شهادات ومذكرات
بكر السباتين: جولة في مسيرة د حسين جمعة القامةٌ الأدبيةٌ والفكريةٌ الخلّاقة
عَرَفْتُهُ منذ عقودٍ من خلال صديقِهِ الأقرب إلى قلبه، خالي المرحوم يوسف قنديل رئيس جمعية المكتبات الأردنية وأحد مؤسسي رابطة الكتاب الأردنيين، الذي قضى في حادث سيرٍ أثناء عودته من دمشق بعد انتخابه رئيساً لاتحاد المكتبيين العرب عام 2002، وعقب ذلك مباشرة شارك الدكتور حسين جمعة في الكتابة عنه ضمن كتاب صدر عن النادي العربي للمعلومات بعنوان: كلماتٌ للذكرى..
وقد وصفه المرحوم في أكثر من مناسبة بالإنسان العصامي المفعم بالإرادة والسهل الممتنع الذي تضج أعماقه بالحياة.. والمخلص لإصدقائه.. وللأدب الذي ساهم في نهضته من خلال ما قدم من أعمال نقدية جادة على صعيديّ الترجمة والتأليف.
د حسين جمعة المتواري بإرادته عن الأضواء، تجده دائماً حاضراً في المواقف التي تبيّنُ معادنَ الناس إذا ما وُضِعوا على مِحَكِّ التجربة، فواجه خصومَه بعناد ولين.. تاركاً البابَ موارباً للحوار والتفاهم دون أن يقدِّمَ تنازلاتٍ قد تَمَسُّ شخصيتَهُ الاعتبارية..
وكان نهجُهُ اليساريّ من خياراتِهِ منذ تخرجِهِ من جامعة موسكو الحكومية، إلى أن التحق للعمل في وزارة الثقافة متدرجاً في عدة مناصب حتى حصوله على التقاعد؛ دون أن يتوقف عن العطاء.. منهمكاً عبر مسيرته الطويلة في التنقيب عن الأعمال الإبداعية النوعية التي يزخر بها المشهد الثقافي الأردني، بما يليق بناقدٍ له مكانته المرموقة على صعيدين أردنيٍّ وعربي..
فأولى الدكتور جمعة جلّ اهتمامه بالموروث الثقافي الريادي متطرقاً إلى أسماء تستحق التقدير، على نحو كتاب "بانوراما التراث السردي بين الأردن وفلسطين" حيث أثار إشكاليات مهمة مسلطاً الضور عليها، كي تكون حافزاً لدراسات تنهج إلى استقصاء وسبر جوانب متعددة، تكمن فيها أسئلة حوارية مفتوحة للحوار الجاد، الذي ستنداح دوائرُه في مساحة الوعي الثقافي، ومضامينِهِ من باب جلب الاهتمام بالموروث الثقافي الإبداعي المحلي.
ويشتمل الكتاب على عدة فصول أهمُّها:
- جهود.
- فضاءات.
فأولى اهتمامَه بين دفتي الكتاب بجهود خليل بيدس السردية.. وصبحي أبو غنيمة في ليالي الليل.. كذلك إرهاصات سردية.. وعارف العزوني رائد مغيب.. أيضاً بدايات سيف الدين الإيراني.
وهذه مهمة تليق بناقد فذٍّ مُسْتَأمَنٌ على الحقيقة، كالدكتور حسين جمعة، الذي اشتهر بدماثةِ خُلُقِهِ وقدرتِهِ على التسامحِ مع الآخرين في المواقف الحرجة، على اعتبار أنَّ الاختلافَ لا يفسد في الودِّ قضية.
كان يمتلك أدواتِهِ الفنيّةِ في النقد كناقد أكاديمي، يتمتع بوعيِ عميق يستحوذ من خلاله على جوهر النص، فيلتقط المعنى كي يتعاملَ معه بموضوعية، قياساً إلى شروط جنسه الأدبي، ويراعي بذلك خصوصية العلاقة بين المناسبةِ والفكرة، ويحاورها مستنطقاً الدُّرَرَ المختبئَةَ في جوهرها ضمن سياقِ الشكل وجمالياته.
فهو من أولئك الكتاب المستأمنين على النصِّ شكلاً ومضموناً.. فيسبر أغوارَ المعنى الكامن في النص وربط ذلك بالمناسبة بعد تقييمه فنياً مع منح كاتِبِهِ مساحَةً للمناورة كبصمةٍ خاصةٍ به، وذلك باحتراف الناقد المُجَرَّدُ من "متلازمة التحذلق اللغوي" التي تساهم عادة في التقليل من قيمة الأعمال الجيدة،أو تساهم في وأد التجارب الواعدة بدلاً من إنعاشها لو كانت تبحث عن فرصة للحياة.
ترجم د حسين جمعة كتاب تداخل أجناس الفن، الذي يتحدث عن تداخل الأجناس الفنية والأدبية من أدب وفن وموسيقى ورقص في سياق الثقافة الشعبية التي تتعامل مع كافة المستويات الثقافية من خلال رؤيةِ ناقدٍ أريب يبسط الصور الفنية بغية إيصالِها إلى المتلقين بسهولة.
أما في كتابه المعنون"ب بصائر السرد: فقد أولى جلَّ اهتمامه بالقصص التي تنشر في مجلة أفكار التي تصدرُ دورياً عن وزارةِ الثقافةِ الأردنية.
ويضم الكتابُ مقالاتٍ في القصةِ والروايةِ الأردنية، كُتِبَتْ بأسلوبيةٍ نقديةٍ تستثير ذهنَ المتلقي وتدفعه إلى التجاوب التفاعليّ مع جملةٍ من أطروحاتِهِ وأسئلتِهِ التي تشتبكُ مع نصوصٍ إبداعيةٍ أردنية استحقت اهتمامه.
وركز في كتابه على ما تستجمعه تلك الأعمالُ من إشاراتٍ ودلالاتٍ متنوعةِ الأشكالِ في القدرةِ على تحويلِ ما هو واقعيٌّ إلى مفردةٍ فنيةٍ تنهل من منجزاتِ المذاهبِ والتياراتِ الحديثة.
وقبل الختام لا بد من الإشارة إلى المنجزِ الثقافيِّ للدكتور جمعة الذي يشكل إضافة نوعية للمكتبة العربية، من خلال العديد من الكتاباتِ النقديةِ ذاتِ المنهج النقديِّ العميق في استنطاق النصِّ وتوصيفِ أسُسِهِ الفنيةِ المتوهجة.. حيث اصدر مؤلفاتٍ أهمها :
"قضايا الإبداع الفني".." الصوت والصدى في الرواية الأردنية".."القوس والوتر: في القصة القصيرة الأردنية" .. "الحياة الفنية والأدبية في الأردن في القرن العشرين" .. و" بانوراما التراث السردي في الأردن وفلسطين".. .."علامات في الأدب الفلسطيني المعاصر".." شبابيك وأبواب في عالم الكتب والكتّاب".. كذلك كتاب " لماذا الفلسفة"..
وترجم عن الروسية كتاب "حكايات أولاد الأرملة" لفلاديمير بيغون الذي يتحدث عن الماسونية وكيف تمكن اليهود خلالها من تزوير الحقائق للسيطرة على العالم وحياكة المؤامرات التي ما يزال العالم يدفع ثمنها الباهظ.
وما زال الدكتور حسين جمعة على قدر أهلِ الهمّةِ والعزمِ في عطائِهِ السخيِّ النوعي.. أطال الله في عمره.. راجياً أن نكون قد أوفيناه جزءاً من حقه علينا.
***
بقلم: بكر السباتين
...........................
* ندوة لتكريم د حسين جمعة في المكتبة الوطنية برعاية وزير الثقافة، يوم أمس الثلاثاء الموافق 30 أكتوبر.. بمشاركة د زياد ابو لبن والباحث الاديب بكر السباتين.
30 أكتوبر 2024