شهادات ومذكرات
طه جزّاع: الشَّريف الرَّضي وأدباء بغداد
كانت دار المعلمين العالية التي تأسست في بغداد عام 1923 مفخرة للتربية الراقية والتعليم الرصين، وما من مدرس وعالم وأكاديمي مرموق في العراق أو البلاد العربية، إلّا وكان يتشرف للتدريس فيها، فضلاً عن الأساتذة الأجانب، ومن بين الذين اتيحت لهم مثل هذه الفرصة في العام 1937 الباحث والكاتب المصري زكي مبارك صاحب الكتاب الشهير» ليلى المريضة في العراق»، وهو من أولى محاولات تحليل الشخصية العراقية وأزماتها، لكنه كُتب بأسلوب أديب وخيال عاشق. وعندما جاء مبارك إلى دار المعلمين العالية، وعرف أنها تعرضت للإغلاق وإعادة الافتتاح أكثر من مرة، سعى لترسيخ تقاليد علمية رصينة فيها، وإقامة النشاطات العلمية والثقافية من أجل لفت عناية الحكومة العراقية لهذا المعهد ليصبح منافساً قوياً لكلية الآداب بالجامعة المصرية، وفق ما ذكره في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «عبقرية الشريف الرضي» الذي أصدره عام 1938.
كان كتاب الشريف الرضي واحداً من أهم ثمار وجود محمد زكي عبد السلام مبارك في بغداد، وهو مجموعة المحاضرات التي ألقاها في قاعة كلية الحقوق، والتي يعدها من أشهر المواسم في حياته: « فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد، لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهوٌ ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدْر خيراً من ألف شهر»، وهو يشير بذلك إلى كتابيه النثر الفني في القرن الرابع الهجري الذي أخرجه في سبع سنين، والتصوف الإسلامي الذي أخرجه في تسع سنين. أما لماذا اختار الشريف الرضي موضوعاً لكتابه هذا الذي كان باكورة خطة اخراج الدار لكتاب سنوي عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل،، فلأنه كان يعتقد أن أدباء بغداد لم يهتموا كثيراً بشعره، مثل اهتمامهم بشعر المتنبي، بل أن العراقيين لا يعرفون مكان قبره على وجه التحقيق، وفي معرض دفاعه عن تعصبه للشريف الرضي يذكر أنه قال لعباس محمود العقاد يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: « كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي»، مثلما يقول أنه نبه طه حسين « إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث: لأن له خصائص ذاتية لا نجدها عند أولئك الشعراء»، وعندما طلب منه نادي الموظفين في القاهرة سنة 1932 أن يلقي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية، كانت محاضرته عن الشريف الرضي. كما أزعجه أن يهتم أنيس المقدسي في كتابه عن أمراء الشعر في العصر العباسي: « بأبي العتاهية وينسى الرضي، مع أن ديوان أبي العتاهية لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف « !. بل يصل في اعجابه وتعصبه لشعر الرضي إلى جعله أفحل شاعر عربي، وفي ذلك يقول: « سيرى قراء هذا الكتاب أني قد جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟ وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلّا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!. وهو كما ترون جواب توفيقي حاول فيه مبارك أن يتخلص من احراج التصريح برأيه في الشريف والمتنبي ومكانتهما الشعرية، سيما وأنه لم يؤلف كتاباً عن المتنبي حتى يوم وفاته في القاهرة أوائل العام 1952، ومع جوابه هذا يحاول أيضاً أن يقدم ما أسماه بالقول الفصل في هذه القضية، وخلاصة قوله: « أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي».!! .
يتناول زكي مبارك في كتابه «عبقرية الشريف الرضي» مقامه بين شعراء القرن الرابع الهجري، وأعوام البؤس في حياته، وصلاته بخلفاء بني العباس وبالوزراء والأمراء والملوك، والأصدقاء والأعداء في حياته، واسرار العلاقة الإنسانية والأدبية التي ربطته بأبي إسحق الصابي، وغرائب الوفاء عند الشريف الرضي وثقافته وغرامياته وعفافه وحجازياته. كما يتناوله كاتباً ومؤلفاً، وأهم ما تركه لنا في هذا الباب، جمعه وترتيبه لكتاب « نهج البلاغة «. كما يشرح الأحوال الثقافية في بغداد وصورتها في ذلك القرن، وهي صورة تتمثل في قول الصاحب بن عباد في خطابه إلى ابن العميد : بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد، و» وقد شاءت الظروف أن يعيش الشريف الرضي في القرن الرابع، وبعقل القرن الرابع، وشاءت الظروف أيضاً أن يكون من أسرة لها في العلم والأدب ماض جميل، ثم قضت بأن يكون الشريف الرضي نقيب الأشراف في زمن لم يكن فيه للأشراف عرش ولا تاج، وإنما كان لهم مجد العلم والأدب والبيان». وكان زكي مبارك يظن أن بغداد، لا تعرف جيداً المكانة الشعرية لشاعرها الفقيه الشريف الذي ولد في بغداد وفيها عاش حتى وفاته عن 46 عاماً، كما كان يظن أن هناك من يأخذ عليه مثل هذا الاهتمام والتعصب للشريف الرضي .
« سيذكر أدباء بغداد أنني أحييت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق، سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية، حين اهتممت بشاعر كان أصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد «. هكذا يكتب زكي مبارك .
***
د. طه جزّاع