعاتبني على فعلتي، فقد ود أن يراني طياراً وما وجدت بعده من فضاء يضمني لأحلق فيه. تقاربني أمي ببشاشتها وزغرودة خافتة تصدرها حنجرتها المتيبسة. تروح تمسد فوق رأسي بأصابعها المتغضنة وتتشمم رقبتي، واسمي لا يسقط من بين شفتيها. تلهج به وبالدعاء وهي تتملى وجهي وكأنها لم تلتقيني منذ دهور. أسمع صوتها المرتعش يردد: إنها العناية الربانية يا ولدي.. إنها تحرسك وتعيدك لي، سور سليمان بن داوود، سور سليمان أبن داوود.

 دجاجاتي كبرن ورحن يسرحن جوار الشجرة، يقتربن مني كأنهن يرحبن بي. أفتت طرف الرغيف وأرميه فيتشاجرن عليه بقربي. وكانت أمي مستمرة في حديثها..حظك من ذهب، والمصطفى حظك من ذهب.. عندي  لك مفاجأة .. لقد أكملت كل شيء، ما عليك غير أن توافق، هداك الله إلى الطريق يابني، حين يأتي أبوك سنتحدث في ذلك كثيراً، إنها ابنة عمتك نجاة، بنت ولا كل البنات. شاطرة وقوية ومؤدبة، تعرفها جيداً. حسنا قلت وأطرقت رأسي.

شردت بأفكاري وكان رأسي يتضخم ويتضخم وأشعر أن الدم سينط ّ من عروق صدغي. كنت أترنح مع أفكاري وتأملاتي. أتوقف هناك وأعود مرة أخرى إلى هنا. لم أشعر بمقدار ما فات من الزمن وأنا جالس في الملجأ وحيداً تنتابني مشاعر سجين عليه أن يقضي فترة سجنه دون تذمر أو شكوى.

 فجأة سمعت صوتاً يناديني. أخرجت رأسي فوجدت المترجم يقف أمام الباب بقامته النحيلة، ويمد يده لمساعدتي بالخروج من الملجأ. مشيت خلفه دون أن أفهم شيئاً مما يريدونه مني، ولكني شعرت بثقل يعتمر صدري وعقلي وخوف مما ينتظرني، بعد ما جرى في ذلك التحقيق المقيت. حينذاك كانت الشمس بصفرتها الباهتة تختفي وتظهر بين غمامات بيض تسير مسرعة فوق المرتفعات. وفي البعيد بدا سفحا الجبلين مظلمين. طالعت ما حولي حيث أكوام من حجر تتراص فوق بعضها لتغطي أسطح الملاجئ المتناثرة في الساحة الواسعة الممتدة على طول وجوار الساتر الترابي، وارتفعت عن سطح الأرض فتحات أبواب الملاجئ وكأنها شواهد قبور. كان هناك ثمة جنود يتجولون قرب ملاجئهم وعند الربايا المنتشرة فوق الساتر. توقف المترجم عند باب الملجأ حيث حقق معي أول مرة، ونادى بصوت واضح ومسموع خرج إثره ثلاثة عسكريين. أحاطوا بي وقام أحدهم بسحبي من ساعدي بقوة ودفعني أمامه، عند تلك اللحظة خرج الضابط الملتحي وراح يوجه كلامه إلى هؤلاء الثلاثة وفي ذات الوقت كان ينظر نحوي. اقتادوني ثلاثتهم نحو سيارة تيوتا خاكية اللون ملطخة بالطين أخفيت بعناية وراء ساتر ترابي وأكياس مليئة بالتراب. أجلسوني في الحوض الخلفي بين رجلين منهم، وتقدم المترجم مناولاً السائق بعض أوراق، بعده انطلقت السيارة تلهب الأرض بأقصى سرعتها.

لم أسأل عما يحدث وكأن الأمر لا يعنيني. ورحت في صمت دون أن أنبس بكلمة ومثلي فعل الآخرون طيلة الطريق. 

تلك كانت بداية رحلتي مع عذاب الأسر والتي لا أرغب الحديث بتفاصيل ما حدث لي خلالها.

***

فرات المحسن

.......................

* الجاش أو الجحوش: هم مرتزقة صدام حسين وعملائه من الأكراد.

"انا لا اكتب لقلة مختارة من الناس، فهي لا تعني شيئا بالنسبة لي، ولا لذلك الكيان الافلاطوني الذي يجري تملقه والمعروف باسم (الجماهير)، انني اكتب لنفسي، لاصدقائي ولتسهيل مرور الوقت "

بورخيس

فارق خورخي لويس بورخيس الحياة قبل " 36 " عاما، في الرابع عشر من حزيران عام 1986، في جنيف التي سافر اليها عام 1985 على أمل قضاءه اجازة قصيرة إلا انه لم يعد الى بلدته بوينس آيرس، ليموت متاثرا بسرطان الكبد، تم دفنه في جنيف عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاش فيها مثل الابطال الخياليين، وصِف بأنه مخترع الاساطير. الارجنتيني الذي خرج من عباءته جيل الواقعية السحرية، الكوبي كابريرا، والكولومبي غارثيا ماركيز، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا، والمكسيكي كارلوس فوينتس، وقبلهم صاحب الخطوات الضائعة أليخو كاربنتيير. ولهذا نجد ان الكثير من قراء بورخيس لا يفهمون كيف تخطت جائزة نوبل كاتب يعد من رموز الادب في القرن العشرين ؟، فمكانته بين القراء تنتشر بسرعة رغم رحيله، ويعود السبب كما تقول الناقدة الارجنتينية بياتريث سارلو ان السجال دائما يدور حول اهم كاتب، ورغم اختلاف الأراء إلا ان الجميع يقولون " بورخيس وا أسفاه ".

كان بورخيس واحد من قلة من الادباء يرفض الانشغال بالجماهير، ويسخر من الشعبوية التي تدور حول بعض الادباء، لم يكن ملتزما، لكنه احتضن سلسلة من القضايا السياسية التي سببت له سمعة سيئة، فقد كره الرئيس الارجنتيني بيرون وعارض الثورة الكوبية، وأيد الحزب اليميني في الارجنتين، وقبل وسام الشرف من الدكتاتور التشيلي بينويشيه. كان بورخيس كأنه يعيش في غير زمانه يكتب:" "إن أكثر المشاكل إلحاحا في عصرنا هي التدخل التدريجي للدولة في أفعال الفرد "

يعترف انه يكره التحزب:" لم أنتمي إلى أي حزب ولا أنا ممثل أية حكومة.. أنا أؤمن بالفرد ولا أؤمن بالدولة. ربما لست أكثر من لا سلطوي مسالم وصامت يحلم باختفاء الحكومات ".

ظل بورخيس على قوائم جائزة نوبل منذ أن طُرح اسمه اول مرة في منتصف الخمسينيات، لكن التوقعات بفوزة بدأت عام 1962 في تلك السنة نافس على الجائزة بقوة ووصفه اعضاء لجنة الجائزة بأنه:" الأرجنتيني، المتفرد، المقالي ومؤلف الحِكم، دون شك هو كاتب ـ مفكر أصيل، يستحق أن يكون معروفاً بشكل أفضل" - وثائق نوبل السرية ترجمة باسم المرعبي -، ثم اصبح نيله الجائزة اقرب الى الحقيقة عام 1956 عندما تم تداول اسمه كمنافس قوي للكاتب الروسي ميخائيل شولوخوف، وكشفت وثائق الجائزة ان الاسماء الاخرى التي طرحت في ذلك العام هي اضافة الى شولوخوف وبورخيس، كل من ناباكوف ونيرودا الذي سيفوز بها عام 1971 وصامويل يبكيت الذي حصل عليها عام 1969. لكن الجائزة ستخذله هذه المرة ايضا لتذهبت الى شولوخوف عن روايته الملحمية " الدون الهادئ "، التي وصفتها لجنة نوبل آنذاك "انها بمثابة تعبير عن مرحلة تاريخية في حياة الشعب الروسي ".

الصحافة السويدية التي اطلعت على وثائق الأكاديمية السويدية عام 1965، ذكرت أن اللجنة ناقشت ايضا تقاسم الجائزة بين بين ميغل أنخل أستورياس وبورخيس، لكن الامر لم يحظ بالاجماع، فقد كانت الاكاديمية السويدية تخشى من فضيحة جديدة مثلما حدث في العام الذي سبق جائزة شولوخوف عندما رفض سارتر استلام الجائزة. واعتقد الكثيرون أن الجائزة قد مُنحت لشولوخوف على أنها "محاولة لموازنة المشاعر السيئة تجاه نوبل ".4393 بورخيس

تذهب معظم الآراء الى إن إسقاط بورخيس من حسابات الجائزة كان لأسباب سياسية، وسيعتبر العضو البارز في الاكاديمية السويدية، الشاعر والكاتب السويدي آرتر لوندكفيست: " إنّ استبعاد بورخيس من الفوز بالجائزة يجب أن يُعد من أشنع أخطاء الأكاديمية السويدية"، وهكذا انتهى المطاف بخورخي لويس بورخيس إلى ان يوضع ضمن قائمة محظورات الجائزة.

 لم يكن خورخي لويس بورخيس نموذجا للمثقف الذي تطارده الكاميرات، ليبتسم امامها، فقد ظل منعزلا، غارقا في الكتب، مخلصا لأفكاره، انتقد عدم فاعلية الدول في إدارة حياة الناس، وظل يردد انه حاول دائما خلق وعي في الإنسانية حول أهمية حماية حقوق الأقلية الأكبر على وجهه. الأرض ويعني به الفرد.

بورخيس الذي يصفه الناقد الشهير هارولد بلوم بـ " الخارق " ولد في 24 اب عام 1899 في بوينس آيرس. يقول ان ذكرياته الاولي تذهب به الى منزلهم الصغير الذي كان يمتلكه جده وسط عالم من الفقراء يصفهم باللائقون، والده كان محاميا يصفه ب" فيلسوف فوضوي "، مشغول بتدريس علم النفس، يقرأ بنهم كتب الامريكي وليام جيمس. في طفولته كان يسمع عن بطولات احد اجداده الكولونيل فرنسيسكو بورخيس والكثير من الحكايات التي تدور حول الحياة في المناطق الحدودية، وعن زعماء الهنود الحمر. ابدى اهتمام بالقراءة منذ الصغر وتَّعلم اللغات، حتى انه استطاع ان يترجم وهو في السابعة من عمره قصة اوسكار وايلد "الامير السعيد"..يتذكر ذلك اليوم الذي سمع فيه صوت والده " ينطق بكلمات لا افهمها، ولكني احسها، هذه الكلمات التي لم اكن افهمها هي لكيتس..تلك الكلمات كانت نوعا من الكشف. هكذا راح الشعر يتكشف لي " – بورخيس صنعة الشعر ترجمة صالح علماني -

كانت والدته من اصول إنكليزية. ظل يعتقد أن أسلاف والدته محاربون يقاتلون من أجل الحق. في المنزل كانت الأسرة تتحدث الإنكليزية. لم يكن له اصدقاء غير مكتبة والده التي كانت تضم مئات المجلدات، التي تتكون في الغالب من كتب الفلسفة وعلم النفس والادب الانكليزي.. ويتذكر كيف كان يرافق والده الى المكتبة الوطنية، هناك يمضي ساعات وهو يقلب صفحات الموسوعة البريطانية، يعثر على اسماء شوبنهاور ونيتشه او يقرأ اشعار والت ويتمان الذي شغف به، وقرر ان يكتب الشعر مثله، بل قال لوالده انه يريد ان يصبح الشاعر الاول في الارجنتين.لكنه سيكتشف فيما بعد انه لن يصبح وايتمان اللغة الاسبانية،يكتب هارولد بلوم ان طموحات بورخس الشاعر اجهضها بابلو نيرودا، في الوقت الذي لم يستطع فيه نيرودا منافسة بورخيس في النثر القصصي والنقدي، ويذكر بلوم ان العلاقة بين بورخيس ونيرودا كانت متشابكة، فقد هاجم بورخيس حصول نيرودا على جائزة نوبل عام 1971 قائلا: " ما كان ينبغي أن تمنح لنيرودا، وإن كنت أوقن تمام اليقين بأنه ليس من العدل محاسبة الكاتب على أفكاره السياسية "، كان بورخيس يعيب على نيرودا موقفه من رئيس الارجنتين خوان بيرون وعدم مهاجمته له مثلما كتب عن رؤساء امريكا اللاتينية:" أنا أعتبر ممواقفه انتهازية، كتب عن طغاة أمريكا الجنوبية، وضد الولايات المتحدة. ولم ينطق بكلمة واحدة ضد بيرون. عندما كان من المفترض أن يكتب بأعلى صوته،، لم يكن لديه أي شيء ليقول ضد بيرون. وكان متزوجا من سيدة أرجنتينية، وكان يعلم أن العديد من أصدقائه في السجن. لكنه لم يقل أي كلمة ضد بيرون ". إلا ان بورخيس نفسه اعترض على منح الاديب الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس جائزة نوبل عام 1967 قائلا:" إن نيرودا يستحقها أكثر من الذي نالها، ولا مجال للجدال في ذلك ".في المقابل كان رأي نيرودا ببورخيس يحمل نوعا من التعاطف فقد اعتبر كتاباته تشريف للغة الاسبانية، واضاف انه كاتب عظيم، لكنه عاب عليه انه " يفكر مثل ديناصور لا علاقة له بتفكيري. إنه لا يفهم ما يحدث في العالم الحديث ويعتقد أنني لا أفهم أيضا وبالتالي نحن متفقان ".- مساء عادي في بوينيس آيرس ترجمة عابد اسماعيل -.

في الخامسة عشر من عمره تنتقل عائلته الى جنيف، كان والده يبحث عن علاج لبصره الضعيف، وهي حالة وراثية نقلها إلى ابنه. مع اندلاع الحرب العالمي الاولى وجدت العائلة نفسها محاصرة في سويسرا. في جنيف تفرغ الصبي خورخي لويس لقراءة الادب الفرنسي والالماني واداب امريكا اللاتينية، يكتشف الفيلسوف الالماني ارثر شوبنهاور فيقرر ان يتعلم الالمانية من اجل قراءة كتبه، عندما زار الروائي ماريو بارغاس يوسا بيت بورخيس، فوجئ بأن مكتبته لا تتضمن الكتب التي ألفها أو التي كتبها عنه النقاد، وكان رده " من أنا حتى أكون إلى جانب شوبنهاور؟!". تعود العائلة الى الارجنتين عام 1921، اصبح الابن واثقا من نفسه، بان مهنته الوحيدة هي الكتابة

يبدأ حياته الادبية عام 1923 بنشر قصائد ومقالات سريالية في المجلات الأدبية. بحلول منتصف الثلاثينيات، بدأ في استكشاف الأسئلة الوجودية والخيال. لقد عمل بأسلوب وصفه ميشانيل مار في كتابه " فهود في المعبد " – ترجمة احمد فاروق - بأنه نوع من انواع السحر " مقتضبا في اسلوبه ويعيش على هذا الاقتضاب "،  

توفي والده 1938، وفي نفس العام يصاب بجروح خطيرة في رأسه، فقد كان يعاني من ضعف في البصر، انزلق على درج، فسقط واصيب في راسه اصابة خطيرة، ظل في غيبوبة لمدة اسبوعين، انتابته خلالها كوابيس، وبعد شفاءه اخذ يشك في قواه العقلية، ولكي يطمئن على نفسه حاول ان يكتب، وكانت النتيجة قصة بعنوان " بيير مينار، مؤلف الكيشوت " يفترض فيها بورخيس أن مينار كاتب من عصرنا يقرر إعادة كتابة "دون كيخوته" لـ سيرفانتيس من جديد من دون أن يغير فيها حرفاً واحداً وأن يكتبها في عصرنا ولكن باللغة الإسبانية القديمة. تبدأ مكانته الادبية بالرسوخ مع نشر مجموعته القصصية الاولى " حديقة الطرق المتشعبة " – ترجمها الى العربية عبد السلام باشا -.

مع بداية تلاشي بصره في أوائل الثلاثينيات من عمره، بدأ بورخيس حياة مهنية جديدة كمحاضر بعدها تم انتخابه رئيسا لجمعية الكتاب في الارجنتين وعمل استاذا للادب الانكليزي والامريكي، واصل نشر قصصه القصيرة،

في عام 1955 أصبح مديرا للمكتبة الوطنية الأرجنتينية. بحلول أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، أصبح أعمى تماما.

عام 1964 نشر مجموعته الشعرية " في مديح العتمة " – ترجمة ابراهيم الخطيب، وفي هذه القصائد يتقصى الظلام... الظلام على اعتباره محاولة لإعادة التشكيل أو القبض على اللون ضمن اشتراطه هو، وكما يراه ضمن نطاق عين مخيلته، لا كما يراه أصحاء البصر، في حوار معه يقول:" آخر ما رأيته هو الاصفر، لأن اول لونين اختفيا كانا الاسود والاحمر. يحسب الناس العميان يعيشون في العتمة. لا. إن اول ما يفقدونه هو الاسود.أتوق كثيرا الى الاحمر والاسود، وأود لو أرى القرمزي. ابي ايضا اصابه العمى، وجدتي الانكليزية ماتت عمياء، ووالد جدي مات اعمى. اعرف انني الجيل الرابع من العميان. كنت اعرف ما ينتظرني " – بورخيس في عالم آخر ترجمة احمد شافعي -

في عام 1956 تمنحه الجامعة الدكتوراة الفخرية الأولى من بين العديد من درجات الدكتوراه الفخرية، وفي العام التالي حصل على الجائزة الوطنية للآداب. من 1956 إلى 1970، شغل منصب أستاذ الأدب في جامعة بوينس آيرس، منحته الملكة إليزابيث الثانية لقب فارس في عام 1964. في عام 1967 ألقى محاضرات في جامعة هارفارد..

مع تدهور بصره، اعتمد بورخيس بشكل متزايد على مساعدة والدته. عندما لم يعد قادرا على القراءة والكتابة، لم يتعلم أبدا القراءة بطريقة برايل:" للاسف كان هذا سيغير حياتي كلها، لكني كبرت على هذا، شاخت يداي ".أصبحت والدته، التي كان دائما قريببة منه سكرتيرته الشخصية.

حصل على جائزة ميغيل دي سيرفانتس، بالإضافة إلى وسام جوقة الشرف الفرنسي وجائزة دايموند كونيكس للفنون الأدبية كأهم كاتب في العقد الأخير في بلاده.

عام 1967، يتزوج من الأرملة إلسا أستيت ميلان. كانت والدته البالغة من العمر آنذاك 90 عاما تخشى ان تموت وتتركه وحيدا، أرادت أن تجد شخصا يعتني بابنها. استمر الزواج ثلاث سنوات، بعدها تم الانفصال ليعود ثانية الى العيش مع والدته حتى وفاتها عن عمر يناهز 99 عامًا.

في نيسان من عام 1986 وقبل وفاته بثمانية اشهر تزوج سكرتيرته ماريا كوداما، وهي امرأة أرجنتينية، وفي تصريح غريب اعلن نفسه ملحدا: "كونك ملحد يعني أن كل الأشياء ممكنة، حتى الله، حتى الثالوث الأقدس. هذا العالم غريب جدا لدرجة أن أي شيء قد يحدث، أو قد لا يحدث".

كان بورخيس يعتبر النزعة القومية من أشد آفات العصر، وذلك ردا على ماريو بارغاس يوسا الذي قال في سؤاله له إن القومية تعد من الأمور التي يصعب اجتثاثها، حيث اوضح بورخيس أن النزعة القومية يمكن أن تغذيها التيارات اليمينية أو اليسارية، وأن كل حرب هي جريمة مهما كانت مسوغاتها، وعن أفضل النظم السياسية بالنسبة له، قال بورخيس ليوسا "أنا فوضوي قديم وأعتقد أن الدولة شرّ، لكنها في الوقت الراهن شرّ لا بد منه. إذا كنت دكتاتورا، فسوف أستقيل من منصبي وأعود إلى أدبي المتواضع للغاية، لأنه ليس لدي أي حل أقدمه. أنا حائر ومحبط مثل جميع مواطني بلدي".- ماريو فارغاس يوسا وحكاية نصف قرن مع بورخيس ترجمة احمد الزبيدي -. وعن تصوره للسياسة، ظل يصف السياسة بانها شكل "من أشكال الازعاج".

في كتابات بورخيس تحتشد، هوية الانا، الزمن، خلاصة الواقع الغامضة، معنى الوجود والحرية والصدفة والموت، وهو يعترف بأن كتاباته " عبث غير مسؤول لشخص خجول لم يكن قد تجرأ على كتابة القصص ". ومن المهم الاشارة الى ان غرض بورخيس في قصصه بعيد تماما عن أية تعليمية، فهو لا يزعم اقناع القارئ بأي من المذاهب، بل ان قصصه كما تصفها بياتريت سارلو بانها: " شواهد نصية تعمل كمؤشرات خارجية لروح مستغرقة في العبث والمحاكاة الساخرة " – بورخيس كاتب على الحافة ترجمة خليل كلفت -.وهو شغوف دائما باثارة القارئ كي يشرع في البحث بنفسه متسلحا بمفاتيح غامضة وغير كافية، يدعو هذا القارئ الى التملص من همومه اليومية والغوص في عالم عجائبي يحرك مشاعره.إن قصص بورخيس تنقلنا الى مملكة من الاحلام والسحر ليس للزمن فيها أي ثقل، حيث يمكن للوعي ان يتصنع انه تحرر من ضغط المكون الزمني للواقع وللتاريخ. وفي كل كتاباته يفتح امام القارئ ابوابا تساعده على رصد عميق لمعنى الحياة، ويكشف للحظات عن اوجه مجهولة او حتى عبثية للانسان والكون الذي يحيق بنا داخل متاهة لافكاك منها.

الكاتب الذي وصف الكون بالمكتبة، واعترف انه تخيل الجنة على شكل مكتبة، كانت مكتبته بالنسبه لزواره مخيبة للامال، كان الجميع يتوقعون مكانا مكسوا بالكتب، يردد على زواره مقولة شوبنهاور " ان كثيرين يخلطون بين شراء كتاب وشراء مضمون الكتاب "، وعندما سأله يوسا لماذا لا يسكن في بيت اكثر اتساعا: "اننا في بوينس آيرس لا نهوى التفاخر ". وفي حوار معه قال: " اود لو اكون خفيا، لا اذهب مطلقا الى حفلات او اجتماعات من أي نوع، مقابلة الناس الذين لا استطيع رؤية وجوههم. أمر رهيب".

يكتب هارولد بلوم:" إن بورخيس من اصحاب الرؤى المتشككة حتى عندما تقبل تحذيره، سوف يتوارى الواقع الحقيقي من كل شيء بسهولة. لقد صور لنا بورخيس بشكل مجمل ميلاً عاما، وأشبع حنينا اساسيا فيما يخص السؤال: لماذا نقرأ ".

احب بورخيس الفلسفة وظل يتساءل ما هو الزمن ؟ انه النهر الذي ينفلت مني " لكني أنا النهر " والزمن نمر يفترسه " لكني أنا النمر "، انه النار التي تلتهمه " لكني أنا النار "، والخلاصة للمفاجأة هي ان " العالم للاسف – حقا – للاسف هو أنا بورخيس ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

منذ عام ١٩٨٤ كنتُ ألتقي القائد الكبير صالح محمد الأديب رحمه الله لقاءً أسبوعياً، واستمر ذلك حتى عام ١٩٩٥ حيث تدهور وضعه الصحي في مرضه الذي توفي فيه. كان يتحدث في تلك اللقاءات عن تاريخ الدعوة وأجواء السياسة والمجتمع، إضافة الى مواضيع أخرى مختلفة عن شؤون العمل وقضاياه المختلفة.

في أحد تلك اللقاءات حدثني عن الظروف الصعبة التي كان يعيشها التحرك الإسلامي في مواجهة الحركة الشيوعية النشطة والقوية. واستشهد بحادثة وقعت مع المرجع الكبير السيد محسن الحكيم رحمه الله في تلك الفترة، حيث خطط الشيوعيون للاعتداء عليه أثناء زيارته لمرقد الإمام الحسين عليه السلام. لكن الدعاة تنبهوا للمخطط فأحاطوا بالسيد الحكيم وحموه من اعتداء الشيوعيين، وقد ارتقى السيد مرتضى القزويني المنبر ينادي في الناس ويدعوهم الى حماية مرجعهم.

يقول المرحوم صالح الأديب، أنه بعد تلك الحادثة جلس مع المرجع السيد الحكيم، يحدّثه عن نشاط حزب الدعوة وتوجهاته، فعرض عليه المرجع نصيحته بضرورة تقدير الظروف جيداً ومعرفة المجتمع على حقيقته. وكان مما قاله:

- إنني أعرف الناس جيداً، إنهم يتفاعلون معكم لأنهم يرونكم مستقيمين متدينين، لكنهم في ساعة الحسم والمواجهة ينفرطون عنكم وتبقون وحيدين.

وذكر المرجع الحكيم بأنه عاش التجربة معهم في الحرب العالمية الأولى وفي ثورة العشرين ورأى أن الاندفاع لا يطول وأن الحماس يفتر بسرعة.

حاول صالح الأديب أن يشرح للسيد الحكيم تغيّر الظروف السياسية والاجتماعية عن السابق، وأن المجتمع العراقي في تلك الفترة يختلف عن وضعه الحالي، وأن الوعي قد تنامى وتبدلت أوضاع البلد السياسية، لكن السيد محسن الحكيم لم يقتنع بكلامه.

كنتُ استمع الى المرحوم الأديب باهتمام وهو يروي تلك الواقعة وحواره مع مرجع الشيعة الأعلى، وفي داخلي تتشكل علامات استفهام عن تقييم السيد الحكيم للمجتمع العراقي، وأتساءل بصمت: كيف لرجل مثله عاش تجربة الجهاد البطولي ضد الاحتلال الأجنبي للعراق في الحرب العالمية الأولى وشارك مع كتائب المجاهدين في خطوط القتال، يخرج بهذه النظرة المتشائمة عن الشعب العراقي؟

كان الحماس الثوري يشتعل بصدري مستغرباً من موقف المرجع الشيعي الذي ذاع صيته في الآفاق وبلغ القمة العليا في زمانه، ومن نظرته للتحرك السياسي والجماهيري. كانت نظرة القداسة تجول بداخلي باحثة عن التبرير، لكنها ترتد خائبة ومعها خيوط من الإدانة للمرجع الكبير بأنه لم يعش تطورات المجتمع السياسية. وكان لابد أن أكتم مشاعري وأحرق خيوط الإدانة بسرعة فائقة، فهذا مرجع الشيعة، والنقد هنا ينقطع لسانه.

سنين طويلة مرت على ذلك التاريخ، حتى أوصلتني الى قناعة معاكسة لما كنت عليه في تلك الفترة. لقد كان المرجع الحكيم صاحب نظرة عميقة لطبيعة المجتمع العراقي، لم يكن رجلاً انفعالياً يضع عقله تحت عاطفته، إنما يزن الأمور بواقعية التجربة والفهم الميداني.

كنا معزولين عن المجتمع من حيث التقييم. كنا نقرأه من خلال النشرة الحزبية، وننظر اليه من خلال المفهوم الحزبي، ونعيش العُجب بالذات بأكثر من قدراتها الحقيقية.

وكان الذي يحجب النظرة الواقعية، الحماس المتفجر، والإخلاص الخارق للعمل والتضحية. كان الدعاة اسطورة ملحمية على البطولة والتحدي والصمود في مواجهة أعتى نظام قمعي شهده التاريخ. شباب ورجال نادر البطولة والتضحية سار على طريقٍ شقته تقديرات نظرية، ومفاهيم بعيدة عن الواقع فكانت الخسائر جسيمة لا تعوّض.

***

سليم الحسني

رغم مرور اكثر من ستين حولا على بدايته إلا أن هذا الهرم الشعري المتسامي في فضاء الشعر لازال ينظر إلى تلك البداية العفوية البسيطة بفرح طفولي وإعجاب شيخ عجنته السنين وخبرها وجاب بوادي الشعر وهضابه واعتلى قممه وزرع حقولا شعرية خضراء يانعة السنابل والقوافي .. انه الشاعر الكبير عبد الستار نور علي، الذي يحدثنا عن بدايته قائلا :

بدأت بواكير شغفي بالأدب والشعر منذ زمن الدراسة الابتدائية، وخاصة في مادة اللغة العربية والمحفوظات، فقد كانت نصوص كتاب (المطالعة) والمحفوظات تتضمن آيات من القرإن الكريم والحديث النبوي الشريف والنصوص الأدبية من قصص (كليلة ودمنة) وغيرها، ومن قصائد قديمة وحديثة لكبار الشعراء، أذكر أنني حفظت أبياتاً من قصيدة المتنبي فضلّتْ عالقةً في ذاكرتي:

وزائرتي كأنَ بها حياءً

فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ

فلْنتصوّرْ! المتنبي في الإبتدائية إلى جانب كبار الشعراء المعاصرين حينها: ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي.. وغيرهم. كانت أسعد وأبهى لحظة لي حين كان معلم اللغة العربية المرحوم (محمد علي البنا) يختارني لإلقاء قصيدة في رفعة العلم صباح كل خميس، وأنا ألقيها بصوتٍ عالٍ جهوري ليسمع الطلاب والمعلمون المصطفون حول العلم في الطابق الأسفل، وأنا في الأعلى. ما زالت ذكرى أحدى تلك المناسبات الخميسية تنبض في ذاكرتي، إذ ألقيتُ قصيدة الشاعر (ميخائيل نعيمة) وبحماس زائد:

أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحـربِ جُنديٌّ لأوطانِـهْ

وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ

فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطـانِ خلاّنَا

لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهمْ

سوى أشْبَاح مَوْتَانا

كنتُ أستعير من مكتبة المدرسة الصغيرة مجلات الأطفال وبعض القصص للمنفلوطي وجرجي زيدان، وكتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. كنتُ أيامها وبعدها من مراحلي الدراسية مغرماً أيضاً بقصص (أرسين لوبين) و (روكامبول) وروايات (أجاثا كريستي) البوليسية، وما يترجم من قصص عالمية في مطبوعات (كتابي)، إلى جانب روايات مشاهير الروائيين العرب والأجانب، خاصة الرواية الروسية والأوروبية الأخرى، مع نتاج الشعراء العراقيين والعرب، ثم المُترْجَم من الشعر العالمي لكبار شعراء العالم قديماً وحديثاً. واستمر هذا الشغف معي في مراحل الدراسة المتوسطة والإعدادية. فاستمريتُ في تزويد ذائقتي ومحفوظاتي بكل مجالات فنّ الأدب شعراً ونثراً، حتى تخصصي الجامعي باللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة بغداد.

دراستي المتوسطة كانت في (مدارس كلية بغداد) وهو الاسم الرسمي للمدارس التابعة للكنيسة اليسوعية الأمريكية في بغداد في العام الدراسي 55/1956 . كانت الدراسة فيها باللغة الإنجليزية للمواد الدراسية اضافة الى العربية. أما الإعدادية فكانت في (الثانوية الجعفرية/الفرع الأدبي) إذ لم يكن هناك فرع أدبي في (مدارس كلية بغداد) وقد اخترتُ هذا الفرع بسبب شَغفي بفنِّ الأدب.

ومِنْ نِعَم دراستي في تلك المدارس أنّني تزوّدتُ بالأدب الغربي وبلغته الإنجليزية، إذ كانت حصة المطالعة في مادة الإنجليزية تتألف من قراءتنا لكتاب المطالعة في المدارس الأمريكية ( Prose and poetry) ويحتوي على نصوص شعرية ونثرية – قصص ومقالات وسير ذاتية -لكبار الكتاب الناطقين بالإنجليزية، وهو ما زوّدني بثقافة أدبية إضافية الى جانب العربية، مما شحذ لغتي ومنحها غنىً وسعة في بواكير حياتي الدراسية والإنشائية (التعبير)، وأنا على عتبة دخول عالم الكلمة.

ومما زادَ منْ شغفي بالأدب، والثقافة عموماً، هو التشجيع الذي كنْتُ ألقاه منْ ابن عمي الشيوعي جعفر صادق ملا نزار (أبو دلير)، الذي كان يشجعني على القراءة والتثقيف الذاتي ومتابعة الأنشطة الثقافية. وكانت مكتبته مصدراً لي في قراءاتي. إضافةً الى متابعتي الليلية للبرنامج الثاني الثقافي في إذاعة القاهرة منذ انطلاقه عام 1957، لما كان يقدمه منْ روائع الأدب العالمي مُترجَماً الى العربية، مع تقديم المسرحيات العالمية مُمثلةً منْ أكابر الفنانين المصريين. فكان كل ذلك زاداً دسماً وتغذيةً روحيةً وعقليةً، ومصدراً ثقافياً مهماً، وتمتيناً لأسلوبي في الكتابة، ورسماً لطريق المطالعة واختيار اٍسماء الكُتّاب والكتب الجيدة النافعة. ومِنْ أمثلة تشجيع ابى عمي لي في التزوّد منْ الفنون أيضاً - الراقية منها طبعاً - أنّه أعطاني بطاقة شرف حصل عليها لحضور العرض الأول للفيلم العالمي المهم، الذي نال عدداً من جوائز الأوسكار (عربة اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire) المأخوذ عن مسرحية الكاتب المسرحي الأمريكي العظيم (تينيسي ويليمز 1911-1983) وإخراج المخرج الكبير (إيليا كازان 1909 - 2003) اليوناني الأصل. وكان الفيلم من بطولة مارلون براندو وفيفيان لي وكارل مالدن، ومنْ انتاج عام 1951 . عرض في بغداد، وكنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي. كانت فرحتي بالبطاقة وحضور العرض كبيراً ذا أثرٍ بالغ في نفسي. أذكر أنه عُرض في سينما ميامي في الباب الشرقي، وكانت القاعة غاصةَ بالرواد، فاتخدْتُ مكاناً شاغراً في الطابق العلوي وفي الصفوف الأخيرة.

أمّا فيما يخصّ أوائل ابتدائي في قول الشعر هما بيتيان يت، يمان قلْتُهما مع نفسي، وأنا صغيرٌ عائدٌ منْ سينما الفردوس في ساحة النهضة بشارع الملك غازي والقريبة من دارنا في باب الشيخ:

قلبٌ تعلَّقَ بالهوى

ويهيمُ ليسَ لهُ دَوا

ما لي أراه يُفتِّشُ

عنْ قلبِهِ بينَ النَوى؟

طبعاً نصٌّ مُضحِكً وساذج، أليسَ كذلك؟

لكنَّ أولَ قصيدةٍ منْ بواكير الإعدادية كانت التالية، مع أنّني لم أنشرْها في حينها، احتفظتُ بها لنفسي، وبعد سنوات أُذِيعَتْ من إذاعة بغداد عبر برنامج (براعم على الطريق) التي كانت تقدّمُها الشاعرة الفلسطينية سائدة الأسمر كلَّ مساء أربعاء في تمام الساعة السابعة، وفي بداية ستينيات القرن المنصرم، وكانت بعنوان (الدرب القديم):

ماتَتْ شموعُ الحبِّ، وانطفأ النهارْ،

وتردّدَتْ اصداءُ أغنيةِ السِفارْ

كلماتُها دمعٌ ونارْ،

يا حلوتي،

لمَ قد نسيتِ اليومَ حُلْمَ الأمسِ

في الدربِ الطويلْ؟

وقتلْتِ قلباً قد تعشّقَ في العيونْ

وَهَنَ الليالي والسنينْ،

وكآبةً سحريةً خلفَ السوادْ

وضبابَ أحلامٍ يمزّقُها السهادْ،

يا حلوتي،

هل تذكرينَ لقاءَنا وسطَ الزحامْ

فتلاقتِ النظراتُ، فارتعشَتْ رموشْ؟

وهربتِ منْ دربي وأرجعَكِ الزحامْ،

خَدَرٌ لذيذٌ قد سرى في جانحي

وتعلّقَ الوجهُ الكئيبْ

في القلبِ في أعماقِ أغواري،

يا حلوتي،

كم قد بنينا في الأعالي فوق أعمدةِ السماءْ

أملاً يعيشُ مدى الليالي والدهورْ،

ولقيتُ في عينيكِ أحلامَ المساءْ

ورديةً ترنو إلى الأملِ البعيدْ،

حُلُمي السعيدْ،

**

وصرخْتِ:"لا ،

لنْ أقبلَ الوعدَ الثمينْ!"

وظننْتُ أنّكِ تمزحينْ،

أوّاهِ! يا حلمَ السنينْ،

لا... حرّقتْ قلبي وأعصابي

ودنيايَ القديمْ،

لا... أوصدتْ في الوجهِ أبوابي

وأطلقتِ الشجونْ،

ورجعْتِ عن حلمِ قتيلٍ تسألينْ!

أوَ تجرؤينْ؟!

يا حلوتي،

ماتتْ شموعُ الحبِّ وانطفأ النهارْ،

فأنا نسِيتُ القلبَ في الدربِ القديمْ....

فهل هي قد المقام، كما يقول أخوتنا المصريون؟

هذه هي المرة الثانية تُنشَر فيها بعد قراءتها في البرنامج المذكور، أعلنها للعامة.

ثمّ توالى بعدها النشر وبغزارة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ولحدّ اللحظة. وللعلم تخرّجتُ منَ الإعدادية عام 1960، ومنَ الجامعة 1964 .

***

راضي المترفي

بعد اتهام السيد مهدي الحكيم رحمه الله بالاشتراك في مؤامرة لقلب نظام الحكم في العراق عام ١٩٦٩، ذهب وفد من قيادة حزب الدعوة الإسلامية الى مقر إقامة المرجع الكبير السيد محسن الحكيم. ضم في عضويته عبد الصاحب دخيل والسيد حسن شبر والسيد فخر الدين الشوشتري وآخرين رحمهم الله.

عرض الوفد القيادي على المرجع الحكيم، وقوف حزب الدعوة الى جانبه، وأنه يطلب منه الإذن بتحشيد أعضائه للقيام بتظاهرات احتجاجية ضد السلطة البعثية.

شكر السيد الحكيم موقف القيادة لكنه رفض قيامهم بهذه الخطوة، موضحاً أن هذا النظام قمعي وأن الاحتجاجات ستكشف حزب الدعوة أمام أجهزته الأمنية وتعرضه لضربة قاضية.

كان موقفاً مبدئياً رائعاً من قيادة الدعوة في الوقوف الى جانب المرجع الأعلى وعدم تركه وحيداً بعد أن انفضت الجماهير المؤيدة من حوله وبقي وحيداً في محل إقامته مع عدد قليل من المقربين. وقد أخبرني الدكتور صاحب الحكيم بأن المرجع الحكيم عاد الى النجف الأشرف ومعه سيارتين من مقربيه، كان الدكتور صاحب الحكيم يقود إحداها، وهو من آخر الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة ـ أطال الله عمره ـ من الذين كانوا مع المرجع الحكيم.

احتجب السيد محسن الحكيم في بيته في الكوفة ولم يخرج الى صلاة الجماعة في صحن الإمام علي عليه السلام. وخلال فترة الاحتجاب بدأت العشائر تتوافد على منزله وهي تهتف غاضبة ضد السلطة البعثية.

أخبرني القيادي الكبير المفكر السيد هاشم الموسوي رحمه الله، بأن لجنة تنظيم البصرة أرسلت الشيخ مجيد الصيمري رحمه الله الى الكوفة لاستجلاء الموقف ونقل صورة الغضب الجماهيري في البصرة، لكنه لم يحصل على موقف من بيت المرجع الحكيم إلا ورقة صغيرة كتب عليها قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا).

لم يقتنع المرجع السيد الحكيم بالثورة الجماهيرية ضد نظام البعث، وقد كانت الفكرة التي يحملها، أن طبيعة الناس تنسحب من المواجهة في الظروف الحرجة عندما تشتد المواجهة.

ومن ناحيتهم، فأن الشيعة بعشائرهم وجماهيرهم، لم يتدربوا على قيادة عليا تخاطبهم مباشرة وتتصرف بعنوان سياسي ظاهر لكي يلتفوا حولها وينسجموا مع توجهاتها. لقد اعتادوا من المرجعية على أخذ الإذن منها في كل موقف، وعلى التحرك وفق فتوى شرعية يصدرها المرجع. وبغير ذلك فانهم لا يتحركون.

وبين قراءة المرجع الحكيم للحالة الاجتماعية وبين طريقة الجمهور الشيعي في انتظار التوجيه، تراجعت القوة الشيعية أمام النظام البعثي، وتمكّنت السلطة من تصعيد قمعها بعد ذلك وخصوصاً بعد وفاة السيد الحكيم عام ١٩٧٠.

إن التحرك الجماهيري مسألة معقدة، وصناعة الثورات مهمة صعبة، حيث تدخل فيها عوامل كثيرة هي خليط من الطبيعة الاجتماعية والمزاج العام والعاطفة والظرف المعاش. فالجمهور الذي يقف خاملاً في فترة ما، تراه نفسه يتحرك بقوة في فترة أخرى، وتجارب العراق تشهد على ذلك.

***

سليم الحسني

٢٨ تشرين الثاني ٢٠٢٢

 

 

في لقاءاتي شبه اليومية مع العلامة الكبير السيد مرتضى العسكري رحمه الله، كنتُ أحرص على طرح الأسئلة عن ذكرياته، وكان يستعيدها بدقته المعروفة، ويعرضها ممزوجة بروحه المثقلة بهموم الإسلام وقضاياه الكبيرة.

ذات يوم سألته عن السبب الذي يمنعه من كتابة مذكراته، بدل أن يُحدثني بها في أوقات متفرقة. أجابني بذكر محاورة جرت بينه وبين السيد الشهيد محمد باقر الصدر عام ١٩٦٩ في منطقة جُبع في لبنان.

يقول السيد العسكري، إن السيد الصدر طلب منه أن يكتب مذكراته. فأبدى له العسكري انشغاله ببحوثه الكثيرة وعدم وجود وقت كافٍ لكتابة مذكراته. لكن السيد الصدر بقي يصرّ عليه بكتابتها لما لها من قيمة تاريخية وميدانية، تنفع الأجيال القادمة بالتعرف على التجارب التي خاضها منذ عشرينات القرن الماضي بوعي حركي.

وبعد طلب وتمنع، وإصرار واعتذار، اتفق السيدان أن تكون كتابة المذكرات بعد سقوط نظام البعث في العراق. ولكي يكون الأمر قاطعاً فقد طلب السيد الصدر من السيد العسكري أن يعقد صيغة النذر الشرعي بكتابتها اذا زال حكم البعث من العراق.

قال العسكري: كنا نظنّ أن البعثيين سيسقطون في غضون عدة أشهر.

قال ذلك وابتسم ابتسامة ذات دلالة، كأنه يدين حقبة من الزمن غلب عليها التفكير الحالم ومنطق النظريات التي تعشق الفضاء.

لقد بقي التفكير الحالم صفة ملازمة لعدة أجيال من حزب الدعوة الإسلامية، وكنتُ واحداً من الحالمين بتلك الأفكار المستقبلية، ولم أكنْ أقتنع على مدى سنوات الشباب بأن هناك منهجاً سياسياً عملياً أفضل من منهج حزب الدعوة، وأنه الأكثر دقة وكفاءة وقدرة على تحريك الأمة وإسقاط الحكم وإقامة النظام الإسلامي. وهي النظرية التي قام عليها الحزب تحت عنوان (المرحلية).

لم تكن الدعوة الإسلامية تمتلك نظرة واقعية عن طبيعة صراعها مع السلطة. فقد بالغت في تقدير قدراتها، كما بالغت في وضع ثقتها بالشعب، وكانت مقولة (كسر حاجز الخوف) راسخة في عقول القيادات الإسلامية، فتصورت أن تحدي النظام والدخول معه في مواجهة مسلحة، من شأنه أن يكسر حاجز الخوف عن الأمة فتخرج ثائرة ضده. في حين أن (كسر حاجز الخوف) هو محطة في غاية الدقة في مسيرة الثورات، فما لم تكن هناك احاطة تفصيلية بطبيعة المجتمع، ومعرفة بوسائل السلطة وردود فعلها، فان كسر حاجز الخوف سيتحول الى مجازفة قاتلة.

كانت هذه النظرة تسيطر على تفكير قيادات حزب الدعوة، كما أنها سيطرت أيضاً على تفكير السيد الشهيد محمد باقر الصدر. كانت العاطفة والاندفاع الثوري يتغلب على الموضوعية الميدانية بمراتب عديدة. ولم يكن التعامل مع طبيعة المجتمع العراقي ومع طبيعة السلطة البعثية بحكمة السياسي ذي النظرة الثاقبة.

إن وفود البيعة التي حشّد لها حزب الدعوة قدراته عام ١٩٧٩، والتي جاءت بتنسيق مع السيد الشهيد الذي نظر اليها على أنها ستكون الحدث الذي يخيف السلطة ويجعلها تتراجع عن التعرض لقيادته، جاءت بنتيجة معكوسة، فقد صنعت ردة فعل عنيفة من قبل السلطة، أدت الى اعتقال السيد الصدر ومن ثم إعدامه في نيسان ١٩٨٠.

كانت المعادلة مختّلة في تلك السنوات، فهناك تفكير سياسي غير ناضج، يُحرّك قاعدة حزبية من الدعاة في غاية الإخلاص والنضج والتضحية. كانت القيادة بعيدة عن فهم الواقع، لكن التضحيات البطولية غطتْ على هذا الخلل.

ان فداحة الخسائر وحجم التضحيات وعظمة البطولات في مقابل بشاعة الهجمة البعثية، حالت ولسنوات طويلة دون الوقوف بهدوء لمراجعة تلك التجربة وتقييمها موضوعياً بعيداً عن تقديس الأشخاص وعاطفة الارتباط بهم.

لقد تأخر تقييم تلك المرحلة، وتأخرت دراستها، وكان من نتائج ذلك أن تعمقت الأخطاء وضاعت الكثير من فرص الحل. قيمة التجربة أنها تنقذ الحركات من السقوط، وتمنح العاملين أفقاً أوسع لرؤية المستقبل.

للحديث تتمة

***

سليم الحسني

(1919 – 2013) James Buchanan

هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة فرجينيا، الذي عُرف بكونه المؤسس الاول لنظرية الخيار العام Theory of Public Choice في الاقتصاد وأحد المتحمسين لاقتصاد السوق والمعارضين للتدخل السياسي في النشاط الاقتصادي. وهو مناوئ عنيد لكيفية تصميم برامج المساعدات الاجتماعية التي يراها عادة ما تبدأ باساس خاطئ وتنتهي الى نتيجة مخيبة. ولذلك ولأنه أشعل الشرارة الأولى لانطلاق مذهب الخيار العام وعززه بدراسات لاحقة اسهمت في تطوير ما يسمى الآن بالاقتصاد الدستوري والتحليل الاقتصادي لعملية اتخاذ القرارات السياسية في حقل النشاط الاقتصادي العام، فقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1986.

يعتبر بيوكانن ان هناك ركيزتين أساسيتين لمعنى الخيار العام: أولهما الدستور الامريكي الذي ينبغي ان يشكل القاعدة الصلدة الاولى لانطلاق كل التشريعات القانونية وسن قواعدها واصولها، وثانيهما هي الكيفية والصيغة التي تأخذها تلك القوانين والقواعد وتصنع منها نظاما عاما لا انحياز فيه. وهو هنا يسمي الشق الثاني مجازاً، بكيفية "ممارسة اللعبة" مع الحفاظ على جوهر قواعدها المبدأية الحيادية.

ولد بيوكانن في مرفريبورو في ولاية تنسي الجنوبية لعائلة فلاحية تنحدر من اصول ايرلندية-اسكتلندية وهو الابن الاكبر من بين ثلاثة اطفال. كان جده في زمن سابق حاكما لولاية تنسي لكن حكمه لم يكن شعبيا مما خلف في دواخل الشاب جيمس شعورا بالعزلة وبأنه ليس من الشباب الذين لهم ظهير مالي ومعنوي وروابط اجتماعية مهنية مؤثرة، الشعور الذي تعمق بعد فشل والده في تحقيق ما كان يطمح فيه ويعمل له جاهدا من مهنة زراعية ناجحة تخلف لاولاده ثروة مال وخبرة مهنية. عندما تزوج والده عام 1918 بدأ مباشرة بتحقيق حلمه المهني فاشترى حقلا كبيرا وقطعان من الماشية متكبدا في ذلك ديونا باهضة للبنوك والمستثمرين المحليين لكنه كان يراها استثمارا واعدا سيدر ثماره المجزية له ولاطفاله من بعده. ولكن لم تمض عشر سنوات على ذلك الاستثمار الثقيل في المال والجهد حتى تلقى الاقتصاد الامريكي عموما اقسى ضربة اقتصادية في تاريخه وهي ضربة الكساد العظيم التي عصفت بمشروع بيوكانن الاب الاستثماري فخسر كل شئ وتحطم حلمه الكبير امام عينيه. كان جيمس آنذاك بعمر عشر سنوات وكان يعمل في حقل ابيه عملا شاقا جنبا الى جنب مع حضوره المدرسة واجتهاده فيها. يصف جيمس فيما بعد تلك الايام من حياته العائلية قائلا: كانت حياة فقر وحرمان ولكن بكرامة. لم تدخل بيتنا الكهرباء ولم تكن لدينا مرافق صحية ولم تكن لدى الحقل اية معدات زراعية تعين الوالد غير الثيران والعربات الخشبية المتهالكة.

اجتاز جيمس المدارس المحلية ودخل جامعة تنسي فحصل على البكالوريوس عام 1940 وواصل الدراسة فنال الماجستير خلال سنة واحدة، أي في عام 1941. وكانت اجراس الحرب قد دقت آنذاك فلبى جيمس واجب الخدمة العسكرية وانخرط ضابطا في البحرية الامريكية وانتُخب عضوا في لجنة تخطيط العمليات مع الادميرال چستر نيمتز فذهب الى هونولولو - هاواي وبقي هناك لغاية انتهاء الحرب عام 1945. عاد بعد ذلك ليدخل جامعة شيكاغو لاكمال دراسته العليا في الاقتصاد مستفيدا من القانون الذي سمي GI Bill الصادر عام 1944 والذي يمنح من أدى الخدمة العسكرية خلال الحرب تسهيلات في الحصول على عمل وتدريب ومواصلة الدراسة. وهكذا حصل بيوكانن على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1948.

باستثناء خدمته في البحرية الامريكية، فان اغلب حياة بيوكانن المهنية كانت في الحقل الاكاديمي بين التدريس والبحث في جامعات عديدة. فبعد نيله الدكتوراه مباشرة حصل على عمل في جامعة تنسي لغاية 1951، ثم التحق بجامعة فلوريدا الحكومية لغاية 1956 حيث كان رئيسا لقسم الاقتصاد فيها لمدة سنتين. ومن فلوريدا ذهب الى جامعة فرجينيا - شارلوتسفل التي أسس وأدار فيها مركز توماس جيفرسن لدراسات الاقتصاد السياسي عام 1957، ثم سافر الى ايطاليا بمنحة فُلبرايت. وهناك درس الاتجاه النيوكلاسيكي في المالية العامة الذي تزعمه مافيو بانتليوني الذي كانت طروحاته مصدرا ملهما لما تطور لاحقا في نظرية الخيار العام، وكان بيوكانن قد أفرد فصلا خاصا عن التقليد الايطالي في المالية العامة في كتابه "النظرية المالية والاقتصاد السياسي" الذي نشره عام 1960. بعد تجربته في ايطاليا عاد كاستاذ وباحث زائر في جامعة كاليفورنيا- لوس انجلس، ثم الى معهد فرجينيا البوليتكنيكي في بلاكسبرگ الذي منحه لقب استاذ متميز عام 1969 ، واخيرا انتقل الى جامعة جورج ميسن في فيرفاكس عام 1983 والتي بقي فيها لحين تقاعده من الخدمة الجامعية.

يستطيع المرء ان يعود الى بعض الاحداث التي صاغت افكار وفلسفة بيوكانن. فبالاضافة الى نشأته في عائلة فلاحية مكافحة في ولاية جنوبية، فانه قد ذكر على ان الستة اشهر التي امضاها في تدريب البحرية في نيويورك اعطته دروسا بليغة في حياته، منها الوقوف على التمييز الطبقي الفاضح في المدينة الكبيرة بين خريجي جامعات الشمال الشرقي من البلاد عن زملائهم خريجي جامعات الجنوب التي كان يُنظر اليها بشكل استعلائي. ثم ان سنوات مابعد الحرب كانت قد انتجت الصراع الرسمي بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الليبرالي، فتميزت تلك الفترة بولادة المقاومة المحافظة ضد التطلعات الديمقراطية والسياسات التقدمية كالعقد الجديد وقوانين منع الفصل العنصري في المدارس العامة.

بالاشتراك مع زميل آخر هو وورن نتر الذي عمل مستشارا مقربا من بيري گولدواتر، مرشح الرئاسة الجمهوري لعام 1964، نشر بيوكانن مقالا عن امكانية السلطات الحكومية ان تبيع بنايات وممتلكات المدارس العامة وتتخلى عن مسؤولياتها بوضع المناهج الدراسية والكتب المدرسية وتفتح الطريق للقطاع الخاص الذي سيطور انواعا من المدارس والمناهج بحيث يستطيع الآباء والامهات ان يختاروا ما يشاؤوا من خيارات لتعليم اطفالهم، حيث يتم ذلك عبر ميكانيكية الانتخابات الديمقراطية. لاقت هذه الفكرة دعما وتشجيعا من قبل زميله ملتن فريدمن الذي دعا هو الاخر لفك ارتباط المدارس العامة بالقطاع العام من اجل توسيع دائرة الاختيار.

أما عن التحاقه بجامعة شيكاغو فقد ذكر بيوكانن في مذكراته الصادرة عام 1992 انه في اول الامر شعر بان عدد من زملائه الذي بدأوا مرحلة الدكتوراه ربما كانت لهم ميولا اشتراكية، وكان من بينهم ملتن فريدمن وفريدرش هايك، الا ان الامر اختلف تماما عندما عرفهم جيدا من خلال تتلمذتهم جميعا في دروس فرانك نايت الذي كان يعتبر الاب الروحي لجمعية مونت بيلرن التي ضمت اغلب المحافظين والمتحمسين لاقتصاد السوق. وعندما أصبح فرانك نايت المشرف على رسالته الموسومة "العدالة المالية في الحكومة الفيدرالية" بدأ التأثير الاكبر على مفاهيمه وفلسفته، خاصة حول دور الاقتصاد والسياسة في المجتمع ودور المجتمع في صنع السياسيين وتكييف السياسة الاقتصادية. واضافة الى تأثره المباشر باستاذه هذا في شيكاغو ، فان التأثير الخارجي الكبير جاء من خلال دراسته العميقة لافكار وفلسفة الاقتصادي السويدي نت فكسل خاصة في مقال فكسل المنشور عام 1896 والموسوم "مبدأ جديد للضريبة العادلة" الذي يقول بيوكانن عنه بأنه المقال الذي فتح عينيه على حقل السلع العامة ودور الدولة في تمويلها، وبذلك رسخ لديه ايمانه باقتصاد السوق الحر. من بين طروحات فكسل التي وجدت لها جذبا خاصا عند بيوكانن هي معارضته للتوجه العام لفك الارتباط بين دفع الضرائب من قبل المواطنين والانتفاع المباشر منها، فهو يؤمن بأن الضرائب تصبح فريضة غير مبررة حين لايحصد الدافعون منها اي منفعة ملموسة. ومن وحي هذه الافكار نشر بيوكانن عام 1949 مقالة بعنوان "النظرية الخالصة للمالية الحكومية" التي طرحت افكارا اساسية جديدة في زمنها حول سياسة المالية العامة ودور السياسيين في صياغتها وأثرها على عامة الشعب، والتي قوامها الجوهري هو أن الدولة في ظل الديمقراطية لايمكنها ان تتصرف وكأنها الفاعل الوحيد في صياغة السياسة الاقتصادية والتصرف المطلق بأموال الشعب. يقول الاقتصادي توني أتكنسن بأن تلك المقالة كانت بمثابة "البيان الفلسفي" لبيوكانن.

وفي عام 1950 نشر بيوكانن مقالة بعنوان "الفيدرالية والعدالة المالية" وهي المقالة التي اعتبرت رائدة في قضية الضرائب وطريقة فرضها على السكان ومدى فاعليتها وعدالة تطبيقها. ومن خلال عمله في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية NBER دعا مع زميله رچرد مسگريف الى احلال العدالة "الافقية" في فرض الضرائب التي تعني معاملة المتساوين بشكل متساوي لتكون بدلا من العدالة "العمودية" التي تقوم على معاملة غير المتساوين بشكل غير متساو.

من خلال هذه التأثيرات أصبح بيوكانن، ربما، الاقتصادي الاول الذي التفت الى دور وتأثير الانتخابات السياسية في النظام الديمقراطي وسلوك السياسيين والناخبين والحكومة المنتخبة في ادارة اقتصاد البلاد والتصرف بثروته، وتحليل كل ذلك بموجب النظرية الاقتصادية. ولا يخفى بأن افكار مثل هذه اعتبرت خروجا عن نطاق الاقتصاد، أو بأفضل حال فهي محاولة لمزاوجة الاقتصاد مع حقول اخرى كالعلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع والادارة. كانت تلك هي الخلفية التي أسست لبحوث بيوكانن اللاحقة وريادته في نشوء نظرية الخيار العام التي اصبحت فيما بعد حقلا اقتصاديا قائما بذاته ومزدهرا.

في عام 1962 نشر بيوكانن مع زميل آخر هو گوردن تولك كتابهما المعنون The Calculus of Consent الذي اُعتبر دراسة رائدة اثارت الانتباه الى سلوك السياسيين ومسؤولي الحكومة وكيفية صياغة القرارات الاقتصادية من قبلهم والتي تستحق ان تعامل بموجب الاعتبارات الاقتصادية التقليدية للمستهلكين والمنتجين كتعظيم المنفعة وتقليص الكلف وغيرها من أدوات الاقتصاد المعروفة. يقول بيوكانن ان الاهتمام بهذا الموضوع يعود الى اطلاق سياسة العقد الجديد التقدمية من قبل الرئيس روزفلت خلال الثلاثينات من القرن الماضي والتي جاءت مع افتراض ان موظفي الحكومة البيروقراطيين هم خدم للمصلحة العامة، منزهين في تصرفاتهم، وزاهدين في سلوكهم، ومتجردين من السعي وراء منافعهم الشخصية! والحقيقة كانت تقتضي ان نعاملهم مثل بقية افراد المجتمع حين ننظر الى سلوكهم في السوق الاقتصادي، ولنا ان نعرف بانهم كانوا يعملون بما يؤمّن اعادة انتخابهم أي انهم يسعون وراء المصلحة الشخصية قبل ان يفكروا بخدمة المصلحة العامة. وهنا يؤكد بيوكانن بأنه لا يتهم كل موظفي الحكومة الذين ينفذون سياسات الدولة بأنهم انانيون واشرار، انما هم بشر مثلنا جميعا يركضون وراء منافعهم لكن الفرق بيننا وبينهم هو اننا اذا اخطأنا في اتخاذ القرار فلا نضر الا انفسنا لكنهم حين يخطأون في قراراتهم سيكون الضرر ساريا على جميع افراد المجتمع، وهو الحال الذي يحصل في حالات فشل المشاريع العامة التي تكلف ميزانية الشعب اموالا طائلة وموارد وجهود عظيمة.

في عام 1967 نشر بيوكانن كتابه الموسوم "الديون العامة في المجتمع الديمقراطي" بالاشتراك مع رچرد واگنر، وهو العمل الذي اعتبره بيوكانن مكملا لمنهجه في نظرية الخيار العام، حيث ان الهدف هو تحليل عملية صنع القرار السياسي، خاصة في مجال الانفاق العام وتوازن الميزانية والعجز المالي. يقول بيوكانن " اذا كانت الحكومة التوتاليتارية تتجاوز حدودها بشكل طبيعي ومقبول فانه من غير المقبول ابدا ان تتخذ الحكومات الديمقراطية نفس المسعى، لكن ذلك حدث فعلا في الولايات المتحدة خلال الستينات عندما سعت حكومة لندن جونسن لمعالجة الفقر واحلال العدالة الاجتماعية عن طريق تكبد قدر ثقيل من الديون العامة. لقد فضلت الحكومة ان تمول برامج الرفاه الاجتماعي عن طريق تصعيد الديون العامة وليس من خلال الضرائب المحلية كما يفترض، اضافة الى ان سياسة الرفاه الاجتماعي نفسها فاقمت هذا التجاوز عندما سعت الى تقليل الضرائب المستحقة مسببة في ذلك العجز المالي العام.

في عام 1968 أمضى بروفسور بيوكانن سنة كاملة في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلس ونشر بعدها كتاب "عرض السلع العامة والطلب عليها" والذي أظهر فيه تأثره الشديد بطروحات فكسل ولندال ومفاهيم الاجماع الشعبي والمشاركة الضريبية والدولة المثالية. وفيه أوضح اعتباره للمشاركة الضريبية كعامل فعال في توازن المالية العامة والخيار العام الذي يتحقق بقرار الاغلبية. وبذلك فالمنفعة الشخصية المتحققة في السلع العامة تشير الى اعظم قدر من كفاءة انتاج السلع العامة.

وفي كتابه المنشور عام 1969 بعنوان "الكلفة والاختيار" يناقش بيوكانن معنى وتأثير كلفة الفرصة ويعطي مثاله الكلاسيكي قائلا: ان الجهد الجسماني الذي يبذله الصياد ونوعية وسعر ادواته والوقت اللازم لصيد حيوان ما هي بمجملها عوامل تقرر قيمة لحم ذلك الحيوان لمستهلكيه لكن اختلاف المستهلكين سيقود الى اختلاف السعر من حالة لأخرى. ومن الجدير بالذكر هنا هو ان هذا العام نفسه شهد تأسيس مركز دراسات الخيار العام في جامعة فرجينيا الذي اصبح بيوكانن مديره الأول.

في عام 1973 قام بيوكانن بِحَث مناصريه لدعم وتفعيل اتجاه فكري معارض، ليس فقط لما تطرحه الحكومة من سياسة اقتصادية، انما معارض ايضا للفكر العام السائد Counter intelligentsia من اجل تغيير طريقة ونمط تفكير عامة الناس حول السياسات الحكومية. ومن خلال ذلك سعى الى كشف الدوافع الحقيقية وراء القرارات السياسية التي تحكم النشاط الاقتصادي، وبقي يثير التساؤل المستمر: لماذا علينا ان نفترض بأن مجرد ان تتدخل الحكومة سيؤدي ذلك الى علاج المشاكل الاقتصادية؟ أليس الشعب والقطاع الخاص قادر على حل المشاكل التي تواجهه؟ وعن دوره هذا يؤكد بيوكانن بأن مايفعله ليس نشاطا سياسيا لمواجهة الحكومة وانه لا يطمح ان يقود حركة اصلاحية معينة، انما كل مايطمح له هو ان يساهم في توجيه العامة الى زاوية النظر لدور السياسات الاقتصادية وتأمل عواقبها.

فهو يرى بان السياسة العامة ينبغي ان لا تنحصر بتوزيع الموارد بل ان عليها ان ترسم الخطط وتحدد "قوانين اللعبة" وتهتم بجانب التبادل وتحد من هيمنة الدوائر الحكومية على القرارات الاقتصادية. ومن مجمل مواقفه المعروفة اضافة الى رفض التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي ، وقوفه ضد الاتحادات العمالية والنقابات التي يسميها "حركات احتكار العمل"، ورفضه لافكار اليسار وما يسمى بالاتجاهات التقدمية، واختلافه مع المنهج الكينزي في الاقتصاد. كما انه وقف ضد قرارات ازالة الفصل العنصري في المدارس الحكومية.

يقول بعض النقاد في هذا الصدد انه بالرغم من محاولة بيوكانن ومثله فريدمن من الابتعاد عن الذكر المباشر للعنصر Race أو لثقافة جم كرو أو الاشارة المباشرة الى سكان السود والملونين، فأن القصد وراء السطور التي يكتبون لايخفى على أحد بل كان كافيا لتزويد العنصريين المفضوحين بما يحتاجونه من تبريرات واسلحة لاسناد مواقفهم العنصرية.

تقول نانسي مكلين في كتابها "الديمقراطية المكبلة: تاريخ اليمين المتطرف وخططه لادارة أمريكا" : لم يكن بيوكانن عنصريا ضد السود والملونين بقدر ما كان ضد الحكومة وسيطرتها على الاقتصاد ومختلف نواحي الحياة ، وضد الاتحادات خاصة اتحاد العمال وضد اليسار والمعالجات الكينزية وهو الذي يعتبر كل هؤلاء عبارة عن جبهة واحدة تقف ضد اقتصاد السوق الحر".

وفي عدة مقالات نشرتها صحيفة الاندبندنت وُصف بيوكانن بأنه معمار اليمين المتطرف. كما وُصفت مواقفه الفكرية من قبل بعض الاقتصاديين بأنها تبدو وكأنها "امبريالية اقتصادية"! وكان الاقتصادي الهندي مارتيا سن قد انبرى للدفاع عنه قائلا: ان لبيوكانن فضل كبير في تأسيس اخلاقية الاقتصاد وقد عمل اكثر من غيره على كشف الجانب الاجتماعي والسياسي والقانوني للاقتصاد. فمثلا ميز بيوكانن بين Politics و Policy فبينما تعنى الاولى بقوانين اللعبة، تهتم الثانية بالتركيز على الستراتيجيات التي يتخذها اللاعبون ومدى التزامهم بالقواعد والنظم المرسومة والى اي حد تكون تلك القواعد فاعلة ونافعة، وهي اسئلة تتحدد ضمن الفلسفة الاجتماعية السائدة. أما بأي اتجاه وبأي نوعية ترسم تلك الستراتيجيات فهذا سؤال يتكلف الاقتصاد بالاجابة عنه. ومن هنا نرى بأن بيوكانن كان رائدا بمزاوجة هذين الحقلين، وهو بهذا قد بعث الاقتصاد السياسي من جديد وصاغه بما يسمى اليوم بالاقتصاد السياسي الدستوري. وكان بيوكانن قد عرف دور الاقتصادي بأن مهمته هي التركيز على سياسة التبادل بين الموارد وليس ايجاد الطريقة المثلى لتوزيعها. ويصف نفسه بأنه اقتصادي مؤسسي يستحدم النظرية الاقتصادية في هدى رؤية جيمس مادسن للديمقراطية البرلمانية المثالية. وهو بذلك ينتقد ما سمي بـ Arrow Paradox التي تلخص فكرة الاقتصادي كنيث أررو ضد رجاحة الاغلبية.

في عام 1975 نشر بيوكانن كتابه الموسوم " حدود الحرية بين الفوضى والقمع" فقدم فيه مفهومه للعقد الاجتماعي وابدى دعمه لبعض مقومات العقد كإعادة توزيع الثروة والضمان الاجتماعي لكنه ركز على ان تكون الدولة فعالة منتجة وعارض بشدة تقليل او الغاء الضرائب على الملاك الكبار بل ذهب بعيدا لاقتراح ان يكون المعدل الحدي للضريبة اقرب الى 100%بعد حد معقول من الحيازة على الاملاك. واعتبر ذلك أمرا حاسما لمعنى اعادة التوزيع وتكافؤ الفرص. وكان ايضا قد سخر من دعاوى رفع الحد الادنى للاجور كوسيلة لزيادة العمالة، وقال ان هذا الادعاء كمن يدعي بأن الماء يجري الى الاعالي! فليس هناك من عاقل ان يصدق ذلك.

بقي ان نقول ان بيوكانن لم يكن معروفا باختلاطه الاجتماعي بل كان شخصا خشنا يحب الانعزال. في ايام خدمته في البحرية الامريكية التقى بالممرضة النرويجية آن بيك وتزوجها عام 1945 فعاشا معا لحين وفاتها عام 2005. لم ينجبا اطفالا بل كانا يمضيان اوقاتهما في مزرعتهما القريبة من بلاكسبرگ- فرجينيا يزرعان ويربيان الماشية. وقد واصل العيش في مزرعته وحيدا بعد وفاة زوجته ولحين وفاته عام 2013 عن عمر 93 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

جاسنورزيوسكا

ترجمتها عن البولندية: مريم لطفي

***

ولدت الشاعرة البولندية بافليكوفسكا في 24 موفمبر 1891 في كراكوف لعائلة فنية، فهي إبنة فويتشخ كوساك وجدهاجوليوس كوساك اللذين اشتهرا بالرسم و بتصويرهم للمشاهد التاريخية والخيول وقد كانا من طبقة النبلاء وكانت العائلة تمتلك قصرا في كراكوف مكان التقاء الفنانين والمثقفين والبولنديين، كما كانت والدتها ملاكا صارما لها حسا فكاهيا رائعا واختها ماجدالينا ساموزوانيكيك كاتبة ساخرة، كما واصل شقيقها الاكبر جيرزي مسيرة الرسم، درست ماريا في المنزل وتعلمت اللغات واستكشفت العلوم الطبيعية والادب ودرست عاما في أكاديمية كركوف، وكان لاتصالاتها اليومية مع الخدم اثرا بخلق خيالا واسعا لدى الشاعرة من خلال استماعها لقصص السحر والاشباح:

لقد عاد قلبي

لقد أعطيته بعيدا في وابل المطر الذهبي

إنه ليس ساما مثل الشوكران

لقد وجدته الان

وليس ضخما، ولاقويا مثل النسر

ولايحرسه فريقا من الشياطين ذوي الوجه الداكن

ومع ذلك سأستمر بحمله

 وقد كانت ماريا غزيرة الانتاج فسميت ب(ملكة الشعر الغنائي) كما كانت الشاعرة تجيد اللغات الفرنسية والانكليزية والالمانية وقد قسمت وقتها بين الشعر والرسم.

بدأت حياتها المهنية ككاتبة مسرحية عام1924 فكتبت مسرحية (السائق ارشيبالد)، وبحلول عام 1939 كتبت خمسة عشر مسرحية معظمها كوميدية، وقد قام النقاد بتقييم انجازاتها بشكل ايجابي، فقد قارنوا الكاتبة مع موليير وبيير ماريفاوس واوسكار وايلد، وقد عالجت مسرحياتها واعمالها لموضوعات محضورة وتصورنهجها غير التقليدي للاموركنظرتها مثلا للامومة على انه التزام مؤلم!

سافرت الشاعرة كثيرا على سبيل المثال الى ايطاليا وتركيا وفرنسا وهذا ماانعكس على اشعارها، تزوجت ثلاث مرات كانت الاولى عام 1919 من باولوفيسكي الذي كان كاتبا ومحبا للطبيعة والجبال ثم من المقدم بزوفسكي ثم من الطيار ستيفان جاسنورزيوسكي الذي بقي معها حتى وفاتها.

كان منزل عائلتها بالقرب من كراكوف دائما مليئا بالضيوف ويعج بالحياة، وقد كانت صديقة للعديد من الفنانين والكتاب، حيث عاشت حياة مترفة نموذجية.

كرمتها الاكاديمية البولندية للاداب عام 1935 بجائزة الغار الذهبية وهي اعلى وسام حكومي، وبعد عامين حصلت على الجائزة الادبية من مدينة كراكوف.كتبت اعمالا درامية ومسرحيات وعالجت مواضيعا شتى بطريقة دراماتيكية مختلفة كالحقوق المتساوية في الحب ومعارضة قوانين الطبيعة الحديدية والافتتان بالروحانيات والسحر:

في العمق في الساحات، يمينا ويسارا

في الساحات والاقبية السفلية

يتربص سحرة باريس مثل الضفادع النائمة

مثل الثعابين الخضراء، والبوم الرقيق

مثل الليل الهادئ

مثل ثرثرة في صالات العرض

في –نوتردام دي باريس

 وقد ابتعدت عن الصرامة ومالت الى البساطة والشفافية وقدمت نصوصا شعرية ونثرا شعريا غير نمطيا وقد كانت قصائد" الولادة الجيدة" و"قانون الجنين" من مجموعة 1933الى جانب الرؤية المغايرة للشيخوخة، والافتتان بظواهر الوفاة والولادة والانحلال والموت، وقد وصف بعض النقاد كتاباتها بالغامضة!

من يريدني أن أحبه

يجب ألايكون كئيبا

وأن يكون قادرا على رفعي عاليا

في راحة يديه

من يريدني أن أحبه

يجب أن يعرف كيف يجلس على مقعد لساعات

يتأمل الديدان الصغيرة وأوراق العشب والزهور

وعليه أن يعرف كيف يتثائب

عندما تمر الجنازة في الشارع

وتتلاشى  الحشود في الموكب

كان أول كتاب شعر لها هو نيبيسكي ميغدائي 1922 واللذي يعني اللوز الازرق، وقد شكلت ماريا صداقة عميقة مع جوليان تويم الذي شاركها اهتمامها بالسحر والمعرفة الباطنية والماورائيات، ودافع عنها ضد النقد المعادي.

قضت معظم حياتها محاطة بأبرز الشخصيات في عالم كراكوف الفني قبل الحرب، لكنها عاشت منعزلة تقريبا في انجلترا بعيدا عن عائلتها التي تربطها بها علاقة قوية خصوصا مع اختها الصغرى ماغدالينا، لقد اعتادت على الحياة الفخمة عندما كانت تعيش في بولندا الى ان غادرت البلاد عام1939، لقد غيرت فيها الحرب والهجرة كل شئ.

الفضائل التي ترضي الرب ليست لي

انها تتضاءل وتتقلص أمام عيني

حتى يبقى آخرها فقط

أحبك ياعدوي!

وبعد اندلاع الحرب ذهبت الى المملكة المتحدة عبر رومانيا وفرنسا مع زوجها الثالث الملازم الجوي في قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني عام 1940.

اصيبت بالوحدة الشديدة في مانشستر، ولم تتقبل فكرة انها تعاني من مشاكل مالية بعد حياة الترف التي كانت تعيشها في بولندا:

لنفترض انك حصلت على نعيم القمر

مرة واحدة في الزرقة

وجسدا آخرا والارض بأكملها

وانتهت بصورة كهذه

وهذا-اذن هذا هو كل ماتستحق

كان زوجها يرسل لها العديد من الرسائل ونا درا ماكان يحصل على تصريح لزيارتها، لكنه كان يرسل لها مشاعره والوصفات البولندية:

لذا لن يعتذر لي أحد عن كل ماحدث؟

لن يجادل أحد بأنهم لايستطيعون التوصل الى فكرة أفضل؟

لن يقول لي أحد:حبيبي، مامدى شجاعتك!

لن يمنحني أحد ميدالية أو يربت على كتفي؟

لن يخبرني أحد لماذا؟لن يخبرني أحد لمن؟

عكست قصائدها في المنفى مشاعرا مناهضة للحرب وتوقعات كارثية وشوقا حادا لعائلتها ووطنها، محاولة التغلب على الالم الجسدي والجوانب الاخرى للموت البطئ!

إمرأة تنتظر

تنظر الى الساعة وتحسب ساعاتها

تمضغ منديلها بغضب عاجز

العالم من خلال النافذة شاحب وقاسٍ

ربما فات الاوان بالنسبة لي

اصيبت الشاعرة بسرطان عنق الرحم عام 1944 وقد حاولت التغلب عليه بشتى الطرق، لكن دون جدوى فقد اشتد عليها المرض:

طائر صغير يعرج ليموت، ويختفي

حتى لايراه أحد على وجه الارض

مثل القلب في صدر الانسان- يختبء

في الداخل ليموت سرا

تمكن منها اليأس والمرض وهي تعيش وحيدة بعيدة عن الاهل والوطن تمتلكها مشاعرا مؤلمة مظطربة تجعلها فريسة للالم والوحدة:

يوم مستشفى

يوم صامت، يوم مثل ملجأ بيت الرحمة

ترقد سيدة مصابة بجرح مميت..تموت بسببه

شخص ما يتكئ عليها

هل هي نائمة؟ يسأل

من فعل بها هذا؟

من حبيبها؟

يوم صامت..مستشفى بيضاء

الثلج خارج النافذة

الشتاء..

يتحرك صفا من الممرضات والساعات

بجوار جدار الغرفة

يتهامسون..هل يوجد أمل؟

يتنهدون..ليس لها

في هذا الوقت غير معطف ابيض!

أجرت الجراحة مرتين لكن لسوء الحظ، ادت النقائل في العمود الفقري الى وفاتها المبكرة في مستشفى مانشستر في يوليو1945 وقد دفنت في المقبرة الجنوبية، وفي اغسطس عام 1973 وضع رماد زوجها الى جانبها في نفس المقبرة.

عيناك صامتة كما كانت دائما

عيناك صامتة كما كانت تعانقني دائما

النجوم الهادئة تمطر من السماء

والنجوم اللطيفة تتساقط من السماء

وفي مكان ما يموت على الثلج

تتحول وجوهنا الى اللون الابيض بصمت

وتتحول ارواحنا في الحب الى اللون الابيض

***

من معين نهر الفرات العذب نغرف وجهاً عربياً – عراقياً – بغداديا مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً في علوم الوراقة والوارقين، ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج من العباقرة نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تستجمع جوانب العلم بكتبه ومكتباته، فاتخذته منهاجاً، ثم باحثاً بدرجة فارس لا يشق له غبار ، وحكاء بدرجة جنرال، وقامة من قامات الثقافة والمعرفة والتنوير، وهذا العالم  الكبير استطاع أن يكون له في كل مجتمع  عربي وغربي سافر إليه صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في روسيا  وأمريكا، وأوتاوا، وسائر الأقطار الأوربية والعربية والأنجلو ساكسونية، وهو عالم بكل ما في هذه الكلمة من معني (في المكتبات والبيوغرافيا وفنون وعلوم الوراقة والوراقين)، وكاتبا، تملأ مقاله من قوة الحجة آيات بينات، وسياسياً وطنياً، صادق العزم ما وقعت الغرامات ـ وأستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وهو نعم الرجل البغدادي الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والعلم والفكر في سبيل سعادة العراق وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك لمعني الحياة الحرة البريئة.

ويشرفني في هذا المقال المتواضع أن أكتب عن خير الله سعيد ( مع حفظ الألقاب) فهو صفحة من صفحات علم المكتبات ، حيث قل رجل لم يقرأها أو يتل منها فقرة أو سطرا ؛ وآثاره معروفة فله أكثر من خمسين كتاباً، وهو في الإنسانية من المضحين، وهو في علم الوراقة والوارقين البغداديين واحدا من كبار مفكرينا العراقيين الذين نفتخر بهم في روسيا وأمريكا، علاوة علي أن حياته تعد درساً بليغا لمن شاء أن يتعلم : يتعلم الصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن بغداد مسقط رأسه، ويفني في خدمة قومه، وفي خدمة وطنه.

ولد الدكتور خير الله سعيد في مدينة بغداد 1950، وبها أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية , فعمل بالصحافة لمدة 10 سنوات بين سوريا ولبنان وبعض البلدان العربية للفترة من 1984-1993م، وفي عام 1993-1996  أكمل دراسته لمرحلة الماجستير بجامعة الصداقة بموسكو، حيث حصل على درجة امتياز عال بأطروحته : خطاطو بغـداد في العصر العباسي، الأمر الذي حدا بوزارة التعليم العالي الروسية  لأن تمنحـه منحة على نفقتها لإكمال دراسته في مرحلة الدكتوراه .. وقد قُبل بكلية الآداب- جامعة موسكو الحكومية، وقدم أطروحته ورّاقو بغداد في العصر العباسي،والتي حصل فيها درجة امتياز عالٍ، في عام 2000م، وهـو الوحيد من الطلبة العرب الدارسين في روسيا نشرت بأطروحته باللغة الروسية، بوصفها مصدراً هاماً عن الثقافة العربية في العصر الوسيط، ضمن موسوعة حملت عنوان " انتشار الحضارة الإسلامية في بلدان روسيا وبلاد الفقاس" ونشر العمل بتاريخ 2003م .

قيل عنه متعدد النشاطات والاهتمامات، وسياسي، وصحفي، وأديب وباحث اجتماعي،  ومناضل ضد الطغيان والفساد منذ صباه، فتلقفته المنافي الواحدة تلو الأخرى من عدن إلى صوفيا، إلى دمشق، وبيروت، فموسكو، وأخيرا، وربما ليس آخرا أوتاوا، تاركا فيها بصماته المعرفية ونشاطاته الثقافية.. عمل في الصحافة العربية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فكان فيها الصحفي المميز، أحب وطنه، فأنشد الموال العراقي، ومن ثم الموال السومري.. غاص في تراث أمته، فألف أهم موسوعات التراث العربية، كموسوعة بغداد الثقافية في العصر العباسي بعشرين مجلدا وموسوعة التراث الشعبي العراقي بأثناعشر مجلدا وموسوعة الوراقة والوارقون بستة مجلدات وغيرها من كتب التراث، بالإضافة لكتب تاريخ الحضارة، والأدب، والشعر، والنقد، والفنن، وهو حقا كما يقال أنه من البقية المتبقية من السلف الصالح من البغداديين المعاصرين ببعديه القيمي والمعرفي.

إنه الدكتور خير الله سعيد، صاحب المؤلفات العديدة في علم الوراقة والوارقين، والخط والخطاطين، من مؤلفاته أذكر هنا منها على سبيل المثال لا الحصر : خطاطو بغداد في العصر العباسي – تاريخ انتشار الحضارة الاسلامية – دراسة في الأمثال الشعبية العراقية – أوراق من التراث بقسميها – رجال ومواقف ونساء ومواقف – دراسات نقدية عن الرواية العربية السياسية المعاصرة، ومغنيات بغداد في عصر الرشيد وأولاده، من وجد ديوان الوجد - دراسة نقدية عن آخر كتاب للراحل هادي العلوي (ديوان الوجد)، الوراقة والوراقون في الحضارة العربية الإسلامية - موسوعة في ستة أجزاء، وليمة لأعشاب البحر نموذجا – من وزن ديوان الوزن بغداد والشعراء والقدر مدن فلسطين في تراث الأقدمين أوراق بغدادية من العصر العباسي وغيرها  .. وهلم جرا.. غادر إلى موسكو في بداية تسعينات القرن لإتمام دراساته العليا، حيث أكمل الماجستير بأطروحته خطاطو بغداد بالعصر العباسي، ثم الدكتوراه عن بحثه وراقوا بغداد في العصر العباسي، حيث حصل على درجة امتياز عالي، وهناك أسس المنتدى الثقافي العراقي في موسكو، ثم انتقل إلى أوتاوا كندا حيث يقيم الآن .

والدكتور خير الله سعيد،  من المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي دارس لعلوم الوراقة والوارقين أن يتغافل عن الدور الرائد لهذا العالم الشامخ، ومن واجبنا أن نهتم كل الاهتمام بدراسة أفكاره وآرائه .

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور خير الله سعيد، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للفيلسوف الموسوعي في علم الوراقة والوارقين، فهو الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

فتحيةً أخري لخير الله سعيد الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد على

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في بعضِ الأحيانِ نتذكرُ الماضي القريبُ منْ مراحلِ العمرِ في الطفولةِ ونشأتنا وحياتنا البسيطةِ داخلَ المجتمعِ الريفيِ؛ مهما أخذتنا المدنيةُ وحياهُ البعضُ في بلادِ الإفرنجِ نتذكرُ ماضينا؛ نتذكرُ المنزلُ الريفيُ منْ الطوبِ اللبنِ. المكونَ منْ حجرةِ الجلوسِ وتحتوي علي اﻵراكة القطنيةِ (الكنبُ المكسوّ). ووسطَ الدارِ المفروشِ بالحصيرِ البلديِ. والغرفُ المكونةُ منْ؛ - " القاعةُ والمندرة. وغرفةُ الفرنِ للخبيزْ " العيشِ البلديِ "؛ والكانونِ منْ فتحتينِ بالطوبِ للطهي. والنروزةُ للتهويةِ والإضاءةِ وسطَ الصالةِ (وسطَ الدارِ) والسلمِ المبنيِ بالطوبِ أوْ الخشبِ وأحيانا يبني دورا علويا يطلقُ عليهِ " مقاعدُ " وبهِ بلكونةٌ منْ الخشبِ تسمي (تراسينهُ) وكانتْ تعلو الأسطحُ " صوامعَ " صغيرةً لتخزينِ القمحِ والحبوبِ وكانتْ تسمى " مخزن " مبنيٍ منْ الطينِ لهُ فتحةٌ دائريةٌ أعلى وفي الأسفلِ فتحةً صغيرةً لاستخراجِ الحبوبِ وتغلقُ بغشاء قشٍ أوْ قماشٍ وكانتْ على شكلٍ حلزونيٍ وفي داخلِ المنزلِ حظيرةَ المواشي. وكانتْ المنازلُ يوجدُ بها كلُ أنواعِ الطيورِ منْ طيورٍ (الإوزُ والبطُ والدجاجُ والأرانبُ البلديُ) وكانتْ الأرانبُ تحفرُ جحورا داخلَ المنزلِ للعيشِ بها) والحمامِ. وكانتْ الإضاءةُ الليلةِ عبارةً عنْ اللمبةِ الجازُ نمرةَ 5 ونمرةَ 10 واللمبةِ أمَ شعليلة لمبةً للفرنِ. والوناسة أقلَ حجما. تستخدم لإضاءةِ حجرةٍ النومِ وجميعهمْ. يعملونَ بالجازِ السولارِ للإضاءةِ. والكلوبُ في المناسباتِ قليلٌ منْ كانَ يملكهُ وكانتْ الناسُ تفترشُ الحصرَ البلديَ للنومِ عليها لقلةِ إمكانياتهمْ في شراءٍ سرايرْ وكانتْ السراير عبارةً عنْ أعمدةٍ منْ الأعوادِ الحديديةِ أوْ النحاسِ وكانتْ ترتفعُ عنْ الأرضِ حواليْ مترٍ. وكانَ الغطاءُ منْ اللحافِ منْ القطنِ أوْ منْ الصوفِ الأغنامِ وكانَ يطلقُ عليهِ اسمُ " حملِ الصوفِ " وكانَ خشنا ورائحتهُ كريهةٌ. وكانَ بعضُ الناسِ تصنعُ ملابسَ للشتاءِ منْ نفسِ الصوفِ منْ الأغنامِ للتدفئةِ... وكانتْ الأواني تصنعُ منْ الطينِ الفخارِ مثلٍ القلةَ : وهيَ وعاءُ صغيرٌ منْ الفخارِ، منتفخ لهُ فمٌ دائريٌ محكمٌ، يبردَ فيهِ الماءُ للشربِ. والمشربيةُ أكبرُ قليلٍ لمياهِ الشربِ وتستخدمُ في الحقلِ " الجرِ أوْ الجرةِ تحملها النساءُ على رؤوسهنَ. ويطلقَ عليهِ في بعضِ القرى " البلاسي " لنقلِ المياهِ منْ حنفياتِ مياهِ الشربِ العموميةِ وكانتْ تسمى " المكررةَ ". وكانتْ النساءُ تقومُ بنقلها للمنازلِ وتخزينها في " زيرِ " منْ الفخارِ وكانَ " الزيرْ " عبارةً عنْ وعاءِ كبيرٍ منْ الفخارِ، منتفخ لهُ فمٌ دائريٌ محكمٌ، يبردَ فيهِ الماءُ للشربِ. وهوَ يعتبرُ خزانا للمياهِ داخلَ المنزلِ وكانتْ النساءُ تستخدمُ في حليبِ المواشي الطاجنِ المصنوعِ منْ الفخارِ لحليبِ اللبنِ. وترقيدَ اللبنِ لصنعِ القشطةِ والزبدةِ البلديِ. والحصيرةُ مصنوعةً منْ ثمارِ الخوصِ الرفيعِ المجدولِ لصناعةِ الجبنةِ. وكانتْ البيوتُ الريفيةُ تحتوي على أدواتٍ مثلٍ الفأسِ والعوئة. والمقطفُ والمسلةَ للخيطِ الشوالَ وجمعة (الأشوالة) لتعبئةِ الحبوبِ داخلةً، والمحراتُ الخشبُ والزوليئة عبارةً عنْ قطعةٍ مسطحةٍ منْ الصفيحِ المجلفِ وفي نهايتها حلقتينِ لربطها بالحيواناتِ لنقلِ شتلِ الأرزِ منْ المشتلِ لبقيةِ الأرضِ. أدواتُ الفلاحِ للريِ الجاموسةَ تقومُ بتدويرِ الساقيةِ البلديِ ونقلَ شتلُ الأرزِ والحرثِ فكلِ فلاحِ لديهِ الأدواتُ منْ " الحبالْ مثل (السلبة أوْ المردِ " عبارةً عنْ حبلٍ طويلٍ منْ عدةِ أمتارٍ مصنوعٍ منْ التيلِ الذي كانَ يزرعهُ الفلاحُ على حروفِ الأرضِ في موسمِ زراعةِ القطنِ. ثمَ يقومُ بوضعهِ عشرةَ أيامٍ تحتَ الماءِ في الترعِ والمصارفِ ويغطي بالطينِ ثمَ ينشلهُ منْ الماءِ وتجفيفهِ ويقومُ بصناعةِ الأحبالِ منهُ. وكانتْ مهنةٌ للبعضِ وكانَ يطلقُ عليها " المكسراتُ " الدبارة : هيَ حبلٌ رفيعٌ مصنوعٌ منْ نباتِ الكفافِ، يخيطَ بهِ خشنا (فمٌ) الشوالي. ويوضعَ في إبرةٍ طويلةٍ تعرفُ بالمسلةِ وكانَ يوجدُ في كلِ منزلِ عرقِ منْ الخشبِ يسمي " النافُ " منْ الخشبِ يوضعُ فوقَ رقبةِ الحيوانِ ويربطُ منْ طرفيْ الحيوانِ ويربطُ في طاقيةِ الساقيةِ والدبوسِ هوَ المشبكُ منْ الحديدِ، والغومةُ غطاءً منْ الخيشِ لتغطيةِ وجهِ الجاموسةِ أثناءَ الدورانِ." والملاسُ " منْ القشِ مربوطٌ بحبلٍ ويجرهُ الحمارُ لمسحِ المروةَ (الأنايةُ) وتسليكها أثناءَ ريِ الأرضِ القطنُ والذرةُ والمشربيةُ لمياهِ الشربِ في الحقلِ " الجرِ أوْ الجرةِ تحملها النساءُ على رؤوسهنَ. وتعرفَ " بلاسي " لنقلِ المياهِ منْ حنفياتِ مياهِ الشربِ العموميةِ وكانتْ تعرفُ باسمٍ " المكررةِ " وكانتْ لها أماكنُ في الشوارعِ خاصةً بها وبجوارها حوضٌ لساقيةِ المواشي. وكانتْ النساءُ تحملُ الجرةُ بالماءِ وتقومُ بنقلها للمنازلِ وتخزينها في " زيرِ " منْ الفخارِ. وحماماتُ العمومُ في المساجدِ الدشِ وكانتْ معظمُ الناسِ تستخدمُ حماماتِ الدشِ في داخلِ دوراتِ المياهِ في المساجدِ للاستحمامِ وكانَ يوجدُ في كلِ مسجدِ طلمبةَ تدار باليدِ قبلَ الاستحمامِ يقومُ الشخصُ بتدويرها لاستخراجِ المياهِ منْ تحتِ الأرضِ ورفعها في برميلٍ وكانتْ أسطحُ المنازلِ مغطاةً منْ " قشِ الأرزِ والحطبِ أعوادَ القطنِ والذرةِ لاستخدامها في الطهيِ وحمايةِ المنزلِ منْ الأمطارِ  والحرارة. وأقراصَ " الجلةِ " المصنوعةِ منْ روثْ المواشي. كذلكَ للطهي وخاضتا وجبةَ المحشيٍ أوراقِ الكرنبِ. على اعتقادهمْ أنَ وقودَ أقراصِ روثْ المواشي يعطي مذاقا وطعما للطهي، وكانتْ معظمُ البيوتِ بالطوبِ اللبنَ منْ الطينِ، ويوجدَ في كلِ منزلِ أدواتٍ يستخدمها النساءَ منْ الغوربالْ لتنقيةِ وتنظيفِ الحبوبِ والمنخلِ للدقيقِ ولا يمكنُ أنْ يخرجَ خارجَ البيتِ ليلاً إلا وضعٌ داخلةٍ قطعةً منْ الخبزِ داخلهِ ولا يمكنُ أنْ تكنسَ المنزلَ ليلاً كانتْ عادةٌ توارثها اهل الريف من طائفة السامريين من بني إسرائيل. الجهازُ كانَ بسيطٌ سريرُ بأعوادِ نحاسيةٍ أوْ أعوادِ حديدٍ مرتفعٍ عنْ الأرضِ حواليْ مترٍ. ويوجدَ " تشتّ النحاسَ وأوانٍ نحاسيةً للطهي " والغطاءِ لحافَ منْ القطنِ أوْ حملٍ مصنوعٍ منْ صوفِ الأغنامِ مصنوعٌ يدويٌ وكانَ خشنا ورائحتهُ كريهةٌ لأنهُ مصنوعٌ منْ صوفِ الأغنامِ دونَ غسيلٍ. وكنبَ خشبٌ مكسوٍ بالقطنِ. وكانتْ النساءُ تقومُ بعمليةِ طحينِ الحبوبِ في (الطاحونةُ) ماكينةً الطاحينَ، وهيَ عبارةٌ عنْ : حجرٌ كبيرٌ مسطحٌ خشنٌ، يطحن عليهِ الذرةُ أوْ الغلةِ القمحُ، ولها مراحلُ يمرُ بها عمليةَ الطحنِ المردادْ : هوَ حجرٌ خفيفٌ الخشونةِ يردُ بهِ درشْ الذرةِ أوْ القمحِ على المرحاكة فينعمهُ. الطحينُ : هوَ عمليةُ تجلس المرأةِ على ركبتيها خلف المرحاكة وتنحني بيديها على الحجرِ الطحانْ لتحركهِ جيئةً وذهابا، بعدُ أنْ تأخذَ مرةٌ بعدَ أخرى حفنةً منْ الذرةِ أوْ الدقيق الموضوعةِ في إناءٍ على يمينها، وهذهِ العمليةُ تقسمُ إلى الدروشةِ وهيَ درسُ الذرةِ في المرةِ الأولى ثمَ الردةُ وهيَ تنعيمُ الذرةِ في المرةِ الثانيةِ، وينتهي الطحينُ في أوعيةٍ منْ الغوصِ (الأوفهْ) تمردنا عنْ أصولنا. ونعيشُ حياةً منْ الرخاءِ في منازلَ لمْ يحلمْ الآباءُ والأجدادُ. انَ يعيشوا ُ نفسَ حياتنا. فكانوا في مواسمِ الحصادِ أوْ تجهيزِ الأرضِ للزراعةِ منْ الأعمالِ الشاقةِ. فكانوا يحرثونَ الأرضُ بمحراثٍ المواشي. ويسقونَ الأرضَ بتدويرِ الطلمباتِ علي أيدهمْ طوالَ اليومِ. ويحصدونَ القمحَ بالنوارجِ. ويعيشونَ أياما في الحقولِ رجالُ ونساءُ حتى الأطفالِ. رغمَ ذلكَ لا يوجدُ قناعةً كأننا غرباءَ في داخلِ المجتمعِ. نعيشُ حياةٌ غريبةٌ عنْ هذا العالمِ المتوحشِ منْ الأنانيةِ، عالمٌ نتذكرهُ منْ شخصيةِ فيلمِ الأرضِ منْ حياهُ الآباءُ في شخصيةِ " محمدْ ابوسويلمْ " الشهامةِ والرجولةِ والتضحيةِ. لنرثها الآنُ معَ عصورِ النهضةِ والتكنولوجيا منْ الآلاتِ الزراعيةِ منْ الميكنةِ الحديثةِ. حيثُ تملكنا حالةٌ غيرُ شعوريةٍ ونمرْ بمنحنى صمتٍ تتملكنا فيهِ رغبةٌ جامحةٌ في الهروبِ والاختباءِ داخلَ صومعةٍ منْ العزلةِ. حياةٌ منْ التأملِ لعائلاتٍ كاملةٍ كانتْ تعيشُ داخلَ حجرةٍ وأثنينَ ودونُ دورةَ مياهِ داخلِ المنزلِ وكانوا سعداءَ ولديهمْ قناعهُ. لينشأ جيلَ متمردٍ على كلِ شيءِ منذُ 70 عاما كانتْ قريتنا قليلاً منْ يملكونَ أرضا زراعيةً على أصابعِ اليدِ معظمَ الأراضي ملكَ الخاصةِ الملكيةِ معظمَ الناسِ مزارعي أوْ عمالِ زراعةٍ باليوميةِ أوْ يعملونَ بالحصرِ البلديِ. وتغيرتْ الحياةُ بعد ثورةِ 1952 وللأسفِ تمردنا ونعلنا منْ كانَ السببُ في ذلكَ، واليومُ نتصارعُ علي الورثِ منْ هذهِ الأراضي وتحدثَ جرائمَ قتلٍ وخصامٍ بينَ الإخوةِ ويشتدُ الصراعُ لوْ كانتْ داخلَ الكتلةِ السكنية الصراع يشتدِ؛ وتفرقتْ العائلاتُ بينَ صراعِ المادةِ. ونعيشُ حياةَ الرأسماليةِ المتوحشةِ. في أفراحنا حتى عزاؤنا. أصبحَ لأعزاء ولأحزن ومنْ يحزنونَ في ظلِ قبلاتِ فترةِ إقامةِ العزاءِ داخلَ السرادقِ المقامِ وكلِ المشروباتِ يقدمها بوفيهٌ مفتوحٌ ومهرجانٌ منْ المشعوذينَ أمامَ المقرئِ. وكاميراتٌ وإرسالٌ مباشرٌ على شبكاتِ التواصلِ الاجتماعيِ وتصويرِ والغريبِ طائراتُ مسيرةٌ تنقلُ بالكاميرا العزاءَ. في سبعينياتِ القرنِ المنقضي ونحنُ صغارٍ كانَ معظمُ العزاءِ عبارةً عنْ جمعِ الاركة (الكنبْ) منْ البيوتِ جيرانُ المتوفى وكانَ قليلاً والباقيَ يفترشونَ الساحةُ بقشِ الأرزِ للجلوسِ عليهِ أوْ الجلوسِ على المصاطبِ. وكانتْ العاداتُ يحترمها الناسُ والجيرانُ وكلُ الشارعِ تؤجلُ الأفراحُ حتى بعضِ الأكلاتِ مثلِ المحشيْ ويغلق الراديو أكثرَ منْ نصفِ العامِ. وتتوشحَ النساءُ بالملابسِ السوداءِ عاما كاملاً... عالمٌ غريبٌ والأغربِ منهُ المناخُ. الذي أناخَ كلُ قافلةٍ. هلْ تستطيعُ أنْ تسايرَ هذا العالمِ منْ الصراعِ اللاخلاقي والانهزامُ الداخليُ والنفاقُ. فتصبحُ العزلةُ هيَ مصيرنا. فلا تستطعْ أنْ تواكبَ عالما متغيرا. منْ القيمِ والعاداتِ والأخلاقِ وكأننا ولدنا منْ رحمٍ ينشئنا منَ جديدٌ ويعيدُ تكوينُ شخصيتنا لنواكبَ مفرداتِ حياتنا. فنولد بعد تلكَ العزلةِ بأحلامِ مغايرةٍ ورغباتٍ تشكلُ ملامحَ أخرى ورؤى جديدةً لمفرداتِ حياتنا وأولوياتنا. ونتنازلُ عنْ الكثيرِ لا ندركُ عمقُ تحولاتنا إلا نحنُ، فلا نرى في المجتمعِ نفسِ ما كنا عليهِ منْ قبلُ إلا الهروبُ والعزلةُ، ففي لحظةٍ تأملُ في " ناموسِ الحياةِ " لحظةَ تنويرٍ نكتشفُ أنَ حقيقةَ ما تغيرَ هوَ رؤيتنا لذاتنا وتقديرنا لها فتتكشف لنا زوايا جديدةٌ تعيدُ تكوينَ سلوكنا تجاهَ الذاتِ بصورةٍ واعيةٍ، ونعلقُ على جدرانِ الروحِ الرغباتِ الوليدةَ التي تظلُ باقيةً في زاويةِ الأمنياتِ. فكلُ إنسانِ لهُ أمنياتٌ وهوَ طفلٌ كانَ يحلمُ بها معَ جيلِ منْ الكبارِ كانوا رجالاً في عصرٍ اختلطَ الحابلُ بالنابلِ فأصبحنا جميعا ساسةً واقتصاديينَ وعلماء دينٍ وشعراءَ وكتابٍ وحكماءَ. عالمٌ يقدرُ الرجلُ بكمْ يملكُ منْ الدراهمِ. والأطيانُ نستمع لهُ فهوَ رجلُ المرحلةِ فينشأُ جيلٌ يتطلعُ لهُ حتى ولوْ جمعَ المالِ بطريقةٍ غيرِ شرعيةٍ المهمِ. يحققَ نفسَ أمنياتِ الجيلِ الذي نشأَ وترعرعَ فيهِ بعيدا عنْ القيمِ والأخلاقِ والعلمِ وهذهِ سنةُ الخلقِ التغييرِ والكثيرِ يحاولُ أنْ يرتديَ ثيابا آخر! (لنْ أعيشَ في جلبابٍ أبيٍ والأخرِ يقتبس شخصيةً أنا لا أكذبُ ولكني أتجمل).

***

محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ

كاتبٌ مصريٌ وباحثٌ في الجغرافيا السياسيةِ

 

ما أسرع الايام وهي تمضي بنا وقد حفرت بمشاعرنا وأرواحنا ذكريات لا ننساها، وربما نغفل عنها بعض الوقت لكنها تبقى حاضرة في بواطننا عندما نحن الى ماضينا او تقع حادثة سرعان ما نسترجعها.

قبيل عدة أيام قرأت خبر وفاة المناضلة الفلسطينية فاطمة برناوي ـ رحمها الله واسكنها فسيح جناته ـ واذا بي أترحم عليها واستعيد مع روحها الطاهرة معاني طفولتي وكيف التقيت بالفقيدة على الطائرة اللندنية عائدة الى عمان .

واخذت فاطمة برناوي طوال الرحلة تحكي لي عن قصة نضالها هي وزوجها من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وكيف سجنا وحرما من الانجاب بعد خروجهما من السجن لكبر سنهما، وقفت لها في الطائرة احتراما وهي تجلس بجانبي وانهمرت دموعي وقلت لها هل انا في حلم ان اجلس بجانب امرأة عظيمة مثلك فرحت بي كثيرا وقالت لي بمثلك استبشرت خيرا بالاجيال القادمة

كان جلوسها بجانبي مثل الحلم فكنت اسمع عن الابطال من النساء ولكنني الان عرفتهم وبقيت على تواصل معها فكنت اتلقى منها قصة كفاحها بينما كنت فتاة صغيرة لم تلوثها الايام ولم تفتك بعقلها هواجس الاعلام الذي مع مرور الزمن جعل من القضية الفلسطينية قضة ثانوية مهمشة .

كانت مشاعري في ذلك الوقت شديدة البراءة ـ وان كنت لم أتغير وانما الدنيا هي التي تغيرت، فقد نشأت بأسرة كانت أمي فيها تحكي عن فلسطين وحق شعبها، وأب غرس فينا القومية العربية حب الضعفاء ونصرة اهل الحق، كانت الفتيات معي يقبلون على الاقتداء بالمطربين وقصصهم واخبارهم ، بينما كانت تستهويني قصص البطولة والفداء للعروبة.

كانت فاطمة برناوي تحكي تفاصيل رحلتها مع النضال الفلسطيني فأشعر وكانني أمام قصة بطولة حقيقية لنصرة وطن يضحي الانسان فيه بحياته وحياته الشخصية لاستعادة وطن مسلوب قهرا . وتواصل الفقيدة قصتها واذا بمشاعري الجياشه انذاك تتفق بالاحترام والتقدير وحب معاني التضحية والفداء .

وعند انتهاء رحلة الطائرة عدت الى عمان، وفاطمة تعود الى الضفة، ولكنها فاجأتني باتصال هاتفي وتبادلنا الاتصالات لبعض الوقت حتى انشغل كل واحد منا بظروفه الخاصة وضاعت ارقام الهواتف وبقيت ذكريات البطولة والنضال والطفولة الحية بداخلي .

وفقيدة النضال الفلسطيني فاطمة هي أول أسيرة في تاريخ الثورة الفلسطينية، حيث تم اعتقالها بتاريخ 19اكتوبر 1967، رحلت بمستشفي فلسطيني بالقاهرة، لها السبق في خوض العمل الفدائي منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965، وهي أول فتاة فلسطينية تعتقلها قوات الاحتلال الإسرائيلي.

والراحلة من مواليد مدينة القدس لأسرة مناضلة، بدأت رحلة نضالها بعمر التاسعة، حين انتقلت مع والدتها وأسرتها من القدس إلى مخيم للاجئين بالقرب من عمان. وقاتل والدها محمد علي برناوي في ثورة فلسطين 1936، برفقة الحاج أمين الحسيني، فبقي في فلسطين.

واعتقلت والدتها وشقيقتها في أعقاب تنفيذها للعملية الفدائية، فعرفن مبكرا مرارة سجن الاحتلال وذقن مشاعر الفقد والحرمان من الاهل .

واصلت فاطمة برناوي نضالها وشقيقتها ضد المحتل الغاصب، فاعتقلت عقب عملية فدائية وحكم عليها بالسجن مدى الحياة، ولكنها أمضت بالسجن عشر سنوات فقط بسبب تدخل الرئيس الراحل محمد أنور السادات لدى السلطات الاسرائلية عام 1977.

ساهمت الفقيدة في استتباب الامن الفلسيطين بعد قيام السلطة الفلسطينية 1994، فأسست الشرطة النسائية الفلسطينية بعد عودتها للوطن وكانت تحمل رتبة عقيد، ومنحها الرئيس محمود عباس، وسام نجمة الشرف العسكري، تقديرا لدورها النضالي الريادي وتضحياتها من أجل وطنها وشعبها .

وفاطمة بتقديري لم تمت، وانما تظل حية بقصة كفاحها ونضالها وتضحياتها من أجل تحرير وطن ، وكل مواطن تحتل ارضه يبنغي ان يكون في نضال مستمر مثل فاطمة لتحرير الارض والوطن والعرض والشرف ، فهم ليسوا ارهابيين كما الصق الاعلام الغربي هذه الفرية على شعب فلسطين المناضل ، بل هم وفي مقدمتهم " فاطمة " أبطال يستحقون منا كل الاحترام والتقدير .

***

سارة السهيل

 

لقد قضيت سنوات طويلة من عمري في المعترك السياسي، بدءا من سن المراهقة وحتى قبلها وإلى الآن، وكانت مساهمتي متواضعة في هذا المعترك. إلى أن هناك عناصر كثيرة لابد وإن تلعب دورها في صقل شخصية الإنسان، كمسقط رأسه والمدينة التي ترعرع فيها والحياة الإجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والعادات والتقاليد السائدة في مجتمعنا إضافة إلى المحيط العائلي، وهذا يرتبط قبل كل شيء بالانحدار الطبقي للعائلة وافرادها وثقافتهم وأخلاقهم وعدد أفراد تلك العائلة ومصادر رزقها، كما لابد أن تلعب المدرسة والمعلمون والأصدقاء والطلاب دورهم في تبلور شخصية الفرد وغرس الروح الوطنية التعلق بالعلم والمعرفة والثقافة.

ثابت حبيب العاني

لماذا اليوم نتذكر المناضل خالد الذكر ثابت حبيب العاني (أبو حسان) بعد أن مضى على رحيله مايقرب ربع قرن من الزمن، نعم نحن بحاجة الى العودة لهذه الشخصية الفذة والتي تركت بصماتها في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العراقية، لقد دون ثابت حبيب العاني صفحات من سيرة حياته في كتابه الموسوم صفحات من السيرة الذاتية 1922_ 1998 والكتاب من مطبوعات دار الرواد المزدهرة طبع في بغداد سنة 2014 ميلادية. وتضمن الكتاب الذي يحتوي على 534 صفحة من القطع الكبير ويحتوي على مجموعة كبيرة من الصور التاريخية، يتضمن الكتاب مقدمة للمؤلف وتتلوه مقدمة عائلة المؤلف ومن ثم يسرد المؤلف بدء حياته ومسقط رأسه مدينة عنه التي تقع على نهر الفرات الأعلى عن عائلته ومقاعد الدراسة ومن ثم، متحدثا عن تاريخ حياته السياسية وانغماره في طريق النضال، وعنه مدينة من أبنائها مناضلين كانوا قد سطروا في صفحات المجد تاريخ مشرف ومنهم عزيز شريف وعبد الرحيم شريف وعامر عبد الله وتوفيق منير استشهدا على يد انقلابي شباط عام 1963و جميل منير ورشدي العامل وحمدي أيوب وآخرين فهذه المدينة هي التي أنجبت ثابت حبيب العاني، والذي لم يحالفني الحظ بلقائه ولكنه كان يرسل لي التحيات من خلال باقر ابراهيم ابو خولة عضو المكتب السياسي السابق للحزب الشيوعي العراقي عندما اطلع على مذكراته وفيها لقاءته مع نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكذلك مع ابو علي مصطفى الأمين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكنت انا (كاتب السطور) ارافقه في الزيارتين واكتب في مجلة الهدف للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تصدر في دمشق مقالات حول الحصار الجائر على العراق ويطلع عليها، واليوم اكتب عنه من خلال كتابه الغني بتاريخه النضالي والذي سرد فيه بالتفصيل عن حياته والتي كرسها بعد انتمائه للحزب الشيوعي العراقي، حيث سرد في كتابه عن تاريخ العراق بعد الحرب العالمية الأولى وانتهاء هيمنة الدولة العثمانية التي خسرت الحرب وهيمنة الحلفاء بريطانيا وفرنسا على المنطقة، ومعاهدة سايكس_ بيكو التي بموجبها أصبح العراق تحت الانتداب البريطاني وقامة ثورة العشرين وبعدها جاءوا بالملك فيصل الأول من الحجاز بعد كان في سوريا ملك على العراق وبدء الدولة العراقية، تناول أبو حسان حديثه عن الانقلاب العسكري الأول في الدولة العراقية عندما كان طالبا الصف الأول المتوسط في سنة 1936 والذي قاده الفريق بكر صدقي وشارك في الوزارة الحاج جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وصالح جبر وقد لعبت جريدة الانقلاب التي أصدرها محمد مهدي الجواهري دورا مهما، وتناول في كتابه دراسته في مرحلة الاعدادية ومن ثم الكلية العسكرية ومارافقها من نجاحات احرزها على الرغم من صعوبات في العمل التنظيمي وبناء خلايا حزبية بين صفوف العسكرين، كان من بين تفكيره هموم السياسة لكن هم لقمة العيش يراوده في حين إلى حين وقد نجح في العمل بالاثنين، وينتقل ليتحدث عن الوضع السياسي في ظل الحكومات المتعاقبة ايام الحكم الملكي انذاك، ويذكر أنه علم من سالم عبيد النعمان في الشهر السادس من عام 1946عن تنظيم تظاهرة في بغداد احتجاجا على عدم منح اجازة لحزب التحرر الوطني والذي كان من مؤسيسيه حسين محمد الشبيبي ومحمد حسين أبو العيس واخرين، وكانت التظاهرة تهتف للتضامن مع القضية الفلسطينية، وسقط على إثر المظاهرة شاؤول طويق وهو اول شهيد للحزب الشيوعي العراقي. أعلن في تلك الفترة عن تشكيل منظمة (عصبة مكافحة الصهيونية) واجيزت وكان من أبرز قيادتها يوسف زلخة ويعقوب منير مصري (عادل مصري) وشقيقته عمومة مصري (عميدة مصري) وصدرت عن العصبة جريدة (الأساس) وفتحت الباب أمام الأقلام الشيوعية للكتابة بها، ومن ثم وثبة كانون الثاني المجيدة وأضراب عمال النفط، ووثبة كانون عام 1948 وهي الوثبة التي عمت مدن وقصبات العراق من الشمال إلى جنوبه، وفي بغداد سقط شهداء في معركة الجسر حيث استشهد جعفر الجواهري وقيس الالوسي وشمران علوان وشهداء اخرين، وأسقطت معاهدة بورت سموث التي وقعها من الجانب البريطاني بيفن ومن الجانب العراقي صالح جبر رئيس الوزراء بفعل الوثبة والتضحيات، التي كادت تكبل العراق بقيود استعمارية، كالقواعد العسكرية في العراق، وفي تشيع الشهداء القى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدته المعروفة (أخي جعفر). وتطرق أبو حسان لاضراب عمال النفط البطولي في K3 وتوكلت لجنة لقيادة الإضراب ضمت كل مكونات الشعب العراقي، الارمني والكردي واليهودي والعربي والصابئي، حتى تنازلت الحكومة ولبت طلبات العمال، وكان ابوحسان عندما عمل في مجال المساحة (مساحا) وفي الوقت نفسه كسب الكثير من العمال إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي، وبذلك اصدرت الحكومة مذكرة القبض عليه، وبعد إطلاق سراحه عادة إلى ممارسة المهنة. ويتحدث أبو حسان عن عملية إعدام الرفاق القادة للحزب، فهد (يو سف سلمان) وحازم (زكي بسيم) وصارم (حسين محمد الشبيبي) ويهودا صديق في يومي14_15 شباط 1949 وصدر قرار الإعدام بعد أعادة المحاكمة من قبل محكمة النعساني سيئة السيط وكانت ضربة كبيرة للحزب وخسارة لا تعوض،تواصلت بعد ذلك الانهيارات لتطال أعضاء قيادات حزبية ومنهم مالك سيف.

انتفاضة تشرين الثاني عام 1952 يتحدث ثابت حبيب العاني عندما كان طالبا في كلية التجارة أندلعت شرارة انتفاضة شعبية نتيجة حادث وقع في كلية الصيدلة، فقد فاز في انتخابات اللجان الطلابية مرشح اتحاد الطلبة العراقي العام، عبر هذا الفوز عن تفاني الشيوعيين ومكانتهم ومبادراتهم بين الطلبة. مما حدى بالطلبة بعد الاعتداء عليهم للتظاهر وكان من أبرز الشعارات هو شعار المطالبة بإجراء انتخابات حرة ومباشرة، ويتذكر عن دور الشيوعيين في التظاهرة منهم شامل النهر وصباح الدرة وثمينة ناجي يوسف زوجة سلام عادل وشاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم. وفي عمله الحزبي مع المنظمات الجماهيرية، اتحاد الطلبة العراقي العام والذي تأسس في ساحة السباع في 14 نيسان عام 1948 في بغداد بعد وثبة كانون الثاني المجيدة، وعقد مؤتمر علني في سينما (روكسي) القى الجواهري قصيدته الشهيرة يوم الشهيد تحية وسلام والقيت كلمات وجرى انتخاب قيادة الاتحاد من الشيوعيين، وقد تحدث عن الانشقاقات في الحزب، التكلات التي جرت حتى في السجون والمعتقلات والتي اضرت بالحزب واضعفته، وبقي الحزب متماسكا وقويا في تواجد المنظمات الجماهيرية مثل الطلبة والشبيبة والمنظمات العمالية والفلاحية. ويشير أبو حسان حول قيام الجبهة الوطنية في 12 مايس 1954 ودوره مع رفاق اخرين من خلال العمل الطلابي مع ممثلي الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل وجعفر البدر وعن حزب الاستقلال مهدي كبة وفائق السامرائي وصديق شنشل، وعن اتحاد الشباب الديمقراطي صفاء الحافظ وعن العمال سلمان حسن وكليبان صالح وهو شقيق الشهيد محمد صالح العبلي، وعن الأطباء فاروق برتو وعن الفلاحين عطشان ضيؤول وهم جميعهم من كوادر الحزب. وعقدت لقاءات كثيرة في اماكن متعددة من العاصمة بغداد. وذكر عن رفاق كانو معتقلين من عا ئلة الشهيد الشيخ حسين الساعدي عن ابنه علي الشيخ حسين واخته ام بشرى نجية الشيخ حسين وز وجها المناضل عبد علوان الطائي وما جرى لهم من تعذيب على يد السلطات الملكية في موقف وسجون العهد الملكي وأثر انتفاضة فلاحي ال أزيرج عام 1952، وتكلم عن طلب الحزب منه العمل الاحترافي ولم يتردد بتنفيذ رغبة الحزب علما بأنه كان يتقاضى راتب جيد من خلال مهنته كمساح للأراضي بينما كان راتب التفرغ للعمل الحزبي 10 دينار وهي لاتكفي ولكن الرفيق سلام عادل وبطلب من أبو حسان ولظروفه العائلية وافق الرفيق سلام عادل إلى أن أصبح المرتب عشرون دينار، وذلك الوقت وبتوجيه من سلام عادل شارك أبو حسان في العمل على توحيد الحزب، مع المجاميع المنشقة كراية الشغيلة بقيادة جمال الحيدري وحمزة سلمان ووحدة النضال جماعة عزيز شريف وفعلا تم النجاح في توحيد الحزب ولعب خالد بكداش دورا مهما في تقريب وجهات النظر بين راية الشغيلة وقيادة سلام عادل ومن ثم في توحيده، ويتذكر أبو حسان عن تشكيل مجلس السلم العراقي من شخصيات ديمقراطية، مثل الشيخ عبد الكريم الماشطة وطلعت الشيباني والشاعر عبد الله كوران وحسن كاظم النهر والشيخ لطيف محمود الحفيد وصفاء الحافظ ود. محمد الجلبي وعطشان ضيؤول الازيرجاوي ود. فاروق برتو. ولم ينسى تضامن الحزب الشيوعي العراقي مع الشعوب العربية الشقيقة، ومنه التضامن مع القادة الجزائرين المختطفين من قبل القراصنة الفرنسين بختطاف طائرتهم ويوم التضامن مع الشعب المصري الشقيق ضد العدوان الثلاثي البريطاني الاسرائيلي الفرنسي عام 1956 عندما امم الشعب المصري قناة السويس لتصبح ملك لشركة الوطنية المصرية في التظاهرات التي عمت بغداد ومدن العراق وسقط أول شهيد التضامن مع الشعب المصري عواد رضا الصفار، تكلم عن الحزب الشيوعي العراقي ودوره في تنظيم القوات المسلحة العراقية. الحزب وضع ضمن برنامجه السياسي على أن يكون هناك دور للحزب في إعداد تنظيم له في الجيش بدء منذ سنة 1935 ومسؤولية هذا التنظيم تبناها الرفيق زكي خيري ويوسف متي واستطم بمحاربة سلطات الحكم الملكي لتنظيم الحزب، وكان من العناصر العسكرية الفاعلة في الجيش هم عزيز عبد الهادي وجلال جعفر الاوقاتي وسليم الفخري وغضبان السعد وطه الشيخ أحمد حسين خضر الدوري ومحي عبد الحميد أضافة إلى ناظم الطبقجلي عبد الوهاب الشواف ومير الحاج، وكان لثابت حبيب العاني دورا في تنظيم الخلايا العسكرية.

جبهة الإتحاد الوطني بعد تشكيلها نتيجة لقاءات مع ممثلي الأحزاب،إلى أن تم تشكيلها بشكل نهائي من الأحزاب عام 1957 وصياغة برنامجها، كانت تضم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي، وهناك تحالف ثنائي خارج الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي العراق والحزب الديمقراطي الكردستاني بسب من اعتراض الأحزاب القومية على مشاركة الكرد في هذه الجبهة، ولقد لعبت الجبهة دورا مهما في تشكيل خلايا عسكرية كان لها الدور الابرز في تفجير ثورة الرابع عشر من تموز 1958، وبعد قيام الثورة وما رافقتها من أحداث منها حركة عبد الو هاب الشواف في الموصل وقطار السلام وما تبعها من احداث الموصل وكركوك وأتهام الحزب الشيوعي العراقي بالضلوع بها كما اتهمهم عبد الكريم قاسم في خطابه له في كنيسة مار يوسف ومنذ ذلك الحين تنادي الرفاق في قيادة الحزب بإنهاء حكم قاسم وكان هناك في القيادة رأيان، الأول كان مع الشهيد سلام عادل وجمال الحيدري، والثاني كان ضد يتزعمه زكي خيري وبهاء الدين نوري وعامر عبد الله، وذكر أبو حسان ماقاله له جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية العراقية حول السياسة العشوائية والتخبط: (أن عبد الكريم قاسم سوف يدمرنا ويدمر نفسه)، واتجه قاسم نحو البعث والقومين وضرب الشيوعيين واحال البعض منهم للمهمات مدنية واعتقل عدد منهم، مما قوي التيار البعث القومي وتامر على الحكم بالاتفاق مع جهات اجنبية ومحلية ولها مصلحة بتغير الحكم نتيجة قانون رقم 80 حول تاميم النفط وقانون الإصلاح الزراعي وقانون الاحوال المدنية (فتوى محسن الحكيم) قاموا بانقلاب الثامن من شباط 1963 وقاوم الشيوعيين والديمقراطيين الانقلاب الفاشي ولكن دون جدوى لم يملكوا السلاح، وصدر بيان رقم 13صادر من الحاكم العسكري العام رشيد مصلح، يقضي بقتل الشيوعيين، وفتتحوا المسلخ البشري قصر النهاية للتعذيب والانتقام من خيرة المناضلين، حيث استشهد بالتعذيب سلام عادل ومحمد صالح العبلي وعبدالجبار وهبي وجمال الحيدري وستار مهدي الخواجة وحسن عوينة وعدنان البراك ومحمد حسين أبو العيس واخرين، ومن العسكرين جلال جعفر الاوقاتي قائد القوة الجوية في ساعة الصفر وحسين خضر الدوري وطه الشيخ أحمد وفاضل عباس المهداوي وإبراهيم كاظم وكنعان حداد ووصفي طاهر وماجد محمد أمين واخرين، وفي مقاومة الكاظمية البطولية استشهد البطل خزعل السعدي وسعيد متروك وآخرين، ولو كان لدي الحزب خطة عسكرية للمقاومة وكذلك لانهاء حكم عبد الكريم قاسم واستلام السلطة لما حدث الذي حدث ويحدث اليوم، وفي حكم العارفين وبعد أن لملم الحزب صفوفه، وعودة تنظيماته الحزبية وما رافق ذلك من مواقف مثل خط آب اليميني عام 1964 التصفوي واجتماع 25 وتعديد خط الحزب وهذا ماتحدث عنه ابوحسان في كتابه ومواقفه انذاك، وخلال حكم عبد الرحمن عارف حدث انقلاب البعث الثاني وجاء إلى الحكم أحمد حسن البكر وصدام حسين، وخلال فترة قصيرة أطلقوا سراح السجناء والمعتقلين من الشيوعيين في سجون العراق في نكرة السلمان الصحراوي والحلة وبعقوبة غيرها، وجرى الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية وامم النفط العراقي وصدر بيان الحادي عشر من آذار حول الحكم الذاتي والاغتيالات بين صفوف الشيوعيين لم تتوقف كما جرى مع الشهداء ستار خضير الحيدر وشاكر محمود وكاظم الجاسم والعبايجي وعبد الأمير سعيد ومحمد الخضري وغيرهم، وفي الوقت نفسه مدوا الجسور مع الحزب من أجل أقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وتحدث أبو حسان عن ما جرى له في قصر النهاية وفي أقبية الأمن والمخابرات من تعذيب وحشي، ولولا حملات التضامن الاممية من أجل إطلاق سراحه لكان مصيره غير معروف، واخيرا اترك للقارئ والباحث في شأن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية للإطلاع على هذا السفر النضالي،الذي يعد احد أهم مصادر تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والذي كتب بمنتهى الأمانة التاريخية.

توفي الفقيد المناضل ثابت حبيب العاني (أبو حسان) يوم الاثنين 23 شباط 1998 في مستشفى[رويال فري هوسبيتال] في العاصمة البريطانية لندن ودفن في مقبرة يرقد فيها قائد البروليتارية العالمية كارل ماركس، ويرقد فيها رفاق دربه ومنهم عامر عبد الله وصبيحة الخطيب وبلند الحيدري ورحيم عجينة وجميل منير وآخرين لهم المجد والخلود.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

في هدوء يرحل فارس الرواية العربيّة بهاء طاهر (13 يناير 1935 – 27 أكتوبر 2022) ، عن عمر يناهز السبعة والثمانين عاما، فقد كان روائيا رائدا ومجددا وثائرا .. مات بهاء طاهر  تاركا سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه، وهو ينتمى إلى جيل الستينيات، أيقونة مصرية تلمع فى سماء الأدب العربي، يُزيد الزمن من حكايتها تألُقًا، يكره القهر، قهر الإنسان بالفقر، وقهره بالخوف، وأهم من ذلك قهره بالجهل.. أن يعيش الإنسان ويموت دون أن يعرف أن فى الدنيا علمًا فاته.

ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى عالماً ومفكراً بالغ الصدق والنبل والنقاء، مثل بهاء طاهر؟! أي الكلمات لديها القدرة؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة الأدب قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أعرفهم من أساتذة الأدب بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

وقد قال عنه الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد عن بهاء طاهر: "عرفت بهاء قبل مجيئي من الأسكندرية إلى القاهرة من خلال إذاعة "البرنامج الثاني"، التي كان يخرج فيها، مسرحيات إذاعية، ويقدم برنامجا يذاع كل ثلاثاء، يقرأ عبره ما يتلقاه من كتابات الأدباء". ويضيف: " أرسلت له مقالا مترجما فقام بإذاعته، ومن خلال متابعتي له عرفت بعض الأدباء مثل محمد المنسي قنديل، وبعد فترة من الوقت أصبحت أشارك ببعض القصص، التي يتم تسجيلها للإذاعة نفسها، وكان هو، مع مجموعة من الكتاب الكبار مثل ممدوح حمدي وشوقي فهيم، يستقبلونني بحفاوة. وكنت أتقاضى عن القصة الواحدة 10 جنيهات، وكانت مبلغا كبيرا أنذاك، وكان ذلك فرصة لمزيد من التقارب بيننا ومزيد من اللقاءات".

كما قال عنه أخي الدكتور بهاء مزيد :" مات صاحب (قالت ضحى) و(شرق النخيل) و(الحبّ في المنفى) و(واحة الغروب) و(خالتي صفيّة والدّير). بيني وبينه وبين رواياته عشرة عمر. كتبت عن (خالتي صفيّة والدير) فحصلت على جائزة سعاد الصباح في النقد الأدبي 1994 وكتبت عن (الحبّ في المنفى) فحصلت على جائزة الشارقة في الإبداع العربي فرع النقد الأدبي 2001. عشت مع رواياته وقصصه القصيرة سنوات وسنوات أسمعه يقول "أنا الملك جئت" و"بالأمس حلمت بك" و"أكثر حقيقة من النّاس الحقيقيين". هذا الصعيدي الهاديء الطيّب المبدع التقيته مرّة واحدة في مقهى في وسط البلد. يومها أهداني رواياته، وقال لي "من زمان كان نفسي أشوفك". وأنا منذ سنوات كان "نفسي أشوفه"، لكنّ الشواغل والملهيات وتصاريف القدر حالت بيني وبينه، حتّى قرأت خبر وفاته اليوم.

وقد ولد بهاء طاهر في محافظة الجيزة في 13 يناير سنة 1935، عمل مترجمًا في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي 1956 و1957، وعمل مخرجًا للدراما ومذيعًا في إذاعة البرنامج الثاني الذي كان من مؤسسيه حتى عام 1975 حيث منع من الكتابة. بعد منعه من الكتابة ترك مصر وسافر في أفريقيا وآسيا حيث عمل مترجما. وعاش في جنيف بين عامي 1981 و1995 حيث عمل مترجما في الأمم المتحدة عاد بعدها إلى مصر حيث يعيش إلى الآن.

وقد تزامن شبابه وصباه مع قيام ثورة 23 يوليو(تموز) عام 1952، وكان طاهر من المؤيدين للثورة والمؤمنين بها. ورغم رفضه الدعاية لها، وانتقاده استبداد السلطة، وتأثره الشديد بنكسة 1967، ظل على احترامه للرئيس جمال عبد الناصر، في كل مرحلة من مراحل حياته. واستطاع عبر عمله في إذاعة "البرنامج الثاني"، أن يلعب دورا مهما على الصعيد الثقافي، فقدم الكثير من الكتابات الجادة والكتاب الجدد. واستمر رغم تغير الأنظمة على موقفه الرافض لقمع الحريات، مما عرضه للتنكيل خلال عهد الرئيس السادات، فاضطر الى الابتعاد عن مصر والتنقل بين أفريقيا وآسيا، حتى استقر به المقام في سويسرا، التي عمل في عاصمتها جينيف، مترجما لدى المقر الأوربي للأمم المتحدة، في الفترة من 1981 حتى 1995، وعاد بعدها أخرى إلى مصر.

وقد مرت حياة بهاء طاهر بعدة محطات ، فكانت المحطة الأولى: حصل على ليسانس الآداب فى التاريخ. ؟ المحطة الثانية: حصل على دبلومة الدراسات العليا فى الإعلام، والتاريخ الحديث فى نفس العام، عمل مخرجا للدراما، ومذيعًا فى البرنامج الثقافي.

المحطة الثالثة: سافر إلى جنيڤ ليعمل مترجمًا فى الأمم المتحدة. المحطة الرابعة: أصدر مجموعة قصصية بعنوان "بالأمس حلمت بك". المحطة الخامسة: أصدر روايتى شرق النخيل، وقالت ضحى المحطة السادسة :رواية خالتى صفية والدير. المحطة السابعة :حصل على جائزة أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عن رواية الحب فى المنفى. المحطة الثامنة: حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب. المحطة التاسعة فى مديح الرواية. المحطة العاشرة ترجمة رواية «واحة الغروب» للغة الصينية فى رسالة الماجستير لطالب صينى دون علمه.

وقد كان بهاء طاهر قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

ولم يكن بهاء طاهر ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأدباء، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم الأدباء، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

كما جمع بهاء طاهر في رواياته بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح الأدبي صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً .

وقد حاز بهاء طاهر جوائز عديدة خلال مسيرته الطويلة، ومنها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب، وجائزة غوزيبى أكيربى الإيطالية عن روايته "خالتى صفية والدير"، وجائزة "آلزياتور" الإيطالية عن روايته "الحب فى المنفى"، إضافة إلى الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عن روايته الأخيرة "واحة الغروب". ورغم كل هذه الجوائز كان طاهر يرى إن النجاح الحقيقي يكمن في رواج اعمال الكاتب لدى القراء، ولا يحققه له سوى حرص هؤلاء على قراءة اعماله. الجوائز لا تصنع قيمة لكاتب لم تصنعها له أعماله. وربما كانت الجائزة الكبرى التي فاز بها بهاء طاهر هي المحبة التي ترسخت له في القلوب. نشر الكاتب الإماراتي ورئيس اتحاد الكتاب الإماراتيين سلطان العميمي في فيسبوك: "رحيلك مر يا أستاذ بهاء طاهر، صدى روحك الدافئة مازال في الذاكرة" .

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأديب حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة لبهاء طاهر الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للأديب المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الأديب العظيم بهاء طاهر ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في دفتر مذكراتها تكتب: "ما الذي يمكن أن يهزم اللامعنى"، كانت قد انتهت من قراءة رواية جان بول سارتر "الغثيان" وستظل هذه الجملة ترافقها لسنوات: " وقف روكنتان على شاطئ البحر والتقط واحدة من الحصى التي حوله لكي يلقي بها الى البحر، وعندما نظر الى الحصاة تولاه رعب شديد، فرمى الحصاة، وهرب بعيدا" . تتذكر أن والدها اول من ادخلها عالم الكتب، في مكتبته عثرت على كتب نيتشه وشوبنهاور، وشكسبير، وبروست ودوستويفسكي التي قالت انها عاشت معه في عالم من العدم. في الخامسة عشرة من عمرها تكتشف جيمس جويس، ومعه الهوس بالشخصية الآيرلندية المتمردة، في تلك السنوات تتذكر أنّها ذهبت إلى دائرة البريد تريد أن ترسل برقية إلى مواطنها جيمس جويس، كانت قد انتهت من قراءة مجموعته القصصية " ناس من دبلن " .في ذلك الوقت كانت الوجودية غريبة على المجتمع الانكليزي الذي وجد ان هذه الفلسفة تمثل عالما يقترف فيه الناس خطايا عظيمة، ويسقطون في الحب وينضمون إلى الحزب الشيوعي – سارة بكويل مقهى الوجودية ترجمة حسام نايل - . تكتب في دفتر يومياتها ان الغثيان لا تقدم اجابة واضحة للمشكلة الاخلاقية القائمة، ان تجارب بطل الغثيان مليئة بنوع غريب من الشك .

في السادسة والعشرين من عمرها ستلتقي جان بول سارتر للمرة الاولى، كانت قد وصلت الى بروكسل في مهمة عمل، حيث كانت تعمل بهيئة الاغاثة التابعة للامم المتحدة، تقرأ في الصحف ان سارتر سيلقي محاضرة، في افتتاح احد المعارض الفنية، كان سارتر قد وصل قبل ايام الى بلجيكا المحررة من الاحتلال النازي، لم تصدق انها ستقف قبالة نجمها المحبوب، ذهبت الى اقرب مكتبة واشترت دفترا مغلف بالكتان الازرق، قررت ان تسجل كل حرف ينطق به نجمها المحبوب، هكذا حدثت نفسها .، كان سارتر يبشر بالبيان الشهير " الوجودية نزعة انسانية " ويرفع شعار " الانسان اولا "، عاشت لاكثر من ساعتين مفتونة بالكلمات التي كانت قد قرأتها من قبل في الغثيان، قال سارتر بصوته الاجش:"إن الوجودية فقط تتوافق مع كرامة الإنسان". وان كل واحد من الحاضرين عليه ان يؤمن انه مالكا لهذا العالم، كانت كلمات سارتر تبدو لايريس مردوخ واضحة:" الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه" . كل فرد مطلوب منه ان يخلق قيمه من خلال اختياراته وأفعاله، من خلال إرادته، في حوار معها  تقول:" كانت شعبية سارتر لا تصدّق بعد الحرب العالمية الثانية، حتى أن الناس الذين لم يكن لديهم أدنى اهتمام بالفلسفة شعروا بفضل سارتر في أن الفلسفة إنما خُلقت من أجلهم، حيث جاءت فلسفة سارتر الوجوديّة بمفهوم الحرية الكاملة وبفكرة أن تأخذ نفسك إلى حيث يمكنك الاختيار الحر الذي يتجاوز المسلـّمات والشعور البليد بأنك «محتوى» وغاطس في مستنقع، وقد عكست رواياته هذه الأفكار كلها مضافاً لها مُسحة بطولية وبسببها ابتهجت أرواح الناس" – فيزياء الرواية ترجمة لطفية الدليمي -

كانت ايريس آنذاك فتاة شديدة الطموح، جادة، درست الفلسفة في جامعة اكسفورد وحصلت على المرتبة الاولى. بعد ان انتهى سارتر من محاضرته تقدمت نحوه بخطوات ثابتة لتبدا حوارا معه انتهى بان اهداها نسخة من كتابه "الوجود والعدم"، تكتب فيما بعد ان سارتر شكل حالة شديدة الخصوصية بالنسبة لها:" الاثارة، لا اتذكر شيئا يضارعها منذ اكتشافي لكيتس وشيلي وكولريدج حين كنت يافعة " .

بعد ايام ستجلس في احدى المقاهي تملأ الدفتر الازرق بملاحظات على محاضرة سارتر، تشتري من المكتبة مؤلفات سيمون دي بوفوار، تكتب في رسالة الى احد زملائها في الجامعة عن محاضرة سارتر:" ما حصل معي امر مثير للغاية، ومنعش للغاية ايضا، أن التقي أخيرا بفيلسوف يطرد عني حالة اليأس، تحتاج الفلسفة الإنكليزية إلى حقنها في عروقها، بمثل هذه الافكار لطرد بعض الفذلكات " .

عام 1953 تدخل عالم التأليف وعن طريق سارتر نفسه حيث تحول الدفتر الازرق الى كتاب بعنوان: "أصدرت سارتر المفكّر العقلي الرومانسي" – ترجمه الى العربية  شاكر النابلسي – تكتب في الصفحة الاولى: " ان تفهم شيئا عن سارتر، معناه ان تفهم شيئا عن العصر الحاضر " مؤكدة ان سارتر يعتبر المفكر:" الذي وقف بصلابة في طريق، ما بعد الحركات الهيغلية الفكرية، الماركسية، الوجودية، الفينومنولوجية " – سارتر المفكر العقلي الرومانسي –،  وجدت ان الوجود عند سارتر عميقا وواعيا بذاته، وسنجدها تفتتح الكتاب بمناقشة رواية " الغثيان " ثم تتامل في الوجود والعدم، وتناقش مفهوم سارتر للادب .

ولدت آيريس مردوخ في مدينة دبلن عام 1919، من عائلة الأب فيها آيرلندي متديّن، والأم إنجليزية متحررة، أنهت تعليمها في مدرسة داخلية، كانت والدتها تريد أن تعلمها الغناء، فهي،  عضوة في الجوقة الكنسية، وكانت تملك صوتاً أوبرالياً ساحراً من طبقة (السوبرانو)، والدها الموظف الحكومي كان يعشق الكتب، وفي سنّ مبكرة شجّعها على القراءة،

كانت الابنة الوحيدة للعائلة، ولهذا تصف علاقتها بعائلتها بالرائعة: " كنت أحظى بحبّ كبير، كانت أمي مغنّية مدهشة وكان أبي رجلاً ذكياً كنت أناقش معه الكتب وأنا صغيرة" . في جامعة أوكسفورد ستدرُس كبار الفلاسفة وتتخصص بالفلسفة التحليلية، بعد إكمالها الدراسة يتم تعينها موظفة في دائرة الخزانة البريطانية. ولكراهيتها للغة الأرقام، فقد قرّرت أن تستقيل لتلتحق للعمل بهيئة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة. عام 1948 تُعيّن معيدة في أوكسفورد، تلتقي عام 1952 مصادفة بمدرس الإنجليزية (جون بيلي)، الذي كان يصغرها بثمانية أعوام، فقد شاهدَته مصادفة وهي تنظر من نافذة غرفة المكتبة في جامعة أوكسفورد، قالت في ما بعد إنّها وقعت في حبّه منذ تلك النظرة الأولى، بعد أربع سنوات سيتزوّجان، وكان شرطها الوحيد أن لا تدخل المطبخ أبداً.

في العام 1954 حين صدرت أولى رواياتها (تحت الشبكة)- ترجمها الى العربية فؤاد كامل -  تصادف نشرها مع صدور رواية (جيم المحظوظ) لكنغسلي آميس الذي كان يصغرها بثلاث سنوات، وقد درس كلاهما بجامعة أوكسفورد، وأحبا قراءة كتب سارتر وكامو وموسيقى الجاز، واتفقا أن شرط الكتابة هو أنها يجب أن تزعج القراء وإلا فإنها ستكون من دون معنى.

عاشت آيريس مردوخ ثمانين عاماً، توفيت عام 1999 بعد معاناة من مرض الزهايمر، أصدرت 25 رواية وعدداً من المسرحيات والكتب الفلسفية، وظلت طوال حياتها تدافع عن " حرّية عقلها"، بالإضافة إلى حرية العيش على طريقتها الخاصة، بعد أن قرأت رواية (الغثيان) لسارتر عشقت الكتابة، وقالت لزملائها في الجامعة: " أريد أن أكتب، رواية طويلة، غامضة، موضوعية، عن الصراعات الغريبة التي تتولد في داخلي، وأيضاً عبر ما ألاحظه عن الشخصيات الأخرى" . وكان أحد تلك الصراعات التي كانت تدور في داخلها، " الحاجة إلى الحبّ الملائكي والشيطاني في نفس الوقت" .

سيظل سارتر مهيمناً على تفكير آيريس مردوخ، وعلى شاكلة ثلاثيته (دروب الحرية) تكتب مردوخ روايات تحمل رؤية كاتبة باعتبارها واحدة من أتباع الفيلسوف الوجوديّ، حيث نشاهد أفعال الشخصيات في علاقاتها الفردية التي تختارها بمحض إرادتها، وحيواتها في ترابط بما يمرّ بها من أقصى أساليب التناقض، بالرغم من الصدامات المأساوية التي تحدث عند كل خطوة يخطوها أبطال الرواية، وستجد مردوخ نفسها تكتب عن شخصيات غريبة ودخيلة على غيرها، تشعر بتباعدها المأساوي من بعضها البعض، شخصيات تصفها الناقدة الروسية (فالنتينا إيفاشيفا) في كتابها (الثورة والأدب) بأنها تعيش في عالم فوضوي لا معقول، الكل على سواء يحس بالفجيعة في «ضياعهم وعزلتهم التي لا تبعث على الراحة في مواجهة موت محقق».

رأى النقاد في روايتها  " تحت الشبكة " انطلاقة جديدة لأدب التمرد، وعلامة من علامات جيل الغضب، واعتبرها الناقد كينيث تينان بأنها رؤية عصرية لأزمة الإنسان. صدرت الرواية عام 1954، وكانت آيريس مردوخ قد كتبتها عام 1950 لكنها لم تجد ناشراً لها، كان جميع من ذهبت إليهم من أصحاب دور النشر، يسخرون من هذه المرأة غليظة الساقين التي تردّد أمامهم مقولات فلسفية، وتكتب رواية لا تحمل رسالة ولا تدعونا إلى شيء. عندما وصلتها النسخة الأولى أحسّت بالسعادة وقررت أن ترسل بالبريد نسخة من الرواية إلى سارتر، وجد بعض النقاد في الرواية عملاً جديداً وذكياً، واعتبرها البعض نموذجاً لأدب اللامعقول الذي ينظر إلى العالم كما لو كان مملكة من الفوضى .

تروي لنا آيريس مردوخ في (تحت الشبكة) قصة شاب متمرد اسمه (جاك دوناجيو) يعمل مترجماً للروايات من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، وهو يقوم بهذا العمل ليس حباً في الترجمة، ولكن من أجل أن لا يستغل موهبته في الكتابة الابداعية، يرفض إغراءات صديقه للانضمام إلى إحدى الحركات الماركسية، تخبرنا آيريس أن بطلها يتميز بإحساس أخلاقي يتلخص في معاملته لأصدقائه ونظرته اللائقة للمرأة، لكنه يعيش متشرداً وهو يبرر تشرده هذا بأن لا شيء يضايقه في الحياة أكثر من دفع إيجار مسكن. يجد جاك نفسه في طرقات لندن، رغم نصائح أصدقائه بأن يترك حالة التشرّد هذه، ويلتحق بوظيفة ثابتة تؤمّن له حياة مستقرة. يحاول البحث عن حبيبته السابقة (آن)، فيكتشف أنّها هجرت الغناء وأنها تدير مسرحاً تجريبياً تُعرض فيه أعمال مسرحية صامتة (بانتومايم)، وعندما يجدها يكتشف أن حبه القديم قد تجدّد، لكنها ترفض العودة إليه، وتنصحه بأن يتجه نحو أختها الممثلة الثرية (سادي) التي تحتاج إلى رجل يحميها ممن يطاردونها، يقبل جاك العمل عند سادي ويكتشف أن الرجل الذي يطاردها اسمه (هيجو بلفوندر)، وهو «رجل أعمال ثري يهتم بالفلسفة ويزدري المال والثروة، ويؤمن بفلسفة الصمت التي ترى في العزوف عن الكلام في شتى مجالات الفنون والحياة معاني كبيرة لا ترتقى إليها سائر الفلسفات». يتأثر جاك بهيجو ويسعى لاكتشاف حقيقة وجوده، حيث يدرك أنّه ليس الكائن الوحيد الموجود على الأرض، وأن غيره يشاركونه هذا الوجود، ويعلن أن «الاعتراف بوجود حقيقة واسعة ومتنوعة خارج أنفسنا يخلق إحساساً بالرعب في بادئ الأمر. ولكن بالفهم يمكن أن يولد هذا الاعتراف إحساساً بالانتعاش والقوة الروحية».

كانت أيريس مردوخ في الخامسة والثلاثين عندما أصدرت (تحت الشبكة)، وكانت قد رأت فيها بداية مرحلة جديدة في حياتها، وسترى في الحقيقة أنّها مفهوم وجوديّ ذاتي، ولكن ليس على طريقة سارتر هذه المرّة، وإنما بمنظار الفيلسوف الدنماركي والأب الشرعي للوجوديّة (سورين كيركغارد) الذي يرى أن الإنسان باعتباره كائناً وجوديّاً، لا يمكنه أن يتبنى وجهة نظر أزلية.

في حوار معها تقترح آيريس مردوخ أن تقسّم رواياتها التي كتبت للفترة من عام1954 وحتى عام 1995 الذي صدرت به آخر رواياتها (معضلة جاكسون)، وبين هذين التاريخين نشرت مردوخ روايات (البحر، البحر)، (الفتاة الإيطالية)، (الرأس المقطوعة)، (الهروب من العرَّاف)، (قلعة الرمال)، (الجرس)، (وحيد القرن)، (الفتاة الإيطالية)، (تلميذ الفيلسوف)، وروايات أخرى تجاوز مجموعها العشرين رواية تقترح تقسيمها إلى روايات مفتوحة وروايات مغلقة، الروايات المغلقة هي التي يلعب فيها الطابع الأسطوري دوراً هاماً بالاتحاد مع موضوعات سايكولوجية، أما الروايات المفتوحة فهي الأكثر واقعية. تضع آيريس رواية (تحت الشبكة) في خانة الروايات التي عكست ما كان يدور في عقلها الباطن، إذ أن الشخصيات فيها بلا حركة تماماً وميؤوس منها، لكنها متمرّدة على واقع يريد لها أن تسير في مسارات خاصة. تقول لمحاورها الفيلسوف البريطاني بريان ماغي في (نزهة فلسفية في غابة الأدب)- ترجمة لطفية الدليمي – " إن كلّ الأعمال الروائية الجيّدة تقوم على هياكل تنطوي على أسرار غامضة بشأن الشهوانيات المتصارعة إلى جانب تلك الصراعات الداكنة بين الخير والشر في الحياة البشرية "

قالت لزوجها جون بيلي إنّها ستظل تقاتل تحت راية سارتر حتى وأن اختلفت مع آرائه الأخيرة. عاشت مردوخ حياة فتاة فوضوية متمرّدة، وكانت ترى أن الأدب إن لم يُغضب القراء فهو ليس أدباً. وفي حوار إذاعي نشر فقرات منه المترجم المعروف (رمسيس عوض) في كتابه (دراسات تمهيدية في الرواية الإنجليزية المعاصرة، تقول إن الفرق بين البطل الوجوديّ والماركسي هو أن الماركسي غير قادر على الشك في نفسه، في حين أن الوجوديّ يشك في نفسه وفي صحة ما يصل إليه من قرارات وأحكام، ويتّخذ الوجوديّ حسب رأي مردوخ قراراته في انسجام، مدركاً تمام الادراك أن موقفه لا يمكن أن يكون تمثيلاً للحقيقة المطلقة، وأنه ليس هناك أي ضمان مطلقاً لسلامة ما يقوم به من اختبار، كما ترى مردوخ أن أبطال رواياتها يدركون أن الحياة تنطوي على العبث، وتردّ على النقاد الذين يتهمونها بأنها تصوّر شخصيات غريبة الاطوار: " إن نظرة واحدة على سلوك الأشخاص وأفكارهم الفانتازية السريّة الدفينة وهواجسهم، لتثير الدهشة " .

في حوارها مع بريان ماغي آنف الذكر، تصرّح مردوخ " إن الفنّ مرتبط أوثق الارتباط بكيفية عيشنا، وأنا إذ أقول هذا لا أسعى للدفاع عن الكتابة الواقعية، بل أبتغي الإشارة فحسب إلى حقيقة صعوبة تجنّب الفنان لمتطلبات الحقيقة التي يفرضها الواقع، وعلى هذا الأساس فإنّ قرار الكاتب بشأن كيفية حكي تلك الحقائق هو أكثر القرارات أهمية بين كلّ القرارات التي يتخذها الكاتب في حياته" .

وجدت في الفلسفة الوجودية الكثير من الاسئلة، وانها تحكي عن افكار مثيرة عن الحرية والضمير، لكنها تعترف ان الوجودية لن تستمر فلسفة طازجة، بعد تقادم الزمن عليها، وان ما يجعل الادب حيا ان يعبر عن الغضب الذي يملأ نفس الانسان، لكنها كانت ترى ايضا ان  الكاتب متى مالجأ الى الصوت الوجودي، فان العمل الفني يكتسي شيئا من الصلابة .

ستتخلى مردوخ عن الوجودية فيما بعد، لكن يبقى لها الفضل في نشر الافكار الوجودية قي انكلترا ن وبذلت جهدا كبيرا في اقناع دور النشر بترجمة اعمال سارتر وسيمون دي بوفوار والبير كامو، وفي النهاية وجدت ان على الانسان الذي وجد نفسه وجها لوجه امام العالم، ان يدرك انه لا ينبغي فقط الاعتراف بهذا الوضع الإنساني وقبوله، ولكن ينبغي أيضًا احترامه والترحيب به.، في المقابل يجب على المرء أن يسعى لتبني "نظرة عادلة ومحبة"، وهو يتعرف على هذا العالم الفوضوي .

على الرغم من انتاجها الروائي الضخم حيث نشرت ما يقارب الثلاثين رواية، إلا ان آيريس مردوخ استطاعت بجدارة ان تحجز لها مقعدا في الصفوف الاولى من فلاسفة الوجود، وكان آخر اعمالها كتاب بعنوان " الوجوديين والصوفيون: كتابات في الفلسفة والأدب " صدر قبل وفاتها بعامين، قدمت فيه رؤيتها الفلسفية للعالم والكون والانسان، حيث كانت ترى ان الانسان بحاجة الى احساس متجدد بصعوبة الحياة وتعقيدها وبالغموض الذي يكتنف عالمه، فعمدت في رواياتها الى الاهتمام بقضية الحرية واهمية المسؤولية ودور الحب في الحياة، وهي موضوعات ظلت تكتب بها باستمرار وباسليب مختلفة ومتنوعة، مؤمنة ايمانا قويا بان الحرية هي الشرط الاساسي لحياتنا .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام تجئ ذكرى وفاة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ؛ المفكر السياسي والأديب الروائي والأكاديمي والمجدد والكاتب الإسلامي أيضا ، تجئ ذكراه متزامنة مع تحولات ثقافية وفكرية تفترس العقل العربي والإسلامي على السواء ، في ظل تصارع سياسي وديني واجتماعي بمنطقة الشرق الأوسط وسط مد راديكالي على إصراره المتأصل تاريخيا أن يذهب بالعقل العربي بعيدا عن إعماله وإطلاقه صوب التفكير والتجديد والتنوير .

وحينما نطالع كتاب جيمس برايدل James Bridle  المعنون ب  New Dark Age Technology, Knowledge , and The End of The Future فإننا نتلمس ثمة خروج من مستقبل يبدو مظلما بل وحالكا أيضا من خلال الطرح الفكري الذي قدمه عبر كتاباته الدكتور طه حسين ، لاسيما وأنه كان مهموما بألا يؤسس مدرسة فكرية شخصية له تتسم بالتبعية المطلقة للشخص وتمجد ذاته وتلوك ألسنة مريديه بألفاظه فقط ، بل نجا من شَرَكِ الاستلاب الفكري والاستقطاب الشخصي متجاوزا بذلك إعداد أجيال مهمتها إعمال العقل ومحاربة الظلامية التي تنبأ واستشرف بوجودها مستقبلا بشراسة ، هذا ما جعله ولا يزال أيقونة متجددة للتنوير والتجديد.

ولاشك أنه عندما يحين وقت التجديد يذكر اسم طه حسين، لذا فأنت أمام حقيقة تمثل أوبرا ثقافية متنوعة ومقهى حكائي يعد رافداً لكل الأدباء والمفكرين الذين جاءوا من بعده،  ومن الصعب محاولة تصنيفه أدب وفكر العميد الدكتور طه حسين وفق هوس وهوى النقاد بحمى التصنيف وقولبة الإبداع، فأنت أمام عالم مزدحم بغير ملل أو صخب حكائي بالأحداث والوقائع الجدلية، هذه الأحداث وإن بدت بسيطة في بعض الأحايين إلا أن كل حدث منها يفجر طاقات من الأسئلة المثيرة التي تستدعي التفكير ولا تجعل العقل بمأمن عن التأويل والتفسير. حقاً مجموعة ضخمة من الأعمال الفكرية والأدبية وحياة إنسانية واجتماعية تمثل مغارة من الأسئلة التي يصعب تصنيف كاتبها تحت مظلة قاصرة مانعة.

لذا فطه حسين هو بحق مزار سياحي يستقطب المعارضين قبل المؤيدين وهو مؤسسة شعبية أدبية تنصر بداخلها كافة التيارات الأدبية بغير انحناء أو محاولة انهزام داخلية. وإذا كانت كتابات وأعمال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد حققت ولا تزال الشهرة والصيت وبلوغ المأرب من حيث جودتها ورصانتها وإثارتها لأسئلة سابرة تغوص في المجتمع، فإن عميد الأدب العربي نفسه يشبه الحكاية، بل قلما نجد أديباً ومفكرا صار الاهتمام بشخصه مثل الوعي بأعماله وهذا تحقق بالفعل لطه حسين كما تحقق لكتاب آخرين مثل نجيب محفوظ، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس.

طَه حسين.. مِن عزبة الكيلو إلى القاهرة المحروسة:

طه حسين ابن المنيا  تحديداً عزبة الكيلو التي تقع على بعد كيلو متر واحد من مركز مغاغة بمحافظة المنيا، والتي ولد فيه في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889، لأب هو الشيخ حسين علي سلامة الموظف بشركة السكر، وقد أصيب طه حسين في حوالي السادسة من عمره تقريبا بمرض الرمد، فلم يهتم أهله بعلاجه في بادئ الأمر، ثم عولج علاجاً بدائياً ذهب بعينيه. وكانت عادة أهل الريف آنذاك إلحاق أبنائهم بالكتاتيب، وفي كتابه الماتع الرائع الأيام يحكي ويروي طه حسين حكاياته المثيرة في عالمه الثقافي الصغير الأول وهو الكتاب والتي كثيرا ما تم توصيفها بقدر كبير من الدهشة والمبالغة وأحيانا السخرية فهو الثائر الذي لا يهدأ، والصبي الذي كف بصره لكن انفتح عقله منذ الصغر بالنقد والتأويل والمعارضة.

ولاشك أن بدايات القرية قد أثرت بشكل كبير في عالم طه حسين فيما بعد، فلقد روى في كتابه الأيام الذي يعد من درر الأدب الحكائي على مر عصوره العربية جلسات القرية المسائية التي كانت تجمع أهل قريته حول راوي العصر وقتئذ وهو شاعر الربابة الذي كان يقص على مسامعهم سيرة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، وأخبار سيرة بني هلال، وما شد وجذب انتباه الصبي طه حسين هو قدر المهابة التي كان يحظى بها أولئك الذين يغدون ويروحون إلى القاهرة للقرية ذهابا وإياباً مما جعله مفتونا منذ صغره بعالم سحري هو القاهرة. ولا شك أن تلك الجلسات الثقافية الشعبية والحكايات التي استمع إليها وهو صغير شكلت ملمحا مهماً  أصبحت بعد ذلك رافداً مهماً وخصباً من روافد تكوين طه حسين الإبداعية.ومما ساهم في خلق التكوين الثقافي لطه حسين حفظه للكثير من الأوراد والأدعية التي كان يسمعها، كذلك الكثير من الابتهالات الصوفية التي كانت تنشد في هذا العهد.

وما أن جاء طه حسين إلى القاهرة ليكمل تعليمه مع أخيه الأكبر أحمد في الأزهر الشريف حتى بدأت المرحلة الثانية والأكثر أهمية في حياة العميد والتي أكسبته بقدر الجانب الثقافي والعلمي خصائص نفسية أبرزها حب الاستطلاع والفضول الاستكشافي والقدرة على تحمل المشقة والصعاب، وعلمته هذه الفترة العناد بغير فجور والثورة الفكرية.

ولا شك أن مرحلة الأزهر الشريف ومكوثه لأول مرة بالقاهرة العامرة هي التي فجرت طاقات الثورة الذهنية عند طه حسين، ولعل سر إعجابه بالشيخ المرصفي معلمه الأول بالأزهر كان مفاده أنه أطلق لحريته وحرية زملائه النقدية العنان، وفك قيود الرتابة التعليمية لديهم عن طريق إثارة الأسئلة أو ما يعرف الآن بمصطلح العصف الذهني وإمطار الدماغ، وهي تلك الملازمة العلمية التي أكسبت طه حسين قدرا كبيرا من الجرأة في النقد والحرية المطلقة في إبداء الرأي العلمي بغير حرج.

وجدال طه حسين من شيوخه بهذه الفترة أكسبته الجرأة في الجهر برأيه مهما كانت النتيجة، ونمى ما كان مركبا فيه من استعداد للعناد والتحدي، كما يلوح في الجزء الثاني من الأيام من مساجلات بينه وبين شيوخه بالأزهر الشريف وهي المساجلات التي شكلت اتجاهه الفكري صوب الجديد والقديم في الطرح الفكري العربي.

الجامعة ومرحلة التنور الثقافي في حياة العميد

في الجامعة اختلفت حياة طه حسين ابن المنيا اختلافا كبيرا، فتعرف على عالم متباين عما شاهده وعاينه بالقرية والأزهر الشريف، وربما ضيقه بالدراسة في الأزهر هو الذي دفعه إلى النهل من روافد العلوم المدنية والتي برع فيها بقدر براعته وتميزه في العلوم الدينة لاسيما السيرة والتراجم، ولعل استماعه لدروس الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية، وأدبيات الجغرافيا والتاريخ، وفي اللغات السامية، وتاريخ الفلك عند العرب، ثم تاريخ الفلسفة وعصورها، هو الذي أكسبه التنوير الذي صار بعد ذلك علما رائدا له لعقود طويلة.

وفي الجامعة أتيح لطه حسين أن يتعلم على أيدي أساتذة متميزين لهم مقام رفيع في العلم والمعرفة وهؤلاء شكلوا إطارا فكريا وثقافيا جديدا لطه حسين بجانب الثقافة التي نهلها من القرية ثم الأزهر. ومن هؤلاء الأستاذة أحمد زكي باشا، وأجناسيو جويدي، ونللينو، وسانتلانا، ولوي كليمان الذي درس له الأدب الفرنسي، وكان لقاؤه بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد هو مرحلة التحول الكبيرة في حياة العميد طه حسين، وصاحب الريادة في انفتاحه على ثقافات أخرى جديدة وبيئات فكرية متنوعة.

وفي الجامعة، كان طه حسين صاحب أول رسالة للدكتوراه ناقشها يوم الثلاثاء الخامس من مايو 1914 عن أطروحة علمية في تاريخ أبي العلاء المعري، وبعد مناقشة ساخنة يمكن توصيفها بالمضطربة أيضا تم منحه درجة جيد جدا في الرسالة ودرجة فائق في الجغرافيا ودرجة فائق في الروح الدينية عند الخوارج.

في فرنسا.. تميز ونبوغ: طه حسين

وبحصول طه حسين على درجة الدكتوراه تقدم بطلب بغرض إيفاده لبعثة للخارج، عزمت الجامعة إرسالها إلى أوروبا، لكن تعذر السفر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم سافر بعد ذلك إلى مونبلييه واهتم هناك بدراسة اللغة الفرنسية وآدابها، وحصل على الليسانس في الآداب من السوربون عام 1917، وفي يناير من عام 1918 ناقش أطلاوحته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وحصل على مرتبة الشرف الممتازة مع تهنئة لجنة الحكم والمناقشة. وهو الأمر الذي حفزه للحصول على دبلوم الدراسات العليا في تاريخ القانون المدني الروماني في يونيو 1919 بتقدير ممتاز.

إلى مصر الجميلة:

ثم عاد طه حسين إلى مصر ليصير أستاذا للتاريخ القديم، وعين بعد ذلك أستاذا لتاريخ الأدب العربي الذي نبغ فيه وتفرد وأبدع كتبا ومئات المقالات الصحفية في هذا الميدان، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة أخرى في حياة العميد وهي مرحلة الإنتاج والإبداع الفكري والأدبي، وفي هذه الفترة الخصبة من حياة طه حسين انخرط في العمل السياسي وكذلك العمل الاجتماعي التنموي من خلال إلقائه العشرات من الندوات والمحاضرات خارج الجامعة مثل الجمعية الملكية الجغرافية، واستطاع طه حسين فور عودته أن يحجز لنفسه مكانا ومكانة بين أهل الثقافة والمعرفة بصورة رسمية وغير رسمية، فلقد مثل مصر في مؤتمر المستشرقين بأكسفورد، وآخر في فيينا، وثالث في مؤتمر الآثار السورية في بيروت، ورابع في ليدن، وخامس في الاحتفال المئوي الرابع لكلية دي فرانس، ورغم هذه الفترة التي كان طابعها العام السفر المستدام إلا أن عطاءه الفكري لم يتوقف أو ينضب بل استطاع أن يؤلف أبرز وأهم كتبه على الإطلاق مثل كتابه المشكل في الشعر الجاهلي، الذي لا يزال يحدث صخبا نقاشيا وجدالا واسعا حتى لحظتنا الراهنة.

طه حسين وتطوير التعليم المصري:

رغم أن هذه السطور القليلة لا تفي حجم ومكانة عميد الأدب العربي وما هي إلا إطلالة سريعة جدا على سيرة ومسيرة هو بطلها، إلا أنه بات من الضروري التأكيد على الدور التعليمي والتنويري الذي لعبه طه حسين في المشهد التعليمي والذي لازلنا نطبق أفكاره ورؤاه واجتهاداته التربوية حتى الآن. فكما يذكر الأستاذ الدكتور مصطفى رجب صاحب أفضل كتاب عن فكر طه حسين والمعنون بفكر طه حسين التربوي بين النظرية والتطبيق، أن فكره التربوي يمثل حلقة متميزة في تطور الفكر التربوي في مصر خلال القرن العشرين بأكمله.

ويمكننا أن نضيف بأن طه حسين باجتهاداته التربوية شكل بوصلة التعليم في هذا الوقت والعصر، ولعل براعته الأدبية هي التي مكنته من معالجة القضايا التعليمية بقدر من المرونة والتوفيق، وجل هدف طه حسين التعليمي هو التنوير وتثوير العقول وتنقية الأذهان من الضلالات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة، وسعى لأن تكون لمصر نهضة ثقافية تمثل النواة للنهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد ذلك. ويمكن تحديد السمات العامة للفكر التعليمي والتربوي النهضي لطه حسين في سمتين رئيستين هما الديموقراطية، والحرية.

ولاشك أن قضية الديموقراطية قد شغلت إنسانا كطه حسين فتناولها في كثير من كتابته وجعلها منهجا نقديا يمكن تناول التاريخ الإسلامي في ضوئه، وهو المنهج الذي اتبعه في كتبه الفتنة الكبرى بجزئيها والشيخان، ورغم أن الديموقراطية في أساسها تضمين سياسي إلا أن طه حسين استطاع أن يستغل هذا المنحى في سياقه التعليمي الأمر الذي جعله يعلن شعاره الخالد بأن التعليم كالماء والهواء وأنه حق لكل إنسان. ورغم مناداته بذلك إلا أنه واجه حربا شرسة شنها عليه رجال التعليم آنذاك.

وليس بغريب على شخص كطه حسين أن ينادي بمبدأ الحرية وهو الطفل المحروم من التدليل والرفاهية، والطالب العاجز المقهور بالأزهر، وحبيس الثقافة العربية بالقارة الأوروبية، فأخذ على عاتقه المناداة المستدامة بالحرية التعليمية وإتاحة الفرص التعليمية المختلفة لأبناء الشعب المصري بقصد التنوير. وتلك الحرية الفكرية هي التي دفعته على المستوى الشخصي لينهل من كل روافد الثقافة وتياراتها المتباينة بغير خجل ويقول في ذلك بإن الحرية لا تستقيم مع الجهل والتعليم أصبح ضرورة لا رفاهية، ويكفي أن نقول بإن التعليم الجامعي قد لقي على يدي العميد النابغة كثيرا من التطوير والتنظيم الذي كان يهدف لتحقيق مزيد من الحرية والاستقلال.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

(تصادف هذه الايام فاجعة استشهاد استاذنا المفكر عبد الزهراء "عز الدين" حسب التأريخ القمري).

قال لي الشهيد عز الدين سليم (عبد الزهراء عثمان) يوما من ايام طهران عام 1992: (ليلة امس منعوني من السفر الى سوريا بسبب مزاجية رجل أمن ايراني رفض تسليمي جواز السفر الدبلوماسي لأداء مهمة سياسية، مما دفعني ان اصرخ بوجهه: اقسم بالله ما إن يسقط صدام لن تجدني يوماً واحداً في ايران!).

اراد الشهيد ابو ياسين من جملته اشعار رجل الامن انه لا يهمه شيء في هذه الحياة سوى العراق. ولما هوى صنم الطاغية وتصدّع نظامه، غدا أبو ياسين وسط بلده يشحذ همم الغيارى لبناء العراق الجديد واعادة اعمار ما افسده الحكم العفلقي.

عقد ونصف العقد من الزمن الكئيب مضى على استشهاد المفكر الاسلامي عز الدين سليم، وما خلا العام 2004 الذي استشهد فيه هو ورفيقه الاستاذ الاعلامي طالب أبو محمد العامري، لم نجد الا ندرة مجالس عزاء شكلية للغاية أقيمت لهما، وبعدها لم نسمع بمستذكرٍ لشخصية ابي ياسين الاسلامية والوطنية، ولم نجد من يذكـّرنا بما قدمه هذا المفكر للدين والوطن الا نشوارٍ قليلٍ ربما رفيق كان يخلص له، أو صديق ذرف دمعة صادقة لفراقه وكلمات لا تتعدى ترجمة مبتسرة لحياة هذا المجاهد. وربما تقديم آيات عزاء لاهله وبنيه.

فيما وجدت لأعوام خلت مقالة شبه يتيمة طيلة مدة غياب الي ياسين، واظنها الاخيرة كتبها الاستاذ ابراهيم العبادي ونشرها في النت فثور في نفسي لوعة الحزن، وحلّق بتفكيري الى ايام الشهيد ابي ياسين حيث عرفناه عن قرب لسنوات طويلة في مهاجرنا منذ العام1982 وحتى العام2002 ففارقناه الى استراليا.

شعرت وانا اتأمل كلمات العبادي انه الوحيد المفجوع باستشهاد استاذه عز الدين من بعد حزن وأسى عائلة الفقيد. اذ كتب سطورا تدمي الفؤاد وتذكر بالبكم الذي أصاب الامة جراء سياسات أعمت القلوب التي في صدور العراقيين عن تذكر امثال هؤلاء الزعماء العظام. فان اغفلنا البصر عن (الدعوة) باعتبارها لا تخرج عن الحالة الحزبية العامة التي تمتلك عيناً واحدة لا ترى الا الآنية والمصلحة،! كما لمسنا ذلك من خلال نسيان جلّ الاحزاب ومنها حزب الدعوة الاسلامية لاحد ابرز قادته ومنظريه الشهيد عبد الزهراء وهو من اعلامه ونشطائه ومفكريه.!

ولا اعني بذلك مجالس العزاء والتمظهر الشكلي، إنما اعني غياب احياء الافكار..

فإن تسالمنا مع الحزب الحالي، واعذرنا بنظرته الى الشهداء،! فما بال البصرة الفيحاء؟البصرة.. مدينة الشهيد عز الدين سليم، ما بالها لا تذكره بمؤتمر سنوي تدعى له شخصيات تنهض أفكار الشهيد الى ما قدم اليه حياته كرمز من مفاخر الامة؟ كي تتلمس الاجيال تذكاراً حياً لرجل فذ من رجالات الفكر الاسلامي وشهيد وطن حقيقي غيور ما وجدنا له خطلة في اداء ولا شبهة في تاريخه الذي قضاه في مجاهدة عدوه نظام الطاغية التكريتي؟

فإن نفخر كعراقيين نفخر بمثله قارع الطاغوت وامضى في سجونه سنوات خمس في تعذيب مرير منذ العام1974 حتى 1978 هذا غير ما تعرض له من محاولة فتك واغتيال انجاه الله منها ومكـّنه من الهجرة ليواصل جهاده وقلمه.

عجبت لمدينتكم البصرة، اذ لم تؤرخ لفقيدها الشهيد عز الدين سليم، ولا تنادي باحياء مؤلفاته وابحاثه الفكرية والعقائدية والتأريخية والسياسية التي يندر ان نجد له مثيلا في البصرة، فحياة الامصار والشعوب بمفكريها.

الراحل في سطور:

المفكر الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (ابو ياسين) مواليد مدينة البصرة/ناحية الهوير1943، تخرج من مدرسة دار المعلمين الملغاة عام 1964، اضطر إلى تغيير اسمه إلى (عز الدين سليم) للاحتراز الأمني لضمان عدم تعقبه من قبل نظام الطاغوت صدام الذي سعى إلى اغتياله أكثر من مرة. اعتقل الحاج عبد الزهراء عام 1974 حتى 1978 بعدها تمكن من الهرب خارج البلاد.اضافة الى جهاده فقد تلقى الشهيد عددا من الدراسات على يد عدد من العلماء والمفكرين الاسلاميين في العراق والكويت، وفيهما مارس تدريس اللغة العربية والتاريخ والمجتمع العربي للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية من العام 1965 و1980 ما عدا فترة سجنه.

اهتم المفكر عز الدين سليم مطلع حياته بالتأليف والكتابة الصحفية منذ1967 وأصدر باكورة كتبه (الزهراء فاطمة بنت محمد) عام1969. ثم واصل الكتابة فصدرت له عشرات الكتب في السيرة والتاريخ والسياسة والثقافة العامة. كما انه رحمه الله نشر مجموعة كبيرة من الابحاث والدراسات في المجلات العالمية. وانخرط منذ مطلع الستينيات في العمل الثقافي والاعلامي فعمل مع عدد من الصحف والمجلات الثقافية في العراق والكويت ولبنان.أشرف الشهيد السعيد على إصدار صحيفة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق/ بطهران من عام 1983 الى اواسط التسعينات، وأشرف على المركز الاسلامي للدراسات السياسية الذي أسسه عدد من المثقفين العراقيين المهاجرين في طهران عام 1981 وكانت له عدة أبحاث سياسية في (التقرير السياسي) الذي أصدره المركز لعدة سنوات .

بدأ عز الدين سليم العمل السياسي مبكرا عام 1961 ضمن تنظيم الدعوة الاسلامية في العراق الذي عرف فيما بعد باسم حزب "الدعوة" وتدرج في عمل التنظيم حتى صار عضواً في لجنة الاشراف على التنظيم في البصرة وما حولها عام 1973 قبل أن يعتقل في البصرة عام 1975 بتهمة الانتماء للتنظيم المذكور. عين المفكر عضوا في مجلس الحكم الانتقالي لدى تأسيسه في العراق، وساهم في صياغة قانون إدارة الدولة الانتقالي.

استمر سليم في ممارسة مهام عمله كرئيس دوري لمجلس الحكم الانتقالي إلى أن تم اغتياله في 17 مايو 2004 بتفجير سيارة مفخخة تزامنت مع مرور موكبه في حي الحارثية قرب أحد مداخل المنطقة الخضراء حيث مقر قيادة قوات الاحتلال الأمريكية. ويذكر أن تنظيم القاعدة بزعامة أبو مصعب الزرقاوي قد تبنى عملية اغتياله.

***

مصطفى (كامل) الكاظمي

قضيتُ وقتاً طويلاً وأنا أعدّ أفكاري للكتابة عن التجربة السياسية للشيعة في العراق بعد عام ٢٠٠٣، وقد نصحني بعض الأصدقاء بأن أقوم بالنشر على سلسلة حلقات قبل طباعة الكتاب أو على الأقل نشر أقسام منه، وهذا ما استحسنته.

سأكون في غاية الشكر والامتنان لكل من يصحح لي الخطأ بالوثيقة والدليل، وسيجدني ان شاء الله، اعتمد الصحيح بعد أن أراه صحيحاً. وأتراجع معتذراً عن الخطأ عندما يظهر لي ذلك.

ما أنشره تمتزج فيه مذكراتي ومشاهداتي ومعلوماتي التي حصلت عليها من مصادر اقتنعتُ بأنها موثوقة. وهي مصادر متعددة بعضها من مشاركين في الوقائع وبعضها من اشخاص مطلعين على الوثائق والتفاصيل وبعضها لشهود على الحدث مباشرة.

سأعتمد نفس المنهج الذي سرتُ عليه في مقالاتي خلال السنوات الماضية، لا تحاصرني القيود، ولا تحيطني الحدود، فالكتابة عندما تكون متجهة نحو التاريخ فانها تُركّز على المواقف والأشخاص، وتمر على تفاصيل دقيقة بين مفردات الوقائع. وحسب قناعتي في هذا النمط من المشاريع التدوينية، فإن الكاتب إما أن يكون صريحاً مباشراً فيكتب، أو يترك الكتابة في هذا المجال ويتجه لتناول قضايا أخرى.

عامل آخر يدفعني للصراحة أكثر وللمباشرة أكثر، ففي وقت متأخر من العمر، يسمع الكاتب نداءً خفياً يلاحقه بإلحاح.. نداء يشبه الصفير، يحذّره من الكتمان، فيدفعه الى قول الحقيقة التي يعرفها ويراها بلا تردد ولا خوف. فالعمر حين يصبح رخواً يزول التردد وتتلاشى المحاذير.

لقد عُرفتُ بين المتابعين والقرّاء الكرام بكتاباتي النقدية للمسؤولين والقادة السياسيين والحكومات المتعاقبة. وقد بدأت ذلك من خلال تأسيس موقع (الملف)، ومن بعده موقع (الوسط) الذي كان وقتها الموقع الأول في نقد الطبقة السياسية حتى توقف عام ٢٠١٤ حين أعاقني الظرف الصحي عن الاستمرار.

كانت معظم كتاباتي نقدية ضد حكومات المالكي والعبادي وعادل عبد المهدي. وتناولتُ بالنقد الأشهر الأولى من حكومة الكاظمي وأشهرها الأخيرة، أما وسطها فقد توقفت عن الكتابة نتيجة وضع صحي حرج تعرضتُ له ودام شهوراً عديدة، قضيتها على أسرة المستشفيات وسرير المرض في البيت.

لم أعتمد المنهج النقدي في كتاباتي لحبي فيه، إنما لأن الوضع العراقي قد بدأ حياته الجديدة في العملية السياسية على مجموعة من الأخطاء، راحت تتعاظم مع الوقت، وكان أخطرها الفساد المالي الذي عصف بالدولة فحولها الى كنزٍ منهوب من قبل المسؤولين في كل الدوائر والمؤسسات والوزارات والمواقع.

كانت تجربة ما قبل السلطة، صعبة مريرة بحكم السجون والاعدامات والخوف والهجرة والغربة وغيرها، لكنها كانت تقف على ساقين ثابتتين وقامة منتصبة وهامة عالية. كانت التجربة مفخرة على النضال الوطني والإسلامي من أجل الشعب والمبادئ والقيم. وكان المؤمل أن تستمر كذلك وتشتد سمواً عندما وصلت الى السلطة، لكن الحال كان صادماً، فسرعان ما بدأ الانهيار وتعمّق، فتشوهت الصورة واحترق التاريخ وتناثرت المبادئ بين الأقدام.

دراسة التجربة وتسجيل الوقائع وتفريغ أجزاء من الذاكرة على الورق، مسألة مهمة يعيشها الكاتب، وهي ضاغطة عليه بشكل ثقيل، وتبقى كذلك حتى يكتبها ليستريح.

***

سليم الحسني

بالأمس الموافق السادس والعشرين من شهر مارس 2022 ، رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت رجائي عطية المفكر الإسلامي الكبير ونقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب، عقب تعرضه لأزمة صحية داخل محكمة جنايات الجيزة، للدفاع عن  ٩ من محامي الجيزة من بينهم محمود الداخلي، نقيب الجيزة السابق والأمين العام المساعد بمجلس نقابة المحامين، في قضية التجمهر وتعطيل دائرة جنح مستأنف عن العمل وسرقة أجندة الجلسات.

وكانت آخر كلمات رجائي عطية، قبيل توجهه إلى المحكمة لحضور الجلسة، ما نشره عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والذي جاء فيه: "اصطباحة الأحباب، بسم الله نستقبل هذا الصباح الندي.. نفتح القلوب مع العيون، ونتطهر من الأدران، ونتسامى بأرواحنا إلى آفاق الهدى والإيمان، نناجى الحي القيوم، ونلوذ إلى رحابه بضراعتنا وآمالنا».

وأضاف رجائي عطية: "بسم الله الرحمن الرحيم "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " (سورة النساء الآية : 114 )..اللهم أنت أعلم بإيماننا وبدخائل نفوسنا .. بنورك الهادي الذى يشع في حنايانا ويشرح صدورنا.. بأننا يا ألله ما ابتغينا إلا وجهك ومرضاتك.. اللهم فأعنا على أن نطرق الدروب التي ترسمها الأخيار الصالحين من قبلنا، واجعل قلوبنا للخير، تنشده في تحية صادقة تزجيها لحبيب، ومعونة حقة تبذلها لخليل ، وقولة صدق وإخلاص تقيم بها شريعة العدل والإنصاف .. يا رب العالمين".

وتابع عطية: "عن صفى الرحمن أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول يوم القيامة : " يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني".. قال: "يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين "..قال: "أما علمت بأن عبدى فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده .. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني".. قال: "يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين".. قال: "أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ..يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني". قال: "يا رب ، كيف أسقيك وأنت رب العالمين".. قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". ربنا .. يا رحمن يا رحيم نسألك أن تهدينا إلى ما علمتنا .. أن تفطرنا على هذا الطبع السامق الذى إليه أرشدتنا، وبأعظم الأجر عنه وعدتنا .. نروم مرضاتك في جميل صنيعنا لأحبابنا وإخواننا.. في مريض نعوده ونرعاه، وجائع نطعمه ونرد غائلة الحرمان عنه ، وظامئ نرويه أو ضعيف نسانده أو مكروب نواسيه ونكفكف عنه".

وأضاف: "ربنا ..لقد وعدتنا ووعدك يا ألله حق، ونحن على ما أمرت.. اللهم فأطعمنا من خضر الجنة، واسقنا يوم الحساب من الرحيق المختوم، يا خير من سئل وخير من أجاب.. يا رب.. دعاء رجائي عطية".

وبعده الكلمات أقول بأن رحيل المحامي الكاتب المثقف المؤرخ الموسوعي رجائي عطية، ليس خسارة للمحاماة فقط ولكنه خسارة للثقافة المصرية، فهو واحد من كبار المثقفين المصريين الوطنيين، ، وهذا ما كتبته عنه منذ عامين وقلت بأنه فيلسوف المحاماة والمحامين، وواحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، الذين حلّقوا فى الأدب والفكر، وجمعوا بين واقعية القانون وبحور الفقه، وخبرات المحاماة، وخيال الأدب.

كان رجائي عطية رحمه الله واحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، ولد في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وحصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة عام 1959، وعمل بالمحاماة منذ 63 عاما، وحصل على دبلوم العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1961، وعمل بالمحاماة (1959/ 1961)، ثم بالقضاء العسكري في وظائفه المختلفة وبالمحاكم العسكرية من ( 1961/ 1976)، وعمل بالمحاماة مرة أخرى من 1976.

ثم عين عضوا في مجلس الشورى، ومجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو اتحاد الكتاب، وخبير بالمجالس القومية المتخصصة ،والمجلس المصري للشؤون الخارجية؛ كما خاض انتخابات 2020 وفاز أمام منافسه سامح عاشور بفارق 9660 صوتا .

اشترك رجائي عطية في لجان الدفاع عن الحريات بنقابة المحامين والمنظمات الدولية والإقليمية، وفي العديد من المؤتمرات القانونية في مصر والخارج.. له اهتمامات أدبية وثقافية، من البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة أوائل الستينات: "من هدي القرآن - من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية.

تقلد عدة مناصب أهمها؛ عضوية مجلس الشورى، عضوية مجمع البحوث الإسلامية، عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عضوية اتحاد الكتاب، خبير بالمجالس القومية المتخصصة، عضوية المجلس المصري للشئون الخارجية، فضلاً عن وظائفه بالقضاء العسكري وختامهم نقيباً للمحامين بدءاَ من 15 مارس 2020.

بذل حياته ليلاً ونهاراً لتحصيل المعرفة القانونية، البحث في الدراسات الفقهية، والقراءة المستمرة في العلوم المختلفة ، لن ننسى بصمته في مسيرة المحاماة وحتى في أواخر أيامه كان ينصح شباب المحامين ويعزز من دور المحامي والمحاماة ومن أشهر أقاويله المأثورة “أن المحاماة ليست مهنة وانما هي رسالة” فالمحامي لن يستطيع أن يؤدي الرسالة ويقوم بدور الرسل، الا إذا كان متجرداً لهذه الرسالة، ومحبا، بل وعاشقاً لحمل تلك الرسالة، لذلك فالمحامي لابد أن يكون متنوع وموسوعي المعارف، موهوب الأداء من أجل اقناع القاضي بالحجج والبراهين الواجبة، وسنتذكر دائماً التشبيه البديع في وصف العلاقة بين المحامي والمحاماة "المحامي هو العاشق والمحاماة هي المعشوقة" فعشقه للمحاماة كان وراء تكثيف وتعدد قراءاته مما أدى لتنوع مؤلفاته ومقالته التي تعد أحد الكنوز المعرفية لصالح المجتمع العربي بأكمله. فشغفه الفريد برسالة المحاماة ساعده في التميز بالحرفية عند الإبانة عن رأيه، وذلك بفضل المخزون الثقافي الذي تمتع وتميز به.

وصف رجائي عطية نقابة المحامين بأنها بيت المحاماة والتي تعد مظلة لتوفير الحماية للمحامين بشكل ديمقراطي وبمنظور الكرامة والشفافية والمساواة، فضلاَ عن دعم المحاميات بالنقابة بمقولة "تكريس دور حواء في نقابة المحامين".

هذا العظيم الذي بلغ من العمر 83 عاماً لم يستطيع أحد أن يوقفه عن القيام برسالته الذي عاش يعشقها ليتوفاه الله داخل أحد أروقة إحدى مؤسسات العدالة، أثناء تأدية واجبه بدفاعه ومساندته ل 9محامين، فارقنا المفكر والفقيه القانوني بشموخ عظيم ليختتم حياته بترك آخر بصمة في مسيرته المهنية وذلك بدوره القيادي بصفته نقيب المحامين وبدوره المتميز بحمل الرسالة بصفته محامي.

والمغفور له قد كتب عدداً من السيناريوهات للأعمال الدرامية : مثل قصة رجل المال لتوفيق الحكيم، وقصة امرأة مسكينة ليحيى حقي. كما كتب مقالات نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية؛ واشترك قاضياً أو باحثاً بالقضاء العسكري في أشهر القضايا.

علاوة علي أن له اهتمامات أدبية و ثقافية، فمن البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة منذ أوائل الستينات: "من هدي القرآن – من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية – أضواء على الفكر العربي – معركة المصير"، كما كتب عددًا من السيناريوهات للأعمال الدرامية التي قدمت في التليفزيون مثل قصة رجل المال للأستاذ توفيق الحكيم وقصة امرأة مسكينة للأستاذ يحيى حقي.

كما كتب العديد من المقالات المختلفة والتي نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية، واشترك قاضيًا أو باحثًا بالقضاء العسكري في أشهر القضايا، بالإضافة لذلك له مقالات منشورة في العديد من المواقع والصحف حيث يكتب في كل من مجلة منبر الإسلام منذ عام 1969 وصوت الأزهر وجريدة الأهرام الصباحى والأهرام المسائي والأخبار والمصور وأخبار اليوم وروز اليوسف والجمهورية والأهالي واللواء الإسلامي والجيل والأحرار والمال.

وفي بداية حياته اضطلع   رجائي عطية بالدفاع في أشهر قضايا العصر، مثل قضية التكفير والهجرة، خالد الإسلامبولي ، قضية الجهاد ، وزارة الصناعة؛ بلغت عدد مؤلفاته وكتبه 102 إصدار.. رشحه مجمع البحوث الإسلامية لجائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2017 و2010 و2016 .

وفي النهاية أسأل الله أن يتغمد أستاذنا رجائي عطية بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وأن يلهم أسرته وإيانا وكافة السادة المحامين وتلاميذه ومحبيه الصبر والعزاء.. ولا نقول الا ما يرضي الله .. وسبحان من له الدوام.. وسوف يخلد التاريخ بأشرف رحيل.. نعم رحل واقفا على رجليه، ليختتم رسالته التي أكدت قناعاته عن مسئولية الرسالة ، ليظل في أذهاننا رمزاً يحتذى به للأجيال القادمة..

ولا عجب او تعجب من هذه النهاية السعيدة و هذا الختام المشرف , والمتأمل يرى أن طالما كان هذا الرجل متأثرا في كتاباته ومواقفه الاسلامية و الوطنية بشخصيات وقادة عظام و كم يظهر هذا في كتاباته وفي التحاقه بالكلية الحربية ليعمل في القضاء العسكري , فكم عاش مدافعا و بشدة عن مواقف نبيلة و كان فيها مقاتلا مدافعا عن الحق , فقد قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " و قال رسوله " الجزاء من جنس العمل" فقد عاش " محمد رجائي عطية " نعم النقيب المدافع عن المحامين ليموت فارسا نبيلا في ميدان المعركة في قاعة الدائرة 12 جنايات إمبابة بمحكمة جنوب الجيزة مدافعا عن زملائه المحامين المتهمين في قضية خاصة بأزمة بين عدد من المحامين مع القاضي حسام رشدي رئيس محكمة جنح مستأنف مركز إمبابة وأوسيم والتى تعود أحداثها لعام ٢٠١٥ .

فرحم الله الفقيه " رجائي عطية " وتقبله الله مع النبيين و الصديقين و الشهداء والصالحين و حسن اولئك رفيقا .

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- سمر عمرو : وداعاً .. رجائي عطيه، مقال منشور في مارس 26, 2022

2- شهيرة بدري: وداعًا المفكر والمحامي الكبير "رجائي عطية" مقال منشور بالبوابة نيوز يوم السبت 26/مارس/2022 - 02:43 م

3- محمد جعفر: وداعًا رجائى عطية.. رحيل نقيب المحامين داخل قاعة المحكمة (بروفايل) مقال منشور بجريدة الدستور يوم السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص

4-محمد علي السيد: وداعًا رجائي عطية .. مسيرة «النقيب الأديب» من الميلاد فى أسرة حقوقية للرحيل بروب المحاماة، مقال منشور بالأهرام المصرية يوم 26-3-2022 | 12:24

5- محمد رفيق إبراهيم: وداعا رجائي عطية.. المتر ، السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص؟.

صادق السامرائيهذه قراءة مركزة، تحاول تشريح الحالة نفسيا، وفقا لما يتوفر من المعلومات المدونة، وتتناول السلوك أيا كان صاحبه.

معاوية بن أبي سفيان، ولد قبل بعثة النبي بسنتين أو أربع سنوات، وتولى الخلافة (41 - 60) هجرية، وتوفي في عمر (75 أو 77)، معروف بدهائه وحلمه ومهاراته القيادية وذكائه السياسي، صحابي ومن كتّاب الوحي، وأسلم عند فتح مكة (8) هجرية، والبعض يقول قبل ذلك، أي أسلم في عمر تجاوز العشرين بقليل، ويُقال هو من المؤلفة قلوبهم، أو الطلقاء، وكان واليا على بلاد الشام لعشرين سنة، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس، وخليفة لعشرين سنة، والبعض يرى أن الحظ لعب دوره في بزوغه وصعوده.

أسس الدولة الأموية، وكانت عربية صرفة، وانطلقت بفتوحاتها وإنجازاتها المعروفة في زمنه، ولم يضع الأسس المتينة لها، بل قوضها بإسقاطه مفهوم الكفاءة والشورى، وإطلاقه لولاية العهد والبيعة لمن بعده مبكرا، وجعل الحكم وراثيا عائليا، مما أصابها بمعاضل.

فيزيد بن معاوية ربما لا يمتلك الخصال المطلوبة لقائد دولة ناشئة، ومعاوية بن أبي سفيان ما عنده ولد غيره، والبعض يذكر أن له ولد آخر إسمه عبدالله وآخر إسمه عبد الرحمن ، وهناك ما يشير إلى أنه لم يعقب سوى بضعة بنات بعد يزيد أو قبله.

فمعاوية بن أبي سفيان ربما أضعفَ دولته بإتخاذه إبنه خليفة من بعده، وكان قليل خبرة فأجج المسلمين عليه، ولو أن قادته إرتكبوا الخطايا الجِسام التي حصلت، لكنه هو المسؤول لفقدان مهارات السياسة والقدرة على التفاعل القيادي النبيه، المستوعب للحاضر والمستقبل، بل يُذكر أن الإنفعال عنوان ما بدرَ منه من تصرفات وقرارات ذات تداعيات مروعة.

ومن خطبة لمعاوية " أللهم إن كنتُ قد عهدتُ ليزيد لما رأيتُ من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الولد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك".

وموضوع الحكم الوراثي على الأرجح أخذه من الأمم الأخرى التي تفاعل معها، فالحكم بالوراثة متداول في إمبراطوريات الدنيا من قبل، ولخلافة الحسن دورها، ولو أنها كانت ببيعة، لكنه ربما أدركها على أنها توريث.

 وكادت أن تنهار دولته، بوفاة يزيد ومن ثم إبنه معاوية الثاني، الذي كان مريضا عند توليته، فمنع مروان بن الحكم الخلافة عن خالد بن يزيد لصغره، وبعد وفاته سنة (65) هجرية، تولى إبنه عبد الملك الأمر، وكان عبدالله بن الزبير (1-73) هجرية خليفة أيضا، ولمدة تسع سنوات (64 - 73) هجرية ، فلجأ إلى القوة الفتاكة، المتمثلة بما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي بإمرته، ولم يستتب الأمر نسبيا إلا بالقضاء على عبدالله بن الزبير.

 فكان المروانيون في غاية القسوة على مَن يعارضهم، ولا يعنيهم مَن يكون، المهم أن يؤيدهم ولا يقاوم الدولة، وهذا الأسلوب تهاوى بعد غياب أساطينه الأقوياء، ولهذا إنهارت الدولة في أقل من قرن.

والعجيب في أمر معاوية بن أبي سفيان أنه عهد لإبنه يزيد بولاية العهد وهو في سن الخامسة عشر، وبقي خليفة يعاني من هذا القرار ومناوئيه لمدة عشرة سنوات، وهو الحليم الداهية، وكأنه ما أدرك خطورته، وما إتخذ ما يلزم لرأب الصدع الماثل أمامه.

وهو ذات الخطأ الذي إرتكبه فيما بعد، المتوكل على الله عندما عهد بولاية العهد لإبنه المنتصر بالله وهو في عمر الثالثة عشر، وبقي وليا للعهد إثتي عشر سنة، فيها تغيرت نظرته وتقديره للأمور، وكاد أن يتخذ إجراءً ضده، فانتهى بمقتله على يد ولي عهده ، الذي مات بعد ستة أشهر من توليه الخلافة.

فالأسس التي وضعها معاوية بن أبي سفيان أنهت دولته الحقيقية بعد وفاته، ولفظت أنفاسها الأخيرة بعد موت إبنه يزيد، وبدأت دولة بني مروان، الذين إنطلقوا بها على ذات الأسس الوراثية، وللسيف الدور الأكبر في إبقائها لأقل من سبعة عقود.

وحسب دراسة للدكتور عبدالسلام العجيلي أن معاوية كان مصابا بداء السكر، وهناك ما يشير إلى مرضه الشديد في السنوات الأخيرة من حكمه، ومعاناته من البدانة المفرطة، وكأنه كان مشوش التفكير والتقدير ومُقعدا، وتفاعلاته ليست كما عُرف عنه، وما تمكن أحد من الإنتباه لذلك، وأخذ الأمور على محمل الجد.

إن للأمراص التي تصيب القادة والخلفاء تأثيراتها الجسيمة على الدولة والمواطنين، ودورها الخطير في الأحداث الكبرى التي ألمَّت بالمسلمين، لكن القدسية التي تُضفى على الخليفة أو القائد تمنع الناس من النظر إليه ببصر قويم.

ولا بد من الأخذ بالإعتبار الأمراض النفسية والعقلية والبدنية، التي تصيبهم وتدمّر الأجيال من بعدهم.

 

د- صادق السامرائي

 

 

 

قاسم حسين صالحفي سبعينيات القرن الماضي، اعلنت مؤسسة الأذاعة والتفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات، فتقدم اكثر من الف من الجنسين ليواجهوا لجنة اختبار ضمت كلّا من:

محمد سعيد الصحاف، مدير عام الأذاعة والتلفزيون

سعد لبيب، مدير برامج اذاعة صوت العرب من مصر

سعاد الهرمزي، كبير مذيعي اذاعة بغداد

الدكتور مرسل الزيدي، اكاديمية الفنون الجميلة

كنّا ندخل عليهم واحدا بعد الآخر، بيننا من هو خائف، ومن يتظاهر بأنه ليس خائفا.. وجاء دوري فدخلت، وكان امامي كرسي ومنضدة عليها ورقة مقلوبة.. جلست فقال لي الصحاف:

- أمامك ورقة.. اقلبها وأقرأ رأسا

قلبتها وقرأت وغيرت كلمتين فيها، فقال لي الصحاف :

- صوتك جيد وعندك نباهة.. تفضل وانتظر اعلان النتائج.

كان حلمي ان اكون مذيعا مذ كنت طالبا في الأعدادية. يومها كنت اختلي في غرفتي وامسك جريدة مقابل مرآة واقرأ بصوت عال:

- دقت الساعة الثامنة مساء، اليكم نشرة الأخبار من اذاعة بغداد.. واروح اقرأ بعض اخبار الصفحة الأولى.

 

واعلنت النتائج.. وكان الفائزون عشرة فقط من بين الألف، بينهم حارث عبود، عبد الستار االبصري، قاسم المالكي، عبد الواحد محسن، سلام زيدان، محمود السعدي، صباح عارف.. .

لم ندخل الأذاعة رأسا، بل خضعنا لدورة تدريبية استمرت ثلاثة اشهر تلقينا فيها محاضرات وتدريبات متنوعة. ففي فن الألقاء تلقينا محاضرات تدريبية من الفنان بدري حسون فريد.. اذكر انه قال لنا: مشكلة المذيع هو (لعابه)، ولكي تسيطروا عليه.. ليضع كل واح منكم قلم الرصاص بفمه.. هكذا.. ويدفع بنهايتيه الى اقصى ما يمكن ويقرأ بصوت عال.

كانت تجربة ممتعة، ضحكنا فيها على بعضنا وعلى انفسنا من سيلان لعابنا حين بدأنا وكيف سيطرنا عليه، مع تمرين آخر تعلمنا فيه نطق مخارج الحروف، وكيف تداري خطئا وقعت فيه.

وفي قواعد اللغة.. تلقينا محاضرات على يد الأستاذ مالك المطلبي، فيما تلقينا محاضرات في صياغة الخبر الصحفي على يد الصحفي المصري (كرم شلبي). وعنه ما زلت اتذكر نصيحة قالها لي:

اذا ذهبت لمقالبة شخصية معروفة.. اديب، فنان.. فاجئه بما يدهشه.. ووضعت تلك التوصية (ترجيه باذني) واستخدمتها مع الفنان محمد القبنجي، وعفيفة اسكندر. فيوم ذهبت اليها ومعي المصور حسين التكريتي في شقتها بشارع ابي نؤاس وكانت الساعة السابعة عصرا.. قالت لي: لدينا ساعة فقط لأن عندي موعد ساعة ثمانية.. أجبتها: ولا يهمك ست عفيفة.. كلش كافي.

وجاءت الثامنة، والتاسعة، والعاشرة الى قريب منتصف الليل!.والسبب انني رحت لها معبئا، بما حصل لها في احياء حفلة عرس لأبن شيخ في الديوانية، وما حصل لهم من رؤيتهم فتاة شقراء جميله.. دلوعه.. تغني وترقص.. (صحيح شايفين كاوليه بس ما شايفين.. مثل هالخفة والرقص الحلو!)

وفجأتها بما حصل لها يوم زفوها لـ(اسكندر!) وعمرها 12 سنة.. وبكت!، وبقصيدة حب للشاعر الصعلوك حسين مردان التي حصلت عليها منه! وما حصل لها مع الباشا نوري سعيد لحظة دخل عليها الملهى وهي تغني.. وكيف انها كانت صاحبة صالون أدبي يحضره كبار الأدباء والشعراء!.

*

ودخلت استوديو اذاعة بغداد. كانت الساعة السادسة مساءا، وكانت قارئة نشرة الأخبار المذيعة (امل المدرس). ادهشتني لباقتها وسيطرتها، ولأنني ما زلت وقتها احمل قيما عشائرية فانني قلت لنفسي (موعيب عليك تخاف من الميكرفون .. دشوفها اشلون مسيطره وهي مره!). ودفعت لي بورقة بعد ان ختمت النشرة طلبت مني قراءتها وكانت عن فقدان طفل. وفي الفاصل، شاهدت ثقوبا في الأستديو فسألتها عنها فاجابت: هنا قتلو عبد الكريم قاسم!

كان قسم المذيعين يومها يضم روادا واساتذة كبارا من اعمدة اللغة والادب والثقافة (مصطفى جواد مثالا) زادونا علما في اصول اللغة، وحبا للثقافة والأدب.. والصحافة ايضا التي امتهنتها في اشهر مجلتين عراقيين (الأذاعة والتفلزيون) و(ألف باء).

في الحلقة القادمة.. استذكار لأشخاص لا ينسون.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم