شهادات ومذكرات

جمال العتّابي: ليلى العطار.. يكفي قطع اللون عنها لتستريح!

في الذكرى 31 لرحيلها

لا يمكن لأزمنة الفنان أن توصف إلّا بأنها سنوات الخلق والإبداع وإيداع الأمانات للأجيال التالية، وما كانت الفنانة الراحلة ليلى العطار لتتحدث عن الانسجام الأزلي بين الشكل والمضمون في لوحاتها، لا لتفصح عن إيمانها الثابت بالتوازن كرؤية تامة للحياة، فيما لم تكن الحياة في توهجات احساسها الفني، إلّا لوحة هائلة من الجمع بين الاضداد:

الحقائق في مقابل الرؤى والاحلام، المشاريع، مقابل القصائد والالوان واللوعات والدموع والضحكات.

عاشت العطار مجد الفن بكل تفاصيل تاريخه الذي تجدد في كل مدة زمنية بالتباين بين ما كان عليه، وما صار اليه، وعملت بكل طاقتها من أجل التشكيل العراقي، بدءاً بالمتحف الوطني للفن الحديث، مروراً بالتأسيس الأول لقاعة الرواق عام 1977، كأحدث قاعة عرض في بغداد، كانت العطار قد أخذت على عاتقها كمديرة للقاعة بالاعتناء بها، وتزويدها  بالمستلزمات الضرورية، وبالتأسيس الثاني لقاعة الرشيد، والثالث لقاعة بغداد، حتى انتهت الرحلة في محطتها الاخيرة بمركز الفنون.

ثمة فنانون يبدعون طفولات حب تليق بأعمالهم الفنية،  وآخرون يبدعون لوحات تليق بطفولات حبهم، وما كانت ليلى العطار الا من هؤلاء وأولئك، فاذا كنا نستعيد ارثها الآن، فذلك يعني باننا مازلنا نحترف النسيان.

هكذا تستمر دورة الانسان بلا نهاية، لان إيقاع الحياة الانسانية هو إيقاع بالغ القدم، يلغي من خلال الحلم كل غياب، فيما يبقى (البستان) بستان ليلى مشرع الابواب، حفي بكل من تحمله أقدامه الى بيت (العطار)، العش والملاذ النهائي الذي التحم بحكمة الموت.

هناك شيدت ليلى الفنانة والإنسانة آخر أحلامها الجميلة، وما كنا ندري ونحن نراها تحمل كل هذا القدر الهائل من هموم الفن والحياة الى مكان آخر أبعد وأعمق في الكون اللامتناهي، لتضاعف من انتاجها الغزير وهي تؤجل افراحها الدنيوية الصغيرة الى أجل غير مسمى، وتنصرف بكل طاقاتها حيث الاختلاء ووحدة الوجود تتلوى كالموجة الملونة في قلب السديم.

منذ وقت مبكر من عمرها، اكتشفت ليلى العطار المولودة عام 1944، شغفها بالرسم، مثلما هي شغوفة بالحياة والوطن، درست في أكاديمية الفنون الجميلة، في ستينات القرن الماضي، ثم انطلقت رحلتها الى أزمنة أخرى الى مختلف مستويات الحلم والذاكرة في أغلب أعمالها، وحين لم تكن تلك الرحلة قد استوفت كامل طاقتها التعبيرية أو بلغت أوج عنفوانها الفني، بدأت في أفق سنواتها الاخيرة بشكل يثير النظر نحو الوجوه، مستفيدة من قدرتها الفائقة في اللون لتحريك الذاكرة المرتكسة في أعماق اللاشعور، وهي عودة لا يمكن وصفها بالحنين الى الماضي، بل بايقاظ الأحاسيس الخامدة، والتذكير بجماليات اللون، والوصول بالمتلقي الى بالغ طاقته، وهو ما يمكن ان يحرر رؤيتنا الصورية الوحيدة الاتجاه نحو العالم. اللوحة عندها عالم من الأساطير التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وانت ساكن تلتقط بكل احساسك المنفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من عالم المجهول.

ظلام اسود، كان يلفّ جسد تلك الليلة الساكنة، الغافلة، التي كانت تراتيل أنفاسها تسري بين صهيل موت غير معلن، ولعبة صمت قبل أن يسبق العاصفة. غلالة زرقاء بسعة الشمس التي غابت مساء ذلك اليوم الكئيب، دونما أية اشارة تنبؤنا بساعة الرحيل، فيما كنا نبحث في الفجر عن لؤلؤة مضاعة سقطت في بحر مسجور فلم يعد في الوسع أن تستعاد، لكن أو يمكن أن تفصل بين اللؤلؤة وضوئها الباهر؟

وحده الفنان من يعرف ذلك، لقد كانت ليلى العطار تنتشر في مجتمع الفن كالأريج الذائع من الورد، لكنها للأسف الشديد أخفقت في ابلاغها الى نهاية الطريق، فقد ترصدها جنون العابر للقارات، لم كل هذا الموت؟ كان يكفي ان تقطعوا عنها اللون لتستريح.

لقد ظلت ليلى طوال حياتها تطارد فراشة الأمل الملونة، لكنها وقعت صريعة بصمتها، من دون أن يلاحظه أياً منا، لاننا مازلنا نشارك في هذا (الماراثون) العجيب من دون أن ننظر الى من حولنا من الراكضين.

***

د. جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم