شهادات ومذكرات
خير الله سعيد.. شيخ علوم الوراقة الوارقين
من معين نهر الفرات العذب نغرف وجهاً عربياً – عراقياً – بغداديا مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً في علوم الوراقة والوارقين، ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج من العباقرة نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تستجمع جوانب العلم بكتبه ومكتباته، فاتخذته منهاجاً، ثم باحثاً بدرجة فارس لا يشق له غبار ، وحكاء بدرجة جنرال، وقامة من قامات الثقافة والمعرفة والتنوير، وهذا العالم الكبير استطاع أن يكون له في كل مجتمع عربي وغربي سافر إليه صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في روسيا وأمريكا، وأوتاوا، وسائر الأقطار الأوربية والعربية والأنجلو ساكسونية، وهو عالم بكل ما في هذه الكلمة من معني (في المكتبات والبيوغرافيا وفنون وعلوم الوراقة والوراقين)، وكاتبا، تملأ مقاله من قوة الحجة آيات بينات، وسياسياً وطنياً، صادق العزم ما وقعت الغرامات ـ وأستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وهو نعم الرجل البغدادي الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والعلم والفكر في سبيل سعادة العراق وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك لمعني الحياة الحرة البريئة.
ويشرفني في هذا المقال المتواضع أن أكتب عن خير الله سعيد ( مع حفظ الألقاب) فهو صفحة من صفحات علم المكتبات ، حيث قل رجل لم يقرأها أو يتل منها فقرة أو سطرا ؛ وآثاره معروفة فله أكثر من خمسين كتاباً، وهو في الإنسانية من المضحين، وهو في علم الوراقة والوارقين البغداديين واحدا من كبار مفكرينا العراقيين الذين نفتخر بهم في روسيا وأمريكا، علاوة علي أن حياته تعد درساً بليغا لمن شاء أن يتعلم : يتعلم الصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن بغداد مسقط رأسه، ويفني في خدمة قومه، وفي خدمة وطنه.
ولد الدكتور خير الله سعيد في مدينة بغداد 1950، وبها أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية , فعمل بالصحافة لمدة 10 سنوات بين سوريا ولبنان وبعض البلدان العربية للفترة من 1984-1993م، وفي عام 1993-1996 أكمل دراسته لمرحلة الماجستير بجامعة الصداقة بموسكو، حيث حصل على درجة امتياز عال بأطروحته : خطاطو بغـداد في العصر العباسي، الأمر الذي حدا بوزارة التعليم العالي الروسية لأن تمنحـه منحة على نفقتها لإكمال دراسته في مرحلة الدكتوراه .. وقد قُبل بكلية الآداب- جامعة موسكو الحكومية، وقدم أطروحته ورّاقو بغداد في العصر العباسي،والتي حصل فيها درجة امتياز عالٍ، في عام 2000م، وهـو الوحيد من الطلبة العرب الدارسين في روسيا نشرت بأطروحته باللغة الروسية، بوصفها مصدراً هاماً عن الثقافة العربية في العصر الوسيط، ضمن موسوعة حملت عنوان " انتشار الحضارة الإسلامية في بلدان روسيا وبلاد الفقاس" ونشر العمل بتاريخ 2003م .
قيل عنه متعدد النشاطات والاهتمامات، وسياسي، وصحفي، وأديب وباحث اجتماعي، ومناضل ضد الطغيان والفساد منذ صباه، فتلقفته المنافي الواحدة تلو الأخرى من عدن إلى صوفيا، إلى دمشق، وبيروت، فموسكو، وأخيرا، وربما ليس آخرا أوتاوا، تاركا فيها بصماته المعرفية ونشاطاته الثقافية.. عمل في الصحافة العربية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فكان فيها الصحفي المميز، أحب وطنه، فأنشد الموال العراقي، ومن ثم الموال السومري.. غاص في تراث أمته، فألف أهم موسوعات التراث العربية، كموسوعة بغداد الثقافية في العصر العباسي بعشرين مجلدا وموسوعة التراث الشعبي العراقي بأثناعشر مجلدا وموسوعة الوراقة والوارقون بستة مجلدات وغيرها من كتب التراث، بالإضافة لكتب تاريخ الحضارة، والأدب، والشعر، والنقد، والفنن، وهو حقا كما يقال أنه من البقية المتبقية من السلف الصالح من البغداديين المعاصرين ببعديه القيمي والمعرفي.
إنه الدكتور خير الله سعيد، صاحب المؤلفات العديدة في علم الوراقة والوارقين، والخط والخطاطين، من مؤلفاته أذكر هنا منها على سبيل المثال لا الحصر : خطاطو بغداد في العصر العباسي – تاريخ انتشار الحضارة الاسلامية – دراسة في الأمثال الشعبية العراقية – أوراق من التراث بقسميها – رجال ومواقف ونساء ومواقف – دراسات نقدية عن الرواية العربية السياسية المعاصرة، ومغنيات بغداد في عصر الرشيد وأولاده، من وجد ديوان الوجد - دراسة نقدية عن آخر كتاب للراحل هادي العلوي (ديوان الوجد)، الوراقة والوراقون في الحضارة العربية الإسلامية - موسوعة في ستة أجزاء، وليمة لأعشاب البحر نموذجا – من وزن ديوان الوزن بغداد والشعراء والقدر مدن فلسطين في تراث الأقدمين أوراق بغدادية من العصر العباسي وغيرها .. وهلم جرا.. غادر إلى موسكو في بداية تسعينات القرن لإتمام دراساته العليا، حيث أكمل الماجستير بأطروحته خطاطو بغداد بالعصر العباسي، ثم الدكتوراه عن بحثه وراقوا بغداد في العصر العباسي، حيث حصل على درجة امتياز عالي، وهناك أسس المنتدى الثقافي العراقي في موسكو، ثم انتقل إلى أوتاوا كندا حيث يقيم الآن .
والدكتور خير الله سعيد، من المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي دارس لعلوم الوراقة والوارقين أن يتغافل عن الدور الرائد لهذا العالم الشامخ، ومن واجبنا أن نهتم كل الاهتمام بدراسة أفكاره وآرائه .
وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور خير الله سعيد، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للفيلسوف الموسوعي في علم الوراقة والوارقين، فهو الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
فتحيةً أخري لخير الله سعيد الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد على
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط